الفصل السادس
[ في إستغفار الملائكة لمحبّهما ولعن من أبغضهما ]
ومن الكذبات التي شناعتها ظاهرة وحالها مهتوكة، والمفريات التي هي عند نقّاد الاثر مردودة متروكه، ما فتروه من (إنّ لله في السماء الدّنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله لمن أحبّ أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر).
وإنّ هذا لعمري، افتراء يستغفر منه، ويلعن على صاحبه ثمانين ألف مرّة وأزيد، ومن العجب! أنّ جمعاً من أكابرهم المغفلين، وأئمتهم اللّهجين بافتراآت الكذّابين، قد رووا مثل هذا الباطل وصدّقوه وآمنوا به إيماناً، ولم يهابوا من الله نيراناً وهواناً.
قال المحبّ الطبري في الرياض النضرة:
«ذكر إستغفار الملائكة لمحبيهما ولعن مبغضيهما: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ في السماء الدّنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله لمن أحبّ أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون
وقال صاحب الاكتفاء الوصابي:
«وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ في السماء الدّنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون لمن أحبّ أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر) أخرجه الامام محبّ الدين الطبري الشافعي في الرياض»(2).
وقد نصّ ابن الجوزي على وضع هذه الفرية وكذبها، وبالغ في توهين شأنها، وهدم أركانها، وإستئصال اُسسها، وقطع أصلها، وإبطال أمرها، وإيهان قدرها.
فقال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات، في باب مجمع فضل أبي بكر وعمر من كتاب الفضائل والمثالب، وهو الكتاب السابع من خمسين كتاباً:
«الحديث السادس: أخبرنا أبو الفتح محمّد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا أبو محمّد الحسن بن عبد الملك بن يوسف، [ قال: أنبأنا الحسن بن محمّد الخلال، قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم وأحمد بن عروة، قالا ](3) حدّثنا الحسن بن عليّ ; وأخبرنا أبو المنصور عبد الرحمن بن محمّد، قال: حدّثنا أحمد بن عليّ، قال: أخبرنا الازهري، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسن ابن عليّ العدوي ; وأخبرنا أبو المعمّر الانصاري، قال: أنبأنا جعفر بن أحمد
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 1 / 261 (250).
(2) الاكتفاء للوصابي: مخطوط.
(3) أثبتناه من المصدر.
[ قال المصنّف ]: قلت: أخبرنا بحديث عبد الرزاق المبارك بن عليّ الصوفي، قال: أخبرنا محمّد بن المختار بن المؤيّد، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا عمر بن محمّد السوسي، قال: حدّثنا حمزة بن عمر البزاز، قال: حدّثنا عبد الرزاق بن منصور بن أبان، قال: ثنا أبو عبد الله الزاهد، عن ابن لهيعة، عن سعيد بن أبي سعيد، فذكر مثل حديث كامل سواء.
وقد روي لنا بهذا الاسناد عن زيادة فيه ; أخبرنا عبد الرحمن بن محمّد، قال: أخبرنا أحمد بن عليّ، قال: حدّثني الحسن بن أبي طالب، قال: حدّثنا محمّد بن العباس الخزان، قال: حدّثنا أبو القاسم الحسن بن إدريس بن محمّد بن شاذان [ القافلاني ](1).
وأخبرنا عليّ بن عبيد الله، قال: وأخبرنا عليّ بن أحمد البسري، قال: ثنا أبو عبد الله بن بطة، قال: ثنا أبو عيسى موسى بن محمّد الفسطاطي، قال: حدّثنا
____________
(1) في المصدر [ القافلاوي ].
وقد صنع الحسن بن عليّ العدوي لهذا الحديث إسناداً آخر: أخبرنا عبد الرحمن بن محمّد، قال: أنبأنا، أحمد بن عليّ بن ثابت، قال: أنبأنا أحمد بن محمّد بن إسحاق المقري، قال: أنبأنا عمر بن إبراهيم بن كثير، قال: حدّثنا أبو سعيد العدوي، قال: حدّثنا طالوت بن عبّاد الجحدري، قال: ثنا الربيع بن مسلم القرشي، عن محمّد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ في السماء الدّنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله لمن أحبّ أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر) [ قال الخطيب ](2) وهذا الاسناد صحيح ورجاله كلّهم ثقات، وقد أتى العدوي أمراً عظيماً، وارتكب أمراً قبيحاً في الجرأة بوضع هذا أعظم جرأته في حديث ابن لهيعة، قال ابن عدي: كان العدوي يسرق الحديث ويضع الحديث، كنّا نتّهمه بل نتيقّنه أنّه هو يضع الحديث، وقال ابن حبّان: كان يروي عن شيوخ لم يرهم ويضع على من رأى، وقال الدارقطني: متروك»(3).
____________
(1) لا يوجد في المصدر، ولكن موجود في تاريخ بغداد.
(2) لا يوجد في المصدر.
(3) الموضوعات: 1 / 242، وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 7 / 392 (3910)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 3 / 195 (474)، والمجروحين لابن حبّان: 1 / 241، وسؤالات أبي عبد الرحمن السلمي للدارقطني: 54 (23).
وقد باح بالحقّ الحقيق القمين(1) بالايقاد ناقدهم الحاذق، وإمامهم البارع السابق أبو عبد الله الذّهبي أيضاً، حيث نقل هذا الكذب في ترجمة العدوي السفيه، ثمّ قال: هذا شيخ قليل الحياء ما يتفكّر فيما يرويه.
قال في الميزان:
«الحسن بن عليّ بن زكريا بن صالح أبو سعيد البصري العدوي الملقّب بالذئب، قال الدارقطني: متروك، وفرق بينه وبين سميّه العدوي، فأمّا ابن عدي فقال: الحسن بن عليّ بن صالح أبو سعيد العدوي البصري يضع الحديث، روى عن خراش عن أنس أربعة عشرة حديثاً، وحدث عن جماعة لا يدري من هم، وحدث عن الثقات بالبواطيل، وقال الخطيب: الحسن بن عليّ بن زكريا بن صالح العدوي البصري سكن بغداد، وحدّث عن عمرو بن مرزوق ومسدد، وعنه أبو بكر بن شاذان والدارقطني والكتاني، ولد سنة ستّ عشر ومائتين، وقال ابن عدي: حدّثنا الصباح بن عبد الله حدّثنا شعبة، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً (النظر الى وجه عليّ عبادة)، وحدّثنا لؤلؤ بن عبد الله، ثنا
____________
(1) القمين: بمعنى حريّ / لسان.
قال ابن عساكر في تاريخه: أنا أبو غالب، أنا أبو محمّد الجوهري، أنا أبو عليّ محمّد بن أحمد بن يحيى ثنا أبو سعيد العدوي، ثنا أبو الاشعث، ثنا الفضيل ابن عياض، عن ثور، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (كنت أنا وعليّ نوراً يسبّح الله ويقدّسه قبل أن يخلق الله آدم بأربعة آلاف عام...) وذكر الحديث.
وقال الخطيب: أخبرنا محمود بن عمر العكبري، أنا أبو طالب عبد بن محمّد، ثنا سعيد البصري، قال: مررت بالبصرة فإذا الناس مجتمعون في منخل طحان، فنظرت كما ينظر الغلمان فإذا بشيخ، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا خراش خادم أنس، له مائة وثمانون سنة، قال: فزحمت الناس ودخلت وهم يكتبون عنه، فأخذت قلماً من يد رجل وكتبت هذه الثلاثة عشرة حديثاً في فضل عليّ وذلك في سنة اثنين وعشرين ومائتين، وأنا ابن اثنتى عشرة سنة.
وروي بسند الصحاح: (إنّ يهوديّاً أتى أبا بكر فقال: والذي بعث موسى إنّى لاحبّك، فلم يرفع أبو بكر رأسه تهاوناً باليهودي، فهبط جبرئيل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: إنّ العلي الاعلى يقول لك: قل لليهودي إنّ الله قد أحاد عنك النار، فأحضر اليهودي فحدّثه فأسلم...) الحديث.
ابن عدي، ثنا الحسن، ثنا كامل بن طلحة ولؤلؤ، قالا: حدّثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً (ما أحسن الله خلق رجل وخلقه فيطعمه النار).
وحدّثنا وقال: ثنا كامل، حثا ابن لهيعة، ثنا المقبري، عن أبن هريرة
وقد رواه أبو حفص الكتاني ـ ثقة ـ عن العدوي، ثنا طالوا، ثنا الربيع بن مسلم، عن محمّد بن زياد، عن أبي هريرة مرفوعاً (إنّ في السماء ثمانين ألف ألف ملك يستغفرون لمن أحبّ أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ألف ملك يلعنون من أبغضهما).
قلت: هذا شيخ قليل الحياء، ما تفكّر فيما يفتريه، قال أبو أحمد الحاكم: فيه نظر، يقال: حبسه القاضي إسماعيل إنكاراً عليه، وقال ابن عدي: عامّه ما حدث به إلاّ قليل موضوعات، وكنّا نتّهمه بل نتيقّن أنّه هو الذي وضعها، وقال الدارقطني: ذاك متروك، وقال حمزة السهمي: سمعت أبامحمّد الحسن بن عليّ المصري يقول: أبو سعيد العدوي كذّاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول عليه مالم يقل، وزعم لنا أنّ خراشاً حدّثه عن ابن عون بنسخة.
قال ابن عدي: وحدّثنا العدوى، ثنا محمّد بن صدقة، ثنا موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه، عن أبيه، عن الحسين مرفوعاً (ليلة أسري سقط الى الارض من عرقي فنبت منه الورد) ; وثنا العدوي، ثنا خراش سنة اثنين وعشرين ومأتين، ثنا مولاي أنس مرفوعاً (من تأمّل خلق امرأة وهو صائم فقد أفطر) ; العدوي عن رجل، عن شعبة، عن توبة العنبري، عن أنس مرفوعاً (عليكم بالوجوه الملاح والحدق السود، فإنّ الله يستحي أن يعذّب وجهاً مليحاً).
وذكره ابن حبّان فهرّته، وقال روى عن أحمد بن عبدة، عن ابن عيينة، عن
أقول: قد ثبت من هذه العبارة المفضحة لاهل الفرية والخسارة، إنّ حديث إستغفار الملائكة للشيخين ولعنهم على الباغضين والرافضين مرفوض مبغوض، وكذب صريح، وبنيان مرضوض، وإنّ واضعه قليل الحياء غير مبال من الاتسام بوصمة الافتراء، لا يتفكر ولا يتأمّل، ويستسهل عباء الكذب ويتحمّل.
ثمّ إنّ هذا الكذب قد رواه عبيد الله بن عبد الرحمن العصب أيضاً، وقد عصبه لشعبة فلا شعب الله صدعه ولا رتق فتقه، وقد صرّح الذّهبي في ترجمته أيضاً ببطلان هذا الخبر، حيث قال في الميزان:
«عبيد الله بن عبد الرحمن صاحب القصب، قرأت بخطّ الحافظ أبي عبد الله بن منده اسمه وقال: منكر الحديث ; أنا بكر بن عبد الرحمن، ثنا عبد العزيز بن معاوية، ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبيد الله بن عبد الرحمن صاحب القصب، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ لله في سماء الدّنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون لمحبّي أبي بكر وعمر...) الحديث، قلت: هذا بهذا الاسناد باطل»(2).
أقول: وقد ذكر السيوطي في اللالئ المصنوعة لهذا الحديث بعد جرحه وقدحه وطعنه على حذو ما ذكر ابن الجوزي طرقاً، وكأنّه رام إثباته وتقويته!، حيث قال:
____________
(1) ميزان الاعتدال: 2 / 257 (1907).
(2) ميزان الاعتدال: 5 / 17 (5385).
ابن شاهين في السنة، ثنا جعفر بن عبد الله بن جعفر بن مجاشع الجعلي، ثنا عبد الرزاق بن منصور، ثنا أبو عبد الله محمّد بن عبد الله السمرقندي الزاهد، ثنا أبو لهيعة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، مرفوعاً: (إنّ في السماء الدّنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون لمن أحبّ أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر، ومن
____________
(1) اثبتناه من المصدر.
وقال ابن عساكر: أنا أبو عليّ أحمد بن سعد العجلي الهمداني البديع، أنا أبو الفضل محمّد بن عثمان بن أحمد بن محمّد بن عليّ بن مرد بن القومساني، أنا أبو عبد الله الحسين بن المظفر بن الحسين بن جعفر بهمدان، أنا عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد بدمشق، ثنا عليّ بن محمّد الخراساني، ثنا عبد الله بن عبد السلام، ثنا الحسن بن عبد الصمد بن مسلم بن إبراهيم، عن الحسن بن أبي جعفر، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لمّا عرج بي الى السماء رأيت في السماء السابعة ثمانين ألفاً من الملائكة على خيل الياقوت يستغفرون الله عزّ وجلّ لابي بكر وعمر، ثمّ عرج بيّ إلى السماء الخامسة فرأيت سبعين ألفاً من الملائكة على خيل الياقوت يستغفرون الله لمن يستغفر لابي بكر وعمر).
وقال الخطيب: في رواة مالك، أنا عبد الغفار بن محمّد بن جعفر المؤدب، أنا أبو الفتح محمّد بن الحسين الازدي، حدّثني عبد الله بن عمر بن الامدي، ثنا سهل بن صغير، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة مرفوعاً: (إنّ لله تعالى في السماء سبعين ألف ملك يلعنون من شتم أبا بكر وعمر) قال الخطيب: سهل بن صقير يضع الحديث، والله أعلم»(1).
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 281، وانظر فردوس الاخبار للديلمي: 3 / 186 (4370)، ذكر أخبار اصبهان لابي نعيم الاصبهاني: 2 / 101 (1217)، شرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين: 238 (154).
أمّا رواية الديلمي هذه: فلا يخفى [ أنّ ] في إسناده الحسن بن عليّ بن زكريا وهو الذي وضعها بنقل الخطيب والذّهبي واقرار ابن الجوزي، فلا فائدة من ذكره إلاّ تفضيح الديلمي، حيث ركن إلى مثل هذا الباطل الذي رواه في هذا الكتاب المدحور.
وأمّا رواية أبي نعيم لهذا الافتراء والزور في الصحابة: فلا يخفى على اُولي النقد والفراسة أنّه غير صالح للالتفات، فإنّه رواه عن محمّد بن إسحاق الاهوازي وقد قدحوا فيه.
قال في الميزان:
«محمّد بن إسحاق بن دار الاهوازي، حدث عنه أبو عليّ الاهوازي، مقريء دمشق، قال أبو بكر الخطيب: غير ثقة»(1).
ثمّ إنّ طالوت هذا إن كان بن عباد الصيرفي، فقد صرّح ابن الجوزي بأنّ علماء النقل ضعّفوه كما ذكر الذّهبي في الميزان، حيث قال:
«طالوت بن عباد الصيرفي، صاحب تلك النسخة العالية، شيخ معمر ليس به بأس، قال أبو حاتم: صدوق، وأمّا ابن الجوزي فقال من غير تثبت: ضعّفه
____________
(1) ميزان الاعتدال: 6 / 56 (7215).
أقول: عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود في نفس الامر، فكم من مفتش غرب عنه ماهو ثابت قطعاً متحقّق جزماً، ويكفي لنا شهادة ابن الجوزي ووثوقه، وعلوّ شأنه غير خاف عندهم.
أمّا ماذكره عن ابن شاهين: فقد نقل السيوطي نفسه إبطاله ورده عن الذّهبي عمدة الناقدين، فإنّه صرّح بأنّ محمّد بن عبد الله السمرقندي قد روى خبراً موضوعاً عن ابن لهيعة وهو آفته ـ يعني واضعه ـ وإسناد أبي نعيم أيضاً هو هذا الاسناد، فلا حاجة الى تبيين سقوطه عن الاعتماد!.
وأصل عبارة الذّهبي في الميزان هكذا:
«محمّد بن عبد الله أبو عبد الرحمن السمرقندي، عن ابن لهيعة بخبر موضوع هو آفته»(2).
وأمّا ما نقل عن ابن عساكر: ففيه الحسن بن أبي جعفر الراوي، عن ثابت البناني، وقد جرحه الائمة الكبار ونقّاد الاثار، فالفلاس مع إعترافه بأنّه صدوق قال: إنّه منكر الحديث، وقال ابن المديني: ضعيف، ضعّفه أحمد بن حنبل والنسائي، وقال البخاري: إنّه منكر الحديث، فلا يحلّ رواية حديثه كما سبق غيره، وقال ابن معين: ليس بشيء، وابن حبّان أيضاً مع إعترافه بعبادته واجابة دعوته صرّح بأنّه غفل عن صناعة الحديث فلا يحتج به.
____________
(1) ميزان الاعتدال: 3 / 457 (3980)، وانظر الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي: 3 / 62 (1724).
(2) ميزان الاعتدال: 6 / 212 (7789).
«الحسن بن أبي جعفر الجعفري بصري معروف، عن نافع وثابت البناني والناس، وعنه عبد الرحمن بن مهدي والحوضي وموسى بن إسماعيل ; قال الفلاس: صدوق منكر الحديث، وقال ابن المديني: ضعيف، وضعّفه أحمد والنسائي، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال مسلم بن إبراهيم: كا ن من خيار الناس (رحمه الله) قيل مات مع حمّاد بن سلمة، وقال ابن معين: ليس بشيء، وهو الحسن ابن عجلان، وذكره ابن عدي فأورد له جملة من أبي الزبير وغيره، فمن ذلك: عمرو بن سفيان، ثنا الحسن بن جعفر، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن أنس أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (نحن خيرٌ من أبنائنا، وأبناؤنا خير من أبنائهم، وأبناء أبنائنا خيرٌ من أبنائهم).
مسلم بن إبراهيم، حدّثنا الحسن بن أبي جعفر، ثنا ابن جدعان، عن سعيد ابن المسيّب، عن أبي ذر (رضي الله عنه) عنه مرفوعاً (مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا ومن تخلّف عنها غرق ومن قاتلنا ـ وفي لفظ قاتلهم ـ فكأنّما قاتل مع الدجّال).
ومن بلاياه، عن ثابت، عن أنس مرفوعاً (من قرأ (قل هو الله أحّد)مائتي مرّة غفرت له ذنوبه مائتي سنة) سمعه منه مسلم بن إبراهيم.
بقيّة ثنا عمر بن المغيرة، عن الحسن بن أبي جعفر، عن أيّوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يبوح أنّه على إيمان جبرئيل وميكائيل) تابعه حمّاد الابحّ عن أيّوب، قال ابن عدي ; وهو عندي ممّن لا يتعمّد الكذب.
عباد بن العوام، عن الحسن بن أبي جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر: (نهى
ثمّ إنّ ثابت بن أسلم البناني الراوي، عن أنس ممّن ذكره ابن عدي في كامله، الموضوع لذكر الضعفاء والمجروحين.
قال الذّهبي في الميزان:
«ثابت بن أسلم البناني ثقة بلا مدافعة كبير القدر، تناكر ابن عدي بذكره في الكامل»(2).
وبالجملة: قد إنجلى ممّا ذكرنا، إنّ لما ذكره السيوطي هناك من طريق هذا الخبر لا يدلّ على ثبوته على طريقتهم وشرعتهم أيضاً، فإنّها بقضها وقضيضها مقدوحة مجروحة مطروحة، فلا ريبة في ثواب حكم ابن الجوزي بوضع هذا الحديث، ومن هناك أنصف القاضي ابن الشوكاني فردّ على السيوطي فيما ذكره من رواية الديلمي وأبي نعيم لهذا الحديث، وقال: إنّه لا يفيد شيئاً، ونقل هذا الحديث وعدّ هذا الخبر من الموضوعات ونقل وضعه عن الخطيب.
قال في الفوائد المجموعة:
«حديث: (إنّ في السماء الدّنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله لمن أحبّ أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون
____________
(1) ميزان الاعتدال: 2 / 228 (1829)، وانظر الضعفاء والمتروكين للنسائي: 88 (157)، التاريخ الكبير للبخاري: 2 / 288 (2500)، المجروحين لابن حبّان: 1 / 226، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 3 / 29 (118) تهذيب التهذيب للعسقلاني: 1 / 529 (1444).
(2) ميزان الاعتدال: 2 / 81 (1356)، وانظر الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 2/306 (318).
وذكر صاحب اللالئ: إنّه رواه الديلمي وأبو نعيم من طريقه، وهذا لا يفيد شيئاً، ورواه ابن شاهين من طريق أخرى فيها محمّد بن عبد الله السمرقندي، وهو وضاع»(1). إنتهى.
وقد حكم الشيخ في مختصر تنزيه الشريعة أيضاً بوضع هذا الحديث، فأورده في الفصل الاوّل ـ يعني جعله ممّا حكم ابن الجوزي بوضعه ولم يخالف ـ فكأنّه لم يعبأ بما ذكره السيوطي في صورة التعقب، وحسبه كأنّه لم يكن شيئاً مذكوراً.
قال في مختصر تنزيه الشريعة، في الفصل الاوّل من باب مناقب الخلفاء:
«حديث: (إنّ في السماء الدّنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله لمن أحبّ أبا بكر وعمر، وفي [ السماء ] الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر) خط من حديث أبي هريرة، وقال: وضعه أبو سعيد العدوي»(2).
____________
(1) الفوائد المجموعة للشوكاني: 338.
(2) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 348.
الفصل السابع
[ في أنّهما والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلقوا من تربة واحدة ]
ومن فضيح الكذب، وصريح الاختلاق، الذي دلائل العقل والنقل على بطلانه شاهدة، ما افتعلوه من أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والشيخين قد خلقوا من تربة واحدة، ولا يخفى نكارته وشناعته على من خلق وجبل على الدين والايقان، وكانت طينته وتربته من طينة الايمان، ولكنّهم لما استولى عليهم الشيطان، وإستحوذ عليهم العدوان، اغمضوا عيونهم من قبيح هذا البهتان، ولم يكترثوا بما فيه من الفضيحة الجالبة للهوان، فصدّقوه وصولوه بالاجهار والاعلان.
قال اليمني الوصابي في كتاب الاكتفاء، في كتاب أحاديث الغرر في فضل الشيخين أبي بكر وعمر:
«عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من مولود إلاّ وفي سرّته من تربة التي خلق منها حتى يدفن فيها، وأنا وأبو بكر وعمر خلقنا من تربة واحدة وفيها ندفن) أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق، وسيأتي زيادة كذا زيادة على هذا في الاربعة من إخبار جبرئيل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف كان بداء
أقول ـ وبالله الاستعانة ـ: إنّ هذا الخبر من أفضح الكذب وأشوه الفرية، فإنّ أبا بكر وعمر قد سبق عليهما الكفر وعبدا الاصنام، وأشركا بالواحد المنعام، وتلوثا بأدناس الجاهليّة، وتدنسا بأوضاع أنواع المعصية، وكانت الاصنام بينهما منصوبة، والاثام بهما معصوبة، والحقوق بعدوانهما مغصوبة، فكيف يجوز مع ذلك أن يكونا خلقا من طينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!.
مع العلم أنّهم لم يرتضوا بأفضليّة عليّ (عليه السلام) من حديث (إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وعلي خلقا من نور واحد)، وقالوا: إنّ دلالة حديث خلق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلياً من نور واحد على قرب النسب!، كما يظهر من كلام صاحب التحفة، حيث قال بعد قدح حديث النور:
«[ وبعد اللتيّا والتي لا يدلّ على المدعى، لانّ إشتراك أمير المؤمنين بالنور النبوي لا يستلزم وجوب الامامة بلا فصل، ولابدّ من بيان الملازمة بوجه لا يشوبه غبار الشك ودونه خرط القتاد.
لا كلام لنا في قرب أمير المؤمنين بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نسباً، ولكن الكلام أنّ هذا القرب هل يوجب الامامة بلا فصل أوْ لا؟، ولو كان مجرد القرب للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)يوجب إستحقاق الامامة لكان العبّاس أولى، لكونه عمّه وصنو أبيه، والعمّ أقرب من ابن العم عرفاً وشرعاً ]»(2).
____________
(1) الاكتفاء للوصابي: مخطوط، لم نجده في النسخة الموجودة عندنا من كتاب المتفق والمفترق، وكذا في تاريخ بغداد للخطيب: 3 / 115 (1114)، 13 / 42 (6998).
(2) تحفة اثنا عشريّة للدهلوي الباب السابع: 433، وفيه:
«وبعد اللتيا والتي دلالت بر مدعا ندارد، زيرا كه شركت حضرت أمير در نور نبوى مستلزم وجوب امامت او بلا فصل نميشود ملازمت درين هر دو امر بيان بايد كرد بوجهى كه غبار منع بران ننشيند ودونه خرط القتاد در قرب نسب حضرت أمير به انجاب بحثى نيست، اما كلام درين أست كه اين قرب موجب امامت بلا فصل است يا نه واگر مجرد قرب نسب موجب تقدم در امامت ميشد حضرت عباس أولى نمى بود بامامت وخلافت لكونه عمّه وصنو أبيه والعمّ أقرب من ابن العم عرفاً وشرعاً».
ثمّ إنّه إذا لم يكن مفاد إتحاد الاصل غير قرب النسب، كما يدلّ عليه كلام صاحب التحفة صريحاً، فلا أدري! لما جعلوا هذا الخبر ـ أعني إتّحاد طينة الشيخين بطينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في غاية الفضيلة ونهاية الشرافة، حتى قالوا: إنّهم لا يعلمون للشيخين فضيلة أفضل من هذه الفضيلة.
قال السيوطي في النكت البديعات، بعد ذكر هذا الحديث:
«قال أبو عاصم: ما نعلم فضيلة لابي بكر وعمر مثل هذا الحديث، لانّ طينتهما من طينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه دفنا»(1).
وقال في الرياض النضرة:
«ذكر أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأباهماـ يعني الشيخين ـ خلقوا من تربة واحدة: عن سوار ابن عبد الله بن سوّار: (إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بقبر يحفر، فقال: قبر من هذا؟ قالوا: قبر فلان الحبشي، قال: سبحان الله! سيق من أرضه وسمائه إلى
____________
(1) النكت البديعات للسيوطي: 978 (297)، وفيه «ما نعلم فضيلة أمثل من هذا الحديث...».
أقول: لا شك عند التأمّل الصادق، والتدبّر الصائب، إنّ اتّحاد أحد في الاصل والطينة من أعظم فضيلة وأشرف منقبة وأسنى مدحة لا يدانيها فضل ولا شرف، ولكن غرضي إبداء تعصّب هؤلاء أنّهم إذ روى واضعاً أنّ الشيخين خلقوا من طينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إبتهجوا بذلك، وتماروا ومدو النفس وإستطاروا بزور وجور، وقالوا: إنّ هذه فضيلة لا نعلم فضيلة أفضل منها للشيخين ما وضعوا لهما من الفضائل العظيمة والمكارم الجليلة، التي حارت فيها طامحات العقول، وقصرت عنها أفكار الفحول، فجعلوا هذه الفضيلة أعظم الفضائل وأشرف الوسائل الى القرب والزلفى!.
وإذا وجدوا حديثاً صحيحاً وخبراً صادقاً، رواه رجال الطرفين ومحدّثوا الفريقين، يشتمل على أنّ عليّاً (عليه السلام) خلق من نور رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2)، غضبوا من ذلك وانتقصوه، ورموه إلى أسفل المراتب وأوهن المدارج، وقالوا: لا يدلّ إلاّ على قرب النسب، فجعلوا ذلك كأنّه لا شرف فيه ولا فضيلة، فإنّ قرب النسب أمر يتشارك فيها جميع قرابة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس لذلك نسبة لادنى مراتب الشيخين
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 1 / 312 (160).
(2) ورد هذا الحديث عن سلمان وأنس وابن عباس وأبي ذر وجابر وعليّ (عليه السلام)، انظر مناقب الامام عليّ لابن المغازلي: 120 (130 ـ 133)، ومناقب العشرة للنقشبندي: في ترجمة الامام عليّ: 120، ومودة القربى للهمداني: المودة الثامنة، ومناقب سيّدنا علي للعيني: 34 (211)، وأرجح المطالب للامرتسري 462، 461، 458، وانتهاء الاحكام لمولوي سيّد محمّد الحسيني 224، وآل محمّد حسام الدين المردي 338، وغيرهم.
وبالجملة: هذه الفضيلة التي هي في الواقع أفضل المناقب وأسنى المعاني، وقد ظهر غاية شرفها وكونها لا يعلم فضيلة أفضل منها من نصّ السنّيّة، لا شك في كونها موضوعة كما بينّا بالدليل العقلي، ومع ذلك فقد حكم بوضعها وبطلانها ناقدهم النحرير الذي لا يشقّ غباره ولا تقابل آثاره ـ أعني ابن الجوزي ـ قد دمّر عليها، وعفى أثرها، وطمس بنيانها، وأزهق وحسم أصلها وفرعها، وبيّن كذّبها ووضعها.
قال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات، في كتاب مجمع فضائل أبي بكر وعمر من كتاب الفضائل والمثالب:
«الحديث الثامن: ثنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا ابن محمّد، قال: أخبرنا حمزة بن يوسف، قال: أخبرنا ابن عديّ، قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن عليّ التنيسي، قال: حدّثني عبد الله بن محمّد بن هارون، قال: حدّثنا إبراهيم بن عبيد التمار، عن يعقوب بن الجهم، قال: حدّثنا محمّد بن واقد، عن المسعودي، عن عمر مولى عفرة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من إفترى على الله كذباً قتل ولا يستتاب، [ ومن سبني قتل ولا يستتاب ](1) ومن سبّ أبا بكر قتل ولا يستتاب، ومن سبّ عمر قتل ولا يستتاب، ومن سبّ عثمان جلد الحدّ، ومن سبّ علياً جلد الحدّ، قيل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم فرّقت بين أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ؟ قال: لانّ الله خلقني وخلق أبا بكر وعمر من تربة واحدة وفيها ندفن) قال ابن عدي الباقلاني: هذا من يعقوب، وذكر عن مشايخه تضعيفه.
____________
(1) اثبتناه من المصدر.
والعجب! من واضع الحديث، وصانع هذا الكلام الحنيث، إنّه روى أولاً مذمّة الافتراء الشنيع، ولكن لا غرو فانّ هذا من مكائد الواضعين وحبائلهم، إنّهم إذا أرادوا تحديث كلام كاذب، ذموا أولاً الكذب تمهيداً لاكاذيبهم، وتسديداً وتوطيداً لاباطيلهم، حتى تقبلها الطباع ولا يمجها الاسماع.
ثمّ الاعجب!! أنّه نقل في هذا الافتراء أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّ سابّ الشيخين يقتل وسابّ الثالث وعليّ (عليه السلام) لا يقتل ولا يجلد) مع أنّ هذا ممّا لا وجه له، والغرض الاصلي من أمثال هذه الاكاذيب هو حطّ شأن عليّ (عليه السلام) وخفض مرتبه، ولكنّهم أشركوا معه (عليه السلام) عثمان أيضاً حتى لا يكونوا عند القاصرين متّهمين، فيكون لهم عذراً إذا اعترضهم معترض، بأن يقولوا لم نخص هذا
____________
(1) الموضوعات: 1 / 244، وانظر الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 8 / 474 (2060)، وفيه بعد ذكر الحديث: وهذا البلاء من يعقوب بن الجهم، والحديث غير محفوظ ولا يعرف من حديث المسعودي ولامن حديث عمر مولى عفرة.