وقد حكم الذّهبي إمام أهل الحديث، والبارع الماهر في النقد والجرح والتعديل أيضاً ببطلان هذا الخبر العليل، فقال في الميزان:
«محمّد بن عبيد الله بن مرزوق لا يعي ما يحدث به، روى عن عفان حديثاً كذباً يقال أدخل عليه ; أخبرناه أبو بكر أحمد بن محمّد بن المؤدب، أخبرنا عبد الله بن رواحة، أخبرنا أحمد بن محمّد السلفي، أخبرنا أبو غالب محمّد بن حسن، ثنا محمّد بن عمر الخرقي، ثنا أبو القاسم، عن عمر بن محمّد الترمذي، ثنا جدّي لامي أبو بكر محمّد بن عبيد الله بن مرزوق بن دينار الخلاّل، ثنا عفان، ثنا حماد
____________
(1) الموضوعات: 1 / 239.
والسيوطي أيضاً مع إنهماكه في محاماة أئمته، وتسارعه الى تصديق اُكذوبات فضائلهم، لم يمكنه أن يتعقب حكم ابن الجوزي بوضعه، فسلم حكمه وقرّره عليه، ونقل بعد كلامه عن الخطيب أيضاً قدحه وجرحه، وعدم إستقامه ونكارته، ثمّ أتى عن الذّهبي الحكم بكذبه ووضعه، فقال في اللالئ المصنوعة:
«الخطيب، أنا بشرى بن عبد الله الرومي، أنا أبو القاسم عمر بن محمّد بن عبد الله بن مرزوق بن دينار الخلاّل، ثنا عفان، ثنا جهاد بن سلمة، أنا ثابت، عن أنس، مرفوعاً: (لمّا أسري بي رأيت في السماء خيلاً موقوفة مسرّجة ملجّمة، لا تروث ولا تبول ولا تعرق، رؤوسها من الياقوت الاحمر، وحوافرها من الزمرد الاخضر، وأبدانها من العقيان الاصفر ذوات أجنحة، فقلت: لمن هذه؟ فقال جبرئيل هذه لمحبّي أبي بكر وعمر يزورون الله تعالى عليها يوم القيامة) موضوع: لا يجاوز أبا القاسم أو جدّه ; قلت: قال الخطيب: لابن مروزق هذا عن عفان أحاديث كثيرة وعامتها مستقيمة غير حديث واحد منكر وهو هذا، وقال في موضع آخر: أنا عليّ بن أحمد [ بن
____________
(1) ميزان الاعتدال للذّهبي: 66 / 249 (7917).
وقد حكم ابن الشوكاني وغيره أيضاً بالوضع على هذا الخبر،ففي الفوائد المجموعة:
«حديث: (لمّا أسري بي رأيت في السماء خيلاً موقوفة مسرجة ملجمة، لا تروث ولا تبول ولا تعرق، رؤوسها من الياقوت الاحمر، وحوافرها من الزمرد الاخضر، وأذانها من العقيان الاصفر ذوات أجنحة، فقلت لجرئيل: لمن هذه؟ فقال: هذه لمحبّي أبي بكر وعمر) رواه الحديث عن أنس مرفوعاً، وهو موضوع»(3).
وفي مختصر تنزيه الشريعة، في الفصل الاول من باب مناقب الخلفاء الاربعة من كتاب المناقب والمثالب:
«حديث: (لمّا اسري بي رأيت في السماء خيلاً موقوفة مسرجة ملجمة...) الحديث وآخره (لابي بكر وعمر يزورون الله تعالى عليها يوم القيامة) خط، والمتّهم به ابن مرزوق»(4).
____________
(1) لا يوجد في المصدر.
(2) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 279، وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 3 / 131 (1123)، في ترجمة محمّد بن عبيد الله بن مرزوق.
(3) الفوائد المجموعة للشوكاني: 337.
(4) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 347.
فياليت شعري! كيف ركن ابن الخيرون وابن عبد كويه والمحبّ الطبري وصاحب الاكتفاء لمثل هذه الفرية والقرفة، وخدعوا العوام وغرّوا الاعثام برواية مثل هذه الاكاذيب العظام؟!.
____________
(1) الختر: هو شبيه الغدر والخديعة، وقيل: هو الخديعة / لسان.
الفصل الثاني
[ في افتخار الجنّة بتزينها بهما ]
ومن خرافاتهم وهفواتهم التي يتفاخرون ويتكاثرون بها، ما وضعوه من حديث تفاخر الجنّة والنار، قاصدين به إثبات فضيلة رأسي الاشرار.
ففي الرياض النضرة:
«ذكر إفتخار الجنّة بهما: عن أبي هريرة، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: (تفاخرت الجنّة والنار، فقالت النار للجنّة: أنا أعظم منك قدراً، قالت فلم؟ قالت: لانّ فيَّ الفراعنة والجبابرة والملوك وأبناؤها، فأوحى الله الى الجنّة أنْ قولي: بل لي الفضل إذ زيّنني الله بأبي بكر وعمر) خرجه الحافظ أبو الحسن عليّ بن نعيم البصري»(1).
وقال صاحب الاكتفاء:
«عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (تفاخرت الجنّة والنار،
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 1 / 229 (191).
ولو أعطى أحّد من النقلاء الانصاف من نفسه، وبذل التأمّل في هذه العبارة المصنوعة، وتدبّر في مبانيها أو معانيها، لوضح له الحقّ وضوحاً ظاهراً، وأسفر له الصّدق إسفاراً باهراً.
فإنّه مع قطع النظر عمّا فيه من ركاكة ما تضمنه من قول النار وتفاخرها على الجنّة بوجه ركيك سخيف، هو في الحقيقة دليل على مرجوحيتها ومفضوليتها، صريح في أفضليّة الشيخين على سائر الخلق حتى الانبياء والمرسلين، بل يدلّ على رجحانهم على سيّد النبيّين وخاتم الهداة المكرمين!.
حيث يظهر منه أنّه معاذ الله لم يجد الله تعالى في مقابلة النار حجّة تفيء، ودلالة تضيء في إثبات فضيلة الجنّة، حتى يلقاها غير أن الجنّة مزيّنة بالشيخين، فهذا هو الدليل على أفضليتها على النار، فإنّه لو كان هناك دليل أفضل من هذا لكان أولى بأن يلقى بها الله تعالى الجنّة، وإلاّ لزم ترجيح المرجوح على الله تعالى!، وهو عبث بل قبيح وهو تعالى منزّه عن ذلك، فثبت أنّه ليس على أفضلية الجنّة على النار دليل أفضل وأسنى من أنّها تزينت بالشيخين، وذلك دليل أفضليتهما على سائر الانبياء والمرسلين، فإنّهم لو كانوا أفضل منهما كان تزين الجنّة بهم أعلى دليل وأسنى برهان على أفضليتها من النار.
____________
(1) الاكتفاء للوصابي: مخطوط.
وهبهم لم يشعروا مافي هذه الرواية من الركاكة والسخافة، أو لم يجعلوه لوقاحتهم ورقاعتهم دليلاً على بطلانه، بل زعموا ذلك حقاً وصواباً، ولم يخافوا من الله تعالى في اعتقاد أفضليتهما على الانبياء والمرسلين مآبا، ولكن العجب! في أنّهم كيف لم يبالوا بتصريحات أئمتهم ونحاريرهم وأكابرهم ونقادهم ومهرتهم، حيث نصّوا على كذب هذه الرواية وبطلانها وافتعالها؟!.
فمنهم إمام أئمّة التحقيق، وناقد الروايات بالتمر عنها من الشيخين، وازاحة عللها، ونفي دخلها، وتقديم أودها، وشفاء عمدها اعني ابن الجوزي، فإنّه قطع بانّه موضوع مكذوب، فادخله في مستبشع الموضوعات، وذكر له كثيراً من المحن والافات، بل لم يختلف في وضع هذه الخرافة من نقّادهم إثنان، وانقضت على ذلك كلمتهم وتواترت بذلك نصوصهم، وهذا إمام الجماعة الحائدة المتهالكة على تصحيح الاكاذيب ـ نعني السيوطي ـ لم يمكنه تأييدها بوجه، لم يمت يذكر في هذا الحديث إلاّ كونه موضوعاً مقدوحاً رواته.
قال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات، في باب مجمع فضائل أبي بكر وعمر من كتاب الفضائل والمثالب:
«الحديث الثاني: أخبرنا محمّد بن عبد الباقي بن أحمد، قال: ثنا أبو محمّد الحسن بن عبد الملك بن محمّد بن يوسف، قال: أنبأنا أبو محمّد الحسن بن محمّد
وقال السيوطي في اللالئ المصنوعة:
«أخبرنا محمّد بن عبد الباقي بن أحمد، أنا أبو محمّد الحسن بن عبد الملك ابن محمّد بن يوسف، أنا أبو محمّد الحسن بن محمّد الخلال [ ثنا يوسف بن عمر الزاهد، ثنا محمّد بن القاسم بن بنت كعب ](2) ثنا عليّ بن الحسن الانصاري من ولد أيوب، ثنا مهدي بن هلال الراسبي، ثنا أبان بن أبي عياش، عن الحسن، عن أبي هريرة، مرفوعاً: (تفاخرت الجنّة والنار فقالت النار للجنّة: أنا أعظم منك قدراً، قالت: ولم؟ قالت: لانّ فيّ الفراعنة والجبابرة والملوك
____________
(1) الموضوعات: 1 / 240، وانظر الضعفاء والمتروكين للنسائي: 227 (592)، الضعفاء المتروكين للدارقطني: 257 (501)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 2 / 57، 8/228.
(2) لا يوجد في المصدر.
وفي مختصر تنزيه الشريعة، في الفصل الاوّل من باب مناقب الخلفاء الاربعة من كتاب المناقب والمثالب:
«حديث أبي هريرة: (تفاخرت الجنّة والنار فقالت النار: أنا أعظم منك قدراً لانّ فيّ الفراعنة والجبابرة والملوك وأبناؤها، فأوحى الله تعالى إلى الجنّة قولي: بل ليّ الفضل إذ زيّنني بأبي بكر وعمر) ابن الجوزي، وفيه أبان وغيره»(2).
فظهر من هذه العبارات! إنّ حديث تزيين الجنّة بأبي بكر وعمر ومفاخرتها بذلك على النار من الموضوعات المشينة التي إفتعلها الكذبة والفجار، وقد انعقد على الحكم بوضعه وكذبه إجماع النقاد والاحبار، فإنّه لم يخالف ابن الجوزي أحّد منهم بالتعقب، بل ساعده السيوطي وابن العراق وتلميذه كما يظهر في إيراد صاحب مختصر تنزيه الشريعة إياه في الفصل الاوّل من باب مناقب الخلفاء.
فظهر من هناك وبان أنّ الحافظ عليّ بن نعيم البصري والمحبّ الطبري واليمني الوصابي صاحب الاكتفاء قد بالغوا في العصبيّة الفظيعة، حيث ركنوا الى هذه الفرية الشنيعة، ولم ينظروا مافيها من النكارة والشناعة البذيئة، فاسرعوا الى تصديق الكذب والبهتان، والتشبث بما يفضح عند السر والاختبار والامتحان، ويكون سبباً للخزي والسقوط عند درجة الفضل عند المهرة الاعيان، وهل هذا إلاّ
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 279.
(2) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 347.
ثمّ ماذكره ابن الجوزي والسيوطي في تكذيب مهدي بن هلال راوي هذا الكذب المحال، وإن كان كافياً في هذا المجال، لكن رأينا أن ننقل أيضاً ترجمته من ميزان الاعتدال حتى يزيد اتضاح جليه الحال.
فأعلم! أنّه قال الذّهبي في الميزان:
«مهدي بن هلال أبو عبد الله البصري، عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح ويونس بن عبيد، وعنه ابنه محمّد وحمدان بن عمر وجماعة، كذّبه يحيى بن سعيد وابن معين، وقال الدارقطني وغيره متروك، وقال ابن معين أيضاً: صاحب بدعة يضع الحديث، وساق له ابن عدي أحاديث وقال: عامّة ما يرويه لا يتابع عليه، إلى أن قال في الميزان بعد ذكر حديث له: قال ابن المديني: كان يتهم بالكذب»(1).
____________
(1) ميزان الاعتدال: 6 / 531 (8834).
الفصل الثالث
[ في حبّهما يُدخل إلى الجنّة ]
ومن صريح أكاذيبهم المفتعلة، وخرافاتهم المجعولة، التي سما الوضع على نواصيها زاهرة، ولا يصدّقها إلاّ قلوب جماعة هي بالنّصب والمباغضة لال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متظاهرة، أنه أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) بأن يحبّ الشيخين حتّى يدخل الجنّة، وهذا كذب لعلّه استحى أكثرهم من تصديقه، فلم يوردوه في فضائلهما.
ولكن لمّا استولى على صاحب الاكتفاء الشره في سرد الموضوعات، أخرجه أيضاً في كتابه وعدّه من فضائل الشيخين، حيث قال في كتاب الاكتفاء، في كتاب الاحاديث الغرر وفضل الشيخين أبي بكر وعمر:
«عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): (يا عليّ أحبب هذين الشيخين ـ يعني أبا بكر وعمر ـ تدخل الجنّة) أخرجه الخطيب في تاريخه»(1).
____________
(1) الاكتفاء للوصابي: مخطوط، وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 1 / 261 (67)، 3 / 59 (1035).
ولكن الله أبى إلاّ أن يظهر الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، فقيض منهم رجالاً أولي نقد وخبرة ومهارة ويقظة، ففضحوا الكاذبين، وأخزوا المفترين، ونصوا على كذب هذا البهتان، وحكموا عليه بالوضع بلا إحتفال من لوم أهل العدوان.
فمنهم إمام أئمتهم الناقدين البارعين، وقدوة مهرتهم المبرزين المحققين [ ابن الجوزي ]، قد بالغ في تكذيب هذا الكذب الشنيع، وإستقصى في إيهان أمره، وجزّ رأسه، ورض بنيته، وبتر أصله، وذكر له طرقاً وجرح فيها بأسرها ; قال في كتاب الموضوعات، في باب مجمع فضائل أبي بكر وعمر من كتاب الفضائل والمثالب:
«الحديث الثالث: أخبرنا عبد الرحمن بن محمّد، قال: ثنا أحمد بن عليّ ابن ثابت، قال: أخبرنا أبو سعيد الماليني، قال: ثنا أبو بكر محمّد خلف بن حيان، قال: ثنا أبو بكر محمّد بن عبد الله بن إبراهيم الاشناني، قال: ثنا سري بن المغلس، قال: ثنا أبو أسامة، عن مسعر، عن إبراهيم السكسكي، عن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: (رأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) متّكئاً على عليّ (عليه السلام)وإذا أبو بكر وعمر فقد أقبلا، فقال: يا أبا الحسن أحبّهما فبحبّهما تدخل الجنّة) [ قال المصنّف ]: هذا حديث موضوع، وهو ممّا وضعه الاشناني، وقد
وقد رواه مرّة أخرى فركب له إسناداً آخر: أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: حدثنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا عبيد الله بن أبي الفتح، قال: ثنا أبو بكر بن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر محمّد بن عبد الله الاشناني، قال: ثنا سري بن المغلس سنة إحدى وسبعين ومائتين، قال: ثنا إسماعيل بن عليّة، عن أيّوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: (رأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) متّكئاً على عليّ بن أبي طالب، فإذا أبو بكر وعمر قد أقبلا، فقال له: يا أبا الحسن أحبّهما فبحبّهما تدخل الجنّة) قال الخطيب: لو لم يذكر التاريخ كان أخفى لبليته وأستر لفضيحته، وذلك لان سريا مات سنة ثلاث وخمسين ولم نعلم خلافاً في ذلك.
[ كما قال المصنّف ]: وقد روي لنا هذا الحديث من طريق أبي هريرة لكن راويه مجهول: أخبرنا به أبو منصور القزاز، قال: ثنا أحمد بن عليّ، قال: حدّثنا ابن رزق، قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: ثنا أبو العباس محمّد بن الصفار، قال: حدثنا الحسن بن مكي، قال: ثنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، قال: (خرج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) متّكئاً على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)فاستقبله أبو بكر وعمر، فقال له: يا عليّ أتحبّ هذين الشيخين؟ قال: نعم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: أحبّهما تدخل الجنّة) [ قال المصنّف ]: وهذا حديث غريب من حديث أبي الزناد، وغريب من حديث سفيان، تفرّد به الحسن ابن مكي وهو مجهول غير معروف»(1).
وقد حكم الذّهبي إمام النقاد وثقتهم العماد أيضاً بأنّ هذا الخبر باطل، ولله
____________
(1) الموضوعات: 1 / 240، وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 3 / 59 (1035).
قال الذّهبي في الميزان:
«الحسن بن مكي، قال: ثنا بن عيينة، فذكر حديثاً باطلاً بسند الصحيح في تاريخ بغداد، فقال: ثنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، قال: (خرج نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متّكئاً على عليّ فاستقبله أبو بكر وعمر، قال يا عليّ: أتحبُّ هذين الشيخين؟ قال: نعم، قال: أحبّهما تدخل الجنّة) رواه عنه محمّد بن إسحاق الصفار الصدوق»(1).
فإتّضح من هذه العبارة! إنّ هذا الخبر الذي رواه الحسن بن مكي باطل قبيح، وكذب صريح، وإنّ الذّهبي يحكم ببطلانه باتّاً جازماً، ولا يخاف من إظهار الحقّ عاذلاً ولائماً.
وقد حكم ابن العراق وتلميذه أيضاً بوضع الحديث، وعدّاه من الموضوعات، وأورده في مختصر تنزيه الشريعة في الفصل الاوّل، المعقود لما حكم ابن الجوزي بوضعه ولم يخالف فيه، ففي مختصر تنزيه الشريعة في الفصل الاوّل، من باب مناقب الخلفاء الاربعة من كتاب المناقب والمثالب:
«حديث عبد الله بن أبي أوفى: (رأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) متكئاً على عليّ وأبو بكر وعمر أقبلا، فقال: يا أبا الحسن أحبّهما فبحبّهما تدخل الجنّة)
____________
(1) ميزان الاعتدال: 2 / 276 (1957).
والقاضي محمّد بن الشوكاني أيضاً مصرّح بوضع هذا الخبر وكذبه، عاداً إياه من الموضوعات، مخرج إياه في الموضوعات، حيث قال في الفوائد المجموعة:
«حديث: (رأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) متكئاً على عليّ وإذا أبو بكر وعمر أقبلا، فقال: يا أبا الحسن أحبّهما فبحبّهما تدخل الجنّة) رواه الخطيب عن عبد الله بن أبي أوفى، وهو موضوع، وقد روى عن أبي هريرة ولا يصحّ»(2)إنتهى.
ومن الطريف! أنّ السيوطي كأنّه أراد إثبات هذا الخبر المكذوب، فبعدما ذكر ردّه وجرحه وقدحه، كأنّه جنح إلى تصويبه وتصديقه، حيث إدّعى أنّ له متابعاً فذكره وسكت عن إبطاله.
قال في اللالئ المصنوعة:
«الخطيب، أخبرنا أبو سعيد الماليني، ثنا أبو بكر محمّد بن خلف بن محمّد ابن حيّان الفقيه، ثنا أبو بكر بن عبد الله بن إبراهيم بن ثابت الاشناني، ثنا سري بن المغلس، ثنا أبو أسامة، عن مسعر، عن إبراهيم السكسكي، عن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: (رأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) متّكئاً على عليّ وإذا أبو بكر وعمر أقبلا، فقال: يا أبا الحسن أحبّهما فبحبّهما تدخل الجنّة) موضوع، عمله الاشناني ثمّ ركب له إسناداً آخر، فقال: ثنا سري بن المغلس
____________
(1) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 347.
(2) الفوائد المجموعة للشوكاني: 338.
وله طريق آخر مجهول، قال الخطيب: أنا محمّد بن أحمد بن رزق، ثنا عبد الباقي بن قانع، ثنا أبو العباس محمّد بن إسحاق الصفار، ثنا الحسن بن مكي، ثنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، قال: (خرج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) متّكئاً على عليّ بن أبي طالب فاستقبله أبو بكر وعمر، فقال: يا عليّ أتحبّ هذين الشيخين؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: أحبّهما تدخل الجنّة) تفرّد به أبو الحسن وهو مجهول ; قلت: قال الخطيب بعد أن أخرجه هذا حديث: غريب من حديث أبي الزناد ومن حديث ابن عيينة عنه، تفرّد بروايته الحسن بن مكي، عن أبي عيينة ولم نكتبه إلاّ من حديث محمّد بن إسحاق الصفار عنه، وما أعرف من حاله إلاّ خيراً، وقد ذكره الدارقطني فقال ثقة، إنتهى.
وقال الذّهبي في الميزان: الحسن بن مكي، قال: ثنا ابن عيينة، فذكر حديثاً باطلاً بسند الصحيح وهو هذا، رواه عنه محمّد بن إسحاق الصفار صدوق ; وقال في اللسان: هذا الحديث أورده الخطيب في ترجمة محمّد بن إسحاق الصفار، وقال إنّ الدارقطني وثقة، فانحصر الامر في ابن مكي، إنتهى.
وقد وجدت له متابعاً: قال ابن عساكر، أنا أبو طالب عليّ بن عبد الرحمن، أنا أبو الحسن الخلعي، أنا أبو محمّد بن النحاس، أنا أبو سعيد بن الاعرابي، ثنا محمّد بن أحمد بن سعيد بن فرقد، مؤذن مسجد جدّة أبو عمر المخزومي، ثنا عمر
أقول: قد انجلى واتّضح ممّا سبق من نصوص علمائهم النقّاد السابرين، والحذقة الماهرين، إنّ هذا الحديث موضوع بلا ريب ومريّة، فإن أراد السيوطي إثبات هذا الخبر بإيراد متابع له، وتصويبه وتصديقه، فهو مخالفة لهم وجنوح الى الكذب والفرية، ولا يفيد ولا يجدي عزوه الى ابن عساكر وإلى غيره من الاكابر، إلاّ تفصيحهم والازراء بشأنهم والغضّ من علوّ مكانهم!، ومع ذلك فالطريق الذي نقله السيوطي عن ابن عساكر لهذا الكذب الظاهر، لا يخفى على الناقد الماهر أنّه غير صالح للمتابعة ولا يفيد صدق هذا الكذب البيّن الشناعة، فإنّ فيه محمّد بن أحمد بن سعيد وهو مقدوح غير ثقة عند أهل التنقيد.
قال الذّهبي في الميزان:
«محمّد بن أحمد بن سعيد بن فرقد المخزومي، من شيوخ ابن الاعرابي: له مناكير يتأمّل حاله»(2).
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 280، وانظر ميزان الاعتدال: 2 / 276 (1957)، لسان الميزان للعسقلاني: 2 / 475 (2614)، تاريخ بغداد للخطيب: 1 / 261 (67)، (ولم نجد عبارة توثيق الدارقطني له، وفيه: هذا حديث غريب....)، تاريخ دمشق لابن عساكر: 30/140.
(2) ميزان الاعتدال: 6 / 47 (7159).
الفصل الرابع
[ في عدم إنعتاق مبغضهما من النار ]
ومن كذباتهم الظاهرة السماجة، ومفترياتهم التي ليس الى تبين حالها حاجة، ما وضعوه من أنّ الله لا يعتق مبغض أبا بكر وعمر من النار، وإنّ مبغضيهما مقرونون مع الكفره الاشرار.
ولعمري، إنّ واضع هذه الخرافة كان عديم العقل، مفرط الصفاقة، كثير الوقاحة، فإنّه أتى في تبيين هذا المرام بمضمون سخيف، وكلام متهافت صريح التشكيك، لانّه قال: (إنّ لله تعالى في كلّ جمعة مائة ألف عتيق من النار إلاّ رجلين، فإنّهما داخلان في اُمّتي وليسا منهم، وإنّ الله لا يعتقهما في من أعتق، هم من أهل الكبائر في طبقتهم مصفدين مع عبدة الاوثان: مبغض أبي بكر وعمر، وليس لهم نصيب في الاسلام، وإنّما هم يهود هذه الامّة، ثمّ قال رسول ا لله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا لعنة الله على مبغض أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ).
هذا والعجب! أنّ مثل هذا الباطل السخيف رواه إمامهم وقدوتهم أبو بكر بن
وقد فضح ابن الجوزي المبرّز على الاقران، في تفضيح أهل العدوان وأصحاب البهتان، فقال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات، في باب مجمع فضل أبي بكر وعمر من كتاب الفضائل والمثالب:
«الحديث الرابع: أخبرنا القزار، قال: حدثنا أحمد بن عليّ، قال: حدثنا الزهري، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، قال: حدّثنا مسرة عبد إبراهيم الخادم، قال: ثنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي سنة ثمان وستين ومائتين، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا عبد العزيز ابن صهيب، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ لله تعالى في كلّ جمعة مائة ألف عتيق من النار إلاّ رجلين، فإنّهما [ داخلان ](1) في اُمّتي وليسا منهم، وإنّ الله لا يعتقهما فيمن أعتق، هم مع أهل الكبائر في طبقتهم مصفدين مع عبدة الاوثان: مبغضي أبي بكر وعمر [ ليس هم داخلون في الاسلام، وإنّما هم يهود هذه الامة، ثمّ قال رسول الله: ألا لعنة الله على مبغض أبي بكر وعمر ](2) وعثمان وعليّ) قال أبو بكر الخطيب: هذا حديث كذب موضوع، والرّجال المذكورين في إسناده كلهم ثقات سوى مسرة والحمل عليه فيه، على أنّه قد ذكر سماعة من أبي زرعة بعد موته بأربع سنين»(3).
____________
(1) في المصدر [ يدخلان ].
(2) اثبتناه من المصدر.
(3) الموضوعات: 1 / 241، وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 13 / 270 (7228).
«مسرّة بن عبد الله الخادم، عن أبي زرعة، قال أبو بكر الخطيب: ليس ثقة ; قلت: من موضوعاته على أبي زرعة: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد، ثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس مرفوعاً: (في كلّ جمعة مائة ألف عتيق من النار إلاّ رجلين، مبغض أبي بكر وعمر...) الحديث رواه عنه أبو بكر بن شاذان»(1).
وقال السيوطي في اللالئ المصنوعة:
«الخطيب، أنا الازهري، ثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، ثنا مسرّة بن عبد الله الخادم مولى المتوكلّ، ثنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي سنة 268، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، ثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس مرفوعاً: (إنّ لله تعالى في كلّ ليلة جمعة مائة ألف عتيق من النار إلاّ رجلين فإنّهما يدخلان في اُمّتي وليسا منهم، وإنّ الله لا يعتقهما فيمن عتق، منهم أهل الكبائر في طبقتهم مصفدين مع عبدة الاوثان، مبغضي أبي بكر وعمر [ وليس هم داخلين في الاسلام وإنّما هم يهود هذه الامّة، ثمّ قال: ألا لعنة الله على مبغضي أبي بكر وعمر ](2) وعثمان وعليّ) قال الخطيب: موضوع كذب ورجاله ثقات أئمة إلاّ مسرّة، والحمل عليه على أنّه ذكر سماعة من أبي زرعة بعد موته بأربع سنين، قلت: في الميزان: هذا من
____________
(1) ميزان الاعتدال: 6 / 405 (8462).
(2) اثبتناه من المصدر.
وفي مختصر تنزيه الشريعة، في الفصل الاوّل في باب مناقب الخلفاء الاربعة من كتاب المناقب والمثالب:
«حديث: (إنّ لله تعالى في كلّ يوم جمعة ألف عتيق من النار إلاّ رجلين، فإنّهما يدخلان في اُمتي وليسا منهم، وإنّ الله لا يعتقهما فيمن عتق، منهم أهل الكبائر في طبقاتهم مصفدين مع عبدة الاوثان، مبغضي أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ) خط، وفيه مسرّة وهو آفته»(2).
وقال القاضي ابن الشوكاني في الفوائد المجموعة:
«حديث: (إنّ لله في كلّ ليلة جمعة مائة ألف عتيق من النار إلاّ رجلين، فإنّهما يدخلان في اُمتي وليسا منهم، وإنّ الله لا يعتقهما فيمن عتق، منهم أهل الكبائر في طبقتهم مصفدين مع عبدة الاوثان: مبغضي أبي بكر وعمر، وليس هم داخلين في الاسلام، وإنّما هم يهود هذه الامّة، ثمّ قال: ألا لعنة الله على مبغض أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ) رواه الخطيب عن أنس مرفوعاً، وقال: موضوع كذب ; وقال في الميزان: هذا من موضوعات مسرّة بن عبد الله الخادم»(3).
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 281.
(2) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 347.
(3) الفوائد المجموعة للشوكاني: 338.
الفصل الخامس
[ في أنّهما وزيرا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا والاخرة ]
ومن تكذيباتهم الشنيعة، الظاهرة بالنكارة، ما وصفوه على الشيخين أنّهما فازا بدرجة الوزارة، وقد وضعوا في ذلك عدّة أخبار، ولكنّها ممّا لا يستريب في كذبها النقّاد الاخيار.
فمنها ما ذكره ابن الجوزي، حيث قال في كتاب الموضوعات، في كتاب مجمع فضل أبي بكر وعمر من كتاب الفضائل والمثالب:
«الحديث الخامس: أنا أبو منصور بن خيرون، قال: أنا أبو محمّد الجوهري، عن أبي الحسن الدارقطني، عن أبي حاتم بن حيّان، قال: حدثنا أحمد بن موسى أنّ الفضل بن معدان قال: ثنا زكريا بن دريد، قال: ثنا حميد، عن أنس، قال: (آخى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بين كتفي أبي بكر وعمر، فقال لهما: أنتما وزرائي في الدنيا وأنتما وزيراي في الاخرة، ما مثلي ومثلكما في الجنّة إلاّ كمثل طائر في الجنّة، فأنا جؤجؤ الطائر وأنتما جناحاه، وأنا وأنتما نسرح في الجنّة، وأنا وأنتما نزور ربّ العالمين، وأنا وأنتما نقعد في مجالس الجنّة، فقالا له: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وفي الجنّة مجالس؟ فقال