الصفحة 9

مقدّمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة على خاتم
المرسلين محمّد وآله الغرّ الميامين

من الثوابت المسلّمة في عملية البناء الحضاري القويم ، استناد الأُمّة إلى قيمها السليمة ومبادئها الأصيلة ، الأمر الذي يمنحها الإرادة الصلبة والعزم الأكيد في التصدّي لمختلف التحدّيات والتهديدات التي تروم نخر كيانها وزلزلة وجودها عبر سلسلة من الأفكار المنحرفة والآثار الضالة باستخدام أرقى وسائل التقنية الحديثة .

وإن أنصفنا المقام حقّه بعد مزيد من الدقّة والتأمّل ، نلحظ أنّ المرجعية الدينية المباركة كانت ولا زالت هي المنبع الأصيل والملاذ المطمئن لقاصدي الحقيقة ومراتبها الرفيعة ، كيف؟! وهي التي تعكس تعاليم الدين الحنيف وقيمه المقدّسة المستقاة من مدرسة آل العصمة والطهارة(عليهم السلام) بأبهي صورها وأجلى مصاديقها .

هذا ، وكانت مرجعية سماحة آية الله العظمى السيّد علي السيستاني ـ


الصفحة 10

مدّ ظلّه ـ هي السبّاقة دوماً في مضمار الذبّ عن حمى العقيدة ومفاهيمها الرصينة ، فخطت بذلك خطوات مؤثّرة والتزمت برامج ومشاريع قطفت وستقطف أينع الثمار بحول الله تعالى .

ومركز الأبحاث العقائدية هو واحد من المشاريع المباركة الذي أُسس لأجل نصرة مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وتعاليمه الرفيعة .

ولهذا المركز قسم خاص يهتم بمعتنقي مذهب أهل البيت(عليهم السلام) على مختلف الجهات ، التي منها ترجمة ما تجود به أقلامهم وأفكارهم من نتاجات وأثار ـ حيث تحكي بوضوح عظمة نعمة الولاء التي مَنّ الله سبحانه وتعالى بها عليهم ـ إلى مطبوعات توزع في شتى أرجاء العالم .

وهذا المؤلَّف ـ الشيعة الجذور والبذور ـ الذي يصدر ضمن "سلسلة الرحلة إلى الثقلين" مصداق حيّ وأثر عملي بارز يؤكّد صحة هذا المدعى .

على أنّ الجهود مستمرة في تقديم يد العون والدعم قدر المكنة لكلّ معتنقي المذهب الحقّ بشتى الطرق والأساليب ، مضافاً إلى استقرار واستقصاء سيرة الماضين منهم والمعاصرين وتدوينها في "موسوعة من حياة المستبصرين" التي طبع منها عدّة مجلّدات لحدّ الآن ، والباقي تحت الطبع وقيد المراجعة والتأليف ، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يتقبّل هذا القليل بوافر لطفه وعنايته .


الصفحة 11

وختاماً نتقدّم بجزيل الشكر والتقدير لكافة الإخوة الأعزاء في مركز الأبحاث العقائدية ، الذين ساهموا في إخراج هذا الكتاب ، ونخصّ بالذكر فضيلة الشيخ عبد الله الخزرجي الذي قام بمراجعة هذا الكتاب وتصحيحه ، والحمد لله ربّ العالمين .

محمّد الحسّون

مركز الأبحاث العقائديّة

20 جمادى الأُولى 1428 هـ

site.aqaed.com/Mohammad

Muhammad@aqaed.com







الصفحة 12

الصفحة 13

المقدّمة


الحمد لله والصلاة والسلام على النبي الهادي الأمين سيّد ولد آدم أجمعين وعلى آله المطهّرين وصحبه الميامين .

أمّا بعد ، تعالج هذه الدراسة قضية من أخطر القضايا العقائدية ، بل هى العقبة الكؤود والتي تتدغدغ عندها العامّة ، ويخشاها الخاصّة ، وتؤجر لها الأقلام ، ويزرع في حقلها الألغام من قديم الزمان إلى شمس الغد القادم .

ذات ليلة أهدى لي صديق موسوعة عن الشيعة الاثني عشرية (الجعفرية) لكاتب مصري الجنسية سلفي المنهج (وهابي) يشغل منصب أكاديمى مرموق في كل من جامعتي الأزهر والخليج ، وقد أهملت هذه الموسوعة وقتاً من الزمن لعلمي المسبق بما سوف يقوله ، وأنّ كل ما فيها هو اعتقادي وأكثر ، وأنّ ما يمكن أن أستفيد به هو أسلوب العرض وطريقة التناول ، وحتّى هذه المساحات الفكرية والعقائدية لم أكن مهتماً بها في ذلك الحين لانشغالي في إتمام بحثي عن الحركات الإسلامية في مصر والوطن العربي ، وكنت حريصاً على إتمام دراسة تتناول هذا الخصوص ، غير أنّي ذات ليلة بدأت أتصفّح الكتاب وأجوب أجزاءه إلى


الصفحة 14

نهايتها وخرجت بملحوظة أولية ، وهي أنّ الكتاب غير مكتمل البحث ، وأنّ الكاتب غير ممتلك لأدوات البحث العلمي في هذه الموسوعة ، وأنّه يفتقد لأهم ما يجب أن يتحلّى به الكاتب أو المؤرخ ، وهو الحياد العلمي ، غير أنّي وحتّى أعطي الرجل حقّه من الأستاذية أعدّت قراءة الموسوعة بشي من الأناة والتريّث ، فربما تكون ملحوظتي السابقة خطأ ، وخرجت بالآتي :

ـ عدم اتّفاق المقدمات مع النتائج غالباً .

ـ تأويل النص المقتبس بما لا يحتمله ، وبما يخرجه من حدود التأويل .

ـ إعلان النتائج قبل إثارة القضية ، وقبل أن يضع الأسباب ، وكأنّه سوف يأتي بالنتائج مهما كانت الأسباب (!!) .

ـ إنّ الكاتب يناقش هذه الموضوعات دون رفق ، ودون التحلّي بروح الأخوّة ، والحرص على وحدة الأمّة ، فالرجل يخرجهم من الملّة تارة ، ويجعلهم شراً من اليهود أُخرى ، وأصحاب حقد على أهل التوحيد ، وهلمّ جرّا إلى نهاية الكتاب .

وخلال المطالعات والمشاهدات اليومية لوسائل الإعلام ومحطّات البث المرئي أعجبني مقاومة شعب الجنوب اللبناني ، وحزب الله ، وقدرتهم الفائقة على دحض العدو الصهيوني .


الصفحة 15

وأعترف أنّ هذا ما أثلج صدري وكثير من الموحدّين ، ولكن كيف يتسق هذا مع ما نعلمه؟ كيف لمن هدفهم هدم الإسلام أن يمنّ الله عليهم بهذا النصر العظيم؟!

ثمة خطأ في المسألة ، فدرجت أبحث عن كل ما هو مكتوب عن هذه الفرقة ، ويا حبّذا لو كانت بأقلام الشيعة الأقحاح ، بيد أنّ البحث استمر أياماً وشهوراً وسنواتاً حتّى وفّقني الله إلى ما أبتغي ، وقد توفّر لديّ ما يعين الباحث على ابتداء بحثه فاستعنت بالله على إنجاز ما تحقق ، وهذا كتاب "الشيعة البذور والجذور" .

1 ـ قد يقفز إلى الأذهان من العنوان أنّه يبحث فى كل بذور وجذور التشيع ، ولكن أبعد القارىء عن هذا التصوّر ، وأقول : إنّني لم أستوعب كل ما للتشيع من جذور وخصائص في هذا الكتاب ، وإنّما تعرّضت لإيضاح أمور أعتقد أنّها غائبة عن معظم مسلمي مصر والأقطار الإسلامية السنية المغلقة ، ويرجع ذلك لما يشوب العلاقات السياسية بين هذه الدول وإيران من كدر ، وما اختزلته الذاكرة العامة لتاريخ الصراع السياسي بين السنة والشيعة .

2 ـ بيد أنّ هذه الدراسة لم تكن الوحيدة التي تتناول موضوع الشيعة من حيث الأصول بل هناك كتابات سابقة كثيرة أكثر عمقاً وأكثر استيعاباً للموضوعات المختلفة، ولكنّي أتصوّر أنّني عالجت هذا الموضوع


الصفحة 16

بأسلوب أكثر اختلافاً عن الأنماط الأخرى ظنّاً منّي أنّه أقرب الأساليب إلى القارىء ، فإن أصبت فمن الله الذي هداني لهذا ، وإن أخطأت فما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقى إلاّ بالله .

3 ـ سيجد القارىء في صفحات هذا الكتاب بعض الآلام التي خلقتها جروح الماضي ، والتي مازالت لم تلتئم بعد ، ولذلك أرجو منك عزيزي القارىء عدم التشنج ; وذلك لأنّ الجروح عادة ما يتبعها الآلام ، ولكن بشي من الصبر والعلاج قد تشفى الجروح بإذن الله .

وقد يرى البعض أنّ الزمام قد انفلت منّي فى مواضع ، ولذلك كل ما أرجوه أن نتبادل الأماكن ، ولتعلم أنّ السير في مثل هذه الضروب محفوف بالصعاب ، وما علينا إلاّ أن نضبط أعصابنا ، ولتعلم أيضاً أنّ ضبط الأعصاب في تلك المواطن أمر ليس بالهيّن إلاّ من عصمه الله .

4 ـ قد يقول قائل: لماذا تصر على السير في مثل هذه الضروب التي لا تجني منها غير الآلام ، وليس منها فائدة إلاّ اجترار الماضي دون علاج؟ وأقول : إنّ انهزاميّتنا وخوفنا من نكت تلك الجروح هي التي جعلتنا نتأخّر ويتقدّم غيرنا ، فهل عسانا نفيق لتعود أمّتنا كما أرادها ربّنا "خير أمّة أخرجت للناس" ؟!

5 ـ ومما يهون الخطب أنّ مواطن الخلاف بين المسلمين أقل بكثير من مواطن الوفاق ، رغم محاولات البعض أن يجعلها أكثر بحيث تصل


الصفحة 17

إلى التباين، ولكن بشيء من التروّي والتأمّل ترتدّ هذه الأمور إلى نصابها، ونعرف أنّ اختلاف الفرق الإسلامية لابد أن يكون في دائرة الفكر ، وأن لا ينسحب إلى ما وراء ذلك ليصل إلى الشقاق والتناحر ، وأنّ وحدة الأمّة وائتلافها أصل أصيل من أصول الإسلام ، ولا يجب أن ينقض هذا الأصل بمسائل اجتهادية وظنّية ; لأنّنا بذلك نخالف صريح الدين .

إنّ الواجب يحتّم على علمائنا خاصّة ، وعلى أصحاب الفكر وأرباب الأقلام عامّة أن لا يتّخذوا من العلم ستاراً للغيبة والنميمة ، وأكل أعراض إخوانهم بالباطل ، فالله ارتضى للمسلمين الوحدة ، والرسول يشبّه المسلمين بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، فعلينا أن نبتعد عن الرعونة والاندفاع ، وهذا أخلق بنا .

6 ـ كل ما أرجوه منك أيّها القارىء الكريم أن لا يتبادر إلى ذهنك أنّني أدعو لفرقة بعينها ، أو أذمّ فرقة دون غيرها ، فهذا ما لا أقصده ، وأعتبره مصادرة على فكرة الكتاب وموضوعه ، ولكن ما قصدت إلاّ قرع الفكر بفكر مثله ، فإن تظن أنّك أنت وقومك الناجين ، فهناك من يدّعي ذلك ، وهذه أدلّتهم من كتاب الله وسنّة رسوله .

جعلتها دعوة خالصة لله حتّى يدرس المسلمون بعضهم البعض بروح علمية طارحين عن كواهلهم تلك الخلفيّات المشوّهة التي كانت سبباً


الصفحة 18

في تمزيق شمل المسلمين ليجني غيرنا ثمار فرقتنا ، وتصبح الأمّة كاليتيم على مائدة اللئيم .

فأسأل الله تعالى أن يهيّىء لأمّتنا أمر رشد يعزّ فيه وليّه ويذلّ فيه عدوّه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين


المؤلّف


الصفحة 19

الفصل الأوّل
خلفاء الرسول

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الميامين ، وبعد .

خلق الله تعالى الخلق متمايزين في صفاتهم الخلقية من الطول والقصر والصحة والسقم والنحافة والبدانة وغيرها ، وتلك سنّة الله تعالى في خلقه وكونه .

إنّ أمّة الإسلام التي بعث فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) أمة عالمية، ودعوته للناس كافة، وهذا الكيان الضخم ليس أنموذجاً متكرراً في البشر ، وليس بالكيان المتكلّس في الفهم والوعي ، ولكن كيان متمايز حتّى في حياة النبي(صلى الله عليه وآله) ، فمن أصحابه من طفق في السوق يبيع ويشتري(1) ، ومنهم من لازم النبي(صلى الله عليه وآله) على العلم والصحبة ، ومنهم من أحبّ الرسول(صلى الله عليه وآله)حبّاً شديداً فوق نفسه(2) ، ومنهم من كان وسطاً بين العلم والكسب(3) ،

____________

1- منهم عبد الرحمن بن عوف الذي آخى النبي(صلى الله عليه وآله) بينه وبين سعد بن الربيع الخزرجي ، فقال له : إنّ لي زوجين فانظر أيّهما شئت حتّى أطلّقها لتتزوجها وأشاطرك نصف مالي ، فقال : بارك الله لك في مالك وأهلك ، ولكن دلّوني على السوق . تاريخ الإسلام للذهبي 2 : 104 .

2- صهيب بن سنان الرومي منعته قريش بأن يلحق بالرسول في هجرته ، فقال لهم : أرأيتم إن تركت مالي ، أمخلّون أنتم سبيلي؟ قالوا : نعم ، فترك لهم ماله أجمع ، فبلغ ذلك النبي(صلى الله عليه وآله) ، فقال : ربح صهيب .. المرجع السابق 2 : 235 .

3- من هؤلاء أبو بكر وعثمان والزبير وغيرهم .


الصفحة 20

ومنهم من فهم إشارات الرسول(صلى الله عليه وآله) وتلميحاته ، ومنهم من كان وعاء للعلم ، وكلّهم من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أخذ ، وهذه قسمة الله تعالى في خلقه ، وكذلك ميّزهم وعدّدهم .

بيد أنّه بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) بدأت الأُمّة مرحلة أُخرى من التمايز الخُلقي الذي جعل فئة من الأمّة تتباعد رويداً رويداً ، غير أنّ الإسلام يتّسع لكل هؤلاء على اختلافهم وتمايزهم .

وبموت النبي(صلى الله عليه وآله) اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ينظرون في أمر الأمّة ، ولمن تؤول قيادة الأمّة ، حتّى أصبح أبو بكر خليفة ، وكان هذا موضع خلاف ، وفيه ثلاثة آراء :

الرأي الأول : أنّ النبي استخلف أبو بكر بالنص الخفي أو الجلي .

ومن ذلك ما روي عن جبير بن مطعم قال : "أتت امرأة النبي(صلى الله عليه وآله)فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك(صلى الله عليه وآله) كأنّها تقول : الموت . قال(صلى الله عليه وآله) : "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" .

وفي الصحيحين عن عائشة عن أبيها رضي الله عنهما ، قالت : "دخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) في اليوم الذي بُدىء فيه ، فقال : ادعي لي أباك وأخاك حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمّ قال : "يأبى الله والمسلمون إلاّ أبا بكر" .

وفي رواية "فلا يطمع في هذا الأمر طامع" .

وفي رواية قال : "ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لأبي


الصفحة 21

بكر كتاباً لا يختلف عليه ، ثمّ قال : معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر" .

وروي عن عائشة رضي الله عنها ، أنّها سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف؟

والظاهر ـ والله أعلم ـ أنّ المراد أنّه لم يستخلف بعهد مكتوب ، ولو كتب عهداً لكتبه لأبي بكر ، بل قد أراد كتابته ثمّ تركه ، وقال : "يأبى الله والمسلمون إلاّ أبا بكر" . فكان هذا أبلغ من مجرد العهد ، فإنّ النبي(صلى الله عليه وآله)دلّ المسلمين على استخلاف أبي بكر ، وأرشدهم إليه بأمور متعددة ، من أقواله وأفعاله ، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك ، حامد له ، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ، ثمّ علم أنّ المسلمين يجتمعون عليه ، فترك الكتاب اكتفاءً بذلك ، ثمّ عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ، ثمّ لما حصل لبعضهم شك ، هل ذلك القول من جهة المرض؟ أو هو قول يجب اتّباعه؟ ترك الكتابة اكتفاءً بما علم أنّ الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر . فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمّة لبيّنه بياناً قاطعاً للعذر ، لكن لمّا دلّهم دلالات متعددة على أنّ أبا بكر المتعيّن ، وفهموا ذلك ، حصل المقصود(1) .

الثاني : أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) نص على خلافة علي بن أبي طالب بالنص الصريح الواضح المتواتر في أكثر من موضع .

____________

1- ابن أبي العز الحنفي ، شرح العقيدة الطحاوية ، ص472 ـ 474 .


الصفحة 22

منها : ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال : "قام رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوماً فينا خطيباً بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة ، فحمد الله ووعظ وذكره ، ثمّ قال : أمّا بعد ، ألا أيها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين أوّلهما كتاب الله .. ثمّ قال : وأهل بيتى"(1) .

الثالث : الشورى العامّة وعدم الاستخلاف ، وأنّ الأمر شورى بين المسلمين .

ذهب إلى ذلك جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية ، وأنّ خلافة أبي بكر ثبتت بالاختيار ، وكذا ذهبت السيّدة عائشة .

واستدل البعض : بطلب سعد بن عبادة البيعة لنفسه ، وكذلك الحباب ابن المنذر حينما تقدّماً كلاّ منهما لطلب البيعة والخلافة في السقيفة .

احتجّ الذين قالوا لم يستخلف ، بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما ، أنّه قال : "إن أستخلف ، فقد استخلف من هو خير منّي ، يعني أبا بكر ، وإن لا أستخلف ، فلم يستخلف من هو خير منّي ، يعني رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، قال عبد الله : فعرفت أنّه حين ذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله) غير مستخلف(2) .

ولكن الشيعة رفضوا القول بالشورى وعدم الاستخلاف ، وذهبوا إلى :

____________

1- صحيح مسلم 2 : 122 ـ 123 .

2- ابن أبي العز الحنفي ، مرجع سابق ، ص474 .


الصفحة 23

أ ـ أنّ النبي كان إذا أراد الذهاب في سفر لا يترك المدينة دون خليفة عليها ولو كان سفره يوماً واحداً ، فكيف يترك أمر الناس بعده دون راع .

ب ـ من الثابت أنّ الشريعة الإسلامية تفرض الوصية على المسلم حتّى في بعض الميراث البسيط ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}(1) .

فكيف يترك الرسول(صلى الله عليه وآله) هذا الأمر بدون أن يوصي به والحال أنّ استقرار الأمّة متوقف على ذلك ، وبدون ذلك يؤول الأمر إلى تنازع(2) .

يقول ابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" إنّ حديث الغدير صحيح لا مرية فيه ، وطرقه كثيرة جدّاً ، ومن ثمّ رواه ستة عشر صحابياً ، وفى رواية لأحمد أنّه سمعه من النبي(صلى الله عليه وآله) ثلاثون صحابياً ، وشهدوا به لعلي لمّا نوزع أيام خلافته ، وكثير من أسانيده صحاح وحسان ، ولا يلتفت لمن قدح في صحته ولا لمن ردّه"(3) .

وفي الخصائص للنسائي عن زيد بن أرقم قال : "لما رجع النبي(صلى الله عليه وآله)من حجّة الوداع ، ونزل في غدير خم ، أمر بدوحات فقمن ، ثمّ قال : كأنّي دعيت فأجبت ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : أحدهما أكبر من الآخر ،

____________

1- البقرة : 180 .

2- د. الشيخ أحمد الوائلي ، هوية التشيع ، ص110 .

3- ابن حجر الهيتمي ، الصواعق المحرقة ، ص42 .


الصفحة 24

كتاب الله وعترتى أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، ثمّ قال : إنّ الله مولاي وأنا وليّ كل مؤمن ، ثمّ أخذ بيد علي(رضي الله عنه) فقال : من كنت وليه ، فهذا وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، فقلت لزيد : سمعته من رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : نعم ، وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلاّ ورآه بعينه وسمعه بأذنيه"(1) .

وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم عن زيد بن أرقم قال : "لمّا رجع رسول الله(صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع ، ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمن ، فقال : كأنّي دعيت فأجبت ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، ثمّ قال : إنّ الله عزّ وجل مولاي وأنا وليّ كل مؤمن ، ثمّ أخذ بيد علي(رضي الله عنه) ، فقال : من كنت وليه ، فهذا وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه" .

يقول الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد أخرجه الحافظ الذهبي في تلخيصه على المستدرك(2) .

وفي كنز العمال للمتقي الهندي "أنّ الله مولاي وأنا وليّ كل مؤمن ، من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه" . وأخرج هذا الحديث عن جابر وأبي سعيد وابن عباس وزيد بن أرقم

____________

1- النسائي ، الخصائص ، ص40 ـ 41 .

2- الحاكم النيسابوري ، المستدرك على الصحيحين 3 : 109 .


الصفحة 25

وأبي هريرة .

ويقول الشهرستاني في الملل والنحل : "ومثل ما جرى في كمال الإسلام وانتظام الحال حين نزل قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(1) .

فلمّا وصل غدير خم أمر بالدوحات فقمن ، ونادوا : الصلاة جامعة ، ثمّ قال عليه الصلاة والسلام وهو على الرحال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار ، ألا هل بلّغت؟ ثلاثاً"(2) .

إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة ، وقد رُوي من قِبَل الصحابة والتابعين وعلماء الحديث في كل قرن بصورة متواترة ، فقد نقل حديث الغدير ورواه (110) من الصحابة ، و(89) من التابعين ، و(3500) من العلماء والمحدّثين ، وفي ضوء هذا التواتر لا يبقى مجال للشك في أصالة وصحة هذا الحديث ، كما أنّ فريقاً من العلماء ألّفوا كتباً مستقلة حول حديث الغدير .

وتأسيساً على ما سبق نسوق تلك المحاورة التي دارت بين عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس : "كان الخليفة الثاني يأنس بابن عباس

____________

1- المائدة : 67 .

2- الشهرستاني، الملل والنحل 1: 163 .


الصفحة 26

ويميل إليه كثيراً ، فقال له يوماً : يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفس عليّ شي من الخلافة . قال ابن عباس : قلت : نعم ، فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذروة من قول لا تثبت حجة ولا تقطع عذراً ، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام فعلم رسول الله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك" .

وما جاء في البخاري والطبقات : "أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الأخير : عليَّ بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ، فقال عمر : إنّه يهجر ، وقد غلب عليه الوجع"(1) .

وفي النهاية لابن الأثير في مادة (هجر)(2) .

وفي هذا المعنى يقول أحد الشعراء :


أوصى النبي فقال قائلهم قد راح يهجر سيّد البشـر
لكن أبا بكر أصاب ولـم يهجر وقد أوصى إلى عمر

ـ موقف علي بن أبي طالب :

ثمّ إنّ علي بن أبي طالب أُتي به إلي أبي بكر ، وهو يقول : أنا عبد الله ، وأخو رسوله ، فقيل له : بايع أبا بكر ، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ،

____________

1- البخاري ، صحيح البخاري 5 : 137 ، طبقات ابن سعد 4 : 61 .

2- ابن الأثير ، النهاية 5 : 246 .


الصفحة 27

واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي(صلى الله عليه وآله) ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً (!!) ، ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكان محمّد منكم (؟!) ، فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حياً وميتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلاّ فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون . فقال عمر : إنّك لست متروكاً حتّى تبايع ، فقال له علي : احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم يردده عليك غداً . ثمّ قال : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه ، فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك . فقال أبو عبيدة بن الجراح لعلي (كرّم الله وجهه) : يا ابن عم ، إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك ، وأشد احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنّك إن تعش ويطل بك البقاء ، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك . فقال علي (كرّم الله وجهه) : الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به ، ونحن أحق بهذا منكم ، ما كان فينا القارىء لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول


الصفحة 28

الله ، المطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنّه فينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعداً .

ـ موقف السيّدة فاطمة الزهراء :

ما دار بين أبي بكر وحبيبة رسول الله فاطمة :

"إنّ أبا بكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند علي بن أبي طالب ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم ، وهم في دار علي ، فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب ، وقال : والذي نفس عمر بيده ، لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها ، فقيل له : يا أبا حفص ، إنّ فيها فاطمة ، فقال : وإنْ ، فخرجوا فبايعوا إلاّ علياً فإنّه زعم أنّه قال: حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتّى أجمع القرآن ، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها ، فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله(صلى الله عليه وآله) جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردّوا لنا حقاً .

فأتى عمر أبا بكر ، فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفد ـ وهو مولى له ـ : اذهب فادع لي علياً ، قال : فذهب إلى علي ، فقال له : ما حاجتك؟ فقال : يدعوك خليفة رسول الله ، فقال


الصفحة 29

عليّ : لسريع ما كذبتم على رسول الله . فرجع فأبلغ الرسالة ، قال : فبكى أبو بكر طويلاً . فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة ، فقال أبو بكر(رضي الله عنه) لقنفد : عد إليه ، فقل له : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع ، فجاءه قنفد ، فأدّى ما أمر به ، فرفع علي صوته فقال : سبحان الله؟! لقد ادّعى ما ليس له ، فرجع قنفد ، فأبلغ الرسالة ، فبكى أبو بكر طويلاً ، ثمّ قام عمر ، فمشى معه جماعة حتّى أتوا باب فاطمة ، فدقّوا الباب ، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله ، ماذا لقينا من بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ، فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها ، انصرفوا باكين ، وكادت قلوبهم تتصدّع ، وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا علياً ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا : إذاً والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك ، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله . قال عمر: أمّا عبد الله فنعم ، وأمّا أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر ، ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق عليّ بقبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) يصيح ويبكي ، وينادي : يا ابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني .

فقال عمر لأبي بكر (رضى الله عنهما) : انطلق بنا إلى فاطمة ، فإنّا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعاً ، فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا


الصفحة 30

علياً فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلمّا قعدا عندها ، حوّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّما عليها ، فلم ترد عليهما السلام ، فتكلّم أبو بكر ، فقال: يا حبيبة رسول الله ، والله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي ، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أنّي مت ، ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله إلاّ أنّي سمعت أباك رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة ، فقالت : أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)تعرفانه وتفعلان به؟ قالا : نعم . فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطنى؟ قالا : نعم ، سمعناه من رسول الله(صلى الله عليه وآله)قالت : فإنّي أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه ، فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة(1) .

ـ موقف العباس عمّ النبي(صلى الله عليه وآله) :

استشار أبو بكر المغيرة بن شعبة في أمر علي ، فأشار عليه أن يجعل للعباس وولده في هذا الأمر نصيب . فذهب أبو بكر وعمر بن الخطاب

____________

1- ابن قتيبة ، الإمامة والسياسة 1 : 13 ـ 14 .


الصفحة 31

وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة ، ودار بينهم حوار ، فتكلّم العباس : ـ بعد أن سمع منهم ـ فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ الله بعث محمّداً كما زعمت نبياً ، وللمؤمنين ولياً ، فمنّ الله بمقامه بين أظهرنا حتّى اختار له ما عنده ، فخلّى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم ، مصيبين للحق ، لا مائلين عنه بزيغ الهوى ، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت ، فنحن منهم متقدّمون فيهم ، وإن كان هذا الأمر إنّما يجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنّا كارهين ، فأمّا ما بذلت لنا فإن يكن حقاً لك ، فلا حاجة لنا فيه ، وإن يكن حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم عليهم ، وإن كان حقنا لم نرض عنك فيه ببعض دون بعض ، وأمّا قولك إنّ رسول الله منّا ومنكم ، فإنّه قد كان من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها(1) .

عمربن الخطاب والانقلاب المنهجي :

والثابت من التاريخ أنّ علياً والناس قد بايعوا أبا بكر بعد أن رحلت فاطمة حبيبة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد ساس أبو بكر الناس وفقاً لاتفاق السقيفة ، فلمّا دنا أجله جعل الأمر بعده في عمر بن الخطاب ليفري بالأمّة فرياً عبقرياً ، حتّى طعنه أبو لؤلؤة ، فأوصى بالأمر بعده للستة الذين قبض رسول الله وهو راض عنهم ، كما يقال !

____________

1- ابن قتيبة ، مرجع سابق 1 : 21 .


الصفحة 32

وهناك أكثر من نقطة ممّا يجعل المؤرّخ الموضوعي أن يشكك في حدث الاغتيال والوصية .

أوّلاً : عنصر الوقت . أعتقد أنّه لم يكن متوفّراً أمام الخليفة ليشكّل مثل هذا المجلس .

وثانياً: رأي الخليفة فى بعض الستة الذين انتدبهم لهذه المهمة لم يكن رأياً إيجابياً .

وثالثاً : تركيبة المجلس بحد ذاتها تورث الشك .

ورابعاً : الدور البارز المفتعل لعبد الرحمن بن عوف وكأنّه هو الذي يوجّه كل حركة المجلس .

وبدا منذ اللحظة الأولى يخطط لإبعاد علي ومجي شخصية يستطيع من خلالها السيطرة على الوضع أو أن يمارس نفوذاً فى ظل الخليفة القادم ، ويدعو في ذلك الآخرين باستثناء سعد بن أبي وقاص الذي تنازل لعلي ، وبالتالي ممّا يعزز هذا الشك أنّ الذين أيّدوا عثماناً تقاضوا الثمن بعد ذلك ، أولئك الذين كان الخليفة عمر بن الخطاب يفرض عليهم نظاماً صارماً وهو الإقامة شبه الجبرية في المدينة حتّى لا يستغلّوا وجودهم في مواقع قيادية لتأسيس نفوذ في المناطق المفتوحة حديثاً ، وفجأة أصبح هؤلاء يملكون مزارعاً وضياعاً وأموالاً طائلة إلى غير ذلك0


الصفحة 33

فأعتقد أنّ اغتيال عمر بن الخطاب كان مؤامرة من قِبَل فئة من الناس ، خصوصاً الفئة الطارئة على الإسلام ، والتي يمكن أن نتّهمها دون صعوبة أنّها ضالعة في اغتيال عمر بن الخطاب0

وليس مصادفة أن يتمّ اغتيال شخصية على مستوى الخليفة عمر بن الخطاب ، وأن يبرر الاغتيال بذرائع ساذجة(1) ، وأعتقد أنّ ذلك مجرد تبرير رسمي لهذا الاغتيال ليس أكثر .

وهناك ملف آخر يتعلّق بقيام ابنه عبيد الله بقتل متّهمين ، وأعتقد أنّهم ممن قتلوا أبيه ، والجملة التي تفوّه بها مهدداً ـ لأقتلنّ أناساً ممن شارك في دم أبي ـ شاهدٌ على ذلك .

وبموت أبي لؤلؤة ذهب سرّه معه .

ولقد حاول عبد الرحمن بن عوف أن يقنع الزبير وسعد بالبيعة لعثمان ، فقال سعد: إن اخترت عثمان فهذا أحبّ إليّ ، وقال الزبير : إنّه يؤيّد علياً .

ثمّ نادى ابن عوف علياً فناجاه طويلاً ، وانصرف الإمام علي عنه ،

____________

1- قال ثابت البناني عن أبي راجح : كان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة يصنع الأرحاء ، وكان المغيرة يستغلّه كل يوم أربعة دراهم ، فلقي عمر فقال : يا أمير المؤمنين إنّ المغيرة قد أثقل عليّ فكلّمه ، فقال : أحسن إلى مولاك ، ومن نية عمر أن يُكلّم المغيرة فيه ، فغضب وقال : يسع الناس كلهم عدلك غيري ، وأضمر قتله ، واتخذ خنجراً وشحذه وسمّه ، تاريخ الإسلام ، 2/109 .


الصفحة 34

فدعا عثمان فناجاه حتّى الصباح ، فلمّا صلّى بهم صهيب الصبح ، جمع عبد الرحمن أهل الشورى الخمسة ، ودعا أمراء الأجناد وبعث إلى المهاجرين الموجودين بالمدينة ، وأهل السابقة والفضل من الأنصار حتّى امتلأ بهم المسجد ، فقال عبد الرحمن : "أيّها الناس ، إنّ الناس قد أحبّوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم وقد عرفوا مَن إمامهم ، فأشيروا عَلَيّ" .

فقال عمار بن ياسر : "إذا أردت ألاّ يختلف المسلمون فبايع علياً" .

فقال المقداد : "صدق عمار . إن بايعت علياً قلنا : سمعنا وأطعنا" .

وقال ابن أبي سرح : "إذا أردت ألاّ تختلف قريش فبايع عثمان" .

فقال عمار لابن أبي سرح : "متى كنت تنصح المسلمين؟" .

وتكلّم بنو هاشم وبنو أمية ، وأوشكت أن تحدث بينهما شحناء ، فقال عمار : "يا أيها الناس إنّ الله أكرمنا بنبيه ، وأعزّنا بدينه ، فأنّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟" .

فقال رجل من بني مخزوم : "لقد عدوت طورك يا ابن سمية .

وأوشكت الأمور أن تنفلت ، فقال سعد بن أبي وقاص : "أفرغ يا عبد الرحمن قبل أن يفتن الناس .

فارتقى عبد الرحمن المنبر وقال : "يا أيها الناس إنّي قد سألتكم سرّاً وجهراً من إمامكم ، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين علي وعثمان" .


الصفحة 35

فدعا علياً فقال له : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده" .

فقال علي : "أرجو أن أفعل فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي" .

ثمّ أخذ بيده وقال : "أبايعك على شرط عمر ألاّ تجعل أحداً من بني هاشم على رقاب الناس" ، فقال علي : "ما لك ولهذا؟ إذا قطعتها في عنقي فإنّ عليّ الاجتهاد لأمّة محمّد ، وحيث علمت القوّة والأمانة استعنت بهما ، كان في بني هاشم أو غيرهم" . فترك يد علي وأخذ بيد عثمان ، فسأله كما سأل علياً وشرط عليه ألاّ يضع بني أمية على رقاب الناس ، فوافق عثمان على الشرط .

فأعلن عبد الرحمن بن عوف أنّه يبايع عثمان ، ودعا الناس إلى بيعة .

فقال علي : "ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم عليّ ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، أما والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليرد الأمر إليك ، والله كل يوم هو في شأن" .

فقال عبد الرحمن : "يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا ، فإنّي قد نظرت وشاورت الناس ، فإذا هم لا يعدلون بعثمان . فقال علي : "سيبلغ الكتاب أجله" .

فقال المقداد : "ما رأيت مثل ما أوتي أهل البيت بعد نبيهم . إنّي لأعجب من قريش أن تركوا رجلاً ما أحد أعلم منه ، ولا أقضى منه بالعدل" .


الصفحة 36

فقال عبد الرحمن : "اتقي الله يا مقداد إنّي خائف عليك الفتنة" .

فقال علي : "إنّ الناس ينظرون وقريش تنظر إلى بيتها وتقول : إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم" .

فقال عبد الرحمن : قال تعالى {اِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}(1) .

وحدث هرج عظيم ، ورأى علي أنّ اختلاف الناس قد يؤدّي إلى فتنة!! فشقّ الناس حتّى بايع وهو يقول : "خدعة أيما خدعة" . ثمّ ارتقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : "لقد علمتم أنّي أحق الناس بها من غيري ، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة ، التماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه" .

وبايع فبايع من بعده الذين أحسّوا أنّه مظلوم سليب الحق(2) .

وصرع الخليفة ، ودارت رحى الحرب بين صاحب الحق والمغتصب ، ومازالت دائرة حتّى صدقت نبوءة النبي(صلى الله عليه وآله) في صاحب الحق ، حين قال لعليّ : أتدرى من أشقى الأوّلين والآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم ،

____________

1- الفتح : 10 .

2- عبد الرحمن الشرقاوي ، علي إمام المتقين ، ص126 .


الصفحة 37

قال : أشقى الأوّلين عاقر الناقة ، وأشقى الآخرين قاتلك وقال : تخضب لحيتك من دم رأسك .

وقد خرج علي في ليلة قتله ، وهو يقول :


اشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت إذا حلّ بواديـكا

وروي عن الحسن أنّه قال : أتيت أبي فقال لي : ملكتني عيناي ، فسنح لي رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقلت : يا رسول الله ماذا لقيت من أُمّتك من الأود واللدد؟ فقال : ادع عليهم ، فقلت : اللّهم أبدلني بهم خيراً لي منهم ، وأبدلهم بي شرّاً لهم منّي .

وخرج إلى الصلاة ، فقتله ابن ملجم في المحراب .

وبايع الناس الحسن(عليه السلام) ، وتحققت فيه نبوءة جدّه(صلى الله عليه وآله) فيه . قال أبو بكرة : رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه ، وهو يقول : إنّ ابني هذا سيّد ، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين .

وقال الحسن(عليه السلام) لجبير بن نفير حين قال له : إنّ الناس يقولون إنّك تريد الخلافة ، فقال : قد كان جماجم العرب في يدي، يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت ، تركتها ابتغاء وجه الله ، وحقن دماء الأمّة ، ثمّ ابتزّها بأتياس من أهل الحجاز .


الصفحة 38

ثمّ إنّ الإمام الحسن بن علي(عليه السلام) صالح معاوية حقناً للدماء ، وحفظاً لحقوق الله في دماء الناس على أن يكون الأمر لمعاوية ما كان حيّاً ، فإذا مات فالأمر للحسن ثمّ للحسين ، وبذلك أراد الحسن تصحيح المسار الذي به دخلت الأمّة ظلمات الحرب وحبّ الدنيا حيث إنّ اجتماع السقيفة والذي تمّت فيه البيعة وانتخاب الخليفة الأوّل أبي بكر فإنّه كان أقرب إلى الانقلاب السياسي منه إلى إجراء انتخاب . وهي عملية لم يتّضح فيها طريقة اختيار الإمام .

ولم تكن هناك كيفية واحدة في اختيار من يدير شؤون المسلمين بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) ففي اجتماع السقيفة ، حضر معظم الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وتخلّف عنها أقرباء النبي لانشغالهم بتجهيز الرسول(صلى الله عليه وآله) ومن بينهم الإمام علي ، وحاول أبو بكر وسعد بن عبادة ـ باعتبارهما مرشّحين رئيسيين ـ إلى انتزاع موافقة المؤتمرين على البيعة .

وبعد طول النزاع وانحراف الأمّة عن مسارها الصحيح بحيث وصل بهم الأمر إلى أن يُجعل يزيد الفاجر أميراً عليهم فعندئذ تكلّم الساكت وبرز المظلوم ، وتجشم الظالم وخرجت السهام من أكنتها بعد طول مكث ، وأُحرقت الكعبة ، وخُربت المدينة ، وقُتل الحسين بن علي ، وصُلب ابن الزبير ، ودخلت الأمّة بحار الظلم والظلمات ، وتحكّموا في رقاب العباد ألف شهر ، وعدّتهم أربعة عشر نفراً .


الصفحة 39

وهم ملوك بنى أُميّة الذين حدّثتنا عنهم الأخبار الثابتة ، فقد أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : "رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتّى مات . قال : وأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}(1) .

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقى في الدلائل ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب(رضي الله عنه) قال : "رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، بني أمية على المنابر ، فساءه ذلك فأوحى الله إليه : إنّما هي دنيا أعطوها فقرّت عينه ، وهي قوله {وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس}(2) .

وأوّل ملوك بني أمية هو : معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب ، وفي حديث سعيد (تمتّعنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومعاوية كافر بالعرش)(3) .

وأسلم في عام الفتح مع أبيه ، ونازع أمير المؤمنين علي بعد أن رضي به أهل الحل والعقد ، وبذلك لزمه ما رضي به الباقون فما كان عليه إلاّ الانقياد والطاعة ، ولا يشقّ عصا الطاعة . وقد صوّغ كثير من أهل العلم ما فعله ، والله أعلم بنيّاتهم . وتنازل له الحسن عام الجماعة . ومات في رجب سنة ستين للهجرة .

____________

1- الاسراء : 60 ، ]محمّد بن جرير الطبري ، تفسير الطبري ، 9/113[ .

2- السيوطي ، الدرّ المنثور ، 5/309 .

3- أي : قبل إسلامه . والعرش : بيوت مكّة . وقيل : معناه أنّه مقيم مختبىء بمكة ; لأنّ التمتع كان في حجة الوداع بعد فتح مكة ، ومعاوية أسلم عام الفتح . (أي : أنّه من الطلقاء) ، النهاية لابن الأثير 4/188 .


الصفحة 40

الثاني : يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، ولد سنة ست وعشرين ، وبُويع بعهد أبيه ، وهو صاحب الأمر في قتل الإمام الحسين بن علي ، وصاحب الأمر في قتل أهل المدينة في الحرة ، وقتل أهل مكة . وفي مسند أبي يعلى حدثنا الحكم بن موسى عن الأوزاعي عن مكحول عن أبي عبيدة قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) (لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتّى يكون أوّل من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد) .

وروى زحر بن حصن عن جدّه حميد بن منهب قال: زرت الحسن ابن أبي الحسن ، فخلوت به ، فقلت : يا أبا سعيد ، ما ترى ما الناس فيه؟ فقال لي : أفسد أمر الناس اثنان : عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف ، فحُمِلت ، وقال : أين القرَّاء ، فحكم الخوارج ، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة ، والمغيرة بن شعبة فإنّه كان عامل معاوية على الكوفة ، فكتب إليه معاوية : إذا قرأت كتابي هذا فأقبل معزولاً ، فأبطأ عنه ، فلمّا ورد عليه قال : ما أبطأ بك قال : أمر كنت أوطئه او أهيئه ، قال : وما هو؟ قال : البيعة ليزيد من بعدك ، قال: أَوَفعلت؟ قال : نعم ، قال : ارجع إلى عملك ، فلمّا خرج قال له أصحابه : ما وراءك؟ قال : وضعت رجل معاوية في غرز غي لا يزال فيه إلى يوم القيامة . قال الحسن : فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم ولولا ذلك لكانت شورى .

وقال محمّد بن أبي السري : ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، عن نوفل بن أبي الفرات قال : كنت عند عمر بن عبد العزيز ، فذكر رجل


الصفحة 41

يزيد فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ، فقال : تقول أمير المؤمنين؟! وأمر به فضرب عشرين سوطاً .

وكان ملك يزيد بن معاوية أربع سنوات ، ومات سنة أربع وستين للهجرة .

الثالث : معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، استخلف بعهد من أبيه عند موته في ربيع الأوّل ، وقد ولي ثلاثة أشهر ، ومات دون أن يستخلف ، وقد عاش عشرين سنة . وقيل : ملك أربعين ليلة . وقيل : شهرين .

الرابع : مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أُميّة ، ولد بمكة بعد ابن الزبير بأربعة أشهر ، وكان يلقّب بخيط باطل .

وقال الواقدي : أسلم الحكم في الفتح ، وقدم المدينة فطرده النبي(صلى الله عليه وآله) فنزل الطائف ، فلمّا قبض النبي(صلى الله عليه وآله) قدم المدينة .

وقد كان مروان كاتب عثمان ، وهو من أكبر الأسباب التي دخل بها الداخل على عثمان ; لأنّه زوّر على لسانه كتاباً في محمّد بن أبي بكر .

وقال حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى قال : كنت بين الحسن والحسين ومروان ، والحسين يساب مروان ، فجعل الحسن ينهاه ، فقال مروان : إنّكم أهل بيت ملعونون . فغضب الحسن وقال : ويلك ، قلت هذا ، فوالله لقد لعن الله أباك على لسان نبيه وأنت في صلبه .

وقال الأعمش عن عطية ، عن أبي سعيد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : "إذا


الصفحة 42

بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ودين الله دغلاً ، وعباد الله خولاً" . أي : خدماً وعبيداً .

الخامس : عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ولد سنة ستة وعشرين ، بويع بعهد من أبيه في خلافة ابن الزبير ، وكان حكمه على الشام ومصر ، وابن الزبير على باقي البلاد حتّى سنة ثلاث وسبعين عندما قتل ابن الزبير فكانت الجماعة له .

ولمّا جهّز يزيد بن معاوية جيشاً إلى مكة قال عبد الملك : أعوذ بالله ، أيبعث إلى حرم الله؟! فضرب يوسف بمنكبه وقال : جيشك إليهم أعظم .

وقال أحمد بن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسانى : ثنا أبي عن أبيه ، قال : لما نزل مسلم بن عُقبة المدينة دخلت مسجد النبي(صلى الله عليه وآله) فجلست إلى جنب عبد الملك ، فقال لي عبد الملك : أمن هذا الجيش أنت؟ قلت : نعم . قال : ثكلتك أمك ، أتدري إلى من تسير؟ إلى أوّل مولود ولد في الإسلام ، وإلى ابن حواري رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وإلى ابن ذات النطاقين ، وإلى من حنّكه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، أما والله إن جئته نهاراً وجدته صائماً ، ولئن جئته ليلاً لتجدنّه قائماً ، فلو أنّ أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبّهم الله جميعاً في النار . فلمّا صارت الخلافة إلى عبد الملك ، وجّهنا مع الحجاج حتّى قتلناه .

وقال ابن عائشة : أفضي الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره ، فأطبقه وقال : هذا آخر عهدي بك .


الصفحة 43

ولمّا احتضر دخل عليه الوليد ـ ابنه ـ يبكي ، فقال : ما هذا ، تحن حنين الأمة إذا مت فشمر وائتزر والبس جلد النمر ، وضع سيفك على عاتقك ، فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه ، ومن سكت مات بدائه .

وتوفي سنة ست وثمانين . وقتل في عهده ابن الزبير وسعيد بن جبير وأحرقت الكعبة .

السادس : الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص . استخلف بعهد من أبيه وكان دميماً ، إذا مشى تبختر في مشيته ، وكان أبواه يترفانه ، فشب بلا أدب .

وكان جبّاراً ظالماً ، وفتحت في أيامه فتوحات عظام ، وكان ملكه تسع سنين ، وعاش إحدى وخمسين سنة ، ومات سنة ست وتسعين للهجرة .

السابع : سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، ولي الملك سنة ست وتسعين بعد الوليد بعهد من أبيه عبد الملك .

وعن ابن سيرين قال : يرحم الله سليمان بن عبد الملك افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لوقتها ـ وكان بنو أمية يؤخّرون الصلاة ـ واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز .

وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى : ثنا أبي ، عن أبيه قال : جلس سليمان بن عبد الملك في بيت أخضر على وطاء أخضر عليه ثوب اخضر ، ثمّ نظر في المرآة فأعجبه شبابه وجماله فقال : كان محمّد(صلى الله عليه وآله)


الصفحة 44

نبياً ، وكان أبو بكر صديقاً ، وكان عمر فاروقاً ، وكان عثمان حيياً ، وكان علياً شجاعاً، وكان معاوية حليماً ، وكان يزيد صبوراً ، وكان عبد الملك سائساً ، وكان الوليد جبّاراً ، وأنا الملك الشاب . فما دار عليه الشهر حتّى مات . ومات سنة تسع وتسعين .

الثامن : عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية (أبو حفص) ولد سنة ست وستين عام وفاة معاوية أو بعده بسنة في المدينة .

وتولّى الخلافة بعهد من سليمان بن عبد الملك ، أشار به عليه رجاء ابن حلوة ، ولكن عمر : أقال الناس من البيعة ، فرفض الناس غيره . وبدأ بأسرته وأهل بيته فأخذ ما بأيديهم من الأموال وسمّاها مظالم ، وكان يقول : لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت فيكم العدل .

وتوفي في يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة ، ومات ابن تسع وثلاثين سنة وستة أشهر ، وكانت خلافته مثل خلافة أبو بكر تسع وعشرين شهراً .

التاسع : يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز بعهد من أخيه سليمان ، ومات بسهم أصابه سنة خمس ومائة للهجرة .

العاشر : هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ، تولّى الخلافة بعهد من أخيه يزيد بن عبد الملك ، وكان بخيلاً وحازماً .


الصفحة 45

وقتل زيد بن علي ، وصلب بدنه بالكوفة أربع سنوات ، ومات من ورم أصابه في حلقه حتّى قتله .

الحادي عشر : الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، ولد سنة تسعين ، فلمّا احتضر أبوه لم يمكنه أن يستخلفه ; لأنّه صبيّ ، فعقد لأخيه هشام وجعل هذا ولي العهد من بعد هشام .

قال أحمد في مسنده : ثنا أبو المغيرة أنا ابن عياش هو إسماعيل حدثني الأوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر قال : ولد لأخي أم سلمة ولد فسمّوه الوليد ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : "سميّتموه بأسماء فراعنتكم ليكون في هذه الأمّة رجل يقال له الوليد لهو أشد لهذه الأمّة من فرعون لقومه" .

وفي لفظ بعضهم : (لهو أضرّ على أمتي) ، وفي لفظ آخر : (لهو أشدّ على أمتي) .

قال المعافي الجريري : كنت جمعت من أخبار الوليد شيئاً ومن شعره الذي ضمنه ما فخر به من خرقه وسخافته وخسارته وحمقه .

والوليد بن يزيد هذا المخاطب لكتاب الله العزيز بعد أن ألقاه ورماه بالسهام .


تُهددني بجبــار عنيــد فها أنا ذاك جبــارٌ عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزّقني الوليد

والوليد هذا كان فاسقاً خمّيراً لوّاطاً ، راود أخاه سليمان عن نفسه ،