أنّه حب الدنيا والابتعاد عن تعاليمه سبحانه، ذلك بأنّهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم؟ إنّ عقلي لا يطاوعني بتصديق أن القضاء والقدر هما اللذان حتما مصير الإنسان، بل أميل وأكاد أجزم بأنّ الله سبحانه خلقنا وهدانا وألهمنا الفجور والتقوى، وأرسل إلينا رسله ليوضحوا لنا ما أشكل علينا ويعرفوننا الحقّ من الباطل، ولكنّ الإنسان غرّته الحياة الدنيا وزينتها.
الإنسان بأنانيّته وكبريائه، بجهله وفضوله، بعناده ولجاجته، بظلمه وطغيانه مال عن الحقّ واتّبع الشيطان، وابتعد عن الرحمن فورد غير مورده، وأكل غير مأكله، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك أحسن تعبير وأوجزه بقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(1).
يا أبانا إبراهيم، لا لوم على اليهود والنصارى الذين عاندوا الحقّ بغياً بينهم لمّا جاءتهم البيّنة، فها هي الأمّة التي أنقذها الله بولدك محمّد، وأخرجها من الظلمات إلى النور، وجعلها خير أُمّة أخرجت للنّاس، فهي الأخرى اختلفت وتفرّقت وكفّر بعضها بعضاً، وقد حذّرهم رسول الله ونبّههم إلى ذلك، وضيّق عليهم حتّى قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"(2).
فما بال هذه الأمّة قد انقسمت وافترقت، وأصبحت دويلات يعادي بعضها البعض، ويحارب بعضها البعض، ويكفّر بعضها البعض، وحتّى لا يعرف بعضها البعض الآخر، فيهجره طيلة حياته؟!
ما لهذه الأمة ـ يا أبانا إبراهيم ـ بعدما كانت خير الأُمم، وقد ملكت الشرق
____________
1- سورة يونس: 44.
2- مسند أحمد 4: 327، صحيح البخاري 7: 900 كتاب الأدب، باب 61، صحيح مسلم 8: 8، كتاب البر والصلة، باب النهي عن التحاسد، صحيح ابن حبان 12: 479، سنن ابن ماجة 1: 18، سنن أبي داود 2: 458، سنن الترمذي 3: 252، السنن الكبرى للبيهقي 6: 62، مجمع الزوائد 8: 66، وغيرها من المصادر.
والغرب، وأوصلت للناس الهداية والعلوم والمعرفة والحضارة، إذا بها اليوم أصبحت أقل الأمم وأذلّها، فأراضيهم مغتصبة، وشعوبهم مشرّدة، ومسجدهم الأقصى تحتلّه عصابة من الصهاينة ولا يقدرون على تحريره، وإذا زرتَ بلدانهم فإنّك لا ترى إلاّ الفقر المدقع، والجوع القاتل، والأراضي القاحلة، والأمراض الفتّاكة، والأخلاق السيّئة، والتخلّف الفكري والتقني، والظلم والاضطهاد، والأوساخ والحشرات؟!
ويكفيك فقط أن تقارن بيوت الرّاحة (المراحيض) العمومية كيف هي في أوروبا وكيف هي عندنا، فإذا دخل المسافر إلى المراحيض في أوروبا بأسرها وجدها نظيفة تلمع كالبلّور، وفيها روائح طيبة، بينما لا يطيق المسافر إلى البلاد الإسلامية الدخول إلى المراحيض لعفونتها ونجاستها ونتونتها، ونحن الذين علّمنا الإسلام: أن النظافة من الإيمان والوسخ من الشيطان، فهل تحوّل الإيمان إلى أوروبا وسكن الشيطان عندنا؟
لماذا أصبح المسلمون يخافون من إظهار عقيدتهم حتّى في بلدانهم، ولا يتحكّم المسلم حتّى في وجهه، فلا يتمكّن من إعفاء لحيته، ولا من لبسه الزيّ الإسلامي، بينما يتجاهر الفاسقون بشرب الخمر والزنا وهتك الأعراض، ولا يقدر المسلم دفعهم بل ولا حتّى أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وقد بلغني أنّ في بعض البلاد الإسلامية مثل مصر والمغرب يبعث الآباء بناتهم للبغاء من شدّة الفقر والبؤس والاحتياج، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
يا إلهي لماذا ابتعدت عن هذه الأمّة وتركتها تتخبط في الظلمات؟!
لا.. لا.. استغفرك يا إلهي وأتوب إليك، فهي التي ابتعدت عنك، عن ذكرك، واختارت طريق الشيطان، وأنت جلّت حكمتك، وتعالت قدرتك قلت وقولك الحقّ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}(1).
____________
1- سورة الزخرف: 36.
وقلت أيضاً: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}(1).
ولا شكّ أن ما وصلت إليه الأمّة الإسلامية من الانحطاط، والتخلّف، والذلّة، والمسكنة لدليل قاطع على بعدها عن الصراط المستقيم، ولا شكّ أنّ القلّة القليلة أو الفرقة الواحدة من بين ثلاثة وسبعين لا تؤثّر في مسيرة أمة بأكملها.
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلّطنّ الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"(2).
ربّنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوّهاب، ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.
سافرت إلى المدينة المنورة محمّلا برسالة من صديقي بشير إلى أحد أقربائه لكي أقيم عنده مدّة بقائي هناك، وقد كلّمه من قبل في الهاتف، واستقبلني هذا الأخير ورحّب بي وأنزلني في بيته.
وتوجّهت فور وصولي إلى زيارة رسول الله، فاغتسلت وتطيّبت، ولبست أحسن ثيابي وأطهرها، وكان الزوّار قليلين بالنّسبة إلى موسم الحجّ، فتمكّنت من الوقوف أمام قبر رسول الله وأبي بكر وعمر، ولم أكن أتمكّن من ذلك في موسم الحجّ لكثرة الازدحام.
____________
1- سورة آل عمران: 144.
2- الجامع الصغير للسيوطي 2: 401، مسند أحمد 5: 389، سنن الترمذي 3: 317، سنن أبي داود 2: 323، بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث: 242، مسند أبي يعلى 8: 313، المعجم الأوسط 2: 99، مجمع الزوائد 70: 266، الأستذكار لابن عبد البر 8: 585، باختلاف في المصادر في الفاظ الحديث.
وحاولت عبثاً أن أمسّ أحد الأبواب للتبرّك، فانتهرني الحرس الواقف هناك، وكان على كلّ باب حرس يحرسه، ولمّا أطلت الوقوف للدعاء وإبلاغ السّلام الذي حمّلني إيّاه أصدقائي أمرني الحرّاس بالانصراف، وحاولت أن أتكلّم مع واحد منهم ولكن دون جدوى.
ورجعت إلى الرّوضة المطهّرة حيث جلست أقرأ ما تيسّر من القرآن، وأحسّن الترتيل وأعيده مرّات، لأنّي تخيّلت وكأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستمع إليّ، وقلت في نفسي: أيمكن أن يكون الرسول ميتاً كسائر الأموات، فلماذا نقول في صلاتنا: (السّلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته) بصفة المخاطب؟!(1)
____________
1- من الأمور الثابتة عند المسلمين أنّ الأنبياء أحياء في قبورهم، وقد وردت بذلك آثار صحيحة تصل إلى حد التواتر قال الالباني في صحيحته 2: 187 "621 ـ الانبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلون) أخرجه البزار في مسنده (256)، وتمام الرازي في الفوائد (رقم 56 ـ نسختي)، وعنه ابن عساكر في تاريخ دمشق (4/285/2)، وابن عدي في الكامل (ق 90/2، والبيهقي في حياة الانبياء (ص 3،..)..".
وقال الكتاني في النظم المتناثر من الحديث المتواتر: 126 ـ 127: "115 ـ حياة الأنبياء في قبورهم..
قال السيوطي في مرقاة الصعود: تواترت بها الأخبار. وقال في أنباء الاذكياء بحياة الأنبياء ما نصّه: حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبره وسائر الأنبياء معلومة عندنا علماً قطعياً، لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت به الأخبار الدالة على ذلك، وقد الف الامام البيهقي رحمه الله جزءاً في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام في قبورهم.
وقال ابن القيّم في كتابه الروح نقلاً عن ابن عبد الله القرطبي: صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الأرض لا تأكل أجساد الانبياء، وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمع بالأنبياء ليلة الاسراء في بيت المقدس وفي السماء خصوصاً بموسى، وقد أخبره بأنّه ما من مسلم يسلم عليه إلاّ رد الله عليه روحه حتّى يرد عليه السلام إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأنّ موت الأنبياء إنّما هو راجع إلى أن غيّبوا، وذلك كالحال في الملائكة فإنّهم أحياء موجودون ولا نراهم".
وانشد العلامة ابن حجر الهيثمي قصيدة في ذلك شرحها محمّد حبيب الله الشنقيطي:
"تواترت الأدلة والنقول | فما يحصي المصنف ما يقول |
بأنّ المصطفى حّي طري | هلال ليس يطرقه اُفول |
وأنّ الجسم منه بقاع لحد | كورد لا يدّنسه الذبول |
وأن الهاشمي يكُلّ وصف | جميل لا يغيره الحلول |
ويسمعهم اذا صلّوا عليه | بأذنيه فقصّر يا ملول |
ومن لم يعتقد هذ بطه | يقيناً فهو زنديق جهول |
عبيد هيثمي مستجير | بمن حطت بساحته الحمول" |
ارغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي الغماري: 20.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 3: 305: "وأخرج البيهقي في السنن ـ أيضاًـ حديثاً آخر بلفظ: أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلّى عليّ صلاة صلّى الله تعالى عليه عشراً... والأحاديث فيها مشروعية الاكثار من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الجمعة، وأنّهاتعرض عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّه حي في قبّره.
وقد أخرج ابن ماجة باسناد جيد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأبي الدرداء: "إنّ الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء".
وفي رواية للطبراني: "ليس من عبد يصلي عليّ إلاّ بلغني صلاته.
قلنا: وبعد وفاتك؟
قال: وبعد وفاتي إنّ الله عزّ وجلّ حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء".
وقد ذهب جماعة من المحققين إلى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حي بعد وفاته، وأنّه يسر بطاعات أمته، وأنّ الأنبياء لا يبلون، مع أنّ مطلق الادراك كالعلم والسماع ثابت لسائر الموتى.
وقد صحّ عن ابن عبّاس مرفوعاً: "ما من أحد يمّر على قبر أخيه المؤمن. وفي رواية: بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلاّ عرفه ورد عليه".
ولابن أبي الدنيا: "إذا مرّ الرجل بقبر يعرفه فيسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر على قبر لا يعرفه رد عليه السلام".
وصح أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى ويسلم عليهم. وورد النصّ في كتاب الله في حق الشهداء وأنّهم أحياء يرزقون، وأنّ الحياة فيهم متعلقة بالجسد فكيف بالأنبياء والمرسلين؟!
وقد ثبت في الحديث أنّ الأنبياء أحياء في قبورهم رواه المنذري وصححه البيهقي.
وفي صحيح مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: مررت بموسى ليلة أُسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلّي في قبره".
وإذا كان المسلمون يعتقدون بأنّ سيدنا الخضر (عليه السلام) لم يمت(1)، ويردّ
____________
1- ذكر كلّ من الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 1: 255، والسيد محمود الآلوسي في تفسير روح المعاني 8: 303، سورة الكهف: أنّ رأي الجمهور على بقاء الخضر (عليه السلام) وحياته.
وقال النووي في "تهذيب الأسماء" 1: 177 رقم 147 "قال الأكثرون من العلماء هو حيّ موجود بين أظهرنا... قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامّة معهم في ذلك، قال: وإنّما شذّ بإنكاره بعض المحدّثين".
وقال القرطبي في تفسيره 11: 29 سورة الكهف بعدما ذكر القول بعدم حياته: "والصحيح القول الثاني وهو انّه حيّ. ثمّ أورد استدلال الثقات لحياته محتجين برواية من صحيح مسلم وردّ احتجاجهم وفسّر الحديث بخلاف تفسيرهم، ثمّ قال: وقد ذكر ابو اسحاق الثعلبي في كتاب العرائس: والصحيح انّ الخضر نبيّ معمّر محجوب عن الأبصار، وروى محمّد بن المتوكل عن ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب قال: الخضر.. والياس من بني إسرائيل يلتقيان كلّ عامّ في الموسم.
وعم عمرو بن دينار قال: إنّ الخضر والياس لايزالان حيّين في الأرض ما دام القرآن على الأرض فإذا رفع ماتا.
وقد ذكر شيخنا الإمام أبو محمّد عبد المعطي بن محمود بن عبد المعطي اللخمي في شرح الرسالة له للقشيري حكايات كثيرة عن جماعة من الصالحين والصالحات بأنّهم رأوا الخضر (عليه السلام) ولقوه، يفيد مجموعها غاية الظن بحياته مع ما ذكره النقاش والثعلبي وغيرهما.
وقد جاء في صحيح مسلم 8: 199: "إنّ الدجال ينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس..." وفي آخره قال أبو اسحاق: يقال إنّ هذا الرجل هو الخضر...".
وذكر ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة 2: 664: "ولنختم هذا الكتاب بحكاية جليلة نفيسة فيها فوائد غريبة وهي: إنّ أبا نُعيم أخرج بسند صحيح عن رباح بن عبيدة، قال: خرج عمر بن عبدالعزيز إلى الصلاة وشيخ يتوكأ على يده فقلت في نفسي: إنّ هذا الشيخ جاف، فلّما صلّى ودخل لحقته، فقلت: أصلح الله الأمير من الشيخ الذي كان يتكىء على يدك؟ قال: يا رباح رأيته؟
قلت: نعم.
قال: ما أحسبك إلاّ رجلا صالحاً، ذاك أخي الخضر...". وقال محقق الكتاب عبدالرحمن التركي وكامل محمّد الخراط: "ذكر القصة أبو نعيم في الحلية 5: 254، والسيوطي في تاريخ الخلفاء: 193، وابن حجر في الاصابة 1: 446، وقال عقيبها: هذا أصلح إسناد وقفت عليه في هذا الباب، وقد أخرجه أبو عروبة الحراني في تاريخه عن أيوب بن محمّد الوراق،... وقد أسهب الحافظ في الكلام على الخضر وحياته والأقوال المذكورة فيه، والروايات التي تذكر اجتماع الناس به في ترجمته للخضر (عليه السلام) في الاصابة 1: 428 ـ 447، وفيها كلام نفيس".
وقال النووي في شرح مسلم 18: 72: "قال أبو إسحاق: يقال: إنّ هذا الرجل هو الخضر (عليه السلام).
أبو إسحاق هذا هو إبراهيم بن سفيان راوي الكتاب عن مسلم. وكذا قال معمّر في جامعه في أثر هذا الحديث كما ذكره ابن سفيان. وهذا تصرّيح منه بحياة الخضر (عليه السلام)، وهو الصحيح".
وقال الأربلي في كشف الغمّة 3: 291: "وأما الخضر والياس فقد قال ابن جرير الطبري: والخضر والياس باقيان يسيران في الأرض".
وقال ابن حجر في الاصابة 2: 252: "وقال النووي في تهذيبه: قال الأكثرون من العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكايتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.
وقال أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه: هو حي عند جماهير العلماء الصالحين والعامّة منهم قال: وإنّما شذّ بانكاره بعض المحدثين".
وقال العجلوني في كشف الخفاء 1: 426: "والصوفية وكثير من المحدثين والفقهاء على حياته ـ يعني الخضر (عليه السلام) ـ ".
وفي الدر المنثور 4: 239: "وأخرج ابن شاهين عن خصيف قال: أربعة من الأنبياء أحياء، اثنان في السماء عيسى وإدريس، واثنان في الأرض الخضر والياس، فأمّا الخضر فإنّه في البحر، وأما صاحبه فإنّه في البر".
السّلام على كُلّ من يسلّم عليه، بل وإنّ مشايخ الطرق الصوفية يعتقدون جزماً بأنّ شيخهم أحمد التيجاني أو عبد القادر الجيلاني، يأتون إليهم جهاراً ويقظة لا مناماً، فلماذا نشحُّ على رسول الله بمثل هذه المكرمة، وهو أفضل الخلق على
الاطلاق.
ولكن يخفّف على نفسي أنّ المسلّمين لا يشحّون بذلك على رسول الله إلاّ الوهابية الذين بدأت أنفر منهم لهذا ولعدة أسباب أخرى، منها الغلظة التي شاهدتها فيهم، والشدّة على المؤمنين الذين يخالفونهم في معتقداتهم.
زرت البقيع وكنت واقفاً أترحّم على أرواح أهل البيت، وكان بالقرب منّي شيخ طاعن في السنّ يبكي، وعرفت من بكائه أنّه شيعي، واستقبل القبلة وبدأ يصلّي وإذا بالجندي يأتي إليه بسرعة وكأنّه كان يراقب تحرّكاته وركله بحذائه ركلة وهو في حالة سجود، فقلبه على ظهره وبقي المسكين فاقد الوعي بضع دقائق، وانهال عليه الجندي ضرباً وسبّاً وشتماً، ورقّ قلبي لذلك الشيخ وظننت أنّه مات، ودفعني فضولي وأخذتني الحميّة وقلت للجندي: حرام عليك لماذا تضربه وهو يصلّي؟ فانتهرني قائلا: أسكت أنت ولا تتدخّل حتّى لا أصنع بك مثله(1).
____________
1- يعرف المذهب الوهابي بالانتماء إلى المذهب الحنبلي، وهذا المذهب معروف بالشدّة والغلظة والتسرع في تكفير المسلمين واتهامهم بالخروج عن الدين، لأمور أسسوها وعقائد اخترعوها وعلى ضوئها يطلقون الأحكام على المسلمين، وهم أكثر الناس تسرعاً في تكفير المسلمين والحكم بخروجهم عن الدين، ومن شاء فليرجع إلى كتبهم ليرى ذلك بوضوح ككتاب (السنة) لعبد الله ابن احمد بن حنبل، وكتابه (السنة) لابيه أحمد بن حنبل، وكتاب (السنة) لابن أبي عاصم، وكتاب (الشريعة) للآجري، وكتاب (السنة) للبربهاري، و(شرح اعتقاد اهل السنة) لللالكائي والتوحيد لابن خزيمة وغيرها من الكتب العقدية التي ذكرت على ضوء منهج مذهب أحمد بن حنبل، ثُمّ جاء بعده ابن تيمية الحراني وابن كثير واخيراً طور الدعوة محمّد بن عبد الوهاب واوصلها إلى الذروة التي وصلت لها الآن، ونذكر للقارئ بعض العناوين التي يذكرونها في حق خصومهم:
1 ـ يقولون بضلالة أكثر الأُمة وانحرافها عن الحقّ:
قال الآجري في كتابه الشريعة 1: 323: "من تصفح أمر هذه الأُمة من عالم عاقل علم أنّ أكثرهم تجري أمورهم على سنن أهل الكتابين كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى سنن كسرى وقيصر، وعلى سنن أهل الجاهلية، وذلك مثل السلطنة وأحكام العمال والأمراء وغيرهم، وامر المصائب والافراح، والمساكن واللباس والحلية والاكل والشرب... وأشياء لما ذكرت يطول شرحها تجري بينهم على خلاف الكتاب والسنة، وانّما يجري بينهم على سنن من قبلنا..".
2 ـ تكفير من يؤمن بأنّ القرآن مخلوق وتكفير من لم يكفره:
قال أحمد بن حنبل في كتاب العقيدة :79: "والقرآن كلام الله تكلم به، ليس بمخلوق، ومن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأوّل، ومن زعم أنّ الفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كُلّهم فهو مثلهم".
وقال في :124: "والدار إذا ظهر فيها القول بخلق القرآن والقدر وما يجري مجرى ذلك فهي دار كفر".
وتكفير من قال بخلق القرآن ارجع إليه في المصادر التاليه كتاب الاعتقاد للبيهقي: 303، كتاب السنة للبربهاري :329، نونية ابن القيّم الجوزية 1: 121 بشرح محمّد خليل هراس، واللالكائي في كتابه شرح اصول اعتقاد أهل السنة 1: 275.
3 ـ السنة واتباعها يدور مدارها على حبّ الأشخاص:
قال اللالكائي في كتابه شرح اصول اعتقاد أهل السنة 1: 69: "38 ـ أخبرنا علي ابن محمّد بن عمر، ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، ثنا محمّد بن مسلم، ثنا حماد بن زاذان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا رأيت بصرياً يحب حماد بن زيد فهو صاحب سنة".
وقال كذلك 1:74: "58 ـ سمعت أحمد بن عبد الرحمن بن يونس يقول: امتحن أهل الموصل بمعافي بن عمران فإنّ احبوه فهم أهل سنة، وإن ابغضوه فهم أهل بدعة.."
وكذلك ارجع إلى كتاب السنة للبربهاري: 111.
4 ـ الكتب التي يؤلفونها حقّ كُلّها ومن خالفها أو خالف بعضاً منها فهو مبتدع ضال:
قال الحسن البربهاري في كتابه شرح السنه: 100 مكفراً كلّ من يخالف حرفاً واحداً من كتابه: "فرحم الله عبدا ورحم والديه قرأ هذا الكتاب وبثه وعمل به، ودعا إليه واحتج به، فإنّه دين الله ودين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه من استحل شيئاً خلاف ما في هذا الكتاب فإنّه ليس يدين لله بدين، وقد رده كله، كما لو أنّ عبداً آمن بجميع ما قاله الله تبارك وتعالى إلاّ أنه شكّ في حرف فقد رد جميع ما قال الله تعالى، وهو كافر".
وكذلك في كتاب عقيدة السلف واصحاب الحديث للصابوني: 449، وكتاب شرح اصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4: 7، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: 4.
5 ـ فاسق أهل السنة وفاجرها أفضل من عبّاد المبتدعة:
قال الحسن البربهاري الحنبلي في كتابه شرح السنة: 114: "وإذا رأيت الرجل من أهل السنة ردي الطريقة والمذهب، فاسقاً فاجراً صاحب معاصي ضالاً وهو على السنة فاصحبه، واجلس معه، فإنّه ليس يضرك معصيته.
وإذا رأيت الرجل مجتهداً في العبادة متقشفاً محترفاً بالعبادة، صاحب هوىً فلا تجالسه ولا تقعد معه، ولا تسمع كلامه ولا تمش معه في طريقه، فإنّي لا آمن ان تستحلي طريقته فتهلك"، وكذلك البيهقي في كتاب الاعتقاد: 364.
ومقصودهم من السنة هو التمّسك بالعقائد التي اصطنعوها باجتهاداتهم وآرائهم حتّى لو لم يرد بها نصّ عن الله أو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كالقول بعدم خلق القرآن وتكفير القائل بالخلق وتكفير من لم يكفره، وحبّ الاشخاص كأحمد ابن حنبل وغيره، والإيمان بكُلّ كلمة يقولونها.. وغير ذلك. فهذا ما يعتقدون بأنّه سنّة والمعتقد به حتّى لو فعل كُلّ شيء فهو صاحب سنة، ومن لم يعتقد به فلو اطاع الله في كلّ شيء لمّا نفعه ذلك.
6 ـ صاحب البدعة ليس له توبة حتّى لو رجع عن بدعته، بخلاف العاصي من أهل السنة والمصر على العصبية إلى الموت فيرجى له العفو:
قال اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1: 159: "عن عطاء الخراساني قال: ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة.
وعن معاوية بن صالح قال: إنّ الحسن بن أبي الحسن قال: أبى الله تبارك وتعالى أن يأذن لصاحب هوى بتوبة"، بينما قال في: 182 عند نقله لعقيدة امامه أحمد بن حنبل قال: "ومن لقي الله بذنب يجب له به النار تائباً غير مصر عليه فإنّ الله عزّ وجلّ يتوب عليه.. ومن لقيه مصّراً غير تائب من الذنوب التي استوجبت العقوبة فامره إلى الله عزّ وجلّ ان شاء عذبه وإن شاء غفر له".
7 ـ من أعاد الصلاة خلف الحاكم الجائر فهو مبتدع، ومن خرج على الحاكم الجائر فميتته ميتة جاهلية:
قال اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1: 188 عند نقله لعقيدة علي ابن المديني التي لم يقل أحدٌ بخصلة منها فهو ليس من أهل السنة: "ثمّ السمع والطاعة للأئمة وامراء المؤمنين، البرّ والفاجر ومن ولي الخلافة باجماع الناس ورضاهم، لا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ليلة إلاّ عليه إمام براً كان أو فاجراً فهو أمير المؤمنين.
وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاّه جائزة قائمة ركعتان من اعادهما فهو مبتدع تارك للايمان مخالف وليس له من فضل الجمعة شيء اذا لم ير الجمعة خلف الأئمة من كانوا برّهم وفاجرهم، والسنة أن يصلّوا خلفهم لا يكون في صدره حرج من ذلك.
ومن خرج على إمام من ائمة المسلمين وقد اجمع عليه الناس فاقروا له بالخلافة بأيّ وجه كان برضاً كانت أو بغلبة فهو شاق هذا الخارج عليه العصا وخالف الآثار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية.
ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن عمل ذلك فهو مبتدع على غير السنة".
8 ـ موقفهم من ابي حنيفة النعمان:
قال اللالكائي في شرح اصول اعتقاد أهل السنة 2: 365: "حدثنا سفيان الثوري قال: قال لي حماد بن أبي سليمان: أبلغ عنّي أبا حنيفة المشرك أني بريء منه حتّى يرجع عن قوله في القرآن".
وساق عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة الأوصاف التي وصموا بها أبا حنيفة فقال: "كافر، زنديق، مات جهمّياً، ينقض الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام أشأم ولا أضر على الأمة منه، وانّه يكيد الدين، وأنّ أبا حنيفة أكبه الله في النار، وأنّ أبا حنيفة من المرجئة، وأنّ أبا حنيفة أوّل من قال بخلق القرآن، وانه يترك الحديث إلى الرأي، ولو وزع خطأه على الأمة لوسعهم، وأنّ أبا حنيفة وأصحابه شرّ الطوائف جميعاً، وأنّه استتيب من الكفر مرتين، واستتيب من كلام الزنادقة مراراً وأنّه كان فاسداً، وأنّ كثيراً من العلماء جوّز لعنه" كتاب السنة: 184 ـ 210.
9 ـ التجسيم والتشبيه الذي يؤمنون به:
في كتاب الصفات للحسن بن علي بن إبراهيم الحنبلي واورد فيه حديث عرق الخيل والذي هو: "إن الله لمّا أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتّى عرقت ثُمّ خلق نفسه من ذلك العرق" سير أعلام النبلاء 21: 160.
وفي طبقات الحنابلة 1: 218: "روى عبد الصمد بن يحيى الحنبلي قال: قال لي شاذان: اذهب إلى أبي عبد الله ـ احمد بن حنبل ـ فقل: ترى لي أن أحدّث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: (رأيت ربي عزّ وجلّ في صورة شاب)؟
قال: فأتيت أبا عبد الله فقلت له؟
فقال لي: قل له: تحدّث به، قد حدّث به العلماء"
وغير ذلك من التشبه والتجسيم المنتشر في كتبهم ككون الله يجلس على العرش وياط به أطيط الرحل، وأنّ الله شاب أمرد جعد قطط عليه جبّة حمراء، وأنّ الله محدود بحد.. وغير ذلك تجدها منتشرة في كتبهم كطبقات الحنابلة، والسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة للبربهاري وغيرها من الكتب.
10 ـ الالفاظ التي يطلقونها في خصومهم:
1 ـ وصف لمن ينكر قولهم بالالحاد، ارجع إلى كتاب القول المبين في اثبات الصورة لربِّ العالمين :33، 35، 40، 41، 42، 44، 47، 51.
2 ـ أنّهم اُضلّ من البهائم. المصدر السابق: 10.
3 ـ انه يجب قتلهم وتطهير البلاد منهم المصدر السابق: 16.
4 ـ والسبِّ واللعن لمن يخالفهم. كتاب التوحيد لابن خزيمة: 22، 26، 84.
5 ـ أنّهم أشبه الناس باليهود والنصارى. المصدر السابق: 101.
قال ابن الجوزي واصفاً الحالة التي وصلت بالحنابلة: "ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأُصول بما لا يصّح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي أبو يعلى وابن الزاغوني، فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحسن، فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه الصلاة والسّلام على صورته فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين، وفماً، ولهوات، واضراساً واضواء لوجهه هي السبحات، ويدين واصابع، وكفّاً وخنصراً، وابهاماً وصدراً، وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس!! وقالوا: يجوز ان يَمس ويُمس، ويدني العبد من ذاته، وقال بعضهم: ويتنفس!
ثمّ إنّهم يرضون العوام بقولهم: لا كما يعقل.
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات يسمّوها بالصفات، تسمّية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى الغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث، ولم يقنعوا بان يقولوا: صفة فعل حتّى قالوا: صفة ذات.
ثمّ لمّا اثبتوا أنّها صفات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة، ولا مجيء واتيان على بر ولطف، ولا ساق على شدّة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشيء إنّما يحمل على حقيقة إذا أمكن، فإنّ صرف صارف حمل على المجاز، ثُمّ يتحرجون من التشبيه ويأنفون من اضافته إليهم ويقولون: نحن أهل السنة وكلامهم صريح في التشبيه.
وقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع فقلت لهم: يا أصحابنا، أنتم اصحاب نقل واتباع، واما حكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يقل، فايّاكم ان تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه، ثُمّ قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها، فظاهر القدم الجارحة، فانه لما قيل في عيسى عليه الصلاة والسّلام روح الله اعتقدت النصارى لعنهم الله تعالى أنّ لله سبحانه وتعالى صفة هي روح ولجت في مريم.
ومن قال استوى بذاته المقدّسة فقد اجراه سبحانه وتعالى مجرى الحسيات.
وينبغي أن لا يهمل ما يثبت به الاصل وهو العقل فأنا به عرفنا الله تعالى وحكمنا له بالقدم، فلو أنّكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت لما انكر احد عليهم، إنّما حملكم إيّاها على الظاهر قبيح.
فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه، فلقد كسبتم هذا المذهب شيئاً قبيحاً، حتّى صار لا يقال عن حنبلي إلاّ مجسم، ثمّ زينتم مذهبكم ايضاً بالعصبية ليزيد بن معاوية وقد علمتم انّ صاحب المذهب أجاز لعنته.
وقد كان أبو محمّد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهب شيئاً قبيحاً لا يغسل إلى يوم القيامة" دفع شبهة التشبيه ـ: 6 ـ 9 تحقيق العلامه محمّد زاهد الكوثري.
وقال الشيخ يوسف القرضاوي واصفاً لهم: "وقد عرفنا في عصرنا أناساً يجهدون أنفسهم ويجهدون الناس معهم، ظانين أنّهم قادرون على أن يصّبوا الناس في قالب واحد، يصنعونه هم لهم، وأن يجتمع الناس على رأي واحد، يمشون فيه وراءهم وفق ما فهموه من النصوص الشرعية، وبذلك تنقرض المذاهب، ويرتفع الخلاف، ويلتقي الجميع على كلمة سواء.
ونسي هؤلاء أن فهمهم للنصوص ليس أكثر من رأي يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب، إذ لم تضمن العصمة لعالم فيما ذهب إليه، وإن جمع شروط الاجتهاد كُلّها، كلّ ما ضمن له هو الأجر على اجتهاده أصاب أم أخطأ.
ولا تحسبن أنّي أنكر عليهم دعوتهم إلى اتباع النصوص أو اجتهادهم في فهمها فهذا من حق كلّ مسلم استوفى شروط الاجتهاد وادواته.
ولا يملك أحد أن يغلق باباً فتحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأُمة، إنّما أنكر عليهم تطاولهم على مناهج علماء الأمة، واحتقارهم الفقه الموروث، ودعاواهم العريضة في أنّهم وحدهم على الحقّ، وما عداهم على خطأ أو ضلال، وتوهمهم أنّ باستطاعتهم إزالة الخلاف وجمع الناس قاطبة على قول واحد هو قولهم.
قال لي واحد من طلبة العلم المخلصين من تلاميذ هذه المدرسة، مدرسة الرأي الواحد: ولم لا يلتقي الجميع على الرأي الذي معه النصّ؟
قلت: لا بّد أن يكون النصّ صحيحاً مسلماً به عند الجميع، ولا بدّ من أن يكون صريح الدلالة على المعنى المراد، ولا بدّ أن يسلم من معارض مثله أو أقوى منه من نصوص الشريعة الجزئية او قواعدها الكلّية، فقد يكون النصّ صحيحاً عند امام ضعيف عند غيره، وقد يصح عنده ولكن لا يسلم بدلالته على المراد، فقد يكون عند هذا عاماً وعند غيره خاصّاً، وقد يكون عند إمام مطلقاً وعند آخر مقيّداً، وقد يراه هذا دليلاً على الوجوب أو الحرمة، ويراه ذلك على الاستحباب أو الكراهة، وقد يعتبره بعضهم محكماً ويراه غيره منسوخاً إلى غير ذلك من الاعتبارات.." كتاب الصحوة الإسلامية: 163.
وقد لاحظنا طرفاً من المنهاج الذي يسيرون عليه والعقائد التي يؤمنون بها، سواء استفادوها خطأ من النصّ أو قالوا بها من عندياتهم، وعلى ضوئها كفرّوا بقيّة المسلمين وحكموا عليهم بالبدعة والضلال وممّارسة انواع الشرك المنهي عنه.. وكيف أنّ العلماء رفضوا هذه الفرقة من أصلها وأصولها وواجهوها بالردود عليها وبيان الحقّ من العقائد والشرع، وبيّنوا أنّ الإسلام سمح سهل يسير ليس بالشدّة التي اظهروها وأنّه لا يسارع في تكفير المسلمين، وانما يبقى المسلم على اسلامه إلى أن يظهر منه صريح الكفر غير القابل للتأويل عند ذلك يكون له حكم آخر.. أما لم يصدر منه ذلك أو صدر منه فعلٌ له وجه من مطابقة الشريعة او كان فيه متأؤلاً أو مجتهداً فلا يحكم عليه بالكفرّ بل يبقى مرتكبه على إسلامه.
ولمّا رأيت في عينيه الشرّ تجنّبته وأنا ساخط على نفسي العاجزة عن نصرة المظلوم، وعلى السعوديين الذين يفعلون بالناس ما بدا لهم بدون رادع ولا وازع ولا من ينكر عليهم.
وكان بعض الزائرين حاضرا فمنهم من حوقل(1) ومنهم من قال: إنّه يستحقّ ذلك لأنه يصلّي حول القبور وهو محرّم، فلم أتمالك وانفجرت على هذا المتكلّم قائلا: من قال لك بأنّ الصلاة حول القبور حرام؟
أجابني: قد نهى رسول الله عن ذلك.
فقلت بدون وعي: تكذبون على رسول الله، وخشيت أن يتألّب عليّ الحاضرون أو ينادوا الجندي فيفتك بي، فتلطّفت قائلا: إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)قد نهى عن ذلك، فلماذا يخالف نهيه الملايين من الحجّاج والزوّار ويرتكبون حراماً، لأنّهم يصلّون حول قبر النبي، وقبر أبي بكر، وقبر عمر في المسجد النبوي الشريف، وفي مساجد المسلمين في كلّ العالم الإسلامي؟!
وعلى افتراض أن الصّلاة حول القبور حرام، أفبهذه الغلظة والشدّة نعالجها أم باللين واللطف؟!
واسمحوا لي أن أروي لكم قصة ذلك الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله بحضرته وبحضرة أصحابه بدون حياء ولا خجل، ولمّا قام إليه بعض الصحابة شاهرين سيوفهم ليقتلوه، نهاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنعهم وقال:
"دعوه ولا تزرموه واهريقوا على بوله دلواً من الماء، إنّما بعثتم لتيسّروا لا لتعسّروا، لتبشّروا لا لتنفّروا".
وما كان من الصحابة إلاّ أن امتثلوا أمره، ونادى رسول الله الأعرابي وأجلسه إلى جانبه ورحّب به ولاطفه وأفهمه أن ذلك المكان هو بيت الله، ولا يمكن تنجيسه، فأسلم الأعرابي ولم يُر بعد ذلك إلاّ وهو آت المسجد في أحسن ثيابه وأطهرها(2)، وصدق الله العظيم إذ يقول لرسوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً
____________
1- حوقل: قال لا حول ولا قوة إلاّ بالله (المؤلف).
2- وردت بألفاظ وأسانيد مختلفة، راجع سنن النسائي 1: 47، السنن الكبرى للبيهقي 2: 428، مسند أحمد 2: 239، 282، سنن أبي داود 1: 94، كنز العمال 9: 348.
غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1).
وتأثّر بعض الحاضرين عند سماع القصّة، فاختلى بي أحدهم إلى جانب وسألني: من أين أنت؟
قلت: من تونس، فسلّم عليّ وقال: يا أخي بالله عليك أن تحفظ نفسك ولا تتكلّم مثل هذا هنا أبداً، أنصحك لوجه الله.
وازددت بغضاً وحنقاً على هؤلاء الذين يدّعون أنّهم حماة الحرمين، ويعاملون ضيوف الرحمن بهذه القسوة، ولا يقدر أحد أن يبدي رأيه أو يروي أحاديث لا تتفق وما يروونه، أو يعتقد غير ما يعتقدونه.
رجعت إلى بيت الصّديق الجديد الذي لم أعرف اسمه، وقد جاءني بالعشاء وجلس مقابلي، وقبل أن نبدأ في الأكل سألني أين ذهبت، ورويت له قصّتي من أولّها إلى آخرها، وقلت في معرض كلامي: يا أخي، أنا بصراحة بدأت أنفر من الوهابية وأميل إلى الشيعة، فتغيّر وجهه وقال لي: إيّاك أن تتكلّم مثل هذا الكلام مرّة أخرى! وغادرني ولم يأكل معي، وانتظرته طويلا حتّى غلبني النوم.
وأفقت باكراً على أذان المسجد النبوي، فرأيت أن الاكل لا يزال في مكانه كما تركته، وعلمت بأنّ مضيفي لم يرجع، وتشككت في أمره وخشيت أن يكون من المخابرات، فنهضت مسرعاً وغادرت البيت بدون رجعة، وقضيت كامل اليوم في الحرم النبوي أزور وأصلّي وأخرج لقضاء الحاجة والوضوء، وبعد صلاة العصر سمعت أحد الخطباء يلقي درساً وسط جماعة من المصلّين، واتجهت وعلمت من بعض الجالسين أنّه قاضي المدينة، واستمعت إليه وهو يفسّر بعض آيات من الذكر الحكيم، وبعد ما أتم درسه وهمّ بالخروج استوقفته وسألته قائلا: سيدي هل لك أن تعطيني مدلول الآية
____________
1- سورة آل عمران: 159.
من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(1)، فمن هم أهل البيت المقصودون بهذه الآية؟
أجابني على الفور: هم نساء النبي، وقد بدأت الآية بذكرهنّ: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}.
قلت له: إنّ علماء الشيعة يقولون بأنّها خاصّة بعلي وفاطمة والحسن والحسين، وقد اعترضت عليهم طبعاً وقلت: بأنّ بداية الآية تقول: (يا نساء النبي)؟
فأجابوني لمّا كان الكلام عليهنّ جاءت الصيغة كلّها بنون النسوة، فقال تعالى: (لستنّ)، (إن اتقيتنّ)، (فلا تخضعن)، (وقلن)، (وقرن في بيوتكنّ)، (ولا تبرّجن)، (وأقمن الصلاة)، (وآتين الزكاة)، (وأطعن الله ورسوله)، ولمّا كان هذا المقطع من الآية خاصاً بأهل البيت تغيرت الصيغة.
فقال: (ليذهب عنكم ويطهّركم)، فنظر إليّ رافعاً نظّارته وقال: إيّاك وهذه الأفكار المسمومة، إنّ الشيعة يؤوّلون كلام الله على حسب أهوائهم، ولهم في عليّ وذريته آيات لا نعرفها، وعندهم قرآن خاصّ يسمّونه مصحف فاطمة، فأنا أحذّرك أن يخدعوك.
قلت: لا تخف يا سيدي فأنا على حذر وأعرف عنهم الكثير، ولكني أردت أن أتحقق.
قال: من أين أنت؟
قلت: من تونس.
قال: فما اسمك؟
قلت: التيجاني فضحك مفتخراً، وقال: هل تدري من هو أحمد التيجاني؟
____________
1- سورة الأحزاب: 33.
قلت: هو شيخ الطريقة.
قال: وهو عميل للاستعمار الفرنسي، وقد تركّز الاستعمار الفرنسي في الجزائر وتونس باعانته، وإذا زرت باريس فاذهب للمكتبة القومية واقرأ بنفسك القاموس الفرنسي في باب ( أ ) فسترى أنّ فرنسا أعطت وسام الشرف لأحمد التيجاني الذي قدّم لها خدمات لا تقاس، فتعجبت من قوله وشكرته وودّعته وانصرفت.
بقيت في المدينة أسبوعاً كاملا حيث صلّيت أربعين صلاة وزرت المزارات كلّها، وكنت دقيق الملاحظة خلال إقامتي هناك، فلم أزدد من الوهابية إلاّ بعداً ونفوراً، وارتحلت من المدينة المنورة إلى الأردن حيث التقيت أصدقاءً هناك كنت تعرفت عليهم في ملتقى الحج الذي أشرتُ إليه سابقاً.
وبقيت معهم ثلاثة أيام، ووجدت عندهم حقداً على الشيعة أكثر ممّا عندنا في تونس، فنفس الروايات ونفس الاشاعات ذاتها، وليس هناك واحد سألته عن الدليل إلاّ وقال بأنّه يسمع عنهم، ولم أجد أحداً منهم جالس الشيعة، أو قرأ كتاباً للشيعة، ولا حتّى التقى شيعيّاً في حياته.
رجعت من هناك إلى سوريا، وفي دمشق زرت الجامع الأموي، وإلى جانبه مرقد رأس سيدنا الحسين، كما زرت ضريح صلاح الدين الأيوبي، والسيدة زينب، ومن بيروت قطعت مباشرة إلى طرابلس، ودامت الرحلة أربعة أيّام في البحر، استرحت خلالها بدنياً وفكرياً، واستعرضت شريط الرحلة التي أوشكت على النهاية، فإذا بي أستنتج ميلا واحتراماً للشيعة، وفي نفس الوقت بعداً ونفوراً وسخطاً على الوهّابية التي عرفت دسائسها، وحمدت الله على ما أنعم به عليّ، وما أولاني من عناية ورعاية، داعياً إيّاه سبحانه وتعالى أن يهديني إلى طريق الحقّ.
ورجعت إلى أرض الوطن وكلّي شوق وحنين إلى أسرتي وأهلي
وأصدقائي، ووجدت الجميع بخير، وفوجئت عند دخولي إلى منزلي بكثرة الكتب التي وصلت قبلي وعرفت مصدرها، ولمّا فتحت تلك الكتب التي ملأت البيت ازددت حّباً وتقديراً لأولئك الذين لا يخلفون وعدهم، وقد وجدت هنا أضعاف ما أهديّ إليّ هناك.
بداية البحث
بداية البحث
فرحت كثيراً، ونظمت الكتب في بيت خاصّ سمّيته بالمكتبة، واسترحت أيّاماً، وتسلّمت جدول أوقات العمل بمناسبة بداية السنّة الدراسية الجديدة، فكان عملي ثلاثة أيّام متوالية من التدريس، وأربعة أيّام متوالية من الرّاحة في الأسبوع.
وبدأت أقرأ الكتب، فقرأت كتاب عقائد الإمامية، وأصل الشيعة وأصولها، وارتاح ضميري لتلك العقائد وتلك الأفكار التي يرتئيها الشيعة، ثمّ قرأت كتاب المراجعات للسيد شرف الدين الموسوي، وما أن قرأت منه بضع صفحات حتّى استهواني الكتاب وشدّني إليه شدّاً، فكنت لا أتركه إلاّ غصباً، وكنت أحمله في بعض الأحيان إلى المعهد، وأدهشني الكتاب بما حواه من صراحة العالم الشيعي، وحلّه لما أُشكل على العالم السنّي شيخ الأزهر.
وجدت في الكتاب بغيتي، لأنّه ليس كالكتب التي يكتب فيها المؤلف ما يشاء بدون معارض ولا مناقش، فالمراجعات هو حوار بين عالمين من مذهبين مختلفين، يحاسب كُلّ منهما صاحبه على كُلّ شاردة وواردة، على كُلّ صغيرة وكبيرة متوخّين في ذلك المرجعين الأساسيين لكافّة المسلمين، وهما القرآن الكريم والسنّة الصحيحة المتّفق عليها في صحاح السنّة، فكان الكتاب بحق يمثّل دوري كباحث يفتّش عن الحقيقة ويقبلها أينما وجدت، وعلى هذا كان الكتاب مفيداً جدّاً، وله فضل عليّ عميم.
ووقفت مبهوتاً عندما كان يتكلّم عن عدم امتثال الصحابة لأوامر الرسول، ويسوق لذلك عدّة أمثلة، ومنها حادثة رزية يوم الخميس، إذ لم أكن أتصور أنّ سيدنا عمر بن الخطاب يعترض على أمر رسول الله ويرميه بالهجر، وظننت بادئ الأمر أنّ الرواية هي من كتب الشيعة، وازدادت دهشتي وحيرتي عندما رأيت العالم الشيعي ينقلها من صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقلت في نفسي: إن وجدت هذا في صحيح البخاري فسيكون لي رأي.
وسافرت إلى العاصمة ومنها اشتريت صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، وصحيح الترمذي، وموطأ الإمام مالك وغيرها من الكتب الأخرى المشهورة، ولم أنتظر الرجوع إلى البيت، فكنت طوال الطريق بين تونس وقفصة ـ وأنا راكب في حافلة النّقل العمومية ـ أتصفّح كتاب البخاري، وأبحث عن رزية يوم الخميس متمنّياً أن لا أعثر عليها، ورغم أنفي وجدتها وقرأتها مرّات عديدة، فكانت كما نقلها السيد شرف الدين.
وحاولت تكذيب الحادثة برمّتها، واستبعدت أن يقوم سيدنا عمر بذلك الدّور الخطير، ولكن أنّى لي تكذيب ما ورد في صحاحنا، وهي صحاح أهل السنّة والجماعة التي ألزمنا بها أنفسنا وشهدنا بصحّتها، والشكّ فيها أو تكذيب بعضها يستلزم طرحها، لأنّه هو الآخر يستلزم طرح كُلّ معتقداتنا.
ولو كان العالم الشيعي ينقل من كتبهم ما كنت لأصدّق أبداً، وأمّا أن ينقل من صحاح أهل السنّة التي لا مجال للطعن فيها، وقد أخذنا على أنفسنا بأنّها أصَحّ الكتب بعد كتاب الله، فيصبح الأمر ملزماً وإلاّ استلزم الشكّ في هذه الصحّاح، وعند ذلك لا يبقى معنا من أحكام الإسلام شيء نعتمده، لأنّ الأحكام التي وردت في كتاب الله جاءت مجملة غير مفصّلة، ولأنّنا بعيدون عن عصر الرسالة، وقد ورثنا أحكام ديننا أباً عن جدّ عن طريق هذه الصحّاح، فلا يمكن بحال من الأحوال طرح هذه الكتب.
وأخذت على نفسي عهداً، وأنا أدخل هذا البحث الطويل العسير، أن أعتمد الأحاديث الصحيحة التي اتّفق عليها السنّة والشيعة، وأن أطرح الأحاديث التي انفرد بها فريق دون الآخر، وبهذه الطريقة المعتدلة أكون قد ابتعدت عن المؤثرات العاطفية، والتعصّبات المذهبية، والنزعات القومية أو الوطنية، وفي الوقت نفسه أقطع طريق الشكّ لأصل إلى حبل اليقين، وهو صراط الله المستقيم.
بداية الدراسة المعمّقة
الصحابة عند الشيعة والسنّة
من أهم الأبحاث التي أعتبرها الحجر الأساسي في كلّ البحوث التي تقود إلى الحقيقة، هو البحث في حياة الصّحابة وشؤونهم وما فعلوه وما اعتقدوه، لأنّهم عماد كُلّ شيء، وعنهم أخذنا ديننا، وبهم نستضىء في الظلمات لمعرفة أحكام الله.
ولقد سبق لعلماء الإسلام ـ لقناعتهم بذلك ـ البحث عنهم وعن سيرتهم، فألفوا في ذلك كتباً عديدة أمثال: أسد الغابة في معرفة الصحابة، وكتاب الإصابة في تمييز الصحابة، وغيرها من الكتب التي تناولت حياة الصحابة بالنّقد والتحليل، ولكنّها من وجهة نظر أهل السنّة والجماعة(1).
____________
1- هذه الكتب بحثت حياة الصحابة، وتعرضت لافعالهم وتصرفاتهم التي ارتكبوها في حياتهم، سواء ما كان منها في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعد وفاته، وهذه الكتب وان كانت مؤلفة على طريقة أهل السنة وعلى منهجهم من عدالة جميع الصحابة، وان مؤلفيهما ممن يعتقدان بذلك إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من رجوع الباحث المنصف لها، والاستفادة منها من خلال الاطلاع على أفعال الصحابة واخلاقياتهم وما صدر عنهم، ودراسة ذلك بشكل موضوعي من أجل الوصول إلى الحقيقة أو الاقتراب منها، بدل الاعتماد على التقليد الأعمى الذي لم يبتن على أسس رصينة وقواعد متقنة أو أدلة معتمّدة... وإنّما ابتنى على أقوال وكلمات ارسلت ارسال النصّ المنزل غير القابل للنقاش السندي أو المتني!! وإن شككت في قائله فلك كلّ الويل والثبور وصبت عليك لعنات الأحياء ومن في القبور.. وهم مع حرصهم الشديد على اخفاء الكثير من العيوب، والتستر عليها، والتقليل من شأنها، ومن الشواهد على ذلك ما ذكره العلامة محمّد ناصر الدين الالباني في صحيحته 7/723 بعد اخراجه لحديث لعن الحكم بن العاص وتصحيحه قال: "وإنّي لأعجب أشدّ العجب من تواطؤ بعض الحفاظ المترجمين لـ (الحكم) على عدم سوق بعض هذه الأحاديث وبيان صحتها في ترجمته أهي رهبة الصحبة وكونه عم عثمان بن عفان (رضي الله عنه)!!!
أم هي ظروف حكومية أو شعبيه كانت تحول بينهم وبين ما كانوا يريدون التصريح به من الحقّ؟!
فهذا ابن الاثير مثلاً يقول في أسد الغابة: "وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها!! إلاّ أنّ الامر المقطوع به أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع حلمه واغضائه على ما يكره ما فعل به ذلك إلاّ لامر عظيم".
وأعجب منه صنيع ابن حجر في الاصابة فإنّه مع اطالته في ترجمته صدرها بقوله: "قال ابن السكن: يقال انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عليه ولم يثبت"!!
وأعجب من ذلك كُلّه تحفظ الحافظ الذهبي بقوله في ترجمة الحكم من تاريخه 2: 96: "وقد وردت أحاديث متكررة في لعنه لا يجوز الاحتجاج بها وليس له في الجملة خصوص الصحبة بل عمومها!!"
كذا قال مع أنّه بعد صفحة واحدة ساق رواية الشعبي عن ابن الزبير مصححاً اسناده كما تقدم. ومثل هذا التلون او التناقض ممّا يفسح المجال لأهل الأهواء أن يأخذوا منه ما يناسب أهواءهم.
وغير ذلك ممّا يطول ذكره، وتكثر الاوراق بتسويد كلماتهم فيها، فإنّ المحدثين وإن كانت أحكامهم تنطلق من عقائدهم المسبقة ومتبنياتهم القبلية إلاّ أنّ ما سطرته أقلامهم ودونوه في صفحاتهم من ذكر كثير من الأفعال المشينة والتصرفات المخزية التي لا تليق بمسلم فضلاً عن ان يتسمى صحابي، ويشار له بالبنان، ويطبق عليه آي القرآن، ممّا يعطي للباحث المنصف الوسيلة التي يستطيع بها إصدار حكمه بشكل صحيح، بعد الاطلاع على الادلة والأقوال وقارن بينهما وبين التصرفات الصادرة من الصحب المدونة في تراجمهم وخاض في غمارها واستخرج النتيجة المطلوبة منها.
وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الدكتور الرحيلي في كتابه الانتصار للصحب والآل من افتراءات السماوي الضال: 222 بقوله: "إنّ هذين الكتابين لإمامين جليلين من أئمة أهل السنة، يدينان لله بعدالة الصحابة، ويعرفان لهم فضلهم ومكانتهم، فأُسد الغابة للامام ابن الاثير، والاصابة للحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى، وقد نصّ كلّ منهما على عدالة الصحابة في مقدمة كتابه، وبيّن أنّ الصحابة كُلّهم عدول لا يبحث عن عدالتهم، ولا يتطرق إليهم الجرح بحال قال ابن الأثير رحمه الله: والصحابه يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاّ في الجرح والتعديل فانّهم كُلّهم عدول..
وقال ابن حجر:.. اتفق أهل السنة على أنّ الجميع عدول.
فكيف يسوغ في عقل أن يقرر كلّ واحد من هذين الامامين القول بعدالة الصحابة، وأنّه لا يبحث عن عدالتهم ولا يتعرض لهم بنقد ولا بتجريح في مقدمة كتابه ثُمّ ينقض ذلك في الكتاب نفسه بتجريح الصحابة والطعن فيهم؟!
هذا ما ذكره الدكتور الرحيلي في الاعتراض على التيجاني وعلى كلّ من يحاول المساس بقاعدة عدالة عموم الصحابة من خلال كتب تراجم الصحابة!
والاستاذ الرحيلي ذهب بعيداً في استنتاجه وأخذ يحطب بليل في كلام المؤلف، فقد فهم الرحيلي من كلام التيجاني أنّ الكتب المذكورة المترجمة للصحابة تطعن في الصحابة، بينما نرى مؤلفيها في أوّل صفحات منها يقرّون بعدالة عموم الصحابة، ويحكمون على من يحكم بعدم عدالتهم بالابتداع، فعليه يكون التيجاني غير منطقي في كلامه.
ولكن هناك غفلة كبيرة صدرت من الدكتور الرحيلي، وهي تصدر دائماً من أمثال الدكتور الذين يتسرعون في الأحكام ويطلقونها على عواهنها من غير تريث أو ترو، فالمؤلف لم يقل بأنّ هؤلاء العلماء المترجمين كابن حجر وابن الاثير والذهبي وغيرهم قد طعنوا بالصحابة في كلماتهم، بل بالعكس هؤلاء المحدّثين صدروا كتبهم المترجمة للصحابة بعدالتهم جميعاً بلا استثناء، إلاّ أنّهم في تراجمهم للصحابة ذكروا في أفعالهم وتصرفاتهم ما يندي له الجبين، ويسود منه ماء اللجين من القتل والهتك والانقلاب على الاعقاب وما شاكل ذلك، فمن كان منصفاً وله قلب يسمع ولم يحمل ترسبات سابقة يتضح لديه جليّاً أنّ الصحابة لا يمكن الحكم بعدالتهم جميعاً، لوجود من ارتد وبدل وغير و..، وإن حكم اصحاب التراجم بعدالتهم ونزاهتهم فإنّ تلك ناشئة من عقيدتهم، ولذلك صدروا الكتاب بها، وجعلوها في أوّل الصفحات.
فإذن حكم المحدثين المترجمين للصحابة بعدالتهم عموماً شيء، وبيان أفعالهم وأقوالهم التي صدرت منهم شيء آخر.. فالامر الأوّل ليس مرتبطاً بالأمر الثاني بتآتاً، فيمكن للباحث المنصف أن يستنتج من الأمر الثاني ما يخالف الأمر الأوّل كُلّياً.. وهذا هو الذي يقصده المؤلف من كلامه وهو جلي واضح فيه، إلاّ أنّ ذهن الرحيلي ومن على شاكلته مبنية على برمجة معينة يصعب الخروج منها!
وثمة إشكال يتلخّص في أنّ العلماء الأوائل غالباً ما كانوا يكتبون ويؤرخون بالنحو الذي يوافق آراء الحكام من الأمويّين والعبّاسيين الذين عرفوا بعدائهم لأهل البيت النّبوي، بل ولكُلّ من يشايعهم ويتبع نهجهم، ولهذا فليس من الانصاف الاعتماد على أقوالهم دون أقوال غيرهم من علماء
المسلمين الذين اضطهدتهم تلك الحكومات وشرّدتهم وقتلتهم، لأنّهم كانوا أتباع أهل البيت، وكانوا مصدر تلك الثورات ضد السلطات الغاشمة والمنحرفة.
والمشكل الأساسي في كلّ ذلك هو الصّحابة، فهم الذين اختلفوا في أن يكتب لهم رسول الله ذلك الكتاب الذي يعصمهم من الضلالة إلى قيام السّاعة، واختلافهم هذا هو الذي حرم الأمّة الإسلامية من هذه الفضيلة، ورماها في الضلالة حتّى انقسمت وتفرّقت، وتنازعت وفشلت وذهبت ريحها.
وهم الذين اختلفوا في الخلافة، فتوزعوا بين حزب حاكم وحزب معارض، وسبّب ذلك تخلّف الأمة وانقسامها إلى شيعة علي وشيعة معاوية، وهم الذين اختلفوا في تفسير كتاب الله وأحاديث رسوله، فكانت المذاهب والفرق والملل والنحل(1)، ونشأت من ذلك المدارس الكلامية والفكرية المختلفة، وبرزت فلسفات متنوعة أملتها دوافع سياسية محضة تتصل بطموحات الهيّمنة على السلطة والحكم.
فالمسلمون لم ينقسموا ولم يختلفوا في شيء لولا الصحابة، وكُلّ
____________
1- قال محمّد أبو زهرة في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية": 13: "ومن الأسباب الجوهرية التي أحدثت الخلاف السياسي: تعرّف من الذي يكون أولى بخلافة النبي (صلى الله عليه وآله) في حكم أُمته، وقد انبعث ذلك النوع من الخلاف عقب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة...".
وقال في: 299: "وإنّ الأخذ بأقوال الصحابة كان سبباً من أسباب اختلاف المذاهب من نواح ثلاث: الأولى: إنّ بعض الفقهاء كان إذا رأى قول صحابي استغنى بقوله عن الاجتهاد، وبعض الفقهاء اعتبره حجّة أمام الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) إذا كان لا يتصور إلاّ أنّه يكون نقلا...
الثانية: إنّ الفقهاء يختلفون في الصحابي الذي يتبع.. وبمقدار الاختلاف فيما بينهم يكون اختلاف الذين يتبعونهم.
الثالثة: إنّ بعض الفقهاء قرّروا أنّ الصحابة ليست أقوالهم حجّة".
خلاف نشأ وينشأ إنّما يعود إلى اختلافهم في الصحابة، فالربّ واحد، والقرآن واحد، والرسول واحد، والقبلة واحدة، وهم متّفقون على ذلك. وبدأ الخلاف والاختلاف في الصحابة من اليوم الأول بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) في سقيفة بني ساعدة، واستمرّ إلى يوم الناس هذا، وسيستمرّ إلى أن يشاء الله.
وقد استنتجت من خلال الحديث مع علماء الشيعة أنّ الصحابة في نظرهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
فالقسم الأوّل: هم الصحابة الأخيار الذين عرفوا الله ورسول الله حقّ المعرفة، وبايعوه على الموت، وصاحبوه بصدق في القول، وبإخلاص في العمل، ولم ينقلبوا بعده، بل ثبتوا على العهد، وقد امتدحهم الله جلّ جلاله، في كتابه العزيز في العديد من المواقع، وقد أثنى عليهم رسول الله في العديد من المواقع أيضاً، والشيعة يذكرونهم باحترام وتقديس، ويترضّون عليهم، كما يذكرهم أهل السنّة باحترام وتقديس أيضاً.
والقسم الثاني: وهم الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام، واتّبعوا رسول الله إمّا رغبة أو رهبة، وهؤلاء كانوا يمنّون إسلامهم على رسول الله، وكانوا يؤذونه في بعض الأوقات، ولا يمتثلون لأوامره ونواهيه، بل يجعلون لآرائهم مجالا في مقابل النصوص الصريحة حتّى ينزل القرآن بتوبيخهم مرّة، وتهديدهم أُخرى، وقد فضحهم الله في العديد من الآيات، وحذّرهم رسول الله - أيضاً - في العديد من الأحاديث النبويّة، والشيعة لا يذكرونهم إلاّ بأفعالهم بدون احترام ولا تقديس.
أما القسم الثالث من الصحابة: فهم المنافقون الذين صحبوا رسول الله للكيد له، وقد أظهروا الإسلام، وانطوت سرائرهم على الكفر، وقد تقرّبوا ليكيدوا للإسلام والمسلمين عامّة، وقد أنزل الله فيهم سورة كاملة، وذكرهم في العديد من المواقع، وتوعّدهم بالدرك الأسفل من النار، وقد ذكرهم رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، وحذّر منهم، وعلّم بعضاً من أصحابه أسماءهم وعلاماتهم، وهؤلاء يتّفق الشيعة والسنّة على لعنهم والبراءة منهم.
وهناك قسم خاصّ ـ وإن كانوا من الصّحابة ـ فهم يتميّزون عليهم بالقرابة وبفضائل خلقية ونفسية، وخصوصيات اختصّهم الله ورسوله بها لا يلحقهم فيها لاحق، وهؤلاء هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً(1)، وأوجب الصلاة عليهم كما أوجبها على رسوله، وأوجب لهم سهماً من الخمس(2)، كما أوجب مودّتهم على كلّ مسلم كأجر للرّسالة المحمّدية(3).
فهم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم(4)، وهم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن، ويعلمون المتشابه منه والمحكم(5)، وهم أهل الذكر الذين قرنهم رسول الله بالقرآن في حديث الثقلين وأوجب التمسّك بهما، وجعلهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق.
والصحابة يعرفون قدر أهل البيت ويعظّمونهم ويحترمونهم، والشيعة يقتدون بهم ويقدّمونهم على كلّ الصحابة، ولهم في ذلك أدلة من النصوص الصريحة.
أما أهل السنّة والجماعة، مع احترامهم لأهل البيت وتعظيمهم وتفضيلهم، إلاّ أنهم لا يعترفون بهذا التقسيم للصحابة، ولا يعدّون المنافقين في الصحابة، بل الصحابة في نظرهم خير الخلق بعد رسول الله.
وإذا كان هناك تقسيم فهو من باب فضيلة السبق للإسلام والبلاء الحسن فيه، فيفضّلون الخلفاء الرّاشدين بالدرجة الأولى، ثُمّ الستّة الباقين من العشرة
____________
1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة الأنفال: 41.
3- سورة الشورى: 23.
4- سورة النساء: 59.
5- سورة آل عمران: 7.