الصفحة 81

الفرق .

وأمّا ابن تيمية فبعمد أراد أن يثير أكبر حملاته في الهجوم على الشيعة كفرقة ، فخلط بينها وبين السبئية ، والتي هي مترسّخة في الوعي العام للناس ، وأنّهم كفّار خارجين عن الملة ، وبذلك أراد أن يسحب هذه على تلك ، ثمّ أضاف إليهم الرفض ; لكي يشتركوا جميعاً في حكم واحد ، وهو الكفر ، وهو نفسه القائل في موضع آخر ما نصّه (وأمّا لفظ "الروافضة" فهذا أوّل ما ظهر في الإسلام لمّا خرج زيد بن علي بن الحسين ، في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبد الملك)(1) .

ولنا أن نسأل : أنسي ما قد كتب؟!

وأين هي أمانة الكلمة؟!

وكذلك فعل صالح بن عبد المحسن دون أمانة علمية أو حيدة في البحث والتأليف ، ونسأل الله العافية .

وأمّا المصادر الباقية بقيت على ما هو الثابت والمعروف ومن أنّ الشيعة هي (الكل) ، وأنّ الرافضة هي فرقة ظهرت في مطلع أو بعد المائة الأولى حينما اختلفوا مع أميرهم وإمامهم زيد بن علي ، ولم يلتزموا بعقيدته في الشيخين أبي بكر وعمر .

وكلام البعض من أنّ الزيدية هم من الشيعة الذين اتّبعوا زيداً ، وأمّا

____________

1- ابن تيمية ، مجموع الرسائل الكبرى ، فصل الفرقان بين الحق والباطل ، 1/27 .


الصفحة 82

الرافضة هم الذين اتّبعوا جعفر بن محمّد (الصادق) فهو بهتان عظيم . ولنعلم أنّ جند زيد لم يحاربوا معه إلاّ لأنّهم يؤمنون بفضله ، وهم لا يجدون غضاضة في الموت معه أملاً في النصر أو الشهادة متمركزون حول قضية هامة ، وهي أحقّية؟! آل البيت بالإمامة ، فهل زيد لم يعرف جنده إلاّ وقت المعركة؟! أم أنّ الجند كانوا يجهلون إمامهم ، وهو يخلفهم في مساجدهم يعظهم ويعلّمهم ولم يعلم عقيدتهم ، وأرادوا أن يعرفوا عقيدته ويطابقونها مع عقيدتهم في تلك السويعات العصيبة ، ولمّا اختلفوا عليه تولّوا جعفر محمّد بن علي (الصادق)؟!

خلاصة القول :

إنّ الشيعة فرقة قديمة لها أصولها العقائدية الثابتة في كتبهم ، والتي لا تخرج عن أصول الإسلام كما مرّ ، وأنّ السبئية فرقة غيرهم ، وسوف تمرّ دراستها في حينها من الكتاب نفسه، وأنّ (الرافضة) لا تعدوا غير فرقة من الشيعة كانت في جيش زيد بن علي حينما ناهض هشام بن عبد الملك لم تلتزم بعقيدته ، ورفضوا نصحه ، وفارقوا جماعته كما يقال ، ولمّا قتل يوسف بن عمر الثقفي زيد بن علي بأمر من هشام بن عبد الملك وصلبه ـ وهذا أمر موحش يذم فاعله ـ فأراد هشام وآخرون أن يلبسوا الأمر على الناس ، فأشاعوا أنّ الشيعة دفعوا زيد للخروج على هشام ، ثمّ تركوه في ساعة الحسم ، فهم رافضة .

نعم ، أرادت السلطة ومن تبعها أن تضيّع معالم جريمتها في حق


الصفحة 83

الشريف بن الشريف ، ولمّا طاب لهم ما صنعوا أرادوا أن يطلقوا هذا الاسم على الشيعة كلّها لتتحمّل ما صنعوه في تاريخ الإسلام فادّعوا باطلا أنّ الشيعة الروافض هم الذين ألّبوا الناس على عثمان ، وحاصروه ثمّ قتلوه ، وهم الذين أجّجوا حرب الجمل ، وهم المسؤولون عمّا وقع في صفين ، وربما هم الذين تقرأ عنهم بعد أعوام أنّهم ضيعوا فلسطين ، وهم من سيهدموا الكعبة ، وهم من تسبب في احتلال الكويت ومحاصرة العراق ، وربما هدموا برجي التجارة العالمية في نيويورك ، وطالما ليس هناك من يوقف قائمة الاتهام ، ومادام يوجد بائعون للأقلام ، وباحثون عن الشهرة ، ورضى السلطان ، سوف تجد الكثير ممن يؤجج نار الفرقة ، ويفسد روح الوحدة ، ومن يوقف كتب ومطابع ويكتب عليها وقفاً لله في تقطيع أوصال الأمّة ، وبلادهم مستعمرة ، وأموالهم يتلاعب بها الملاحدة ، وكذلك عقولهم !! يا قومنا أليس منكم رجل رشيد .

قال الشافعي حينما أراد أن يفسد هذا الفخ اللعين :


يا راكباً قف بالمحصَّب من منى واهتف بقاعده جمعها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائـض
أعلمتم أنّ التشيع مذهبــــي إنّي أقول به ولست بناقــض


الصفحة 84

إن كان رفضاً حب آل محمّــد فليشهد الثقلان أنّي رافضـي(1)

شـــتم الصحـــابـة :

اعلم أنّ السباب خلق قبيح ، ولا يجوز لمسلم أن يكون شتّاماً أو سبّاباً ، ويجب أن يكون له في رسول الله(صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة ، فقد كان(صلى الله عليه وآله) خلقه القرآن ، ولم يبعث إلاّ ليتمم مكارم الأخلاق ، أنّ الذين جعلوا السباب في حق الأمّة سنة فعليهم وزره ووزر من عمل به لا ينقص منه شي إلى يوم القيامة .

واعلم أنّ الشيعة أنصار علي وآل البيت ، وليس من خلقهم السب والشتم ، وأنّ وجود جماعة شتّامين في الأزمنة المتأخرة سببه ما تعرّضت له الشيعة من التنكيل والإبادة على الظنة والتهمة ، ومحاربتهم في أرزاقهم ، ومنعهم من عطائهم ، وعزلهم سياسياً واجتماعياً .

وإنّ مثل هذا الاضطهاد يستلزم التنفيس ،وقد يكون هذا التنفيس في عمل إيجابي كالثورات ومحاربة الظلم أو بعمل سلبي كالسباب.

واعلم أنّ الذي أسس هذه البدعة هم الأمويون بشتمهم الإمام علي(عليه السلام) على منابرهم ولعنه وآل بيته بعد كل صلاة مكتوبة حتّى غلب على ظن العامة أنّ الصلاة لا تصح إلاّ بلعن (أبي تراب)(2) . روى

____________

1- الزبيدي ، تاج العروس ، 5/35 .

2- خطط المقريزي ، 4/152 .


الصفحة 85

الواقدي أنّ معاوية لمّا عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن عام واحد وأربعين خطب فقال : أيّها الناس إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : إنّك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فإنّ فيها الأبدال وقد أخبرتكم فالعنوا أبا تراب(1) .

وفي البخاري ومسلم حدّثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : استعمل على المدينة رجل من آل مروان فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم علياً قال : فأبى سهل فقال له : أمّا إذا أبيت فقل لعن الله أبا تراب ، فقال سهل : ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب ، وإن كان ليفرح إذا دعي بها(2) .

وفي مسلم حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمّد بن عباد قالا :

حدثنا حاتم عن بكير بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: "أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب...(3)".

وكان ممن بقي من أصحاب حجر بن عدي عبد الرحمن بن حسان العنزي وكريم بن عفيف الخثعمي قالا : ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين ،

____________

1- محمود أبو رية ، أضواء على السنة المحمّدية ، ص103 .

2- البخاري 5/23 ، ومسلم 15/181 ـ 182 . نقلا عن الوقوف على ما في صحيح مسلم من الموقوف ابن حجر .

3- ابن حجر العسقلاني ، المصدر السابق ، 76 . مسلم 15/175 .


الصفحة 86

فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته ، فبعثوا إلى معاوية يخبرونه بمقالتهما ، فبعث إليهم أن ائتوني بهما ، فلمّا دخلا عليه قال الخثعمي : الله الله يا معاوية فإنّك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة ، ثمّ مسؤول عمّا أردت بقتلنا ، وفيم سفكت دماءنا ؟ فقال معاوية : ما تقول في علي؟ فقال : أقول فيه قولك . قال : أتبرأ من دين علي الذي كان يدين به ، فسكت ، وكره معاوية أن يجيبه ، فقام ابن عم له فاستوهبه من معاوية ، فحبسه شهراً ثمّ خلّى سبيله على أن لا يدخل الكوفة .

ثمّ أقبل على عبد الرحمن العنزي فقال : إيه يا أخا ربيعة ما قولك في علي؟ قال : دعني ولا تسألني فإنّه خير لك .

قال: والله لا أدعك حتّى تخبرني عنه .

قال : أشهد أنّه كان من الذاكرين الله كثيراً ، ومن الآمرين بالحق ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن الناس .

قال : فما قولك في عثمان؟

قال : هو أوّل من فتح باب الظلم وأرتج أبواب الحق .

قال : قتلت نفسك . قال : بل إياك قتلت ، ولا ربيعة بالوادي ، فبعث به معاوية إلى زياد ، وكتب إليه : أمّا بعد فإنّ هذا العنزي شرّ من بعثت ، فعاقبه عقوبته التي هو أهلها ، واقتله شرّ قتلة(1) .

____________

1- تاريخ الطبري ، حوادث سنة 51 هجرية ، 2/111 ـ 143 .


الصفحة 87

وقد نقم جماعة من المسلمين على معاوية هذه الأحداث العظيمة ، وهذا الحسن البصري يقول : أربع خصال كنّ في معاوية لو لم تكن فيه إلاّ واحدة لكانت موبقة ، انتزاؤه على هذه الأمّة بالسيف ، واستخلافه بعده ابنه يزيد سكيراً خميراً ، يلبس الحرير ، ويضرب بالطنابير ، وادّعاؤه زياداً ، وقد قال الرسول(صلى الله عليه وآله) "الولد للفراش ، وللعاهر الحجر" ، وقتله حجر بن عدي وأصحابه ، فيا ويلا له من حجر وأصحاب حجر(1) .

ولمّا حجّ معاوية جاء إلى المدينة زائراً فاستأذن على عائشة فأذنت له ، فلمّا قعد قالت له : يا معاوية أمنت أن أخبىء لك من يقتلك بأخي محمّد بن أبي بكر ؟ فقال : بيت الأمان دخلت . قالت : يا معاوية أما خشيت الله فى قتل حجر وأصحابه؟!

قال : إنّما قتلهم من شهد عليهم!!

ويقول ابن تيميّه : (قد كانت الفتنة لمّا وقعت بقتل عثمان ، وافترقت الأمّة بعده ، صار قوم ممن يحب عثمان(رضي الله عنه) ويغلو فيه ينحرف عن علي(رضي الله عنه) ، مثل كثير من أهل الشام حتّى كان إذ ذاك يسب علياً رضي الله عنه ويبغضه)(2) .

ولا أعلم لماذا لم يذكر محرّك هذا السباب ، وهل هو غير وليها؟!

____________

1- النهاية ، ابن الأثير 3/193 ، محاضرات الراغب الأصفهاني 2/213 .

2- ابن تيمية ، الرسائل الكبرى ، 1/304 .


الصفحة 88

وابن تيمية يؤلف كتابه الصارم المسلول في كفر من شتم الرسول أو أحد أصحاب الرسول ، ويحشد فيه الأدلة على كفر الشاتم ، ولكن مع ذلك ومع علمه بما فعله ملوك بني أمية من شتم الإمام علي وأهله لا يقول فيهم إلاّ كل خير ، لكنّه يقول : بكفر الشيعة ، وهم الضحايا ، وكثيراً ما ينعتهم بالروافض، كما يحلو له أن يسمّيهم قاصداً أموراً(1) .

فلا ريب عنده أنّ المعتزلة خير من الرافضة ، فإنّ المعتزلة تقر بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان(2) .

استشهاد الحسين بن علي .. ووكلاء بني أمية

ويذهب ابن تيمية في حديثه عن الأمويين أنّهم تابوا ، وقد اطّلع هو فعلم أنّ الله قد عفا عنهم وغفر لهم . وقال عن يزيد بن معاوية : ولد يزيد ابن معاوية في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يدرك النبي(صلى الله عليه وآله) ، ولا كان من الصحابة باتّفاق العلماء ، وكان من المشهودين لهم بالدين والصلاح ، وكان من شبان المسلمين ، ولا كان كافراً ولا زنديقاً ، وتولّى بعد أبيه على كراهية بعض المسلمين ، ورضا من البعض!! وكان فيه شجاعة وكرم ، ولم يكن مظهراً للفواحش ، كما يحكي عنه خصومه .

وجرت في إمارته أمور عظيمة ، أحدها : قتل الحسين رضي الله عنه .

____________

1- المرجع السابق، 1/74.

2- المرجع السابق، 1/74.


الصفحة 89

ولم يأمر بقتله ، ولا نكت القضيب على ثناياه رضي الله عنه ، وكان قتله رضي الله عنه ، من المصائب العظيمة ، فإنّ مقتل الحسين وقتل عثمان غيلة كان من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمّة ، وأمّا الأمر الثاني : فإنّ أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته ، وأخرجوا نوّابه وأهله ، فبعث إليهم جيشاً وأمره إذا لم يطيعوه ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاث(1) .

وهنا لنا أكثر من وقفة مع ابن تيمية :

أ ـ إنّ بيعة يزيد على ما صح في روايات أهل العلم حينما أعلن قائلهم (المغيرة) الإمام هذا (معاوية) فإن هلك فهذا (يزيد) ، ومن أبى فهذا (السيف) . فكما أنّ معاوية نازع أمراً لم يكن من أهله ; وذلك لأنّه ليس له سابقة في الإسلام ، بل إنّه من الطلقاء المؤلفة قلوبهم ، وفي حديث سعد تمتّعنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومعاوية كافر بالعروش(2) أي : قبل إسلامه(3) .

وكذلك فعل قبل موته بحمل يزيد على رقاب الناس غصباً ، ولقد تولّى على كراهية من الناس ، فيزيد ليس من أهل الحل والعقد الذي لم يكن أبوه منهم ، وليس من الصحابة ، وحتّى لا يُحيلنا أحد على ولاية المفضول على الفاضل ، فإنّ يزيد ليس له ما يؤهّله وفي الأمّة قمم

____________

1- المرجع السابق 1/306 ـ 307 .

2- العرش : بيوت مكة . وقيل : معناها أنّه مقيم مختبىء بمكة .

3- ابن الأثير ، النهاية ، 4/188 .


الصفحة 90

شامخات ، وبهذا فقد أحدث معاوية أمراً لم يكن في الأمّة وهو ولاية العهد والخروج بالبيعة من الخلافة والشورى إلى القسر والوراثة .

ورغم أنّ معاوية صالح الحسن بن علي على أن يتولّى الإمارة ما بقي بشروط ، فإن مات فالأمر للحسن ولبيعة المسلمين ، ولكنّه خالف الشروط ونصب يزيداً .

وقد أرسل يزيد إلي والى مكة والمدينة يأمره بأخذ البيعة من الحسين وبني هاشم والزبير وعبد الله بن عباس ، أو أن يضرب عنقهم عند المخالفة . فأين موضع الرضا؟! وأين يزيد وأمثاله من ابن عباس وابن الزبير والحسين بن علي؟! وهل أهل الشام كأهل مكة والمدينة؟!

ب ـ لا نعرف ماذا أراد ابن تيميّة على وجه الخصوص من أنَّه لم يكن مظهراً للفواحش ، الكعبة من الفاحشة؟! أم قتل أهل المدينة حرم الله وحرم رسوله من اللمم أم قتل الحسين أم ماذا!... ولعله يقصد الدفاع عنه ، وأنّه لم يستبيح الغناء و الخمر ، ففعل مثل الذين يسألون عن دم البراغيث ، وهم يخوضون في دماء الناس .

ج ـ هذه ريّا حاضنة يزيد تشهد عليه بقرع الثنايا ، وهو يقول شعر ابن الزبعرى ، وتقول : دنوت من رأس الحسين فنظرت إليه وبه ردخ من حنّاء ، والذي أذهب نفسي وهو قادر أن يغفر له لقد رأيته يقرع ثناياه


الصفحة 91

بقضيب في يده ، ويقول أبيات من شعر ابن الزبعرى(1) :


ليت أشياخي ببدر شهـدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من ساداتهـم وعـد لنـا ميل بدر فاعتدل

قال الشعبي وزاد فيها يزيد :


لعبت هاشم بالملك فلا خبر جـاء ولا وحي نزل
لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل

ولقد جابهته زينب بنت علي بجرأة محمّدية وقالت (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء ، أنّ بنا هواناً على الله او بك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان . أنسيت قول الله تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}؟! أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟! قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من رجالهن من ولي ولا من حماتهن حمي ، إلى أن قالت : ثمّ تقول غير متأثم ولا مستعظم :

____________

1- خطط المقريزي ، 2/289 .


الصفحة 92

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمّد(صلى الله عليه وآله) ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم ، فوالله يا يزيد ما فريت إلاّ جلدك ، ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتردن على رسول الله(صلى الله عليه وآله)بما تحملت من سفك دماء ذريته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحوا ذكرنا ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمرنا ، ولا ترحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فند وأيامك إلاّ عدد وجمعك إلاّ بدد؟ يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين(1) .

د ـ ومع هذا ـ والكلام لابن تيمية ـ فطائفة من أهل السنة يجيزون لعنه ; لأنّهم يعتقدون أنّه فعل من الظلم ما يجوز لعن فاعله ، وطائفة أُخرى ترى محبّته ; لأنه مسلم تولّى على عهد الصحابة ، وبايعه الصحابة ، وكان له محاسن ، ولم يصح عنه ما نقل عنه ، وكان مجتهداً فيما فعلة(2) .

ولنا أن نسأل هل هذه الطائفة التي لعنته من أهل السنة؟ وعلى أيّ

____________

1- أحمد بن أبي طاهر ، بلاغات النساء ، ص25 .

2- ابن تيمية ، الوصية الكبرى ، 1/38 .


الصفحة 93

شي لعنته؟ وأرى أنّه ولولا الخجل لقال ابن تيميّه : ولقد ظلموا الرجل ; لأنّه تولّى في عهد الصحابة ، ولم يقل : وقتل الصحابة ، وحاربهم ، واستباح حرم رسول الله(صلى الله عليه وآله) واستباح المدينة وأهلها ، وقد روى أنس عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال : (المدينة حرم من كذا إلى كذا ، لا يقطع شجرها ، ولا يحدث فيها حدث ، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)(1) ، وعن جعيد عن عائشة (هي بنت سعد) قالت : اسمعت سعداً قال : سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : (لا يكيد أهل المدينة أحد إلاّ انماع كما ينماع الملح في الماء)(2) ، ولعل الذين تحدّثوا عن توبة يزيد يمكن أن يسوقوا لك دليل توبته بقتل الصحابة يوم الحرة ، وحريق الكعبة وقتال أهل مكة . ولعل أحاديث فضل المدينة ومكة وأصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) نسخت في عهد ابن معاوية ، وفي عقول الذين يرون توليته ومحبته .

وفي النهاية نسوق مثالا ممن شايعوا علياً ، وقدّموه على غيره ، ممن ارتفعت أيديهم عن الدماء المحرّمة ، وألسنتهم عن السباب :

حينما قدم أبو الطفيل على معاوية بن أبي سفيان قال معاوية : أأنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟ قال : نعم .

____________

1- ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، 4/97 رقم 21867 .

2- المصدر السابق ، 4/112 .


الصفحة 94

قال معاوية : أكنت ممّن قتل عثمان أمير المؤمنين؟

قال : لا ، ولكنني ممّن شهده فلم ينصره . قال : ولِمَ؟

قال : لم ينصره المهاجرون والأنصار .

فقال معاوية : أما والله إنّ نصرته كان عليهم وعليك حقاً واجباً وفرضاً لازماً ، فإن ضيّعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله ، وأصاركم إلى ما رأيتم .

فقال أبو الطفيل : فما منعك يا أمير المؤمنين ، إذ تربّصت به ريب المنون أن تنصره ومعك أهل الشام؟! قال معاوية : أما ترى طلبي لدمه؟!

فضحك أبو الطفيل وقال : بلى ، ولكنّي وإياك ، كما قال عبيد بن الأبرص :


لا أعرفنك بعد الموت تندبني وفي حياتي مازوّدتني زادي

فدخل مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحكم فلمّا جلسوا نظر إليهم معاوية ، ثمّ قال : أتعرفون هذا الشيخ؟ قالوا : لا ، فقال معاوية : هذا خليل علي بن أبي طالب ، وفارس صفين ، وشاعر أهل العراق ، هذا أبو الطفيل .

فقال سعيد بن العاص : قد عرفناه يا أمير المؤمنين ، فما يمنعك منه؟ وشتمه القوم ، فزجرهم معاوية ، وقال : مهلاً ، فرب يوم ارتفع عن الأسباب قد ضقتم به ذرعاً ، ثمّ قال : أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل ؟ قال :


الصفحة 95

ما أنكرهم من سوء ، ولا أعرفهم بخير ، وأنشد شعراً :


فان تكن العداوة قد أكنّت فشرّ عداوة المرء السباب(1)

هذا وغيره الكثير ممّن ارتفعت أيديهم عن الدماء المحرّمة ، وألسنتهم عن السباب ، واتّهموهم جلساء الملوك وأعوانهم بالظلم .

وعلى أيّة حال فإن هذه السنّة السيئة ـ سنّة السب ـ كانت متّبعة عند الأمويين ، وهي السبب الرئيسي لثورات الشيعة على ملوك بني أمية الذين كانوا يسبّون آل البيت على المنابر ، وعقب الصلاة ، وكانت سنّة متّبعة في كل مصر من الأمصار ، وكان عمّالهم ينفّذونها بلا استثناء أمثال زياد وابنه ، وخالد القسري ، ويوسف بن عمر ، والحجاج بن يوسف الذي قال عنه عمر بن عبد العزيز : "لو جاءت كل أمّة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم"(2) . وقال الأوزاعي: سمعت القاسم بن مخيمر يقول: "كان الحجاج بن يوسف ينقض عرى الإسلام عروة عروة" .

وقد علمت ممّا تقدّم أنّ لعن علي والبراءة منه كانتا سنّة متّبعة في بني أمية إلى عهد عمر بن عبد العزيز ، ولكن المقريزي يقول : إنّها استمرّت إلى أبعد من ذلك حيث دخلت مصر على يد مروان عام 65 هـ

____________

1- ابن قتيبة ، الإمامة والسياسة ، 1/192 ، 193 .

2- ابن الأثير ، النهاية ، 3/223 ، 193 ، ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، 3/253 .


الصفحة 96

واستمرت إلى سنة 133 هـ(1) .

مقوّمات الهويّة عند الشيعة :

هذا موضوع تكلّم فيه القاصي والداني ، واختلط فيه الحابل بالنابل ، وأصبحت تلوكه الألسنة ، والجميع فيه لهم موقف واحد إلاّ من رحم ربي ، وهو أنّ الشيعة فارسية المنشأ والأفكار شكلاً وموضوعاً ، ولم يحاول عاقل الوقوف على هذا الأمر ودراسته ، وهو جزء لا يتجزّأ من التّهم الباطلة التي ليس لها نهاية ; وذلك لمحاصرة الشيعة ، وحشد كل الأسلحة في مواجهتهم ، وسوف نبحث هذا الموضوع ، ونسوق في هذا أدلة وبراهين ، ونسأل الله التوفيق .

إنّ التشيّع ـ كما أوردنا سالفاً ـ في اللغة معناه المناصرة والموالاة .

واصطلاحاً : هو اعتقاد بأفكار معيّنة يشكّل مجموعها مضمون التشيّع .

أقول : إذا أردنا تحديد هويّة أمّة فلابدّ من دراسة الجغرافيا السياسية (جيوبوليتيكة) لهذه الجماعة أو الأمّة ، ثمّ اللغة ، ثمّ الأصول الاعتقادية .

أوّلا : الجغرافيا السياسية :

إنّ مهد التشيّع الأوّل هو جزيرة العرب ، وهي التي شهدت حبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرأس هذا المذهب (علي بن أبي طالب) ، ومواقفه في حياة الرسول وبعده ، وكذلك معاركه في الجمل

____________

1- خطط المقريزي، 4/32.


الصفحة 97

وصفين والنهروان ، وثورات آل البيت .

إنّ الجيوبولتيكس هي دراسة البيئة الجغرافية من الناحية الطبيعية والعرقية والديمغرافية والاقتصادية ، وما يمكن أن ينتج عنها من صراعات(1) ، وشبه الجزيرة العربية المعروفة ببلاد العرب تقع في الجنوب الغربي لقارة آسيا بين البحر الأحمر غرباً ، وخليج عمان والخليج شرقاً ، وبحر العرب جنوباً، وهي عبارة عن هضبة صحراوية شديدة الجفاف عاش سكّانها بعيداً عن الصراعات الدولية المحيطة بهم ردحاً من الزمن وقامت بها حضارات ، مثل : حضارة سبأ في اليمن ، والتي انهارت بانهيار سدّ مأرب ، ونزوح أغلب سكّانها إلى وسط الجزيرة العربية ، وبعضهم استقر بيثرب (المدينة المنورة) ، تعرّضت الأطراف الشمالية والجنوبية للسيطرة الاستعمارية من الروم والفرس والأحباش ، وكانت مكة في منتصف الطريق بين اليمن جنوباً والشام شمالاً في أحد أودية جبل السراة ، وهو الوادي الذي وصفه الله في القرآن {غير ذي زرع} ولمّا كانت هذه المنطقة شديدة الجفاف عظيمة الخطر لمن يخترقها ، فقد قامت هذه البلاد بدور الوسيط التجاري بين الشمال والجنوب ، وكانت قريش هي ملتقى هذا الطريق التجاري ، ولها مكانتها لعدّة عوامل ، منها :

العامل الأوّل : التجارة والتي تعدّ أحد أهم العوامل التي جعلت لمكة

____________

1- صلاح الدين حافظ ، صراع القوى العظمى حول القرن الأفريقي ، ص4 .


الصفحة 98

قدراً كبيراً بين العرب وخاصة قريش .

العامل الثاني : وجود الكعبة التي تمثّل قدس أقداس العرب قبل الإسلام ، وهي الرمز الجامع لحياتهم الروحية قبل البعثة المحمّدية ، والتي كان العرب يقصدونها للحج مرّة واحدة من كل عام ، حيث تبدأ شعائر الحج من الكعبة ، ثمّ المزارات المقدسة حولها .

العامل الثالث : في هزيمة جيش أبرهة ، والذي حاول هدم الكعبة لصرف الناس عنها حتّى يحجّوا إلى معبده الذي بناه في صنعاء ، لكن الله أرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول .

ومن كل هذا فقد أصبحت مكة محل تعظيم وإجلال من الناحية الروحية ، وسوق للتجارة وتبادل السلع ، وهي أعزّ بلاد العرب ، وفيها أهل السقاية والرفادة والرياسة في الحرب والتجارة ، والعربي إنسان يعتزّ بفرديته واستقلاله ، لكنّه يلتزم بالتقاليد القبلية وأحكامها التي تمثّل له الوحدة السياسية والاجتماعية والعسكرية ، وكانت القبيلة تتكوّن من عدد من الأسر ، والزعامة في القبيلة سلطة طارئة تخضع لمقتضيات الدفاع والهجوم ; لذلك فإنّ لكل مرحلة زعيمها ، والذي يتم اختياره وفق مقتضيات الصراع ، وعلى هذا فإنّ اللواء يعقد للأكبر والأكثر دراية والأحكم .

ولمّا كانت حياة الصحراء الجافّة القاسية تفرض نوعاً من الصراع


الصفحة 99

المستمر على الماء والكلأ والزعامة، اتّفقوا على جعل أيام من السنة أيام حرام ، يحرم فيها القتال ، وتكون فرصة للمصالحة والزواج ، ويأمن فيها الناس على أنفسهم وأموالهم .

وأمّا مكة فكان الصراع فيها أكثر من الصراع على الكلأ والماء ، فإنّ الصراع الأشد كان على خدمة الحجاج من سقاية ورفادة ورياسة ، وبعد صراع طويل اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف ، والحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار ، وبعد فترة صارت لبني عبد مناف الرياسة ، وكان يقال لهم المجيرون ، وذلك لأنّهم أخذوا لقومهم (قريش) الأمان من ملوك الأقاليم ليدخلوا في التجارة إلى بلادهم(1) .

وبعد فترة استقرّت ألوية الشرف القيادة والسقاية والرفادة في بيت عبد مناف ، وبالتحديد في يد ولد هاشم بن عبد مناف دون بقية أخوته ، وبعد رحيل عبد شمس عن الدنيا ساورت ولده أمية أطماع في أخذ ما بيد عمّه من ألوية الشرف بالقوّة ، ووقف نوفل على الحياد ، وكادت أن تقع الحرب وتقطع صلات الرحم ، فتنافروا إلى كاهن خزاعة فقضى بنفي أمية بن عبد شمس عشر سنوات إلى منفى اختياري ، ولم يجد أمية بدّاً من الرضى بحكم ارتضاه ، فشدّ رحاله إلى الشام ليقضي بين أهلها السنوات العشرة التي كانت رصيداً لبيته الأموي من بعده ، فعلاقات

____________

1- الحافظ ابن كثير ، البداية والنهاية ، 2/236 .


الصفحة 100

المصاهرة أصبحت رصيداً لحفيده معاوية(1) .

وقامت الدولة الإسلامية بزعامة النبي(صلى الله عليه وآله) وجهود ابن عمّه الإمام علي(عليه السلام) ، الذي كان عضده منذ اللحظة الأولى من الدعوة ، وفضل لا ينكر لأهل الحرب والحلقة اليثاربية وخؤولتهم ولكن مع ذلك كلّه ظلّ الأمويون يترقّبون الفرص حتّى ما بعد اتّساع الدولة والفتوحات ، وعندما سنحت الفرصة اقتنصوها ، واستولوا على الحكم استيلاء صريحاً بعد أن كان ضمنياً باستبعاد علي(عليه السلام) بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) وساعتها تجلّت مشاعرهم اتجاه بني عمومتهم في المجازر الأموية التي راح ضحيّتها آل بيت النبوة ، وكل من أيّد البيت الهاشمي حتّى امتدّت يد الانتقام الحمقاء إلى الحسين سبط المصطفى(صلى الله عليه وآله) ، ووصل بهم الهوس إلى حرق بيت الله الحرام بالمجانيق ، وهي مشاعر حقد عبّر عنه لسان يزيد بن معاوية (الحاكم الأموي) بأبيات منسوبة لابن الزبعرى


ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسـل
قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلنـا ميـل بـدر فاعـتدل
لعبت هاشم بالملك فـلا خبر جـاء ولا وحــي نـزل
لست من خندف إن لـم انتقم من بني أحمد ما كان فعل(2)

وكان أفضل ما اتّفقت عليه قريش قبل البعثة هو حلف الفضول الذي

____________

1- محمّد بن جرير الطبري ، تاريخ الطبري ، 2/132 .

2- الحافظ ابن كثير ، البداية والنهاية ، 8/227، خطط المقريزي 2/289 .


الصفحة 101

كان بين بني هاشم وبني المطلب وأسد بن العزى وزهرة بن كلاب وتيم ابن مرة ، حيث تعاقدوا وتعاهدوا على نصرة المظلوم ، والقيام معه حتّى ترد عليه مظلمته ، وقد حضر هذا الحلف النبي(صلى الله عليه وآله) وقال : (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ، ما أحب أنّ لى به حمر النعم لو دعي به في الإسلام لأجبت) .

وهذا ما دعى إليه الحسين بن علي(عليه السلام) ، كان يقول للوليد بن عتبة : عند نزاع شبّ بينهما في مال كان للحسين قال : احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفى ، ثمّ لأقومن في مسجد رسول الله ، ثمّ لأدعون بحلف الفضول . قال : فقال عبد الله بن الزبير ـ وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ، ثمّ لأقومن معه حتّى ينصف من حقه أو نموت جميعاً .

قال : وبلغت ذلك المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري ، فقال مثل ذلك . وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي ، فقال مثل ذلك . فلمّا بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتّى رضى(1) .

وقد خرجا بنو عبد شمس وبنو نوفل من هذا الحلف .

ولقد ظن أبو سفيان بن حرب أنّ هذا الصراع الدائر على الشرف والملك يجب أن يكون له نصيب فيه ، بل يجب أن يكون لبني أمية الملك والشرف ، وهذا ما فسّر صراعه وقيادته لقريش في حروب

____________

1- السيرة النبوية لابن هشام ، 1/87 .


الصفحة 102

الرسول(صلى الله عليه وآله) وحتّى حينما رأى جيش النبي(صلى الله عليه وآله) يدخل مكة يقول للعباس عمّ النبي : إنّ ملك ابن أخيك أصبح اليوم عظيماً ، فيرد عليه العباس ويقول : إنّها النبوة .

نعم ، إنّها النبوة التي أسقطت الدماء والحروب والأخلاق الرذيلة ، ودعت الناس إلى الحق والعدل ، ولكن لمّا سمحت الفرصة لبني أمية ، ولعب الملك بمخيّلاتهم ، بذلوا في سبيله ما قاله خالد القسري : والله لو أعرف أنّ عبد الملك لا يرضى عنّي إلاّ بنقض هذا البيت حجراً حجراً (الكعبة) لنقضته في مرضاته .

لقد أحيى الأمويون صراعاً يدب بجذوره إلى بداية القرن الخامس الميلادي ، وقتلوا كل من وقف في طريقهم ، ولم يكفهم ، بل أشاعوا أنّ دعوة آل البيت ومن شايعهم دعوة فارسية أو يهودية أو غير إسلامية .

ثانيـاً : اللـغــة

إنّ اللغة تمثّل للإنسان أهم شيء ، فهي الهواء الذي يتنفّسه وهي الوسيلة لإدراك الواقع وتحديد المسافات والحدود بين تعاملاتنا ، بل هي التي تشكّل الحياة ذاتها ، وهي جسر يوصل بين النفس وبين الناس عن طريق ترجمة ما في خواطرنا ، وهي التي تصنع لنا حياة طبيعية .

وتمارس اللغة سلطتها على صاحبها في تفكيره وحدوده ، وكأنّ لها يد خفية تعمل في طبقات اللاوعي حتّى تحقق ما يرنوا إليه الإنسان .

ولقد برع علماء الشيعة في تأسيس وتطوير علم النحو والعروض


الصفحة 103

والبيان ، وقاموا بحلقة أُخرى من حفظ القرآن بعد تنقيطه وإعرابه .

ويعد علم النحو أوّل علم تأسس عند المسلمين عامّة وعند الشيعة خاصّة ، أخذه أبو الأسود الدؤلي عن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، وفي هذا يقول القفطي إنّ أوّل من وضع النحو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، قال أبو الأسود : دخلت على أمير المؤمنين علي فرأيته مطرقا مفكراً ، فقلت : فيم تفكّر يا أمير المؤمنين؟ فقال : سمعت ببلدكم لحناً ، فأردت أن أضع كتاباً في أصول اللغة العربية ، ثمّ أتيته بعد أيام ، فألقي إليّ صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، الكلام : اسم وفعل وحرف(1) .

ورأيت بمصر في زمن الطلب بأيدي الوراقين جزء فيه أبواب من النحو يجمعون على أنّها مقدّمة علي بن أبى طالب التي أخذها عنه أبو الأسود الدؤلي(2) . وكان أبو الأسود الدؤلي ، كما ذهب السيوطي أوّل من رسم للناس النحو أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(3) .

وقد أجمعت العلماء باللغة أنّ أوّل من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي ، وأنّه أخذ ذلك عن علي بن أبي طالب(4) .

____________

1- القفطي ، إنباه الرواة على أنباء النحاة ، 1/4 .

2- المرجع السابق ، 1/5 .

3- السيوطي ، المزهر ، 397 .

4- ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، 5/435 .


الصفحة 104

وعن ابن عبيدة معمر بن المثنى أنّه قال : أوّل من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي ، ثمّ ميمون الأقرن(1) .

وقال ابن سلام الجمحي : أوّل من أسس العربية ، وفتح بابها ، وانتهج سبيلها ، ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي ، وهو ظالم بن عمرو بن سفيان ابن جندل ، وكان من أهل البصرة ، وكان علوي الرأي(2) .

وأهل مصر قاطبة يرون بعد النقل والتصحيح أنّ أوّل من وضع النحو علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي ، وأخذ عن أبي الأسود الدؤلي نصر بن عاصم(3) .

وليس هناك دليل على أنّ هذا العلم دُوّن من قِبل أحد قبل أبي الأسود الدؤلي ، وأنّ أبا الأسود نقله عن علي بن أبى طالب ، وبذلك فإنّ تدوين هذا العلم كان من جهة الشيعة ، وتتلمذ على يد أبي الأسود الدؤلي خلق كثير ، ويروى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنّه قال : اختلف الناس إلى أبي الأسود الدؤلي يتعلّمون منه العربية فكان أبرع أصحابه عنبسة بن معدان المهري ، واختلف الناس إلى عنبسة فكان من أبرع أصحابه ميمون الأقرن(4) .

____________

1- المرجع السابق ، 1/436 .

2- القفطي ، إنباه الرواة ، 1/14 .

3- المرجع السابق ، 1/706 .

4- ابن الأنباري ، نزهة الألباء ص13 .


الصفحة 105

وقد حصر الرواة من أخذ عن أبي الأسود : بـ (عنبسة بن معدان ، وميمون الأقرن ، ويحيى بن يعمر ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، وعبد الرحمن بن هرمز ، ونصر بن عاصم ، وكل هؤلاء أخذوا عن أبي الأسود ، وتفاوتت مقاديرهم في العلم بهذا النوع من العربية)(1) .

ولم يقتصر عمل أبي الأسود على تأسيس علم النحو ومدرسة البصرة النحوية ، بل قام بتنقيط القرآن وإعرابه ، يقول السيوطي : وهو أوّل من نقّط المصحف . قال الجاحظ : أبو الأسود معدود في طبقات الناس ، وهو في كلها مقدّم ، ومأثور عنه في جميعها ، معدود في التابعين ، والفقهاء ، والمحدثين ، والشعراء ، والأشراف ، والفرسان ، والأمراء ، والنحاة ، والحاضري الجواب ، والشيعة(2) .

هذا ، ويعدّ تنقيط المصحف من الأعمال الخطيرة والمهمة لحفظ كتاب الله تعالى من العبث واللحن وإحاطته بسياج يمنع اللحن فيه(3) . من يريد أن يتحرر ويحافظ على ثقافته من العبث فعليه أن يقوّم اعوجاج لغته ، فاللغة مرآة للعقل ، وأداة للفكر ، ولقد بلغت عناية الشيعة باللغة حتّى أنّ البصرة كانت تعجّ بالشيوخ والطلاّب للعربية ، وبلغت أوج نهضتها في ما بين سنة 100 هـ و160هـ حينما وضع الخليل بن أحمد علم العروض ،

____________

1- القفطي ، إنباه الرواة ، 2/382 .

2- السيوطي ، بغية الوعاة ، 2/22 .

3- شوقي ضيف ، المدارس النحوية ، ص17 .


الصفحة 106

والمعجم في اللغة ، وأصول النحو .

وفي الكوفة كان هناك رائد في هذا العلم هو أبو جعفر الرواسي الذي أسس مدرستها جنباً إلى جنب مع معاذ الهراء . وكان أشهر تلاميذها وأنجبهم الكسائي حيث تلقّى علوم النحو والعربية عن الرواسي ، ومعاذ الهراء .

وذكره السيوطي أبو جعفر ، فقال : هو أستاذ الكسائي ، وهو أوّل من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو وكان رجلا صالحاً ، وقيل : إنّ كل ما في كتاب سيبويه "وقال الكوفي كذا" إنّما عنى به الرواسي هذا ، وكتابه يقال له : "الفيصل" ، وكان له عمّ يقال له : معاذ بن مسلم الهراء ، وهو نحوي مشهور ، وهو أوّل من وضع علم التصريف(1) ، وكان معاذ الهراء صديقاً للكميت . يقول ابن خلكان : أمّا أبو مسلم معاذ بن مسلم الهراء النحوي الكوفي ، قرأ عليه الكسائي ، وروى عنه ، وصنّف في النحو كثيراً ، وكان يتشيّع(2) .

وقد كان الفراء خاتماً لمدرسة الكسائي ، وبه ختم الجيل الأوّل من النحاة ، والفراء هو : أبو زكريا يحيى بن زياد الديلمي ، وكان أعلم أهل الكوفة باللغة ، بل هو بحر فيها ، وسمّي أمير المؤمنين في النحو ، وإلى جانب هذا ، فهو فقيه ، وخبير بالطب ، وحاذق في أيام العرب ،

____________

1- السيوطي ، المزهر ، 4/305 .

2- ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، 4/205 .


الصفحة 107

وأشعارهم ، وأخبارهم ، حتّى وصفه ثمامة بن الأشرس ، فقال : (فرأيت أبهة أديب فجلست إليه فناقشته عن اللغة فوجدته بحراً ، وناقشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده ، وعن الفقه فوجدته رجلاً فقيهاً عارفاً باختلاف القوم ، وبالنجوم ماهراً ، وبالطب خبيراً ، وبأيام العرب وأشعارها حاذقاً ، فقلت له : من تكون؟ وما أظنّك إلاّ الفراء(1) .

وهكذا أنشأت مدرسة الكوفة على أيدي الشيعة من الرواسي فالكسائي والفراء ، ثمّ استقرّت على يد الفراء الذي قام بجمع اللغة وضبطها .

وكانت هناك مدرستين شهيرتين ، في النحو هما : مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة ، وكان أبو علي الفارسي أوّل من خلط بين آراء المدرستين ، فانتخب منهما مدرسة ثالثة أكثر وضوحاً وفق ما يراه ، وبه يكون إمام مدرسة بغداد ، وقد توفى سنة 377هـ ، وكان معاصراً للمتنبي ، ومصاحباً لسيف الدولة الحمداني ، وكان إمام زمانه في النحو . يقول الحموي : "صنّف كتباً حسنة لم يسبق إلى مثلها ، واشتهر ذكره في الآفاق ، وبرع له غلمان حذاق ، مثل : عثمان بن جني ، وعلي بن عيسى الربعي ، وتقدّم عند عضد الدولة ، فكان يقول : أنا غلام أبي علي النحوي في النحو"(2) .

____________

1- ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، 5/225 .

2- ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، 7/234 .


الصفحة 108

وقد صحب ابن جني كلاً من الشريفين الرضي والمرتضى ، وكان من مشاهير علماء الشيعة البغداديين ومنهم أيضاً يعقوب بن إسحاق السكيت الذي بلغت مصنّفاته في النحو والمعاني والشعر والتفسير ودواوين العرب ، وزاد فيها على كل من تقدّمه ، وكان الخليفة المتوكّل قد اتّخذه مؤدّباً ، فبينما هو مع المتوكّل يوماً جاء المعتز والمؤيد ، فقال المتوكل : يا يعقوب أيّهما أحبّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فقال له : إنّ قنبر خادم علي أحبّ إليّ منك ومن ابنيك ، فأمر غلمانه الأتراك أن يسلّوا لسانه ، ويدوسوا بطنه ، فمات من ساعتها(1) .

ومجمل القول : إنّ السبق في علم النحو والعروض والصرف والبيان كان للشيعة ، كما يرجع إليهم الفضل في تأسيس مدارس النحو ، وبهذا العمل أثروا الثقافة الإسلامية ، وجعلوا من العربية لغة عظيمة يقبل عليها القاصي والداني ، وزاوجوا بين اللغة والدين ، فإنّهم ينظرون إلى العربية على أنّها لغة القرآن الذي أنزل الله بها كتابه ، وهي لغة الرسول(صلى الله عليه وآله) وأنّ دقائق التشريع لا تعرف إلاّ من خلالها ، ولذلك برعوا في فنون العربية ، وتشددوا في ذلك ، ولهذا نجد أنّ فقهاء الشيعة يذهبون إلى عدم صحة جواز القراءة في الصلاة والأذان بغير العربية ، في حين يذهب كل من

____________

1- الحموي ، معجم الأدباء ، 2/349 ، السيوطي ، بغية الوعاة ، 2/349 ، ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، 5/438 ـ 443 ، ابن أنجب تاريخ الخلفاء ، ص28 .


الصفحة 109

أبي حنيفة بجواز ذلك بصورة مطلقة ، والمالكية والشافعية بجواز ذلك إذا كان المؤذّن أعجمياً ، ويريد أن يؤذّن لنفسه أو لأمثاله من الأعاجم(1) .

وفي عقد النكاح ذهبت الحنفية والمالكية وغيرهم بجواز إيقاع العقود بغير العربية مع القدرة عليها ، ويكون العقد صحيحاً ، والشيعة لا يجيزون ذلك(2) . إنّ روّاد الشيعة الأوائل كانوا هم أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله)ومن أهل الجزيرة والحجاز وتهامة ونجد واليمن وغيرها ، وأنّ هؤلاء كانوا عرب أقحاح ، بل كانوا من فصحاء العرب وشعرائهم وأساطين البيان ، والذين تأثّروا بإمامهم الأوّل(صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب(عليه السلام) .

أمّا مسألة عروبة الخليفة أو الإمام فذهب كثير من الفقهاء إلى ضرورة عروبة الخليفة أو الإمام ومنهم الشيعة ; لقوله(صلى الله عليه وآله) "الأئمة من قريش" والأحناف وغيرهم على عدم اشتراط عروبة الخليفة ، وكذلك المعتزلة .

واشتراط عروبة الخليفة ليست دعوة عنصرية أو تعصّب عرقي ، ولكن بهذا الشرط احتاط العلماء لضمان حاكم يعي دقائق الشريعة التي ترتبط باللغة التى نزل بها القرآن ، دون انتقاص أو قدح للآخرين .

ثالثاً : الأصول الاعتقادية عند الشيعة

إنّ عقيدة الشيعة هي عقيدة كل مسلم ، ومصادرها أربع هي : الكتاب والسنة والإجماع والعقل . وفي ذلك يقول الشيخ محمّد الحسين آل

____________

1- الفقه على المذاهب الأربعة 1/314 .

2- محمّد أبو زهرة ، الأحوال الشخصية ، ص27 .


الصفحة 110

كاشف الغطاء : "المسلمون متّفقون على أنّ أدلة الأحكام الشرعية منحصرة في الكتاب والسنة ثمّ العقل والإجماع ، ولا فرق في هذا بين الإمامية وغيرهم" .

أمّا واعتقادهم في التوحيد فيقول فيه ابن بابويه القمي : إنّ الله تعالى واحد ليس كمثله شي ، قديم لم يزل ولا يزال سميعاً بصيراً حكيماً حيّاً قيّوماً عزيزاً قدّوساً قادراً ، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض ، خارج عن الحدّين حدّ الإبطال وحدّ التشبيه .

وأمّا اعتقادهم في القرآن فيقول فيه : أنّه كلام الله ووحيه وتنزيله وكتابه ، وأنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب . هذا ما كتبه ابن بابويه الذي عاش في القرن الرابع ، وتوفى سنة 381هـ (1) .

وقد جاء في كلام السيد محسن الأمين العاملي : وعقيدة الشيعة أنّ كل من شك في وجود الباري تعالى أو وحدانيّته ، أو نبوة النبي(صلى الله عليه وآله) أو جعل له شريكاً في النبوة فهو خارج عن دين الإسلام ، وكل من غالى في أحد من الناس من أهل البيت أو غيرهم وأخرجه عن درجة العبودية لله تعالى ، أو أثبت له نبوة أو مشاركة فيها ، أو شيئاً من صفات

____________

1- عرفان عبد الحميد ، دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية ص18 .


الصفحة 111

الألوهية فهو خارج عن ربقة الإسلام ، والشيعة يبرؤن من جميع الغلاة والمفوّضة وأمثالهم(1) .

وقال الشيخ محمّد رضا المظفر : (ونعتقد أنّ النبوة وظيفة إلهيّة وسفارة ربّانيّة يجعلها الله لمن يختاره من عباده الصالحين ، فيرسلهم إلى سائر الناس لإرشادهم . ونعتقد أنّ الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلاّ بالاعتقاد بها ، ويجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد و النبوة ، وهي كالنبوة لطف من الله تعالى(2) .

وأهم الأصول الاعتقادية عند الشيعة الإمامية هي : التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد .

والاسلام يعتمد على ثلاثة أركان : التوحيد والنبوة والمعاد ، فلو أنكر الرجل واحداً منها فليس بمسلم ، وإذا دان بتوحيد الله ونبوة سيّد الأنبياء محمّد(صلى الله عليه وآله) واعتقد بيوم الآخرة فهو مسلم حقاً له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، ودمه وماله وعرضه حرام . ويطلق أيضاً على معنى أخص يعتمد على تلك الأركان الثلاثة وركن رابع وهو العمل بالدعائم التي بني الإسلام عليها ، وهي خمس : الصلاة ، والصوم والزكاة والحج والجهاد. وبالنظر إلى هذا قالوا : الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل

____________

1- الأمين ، أعيان الشيعة ، 1/91 .

2- المظفر ، عقائد الإمامية ، ص43 .


الصفحة 112

بالأركان(1) .

وكل مورد في القرآن اقتصر على ذكر الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر يراد به الإسلام والإيمان بالمعنى الأوّل . وكل مورد أضيف إليه ذكر العمل الصالح يراد به المعنى الثاني ، والأصل في هذا التقسيم قوله تعالى : {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(2) ، وزاده تعالى إيضاحاً بقوله بعدها {اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(3) وبذلك فإنّ الإيمان قول ويقين وعمل ، فهذه الأركان الأربعة هي أصول الإسلام والإيمان بالمعنى الأخص عند الجمهور ، ولكن الشيعة زادوا ركناً خامساً وهو الاعتقاد بالإمامة ، وأنّها منصب إلهي كالنبوة ، فكما أنّ الله تعالى يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة ، ويؤيّده بالمعجزة ، فكذلك يختار للإمامة من يشاء ، ويأمر نبيّه بالنص عليه ، وأن ينصبه إماماً للناس من بعده للقيام بالوظائف التي كان النبي يقوم بها سوى أنّ الإمام لا يوحى إليه كالنبي ، والإمامة متسلسلة في اثني عشر كل سابق ينصّ على اللاحق ، ويشترطون أن يكون معصوماً كالنبي عن الخطأ وإلاّ لزالت

____________

1- ابو حنيفة النعمان، دعائم الإسلام، 1/12، 13.

2- الحجرات : 14 .

3- الحجرات : 15 .


الصفحة 113

الثقة به(1) .

وعن أبي جعفر محمّد بن علي صلوات الله عليه أنّه قال : الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان ، ثمّ أدار وسط راحته دائرة وقال : هذه دائرة الإيمان . ثمّ أدار حولها دائرة أُخرى وقال : هذه دائرة الإسلام أدارهما على مثل هذه الصورة فمثل الإسلام بالدائرة الخارجة والإيمان بالدائرة الداخلة ; لأنّه معرفة القلب كما تقدّم القول فيه ، وبأنّه إيمان يشرك الإسلام ولا يشركه الإسلام ، يكون الرجل مسلماً غير مؤمن ، ولا يكون مؤمناً إلاّ وهو مسلم(2) .

فهذه مجمل عقيدة الشيعة في التوحيد والنبوة والإسلام والإيمان والولاية .

وإذا كان الإسلام هو الشهادة بالتوحيد والنبوة والمعاد فمن أنكر واحدة منها فليس بمسلم ، فإذاً قضايا مثل : البداء والعصمة والمهدي وغيرها قضايا لا تدخل ضمن معنى الإسلام ، ولكنها قضايا مرتبطة بالمذهب فمن اعتقد بها فهو على مذهبهم ، ومن لم يعتقد بها فهو ليس على مذهبهم ، فويل للذين يكفّرون إخوانهم ، ويوغرون الصدور عليهم ، وينفخون في كل نار حتّى تلتهب .

فهذه هي مصادر التشريع عند الشيعة كما هي عند غيرهم من فرق

____________

1- محمّد حسين آل كاشف الغطاء ، ص101 ـ 102 بتصرّف .

2- أبو حنيفة النعمان ، دعائم الإسلام ، 1/12 .


الصفحة 114

ومذاهب أهل الإسلام وهذه هي عقائدهم ، فما هو معنى وصف الشيعة بالخارجين عن الدين أو بالفارسية؟!

وتجد البعض يقول : بأنّ المضمون الفكري عندهم فارسي! وعجيب هذا ، فكيف يستساغ فارسية الفروع مع إسلامية الأصول؟! وممّا قدمنا يتّضح الهوية العريقة للتشيع التي هي عربية المهد واللغة ، ولأجل هذا ذهب الباحثون الموضوعيون أنّ التشيع عربي بكل خواصه ، وأنّ هذه الأقوال التي ترمى الشيعة بالفارسية نشأت متأخرة لأسباب ، منها : تحوّل الفرس من المذهب السني إلى المذهب الشيعي منذ القرن العاشر ، ومنها سياسية : ترتبط بالنزاع الذي دار بين الصفويين والعثمانيين ، فلقد حورب المذهب الجعفري الاثني عشري في عهد العثمانيين والأتراك مئات السنين محاربة عنيفة لئيمة متواصلة ، وتفنن المفرّقون بالافتراءات عليهم في ذلك العهد الظالم اللئيم ، فلم يتركوا وسيلة من وسائل الإيذاء إلاّ اقترفوها(1) ، كما أنّ السلطان سليم الأوّل استصدر من الهيئة الإسلامية فتوى تجيز إعدام الذين اعتنقوا المذهب الشيعي من رعايا الدولة ، واعتبارهم مرتدّين عن الإسلام ، وقررت الهيئة أيضاً شرعية الحرب التي يخوضها الجيش العثماني ضد الشاه إسماعيل الصفوي في بلاد فارس عام 1514م تأسيساً على أنّ الدولة الصفوية تتخذ المذهب الشيعي مذهباً رسمياً لها ، وتحاول نشره خارج حدود الدولة

____________

1- محمّد جواد مغنية ، الإمام جعفر الصادق ، ص113 .


الصفحة 115

الصفوية(1) .

وهناك مجموعة كبيرة من الباحثين لم يسعهم من ناحية إنكار عروبة التشيّع في الوقت الذي أرادوا فيه شتم الشيعة عن طريق شتم الفرس منهم :

1 ـ علي حسين الخربوطلي قال : وهناك فريق من العرب تشيّع لعلي بعد أن آلت الخلافة إلى أبي بكر ، ويرى جولد تسهير أنّ الحركة الشيعية نشأت في أرض عربية بحتة ، فقد مال لاعتناق التشيّع قبائل عربية تشبّعت بالآراء الثيوقراطية ، وبشرعية حق علي بالخلافة ، فأقبلت على تعاليمه في لهفة وحماسة أهل العراق من الفرس ، ورأوا أنّ الإمامة ليست من المصالح التي تفوّض إلى نظر الأمّة ، ويُعيّن القائم بها تعييناً باختيار جماعة المسلمين وانتخابهم ، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ، فيجب تعيين الإمام ، ويكون معصوماً ، وأنّ علياً هو الذي عيّنه الرسول(2) .

2 ـ المستشرق فلهوزن قال : أما أنّ آراء الشيعة تلائم الإيرانيين فهذا ممّا لاشك فيه ، وأمّا كون هذه الآراء انبعثت من الإيرانيين فليست تلك الملائمة دليلا عليه ، بل الروايات التاريخية تقول عكس ذلك إذ تقول إنّ

____________

1- فتحية النبراوي ومحمّد نصر مهنا ، تطوّر الفكر السياسي في الإسلام ، 2/402 .

2- حسن الخربوطلي ، الدولة العربية ، ص127 .