الصفحة 43

الدليل على حجّيّة سنّة أهل البيت (عليهم السلام) من السنّة

وأول أدلّتهم من السنة وأهمّها:

حديث الثقلين ورواته

سند الحديث:

وهذا الحديث يكاد يكون متواتراً، بل هو متواتر فعلا، إذا لوحظ مجموع رواته من الشيعة والسنة في مختلف الطبقات، واختلاف بعض الرواة في زيادة النقل ونقيصته تقتضيه طبيعة تعدّد الواقعة التي صدر فيها، ونقل بعضهم له بالمعنى وموضع الالتقاء بين الرواة متواتر قطعاً.

ومن حسنات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في مصر أنّها أصدرت رسالة ضافية ألّفها بعض أعضائها في هذا الحديث أسمتها: "حديث الثقلين"، وقد استوفى فيها مؤلّفها ما وقف عليه من أسانيد الحديث في الكتب المعتمدة لدى أهل السنة.

وحسب الحديث لأن يكون موضع اعتماد الباحثين:


الصفحة 44
أن يكون من رواته كلّ من: صحيح مسلم (1)، وسنن الدارمي (2)، وخصائص النسائي (3)، وسنن أبي داود (4)، وسنن ابن ماجة (5)، ومسند أحمد (6)، ومستدرك الحاكم (7)، وذخائر الطبري (8)، وحلية الأولياء (9)، وكنز العمال (10)، وغيرهم..

وأن تعنى بروايته كتب المفسرين أمثال: الرازي، والثعلبي، والنيسابوري، والخازن، وابن كثير، وغيرهم..

بالإضافة إلى الكثير من كتب: التاريخ، واللغة، والسير، والتراجم (11).

____________

1- صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة ح 4425.

2- سنن الدارمي: كتاب فضائل القرآن ح 3182.

3- الخصائص: 35.

4- وعنه في تذكرة خواص الأمّة لسبط ابن الجوزي: 322.

5- كفاية الطالب للكنجي الشافعي: 53.

6- مسند أحمد: باقي مسند المكثرين ح 10681 و10707 و10779 و11135، و: مسند الأنصار ح20596، و: مسند الكوفيين ح 18464.

7- مستدرك الحاكم 3 / 148.

8- ذخائر العقبى: 16 باب في فضل أهل البيت (عليهم السلام).

9- حلية الأولياء 1 / 355.

10- كنز العمال 1 / 186 ح4945.

11- راجع كتاب "حديث الثقلين" من سلسلة ندوات مركز الأبحاث العقائدية الرقم (12)، وراجع كتاب قبسات من فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) للمحقق الطباطبائي (قدس سره): 28 ـ 37، وكتاب نفحات الأزهار: قسم حديث الثقلين (ج1، 2، 3).


الصفحة 45
وقد استقصت رسالة دار التقريب عشرات المؤلّفين من هؤلاء وغيرهم (1)، وقد كنت أودّ نقلها بنّصها لقيمة ما ورد فيها من رأي ونقل، لولا انتشارها وتداولها.

وما أظنّ أنّ حديثاً يملك من الشهرة ما يملكه هذا الحديث، وقد أوصله ابن حجر في الصواعق المحرقة إلى نيف وعشرين صحابياً.

يقول في كتابه: ثم اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً (2).

وفي غاية المرام وصلت أحاديثه من طرق السنة إلى (39) حديثاً، ومن طرق الشيعة إلى (82) حديثاً.

والظاهر أن سرّ شهرته تكرار النبي (صلى الله عليه وآله) له في أكثر من موضع:

يقول ابن حجر: ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشُبه، وفي بعض تلك الطرق أنّه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أُخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أُخرى أنّه قال ذلك بغدير خم، وفي أُخرى أنّه قال ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف.

____________

1- راجع ذلك في هذه الرسالة: 5 وما بعدها، مطبعة مخيمر مصر.

2- الصواعق المحرقة 2 / 440.


الصفحة 46
وقال: ولا تنافي، إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها، اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة (1).

نصّ الحديث:

ولسان الحديث كما في رواية زيد بن أرقم: "إني تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض; فانظروا كيف تخلفونني فيهما" (2).

وفي رواية زيد بن ثابت: "إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ـ أو ما بين السماء إلى الأرض ـ وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض" (3).

ورواية أبي سعيد الخدري: "إنّي أوشك أن أُدعى فأجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عزوجل، وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّ اللطيف أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما" (4).

____________

1- الصواعق المحرقة 2 / 440.

2- كنز العمال 1/44، ح874، مستدرك الصحيحين 3/109 و533، خصائص النسائي: 35، مناقب الخوارزمي: 93، ينابيع المودة للقندوزي: 32.

3- مسند أحمد 5 / 182 و189، كنز العمال 1 / 44 ح837.

4- مسند أحمد 3 / 17 و26، كنز العمال 1 / 47 ح945.


الصفحة 47

وقد استفيد من هذا الحديث عدّة أمور نعرضها بإيجاز

1 ـ دلالته على عصمة أهل البيت (عليهم السلام):

أ ـ لاقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه، ومن البديهي أنّ صدور أية مخالفة للشريعة ـ سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة ـ تعتبر افتراقاً عن القرآن في هذا الحال، وإن لم يتحقّق انطباق عنوان المعصية عليها أحياناً كما في الغافل والساهي، والمدار في صدق عنوان الافتراق عنه عدم مصاحبته لعدم التقيّد بأحكامه وإن كان معذوراً في ذلك، فيقال: فلان ـ مثلا ـ افترق عن الكتاب وكان معذوراً في افتراقه عنه، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتى يردا الحوض.

ب ـ ولأنّه اعتبر التمسّك بهم عاصماً عن الضلالة دائماً وأبداً، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة: "لن" التأبيدية، وفاقد الشي لا يعطيه.

ج ـ على أن تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب منهم تجويز للكذب على الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي أخبر عن الله عزوجل بعدم وقوع افتراقهما، وتجويز الكذب عليه متعمداً في مقام التبليغ والإخبار عن الله في الأحكام وما يرجع إليها من موضوعاتها وعللها مناف لافتراض العصمة في التبليغ، وهي مما أجمعت عليها كلمة المسلمين على الإطلاق حتى نفاة العصمة عنه بقول مطلق:

يقول الشوكاني ـ بعد استعراضه لمختلف مبانيهم في عصمة الأنبياء ـ: وهكذا وقع الإجماع على عصمتهم بعد النبوة من تعمّد

الصفحة 48
الكذب في الأحكام الشرعية لدلالة المعجزة على صدقهم; وأما الكذب غلطاً فمنعه الجمهور، وجوّزه القاضي أبو بكر (1).

ولا إشكال أنّ الغلط لا يتأتّى في هذا الحديث، لإصرار النبي (صلى الله عليه وآله) على تبليغه في أكثر من موضع وإلزام الناس بمؤدّاه، والغلط لا يتكرر عادة.

على أنّ الأدلة العقلية على عصمة النبي ـ والتي سبقت الإشارة إليها من استحالة الخطأ عليه في مقام التبليغ، وكلما يصدر عنه تبليغ كما يأتي ـ تكفي في دفع شبهة القاضي أبي بكر، وتمنع من احتمال الخطأ في دعواه عدم الافتراق.

2 ـ دلالته على لزوم التمسّك بالكتاب والعترة:

لزوم التمسّك بهما معاً لا بواحد منهما، منعاً من الضلالة، لقوله (صلى الله عليه وآله) فيه: "ما إن تمسّكتم بهما لم تضلوا"، ولقوله: "فانظروا كيف تخلفونني فيهما"، وأوضح من ذلك دلالة ما ورد في رواية الطبراني في تتمتها: "فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم" (2).

وبالطبع أنّ معنى التمسّك بالقرآن هو الأخذ بتعاليمه والسير على وفقها، وهو نفسه معنى التمسّك بأهل البيت عدل القرآن.

____________

1- ارشاد الفحول: 34.

2- الصواعق المحرقة 2 / 439، وأخرجه الطبراني في الكبير (2681).


الصفحة 49
ومن هذا الحديث يتضح أنّ التمسّك بأحدهما لا يغني عن الآخر "ما إن تمسّكتم بهما"، "ولا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا"، ولم يقل: ما إن تمسّكتم بأحدهما، أو تقدّمتم أحدهما.

وسيأتي السرّ في ذلك: من أنّهما معاً يشكلان وحدة يتمثّل بها الإسلام على واقعة وبكامل أحكامه ووظائفه.

3 ـ دلالته على بقاء العترة مع الكتاب:

بقاء العترة إلى جنب الكتاب إلى يوم القيامة، أي: لا يخلو منهما زمان من الأزمنة ما داما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهي كناية عن بقائهما إلى يوم القيامة.

يقول ابن حجر: وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة على عدم انقطاع متأهل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: "وفي كلّ خلف من أمتي عدول من أهل بيتي" (1).

4 ـ دلالته على تميّز أهل البيت (عليهم السلام) بالعلم:

دلالته على تميّزهم بالعلم بكلّ ما يتصل بالشريعة وغيره، كما يدلّ على ذلك اقترانهم بالكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولقوله (صلى الله عليه وآله): "ولا تعلموهم فانّهم أعلم منكم".

____________

1- الصواعق المحرقة 2 / 442.


الصفحة 50
يقول ابن حجر ـ وهو من خير من كتبوا في هذا الحديث فهماً وموضوعية ـ: تنبيه: سمّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) القرآن وعترته ـ وهي بالمثناة الفوقية: الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ ثقلين، لأنّ الثقل كلّ نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كلّ منهما معدن العلوم اللدنية والأسرار والحكم العلية والأحكام الشرعية، ولذا حثّ (صلى الله عليه وسلم) على الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم، وقال: "الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت"، وقيل: سمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما; ثم إنّ الذين وقع الحثّ عليهم منهم إنّما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيّده الخبر السابق: "ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم"، وتميّزوا بذلك عن بقية العلماء، لأنّ الله أذهب عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً، وشرفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة، وقد مرّ بعضها (1).

مناقشات أبي زهرة للحديث

وقد ناقش الأستاذ محمد أبو زهرة هذا الحديث بمناقشات مطوّلة بعد أن استعرض استدلال الشيعة به على وجوب الرجوع إليهم، نذكر كل ما يتصل بحديثنا منه، ثم نعقب عليه بما يتراءى لنا

____________

1- هذا النص بطوله مستل من الصواعق المحرقة 2 / 442.


الصفحة 51
من أوجه المفارقة فيه:

يقول: ولكنّا نقول: إنّ كتب السنة التي ذكرته بلفظ: "سنتي" أوثق من الكتب التي روته بلفظ: "عترتي"، وبعد التسليم بصحة اللفظ نقول: بأنّه لا يقطع بل لا يعيّن من ذكروهم من الأئمة الستة المتفق عليهم عند الإمامية الفاطميين، وهو لا يعيّن أولاد الحسين دون أولاد الحسن، كما لا يعيّن واحداً من هؤلاء بهذا الترتيب، وكما لا يدلّ على أنّ الإمامة تكون بالتوارث، بل لا يدل على إمامة السياسة، وأنّه أدلّ عليه إمامة الفقه والعلم (1).

حديث حول المناقشات

ومواقع النظر حول نصّه هذا تقع في ثلاث:

1 ـ مناقشته في الحديث من حيث سنده، لتقديم ما ورد فيه من لفظ: "سنتي" على ما ورد من لفظ: "عترتي"، لكن رواته من كتب السنة بهذا اللفظ أوثق.

2 ـ كونه لا يعيّن المراد من الأهل، كما لا يعيّن الأئمة المتفق عليهم لدى الشيعة أو غيرهم، وكأنّه يريد أن يقول: إنّ القضية لا تثبت موضوعها، فكيف جاز الاستدلال به على إمامة خصوص الأئمة؟!

3 ـ دلالته على إمامة الفقه لا السياسة.

____________

1- الإمام الصادق لمحمد أبو زهرة: 199.


الصفحة 52

مناقشة السند وتفنيدها

أما المناقشة الأولى:

فهي غير واضحة لدينا، لأنّ رواية "وسنتي" لو صحّت فهي لا تعارض رواية العترة، واعتبار الصادر شيئاً واحداً أما هذه أو تلك لا ملجىء له، وأظنّ أنّ الشيخ أبا زهرة تخيّل التعارض بينهما، استناداً إلى مفهوم العدد، ولكنه نسي أنّ هذا النوع من مفاهيم المخالفة ليس بحجة ـ كما هو التحقيق لدى متأخري الأصوليين ـ على أنّ التعارض لا يلجأ إليه إلاّ مع تحكّم المعارضة، ومع إمكان الجمع بينهما لا معارضة أصلا، وقد جمع ابن حجر بينهما في صواعقه، فقال:

وفي رواية: "كتاب الله وسنتي"، وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب، لأنّ السنّة مبيّنة له، فأغنى ذكره عن ذكرها، والحاصل أنّ الحثّ وقع على التمسّك بالكتاب وبالسنّة وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة (1).

وإن شئت أن تقول: إنّ ذكر أهل البيت معناه ذكر للسنّة، لأنّهم لا يأتون إلاّ بها، فكلّ ما عندهم مأخوذ بواسطة النبي، أي بواسطة السنة، وقد طفحت بذلك أحاديثهم، ويؤيده ما ورد في كنز العمال

____________

1- الصواعق المحرقة 2 / 439.


الصفحة 53
من جواب النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي عندما سأله: "ما أرث منك يا رسول الله؟"، قال (صلى الله عليه وآله): "ما ورّث الأنبياء من قبل: كتاب ربّهم وسنة نبيهم" (1).

وإذن، يكون ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر، وكلتا الروايتين يمكن أن تكونا صحيحتين، ولا حاجة إلى تكذيب إحداهما وتعيين الصادرة منهما بالرجوع إلى المرجّحات.

ومع الغض عن ذلك وافتراض تمامية المعارضة وأنّ الصادر منه (صلى الله عليه وآله) لا يمكن أن يكون إلاّ واحدة منهما، فتقديمه لكلمة "وسنتي" لا أعرف له وجهاً، لأنّ حديث التمسك بالثقلين متواتر في جميع طبقاته، والكتب التي حفلت به أكثر من أن تحصى، وطرقه إلى الصحابة كثيرة، ورواته منهم ـ أي الصحابة ـ كثيرون جداً، وفي رواياته عدّة روايات كانت في أعلى درجات الصحة، كما شهد بذلك الحاكم وغيره.

بينما نرى الحديث الآخر لا يتجاوز في اعتباره عن كونه من أحاديث الآحاد، ولقد كنتُ أحبّ للسيد أبي زهرة أن يتفضّل بذكر الكتب السنية التي روت حديث "وسنتي" لنرى مدى ادعائه الأوثقية لها، وأيّ كتب أوثق من الصحاح والسنن والمسانيد

____________

1- كنز العمال 5 / 41.

وراجع: السقيفة للمظفر: 49.


الصفحة 54
ومستدركاتها التي سبق ذكرها وذكر روايتها للحديث لتُقدّم عند المعارضة؟!

وفي حدود تتبعي لكتب الحديث، واستعانتي ببعض الفهارس، لم أجد رواية "وسنتي" إلاّ في عدد من الكتب لا تتجاوز عدد الأصابع لليد الواحدة (1)، وهي مشتركة في رواية الحديثين معاً، اللهم إلاّ ما يبدو من مالك، حيث اقتصر في الموطّأ على ذكرها فحسب، ولم يذكر الحديث الآخر، إن صدق تتبعي لما في الكتاب:

يقول راوي الموطأ: وحدثني عن مالك: أنّه بلغه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه" (2).

ويكفي في توهين الرواية أنّها مرفوعة ولم يذكر الكتاب رواتها، مما يدلّ على عدم اطمئنان صاحبها إليها، ولسانها: عن مالك أنّه بلغه أنّ رسول الله، ولعلّ الموطّأ هو أقدم مصادرها في كتب الحديث، كما أن ابن هشام هو أقدم رواتها في كتب السير (3) فيما يبدو.

وما عدا هذين الكتابين: فقد ذكرها ابن حجر في صواعقه

____________

1- راجع: المستدرك على الصحيحين 1 / 93، السنن الكبرى للبيهقي 10 / 114، الالماع: 8 ـ 9، فيض القدير شرح الجامع الصغير 3 / 240، كنز العمال: الباب الثاني في الاعتصام بالكتاب والسنة من المجلد الأول.

2- الموطأ بشرح السيوطي 2 / 208.

3- سيرة ابن هشام 4/603.


الصفحة 55
مرسلة، وذكرها الطبراني فيما حكي عنه (1).

ومثل هذه الرواية ـ وهي بهذه الدرجة من الضعف، لأنّها لا تزيد على كونها مرفوعة أو مرسلة، ولو قدر صحتها فهي لا تزيد على كونها من أخبار الآحاد ـ هل يمكن أن تقف بوجه حديث الثقلين مع وفرة رواته في كتب السنة وتصحيح الكثير من رواياته، كما سبق بيانه؟

هذا كلّه من حيث سند الحديثين.

أمّا من حيث المضمون، فأنا شخصياً لا أكاد أفهم كيف يمكن أن تكون السنة مرجعاً يطلب إلى المسلمين في جميع عصورهم أن يتمسّكوا بها إلى جنب الكتاب، وهي غير مجموعة على عهده (صلى الله عليه وآله)، وفيها الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد؟

ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة وأصحابه كما يقول ابن حزم: مشاغيل في المعاش، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز، وأنّه كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط، وأنه إنّما قامت الحجة على سائر من لم يحضره (صلى الله عليه وآله) بنقل من حضره، وهم واحد أو اثنان (2).

وإذا صح هذا ـ وهو صحيح جداً، لأنّ التاريخ لم يحدثنا عنه (صلى الله عليه وآله)

____________

1- راجع حديث الثقلين لدار التقريب: 18.

2- الاحكام فى أصول الأحكام 1 / 102.


الصفحة 56
أنّه كان يجمع الصحابة جميعاً ويبلغهم بكلّ ما يجد من أحكام، ولو تصوّرناه في أقواله فلا نتصوره في أفعاله وتقريراته وهما من السنة ـ فماذا يصنع من يريد التمسّك بسنته من بعده ولنفترضه من غير الصحابة؟ أيظل يبحث عن جميع الصحابة ـ وفيهم الولاة والحكام، وفيهم القواد والجنود في الثغور ـ ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرّف عليه من أحكام، أم يكتفي بالرجوع إلى الموجودين وهو لا يجزيه، لاحتمال صدور الناسخ أو المقيد أو المخصص أمام واحد أو اثنين ممن لم يكونوا بالمدينة؟ والحجية ـ كما يقول ابن حزم ـ: لا تتقوّم إلاّ بهم.

والعمل بالعام أو المطلق لا يجوز قبل الفحص عن مخصصه أو مقيّده، ما دمنا نعلم أنّ من طريقة النبي (صلى الله عليه وآله) في التبليغ هو الاعتماد على القرائن المنفصلة، فالإرجاع إلى شيء مشتّت وغير مدوّن تعجيز للأمة وتضييع للكثير من أحكامها الواقعية.

وإذا كانت هذه المشكلة قائمة بالنسبة إلى من أدرك الصحابة ـ وهم القلة نسبياً ـ فما رأيكم بالمشكلة بعد تكثّر الفتوح، وانتشار الإسلام، ومحاولة التعرّف على أحكامه من قبل غير الصحابة من رواتهم، وبخاصة بعد انتشار الكذب والوضع في الحديث للأغراض السياسية أو الدينية أو النفسية؟

ومثل هذه المشكلة هل يمكن أن لا تكون أمامه (صلى الله عليه وآله)؟ وهو

الصفحة 57
المسؤول عن وضع الضمانات لبقاء شريعته ما دامت خاتمة الشرائع، وقد شاهد قسماً من التنكر لسنته على عهده (صلى الله عليه وآله)، كما مرّت الاشارة إلى ذلك في سابق من الأحاديث.

إنّ الشيء الطبيعي أن لا يفرض أي مصدر تشريعي على الأمة ما لم يكن مدوّناً ومحدّد المفاهيم، أو يكون هناك مسؤول عنه يكون هو المرجع فيه.

وما دمنا نعلم أنّ السنة لم تدوّن على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) منزّه عن التفريط برسالته، فلابدّ أن نفترض جعل مرجع تحدّد لديه السنة بكلّ خصائصها، وبهذا تتضح أهمية حديث الثقلين وقيمة إرجاع الأمة إلى أهل البيت (عليهم السلام) فيه لأخذ الأحكام عنهم، كما تتضح أسرار تأكيده على الاقتداء بهم، وجعلهم سفن النجاة تارة (1)، وأماناً للأمة أخرى (2)، وباب حطة ثالثة (3)، وهكذا...

____________

1- قال ابن حجر الهيتمي في الصواعق 2 / 543: أخرج الحاكم عن أبي ذر (رضي الله عنه): أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) قال: "إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك"، وفي رواية للبزار عن ابن عباس وعن ابن الزبير وللحاكم عن أبي ذرّ أيضاً: "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق".

2- إشارة إلى قوله (صلى الله عليه وآله): "النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا، فصاروا حزب إبليس"، أخرجه الحاكم في المستدرك 3/149 عن ابن عباس مرفوعاً وصححه على شرط الشيخين، وراجع الصواعق المحرقة 2 / 445.

3- أخرجه الطبراني في الكبير (2636) و (2637) و (2638) وفي الصغير 1 / 139 ـ 140، والحاكم 3 / 151، وأورده الهيثمي في المجمع 9 / 168، والتبريزي في المشكاة (6174).


الصفحة 58
وبخاصة إذا أدركنا مقام النبوة وما يقتضيه من تنزيه عن جميع المجالات العاطفية غير المنطقية، وإلاّ فما الذي يفرق أهل بيته عن غيرهم من الأمة ليضفي عليهم كلّ هذا التقديس، ويلزمها بهذه الأوامر المؤكّدة بالرجوع إليهم والاقتداء بهم والتمسّك بحبلهم؟!

أمّا ما يتصل بعدم تعيينه المراد من أهل البيت، فهذا من أوجه ما أورده أبو زهرة من إشكالات على هذا الحديث.

وكون القضية لا تشخص موضوعها بديهية، لذلك نرى أن نتعرّف على المراد من أهل البيت من خارج نطاق هذا الحديث.

المناقشة في المراد من أهل البيت (عليهم السلام) وتفنيدها

من هم أهل البيت؟:

وأول ما يلفت النظر سكوت الأمة عن استيضاح أمرهم من النبي (صلى الله عليه وآله)، وبخاصّة وقد سمعوه منه في نوب متفرقة وأماكن مختلفة.

أما كان فيهم من يقول له: إنّك عصمتنا من الضلالة بالرجوع إلى أهل بيتك، وجعلتهم قرناء القرآن، فمن هم أهل هذا البيت لنعتصم بهم؟

أترى أنّ عصمتهم من الضلالة من الأُمور العادية التي لا تهم

الصفحة 59
معرفتها والاستفسار عنها؟ أم ترى أنّهم كانوا معروفين لديهم فما احتاجوا إلى استفسار وحديث؟

والذي يبدو أنّ الصحابة ما كانوا في حاجة إلى استفسار وهم يشاهدون نبيهم (صلى الله عليه وآله) في كلّ يوم يقف على باب علي وفاطمة وهو يقرأ: ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1)، وتسعة أشهر ـ وهي المدّة التي حدّث عنها ابن عباس ـ كافية لأن تعرف الأمة من هم أهل البيت، ثم يشاهدونه وقد خرج إلى المباهلة وليس معه غير علي وفاطمة وحسن وحسين (عليهم السلام) وهو يقول: "اللهم هؤلاء أهلي" (2)، وهم من أعرف الناس بخصائص هذا الكلام، وأكثرهم إدراكاً لما ينطوي عليه من قصر واختصاص.

وأحاديث الكساء التي سبقت الإشارة إليها فيما سبق، بما في بعضها من إقصاء حتى لزوجته أم سلمة، ما يغني عن إطالة الحديث معه في التعرّف على المراد من أهل البيت على عهده، وأحاديثه على

____________

1- الأحزاب: 33.

2- صحيح مسلم 7 / 121، وفيه: ولمّا نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ) دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: "اللهم هؤلاء أهلي".

وقد رواه كل من أحمد 1 / 185، والترمذي: (2999) و (3724)، والحاكم 3 / 150، والبيهقي 7 / 63، وابن أبي عاصم في السنة: (1338)، والبزار: (1120)، والطبراني في الكبير: (328)، والسيوطي في تاريخه: 140، وابن حجر الهيتمي في صواعقه 2 / 355.


الصفحة 60
اختلافها يفسر بعضها بعضاً، ويعين بعضها المراد من البعض.

على أ نّا لا نحتاج في بدء النظر إلى أكثر من تشخيص واحد منهم يكون المرجع للقيام بمهمته من بعده، وهو بدوره يعيّن الخلف الذي يأتي بعده، وهكذا... وليس من الضروري أن يتولّى ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه إن لم نقل أنّه غير طبيعي لولا أن تقتضيه بعض الاعتبارات.

ومن هنا احتجنا إلى النصّ على من يقوم بوظيفة الإمامة، لأنّ استيعاب السنة والأحكام الشرعية وطبيعة الصيانة لحفظها التي تستدعي العصمة لصاحبها والعاصمية للآخرين، ليست من الصفات البارزة التي يدركها جميع الناس ليتركها مسرحاً لاختيارهم وتمييزهم، ولو أمكن تركها لهم في مجال التشخيص فليس من الضروري أن يتّفق الناس على اختيار صاحبها بالذات مع تباين عواطفهم وميولهم.

وطبيعة الصيانة والحفظ ومراعاة استمرارها منهجاً وتطبيقاً في الحياة تستدعي اتخاذ مختلف الاحتياطات اللازمة لذلك.

ولقد أغنانا (صلى الله عليه وآله) حين عيّن علياً (عليه السلام) في نفس حديث الثقلين وسمّاه من بين أهل بيته لينهض بوظائفه من بعده، ومما جاء في خطابه التاريخي في يوم غدير خم ـ وهو ينعى نفسه لعشرات الأُلوف من المسلمين الذين كانوا معه ـ: "كأنّي قد دعيتُ فأجبتُ، إنّي قد تركتُ فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلفونني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ