الفصل الرابع:
شبهات حول الصلح
اتضح مما سبق أن قرار الإمام الحسن (عليه السلام) بعقد الصلح مع معاوية والدخول في هدنة يخطط الإمام فيها للمستقبل في انتظار انكشاف أمر معاوية وسقوط الغلاف الديني الزائف الذي يتستر به، كان قراراً صائباً وكان الحل المناسب لتلك الوضعية المعقدة الذي وجد الإمام فيها نفسه وشيعته ورأينا كيف حقق الإمام تقريباً كل الأهداف والدوافع التي دفعته للصلح وأن معاوية وإن كسب بعض الأهداف الآنية لكنه خسر المعركة في المنظور البعيد.
ومع كل التحليلات التي ذكرناها في تفسير الصلح ونقض الفرضيات الباطلة يمكن للباحث أو القارئ أن يطرح إشكالاً آخر يتردد صداه كثيراً: لماذا لم يفعل الحسن مثل ما فعل
ويحاول البعض تعليل الظاهرة بان الحسن لم يكن عازما على القتال لأنه منذ البداية كان يميل للسلم فمزاجه منشد للمصالحة أما الحسين فهو رجل ثوري يميل للقتال والاستشهاد ولقد انطبع هذا التصور في أذهان الكثيرين من الباحثين بل بين اتباع الأئمة (عليهم السلام) لتنتشر مقولات مثل (هذا حسني) وذاك (حسيني) تعبيراً في الأولى عن التوجهات السلمية بل الاستسلامية أحياناً، وفي الثانية عن النفس الاستشهادي الهجومي.
ويفرض تساؤل آخر نفسه في طيات البحث: إذا لم يكن الحسن عازماً على القتال فلماذا قبل الخلافة؟ لماذا يقبل الخلافة في مثل هذه الظروف؟ ألم يكن من الأفضل أن يرفض الخلافة حتى لا يضطر لهذا الصلح؟
إزاء هذه التساؤلات الأخيرة والشبهات الجديدة لابد من التأكيد على المسائل التالية والاستدلال عليها بما يقطع الشك باليقين:
- المسألة الثانية: مشروعية الصلح في الفقه الإسلامي ورجوع أسلوب التغيير إلى طبيعة الظروف الموضوعية القائمة.
- المسألة الثالثة: وحدة الهدف وتنوع الأداء بين الحسن والحسين (عليهما السلام).
أولاً: عزم الحسن (عليه السلام) على القتال.
من الغريب أن يثير البعض هذه الشبهة حول إصرار الحسن (عليه السلام) وعزمه على القتال مع كل الأحداث والقرائن التي حفت بالموضوع والتي تؤكد إصرار الحسن (عليه السلام) على استكمال خطة علي (عليه السلام) الذي استشهد وهو يعدّ العدّة لمحاربة البغاة معاوية وجنده.
ومن الشواهد التاريخية المؤيدة:
أ) زيادته للمقاتلين؛ فأول شيء قام به الإمام الحسن بعد بيعته أن زاد المقاتلة مائة مائة كما نقلت كتب التاريخ، وقد كان فعل ذلك علي (عليه السلام) يوم الجمل ولكن الحسن حال الاستخلاف
وهذه الخطوة تؤكد تشجيعه ودعمه للمقاتلين حتى يندفعوا أكثر في المعارك الآتية، وإلا فمن يعزم على السلام لا مصلحة له في ترغيب النفوس ودفعها للتأهب للقتال.
ب) نص البيعة نفسه؛حيث اشترط الحسن (عليه السلام) على المبايعين الذين بايعوه على كتاب الله وسنة رسوله: «إنكم مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت فارتابوا بذلك وقالوا ما هذا لكم بصاحب وما يريد هذا إلا القتال»(1).
لقد توجس المتخاذلون خيفة من العهد الذي فرضه الحسن (عليه السلام) على المبايعين (بأن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم) وعلموا أنه عازم على الحرب!
ج) قتله الجاسوسين الذين دسّهما معاوية في البصرة والكوفة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الأمور فقد أمر الإمام الحسن باستخراج الجاسوسين وضربت عنقيهما.
وهذا يدلّ على حزم الحسن (عليه السلام) وعدم تهاونه البتة تجاه
____________
(1) ابن الأثير: الكامل، ج3 ص402.
د) تهديد معاوية بالحرب؛ فقد كتب الإمام الحسن (عليه السلام) إلى معاوية مع حرب بن عبد الله الأزدي كما نقل صاحب شرح النهج ومما جاء في هذا الكتاب:
«وإنما حملني على الكتاب إليك الأعذار فيما بيني وبين الله عز وجلّ في أمرك ولك في ذلك إن فعلت الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل الناس من بيعتي فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك وعند الله وعند كل أواب حفيظ ومن له قلب منيب واتق الله ودع البغي واحقن دماء المسلمين فو الله ما لك خيراً في أن تلقي الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ليطفئ الله الثائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين»(1).
هـ) عدم خضوعه لوعود معاوية وتهديداته حيث حافظ الإمام الحسن
____________
(1) ابن أبي الحديد: شرح النهج، ج16 ص227.
وفي آخر مراسلاته لم يشأ أن يدخل في تفاصيل مغالطات معاوية واكتفى بالقول:
«أما بعد فقد وصل إلي كتابك تذكر فيه ما ذكرت فتركت جوابك خشية البغي عليك وبالله أعوذ من ذلك فاتبع الحق تعلم أني من أهله وعلي إثم أن أقول فأكذب والسلام»(1).
ولما تحرك معاوية بين لأنصاره ما حصل «بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك أُخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا»(2).
وفي الواقع أن الذي لم يكن عازما على القتال فعلا هو معاوية وإنما حاول أن يحشد هذا الحشد الجرار على تخوم العراق كجزء من خطة متكاملة للضغط على الحسن للقبول بالصلح.
____________
(1) م ن ص229.
(2) م ن ص229.
ثانياً: مشروعية الصلح في الفقه الإسلامي.
إن الذين يستشكلون على صلح الحسن بعد كل هذا التحليل لدوافع الصلح وأبعاده ويعتمدون في المناقشة على مرجعية السيرة الحسينية كأنهم يتوهمون بأن الثورة والقتال هي الأسلوب الوحيد الذي يقره الدين ويعتمده في التغيير. ويغيب عنهم أنه في إطار الفقه الإسلامي ومرجعية الفكر الإسلامي ليس لدينا أسلوب واحد في التغيير والتعاطي مع الأطراف الأخرى: الكفار والبغاة خصوصاً؛ يقول الشهيد مطهري: «أننا
____________
(1) هشام معيط: الفتنة، ص315.
وبمراجعة كلمات الفقهاء نجد اتفاقاً تقريباً على وجوب قتال أهل البغي؛ يقول المحقق الحلي: «يجب قتال من خرج على إمام عادل إذا ندب إليه الإمام عموما أو خصوصا أو من نصبه الإمام والتأخر عنه كبيرة وإذا قام به من فيه غناء سقط عن الباقين مالم يستنهضه الإمام على التعيين والفرار في حربهم كالفرار في حرب المشركين»(2).
ويقول الشهيد الثاني في أحكام الباغي: «وقتاله كقتال الكفار في وجوبه على الكفاية. ووجوب الثبات له وباقي الأحكام السالفة فذو الفئة كأصحاب الجمل ومعاوية يجهز على جريحهم ويتبع مدبرهم ويقتل أسيرهم وغيرهم كالخوارج يفرقون من غير أن يتبع لهم مدبر أو يقتل لهم أسير أو يجهز على جريح. ولا تسبى نساء الفريقين ولا ذراريهم في المشهور ولا تملك أموالهم التي لم يحوها العسكر إجماعا»(3).
____________
(1) مرتضى مطهري: سيرة الأئمة الأطهار، دار الهادي ط2 / 1992 ص68.
(2) المحقق الحلي: شرائع الإسلام، ج2 دار الزهراء ص386.
(3) الشهيد الثاني: الروضة البهية في شرح اللمعة أن الدمشقية دار الهادي ج3 ص668.
ويقول الشهيد الثاني: «وهي جائزة مع المصلحة للمسلمين لقلّتهم أو رجاء إسلامهم مع الصبر أو ما يحصل به الاستظهار ثم مع الجواز قد تجب مع حاجة المسلمين إليها وقد تباح لمجرد المصلحة التي لا تبلغ حد الحاجة ولو انتفت (المصلحة) انتفت الصحة»(2).
إذن فلا خلاف بين الفقهاء في جواز الصلح سواء مع المشركين والكفار أو مع البغاة والخارجين، وإنما الخلاف بينهم في وصول الأمر إلى الوجوب حيث يذكر العلامة: «أنها ليست واجبة على كل تقدير سواء كان بالمسلمين قوة أو ضعف لكنها جائزة»(3).
____________
(1) المحقق الحليِ: شرائع الإسلام، ج2 ص379.
(2) الشهيد الثاني: مصدر سابق ص654.
(3) السيد علي الخامنئي: كتاب الهدنة، ص15 نقلاً عن التذكرة.
فأدلة عدم إلقاء النفس للتهلكة كقوله تعالى: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) يستفاد منها حرمة القتال في حال الضعف وبالتالي وجوب المهادنة كما أن سيرة الرسول انعقدت على مصالحة المشركين كصلح الحديبية.
ولكن بالمقابل قد يتمسك بإطلاق أدلة قتال المشركين «فقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة» أو إطلاق قتال أهل البغي: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىَ الاُخْرَىَ فَقَاتِلُواْ الّتِي تَبْغِي حَتّىَ تَفِيَءَ إِلَىَ أَمْرِ اللهِ} (الحجرات: 9) للاستدلال على مشروعية القتال حتى في حالة الظن بالهلكة.. وبالتالي لا يصل حكم الصلح والمهادنة إلى الوجوب. كما يستدل في نفي السياق بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث «بعث الرسول تسعة أشخاص إلى بني هذيل وقتل تسعة منهم ولم يستسلموا مع وجود مندوحة لذلك
ويبدو أن الحل للخروج من هذا الخلاف والتعارض في الأدلة أن نقول كلما كانت مصلحة الهدنة أهم من القتال قدم على الجهاد كما ذهب إلى هذا الرأي السيد الخامنئي في بحثه حول الهدنة: «ثم لا يخفى أن المصالح تختلف أهمية كما أن مصاديق الجهاد تختلف كذلك، ومن المعلوم عدم إمكان التحديد بالنسبة إلى مراتب الأهمية سواء في المصالح أو في عمليات الجهاد في سبيل الله وإنما الأمر في ذلك أي في تشخيص أهمية المصلحة الداعية إلى الهدنة في كل مورد أو أهمية عملية الجهاد المفروض في ذلك المورد وكذا مراتب الأهمية كلها بيد من إليه أمر الجهاد وبناء على ذلك، أي على فرض وجود مراتب للمصلحة وإن المناط في الانتماء إلى المهادنة في كل مرحلة هو كون المصلحة فيها أهم من العملية الجهادية التي هي موضوع تلك المرحلة فربما وصلت أهمية الصلح والهدوء مرتبة يحكم معها بوجوبه وعدم جواز التخلف عنه(1).
فالمسألة تدور مدار المصلحة ولقد شخص الإمام الحسن أن
____________
(1) علي الخامنئي: الهدنة، دار الوسيلة ط1 1998 ص15.
ولقد احتج الحسن (عليه السلام) فيما احتج به على أصحابه بهذا الأمر وسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع المشركين وسيرة علي (عليه السلام) مع البغاة، عن البحار ينقل صاحب صلح الحسن: نصا في هذا الاتجاه عندما يسأله أحد أصحابه «يا ابن رسول الله لم هادنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟ فأجابه: يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى على خلقه وإماما عليهم بعد أبي؟ قال: بلى قال ألست الذي قال رسول الله لي ولأخي الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قال بلى قال فأنا إمام لو قمت وأنا إمام لو قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل»(1).
____________
(1) راضي آل يس: صلح الحسن، ص200 نقلاً عن البحار.
ثالثاً: وحدة الهدف وتنوع الأداء بين الحسن والحسين (عليهما السلام).
أصل المشكلة والجذر الأساسي لهذه الشبهة الأخيرة والتي نسعى لتأسيس الإطار النظري لدحضها (المتمثل في النقاط الثلاث): وهي المقارنة التي كثيراً ما تتردد بين ثورة الحسين (عليه السلام) وصلح الحسن (عليه السلام) وفي أكثر الأحيان تكون نتيجة المقارنة، أن الاختلاف في الأسلوب راجع إلى اختلاف في الشخصيتين ومزاجيهما وأن الحسن ذو ميول سلمية بينما الحسين له نزوع للجهاد والاستشهاد!!
ومن هنا يساق أكثر من اعتراض لماذا صالح الأول… وثار الثاني؟ لماذا هذا الاختلاف في الأسلوب؟ والتناقض في مواجهة الأعداء؟
في الحقيقة هذا الإشكال لا ينحصر في المقارنة بين أسلوب الحسن والحسين وإنما يمتد إلى سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حين نرى أن أحدهم يركز على العمل السياسي والآخر على نشر الفقه والمعارف والعلوم وثالث على الزهد والدعاء.. الخ فكيف نفسر هذا التنوع؟
والذي قد يوحي بفكرة الاختلاف بين الأئمة (عليهم السلام) هو
ولقد انتقد باقر الصدر(1) هذا المنهج واقترح منهجاً موضوعياً يعتمد على الوحدة الموضوعية لحياة الأئمة ويكشف الخيوط الرفيعة التي تشد حياة كل إمام إلى الإمام الآخر، ويهتم بالأهداف التخطيطية المشتركة التي يلتقي حولها أكثر من إمام. فإذا قمنا بدراسة أحوال الأئمة (عليهم السلام) على المستويين التجزيئي والترابطي فسوف نواجه على المستوى الأول اختلافاً وتباينا في السلوك وتناقضا من الناحية الشخصية في الأدوار التي مارسها الأئمة وأما على المستوى الثاني «فسوف تزول كل تلك الخلافات والاختلافات والتناقضات لأنها تبدو على هذا المستوى مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة وإنما اختلف التعبير عنها لاختلاف الظروف والملابسات التي مر بها كل إمام»(2).
____________
(1) انظر كتاب (أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف) دار التعارف.
(2) م س ص 142.
وفي ضوء نظرية وحدة الهدف وتنوع أدوار الأئمة لا ننظر إلى موقف الحسن (عليه السلام) وموقف الحسين (عليه السلام) على أنهما موقفان متناقضان بل هما موقفان صحيحان فرضت كل واحد منهما ظروفه الآنية ولكنهما يعملان على تحقيق نفس الأهداف المشتركة حفظ الرسالة والدين.. وحماية الأمة من خطر الانحراف الكبير الذي أصابها بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فالحسن لو كان مكان الحسين لثار واستشهد والحسين كان موقفه موقف الحسن ولم يخالفه البتة وما تذكره بعض المصادر من معارضة
____________
(1) م س ص 142.
وكيف يختلف الحسن والحسين في تقدير الموقف وكلاهما يستقي من معين واحد معين الإمامة والطهر والعصمة؟!
وإنما ينحصر الاختلاف في الظروف: فلكل منهما ظرفه
____________
(1) محمد مهدي شمس الدين: ثورة الحسين، المؤسسة الدولية ط السابعة ص120.
ولنقف قليلاً عند تنوع الظروف لنتفهم أكثر تنوع الأدوار والأداء وفقاً لها:
فالإمام الحسن (عليه السلام) واجه مرضاً أساسياً في مرحلته وهو مرض الشك هذه الحالة التي واجهها الإمام علي (عليه السلام) نفسه فالمسلمون في تلك المرحلة لم يفهموا ملياً أن معركة علي مع معاوية كانت معركة الإسلام في صفته الشرعية مع منهج الكسروية والهرقلية المحلاة بقشرة دينية مزيفة يحرص معاوية على المحافظة عليها. إن الأوضاع النفسية التي خلقتها الحروب الطويلة مع الناكثين والقاسطين والمارقين ووقوف وجوه بارزة من صحابة الرسول مع المخالفين أدخل نوعا من الشك في
____________
(1) راضي آل ياسين: صلح الحسن ص370.
لم يكن يدرك المسلمون ولا مجتمع الكوفة إلا الخاصة من أصحاب الحسن (عليه السلام) جوهر المعركة، لقد اعتقدوا أنها خلاف سياسي صرف وأن معاوية حاكم قادر على إدارة شؤون المسلمين وأن تجربته مع أهل الشام أثبتت براعته بل ربما اعتقد البعض بما كان يروج له معاوية بأن الأخير أكثر خبرةً وحنكةً وأكبر سناً وتجربة!
هذا المرض الخطير الذي أصاب الأمة لا ينفع معه العمل الفدائي الاستشهادي لأنه إضافة إلى خطورة القضاء على الخلص من أصحاب الحسن (عليه السلام) فإن القتال في مثل هذه الظروف لن يكون في منظور هؤلاء سوى معركة مصلحية قادها الحسن من أجل مجد شخصي وموقع سياسي.
فالحل الأمثل لمثل هذه الظروف إعطاء فرصة للقاعدة أن تشفى من هذا المرض والتريث قصد توفر الظروف المناسبة للقتال.
أما الحسين (عليه السلام) فقد ابتليت الأمة في مرحلته بمرض آخر لقد انكشف لها خداع معاوية وزيف إسلامه ولم تعد تشكك لحظة في طبيعة المعركة بين أهل البيت وبين معاوية ويزيد! لقد كشف صلح الحسن (عليه السلام) معاوية وفضح سياسات بني أمية على مستوى الأمة الإسلامية (كما اتضح في الفصول السابقة) ولكن المرض الخطير الذي أضحت تعاني منه هو ضعف الإرادة فالأمة قد شفيت من مرض الشك ولكنها منيت بمرض آخر وهو مرض (فقدان الإرادة) وقد أصبحت الأمة لا تملك إرادتها في الرفض والاحتجاج بل أصبحت يدها ولسانها ملك لشهواتها قد فقدت إرادة التغيير لأوضاعها الفاسدة قلوبهم مع الإمام ولكن
مع الحسين (عليه السلام) صار شعار: «لا نريد إلا حكم علي» بعد انتفاء روح الشك ولكن الأمة كانت بحاجة إلى صدمة قوية توقظها من رقدتها وتبعث فيها الإرادة من جديد فكانت ملحمة البطولة والشموخ في عاشوراء الحسين (عليه السلام).
فصلح الحسن (عليه السلام) قد مهد لثورة الحسين لأن الصلح قد مكنهم من الوقوف على أخطاءهم في خذلان الحسن والانخداع بالزيف الأموي «فإذا كان الناس قد كرهوا الحرب لطول معاناتهم لها ورغبوا في السلم انخداعاً بجملة الدعاية التي بثها فيهم عملاء معاوية إذا منوهم بالرخاء والأعطيات الضخمة والدعة والسكينة وطاعة لرغبات زعمائهم القبليين فإن عليهم أن يكتشفوا بأنفسهم مدى الخطأ الذي وقعوا فيه حين ضعفوا عن القيام بتبعات القتال وسمحوا للأماني بأن تخدعهم ولزعمائهم بأن يضلوهم».
إذن فقد كان دور الحسن أن يهيئ عقول الناس وقلوبهم
____________
(1) عادل أديب: دور أئمة أهل البيت في الحياة السياسية، دار التعارف ص200.
فلا معنى للكلام الشائع بين الناس وأحياناً بين المتدينين والمثقفين: عن اتجاه حسني وآخر حسيني فهما وجهان لحقيقة واحدة: الإمامة والمسؤولية.
«وكانت التضحيتان تضحية الحسين بالنفس وتضحية الحسن بالسلطان هما قصارى ما يسمو إليه الزعماء المبدئيون في مواقفهم الإنسانية المجاهدة(2).
____________
(1) محمد مهدي شمس الدين: مصدر سابق، ص119.
(2) راضي آل ياسين: صلح الحسن، 370.
صلح الحسن وخيارات الأمة الراهنة
رغم الصعوبات التي تضعنا تجربة الكتابة عن سيرة الأئمة نواجهها والتي أشرنا إلى بعضها في المقدمة: مشكلة المنهج، قلة المصادر، الاستغراق في البحوث السردية المناقبية وغياب الدراسات التحليلة التي تستنطق النصوص التاريخية لاكتشاف قواعد وضوابط تخدم الأمة في مسيرتها ونهضتها.
كل هذه العوائق لا تمنع البتة من الاستفادة واقتناص الدروس من سيرة الحسن (عليه السلام) المليئة بالعبر.
وفي مرحلتنا الراهنة؛ والأمة الإسلامية تواجه تحديات هذه الحقبة الخطيرة من تاريخها نحتاج أن نتوقف عند تجارب هؤلاء القادة الربانيين لنستوحي منهم ما يساعدنا على ضبط خطتنا في المواجهة وبرامجنا في الإصلاح ومشروعنا في التغيير ومنهاجنا في العلاقة مع الآخر.
القاعدة الأولى:
الواقعية السياسية؛ علمنا صلح الحسن أن الإمام المعصوم رغم حضوره ووجوده فإن النصر والتغيير لم يحصل بمعجزه والصراع لم تحسمه الملائكة وإنما (قوانين التاريخ) وسنن الله في الكون هي التي تحرك المسيرة، نعم إن الله ينصر من ينصره ولكن مع عدم توفر شرائط النصر ومع عدم توفر مقومات الحرب لا مجال للنصر ولا إمكانية للحرب.
لقد علمنا الحسن (عليه السلام) درساً بليغاً في الواقعية السياسية لن تنساه شيعته أبداً.
القاعدة الثانية:
الصلابة المبدأية؛ يعتذر الكثيرون بـ (الواقعية السياسية) ليميّع أهدافه أو يتحلل من التزاماته.
وصلح الحسن يعلمنا كيف نتعاطى مع الظروف والخصم بواقعية ولكن في كنف الالتزام العالي بالمبادئ بل إن هذه المبادئ هي التي تدفعنا للصلح وهذا ما عناه الباقر (عليه السلام) «والله للذي صنعه الحسن بن علي (عليه السلام) كان خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس» فهذا الصلح حمى دين الأمة ورسالتها وقيمها من
القاعدة الثالثة:
لا مانع من حلول مرحلية عندما تعوزنا الإمكانات فلسنا دائماً في مستوى تحقيق أهدافنا البعيدة، فلا مانع إذا هادن المرء مؤقتاً أو صالح ولا بأس من تجرّع مرارة التنازلات أحياناً في سبيل حفظ الأهداف الكبيرة.
القاعدة الرابعة:
الإسلام وأهدافه العليا هي (الإستراتيجية) فلا حرب دائمة ولا هدنة أبدية الحرب والجهاد والهدنة والسلم كلها خطط مؤقتة لخدمة الهدف الكبير.
القاعدة الخامسة:
لابد من تشخيص دقيق لمرض الأمة وداء المجتمع وفي ضوء ذلك نحدد هل الجهاد والثورة هي الحل أم السكون والهدوء وبالمقابل دراسة وتحليل أهداف الأعداء أيضا.
القاعدة السادسة:
حفظ الصالحين من أبناء الأمة وطلائعها المجاهدة مقصد هام من مقاصد الدين وإن كان حفظ الدين هو أول المقاصد فإن في حفظ هؤلاء الملتزمين والمؤمنين والمجاهدين حفظ للدين حقاً.. ونرى كيف أن الحسن (عليه السلام) هادن حفظاً لخلص شيعة آل محمد لأن دونهم لا مجال لحفظ الرسالة
القاعدة السابعة:
يعلمنا الإمام الحسن (عليه السلام) أن نمتلك وعيا مستقبليا فلا ننفعل باللحظة التاريخية التي نعيشها ولا نترك الظروف الراهنة الشديدة تسقطنا بل لابد من الانعتاق من ضغط الحاضر التي قد يفرض علينا تنازلات، بالتحديق الواعي للمستقبل والتخطيط له.
صلّ اللهم على محمد وآل محمد، ارحم أبا محمد الحسن المجتبى يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
المراجع والمصادر
1 - القرآن الكريم.
2 - الإرشاد: المفيد، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ط3 / 1989.
3 - أصول الكافي: الكليني، دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
4 - أعيان الشيعة: محسن الأمين، دار التعارف 1976.
5 - أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: محمد باقر الصدر، دار التعارف.
6 - بحار الأنوار: العلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء، ط2 / 1983م.
7 - تاريخ الطبري: الطبري، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.
8 - تحف العقول: الشيخ الحراني، مؤسسة الأعلمي ط5 / 1974.
9 - ثورة الحسين: محمد حسين شمس الدين، المؤسسة الدولية ط7 / 1996.
11 - دور أئمة أهل البيت في الحياة السياسية: عادل أديب، دار التعارف 1988.
12 - سيرة الأئمة الاثني عشر: هاشم معروف الحسني، دار التعارف ط1 / 1977.
13 - سيرة الأئمة الأطهار: مرتضى مطهري، دار الهادي ط2 / 1992.
14 - شرائع الإسلام: المحقق الحلي، دار الزهراء.
15 - شرح الروضة البهية: الشهيد الثاني، دار الهادي.
16 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.
17 - صلح الحسن: راض آل ياسين، مؤسسة النعمان 1991.
18 - الغدير: العلامة الأميني، دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
19 - الفتنة: هشام جعيط، دار الطليعة ـ بيروت.
20 - الكامل في التاريخ: ابن الأثير، دار صادر ـ بيروت 1965.
22 - كتاب الهدنة: الإمام الخامنئي، دار الوسيلة.