التشيّع الواضح الصريح كان قائماً أوّلا في الدوائر العربية ثمّ انتقل إلى الموالي(1) .
3 ـ المستشرق آدم متز قال : إنّ مذهب الشيعة لا كما يعتقد البعض ردّ فعل من جانب الروح الإيرانية تخالف الإسلام ، فقد كانت جزيرة العرب شيعية كلها عدى المدن الكبرى ، كمكة وتهامة وصنعاء ، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن ، مثل : عمان وهجر وصعدة وفي بلاد خوزستان التي تلي العراق فكان نصف أهلها على مذهب الشيعة ، أمّا إيران فكانت سنية عدا قم ، وكان أهل أصفهان يغالون في معاوية حتّى اعتقد بعضهم أنّه نبي مرسل(2) .
4 ـ جولد تسهير قال : إنّ من الخطأ القول إنّ التشيّع في منشئة ومراحل نموّه يمثّل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته وخضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية ، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية ، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة(3) .
5 ـ نولدكه قال : ظلّت بلاد فارس في أجزاء كبيرة منها تدين بالمذهب السني ، واستمر ذلك حتّى سنة1500م عندما أعلن التشيّع
____________
1- فلهوزن ، الشيعة والخوارج ، ص241 . 2- آدم متز ، الحضارة الإسلامية ، 1/101 . 3- آدم متز ، العقيدة والشريعة ، ص202 .
مذهباً رسمياً فيها بقيام الدولة الصفوية(1) .
6 ـ المستشرق كيب قال : إنّ الفكرة الخاطئة والتي لازالت منتشرة التي تقول بأنّ بلاد فارس كانت الموطن الأصلي للتشيّع لا أصل لها ، بل الروايات التاريخية تثبت بأنّ الزرادشتيين كانوا أميل عموماً لاعتناق المذهب السني(2) .
هذا ولدينا شواهد على أنّ التشيع لم ينتشر في بلاد فارس إلاّ بعد زوال دولة بني عباس .
هذا ، ولم نعرف عرقاً فارسياً نهض في نصرة آل البيت العلوي زمن العباسيين ، بل على العكس سمعنا أنّ يحيى البرمكي تعهّد للرشيد بقتل الإمام الكاظم(عليه السلام) ، ووفى بعهده له ، وسمعنا أنّ الحسن بن سهل يوشي بالإمام الرضا(عليه السلام) في عهد المأمون ، ويسعى به عند المأمون ; وذلك أنّ الذين أحبّوا القومية الفارسية ، وسلّموا زمام الأمر في الدولة لرجال فارس العباسيون حتّى كانت دولتهم شبه فارسية ، ثمّ صارت أيام المعتصم شبه تركية .
ولقد بلغ العباسيون غايتهم في التنكيل بأئمة البيت العلوي ، ونقضوا العهود ، ونكثوا الأيمان ، وأغدقوا العطاء لمن انتقد زعماء وأئمة البيت العلوي في مجالسهم ، ولقد أرسل موسى بن عيسى العباسي رجلاً إلى
____________
1- عرفان عبد الحميد ، دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية ، ص326 . 2- المرجع السابق ص26 .
عسكر الحسين صاحب فخ حتّى يراه ويخبره عنه ، فمضى الرجل وتعرّف على عسكر الحسين ، فرجع ، قال لموسى بن عيسى : ما أظن القوم إلاّ منصورين .
فقال : وكيف ذلك يا بن الفاعلة؟
قال الرجل : لأنّني ما رأيت فيهم إلاّ مصلياً أو مبتهلا ً أو ناظراً متفكّراً ، أو معدّاً للسلاح .
فضرب موسى يداً على يد وبكى ، ثمّ قال : هم والله أكرم خلق الله ، وأحق بما في أيدينا منّا ، ولكن الملك عقيم ، لو أنّ صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف(1) .
ولقد كانت خراسان من البلاد التي تتشيّع للعباسيين وليس للعلويين ، هذا ما جاء في كلام الصادق(عليه السلام) عن أهل خرسان يوم أن جاءه عبد الله المحض وقال له : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني فيه إلى الخلافة قد وصل على يد بعض شيعتنا من أهل خراسان . فقال الصادق : ومتى صار أهل خراسان من شيعتك وهم يدعون إلى غيرك(2) .
ولقد قال محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس في كلمته التي ألقاها لرجال الدعوة حينما أراد بثّهم في البلدان : وأمّا الكوفة وسوادها فهناك
____________
1- تاريخ أبي الفداء ، 2/11 . 2- ابن الطقطقي ، الفخري في الآداب السلطانية ، ص137 .
شيعة علي بن أبي طالب وولده وأمّا البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف ، وأمّا الجزيرة فحرورية مارقة ، وأمّا أهل مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر ، ولكن عليكم بخراسان فإنّ هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر ، وهناك صدور سليمة ، وقلوب لم تتقسمها الأهواء ، ولم تتوزعها النحل ، ولم تشغلها ديانة(1) .
بل إنّ قم مركز الإشعاع الشيعي في المنطقة والعالم الآن لم تمصر إلاّ في سنة 83هـ ، ولم يدخلها التشيّع إلاّ في تلك السنة على يد سعد بن مالك بن عامر الأشعري كما حكى الحموي(2) .
وقد روى البيهقي أنّ المأمون العباسي همّ بأن يكتب كتاباً في الطعن على معاوية ، فقال له يحيى بن أكثم : يا أمير المؤمنين ، العامّة لا تتحمّل هذا ولاسيّما أهل خراسان ، ولاتأمن أن يكون نفرة(3) . وبذلك ندرك أنّ خراسان كانت تتولّى معاوية حتّى أيام المأمون ، وأنّ سجستان وأصفهان وشاش وطوس كانت كلها ناصبة العداء لآل البيت العلوي أيام الخوارزمي وابن سبكتكين المتوفى سنة 421 هجرية .
وبلغ الجور والتعسّف الذي لحق بآل البيت العلوي حتّى قال أحد الشعراء :
____________
1- ابن قتيبة ، عيون الأخبار : 1/204 . 2- الحموي ، معجم البلدان ، 7/160 . 3- البيهقي ، المحاسن والمساوىء ، 1/108 .
يا ليت جور بني مروان دام لنا | وليت عدل بني العباس في النار |
وقال آخر :
تالله إن كانت أمية قد أتت | قتل ابن بنت نبيها مظلـومـا |
فلقد أتته بنـو أبيه بمثـله | هذا لعمرك قبره مهــدوما |
أسفوا على أن لا يكونوا | شاركوا في قتله فتتبعوه رميما |
هل التشيّع فارسي ؟
ويبقى بعد ذلك فرض وهو أنّ هناك مفاهيم حضارية انتقلت بمعناها الحضاري عن طريق من اعتنق التشيّع من الفرس ولم يستوعب التشيّع فركّبه على ما عنده وتناقلته الأجيال ، وبقيت تتداول وتنمو حتّى أخفت الوجه الحقيقي للتشيّع ، وهذا ما ساقه البعض وحاول إثباته لكنّه فشل لعدم جدّية هذا الفرض .
ونقول لمّا كانت الجزيرة العربية فقيرة إلى الأفكار الدينية والمضامين الثقافية لعب اليهود وأهل الكتاب دوراً هاماً في ملىء هذا الفراغ المفترض وخصوصاً في الفكر السنى الذي حاول أن يتخلّص من الداء وينسبه للشيعة عن طريق ادّعاءاتهم وكتبهم ورجالهم والسلطة الحاكمة التي كانت تحمل العداء الشديد لآل البيت العلوي .
ويقول ابن خلدون في مقدّمته عن كتب التفسير : إنّها تشتمل على الغث والثمين والمقبول والمردود ، والسبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا
أهل كتاب ولا علم ، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأميّة ، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود ، فإنّما يسألون أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدون منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى ، مثل : كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم ، وتساهل المفسّرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو ما كانوا يفترون(1) .
ويقول أحمد أمين : "اتصل الصحابة بوهب بن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام ، واتصل التابعون بابن جريج ، وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل وشروحها وحواشيها"(2) .
ومن أجل ذلك كله أخذ أولئك الأحبار يبثّون في الدين الإسلامي أكاذيب وترهات ، وازداد الطين بلّة بعد أن سُنّ القص في المساجد ، فكان القاص يأتي بما هو نادر وشاذ ، وبذلك تولّد الشره إلى كل حكاية يجذب بها المستمتع ، وكان البعض يزعم أنّها في كتب الأمم السابقة أو من مكنون علمهم ، وأخذوا يدّعون بأنّهم سمعوها ورووها عن النبي(صلى الله عليه وآله) ، وهي في الحقيقة أحاديث مفتراة ، وبذلك امتلأت كتب
____________
1- ابن خلدون ، المقدّمة ، 439 ـ 440 . 2- أحمد أمين ، ضحى الإسلام ، ص139 .
التفاسير والحديث والتاريخ بتلك الحكايات ، وبوسع أيّ إنسان أن يقف على ما نقول .
ففي التاريخ مثلاً حكايات عن النسناس الذي هو حيوان على هيئة الإنسان إلاّ أنّ له يد واحدة ، ورجل واحدة ، وكذلك جميع ما فيه من الأعضاء . وقال العلماء : إنّه يحلّ أكله . وقال عنهم الطبري : إنّهم بنو أميم ابن لاوذ بن سام بن نوح أصابتهم من الله عزّ وجل نقمة من معصية أصابوها فهلكوا وبقيت منهم بقية ، وهم الذين يقال لهم : النسناس(1) . وانظر الطبري ومعجم البلدان ومروج الذهب ، واقرأ أخبار النسناس الذي يحكى أنّ الناس والحكّام والخلفاء قاموا بصيده وشيّه وأكله . وهناك كثير وكثير من هذا القبيل نسأل الله العافية .
وهذه الأفكار أو الحكايات التي أصبحت في كتب الإسلام نتيجة الذين أسلموا من أهل الكتاب ولم يتخلّصوا من تراثهم العقلي والفكري ، ومع هذا لا يعدّ ذلك طعناً في إيمانهم مادامت الأصول التي يتحقق معها الإسلام محفوظة ، وهذه الأصول التي تحقق إسلام المرء هي كما قال الرسول(صلى الله عليه وآله) عنها فيما يرويه أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم الذي له ذمّة الله ورسوله ، فلا تخفروا الله في ذمّته"(2) .
____________
1- محمّد بن جرير الطبري ، تاريخ الطبري ، 1/214 . 2- البخاري ، وصحيح البخاري ، 8/50 .
إنّ هذه الدعوة المقلوبة ـ وهي فارسية التشيّع أو يهوديّته ـ دعوى ساقطة ، وأنّنا نحتاج إلى جهد جهيد لمراجعة أنفسنا وأسفارنا التي تحت أيدينا ، وتدبّر معي قول الإمام الصادق(عليه السلام) : "ليس من العصبية أن تحبّ قومك ، ولكن من العصبية أن تجعل شرار قومك خيراً من خيار غيرهم"(1) . وقارن هذا بقول ابن تيمية وهو يقول : "وأخص من هؤلاء من يردّ البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها ، وهي بدعة أهل السنة"(2) . وليس الأمر كما يحاول البعض أن يلبسه ويزيّفه من أنّ أغلب الشيعة فرس ، وقد طغت أفكار الفرس على الشيعة حتّى صاغتها ، وهذه فرية كبيرة ، فإنّ عقيدة الشيعة ثابتة وهي : التوحيد والنبوة والمعاد ، فمن أنكر واحدة منها فليس بمسلم .
ويقولون : إنّ الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان . وللإمامية ركن آخر وهو الاعتقاد بالإمامة فمن لم يعتقد بها فليس بمخرجه عن الملّة أو من دائرة الإسلام بل ليس بشيعي .
كما أنّ الفرس ليسوا هم الشيعة وحدهم ، فالتشيّع منتشر عند العرب وغيرهم في المملكة العربية السعودية واليمن والبحرين والعراق وسوريا ولبنان ومصر وتونس والمغرب وأندونيسيا وبلاد الأفغان وتركيا
____________
1- محمّد أبو زهرة ، الإمام الصادق ، ص151 . 2- ابن تيمية ، الفرقان بين الحق والباطل ، 1/73 .
وأفريقيا وفي أوربا وأمريكا وغيرها .
إنّ بذرة التشيّع نشأت في بلاد العرب وليس في أيّ مكان آخر ، وكان الذين ناصروا علياً وشايعوه هم بذرة التشيّع الأولى ، ففي رياض الصالحين للنووي عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني ، وهو من أهل بيعة الرضوان رضي الله عنه : أنّ أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ، فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! فأتى النبي(صلى الله عليه وآله) فأخبره فقال : يا أبا بكر لعلّك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك . فأتاهم فقال : يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا : لا ، يغفر الله لك يا أخي(1) .
وهؤلاء وأمثالهم هم الطبقة الأولى للتشيّع ، وهم بطون العرب في الأعم الأغلب ليس فيهم غير سلمان الذي قال فيه(صلى الله عليه وآله) : "سلمان منّا أهل البيت" ، وهذا هو حال هذه الطبقة وقدرهم ، ولولا العمى والهوى ما قال بذلك قائل .
أقوال أُخرى في فارسية التشيّع :
إنّ نسبة التشيّع للفرس نشأت في أوقات متأخرة ولظروف سياسية ، وهي أنّ الأمويين في سبيل بناء ملكهم قهروا كل من وقف في طريقهم ، فأصبحت العناصر الساخطة على الأمويين ممثلة في بني هاشم من
____________
1- النووي ، رياض الصادقين ، رقم 263 ص107 ، رواه مسلم .
العلويين والعباسيين وجمهور الصحابة والمسلمين الذين ظلّوا يعتبرون الأمويين غاصبين للسلطة ، وكان ممن لحق بهم الموالي الذين اضطهدوا ، وعلى هذا قام كل هؤلاء بأحقيّة آل البيت بالإمامة والخلافة ، وآمل كل العناصر من الموالي وغيرهم أن يعاملهم آل البيت كغيرهم من العرب باعتبارهم جزء من الأمّة الإسلامية .
وهذا الذي دفع الموالي من الفرس إلى الدخول في نصرة آل البيت والانضمام إليهم ، وليس كما يزعم الكثير من أنّ الشيعة صناعة فارسية لهدم الإسلام ، كما أوضحنا من قبل سخف هذا الزعم .
وانّ هناك ثلاث نقاط أُخرى أثارها بعض الباحثين في سبب دخول الفرس التشيّع ، نوردها ونناقشها في إطار البحث العلمي ، وهي كالآتي إجمالاً :
1 ـ تزوّج الحسين بن علي من ابنة يزدجرد.
2 ـ الثيوقراطية وتقديس الحاكم وعصمتهم وأنّهم يحكمون بالحق الإلهي .
3 ـ هدم الإسلام من خلال التستّر بالتشيّع .
الأمر الأوّل : تزوّج الحسين بن علي من ابنة يزدجرد .
وهي إحدى العوامل التي أدّت إلى انتشار التشيّع لأهل البيت بدعوى أنّ هذه الزيجة سوف تجعل للفرس الحق في المطالبة بالملك ،
وبذلك يعود لهم ملكهم مرّة أُخرى .
ونقول : إنّ من القواعد المسلّم بها أنّ الحكم بشي يشمل النظائر المتماثلة ، وبعبارة أُخرى : أنّ حكم الأمثال فيما يجوز أو لا يجوز واحد ، وبناءً عليه نقول : إنّ سبي فارس الذي جاء إلى المدينة في زمن خلافة عمر بن الخطاب كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد فباعوا السبايا وأمر الخلفية ببيع بنات يزدجرد فقال الإمام علي(عليه السلام) : إنّ بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهنّ ، فقال الخليفة : كيف الطريق إلى العمل معهنّ فقال : يقوّمن ومهما بلغ ثمنهنّ قام به من يختارهن فقوّمن فأخذهن عليّ فدفع واحدة إلى محمّد بن أبي بكر ، وأخرى لولده الحسين ، والثالثة إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب .
وهنا نطرح سؤالا إذا كانت العلّة في دخول الفرس إلى التشيّع هي تلك المصاهرة للحسين بن علي ، فلماذا لاتطرّد هذه العلة وهي المصاهرة ، فينادوا بالملك أو الإمامة لمحمّد بن أبي بكر أو لعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كلاً من يزيد بن الوليد بن عبد الملك وكذلك مروان بن محمّد آخر خلفاء بن أميّة أُمهما من الفرس ، فالأوّل أمّه بنت فيروز بن يزدجرد ، والثاني أمّه أم ولد من كرد إيران . فلماذا لم تتشابه النظائر ، ويناصر الفرس دولة بني أمية؟! ولماذا لم ينادوا بالخلافة أو بالإمامة في ولد أبي بكر صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله)
الأمر الثاني : الثيوقراطية :
التقارب في الآراء من الشيعة والفرس ، وأنّ كلا مهما يقول بالحق الإلهي في الحكم ، وأنّ الحاكم نائب عن الله ، وأنّ الإمامة تكون بالوارثة ، وهذا ما ذهب إليه أحمد أمين وبعض المستشرقين يقول محمّد أبو زهرة : بعض العلماء ومنهم دوزي المستشرق وقرروا أنّ أصل المذهب الشيعي نزعة فارسية إذ أنّ العرب تدين بالحرية والفرس تدين بالملك والوراثة ولا يعرفون معنى الانتخاب ، إلى أن قال إنّ الشيعة قد تأثّروا بالأفكار الفارسية حول الملك ووراثته(1) .
ونقول : إنّ إدعاء من يقول إنّ كلا من الفرس والشيعة يقولون بالحق الإلهي في الحكم ، وأنّه يحكم بتفويض من الله أو نيابة عنه فهذا خطأ ; لأنّ الشيعة تؤمن بأنّ الإمامة منصب إلهي كالنبوة ، فالإمام منصوص عليه من قبل الله تعالى من طريق النبي أو الإمام . فأيّ وراثة في هذا؟! فهذا خطأ علمي فادح ; لأنّ الشيعة لا تنظر للإمامة على أنّها إرث ، بل تذهب إلى أنّ تعيين الإمام بنص وكتب الشيعة طافحة بذلك .
وإنّ أهل السنة قالوا بأنّ الخلافة تكون بالشورى بالنص واستدلّوا بقوله تعالى (وشاورهم في الأمر)(2) ، وقوله تعالى (وأمرهم شورى
____________
1- تاريخ المذاهب الإسلامية 1 : 40 . 2- آل عمران : 159 .
بينهم)(1) .
ولكن الآيتين أجنبيتان عن موضوع الشورى ، فالآية الأولى جاءت مدحاً للأنصار الذين كانوا قبل الإسلام إذا أرادوا عمل شيء تشاوروا في ذلك . وقيل : نزلت في مشاورة أهل الرأي(2) . وقال علماؤنا : المراد بها الاستشارة في الحرب ، ولاشك في ذلك ; لأن الأحكام لم يكن لهم فيها رأي بقول ، وإنّما هي بوحي مطلق من الله عزّ وجل أو باجتهاد من النبى(صلى الله عليه وآله) في مورد يجوز له الاجتهاد(3) .
والآية الثانية جاءت ليشاور في الحرب ، ولتطيب نفوس أصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله)(4) . وبهذا فالآيتان لم تنـزلا من باب التشريع لاختيار الخليفة .
أمّا الشيعة فإنّهم ذهبوا : أوّلا : إلى أنّ النبي كان إذا عزم على الخروج في بعض أسفاره أو مغازيه أمّر على المدينة أمير حتّى يخلفه في الناس .
ثانياً : إنّ الشريعة تفرض على المسلم أن يوصي عند موته فيما يهمّه ، قال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}(5) فكيف
____________
1- الشورى : 38 . 2- الحافظ ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، 3/420 . 3- ابن العربي المالكي ، أحكام القرآن الكريم ، 2/297 . 4- الحافظ ابن كثير ، مرجع سابق ، 3/118 . 5- البقرة : 180 .
يترك رسول الله(صلى الله عليه وآله) الأمّة ، دون وصي يرعى الأمّة ، وبدونه تؤول الأمور إلى فوضى وتنازع؟!
ثالثاً : تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أنّ الإمامة بجعل من الله ; وذلك لقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}(1) .
ويضاف إلى ذلك أحاديث وردت عن النبي(صلى الله عليه وآله) ، منها حديث الغدير : وأنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) حينما بلغ غدير خم جمع الناس وقال : "ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى . قال : اللهم فاشهد ، ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب ورفعها حتّى بَانَ بياض إبطيهما للناس وقال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، وأخذل من خذله ، والعن من نصب له العداء والبغضاء" .
وفي ذلك أحاديث كثيرة وبطرق عدّة ، فقد روى هذا الموضوع مائة وعشرين صحابياً ، وأربعة وثمانين تابعياً ، وكان عدد طبقات رواته من أئمة الحديث يتجاوز ثلاثمائة وستين راوياً ، وقد ألّف في هذا الموضوع أكثر من عشرين مؤلّفا من الشيعة والسنة مما أشبعوا هذا الأمر بحثاً(2) .
____________
1- السجدة : 24 . 2- الجزء الأوّل من كتاب الغدير للأميني ، الإصابة لابن حجر في ترجمة الإمام علي ، الاستيعاب لابن عبد البر في ترجمة الإمام علي ، أعيان الشيعة ج3 باب الغدير محسن الأمين العاملي ، تفسير الرازي ، الدرّ المنثور في تفسير الآية 67 من سورة المائدة .
وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال : "قام رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوماً فينا خطيباً بماء يدعى "خماً" بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ، ثمّ قال : أمّا بعد ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربى فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور... ثمّ قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي..."(1) .
يقول ابن حجر الهيتمي : إنّ حديث الغدير صحيح لا مرية فيه ، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد ، وفي رواية أحمد أنّه سمعه من النبي(صلى الله عليه وآله) ثلاثون صحابياً ، وشهدوا به لعلي لمّا نوزع أيام خلافته ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ، ولا يلتفت لمن قدح في صحته ، ولا لمن ردّه(2) .
ويقول سبط ابن الجوزي : "اتّفق علماء السير على أنّ قصة الغدير كانت بعد رجوع النبي(صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجّة ، جمع الصحابة وكانوا مائة وعشرين ألفاً ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه (الحديث) . نص(صلى الله عليه وآله) على ذلك بصريح العبارة دون التلويح والإشارة . وذكر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بإسناده : أنّ النبى(صلى الله عليه وآله)لمّا قال ذلك طار في الأقطار وشاع في البلاد والأمصار(3) .
____________
1- مسلم ، صحيح مسلم ، 7/122 ، 123 . 2- ابن حجر الهيتمي ، الصواعق المحرقة ، ص42 . 3- سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواص ، ص30 ، 31 .
وبعد هذا الثابت والمدوّن الصحيح تجد من يخرج عليك ليقول : إنّ هذا لم يرد إلاّ عند الشيعة ، وقد تسمع من يقول وتقرأ : أنّ الشيعة دسّوا هذه الروايات في كتب السنة ، وهى حكايات أشبه بخرافات العجائز .
وبذلك فقد أوضحنا نصوص الشيعة التي يستندون عليها في عقائدهم في أنّ الإمام بجعل من الله ، وأنّ إمامته بالنص دون الاختيار ، وأنّ الذين ذهبوا إلى القول بالشورى اعتمدوا على اجتهاد من عند أنفسهم عندما ظنّوا أنّه ليس هناك نص أو أنكروا النص ; لأنّ أحاديث الغدير والولاية لا تدين من حارب علياّ فحسب ، وإنّما تدين كذلك أولئك الذين اعتزلوه ، وبذلك تلقي الضوء على حروب علي التي اشتبه المسلمون والتبس فيها وجه الحق(1) .
والشيعة يتساءلون عن الشورى وأركانها؟ وكيفيتها؟ وهل تحققت في أيام الخلفاء؟ وهل اختيار الخلفاء كان بموجب هذه النظرية؟
إنّ الذين بايعوا أبي بكر في السقيفة اثنان من المهاجرين هما أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ، وعمر بن الخطاب ، ولذلك قالوا أهل السنة أنّ البيعة تنعقد برجلين من أهل الشورى (أهل الحل والعقد) ، ويقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب : إنّها كانت فلتة وقى الله شرّها . وهذه العبارة تدل بجلاء على أنّ هذه البيعة لم تتم وفق معايير منهجية .
____________
1- حسن عباس ، الصياغة المنطقية للفكر السياسي ، ص35 .
ولكن هل تحققت البيعة والشورى في الخليفة الثاني أم كانت عن طريق التعيين ، كما وصّى بها أبو بكر؟ وهل الخليفة الثالث جاء عن طريق بيعة أم عن طريق تأييد ثلاثة من خمسة(1)؟
إنّ الموضوعية في البحث تقول إنّ هذه الحالات الثلاث لا يمكن أن تعبّر عن نظرية الشورى فعلا ، وهل طبيعة هذه الحالات تتسق مع أدلتهم كقول الله تعالى : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(2) ومع كل هذا تجد من يقول إنّ البيعة تتحقق ببيعة واحد فقط ، كما ذهب ابن العربي المالكي(3) !!
ومن كل هذا وغيره نقول بأنّ نظرية الشورى لمّا كانت غير ناهضة ولا تقف على أرضية محكمة بعكس نظرية النص والتعيين ، تجد من يقول بأنّ هذه النظرية هي نظرية الفرس الذين أدخلوها في التشيّع لتكون وراثة ، إلاّ أنّ الإمامة ليست وراثة ولكنها تعيين ، وليست موضوعة ولكن سندها من الكتاب والسنة ، وليست متأخرة في الفكر الإسلامي ولكنها تمثّل أحد أهم الركائز الاعتقادية عند الشيعة قبل دخول الفرس الإسلام وقبل تشيّعهم وعندما كانوا موالين للأمويين .
ورغم ذلك كله تجد أمثال الدكتور أحمد شلبي في تاريخ المناهج
____________
1- ابن العربي المالكي ، أحكام القرآن ، 3/57 . 2- الشورى : 38 . 3- ابن العربي المالكي، أحكام القرآن، 3/57 .
الإسلامية(1) يقول : وكان عدم تدوين الأحاديث فرصة أمام مدعي التشيّع ليضعوا حشداً من الأحاديث وينسبوها للرسول(صلى الله عليه وآله) ، ولعل حديث غدير خم كان في مطلعها .
ويقول أحمد أمين : ونظم ، أي : السيد الحميري حادثة غدير خم ، وهي ما تزعمه الشيعة من أنّ النبى(صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم أخذ بيد علي وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه(2) .
ومن قبلهم قال ابن خلدون : والأمر الثاني : هو شأن العهد مع النبي(صلى الله عليه وآله) وماتدّعيه الشيعة من وصية علي(رضي الله عنه) ، وهو أمر لم يصح ، ولا نقله أحد من أئمة أهل النقل(3) .
إنّ نفي هذه الأحاديث مكابرة وإخفاء للحقيقة فحديث الغدير والولاية رواه من أهل السنة ابن حجر العسقلانى في الإصابة(4)والمقريزي في خططه(5) ، والمحب الطبري في الرياض النضرة(6) ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء(7) ، والخطيب البغدادي في تاريخ
____________
1- أحمد شلبي ، تاريخ المناهج الإسلامية 4/213 . 2- أحمد أمين ، ضحى الإسلام ، ص309 . 3- ابن خلدون ، المقدّمة ، فصل ولاية العهد ، ص212 . 4- ابن حجر العسقلاني ، الإصابة ، 2/15 ، 4/568 . 5- المقريزي ، الخطط ، 2/92 . 6- المحب الطبري ، الرياض النضرة ، 2/172 . 7- السيوطي ، تاريخ الخلفاء ، ص169 .
بغداد(1) ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة(2) ، والمسعودي في مروج الذهب(3) والغزالي في سرّ العالمين وكشف ما في الدارين(4) ، والمتقي الهندي في كنز العمال(5) ، والنسائي في الخصائص(6) ومسلم في صحيحه(7) .
ونختم هذا الأمر بقول الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله ، والتصديق برسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس"(8) . فصفة الإسلام ثابتة لمن شهد الشهادتين سواء اعتقد أنّ الإمامة بالنص ، فهي حق إلهي أو بالشورى ، فهي حق للجماعة يضعوها حيث تتوفّر فيه من يتحّملها ، وحتّى لو لم يكن للإمامية في نظريتهم لنصب الإمام دليل ، بل لو ذهب القوم إلى أبعد من ذلك فابتدعوا وكانوا من أهل البدع فإنّه يتعيّن على علماء المسلمين ألاّ ينبذونهم ويكفّروهم .
فكيف وعندهم الدليل الصحيح الثابت في كتب أهل السنة أنفسهم؟!
____________
1- الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، 7/437 . 2- ابن قتيبة ، الإمامة والسياسة ، 1/109 . 3- المسعودي ، مروج الذهب 2/437 . 4- أبو حامد الغزالي ، سرّ العالمين وكشف ما في الدارين ، ص10 . 5- المتقي الهندي ، كنز العمال ، 1/167 ، 168 . 6- النسائي ، الخصائص ، ص39 ، 40 ، 41 . 7- صحيح مسلم ، 7/122 ، 123 . 8- شرف الدين ، الفصول المهمة ، ص18 .
الأمر الثالث :
هدم الإسلام من خلال التستّر بالتشيّع ، وقولهم إنّ الفرس استتروا بالتشيّع لهدم الإسلام ، وفي ذلك يقول أحمد أمين : والحق أنّ التشيّع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد ، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية ، ومن كان يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته ، كل هؤلاء كانوا يتّخذون آل البيت ستاراً .
وقد ذهب مذهبه كلاّ من الدكتور أحمد شلبي ومحب الدين الخطيب وغيرهم ، وهذا الادّعاء يسوقنا أن نطرح سؤال مفاده :
هل الفرس برؤيتهم الإلحادية أرادوا هدم الإسلام ولذلك تشيّعوا؟ أم أنّهم انضمّوا إلى الإسلام فمنهم سنة ومنهم شيعة؟
فإذا كانوا الفرس دخلوا الإسلام متظاهرين بتشيّعهم ومحبّتهم لأهل البيت محاولين بذلك هدم الإسلام فلا بدّ أنّهم قصدوا الدخول من الباب القوي أو الركن الشديد حتّى يستطيعوا قيادة هذه الأمّة وتحريف دينهم ، وبذلك يكون المذهب الشيعي هو أصل الإسلام ومادّته .
وأمّا إن قلنا إنّهم دخلوا الإسلام ، فمنهم من تشيّع وهم قلّة ، ومنهم من اعتنق المذهب السني كانوا مناصرين للأمويين ، وهؤلاء كانوا الأعم الأغلب ، ورغم أنّ أهل العلم من السنة كانوا في الأغلب من الفرس والموالي ، ولا نرى في ذلك عيباً أو انتقاصاً ، فإنّ الإسلام حرّم العصبية ،
وجعل الناس متساويين كأسنان المشط لا فرق لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى .
وقد يقول آخر : إنّ عقائد الشيعة في البداء ، والرجعة ، والعصمة ، والمهدي خارجة عن أهل الإسلام ومعتقداتهم ومقالاتهم ، وهي تخالف أصل الدين .
نقول : إنّ كلاّ من البداء ، والرجعة والعصمة والمهدي يقولها كل أهل الإسلام ألا ترى أنّ في مقولة أهل السنة أنّ الصحابة كلّهم عدول يجعل منهم أهل عصمة ، وكذلك القول بالبداء فإنّ له وجه عند أهل السنة يؤيّده أدلّتهم في حديث المعراج من فرض الصلاة ، وأحاديث كثيرة تؤيد البداء لله ، وكذلك .
الرجعة والمهدي ، ورغم هذا فإنّ هذه الأمور ليست من القضايا التي تخرج منكرها من الملّة ، أو أنّ معتنقها من أهل الجنة ، فلماذا كل هذا الصراخ والعويل المفتعل ، ومن المستفيد من تبديد هذه الطاقات في خصومه لا فائدة فيها غير ضعف الأمّة وانقسامها وقطع ذات البين ، وإلى الله المشتكى .
إنّ الشيعة حتّى القرن الثاني من الهجرة لم يكونوا في فارس غير أفراد قلائل في (قم) ليس لهم دعوة ، وإنّما كانوا متستّرين خشية البطش ، ولقد كانت خراسان ، وسجستان ، وأصفهان ، وشاش ، وطوس
سنية ، فقد أخرج ابن قتيبة في رواية عن محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس في كلمته التي قالها لرجال دعوته حين وجّههم : أمّا الكوفة سوادها ، فهناك شيعة علي بن أبي طالب ، وأمّا البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف ، وأمّا الجزيرة فحرورية مارقة ، وأمّا أهل الشام فليس يعرفون إلاّ آل أبي سفيان وطاعة بني مروان ، وأمّا أهل مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر ، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير ، والجلد الظاهر ، وصدوراً سليمة ، وقلوباً فارغة لم تتقسمها الأهواء ، ولم تتوزعها النحل ، ولم تشغلها ديانة(1) .
ولقد ظلّ القليل من الشيعة في فارس وما ورائها مضطهدين طوال فترة حكم الأمويين وكذلك العباسيين .يقول أبو بكر الخوارزمي في رسالته إلى جماعة الشيعة في نيسابور بعد أن عدد أعمال الأمويين قال : "فبعث عليهم أبا مجرم لا أبا مسلم ، فنظر ـ لا نظر الله إليه ـ إلى صلابة العلوية ، وإلى لين العباسية ، فترك تقاه واتّبع هواه ، وباع آخرته بدنياه ، وسلّط طواغيت خراسان ، وخوارج سجستان ، وأكراد أصفهان على آل أبي طالب ، يقتلهم تحت كل حجر ومدر ، حتّى سلّط الله عليه أحب الناس إليه فقتله"(2) .
____________
1- ابن قتيبة ، عيون الأخبار ، 1/204 . 2- رسائل أبي بكر الخوارزمي ، ص128 .
الفصل الثالث
عبد الله بن سبأ
بالرغم من الواقع الحي للشيعة من مؤسسات دينية في أغلب بقاع الأرض ، ومن فعاليات دينية وثقافية وعلمية ، ومساجد ، وحوزات علمية كلها تردد كلمات التوحيد ليل نهار ، فإننا نواجه واقعاً أليماً من كل أولئك الذين يكتبون عن الشيعة ضاربين عرض الحائط ما تراه أعينهم وتسمع آذانهم ، فهم يكتبون أقوالا صاغها الوهم والجهل ، أو سوء النية والحقد غير مبالين بما عليه حال أمّتهم ، وما يزالون يعتقدون ، ويدعون غيرهم ليعتقدوا بأنّ الشيعة فرقة صاغها وأسسها يهودي حاقد مدعياً الإسلام هو (عبد الله بن سبأ) ، وأعطوه من الصفات والنعوت والقدرات ما يدخل في باب المعجزات ، والتي يمكن أن تكون أشبه بحكايات العجائز والعفاريت وألف ليلة وليلة ، وهذا يمثّل استخفاف بعقل أمّة ، ويجعل الخرافة أحد ركائز تراثنا الديني والفكري ، ولنا أن نسأل ونقول :
من هو عبد الله بن سبأ؟ ومن أيّ البلاد هو؟ وما أصله ونسبه؟ وما فحوى الروايات التي جاءت فيه؟ وما مدى صحة هذه الروايات؟ ولماذا ترتبط الشيعة بعبد الله بن سبأ؟ وهل الشيعة هم السبئية؟
وللإجابة عن سؤال من هو عبد الله بن سبأ؟
نقول : عبد الله بن سبأ او عبد الله بن السوداء وهما رجلان كل منهما غير الآخر وإليك بعض المقتطفات في عبد الله بن سبأ :
محمّد فريد وجدي : عبد الله بن سبأ يهودي من الحيرة أظهر الإسلام(1) .
أحمد عطية الله : عبد الله بن سبأ يهودي من أهل صنعاء ، وأظهر إسلامه في خلافة عثمان(2) .
محمّد أبو زهرة : عبد الله بن سبأ يهودي من أهل صنعاء ، أمّه سوداء ، أسلم أيام عثمان(3) ، وفي موضع آخر : عبد الله بن سبأ كان يهودي من أهل الحيرة أظهر الإسلام(4) .
أحمد أمين : وكان عبد الله بن سبأ من يهود اليمن ، فأسلم ، وهو ابن السوداء(5) .
حسن إبراهيم حسن : رجل من أهل صنعاء هو عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم(6) .
المقريزي : عبد الله بن سبأ قام زمان الإمام علي ، وأحدث القول
____________
1- محمّد فريد وجدي ، دائرة معارف القرن العشرين ، 5/17 بتصرف واختصار . 2- أحمد عطية الله ، القاموس الإسلامي ، 3/222 . 3- محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الاسلامية، 1/35 . 4- المرجع السابق ، 1/45 . 5- أحمد أمين ، فجر الإسلام ، ص403 . 6- حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام السياسي ، ص252 .
بوصية رسول الله لعلي هو ابن السوداء؟(1)
ابن حزم : عبد الله بن سبأ الحميري قال لعلي : أنت الله فاستعظم علي الأمر منهم ، وأمر بنار فأججت وأحرقهم(2) .
عبد القاهر البغدادي : عبد الله بن سبأ الذي غلا في علي بن أبي طالب ، ثمّ قال : إنّ عبد الله بن السوداء من أهل الحيرة كان يعين السبئية على قولها ، وابن السوداء كان على هوى دين اليهود ، فانتسب إلى الرافضة السبئية حين وجدهم أعرق أهل الأهواء في الكفر ودَلّس ضلالته في تأويلاته(3) .
الذهبي : عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ، ضال مضل أحسب أنّ علياً حرقه(4) .
الطبري : كان عبد الله بن سبأ يهودياً من صنعاء أمّه سوداء(5) .
هذه الأقوال في عبد الله بن سبأ خمسة منها على أنّ عبد الله بن سبأ هو ابن السوداء وهم : "أحمد عطية الله ، محمّد أبو زهرة ، أحمد أمين ، المقريزي، الطبري" .
____________
1- المقريزي ، الخطط ، 4/175 ، باختصار . 2- ابن حزم ، الفصل في الملل والنحل ، 4/142 ، باختصار . 3- عبد القادر البغدادي ، الفرق بين الفرق ، ص225 وص233 وص235 ، باختصار . 4- الذهبي ، ميزان الاعتدال ترجمة عبد الله بن سبأ (4343) تسلسل عام . 5- محمّد بن جرير ، تاريخ الطبري ، 2/647 .
وذهب عبد القاهر البغدادي والشعبي ومحمّد فريد وجدي وجماعة من أهل العلم قال عنهم عبد القاهر البغدادي "المحققون من أهل السنة" أنّ ابن السوداء غير عبد الله بن سبأ .
وكما اختلفوا في شخصيته أهو عبد الله بن سبأ أم هو عبد الله بن السوداء أم هو عبد الله بن الأمة السوداء؟ كذلك اختلفوا في أصله؟ ومن أيّ البلاد هو؟
فقد ذهب أحمد عطية الله ، ومحمّد أبو زهرة ، وحسن إبراهيم حسن ، والطبري إلى أنّه من صنعاء .
وذهب ابن حزم إلى أنّه حميري .
وقال آخرون : إنّه من الحيرة .
وكذلك اختلفوا في زمان ظهوره فقال البعض : إنّه ظهر أيام عثمان ، وقال آخرون : إنّه أظهر دعوته أيام علي ، ولم يذكر أحد متى أسلم ، وكيف أسلم؟ وكذلك لم نقف على موته ، وهل مات محروقاً ، حرقهُ الإمام عليّ؟ أمّا الذين قالوا بأنّ الإمام سيّره إلى المدائن ، لم يذكروا أيّ شيء عنه بعد أن سار إليها فهل تاب وأناب ورجع واستغفر أم بقي واستكبر أم مات وقامت قيامته؟ ولم يعيّن أحد سنة لموته غير أحمد عطية الله في موسوعته الإسلامية ، حيث قال : إنه توفى سنة 41هـ .
ثمّ إنّ عبد الله هذا اسم عربي خالص لم يعرف إلاّ عند العرب ، وكذلك سبأ فقد كانوا قديماً يقولون لكل عربي (سبائي) ، وليس أحد من
العرب إلاّ ويعرف اسم أبيه وجدّه وأجداده من بعده ، وهذه خاصة بالعرب وحدهم ، وليس أحد من العرب إلاّ يسمي آباءه أباً فأباً ، حاطوا بذلك أحسابهم ، وحفظوا به أنسابهم ، فلا يدخل رجل في غير قومه ، ولا ينسب إلى غير نسبه ، ولا يدعى لغير أبيه(1) .
والنتيجة رجل باسمين أو اسمين لرجلين ، من الحيرة تارة ، ومن صنعاء تارة أخرى ، ومن حمير تارة ثالثة ، أو من عموم اليمن كلها ، ولم يعرف سادتنا متى ولد ، او متى أسلم ، ولماذا سمي بابن السوداء ، فهل صحب أمّه معه حيث سار حتّى غلبت سمتها على اسمه فعرف به ، فهم ولا يعرفون اسمه على وجه الدقة رغم أنّهم يعرفون اسم كلب أصحاب الكهف ، وأسماء من في الكهف موجودة في كتب التفسير ، ومجالس العرب ، وكان البحث عن أسمائهم أمراً بالغ الصعوبة والتحري ، فهل كلب أصحاب الكهف من المهم معرفته حتّى تتثبت الأمّة ، فبحثوا ودققوا؟! وأنّ أمر ابن سبأ كان من الهيّن ، فلم يتحققوا من النقل والضبط ، وغفلوا ، وضيّعوا ما هم عنه مسؤولون ، وعن هذا الذي هو ابن سبأ إن كان بريء فلماذا اتّهموه ، وإن كان متّهم فلماذا تركوه يفتن الأمّة ، مع أنّهم ضربوا المعارضين بمنتهى الشدّة ، وهم من خيرة الصحابة كعمار وابن مسعود وغيرهم ، هذا ما لم نعرفه ، والقوم ليس عندهم جواب على ذلك .
____________
1- ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، ص277 .
ما هي فحوى الروايات التي جاءت فيه؟
1 ـ قال محمّد فريد وجدي : السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذي غلا في الانتصار لعلي ، وزعم أنّه كان نبياً ، ثمّ غلا فزعم أنّه الله ، ودعا إلى ذلك قوماً من أهل الكوفة ، فاتصل خبرهم بعلي ، فأمر بإحراق قوم منهم ، ثمّ خاف من إحراق الباقين أن ينتقض عليه قوم فنفى ابن سبأ للمدائن ، فلمّا قتل علي زعم ابن سبأ أنّه ليس المقتول علياً ، وإنّما هو شيطان صور على صورته ، وهذه الطائفة تزعم أنّ المهدي المنتظر إنّما هو علي ، وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً من أهل الحيرة فأظهر الإسلام ، وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة ، فذكر لهم أنّه وجد في التوراة أنّ لكل نبي وصياً ، وأنّ علياً وصي محمد(صلى الله عليه وآله)فلمّا سمعوا ذلك قالوا لعلي إنّه من محبيك ، فرفع علي قدره وأجلسه تحت منبره ، ثمّ بلغه عنه غُلوه فيه ، فهمّ بقتله فنهاه ابن عباس فنفاه إلى المدائن(1) .
وقد ذكر الشعبي : أنّ عبد الله بن السوداء كان يعين السبائية على قولهم ، وكان ابن السوداء في الأصل من يهود الحيرة .
2 ـ قال أحمد عطية الله : ابن سبأ رأس الفرقة السبائية من الشيعة ، وهو عبد الله بن سبأ كان من يهود صنعاء ، وأظهر إسلامه في خلافة
____________
1- محمّد فريد وجدي ، دائرة معارف القرن العشرين ، مادة سبأ ، 5/17 .
عثمان يعرف بابن السوداء ، انتقل إلى المدينة وبثّ فيها أقوالاً وأراء منافية لروح الإسلام ونابعة من يهوديته ومن معتقدات فارسية كانت شايعة في اليمن ، برز في صورة المنتصر لحق عليّ ، وادعى أنّ لكل نبي وصياً ، وأنّ علياً وصي محمّد ، كما ادعى أنّ في علي جزءاً إلهياً ، طاف بأنحاء العراق ناشراً دعوته ، فطرده عبد الله بن عامر من البصرة ، فنزل الكوفة وأوغر صدور الناس على عثمان ، وانتقل إلى دمشق في ولاية معاوية ، وفيها التقى بأبي ذر الغفاري ، وحرّضه على الثورة مدّعياً أنّه ليس من حق الأغنياء أن يقتنوا مالا ، وأُخرِج من الشام فَنَـزل مصر فالتف حوله الناقمون على عثمان ، وفيهم محمّد بن أبي بكر وأبو حذيفة ، ووضع على لسان علي أقوالاً لم يقلها كادعاء علم الغيب ، وبعد استشهاد علي قال : إنّه لم يقتل وسيرجع ، وبذلك وضع فكرة الرجعة بين الشيعة(1) .
3 ـ علي بن إسماعيل الأشعري : السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ يزعمون أنّ علياً لم يمت ، وأنّه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، وذكروا عنه أنّه قال لعلي : أنت أنت ، والسبئية يقولون بالرجعة(2) .
4 ـ قال عبد القاهر البغدادي : الفصل الأوّل في ذكر قول السبئية
____________
1- أحمد عطية الله ، القاموس الاسلامي ، 3/222 . 2- أبو الحسن الأشعري ، مقالات الإسلاميين ، 1/15 .
وبيان خروجها عن ملّة الإسلام . السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذي غلا في علي بن أبي طالب ، وزعم أنّه كان نبياً ، ثمّ غلا فزعم أنّه إله ، ودعا إلى ذلك قوماً من غِواة الكوفة ، ورفُع خبرهم إلى علي(رضي الله عنه) وأمر علي بإحراق قوم منهم في حفرتين حتّى قال بعض الشعراء في ذلك :
لترم بي الحوادث حيث شاءت | إذا لم ترم بي في الحفرتين |
ثمّ إنّ علياً خاف من إحراق الباقين منهم اختلاف أصحابه عليه ، فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن ، فلمّا قتل علي زعم ابن سبأ أنّ المقتول لم يكن علياً كان شيطاناً تصور للناس في صورة علي ، وأنّ علياً صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى بن مريم(عليه السلام) .
وقد روي عن عامر بن الشراحيل الشعبي أنّ ابن سبأ قيل له : إنّ علياً قد قتل ، فقال : إن جئتمونا بدماغه في صرة لم نصدق بموته ، لا يموت حتّى ينزل من السماء ويملك الأرض بحذافيرها .
وهذه الطائفة تزعم أنّ المهدي المنتظر هو علي دون غيره .
إنّ عبد الله بن السوداء كان يعين السبئية على قولها ، وكان الحيرة فأظهر الإسلام ، وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق و رياسة ، فذكر لهم أنّه وجد في التوراة أنّ لكل نبي وصياً ، وأنّ علياً وصي محمّد(صلى الله عليه وآله) وأنّه خير الأوصياء كما أنّ محمّداً خير الأنبياء ، فلمّا سمع ذلك منه شيعة علي قالوا لعلي : إنّه من محبيك ، فرفع علي قدره ،
وأجلسه تحت منبره ، ثمّ بلغه عنه غلوه فيه فهمّ بقتله ، فنهاه ابن عباس عن ذلك وقال : إن قتلته اختلف عليك أصحابك ، وأنت عازم على قتال أهل الشام ، وتحتاج إلى مداراة أصحابك ، فلمّا خشي من قتله نفاه إلى المدائن . فافتتن به رعاع الناس بعد قتل علي(رضي الله عنه) ، وقال لهم ابن السوداء : والله لينبعن لعلي في مسجد الكوفة عينان تفيض إحداهما عسلاً والأخرى سمناً ، يغترف منهما شيعته .
وقال المحققون من أهل السنة : إنّ ابن السوداء كان على هوى دين اليهود ، وأراد أن يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في علي وأولاده ; لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى(عليه السلام) ، فانتسب إلى الرافضة السبئية حين وجدهم أعرق أهل الأهواء فى الكفر(1) .
5 ـ قال ابن حزم : من الفرق الغالية الذين يقولون بالألوهية لغير الله عزّ وجل أوّلهم فرقة من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري لعنه الله أتوا إلى علي بن أبي طالب ، فقالوا مشافهة : "أنت هو" ، فقال : "ومن هو" قالوا : "أنت الله" ، فاستعظم الأمر ، و أمر بنار فأججت ، وأحرقهم بالنار ، فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار : "الآن صح عندنا أنّه الله تعالى ; لأنّه لا يعذّب ، بالنار إلاّ رب النار" وفي ذلك يقول : لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً(2) .
____________
1- عبد القاهر البغدادي ، الفرق بين الفرق ، ص235 : 233 ، باختصار . 2- ابن حزم ، الفصل في الملل والنحل ، 4/142 .
6 ـ قال الشهرستاني : وهو ـ أي : عبد الله بن سبأ ـ أوّل من فرض القول بإمامة علي ، ومنه انشعبت أصناف الغلاة . وقال : وإنّما أظهر ابن سبأ هذه المقالة بعد انتقال علي(رضي الله عنه) . واجتمعت عليه جماعة ، وهم أوّل فرقة قالت بالتوقف والغيبة والرجعة ، وقالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي(1) .
7 ـ قال الطبري : إنّه لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبي ذر فقال : يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول : المال مال الله ، ألا إنّ كل شي لله ، كأنّه يرد أن يحتجنه دون المسلمين ، ويمحو اسم المسلمين ، فأتاه أبو ذر فقال : ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال معاوية : يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله ، والمال ماله ، والخلق خلقه ، والأمر أمره؟ قال : فلا تقله . قال : فإنّي لا أقول إنّه ليس لله ولكن سأقول مال المسلمين . قال : وأتى ابن السوداء أبا الدرداء ، فقال له : من أنت؟ أظنك والله يهودياً ، فأتى عبد الله بن الصامت فتعلّق به ، فأتى به معاوية فقال : هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر(2) .
لمّا أرسل عثمان عماراً إلى مصر ليكتشف له أمر الإشاعات وحقيقة الحال استماله السبئيون ، وكان كنانة بن بشر هذا واحداً منهم(3) .
____________
1- الشهرستاني ، الملل والنحل ، 2/321 . 2- تاريخ الطبري 5/66 نقلا عن تحقيق محب الدين الخطيب على العواصم من القواصم ص72 . 3- تاريخ الطبري 5/99 ، نقلا عن المصدر السابق .
وذكر في أحداث سنة خمس وثلاثين : كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء أمّه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ، ثمّ تنقّل في بلدان المسلمين ، يحاول ضلالتهم ، فبدأ بالحجاز ، ثمّ البصرة ، ثمّ الكوفة ، ثمّ الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتّى أتى مصر ، فاعتمر فيهم فقال لهم فيما يقول : لعجب ممن يزعم أنّ عيسى يرجع ، ويكذّب بأنّ محمّداً يرجع ، وقد قال الله عزّ وجل {اِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد}(1) فمحمّد أحق بالرجوع من عيسى قال : فقُبِل ذلك عنه ، ووضع لهم الرجعة ، فتكلموا فيها ، ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّه كان ألف نبي ، ولكل نبي وصي ، وكان علي وصي محمّد ، ثمّ قال : محمّد خاتم الأنبياء ، وعلي خاتم الأوصياء ، ثمّ قال بعد ذلك : من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله) ووثب على وصي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتناول أمر الأمّة ، ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّ عثمان أخذها بغير حق ، وهذا وصي رسول الله ، فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه ، وابدأوا بالطعن على أمرائكم ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ، وادعوهم إلى هذا الأمر ، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...
____________
1- القصص : 85 .
8 ـ قال ابن كثير : في باب ذكر مجي الأحزاب إلى عثمان للمرّة الثانية ، وساق نفس ما قاله الطبري وزاد ، ومعهم ابن السوداء وكان أصله ذمياً فأظهر الإسلام ، وأحدث بدعاً قولية وفعلية(1) .
مناقـشـة (الـروايـات) :
هذه ثمانية (روايات) جامعة شملت أصحاب السير والتاريخ والمغازي ، وأصحاب المقالات والفرق ، والمؤرّخون المعاصرون ، وأصحاب الموسوعات العلمية .
وكما اختلفوا فيما سبق في اسمه ، ومن أيّ البلاد هو؟ ومتى خرج بدعوته؟ فهاهم يختلفون ـ أيضاً ـ في مقالته ، فمنهم من قال : إنّه قال إنّ علياً هو النبي ، وفي نفس المقال قال : ادّعى ابن سبأ في علي أنّه إله أو جزء من إله ، وهم محمّد فريد وجدي وأحمد عطية الله وعبد القاهر البغدادي وابن حزم والشهرستاني . وقالوا : إنّ ابن سبأ ادّعى أنّ علياً وصي محمّد ، رغم أنّهم قالوا : بنبوّته وألوهيّته . كل ذلك بدون وعي وتأمل ، فقالوا : إنّ ابن سبأ قال إنّ علياً إله ، ونبي ، ووصي النبي ، وأنّه في السحاب ، فأيّ نبي قبله سكن السحاب؟! أو أيّ وليّ سكن السحاب؟! أو أي إله سكن السحاب؟! أكانوا القوم بلا عقول حتّى تسري فيهم هذه الدعوة؟!
____________
1- الحافظ ابن كثير ، البداية والنهاية ، 7/173 .
وتحدّثوا فيما تحدّثوا فيه أنّه طاف في الحجاز ، والكوفة ، والبصرة ، والشام ، ومصر ، وهذه الأمصار كانت تعجّ بأصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
أمّا مصر فكان بها حوالي خمسون صحابياً ، منهم : عمرو بن العاص ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعقبة بن عامر ، وأبو زمعة البلوي ، وبصرة الغفاري ، وبصرة بن أبي بصرة ، وخرشة بن الحارث ، وجنادة الأزدي ، وسعيد بن يزيد الأزدي ، والأنماري ، ومعاوية بن خديج ، ومسلمة بن مخلد بن الصلت ، وعبد الرحمن بن عديس ، فهل يترك أهل مصر أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)ويتّبعوا هذا اليهودي حديث العهد بالإسلام؟! وما هذا الذي يؤهّله حتّى يتطاول على أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويجمع الناس حوله؟!
وإنّ كان في مصر خمسون صحابياً وعددٌ من التابعين ، فإنّ في الكوفة ما يزيد عن مائة وخمسين هم من خلّص أصحابه(صلى الله عليه وآله) منهم : عبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وسهل بن حنيف ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو موسى الأشعري ، والبراء بن عازب ، وعبيد بن عازب ، وزيد بن أرقم ، والمغيرة بن شعبة ، وحجر بن عدي ، وخزيمة بن ثابت ، والنعمان بن ثابت ، وغيرهم من الصحابة والتابعين ممن روى عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي موسى ، منهم : شريح القاضي ، وسعيد بن جبير ، وسعد بن حذيفة ، وقيس بن زيد ،