قالوا: وما الصلاة البتراء يا رسول الله؟
قال: أن تقولوا اللّهم صلّ على محمّد وتصمتوا، وأنّ الله كامل ولا يقبل إلاّ الكامل(1)، ولكل ذلك عرف الصحابة ومن بعدهم التابعون أمر رسول الله فكانوا يصلّون عليه الصلاة الكاملة، حتّى قال الإمام الشافعي في حقّهم:
يا آل بيت رَسولِ الله حُبكُمُ | فَرضُ مَن اللهِ فِي القُرآنِ أَنزلَهُ |
كَفاكُم مَن عَظيمِ الشأن أنّكُمُ | مَن لَم يُصلّ عَليكم لاَ صَلاة لَهُ(2) |
كان كلامه يطرق سمعي وينفذ إلى قلبي، ويجد في نفسي صدىً إيجابياً، وبالفعل فقد سبق لي أن قرأت مثل هذا في بعض الكتب، ولكن لا أذكر في أيّ كتاب بالضبط، واعترفت له بأنّنا عندما نصلّي على النبي نصلّي على آله وصحبه أجمعين، ولكن لا نفرد عليّاً بالسّلام كما يقول الشيعة.
قال: فما رأيك في البخاري، أهو من الشيعة؟
قلت: إمام جليل من أئمة أهل السنة والجماعة، وكتابه أصح الكتب بعد
____________
1- قوله (صلى الله عليه وآله): "لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء" ورد مرسلا في عدّة مصادر وبألفاظ مختلفة، انظر: الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي 2: 430، باب 11 في الآيات الواردة فيهم الآية الثانية، ينابيع المودة للقندوزي 1: 37، 2: 434، رشفة الصادي للحضرمي: 68، القول البديع للسخاوي: 45 الباب الأول وقال: "أخرجه أبو سعيد في شرف المصطفى" جواهر العقدين للسمهودي 2: 49، الغدير للأميني 2: 426. 2- نظم درر السمطين: 18، سبل الهدى والرشاد 11: 11، ينابيع المودة للقندوزي 2: 434، النصائح الكافية: 224.
كتاب الله.
عند ذلك قام وأخرج من مكتبته صحيح البخاري وفتحه وبحث عن الصفحة التي يريدها، وأعطاني لأقرأ فيه: حدثنا فلان عن فلان عن علي (عليه السلام)"، ولم أصدّق عينيّ واستغربت حتّى أنني شككت أن يكون ذلك هو صحيح البخاري، واضطربت وأعدت النظر في الصفحة وفي الغلاف، ولما أحسّ صديقي بشكّي أخذ منّي الكتاب وأُخرج لي صفحة أخرى فيها: "حدثنا علي ابن الحسين (عليهما السلام)" فما كان جوابي بعدها إلاّ أن قلت: سبحان الله! واقتنع منّي بهذا الجواب وتركني وخرج.
وبقيت أفكّر وأراجع قراءة تلك الصفحات وأتثبّت في طبعة الكتاب، فوجدتها من طبع ونشر شركة الحلبي وأولاده بمصر.
يا إلهي! لماذا أكابر وأعاند وقد أعطاني حجّة ملموسة من أصحّ الكتب عندنا، والبخاري ليس شيعيا قطعاً، وهو من أئمة أهل السنّة ومحدّثيهم، أأسلم لهم بهذه الحقيقة وهي قولهم علي (عليه السلام)، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلّها تتبعها حقائق أخرى لا أحبّ الاعتراف بها؟!
وقد انهزمت أمام صديقي مرّتين، فقد تنازلت عن قداسة عبد القادر الجيلاني، وسلّمت بأنّ موسى الكاظم أولى منه، وسلّمت أيضاً بأنّ علّياً (عليه السلام)هو أهل لذلك، ولكنّي لا أُريد هزيمة أُخرى، وأنا الذي كنت منذ أيّام قلائل عالماً في مصر، أفخر بنفسي ويمجّدني علماء الأزهر الشريف، أجد نفسي اليوم مهزوماً مغلوباً ومع من؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنّهم على خطأ، فقد تعوّدت على أنّ كلمة (شيعة) هي مسبّة.
إنّه الكبرياء وحب الذات..
إنّها الأنانيّة واللجاج والعصبيّة..
إلهي ألهمني رشدي، وأعنّي على تقبّل الحقيقة ولو كانت مرّة..
اللّهم افتح بصري وبصيرتي، واهدني إلى صراطك المستقيم، واجعلني من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه..
اللّهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
رجع بي صديقي إلى البيت وأنا أردّد هذه الدعوات، فقال مبتسماً: هدانا الله وإيّاكم وجميع المسلمين، وقد قال في محكم كتابه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(1). والجهاد في هذه الآية يحمل معنى البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة، والله سبحانه يهدي إلى الحقّ كلّ من بحث عن الحقّ.
____________
1- سورة العنكبوت: 69.
السفر إلى النجف
أعلمني صديقي ذات ليلة بأنّنا سنسافر غداً إن شاء الله إلى النجف، وسألته وما النجف؟
قال: إنّها مدينة علميّة فيها مرقد الإمام عليّ بن أبي طالب، فتعجبت كيف يكون للإمام عليّ قبر معروف; لأنّ شيوخنا يقولون إنّه لا وجود لقبر معروف لسيدنا عليّ.
وسافرنا في سيّارة عمومية حتّى وصلنا إلى الكوفة، وهناك نزلنا لزيارة جامع الكوفة، وهو من الآثار الإسلامية الخالدة، وكان صديقي يريني الأماكن الأثرية ويزوّرني جامع مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، ويحكي لي بإيجاز كيف استشهدا، كما أدخلني المحراب الذي استشهد فيه الإمام علي، وبعدها زرنا البيت الذي كان يسكنه الإمام مع ابنيه سيدنا الحسن وسيدنا الحسين، وفي البيت البئر التي كانوا يشربون منها ويتوضّؤون بمائها، وعشت لحظات روحيّة نسيت خلالها الدنيا وما فيها لأسبح في زهد الإمام وبساطة عيشه، وهو أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الرّاشدين.
ولا يفوتني أن أذكر الحفاوة والتواضع اللذين شاهدتهما هناك في الكوفة، فما مررنا بمجموعة إلاّ وقاموا إلينا وسلّموا علينا، وكأنّ صديقي يعرف الكثير منهم، ودعانا أحدهم ـ وهو مدير المعهد بالكوفة ـ إلى بيته حيث التقينا بأولاده، وبتنا عندهم ليلة سعيدة، وشعرت وكأني بين أهلي وعشيرتي، وكانوا إذا تكلموا عن أهل السنّة والجماعة يقولون: "إخواننا من السنّة"، فأنست بحديثهم وسألتهم بعض الأسئلة الاختباريّة لاتيقّن من صدق كلامهم.
تحوّلنا إلى النجف ـ وهي تبعد عن الكوفة حوالي عشرة كيلومترات ـ وما أن وصلنا حتّى تذكرت مسجد الكاظمية في بغداد، فبدت المآذن الذهبيّة تحيط بقبة من الذهب الخالص، ودخلنا إلى حرم الإمام بعد قراءة الإذن بالدخول، كما هي عادة الزوّار من الشيعة، ورأيت هنا أعجب ممّا رأيت هناك في جامع موسى الكاظم، وكالعادة وقفت أقرأ الفاتحة، وأنا أشكّ في أنّ هذا القبر يحوي جثمان الإمام عليّ.
وكأني اقتنعت ببساطة ذلك البيت الذي كان يسكنه في الكوفة، وقلت في نفسي: حاشى للإمام علي أن يرضى بهذه الزخرفة من الذهب والفضّة، بينما يموت المسلمون جوعاً في شتّى بقاع الدنيا، وخصوصاً لمّا رأيت فقراء في الطريق يمدّون أيديهم للمارة طلباً للصدقة، فكان لسان حالي يقول: أيّها الشيعة أنتم مخطئون، اعترفوا على الأقل بهذا الخطأ، فالإمام علي هو الذي بعثه رسول الله لتسوية القبور، فما لهذه القبور المشيّدة بالذهب والفضة!! إنّها وإن لم تكن شركاً بالله فهي على الأقل خطأ فادح لا يغفره الإسلام.
وسألني صديقي وهو يمدّ إلي قطعة من الطين اليابس: هل أريد أن أصلّي، وأجبته في حدّة: نحن لا نصلي حول القبور! قال: إذاً انتظرني قليلا حتّى أصلّي ركعتين.
وفي انتظاره كنت أقرأ اللوحة المعلقة على الضريح، وأنظر إلى داخله من خلال القضبان الذهبية المنقوشة، وإذا به مليء بالأوراق النقدية من كُلّ الألوان من الدرهم والريال إلى الدينار والليرة، وكُلّها يلقيها الزوار تبرّكاً للمساهمة في المشاريع الخيرية التابعة للمقام، وظننت لكثرتها أنّ لها شهوراً، ولكنّ صديقي أعلمني فيما بعد أنّ المسؤولين عن تنظيف المقام يأخذون كلّ ذلك في كُلّ ليلة بعد صلاة العشاء.
خرجت وراءه مدهوشاً، وكأنّني تمنّيت أن يعطوني منها نصيباً، أو يوزّعوها على الفقراء والمساكين وما أكثرهم هناك. كنت ألتفت في كلّ اتجاه داخل السور الكبير المحيط بالمقام حيث يصلّي جماعات من الناس هنا وهناك، وينصت آخرون إلى بعض الخطباء الذين اعتلوا منبراً، وكأنّي سمعت نواح بعضهم في صوت متهدّج.
ورأيت جموعاً من الناس يبكون ويلطمون على صدورهم، وأردت أن أسال صديقي: ما بال هؤلاء يبكون ويلطمون؟ ومرّت بقربنا جنازة وشاهدت بعضهم يرفع الرّخام في وسط الصحن وينزل الميّت هناك، فظننت أن بكاء هؤلاء لأجل الميّت العزيز عليهم.
لقاء العلماء
أدخلني صديقي إلى مسجد في جانب الحرم مفروش كُلّه بالسجّاد، وفي محرابه آيات قرآنية منقوشة بخط جميل، ولفت انتباهي مجموعة من الصبيان المعمّمين جالسين قرب المحراب يتدارسون وكُلّ واحد في يده كتاب، فأعجبت لهذا المنظر الجميل ولم يسبق لي أن رأيت شيوخاً بهذا السنّ أعمارهم تتراوح ما بين الثالثة عشر والسادسة عشر وقد زادهم جمالا ذلك الزي فأصبحوا كالأقمار.
سألهم صديقي عن "السيّد" وأخبروه بأنّه يصلّي بالناس جماعة، ولم أفهم من هو السيّد الذي سألهم عنه، غير أنّني توقعت أنّه أحد العلماء. وعرفت فيما بعد أنّه السيّد الخوئي زعيم الحوزة العلمية للطائفة الشيعيّة، مع العلم بأنّ لقب "السيّد" عند الشيعة هو لقب لكُلّ منحدر عن سلالة النبي (صلى الله عليه وآله)، ويرتدي "السيّد" العالم أو طالب العلوم الدينية عمامة سوداء، وأما العلماء الآخرون فيرتدون عمامة بيضاء ويلقبون بـ "الشيخ"، وهناك نوع من الأشراف الذين ليسوا بعلماء فلهم عمامة خضراء.
طلب إليهم صديقي أن أجلس معهم ريثما يذهب للقاء "السيّد"، ورحّبوا بي وأحاطوني بنصف دائرة، وأنا أنظر في وجوههم وأستشعر براءتهم ونقاوة سريرتهم، وأستحضر في ذهني حديث النبي (صلى الله عليه وآله) حيث قال: "يولد المرء على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه"(1)، وقلت في نفسي: أو يشيّعانه.
سألوني من أيّ البلاد أنا؟
____________
1- صحيح مسلم 8: 52، كتاب القدر، باب معنى كلّ مولود يولد على الفطرة.
قلت: من تونس،
قالوا: هل يوجد عندكم حوزات علمية؟
أجبتهم: عندنا جامعات ومدارس، وأنهالت علي الأسئلة من كُلّ جانب، وكُلّها أسئلة مركّزة ومحرجة، فماذا أقول لهؤلاء الأبرياء الذين يعتقدون أنّ في العالم الإسلامي كُلّه حوزات علمية تدرّس الفقه وأصول الدين والشريعة والتفسير، وما يدرون أنّ في عالمنا الإسلامي وفي بلداننا التي تقدّمت وتطوّرت، أبدلنا المدارس القرآنية بروضات للأطفال يشرف عليها راهبات نصرانيات، فهل أقول لهم إنّهم ما زالوا "متخلّفين" بالنسبة إلينا؟
وسألني أحدهم: ما هو المذهب المتبع في تونس؟
قلت: المذهب المالكي، ولاحظت بعضهم يضحك، فلم أهتمّ لذلك،
قال: ألا تعرفون المذهب الجعفري؟
فقلت: خير إن شاء الله، ما هذا الاسم الجديد؟ لا، نحن لا نعرف غير المذاهب الأربعة، وما عداها فليس من الإسلام في شيء(1).
____________
1- لا يجوز أبناء السنة أتباع غير المذاهب الأربعة، ويرونها هي الممثلة للإسلام وغيرها باطل لا يعتمد عليه وهذه جملة من أقوالهم: 1 ـ قال المناوي في فيض القدير 1: 272: "لا يجوز تقليد الصحابة وكذا تقليد التابعين غير الأربعة في القضاء والافتاء; لأنّ المذاهب الأربعة انتشرت وتحررت حتّى ظهر تقييد مطلقها وتخصيص عامها، بخلاف غيرهم لانقراض اتباعهم". 2 ـ وقال ابن نجيم الحنفي كما في الاجتهاد في الشريعة: 357 "إن الاجماع انعقد على عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة لانضباط مذاهبهم واشتهارها وكثرة اتباعها". 3 ـ وقال صاحب كتاب الاشباه: "الخامس مما لا ينفذ القضاء به ما إذا قضى بشيء مخالف للاجماع وهو ظاهر، وما خالف الأئمة الأربعة مخالف للاجماع، وإن كان منه خلاف لغيره فقد صّرح في التحرير أنّ الاجماع انعقد على عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة، لانضباط مذهبهم وكثرة اتباعهم" الاجتهاد في الشريعة للمراغي: 357. 4 ـ وقال المقريزي في كتابه الخطط والآثار 2: 334: "اولي بمصر القاهرة أربع قضاة وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي فاستمر ذلك من ستة وخمسين وستمائة حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة وعقيدة الاشعري. وعملت لاهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه، ولم يولِ قاص ولا قبلت شهادة أحد ولا قدم للخطابة والامامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلّداً لاحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها والعمل على هذا إلى اليوم". 5 ـ وقال ابن الصلاح في كتابه نهاية السؤول في شرح منهاج الاصول 4: 632 "إنّه يتعين تقليد الائمة الاربعة دون غيرهم; لأنّ المذاهب الأربعة قد انتشرت، وعلم تقيد مطلقها وتخصيص عامها، ونشرت فروعها، بخلاف مذاهب غيرها". 6 ـ وقال عبد الغني النابلسي في كتابه (خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق ص4): "فاعلم أنّ المذاهب الآن التي يجوز تقليدها هي هذه المذاهب الأربعة لا غير، فقد انحصر الآن العمل بشريعة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في العمل بما ذهب إليه أحد الأربعة فقط". 7 ـ وقال أحمد الصاوي: "ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة، والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما اداه ذلك إلى الكفر; لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أُصول الكفر" الحاشية على الجلالين تفسير سورة الكهف 3: 10. 8 ـ وفي حاشية رد المختار لابن عابدين 1: 52: "لا يجوز إحداث قول خارج عن المذاهب الأربعة..". 9 ـ قال في الانصاف 11: 178: "الاجماع انعقد على تقليد كُلّ من المذاهب الأربعة، وأن الحقّ لا يخرج عنهم..". 10 ـ وقال ابن خلدون في تاريخه 1: 573: "فاعلم أنّ هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وانظارهم خلافاً لا بدّ من وقوعه، ولما قدمناه واتسع ذلك في المّلة اتساعاً عظيماً، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم، ثُمّ لمّا انتهى ذلك إلى الائمة الأربعة من علماء الامصار، وكانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم..". والف الحافظ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي كتاباً بعنوان (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة) قال فيه: "فقد بلغني انكار بعض الناس على انكاري على بعض من ينتسب إلى مذهب الامام أحمد وغيره من مذاهب الأئمة المشهورين في هذا الزمان الخروج عن مذاهبهم في مسائل، وزعم أنّ ذلك لا ينكر على من فعله، وأنّ من فعله قد يكون مجتهداً متبعاً للحقّ الذي ظهر له أو مقلداً لمجتهد آخر فلا ينكر ذلك عليه". ثمّ أخذ بالرد على هذه المقولة وأنَّ اللازم اتباع مذهب معيّن من هذه المذاهب الأربعة لانضباطها وانتشار أصحها، ولئلا يؤدي الخروج عنها إلى الهرج وضياع الدين. وكذلك الف الشيخ محمّد الحامد كتاباً بعنوان (لزوم اتباع مذاهب الائمة حسماً للفوضى الدينية) وأخذ بالرد على من جوز الرجوع إلى الكتاب والسنة مباشرة من دون العمل بقول إمام من أئمة المذاهب الأربعة، ثمّ قال: 13: "وبعد فنحن ملتزمون مذاهبنا فيما عدا الحوادث الفائتة ولسنا مجتهدين حتّى نفتي من الأحاديث الشريفة ابتداءً، فإنّ انظار الأئمة أبعد وأعمق من انظارنا القاصرة، قد أسرجوا لنا الفقه والجموه، فما علينا أن نتبع إلاّ ما أقروه، كما لو افتونا به وهم أحياء..". هذا المعنى هو الذي قصده المؤلف في كلامه من لزوم اتباع مذهب معين من هذه المذاهب الأربعة، وأن غيرها لا يصح التعبد به والسير خلفه لأنّها اندثرت ولم يبقِ لها أثر او لم تضبط وتحدد بشكل واضح حتّى يصح الرجوع إليها والاعتماد عليها، فلذلك قال العلماء: "إنّ الاجماع انعقد على عدم العمل بمذهب يخالف الأربعة"، فعلى هذا نشأ المؤلف كما ينشأ غيره من أبناء أهل السنة، فلا يعرفون مذهباً لأهل البيت (عليهم السلام) يعرف بالمذهب الجعفري والذي شيد كيانه بشكل تام الامام جعفر الصادق سلام الله عليه; لأنّهم بعد أن انحرفوا عن أهل البيت وتركوا الثقل الثاني الذي هو عدل القرآن وهم أهل البيت (عليهم السلام)، انقطعت العلاقة بينهم وبين مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وعقيدتهم وفقههم، فلذلك يستغرب السني عندما يسمع بوجود مذهب خامس وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، كما رأيت استغراب المؤلف عند سماعه بالمذهب الجعفري. نعم، دعاة المذهب الوهابي يدعون إلى نبذ التقليد، وعدم الأخذ بأقوال أئمة المذاهب في المسائل الفقهية، ويوجبون الرجوع إلى الكتاب والسنة مباشرة وفهم الأحكام من خلالهما، وقد وقع خصام شديد بينهم وبين علماء أهل السنة حول هذه المسألة والفت كتب من الطرفين، فهذا الشيخ محمّد ناصر الدين الالباني يتحامل على مسألة تقليد أحد الأئمة فيقول: "هذا الحديث من أعلام نبوته (صلى الله عليه وآله) فقد تحقق كلّ ما فيه من الانباء وبخاصة منها ما يتعلق بـ (المثناة) وهي كلّ ما كتب سوى كتاب الله كما فسره الراوي، وما يتعلق به من الأحاديث النبوية والآثار السلفية، فكأنّ المقصود بـ (المثناة) الكتب المذهبية المفروضة على المقلدين التي صرفتهم مع تطاول الزمن عن كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) كما هو مشاهد اليوم مع الأسف من جماهير المتمذهبين، وفيهم كثير من الدكاترة والمتخرجين من كليات الشريعة، فإنّهم جميعاً يدينون بالتمذهب ويوجبونه على الناس حتّى العلماء منهم..." الصحيحة 6: 775 ـ 776. والف الخجندي السلفي كتاباً بعنوان (هل المسلم ملزم باتباع مذهب معيّن من المذاهب الاربعة) وقد ذكر فيه انتقادات لاذعه لمن قلد مذهباً معيناً فقال في: 55: "واما اتباع مذهب من المذاهب الاربعة او غيرها فليس بواجب ولا مندوب!! وليس على المسلم أن يلتزم واحداً منها بعينه، بل من التزم واحداً منها بعينه فهو متعصب مخطئ مقلداً تقليداً أعمى، وهو ممن فرقوا دينهم وصاروا شيعاً". وقال في: 63: "وهذه المذاهب أمور مبتدعة حدثت بعد القرون الثلاثة، وهذا لا شكّ فيه ولا شبهة، وكُلّ بدعة تعتقد دينياً وثواباً فهي ضلال، والسلف الصالحون كانوا يتمسكون بالكتاب والسنة وما دلاّ عليه، وما أجمعت عليه الأُمة، وكانوا مسلمين رحمهم الله تعالى، ورضي الله عنهم وأرضاهم، وجعلنا منهم وحشرنا معهم في زمرتهم، ولكن لما شاعت المذاهب نشأ عنها افتراق الكلمة، وتضليل البعض البعض، حتّى افتوا بعدم جواز اقتداء الحنفي وراء الإمام الشافعي مثلاً...". وقال في: 69: "إنّ القول يلزم التزام مذهب معيّن مبني على المقتضيات السياسية والتطورات الزمانية، والاغراض النفسانية ـ إلى أن قال ـ: اعلم أنّ المذهب الحقّ الواجب الذهاب إليه والاتباع له إنّما هو مذهب سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) وهو الإمام الأعظم الواجب الاتباع". وفي: 89 أخذ يتهجم على المقلدين لامام معين فقال: "والمقلدون الجامدون اتخذوا ذلك ديناً ومذهباً بحيث لو أقمت عليه ألف دليل من النصوص لا يصغي إليه، بل ينفر عنه كلّ النفور كحمر مستنفرة فرت من قسورة"، ثمّ يدعو المؤلف كُلّ مسلم إلى العكوف على الكتاب والسنة لفهم أحكام الإسلام فيقول في: 114: "ثُمّ أيّها المسلم إذا سمت همتك في العلم وقويت عزيمتك في التقوى فاحرص على فهم صريح الكتاب وظاهر السنة وفعل أكثر أهل العلم من السلف، وأجمع بين الأحاديث المختلفة وتتبع الأخبار الصحيحة والحسنة المروية في كتب المحدثين وخذ بالاقوى والاقيس والاحوط. وتحصيل هذه الطريقة سهل لا يحتاج أكثر من (الموطأ) و(الصحيحين) و(سنن أبي داود) و(جامع الترمذي) و(النسائي). وهذه الكتب معروفة مشهورة يمكن تحصيلها في أقرب مدة...". ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة الكتاب والكتب السلفية الأُخرى التي تتحامل على التقليد وتلزم الناس بالاجتهاد. ومما عرفناه يتضح أنّ علماء السنة يوجبون التمسك بالمذاهب الأربعة، وعدم صحة الخروج عنها لأدلتهم التي ذكروها والتي نقلنا بعضها، وأما الوهابية فهي ترفض فكرة الرجوع إلى المذاهب الاربعة وتدعوا الناس إلى الاجتهاد تحت مظلة الكتاب والسنة. فما ذكره صاحب كتاب كشف الجاني: 60 ما هو إلاّ قصر باع في الاطلاع أو محاولة اخفاء الحقيقة عن أعين القراء. بقيت دعوى أُخرى ذكرها عثمان الخميس في كتابه وهي: إنَّ أئمة المذاهب منعوا تقليدهم من دون علم واستشهد بكلام ابي حنيفة حينما قال: "لا يحلّ لأحد أن يقول بقولنا ما لم يعرف من أين أخذناه"، وقول الشافعي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، فهذه أقوال الأئمة وهي تنهى عن التقليد والاتباع، فلا يجوز نسبة لزوم اتباع إمام من أئمة المذاهب الأربعة إلى أهل السنة؟ وللجواب على هذا الكلام نكتفي بما ذكره الشيخ محمّد الحامد في كتابه (لزوم اتباع مذاهب الائمة حسماً للفوضى الدينية: 20) عندما أجاب عن الاشكال فقال: "إنّه كان من الجدارة العلمية أن يتبع الناشر هذا الذي نقله عن الامام بتوضيح العلماء له وتفسيره إيّاه; بأنّه بالنسبة لقوم دون قوم، ولفريق دون آخر، فإنّ المفتين درجات، فبعضهم ناقل فقط، وبعضهم مرجح، والذي يشترط في هذا لا يشترط في ذاك كما سترى إن شاء الله تعالى، فالمرجح مشروط في افتائه أن يكون عارفاً بالدلائل، وأهلاً للنظر فيها، بالمقارنة بينها والموازنة فحصاً دقيقاً وغوصاً عميقاً، فإذا صدر بعد هذا صدر عن عرفان، وأفتى على بيّنة وبرهان واذا لم يول الأمر هذا الاهتمام وله من الأهلية ماله كان مفرطاً آثماً لتضييعه نعمة الله عليه، ولإغلاقه على نفسه باب تحقيق اذنه إمامه في فتحه وقد كان من الواجب الديني عليه أن يسبر الحقائق سبّراً صحيحاً، هو فوق القناعة من العلم بمحض التقليد، بلا معرفة للدليل وذا شأن القاصرين المأذون لهم في حكاية أقوال الأئمة من غير استدلال لها كالذي عليه عامّة العلماء والمتفقهة في سائر الأعصار والأمصار ومن أجل هذا الذي قاله الامام رحمه الله تعالى، وللحرية الدينية الممنوحة شرعاً في العلم أيضاً شمّر أقوياء العلماء عن سواعد الجدّ، فنظروا في المآخذ والمصادر للأحكام وقارنوا بينها فرجح لديهم قول الامام تارة، وقول صاحبيه تارة أُخرى، ولكن هؤلاء لا يدعون الاجتهاد المطلق، فإن بحوثهم تدور في فلك المذهب وتسير في خططه وقواعده، فهم مرجحون فقط، ولا يعدو اجتهادهم حدود الترجيح". ونقل في: 23 كلام الشيخ ابن عابدين في رسالته (رسم المفتي) حيث قال: "ثمّ أعلم أن قول الامام: لا يحل لاحد أن يفتي بقولنا... الخ يحتمل معنيين" فذكر الاحتمال الأوّل واستبعده ثمّ قال: "الثاني: من الاحتمالين أن يكون المراد الافتاء بقول الامام تخريجاً واستنباطاً من أصوله.. إلى أن قال: فقد تحرر مما ذكرناه أنّ قول الإمام وأصحابه (لا يحل لاحد أن يفتي بقولنا حتّى يعلم من اين قلنا) محمول على فتوى المجتهد في المذهب بطريق الاستنباط والتخريج كما علمت من كلام التحرير وشرح البديع.. وإن علينا اتباع ما نقلوه لنا عنهم من استنباطاتهم غير المنصوصة عن المتقدمين ومن ترجيحاتهم ولو كانت لغير قول الإمام كما قررناه في صدر هذا البحث، لأّنهم لم يرجحوا ما رجحوه جزافاً، وإنّما رجحوا بعد اطلاعهم على المأخذ كما شهدت مصنفاتهم بذلك انتهى كلام الشيخ ابن عابدين، وراجع كتاب الشيخ محمّد الحامد من: 20 ـ 25 حيث تجد بغيتك هناك في شرح المقولة المتقدمة". واما الجواب عن المقولة الثانية وهي: (اذا صح الحديث فهو مذهبي) فقد أجابها عنها الشيخ محمّد الحامد في الكتاب المذكور: 15 فقال: "إننا لا ننازع في صحة ذلك عن الامام، لكنه ليس على اطلاقه، إذ ليس كُلّ أحد يقوى على الاجتهاد والاستنباط فالمراد به من بلغ هذا المبلغ، وادرك هذا المدرك، أما صغار المحصلين فإن اقتداءهم بأئمتهم أحمد عاقبة، وأسلم غائلة، وان تعدوا طورهم اغتراراً بانفسهم، هلكوا وأهلكوا وكان من أمانة النقل العلمي على ناشرها وقد عزاها إلى (رسم المفتي) و(رد المختار) لابن عابدين كان عليه أن يذكر التعقيب عليها لئلا يضع ناظرها الساذج موضع الحيرة، فيجني عليه في دينه، اذ لم يبق له اطمئناناً إلى مذهب امامه. وإليك التعقيب الذي ذكره ابن عابدين فقد قال في (رسم المفتي) بالحرف الواحد: قلت: ولا يخفى أنّ ذلك لمن كان أهلاً للنظر في النصوص ومعرفة محكمها من منسوخها، فإذا نظر أهل المذهب في الدليل وعملوا به، صحّ نسبته إلى المذاهب، إذ لاشك أنّه لو علم بضعف دليله رجع عنه واتبع الدليل الأقوى. ولذا رد المحقق ابن همام على المشايخ حيث افتوا بقول الإمامين (اي ابي يوسف ومحمّد) بأنّه لا يعدل عن قول الإمام إلاّ لضعف دليله. وأقول أيضاً: ينبغي تقييد ذلك بما إذا وافق قولاً في المذهب اذ لم يأذنوا بالاجتهاد فيما خرج عن المذهب بالكلية مما اتفقو عليه أئمتنا لأن اجتهادهم أقوى، فالظاهر أنّهم رأوا دليلاً أرجح مما رآه حتّى لم يعملوا به ولهذا قال العلامة قائم في حقّ شيخه خاتمة المحققين الكمال بن الهمام: لا يعمل بابحاث شيخنا التي تخالف المذهب. وقال في تصحيحه على القدوري: قال الإمام العلامة الحسن بن منصور بن محمود الأوزجندي المعروف بقاضيخان في كتاب الفتاوى: رسم المفتي في زماننا من أصحابنا إذ استفتى عن مسألة إن كانت مروية عن أصحابنا الحنفية في الروايات الظاهرة بلا خلاف بينهم، فإنّه يميل إليهم ويفتي بقولهم ولا يخالفهم برأيه، وإن كان مجتهداً; لأنّ الظاهر أن يكون الحقّ مع أصحابنا ولا يعدوهم، واجتهاده لا يبلغ اجتهادهم ولا ينظر إلى قول من خالفهم، ولا تقبل حجته أيضاً; لأّنهم عرفوا الأدلة وميزوا بين ما صحّ وثبت وبين ضده. والحاصل: إنّ ما خالف فيه الأصحاب إمامهم الأعظم لا يخرج عن مذهبه اذا رجحه المشايخ المعتبرون، وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغيير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك، ولا يخرج عن مذهبه أيضاً; لأنّ ما رجحّوه لترجيح دليله عندهم مأذون به من جهة الإمام، وكذا ما بنوه على تغيير الزمان والضرورة باعتبار أنّه لو كان حيّاً لقال بما قالوه; لأنّ ما قالوه إنّما هو مبني على قواعده ايضاً فهو مقتضى مذهبه (انتهى المقصود من كلام العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى)". ومن العلماء الذين حذّر من الفتنة الوهابية النابذة للتقليد والمتبعة للاهواء العلامة سلمان العودة في كتابه الغرباء حيث قال في ص121: "وعلى سبيل المثال فإنّ المألوف لدى الحريصين على اتباع السنة في هذا الزمان أن يعتنوا بالجوانب العلمية ـ والحديثيه خاصّه ـ ويحرصوا على تجنب التقليد ومحاربة المحرم منه، ويهتموا بسلامة المعتقد. وهذه الجوانب الايجابية قد يسيء بعضهم أخذها، فيتحول جانب العناية بالحديث ونبذ التقليد إلى فوضى تشريعية لا أوّل لها ولا آخر، ويصبح من لا يحسن قراءة الآية، ولا نطق الحديث، ممّن يستظل بظل القوم ـ مجتهدا لا يعبأ بقول أحمد ولا مالك ولا الشافعي ولا أبي حنيفة ـ ويزعم أنّه سيأخذ من حيث أخذوا. وقد يتطور الأمر إلى الاجتهاد في أمور العقائد، بناءً على تصحيح حديث أو تضعيف آخر أو فهم لظاهر نصّ أو نحو ذلك... وهنا يقع الخطر الكبير، حيث تتحول الفوضى إلى الأُصول بعد الفروع. ثُمّ تجد هذا المحارب للتقليد، النابز لأهله، مقّلداً من حيث لا يشعر لفلان وفلان من العلماء وطلاب العلم الذين يحسن الظن بهم، ويرى أنّهم على الجادة، وأنّهم لا يخرجون على الدليل الصحيح، ولا يقولون إلاّ ببينة، أو تراه مقلداً لهم في تصحيح الأحاديث وتضعيفها وتوثيق الرجال وتوهينهم، ومقلداً لهم في آرائهم الفقهية والاجتهادية الذين يعذرون ـ هم ـ فيها لو أخطأوا، لكنه ـ هو ـ لا يعذر حين ينازع في تقليد الأئمة الأربعة وغيرهم ويقّلد من دونهم بمراحل، ويترتب على هذا الاختلاف الواسع العريض والتفرق الممقوت المنافقي للأخوة والجماعة، وهذا الاختلاف من سمات أهل البدع الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً. وقد تتحول العناية بسلامة المعتقد إلى رمي الآخرين بالضلال أو الكفر أو النفاق أو الفسق أو البدعة بلا بيّنة، مع ظن اختصاص النفس بالكمال، والسلامة مما وقع فيه الآخرين". وخلاصة الكلام: إنّ علماء أهل السنة يرون لزوم التقيد بمذهب من المذاهب الأربعة، ولا يجوز الخروج عنها، إلاّ لمن بلغ رتبة الاجتهاد وحاز على درجة رفيعة من العلم، أما من لم يحصل على ذلك فعليه تقليد إمام من أئمة المذاهب الأربعة. ولكن الوهابية لا يرون لها ذلك وتلزم الإنسان بالرجوع إلى الكتاب والسنة مباشرة لمعرفة أحكام دينه من حلال وحرام وواجب ومكروه وندب، والفوا كتاباً في التشخيص على من الزم الإنسان بتقليد إمام معين كما رأينا كتاب الخجندي المتقدم ومن أراد مزيداً من الاطلاع فليرجع إلى: 1 ـ خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق ـ الشيخ عبد الغني النابلسي. 2 ـ اللا مذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية ـ الشيخ رمضان البوطي. 3 ـ الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة ـ الشيخ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي. 4 ـ لزوم اتباع مذاهب الأئمة ـ الشيخ محمّد الحامد. 5 ـ مقالات الشيخ زاهد الكوثري. ويرجع إلى كتب الوهابية المتحاملة على التقليد ككتاب (هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة)، وكتاب (صفة صلاة النبيّ للألباني) وغيرها من الكتب. وبعد هذا لا يحقّ لعثمان الخميس وهو من اتباع محمّد بن عبد الوهاب، وهم يزرون بالتقليد وبالرجوع للائمة الأربعة; بعد هذا لا يحق له أن يتكلم بلسان أهل السنة عامة وينكر على المؤلف كلامه في لزوم اتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة، ما دام عثمان الخميس ليس من هؤلاء ولا يؤمن بذلك، مع أنّ علماء السنة حكموا بلزوم اتباع المذاهب الأربعة والرجوع إليها. ...وبذا يتضح المراد من قول الإمام رحمه الله تعالى، ويبطل ما يطلبه الباعثون للفتنة الدينية من رقادها والحمد لله تعالى".
وابتسم قائلا: عفواً إنّ المذهب الجعفري هو محض الإسلام، ألم تعرف بأنّ الإمام أبا حنيفة تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق؟ وفي ذلك يقول أبو حنيفة: "لولا السنتان لهلك النعمان"(1)
____________
1- جاء في مختصر التحفه الاثني عشرية للدهلوي تلخيص الآلوسي: "وهذا أبو حنيفة... كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: "لولا السنتان لهلك النعمان" يريد السنتين اللتين صحب فيهما لأخذ العلم الإمام جعفر الصادق، وقال غير واحد انّه أخذ العلم والطريقة من هذا ومن أبيه الإمام محمّد الباقر..." مختصر التحفه: 8، والتحفه الاثني عشرية للدهلوي: 142. واعترف الدهلوي بأنّ علماء أهل السنة ورؤساءهم كالزهري وأبي حنيفة ومالك تتلمذوا على أئمة أهل البيت (عليهم السلام). التحفه الاثني عشرية للدهلوي: 93، 467، ومختصرها للآلوسي: 34، 193. وقال الامام محمّد أبو زهرة في كتابه (الامام الصادق: 53): "ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم في أمر، كما أجمعوا على فضل الامام الصادق وعلمه; فأئمة السنة الذين عاصروه تلقوا عنه وأخذوا; أخذ عنه مالك (رضي الله عنه)، وأخذ عنه طبقة مالك كسفيان بن عيينه وسفيان الثوري، وغيرهم كثير، وأخذ عنه أبو حنيفة مع تقاربهما في السن، واعتبره أعلم أهل الناس; لأنّه أعلم الناس باختلاف الناس، وقد تلقى عليه رواية الحديث طائفة كبيرة من التابعين، منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السختياني، وأبان بن تغلب، وأبو عمرو بن العلاء، وغيرهم من أئمة التابعين في الفقه والحديث". وقال العلامة عبد الحليم الجنيدي في كتابه (الامام جعفر الصادق: 162): "انقطع أبو حنيفة إلى مجالس الامام ] يعني الصادق[ طوال عامين قضاهما بالمدينة، وفيهما يقول: (لولا العامان لهلك النعمان). وكان لا يخاطب صاحب المجلس إلاّ بقوله: جعلت فداك يابن بنت رسول الله". وقال في ص 163: "ولئن كان مجداً لمالك أن يكون أكبر أشياخ الشافعي، أو أن يكون الشافعي أكبر اساتذة ابن حنبل، أو مجداً للتلميذين أن يتلمذا لشيخيهما هذين; إنّ التلمذة للامام الصادق قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة. اما الإمام الصادق فمجده لا يقبل الزيادة ولا النقصان، فالإمام مبلغ للناس كافة علم جدّه عليه الصلاة والسّلام...".
سكتُّ ولم أبدِ جواباً، فقد أدخل عليّ اسماً جديداً ما سمعت به قبل ذلك اليوم، ولكنّي حمدتّ الله أنّه ـ أي إمامهم جعفر الصادق ـ لم يكن أستاذاً للإمام مالك وقلت: نحن مالكية ولسنا أحنافاً!
فقال: إنّ المذاهب الأربعة أخذوا عن بعضهم البعض، فأحمد بن حنبل أخذ عن الشافعي، والشافعي أخذ عن مالك، وأخذ مالك عن أبي حنيفة، وأبو حنيفة أخذ عن جعفر الصادق، وعلى هذا فكُلّهم تلاميذ لجعفر بن محمّد، وهو أوّل من فتح جامعة إسلامية في مسجد جدّه رسول الله، وقد تتلمذ على يديه أكثر من أربعة آلاف محدث وفقيه.
وعجبت لهذا الصبيّ الذكيّ الذي يحفظ ما يقول مثل ما يحفظ أحدنا
سورة من القرآن، وقد أدهشني أكثر عندما كان يسرد عليّ بعض المصادر التاريخية التي يحفظ عدد أجزائها وأبوابها، وقد استرسل معي في الحديث وكأنّه أستاذ يعلّم تلميذه.
وشعرت بالضعف أمامه، وتمنّيت لو أنّي خرجت مع صديقي ولم أبق مع الصبيان، فما سألني أحدهم عن شيء يخصّ الفقه أو التاريخ إلاّ وعجزت عن الجواب.
سألني: من أقلّد من الأئمة؟
قلت: الإمام مالك!
قال: كيف تقلد ميتاً بينك وبينه أربعة عشر قرناً، فإذا أردت أن تسأله الآن عن مسألة مستحدثة فهل يجيبك؟
فكّرت قليلا وقلت: وأنت جعفرك مات أيضاً منذ أربعة عشر قرناً فمن تقلّد؟
أجاب بسرعة هو والباقون من الصبية: نحن نقلّد السيّد الخوئي فهو إمامنا.
ولم أفهم أكان الخوئي أعلم أم جعفر الصادق، وبقيت معهم أحاول تغيير الموضوع، فكنت أسألهم عن أيّ شيء يلهيهم عن مسألتي، فسألتهم عن عدد سكّان النجف؟ وكم تبعد النجف عن بغداد؟ وهل يعرفون بلداناً أُخرى غير العراق؟ وكلّما أجابوا أعددت لهم سؤالا غيره حتّى أشغلهم عن سؤالي لأنّي عجزت وشعرت بالقصور، ولكن هيهات أن أعترف لهم وإن كنت في داخلي معترفاً، إذ إنّ ذلك المجدّ والعز والعلم الذي ركبني في مصر تبخّر هنا وذاب، خصوصاً بعد لقاء هؤلاء الصبيان، وعرفت الحكمة القائلة:
فقل لمن يدّعي في العلم فلسفةً | عَرفِتَ شَيئاً وغابت عنك أشياء |
وتصوّرت أنّ عقول هؤلاء الصبيان أكبر من عقول أُولئك المشايخ الذين
قابلتهم في الأزهر، وأكبر من عقول علمائنا الذين عرفتهم في تونس.
ودخل السيّد الخوئي ومعه كوكبة من العلماء عليهم هيبة ووقار، وقام الصبيان وقمت معهم، وتقدّموا من (السيّد) يقبّلون يده، وبقيت مسمّراً في مكاني، لم يجلس (السيّد) حتّى جلس الجميع وبدأ يحيّيهم بقوله: (مسّاكم الله بالخير) يقولها لكُلّ واحد منهم، فيجيبه بالمثل، حتّى وصل دوري فأجبت كما سمعت، بعدها أشار عليّ صديقي الذي تكلم مع (السيّد) همساً بأنّ أدنو من (السيّد) وأجلسني على يمينه، وبعد التحية قال لي صديقي: أحك للسيّد ماذا تسمعون عن الشيعة في تونس.
فقلت: يا أخي، كفانا من الحكايات التي نسمعها من هنا وهناك، والمهم هو أن أعرف بنفسي ماذا يقول الشيعة، وعندي بعض الأسئلة أُريد الجواب عنها بصراحة.
فألحّ عليّ صديقي وأصرّ على أن أروي (للسيّد) ما هو اعتقادنا في الشيعة.
قلت: الشيعة عندنا هم أشّد على الإسلام من اليهود والنصارى، لأنّ هؤلاء يعبدون الله ويؤمنون برسالة موسى (عليه السلام)، بينما نسمع عن الشيعة أنّهم يعبدون علّياً ويقدّسونه، ومنهم فرقة يعبدون الله ولكنهم ينزلون علّياً بمنزلة رسول الله، ورويت قصّة جبريل كيف أنّه خان الأمانة حسب ما يقولون، وبدلا من أداء الرسالة إلى عليّ أدّاها إلى محمّد (صلى الله عليه وآله).
أطرق (السيّد) رأسه هنيئة ثُمّ نظر إلي وقال: نحن نشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وما عليّ إلاّ عبد من عبيد الله، والتفت إلى بقية الجالسين قائلا ومشيراً إليّ: أنظروا إلى هؤلاء الأبرياء كيف تغلّطهم الاشاعات الكاذبة، وهذا ليس بغريب فقد سمعت أكثر
من ذلك من أشخاص آخرين، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
ثُمّ التفت إليّ وقال: هل قرأت القرآن؟
قلت: حفظت نصفه، ولم أتخطّ العاشرة من عمري.
قال: هل تعرف أنّ كُلّ الفرق الإسلامية على اختلاف مذاهبها متّفقة على القرآن الكريم(1)، فالقرآن الموجود عندنا هو نفسه موجود عندكم.
قلت: نعم، هذا أعرفه.
قال: إذاً ألم تقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ}(2)، وقوله أيضاً: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}(3)، وقوله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}(4)؟
قلت: بلى أعرف هذه الآيات،
قال: فأين هو عليّ؟ إذا كان قرآننا يقول بأنّ محمّداً هو رسول الله، فمن أين جاءت هذه الفرية؟
سكت ولم أجد جواباً.
وأضاف يقول: وأما خيانة جبريل ـ حاشاه ـ فهذه أقبح من الأولى، لأنّ جبريل (عليه السلام) عندما أرسله الله سبحانه إلى محمّد كان عمر محمّد أربعين سنة، ولم يكن عليّ إلاّ صبيّاً صغيراً عمره ستّ أو سبع سنوات، فكيف يا ترى يخطىء جبريل، ولا يفرق بين محمّد الرجل وعليّ الصبي؟!
ثُمّ سكتَ طويلا بينما بقيت أفكر في أقواله وأنا مطرق أحلّل وأتذّوق
____________
1- على هذا أجمع المسلمون كافة سوى من شذّ منهم من الحشويّة من أهل السنة والشيعة. 2- سورة آل عمران: 144. 3- سورة الفتح: 29. 4- سورة الأحزاب: 40.
هذا الحديث المنطقي الذي نفذ إلى أعماقي وأزال غشاوة عن بصري، وتساءلت في داخلي كيف لم نحلّل نحن بهذا المنطق؟!
أضاف (السيّد الخوئي) يقول: وأزيدك بأنّ الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كُلّ الفرق الإسلامية الأُخرى التي تقول بعصمة الأنبياء والأئمة، فإذا كان أئمتنا سلام الله عليهم معصومين عن الخطأ وهم بشر مثلنا، فكيف بجبريل وهو ملك مقرّب سمّاه ربّ العزة بـ (الروح الأمين).
قلت: فمن أين جاءت هذه الدعايات؟
قال: من أعداء الإسلام الذين يريدون تفريق المسلمين وتمزيقهم وضرب بعضهم ببعض، وإلاّ فالمسلمون أُخوة سواء كانوا شيعة أم سنة، فهم يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئاً، وقرآنهم واحد، ونبيّهم واحد، وقبلتهم واحدة، ولا يختلف الشيعة عن السنّة إلاّ في الأُمور الفقهية كما يختلف أئمة المذاهب السنّية أنفسهم فيما بينهم، فمالك يخالف أبا حنيفة، وهذا يخالف الشافعي، وهكذا.
قلت: إذاً كلّ ما يحكى عنكم هو محض افتراء؟
قال: أنت بحمد الله عاقل وتفهم الأمور، وقد رأيت بلاد الشيعة وتجوّلت في أوساطهم، فهل رأيت أو سمعت شيئاً من تلك الأكاذيب؟
قلت: لا لم أسمع ولم أر إلاّ الخير، وإنّي أحمد الله سبحانه أن عرّفني بالأستاذ منعم في الباخرة، فهو السبب في مجيئي إلى العراق، وقد عرفت أشياء كثيرة كنت أجهلها، فضحك صديقي منعم قائلا: ومنها وجود قبر للإمام علي، فغمزته واستدركت قائلا: بل تعلمت أشياء جديدة حتّى من هؤلاء الصبيان، وتمنيت لو أتيحت لي الفرصة وتعلّمت مثلهم في الحوزة العلمية هنا.
قال (السيّد): أهلا وسهلا، إن كنت تريد طلب العلم فالحوزة على ذمّتك، ونحن في خدمتك، ورحّب الحاضرون بهذا الاقتراح، وخصوصاً صديقي منعم
الذي تهلّل وجهه.
قلت: أنا متزوّج وعندي ولدان،
قال: نحن نتكفّل بكُلّ مستلزماتكم من سكن ومعاش وكُلّ ما تحتاجون إليه، والمهمّ هو طلب العلم،
فكرت قليلا وقلت في نفسي: ليس من المعقول أن أصبح تلميذاً بعد ما قضيت خمس سنوات وأنا أستاذ أمارس التعليم وتربية النشأ، وليس من السهولة أن أتخذ قراراً بمثل هذه السرعة.
شكرت السيّد الخوئي على هذا العرض وقلت: سوف أفكّر في الموضوع بجدّ بعد رجوعي من العمرة بحول الله، ولكنّي في حاجة إلى بعض الكتب، فقال السيّد: أعطوه الكتب.
ونهض جمع من العلماء وفتحوا عدّة خزانات وما هي إلاّ لحظات حتّى وجدت أمامي أكثر من سبعين مجلداً، فكُلّ واحد جاءني بدورة من الكتب وقال: هذه هديّتي، ورأيت أنّه لا يمكنني حمل هذا العدد الكبير معي، خصوصاً وأنّي متوجّه إلى السعودية الذين يمنعون دخول أيّ كتاب إلى بلادهم، خوفاً من تفشّي بعض العقائد التي تخالف مذهبهم، ولكنّي ما أردت التفريط بهذه الكتب التي لم تر عيني مثلها في سابق حياتي.
فقلت لصديقي وللحاضرين بأنّ طريقي طويل يمرّ بدمشق والأردن إلى السعودية، وفي العودة سيكون أطول، فسأمرّ بمصر وليبيا حتّى الوصول إلى تونس، وزيادة على ثقل الحمل فإنّ أغلب الدول تمنع دخول الكتب.
فقال السيّد: أترك لنا عنوانك ونحن نتكّفل بإرسالها إليك، واستحسنت هذا الرأي وأعطيته بطاقة شخصيّة بها عنواني في تونس، وشكرت فضله.
ولما ودّعته ونهضت للخروج، نهض معي قائلا: أسأل الله لك السّلامة، وإذا وقفت على قبر جدّي رسول الله فبلّغه منّي السلام، وتأثّر الحاضرون
وتأثّرت كثيراً وأنا أنظر إلى عينيه تدمعان، وقلت في نفسي: حاشى لله أن يكون هذا من المخطئين، حاشى لله أن يكون هذا من الكاذبين.. إنّ هيبته وعظمته وتواضعه تنبئ حقاً أنّه من سلالة الشرف، فما كان منّي إلاّ أن أخذت يده وقبّلتها رغم ممانعته.
وقام الجميع لقيامي وسلّموا عليّ، وتبعني بعض الصبية من الذين كانوا يجادلونني، وطلبوا منّي عنواني للمراسلة، فأعطيتهم إيّاه.
اتجهنا من جديد إلى الكوفة بدعوة أحد الذين كانوا في مجلس السيّد الخوئي، وهو صديق منعم اسمه (أبو شبّر)، نزلنا في بيته وسهرنا ليلة كاملة مع مجموعة من الشباب المثقّفين، وكان من بينهم بعض طلبة السيّد محمّد باقر الصدر، فأشاروا عليّ بمقابلته وتعهّدوا بأنّهم سيرتبون لقائي مع حضرته في اليوم التالي.
واستحسن صديقي منعم هذا الاقتراح ولكنّه تأسّف لعدم إمكانية حضوره، لأنّ له شغل في بغداد يستلزم حضوره، واتفقنا على أن أبقى في بيت السيّد أبو شبّر ثلاثة أو أربعة أيّام ريثما يعود منعم، الذي غادرنا بعد صلاة الفجر، وقمنا نحن للنوم.
وقد استفدت كثيراً من طلبة العلوم الذين سهرت معهم، وتعجّبت من تنوّع العلوم التي يتلقّونها في الحوزة، فهم زيادة على العلوم الإسلامية من فقه، وشريعة، وتوحيد يدرسون العلوم الاقتصادية، والعلوم الاجتماعية والسياسية، والتاريخ، واللغات، وعلوم الفلك وغير ذلك...
لقاء مع السيّد محمّد باقر الصدر
اتجهت بصحبة السيّد أبو شبّر إلى بيت السيّد محمّد باقر الصدر، وفي الطريق كان يلاطفني ويعطيني بسطة عن العلماء المشهورين وعن التقليد وغير
ذلك، ودخلنا على السيّد محمّد باقر الصدر في بيته، وكان مليئاً بطلبة العلوم، وأغلبهم من الشباب المعمّمين، وقام السيّد يسلّم علينا، وقدّموني إليه فرحّب بي كثيراً، وأجلسني بجانبه وأخذ يسألني عن تونس والجزائر وعن بعض العلماء المشهورين أمثال الخضر حسين، والطاهر بن عاشور وغيرهم، وأنست بحديثه. ورغم الهيبة التي تعلوه والاحترام الذي يحوطه به جلساؤه وجدت نفسي غير محرج، وكأنّي أعرفه من قبل.
واستفدت من تلك الجلسة إذ كنت أسمع أسئلة الطلبة وأجوبة السيّد عليها، وعرفت وقتها قيمة تقليد العلماء الأحياء الذين يجيبون عن كلّ الاشكالات مباشرة وبكُلّ وضوح.
وتيقّنت ـ أيضاً ـ من أنّ الشيعة مسلمون يعبدون الله وحده، ويؤمنون برسالة نبينا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كان بعض الشكّ يراودني، والشيطان يوسوس لي بأنّ ما شاهدته من قبل هو تمثيل، وربما يكون ما يسمّونه بالتقية، أي إنّهم يُظهرون ما لا يعتقدون، ولكن سرعان ما يزول الشك وتضمحلّ تلك الوساوس إذ لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يتّفق كُلّ من رأيتهم وسمعتهم ـ وهم مئات ـ على هذا التمثيل، ثُمّ لماذا هذا التمثيل؟ ومن هو أنا، وما يهمهم من أمري حتّى يستعملوا معي هذه التقية؟!
ثُمّ هذه كتبهم القديمة التي كتبت منذ قرون، والحديثة التي طبعت منذ شهور، وكلّها توحّد الله وتثني على رسوله محمّد كما قرأت ذلك في مقدماتها، وها أنا الآن في بيت السيّد محمّد باقر الصدر المرجع المشهور في العراق وفي خارج العراق، وكلّما ذكر اسم محمّد صاح الجميع في صوت واحد: اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد.
وجاء وقت الصّلاة وخرجنا إلى المسجد، وكان بجوار البيت، وصلّى بنا السيّد محمّد باقر الصدر صلاة الظهر والعصر، وأحسست بأنّي أعيش وسط
الصحابة الكرام، فقد تخلّل الصلاتين دعا رهيب من أحد المصلّين، وكان له صوت شجي ساحر، وبعدما أنهى الدعاء صاح الجميع: اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، وكان الدعاء كُلّه ثناءً وتمجيداً على الله جلّ جلاله، ثُمّ على محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
وجلس السيّد في المحراب بعد الصلاة، وأخذ بعضهم يسلّمون عليه ويسألونه سرّاً وعلانية، وكان يجيب سرّاً عن بعض الأسئلة التي تتطلّب الكتمان، فهمت بأنّها تتعلّق بشؤون خاصّة، وكان السائل إذا حصل على الجواب يقبّل يده وينصرف.
هنيئاً لهم بهذا العالم الجليل الذي يحلّ مشاكلهم ويعيش همومهم.
رجعنا بصحبة السيّد الذي أولاني من الرعاية والعناية وحسن الضيافة ما أنساني أهلي وعشيرتي، وأحسست بأنّي لو بقيت معه شهراً واحداً لتشيّعت لحسن أخلاقه وتواضعه وكرم معاملته، فلم أنظر إليه إلاّ وابتسم في وجهي وابتدرني بالكلام، وسألني هل ينقصني شيء.
فكنت لا أغادره طيلة الأيّام الأربعة إلاّ للنّوم، رغم كثرة زوّاره والعلماء الوافدين عليه من كُلّ الأقطار، فقد رأيت السعوديين هناك ولم أكن أتصور بأنّ في الحجاز شيعة، وكذلك علماء من البحرين، ومن قطر، ومن الإمارات، ومن لبنان، وسوريا، وإيران، وأفغانستان، ومن تركيا، ومن إفريقيا السوداء. وكان السيّد يتكلّم معهم، ويقضي حوائجهم، ولا يخرجون من عنده إلاّ وهم فرحون مسرورون.
ولا يفوتني أن أذكر هنا قضية حضرتها وأعجبت في كيفية فصلها، وأذكرها للتاريخ، لما لها من أهمّية بالغة حتّى يعرف المسلمون ماذا خسروا بتركهم حكم الله.
جاء إلى السيّد محمّد باقر الصدر أربعة رجال أظنّهم عراقيين، عرفت
ذلك من لهجتهم، كان أحدهم ورث مسكناً من جدّه الذي توفي منذ سنوات، وباع ذلك المسكن إلى شخص ثان كان هو الآخر حاضراً، وبعد سنة من تاريخ البيع جاء أخوان، وأثبتا أنّهما وارثان شرعيان للميّت، وجلس أربعتهم أمام السيّد وأخرج كُلّ واحد منهم أوراقه وما عنده من حجج، وبعدما قرأ السيّد كلّ أوراقهم وتحدّث معهم بضع دقائق حكم بينهم بالعدل، فأعطى الشاري حقه في التصرّف بالمسكن، وطلب من البائع أن يدفع للأخوين نصيبهما من الثمن المقبوض، وقام الجميع يقبّلون يده، ويتعانقون.
ودهشت لهذا ولم أصدّق، وسألت أبا شبّر: هل انتهت القضية؟
قال: خلاص كلّ أخذ حقّه.
سبحان الله! بهذه السهولة، وبهذا الوقت الوجيز، بضع دقائق فقط كافية لحسم النزاع؟ إنّ مثل هذه القضية في بلادنا تستغرق عشر سنوات على أقل تقدير ويموت بعضهم، ويواصل أولاده بعده تتبّع القضية، ويصرفون رسوم المحكمة والمحامين ما يكلّفهم في أغلب الأحيان ثمن المسكن نفسه، ومن المحكمة الابتدائية إلى محكمة الاستئناف، ثُمّ إلى التعقيب، وفي النهاية يكون الجميع غير راضين، بعد ما يكونون قد أنهكوا بالتّعب والمصاريف والرشوة، والعداوة والبغضاء بين عشائرهم وذويهم.
أجابني أبو شبّر: وعندنا ـ أيضاً ـ نفس الشيء أو أكثر.
فقلت: كيف؟
قال: إذا رفع الناس شكواهم إلى المحاكم الحكومية فيكون مثل ما حكيت، أما إذا كانوا يقلّدون المرجع الديني، ويلتزمون بالأحكام الإسلامية فلا يرفعون قضاياهم إلاّ إليه، فيفصلها في بضع دقائق كما رأيت، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يعقلون؟ والسيّد الصدر لم يأخذ منهم فلساً واحداً، ولو ذهبوا
إلى المحاكم الرّسمية لتعرّت رؤوسهم.
ضحكت لهذا التعبير الذي هو سار عندنا ـ أيضاً ـ وقلت: سبحان الله! أنا لا زلت مكذّباً ما رأيت، ولولا ما شاهدته بعينيّ ما كنت لأصدق أبداً.
فقال أبو شبّر: لا تكذب يا أخي فهذه بسيطة بالنسبة إلى غيرها من القضايا التي هي أشدّ تعقيداً وفيها دماء، ومع ذلك يحكم فيها المراجع ويفصلونها في سويعات.
فقلت متعجّباً: إذاً عندكم في العراق حكومتان، حكومة الدولة وحكومة رجال الدين؟
فقال: كلا عندنا حكومة الدولة فقط، ولكنّ المسلمين من الشيعة الذين يقلّدون مراجع الدّين، لا علاقة لهم بالحكومة، لأنّها حكومة البعث وليست حكومة إسلامية، فهم خاضعون لها بحكم المواطنة والضرائب والحقوق المدنية والأحوال الشخصية، فلو تخاصم مسلم ملتزمٌ مع أحد المسلمين غير الملتزمين فسوف يضطرّ حتماً لرفع قضيته إلى محاكم الدولة، لأنّ هذا الأخير لا يرضى بتحكيم رجال الدّين، أمّا إذا كان المتخاصمان متلزمين فلا اشكال هناك، وما يحكم به المرجع الديني نافذ على الجميع، وعلى هذا الأساس تحل القضايا التي يحكم فيها المرجع في يومها، بينما تظلّ القضايا الأُخرى شهوراً بل أعواماً.
إنّها حادثة حركت في نفسي شعور الرّضى بأحكام الله سبحانه وتعالى، وفهمت معنى قوله تعالى في كتابه المجيد: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ... وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ...}(1) صدق الله العظيم.
____________
1- سورة المائدة: 44 ـ 45 ـ 47.
كما حركت في نفسي شعور النقمة والثورة على هؤلاء الظلمة الذين يبدّلون أحكام الله العادلة بأحكام وضعية بشرية جائرة، ولا يكفيهم كُلّ ذلك بل ينتقدون بكُلّ وقاحة وسخرية الأحكام الإلهية، ويقولون بأنّها بربرية ووحشية، لأنّها تقيم الحدود، فتقطع يد السارق، وترجم الزّاني، وتقتل القاتل، فمن أين يا ترى جاءتنا هذه النظريات الغريبة عنّا وعن تراثنا؟! لا شكّ أنّها من الغرب ومن أعداء الإسلام الذين يدركون أنّ تطبيق أحكام الله يعني القضاء عليهم نهائياً، لأنّهم سرّاق، خونة، زناة، مجرمون وقتلة، ولو طبقت أحكام الله عليهم لاسترحنا من هؤلاء جميعاً.
وقد دارت بيني وبين السيّد محمّد باقر الصدر في تلك الأّيام حوارات عديدة، وكنت أسأله عن كلّ صغيرة وكبيرة من خلال ما عرفته من الأصدقاء الذين حدّثوني عن كثير من عقائدهم، وما يقولونه في الصحابة رضي الله عنهم، وما يعتقدونه في الأئمة الاثني عشر علي وبنيه، وغير ذلك من الأشياء التي نخالفهم فيها.
الشهادة الثالثة في الأذان
سألت السيّد الصدر عن الإمام علي، ولماذا يشهدون له في الآذان بأنّه وليّ الله؟! أجاب قائلاً: إنّ أمير المؤمنين علياً ـ سلام الله عليه ـ وهو عبد من عبيد الله الذين اصطفاهم الله وشرّفهم ليواصلوا حمل أعباء الرسالة بعد أنبيائه وهؤلاء هم أوصياء الأنبياء.
فلكُلّ نبي وصيّ وعليّ بن أبي طالب هو وصيّ محمّد، ونحن نفضّله على سائر الصحابة بما فضّله الله ورسوله، ولنا في ذلك أدلّة عقلية ونقلية من القرآن والسنّة، وهذه الأدلّة لا يمكن أن يتطرّق إليها الشك لأنّها متواترة وصحيحة من طرقنا وحتّى من طرق أهل السنّة والجماعة، وقد ألّف في ذلك علماؤنا العديد من الكتب.
ولمّا كان الحكم الأموي يقوم على طمس هذه الحقيقة ومحاربة أمير المؤمنين عليّ وأبنائه وقتلهم، ووصل بهم الأمر إلى سبّه ولعنه على منابر المسلمين وحمل الناس على ذلك بالقهر والقوة; فكان شيعته وأتباعه ـ رضي الله عنهم ـ يشهدون أنّه وليّ الله، ولا يمكن للمسلم أن يسبّ وليّ الله، وذلك تحدّياً منهم للسلطة الغاشمة حتّى تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وحتّى تكون حافزاً تاريخيّاً لكُلّ المسلمين عبر الأجيال، فيعرفون حقيقة عليّ وباطل أعدائه.
ودأب فقهاؤنا على الشهادة لعلي بالولاية في الأذان والاقامة استحباباً، لا بنيّة أنّها جزء من الأذان أو الإقامة، فإذا نوى المؤذّن أو المقيم أنّها جزء بطل أذانه واقامته. والمستحبّات في العبادات والمعاملات لا تحصى لكثرتها، والمسلم يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها، وقد ورد على سبيل المثال أنّه يذكر استحباباً بعد شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، بأن يقول المسلم: وأشهد أنّ الجنّة حق، والنار حق، وأنّ الله يبعث من في القبور.
التفضيل بين الخلفاء
قلت: إنّ علماءنا علّمونا أنّ أفضل الخلفاء على التحقيق سيدنا أبو بكر الصديق، ثُمّ سيدنا عمر الفاروق، ثُمّ سيدنا عثمان، ثُمّ سيدنا علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين؟
سكت السيّد قليلا، ثمّ أجابني: لهم أن يقولوا ما يشاؤون، ولكن هيهات أن يثبتوا ذلك بالأدلّة الشرعيّة. ثمّ إنّ هذا القول يخالف صريح ما ورد في كتبهم الصحيحة المعتبرة، فقد جاء فيها: إنّ أفضل الناس أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ولا وجود لعلي بل جعلوه من سوقة الناس، وإنّما ذكره المتأخرون استحباباً لذكر الخلفاء الراشدين(1).
____________
1- بعد تغلّب المروانيين على دفة الحكم وما صنعوه من الجرائم، تحقق عياناً السبب في عدم رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) ضاحكاً إلى أن قُبض لما رأى في الرؤيا بني مروان ينزون على منبره نزو القردة. (المستدرك للحاكم 4: 480 وصححه وكذلك الذهبي). وكان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو المظلوم الحقيقي في تلك الفترة حيث سُبّ ولعن على المنابر، قال ابن تيمية في منهاج السنة 6: 201 "وقد كان من شيعة عثمان من سب علياً ويجهر بذلك على المنابر وغيرها; لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه". وحتّى كانوا لا يعدونه من الخلفاء وكانوا يرمون من ساوى بينه وبين عثمان بالتشيع (السنة للخلال: 394 ح564) واستمر هذا إلى زمن أحمد ابن حنبل، وهو الذي حاول كسر هذا الطوق ـ فله الشكر من هذه الجهة ـ . كان أحمد بن حنبل يتكلم وينظّر ويستدل لاثبات خلافة أمير المؤمنين بعد عثمان، قال: عليّ عندي خليفة، يقيم الحدود، ويقال له أمير المؤمنين ولا ينكر، ثمّ قال للراوي: اكتب هذا فانّه يقوي من ذهب إلى أنّ علياً خليفة (السنة للخلال: 415 ح619) وطبعاً كان يرى الاستنكار والاعتراض، يقول عبد الملك بن عبدالحميد الميموني: قلت لأبي عبد الله (أحمد بن حنبل): فانّا وبعض اخوتي هوذا، نعجب منك في ادخالك علياً في الخلافة. قال: فأيش أصنع، وأيش أقول بقول عليّ رحمه الله: أنا امير المؤمنين، ويقال له: يا أمير المؤمنين، ويحج بالناس والموسم وتلك الأحكام والصلاة بالناس. قلت: فما تصنع وما تقول في قتال طلحة والزبير إيّاه وتلك الدماء؟ قال: ما لنا وما لطلحة والزبير وذكر ذا..." (السنة للخلال: 426 ح646). وقال ابن تيمية الحراني في معرض كلامه عن قتال علي بن أبي طالب (عليه السلام)للبغاة قال: ".. وبهذا احتجوا على الامام أحمد في ترك التربيع بخلافته فإنّه لما أظهر ذلك قال له بعضهم: اذا قلت كان إماماً واجب الطاعة ففي ذلك طعن على طلحة والزبير حيث لم يطيعاه بل قاتلاه؟! فقال لهم أحمد: إنّي لست من حربهم في شيء... ولكن اعتقاد خلافته وامامته ثابت بالنصّ، وما ثبت بالنصّ وجب اتباعه وان كان بعض الأكابر تركه.." مجموعة الفتاوى الكبرى 4: 270. وبلغ الانكار على أحمد في ذلك حتّى إنّه كان يفحش على من لم يقل أنّ علياً خليفة ويبدعه قال ابن تيميه: "المنصوص عن أحمد تبديع من توقف في خلافة علي، وقال: هو أضل من حمار أهله، وامر بهجرانه، ونهى عن مناكحته.." مجموعة الفتاوى الكبرى 4: 269 (السنة للخلال: 419 ح626)، وكذلك كان عمه يقول بحضرته: "هؤلاء الفساق الفجار الذين لا يثبتون امامة عليّ... وأحمد ساكت يبتسم" (السنة للخلال: 427 ح648). وسئل مرة: يا أبا عبدالله من قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ أليس هو عندك صاحب سنة؟ قال: بلى لقد روي في عليّ رحمه اللّه ما تقشعر ـ أظنه الجلود ـ قال (صلى الله عليه وآله): "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى..." (السنة للخلال: 407 ح602). طبعاً لم يُعترض على أحمد حينما أثبت خلافة عليّ بعد عثمان فحسب، بل اعترض عليه أيضاً بعد ما اظهر التربيع في التفضيل بين الخلفاء، يقول الراوي: "دخلت على أبي عبدالله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعليّ، فقلت: يا أبا عبد الله، إنّ هذه اللفظة توجب الطعن على طلحة والزبير..." (شرح اصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 8: 1475 ح2670).