وذكر صاحب شرح النهج أن معاوية قال في خطبته: «ألا أن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به(2).
وذكر أن معاوية ذكر علياً (عليه السلام) فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسين (عليه السلام) ليرد عليه فأخذه الحسن بيده فأجلسه ثم قام فقال أيها الذاكر علياً أنا الحسن وأبي علي وأنت معاوية وأبوك صخر وأمي فاطمة وأمك هند وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة وجدتي خديجة وجدتك قتيلة فلعن الله أخملنا ذكراً وألأمنا حسباً وشرّنا قديماً وحديثاً وأقدمنا كفراً ونفاقاً، فقال طوائف من أهل المسجد آمين»(3).
ومما جاء في خطاب الحسن (عليه السلام) أيضاً:
____________
(1) راضي آل يس: صلح الحسن، م س ص285.
(2) ابن أبي الحديد: م س ص234.
(3) م ن ص235.
ومما ذكره ابن الأثير في الكامل أن الحسن (عليه السلام) خطب فقال:
«أيها الناس إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم ونحن أهل بيت نبيكم الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وكرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيبه»(2).
وفي البحار أن الإمام الحسن قال:
«وأن معاوية زعم لكم أنني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً فكذب معاوية نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله عز وجل وعلى لسان نبيه ولم نزل أهل البيت مظلومين منذ قبض الله نبيه»(3).
وأما قيس بن سعد الذي كان يرفض الصلح ويتمسك بقتال معاوية مع أربعة آلاف فارس فإنه اضطر في النهاية للبيعة بعد أن
____________
(1) م ن ص223.
(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج3 ص406.
(3) المجلسي: بحار الأنوار، ج10 ص114.
ولم يبق الإمام الحسن (عليه السلام) إلا أيام قلائل في الكوفة بعد الصلح توجه من بعدها إلى المدينة.
وبعد معرفة بنود الصلح وإطاره التاريخي يمكن أن نحلل مواده ونرى ما كان مصيرها من حيث التزام الطرفين بها وعدم التزامهما بها.
فالقراءة الموضوعية للمعاهدة تكشف أنها مشحونة بالقيود والالتزامات بالنسبة لمعاوية: العمل بكتاب الله وسنة رسوله، عدم سب أمير المؤمنين، عدم ملاحقة الشيعة وتحقيق الأمن
____________
(1) ابن أبي الحديد: شرح النهج، ج11 ص236.
بينما لا يوجد إلزام بالنسبة للإمام الحسن سوى تسليم الأمر لمعاوية.
وهذا يؤكد أن العهد وكأنه تعويض لحق فوّت فيه الإمام لظروف قاهرة مقابل التزامات من قبل معاوية.
فالجو العام للعهد يعطى هذا الانطباع بأن الطرف الشرعي قد أقصى من جهة ظالمة باغية وقد خضع هذا الطرف الشرعي مقابل جملة من الشروط.
والانطباع الثاني الذي تعطيه القراءة الإجمالية الموضوعية للمعاهدة أن الجهة الثانية الملزمة بأكثر الشروط جهة متحلّلة من الضوابط والقيود الشرعية والأخلاقية وإلا فأي معنى أن يشرط عليه الحكم بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء إلا أن تكون سيرته في الناس إلى ذلك الحين بعيدة عن الشريعة وعن جادة ــ الكتاب والسنة ــ.
وأي معنى لإلزامه بإرجاع الأمر لأهله (الحسن) سوى
بعبارة وجيزة إن معاهدة الصلح توحي بين سطورها بعدم شرعية معاوية.. ولكن استغراق المؤرخين والدارسين في القراءة التجزيئية ربما غيب هذا الدلالة إلى حدٍّ ما.
وبعد هذه القراءة الإجمالية الكلية للمعاهدة نقف عند أهم فصولها:
أولاً:
العمل بكتاب الله وسنة رسوله وبسيرة الخلفاء الصالحين: فتنازل الإمام عن الخلافة لمعاوية يقيده هذا الشرط فالإمام لم يفوض معاوية بأن يسوس البلاد والعباد وفق أهواءه وأطماعه وآرائه المريضة ومشاعره الجاهلية الحاقدة وإنما ألزمه أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وأيضاً بسيرة الخلفاء الصالحين. وهنا لابدّ من التوقف عند هذا القيد الثالث (سيرة الخلفاء الصالحين) قد نص عليه سداً لذريعة قد يتمسك بها معاوية وهو
وفي الحقيقة هذا الشرط، بهذا القيد الثالث يجعلنا نقارن بين موقف الإمام علي (عليه السلام) لما حاولوا أن يلزموه بشرعية الخلفاء السابقين في واقعة الشورى حيث طُلب منه الالتزام بسيرة الشيخين ولكنه رفض وقال أعمل بكتاب الله وسنة رسوله وبرأيي. فكان هذا الموقف موجبا لخروجه وقبول عثمان بن عفان الشرط..
فالإمام علي (عليه السلام) يرفض الالتزام بأي شيء مقابل كتاب الله وسنة رسوله لأنه إمام حق أما معاوية فلابد من إلزامه بسيرة الخلفاء الآخرين رغم عدم إيمان الحسن بشرعيتهم لأنه إمام جور وظلم وزور.
ثانياً:
ولاية العهد؛ اختلفت الروايات في هذه المسألة فبعضهما ذكرت أن الإمام اشترط على معاوية أن الأمر للحسن فإن لم يكن فللحسين وبعضها تقول أن الإمام اشترط عليه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين.
ثالثاً:
عدم سب أمير المؤمنين (عليه السلام): هذا الشرط يكشف بجلاء استهتار معاوية بالأخلاق والتعاليم الإسلامية وإلا فبأي حق يسب مسلم مسلماً، فكل المسلم على المسلم حرام: نفسه وماله وعرضه ولكن أين معاوية من الإسلام وأحكامه؟ وإذا كان كذلك حق المسلم فما بالك بعلي الذي عظمه القرآن ومجده الرسول وكان من أهل البيت الذين فرض الله على كل المسلمين مودتهم {قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَىَ}.
رابعاً:
الأمن العام للشيعة وللحسن والحسين وأهل البيت. فقد تعهد بأن لا يلحق مكروه وأذى بأنصار علي وشيعته ولا يبغي على الحسن والحسين ولا لأهل بيت النبي ولم تنص المعاهدة على هذا الشرط سوى لما عرف به معاوية من غدر.. كما تكشف حرص الإمام على شيعته وحقن دماءهم وحفظ وجودهم في وجه هذه الفتنة العمياء التي عصفت بالإسلام
خامساً:
الحقوق المالية؛ نصت المعاهدة على مبالغ مالية للحسن (عليه السلام) وحقوق دائمة خراج دار أبجرد (مدينة فتحت عنوة) يوزع بين أولاد من قتل مع أمير المؤمنين في صفين والجمل.
وهذا الفصل الوحيد الذي يتصدى للمسألة المالية: فكل الفصول الأخرى كانت تستهدف حفظ الدين والتشيع وحفظ الأنصار وحماية كيان الأمة.
أما هذا الفصل فيعالج المسألة المالية ونرى الإمام يحاول حفظ حقوقه وحقوق أهل بيته وحقوق شيعته من العطاء فاشترط ذلك على معاوية لأنه يتوقع أن يحارب الشيعة ورموزهم اقتصادياً ويمنعهم حقوقهم من بيت مال المسلمين. ولا ورع لديه ولا تقوى تعصمه من ذلك.
وسيأتي مناقشته ما أثير من تهم حول هذا البند في الفصل الثالث حيث يشكك البعض في نوايا الحسن (عليه السلام) ليدعي انه باع الخلافة لمعاوية بالمال؟!
من جهته لقد سلّم الحسن (عليه السلام) الأمر لمعاوية كما سجل التاريخ ذلك ولكن معاوية نقض كل بنود المعاهدة وهذا ليس ببعيد عن شخص مثله كيف لا وقد لوح بذلك وحبر المعاهدة لم يجف بعد حيث صرح قائلاً: «وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين»(1).
ولقد أثبت التاريخ صدق وعده بنقص عهوده! فلقد انتهك بنود المعاهدة بنداً بندا ولم يف بواحد البتة.
- نقض البند الأول:
فأين معاوية من العمل بكتاب الله وسنة رسوله والشواهد على مخالفته لكتاب الله وسنة رسوله لا تحصى وقد صنفت مؤلفات لعرض هذه المخالفات ربما أهمها: الجزء العاشر والحادي عشر من موسوعة الغدير للعلامة الأميني.
____________
(1) شرح النهج: م س ص234.
- نقض البند الثاني:
لقد نقض معاوية هذا البند عندما نصب ولده يزيد وليا للعهد وأكره الناس عليه.
حاول معاوية تنصيب يزيد في حياة الحسن (عليه السلام) بطلب من المغيرة بن شعبة والي معاوية على الكوفة في حركة تزلف سعى من خلالها حفظ موقعه وتعزيزه بعد أن أوشك على الانهيار (في قصة تسردها كتب التاريخ) ولكن هذه المحاولة فشلت رغم مؤامرات معاوية لحبك مسرحيات تأييد ليزيد كما تنقل كتب التاريخ إلا أن بعض وجوه القوم ذكروه بعهده للحسن فقد قال له الأحنف بن قيس.. «وقد علمت يا معاوية أنك لم تفتح العراق عنوة ولم تظهر عليه مقصا ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك فإن تف فأنت أهل الوفاء وأن تغدر تظلم والله إن وراء الحسن خيولاً جياداً وأذرعاً شداداً وسيوفاً حداداً وإن تدن له شبرا من غدر تجد وراءه باعا من نصر وأنك تعلم من أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ولا أبغضوا علياً وحسناً منذ أحبوهما وما نزل عليهم في ذلك غير من السماء وأن السيوف التي شهروها عليك
- نقض البند الثالث:
كان معاوية يعلم أن الأمر لن يستتب له ولبني أمية لو عرف المسلمون القادة الربانيين الحقيقيين، من هنا لم يفتأ يفتري ويروج الأكاذيب عن علي وآله. ورغم التزامه بعدم سب علي في عهد الصلح مع الحسن لكنه لم يف بعهده «فقد دأب على لعن علي (عليه السلام) ويقنت في صلاته وجعلها سنة في خطب الجمعة والأعياد وبدل سنة محمد (صلّى الله عليه وآله) في خطبة العيدين المتأخرة عن صلاتهما وقدمها عليه لإسماع الناس لعن الإمام الطاهر»(1).
ولم يزل معاوية وعماله دائبين على ذلك حتى تمرن عليه الصغير وهرم الشيخ فكانت العادة مستمرة منذ شهادة أمير
____________
(1) الأميني: الغدير، ج10 دار الكتب الإسلامية ص257.
وطفق معاوية يوزع الأموال بسخاء والمناصب على الصحابة والتابعين الذين استجابوا له في وضع الأكاذيب في حق علي وتحريف أحاديث عن رسول الله تقتضي الطعن في علي والبراء منه والعياذ بالله ومن أمثال هؤلاء: أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب وعروة بن الزبير.
- نقض البند الرابع:
أورد الشيخ راضي آل يس ما رواه الطبري من أن أهل البصرة قد حالوا بين الحسن وبين خراج دار أبجرد وقالوا: فيئنا.
____________
(1) م س ص215 و 266.
وهكذا لم يسلم حتى الشرط المالي الذي يمثل حقاً طبيعياً للحسن والحسين وشيعتهما في بيت مال المسلمين حيث لهما نصيب من بيت المال كما أن الحسنين لهما سهم ذو القربى المنصوص عليه في كتاب الله.
- نقض البند الخامس:
لقد نصّت المعاهدة على الأمن العام لشيعة علي وأنصار الحسن حيثما كانوا، وعدم التعرض بسوء للحسن والحسين ولا لأحد من أهل البيت ولكنها سنة معاوية في الغدر، ونقض العهود فالتاريخ يعج بالقصص والأحداث التي تحكي ما فعله معاوية بشيعة علي من تجويع وتعذيب وقتل وسجن وتشريد. ومن الأسماء البارزة التي نالت شرف الشهادة فداء لعلي (عليه السلام) وارتقت إلى سماء الشهادة تحت بطش معاوية وأعوانه: حجر بن عدي الكندي وأصحابه رشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي وجويرية بن مسهر العبدي وأوفى بن حصن..
____________
(1) راضي آل يس: صلح الحسن ص317.
باختصار لقد انتهك معاوية هذا البند ليحقق بجدارة أوليات بكر في أفاعيل منكرة وبوائق فريدة في حق شيعة أهل البيت (عليهم السلام).
«فكان أول رأس يطاف به في الإسلام (من أصحاب علي) بأمره (معاوية) يطاف به وكان أول إنسان يدفن في الإسلام منهم وبأمره يفعل به ذلك وكانت أول امرأة تسجن في الإسلام منهم وهو الآمر بسجنها وكان أول شهداء يقتلون صبراً في الإسلام منهم وهو الذي قتلهم»(1).
____________
(1) راضي آل ياسين: صح الحسن ص362.
الفصل الثالث:
أبعاد الصلح وأسراره
لم يدرك المعاصرون للإمام الحسن، حتى أصحابه، الأبعاد الحقيقية للصلح فاعترضوا على الإمام بل جابهه بعضهم بكلمات قاسية زادت من محنته وعمقت حزنه فهذا حجر بن عدي الذي يعد من أخلص الأصحاب يقول: لوددت أنك كنت متّ قبل هذا اليوم ولم يكن ما كان، إنا رجعنا راغمين بما كرهنا ورجعوا مسرورين بما أحبوا. فتغير وجه الحسن وغمز الحسين حجراً، فسكت. فقال الحسن (عليه السلام): «يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك وما فعلت إلا إبقاء عليك والله كل يوم في شأن(1).
هذا الغموض الذي اكتنف الصلح وسربله في حجب كثيفة
____________
(1) ابن أبي الحديد: شرح النهج، ج16 ص214.
هذه الاجتهادات في تفسير الحدث لم تكن لتدرك حقيقة المعاهدة وواقع أمرها لأنها أولاً: اعتمدت على رؤية تجزيئية انتخابية تستند إلى مفردة واحدة في سياق حدث معقد تتداخل فيه العوامل وتتضارب معه النصوص التاريخية فمثلا بعضهم يستند إلى حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) «إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين» ليعلل الصلح بأنه رغبة من الحسن في تحقيق هذه النبوة.
ولأنها ثانياً: لم تعرف شخصية الحسن حقاً، وتعاملت معه كأي قائد سياسي بمعزل عن مشروعيته الدينية وموقعه الرسالي المتقدم والتسديد الإلهي الذي يلازمه، فإن إلغاء جانب الإمامة الإلهية
الفرضية الأولى:
الحسن صالح خوفا على نفسه: وهي قديمة قدم الصلح حيث جابه عبد الله بن الزبير الإمام الحسن بهذه التهمة وعاب عليه تسليم الأمر وصلحه مع معاوية، ولم يخف على الإمام ما يستبطنه ابن الزبير من عداء لآل الرسول فردعه قائلاً: «وتزعم أني سلمت الأمر وكيف يكون ذلك، ويحك وأنا ابن أشجع العرب وقد ولدتني سيدة نساء العالمين لم أفعل ذلك ويحك جبناً ولا ضعفاً ولكنه بايعني مثلك وهو يطلبني البترة ويداجيني المودة ولم أثق بنصرته»(1).
____________
(1) باقر القرشي: حياة الإمام الحسن ج2 ص273.
الفرضية الثانية:
إن الحسن (عليه السلام) باع الخلافة بالمال لأنه رجل يعيش ترفاً وبذخاً، وهو بحاجة إلى أموال كثيرة تغطي نفقاته.
فبعض أصحاب هذه الفرضية يقول: «ولكن الحسن الذي كان يميل إلى الترف والبذخ لا إلى الحكم والإدارة لم يكن رجل الموقف فانزوى من الخلافة مكتفياً بهبة سنوية منحه إياها»(2).
____________
(1) راضي آل يس: صلح الحسن ص209.
(2) فيليب حتى: العرب ص78 نقلاً عن باقر القرشي حياة الإمام الحسن 112.
هل يطمع الحسن في المال وهو الذي قاسم الله ماله مرتين وخرج من ماله ثلاث مرات؟ هل به طمع هذا الذي تملأ كتب السير قصص في جوده وعطاءه وبذله وصون كرامة سائليه!!
وكيف يتنازل عن السلطان من به طمع للمال وميل للبذخ والترف أو ليس السلطان باب إلى كل تلك المطامع الدنيوية؟ أليست الخلافة خير سبيل للثراء والرفاه والترف؟
كلا إن الحسن (عليه السلام) فوق الأطماع وقد ضحى بسلطان ملكه وترك كل الدنيا وزخرفها وراء ظهره في سبيل المبدأ والرسالة..
أما الرواية الثانية التي مفادها أن الحسن تزوج تسعين امرأة فقد اقتصر على روايتها الشبلنجي في نور الأبصار وقد رواها مرسلة فلا يعول عليها.
أما الرواية الثالثة والتي مفادها أنه تزوج مائتين وخمسين
____________
(1) انظر حياة الحسن باقر القرشي ص451.
(2) م س ص 446.
وأما الرواية الرابعة والتي مفادها أنه تزوج ثلاثمائة امرأة فمصدرها كتاب (قوت القلوب) أيضاً وقد عرفنا حاله.
واستطراداً لابد أن نقول أن هذه الشبهة واهية تنهار أمام حقائق التاريخ فأين الحسن وانشغاله طوال حياته بشؤون الرسالة والدين خاصة منذ تولّي أبيه علي (عليه السلام)، من هذا للهو والعبث بين النساء؟ وأين أولاده لو كان حقاً قد تزوج كل هذا العدد في الوقت الذي لا يتجاوز عدد أبناءه في أقصى الحالات: اثنين وعشرين ولداً؟!
الفرضية الثالثة:
الحسن صالح معاوية لأنه ليس أهلا للقيادة والزعامة.
يفسر الكثيرون التحولات السياسية الحاصلة بعد استشهاد علي (عليه السلام) وانتقال الخلافة إلى معاوية بالقصور القيادي عند الحسن فهو كما يدعي البعض لا يمكن أن يقوم مقام علي: «فإنه
ويعقب «لقد صمم على عقد السلام مع معاوية لأنه وهن وضعف وتاه فقد كانت أية مجابهة حربية فوق إمكاناته ووسائله النفسية وربما كانت المسؤولية الخليفية تفوقها أيضا فلم يكن لديه قوة داخلية كافية لمعاودة صفين»(2).
ومدّعٍ آخر يقول: «فإن الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح»(3). ويدعم هذا الرأي ثالث فيقول: «إن الحسن كان قديراً على أن يعد الجماعات المنحلة عن طريق الاستثارة والحماس وبث روح العزم والإرادة كما رأينا في القادة الحديديين أمثال نابليون الذي تولى شعبا أنهكته الثورة الطويلة.. ولكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس(4).
____________
(1) هشام جعيط: الفتنة ص313 - 316.
(2) هشام جعيط: الفتنة ص313 - 316.
(3) نقلاً عن حياة الإمام الحسن: المستشرق روايت رونلدس ص113.
(4) العلائي نقلاً عن القرشي في حياة الحسن (عليه السلام) ص13.
نعم في ضوء هذه التصورات المنحرفة للسياسة يكون الأمر كذلك ولكن غاب عن هؤلاء أن الحسن (عليه السلام) إمام، له القيادة الدينية أولا وبالذات فهو حافظ الشرع ومجسد القيم الإسلامية وأسمى أهدافه أن يقيم حياة الناس على أساس الحق والعدل وموازين الشرع. ويستحيل أن يتوسل بالظلم والجور في سبيل أهدافه ولن يكون كالديكتاتوريين الذين يملكون الاستعداد لتعبيد الطريق إلى التاج بجماجم الجماهير وعلى تلال من الأكاذيب والحيل.
وسيتضح من هذا الفصل والذي يليه كيف يعبر الصلح عن حنكة سياسة بالغة.
الفرضية الرابعة:
الصلح من أجل تحقيق نبوة النبي (صلّى الله عليه وآله).
يرى أصحاب هذه الفرضية أن الصلح كان هدف الحسن منذ البداية وإن الذي يحركه هي تلك النبوة عن رسول الله من أن الله سيصلح به فئتين من المسلمين وممّن آمن بهذه الفرضية طه حسين في كتاب (الفتنة) ومن الغريب أن يقف الدكتور طه حسين من هذا الحديث موقفاً سطحياً بعيداً عن منطق الأحداث والظروف التي ترجح أن الحديث من الموضوعات التي لا واقع لها فبعد أن رجح صحة الحديث قال لقد وقع هذا الحديث موقعا من نفس الصبي أي موقع وكأنه ذكره حين ثارت الفتنة (يقصد فتنة عثمان) وحاول بمشورته على أبيه في مواطنه تلك (حيث يرى طه حسين أن الحسن عثماني الهوى) أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين فيحقق نبوءة جده وكأن بكاءه حين