الصفحة 127

وأيضا فلو لم يكن في أفعاله تعالى ما له صفة الإحسان لا يجب شكره، لاختصاص الشكر به دون سائر الأفعال، فإذا لم يتعين شكره لم يستحق العبادة، لكونها كيفية في الشكر وذلك ضلال.

وأيضا فإنا نعلم ضرورة أن من جملة الأفعال الواقعة منا ما يستحق به الشكر والمدح، ولا يستحق به الذم، كما نعلم أن من جملتها واجب ومباح، فيجب أن يكون تعالى قادرا لنفسه على ما هذه حاله، وذلك ينتقض قوله: إنه ليس في الشاهد ولا الغائب ما يخرج عن واجب في العدل أو واجب في الجود.

وأما المكلف، فهو الجملة الحيث المشاهدة، بدليل حصول العلم بوقوع الأفعال الدالة على كون من تعلقت به قادرا، والمحكمة المترتبة الدالة على كون من تعلقت به عالما مريدا منها، والقادر العالم المريد هو الحي المكلف.

وإذا كان المعلوم استناد ما دل على كونه كذلك إلى الجملة، وجب وصفها به دون ما لا يعلم ولا يظن تعلق التأثيرات به، إذ كان نفيها عن الجملة المعلوم ضرورة تعلقها بها وإضافتها إلى من لا يمكن إضافتها إليه إلا على هذا الوجه تجاهل، ولا نعلم حصول الإدراك بأبعاضها، والمدرك هو الحي، فيجب أن يكون كل عضو حصل به الإدراك من جملتها.

ولأن الأفعال تقع (1) بأطرافها، ويبتدئ بها التأثيرات المحكمة، ويخف باليدين ما يثقل باليد الواحدة، ولا وجه لذلك إلا كون هذه الأعضاء محلا للقدر، ومحل القدر هو القادر، والقادر هو الحي.

وليس لأحد أن يقول: ما المانع من كون الحي غيرها، وتقع أفعاله فيها مخترعة.

لأن الاختراع يتعذر بجنس القدر ولأنه لو صح منه أن يخترع فيها لصح

____________

(1) في النسخة: " نفع ".

الصفحة 128
في غيرها، وذلك محال، ولأنه لو صح منه الاختراع لجاز أن يخترع في الإصبع الواحدة من حمل الثقيل ما ينقل باليدين، والمعلوم خلاف ذلك، ولأنا نعلم انتفاء الحياة بانتقاض هذه البنية، ولو كان الحي غيرها لكان لا فرق بين قطع الرأس والشر، والمعلوم خلاف ذلك.

وببعض ما قدمناه يبطل كون الحي بعض الجملة، لصحة الإدراك بجميع أبعاضها، وبوقوع الأفعال في حالة واحدة بكثير من أعضائها، مع تعذر الاختراع على ما بيناه.

وأما صفات المكلف، فيجب أن يكون قادرا ليصح منه إيجاد ما كلف، والقدرة مختصة بمقدوراته سبحانه، فيجب عليه فعلها.

وإن كان التكليف يفتقر إلى آلة وجب في حكمته سبحانه فعل ما يختصه كاليد والرجل " وتمكينه من تحصيل ما يختصه كالقلم والقوس، لتعذر الفعل المفتقر إلى آلة من دونها، لتعذره من دون القدرة.

وإن كان التكليف مما يفتقر العلم به والعمل إلى زمان وجب تبقية الزمان الذي يصحان في مثله، لأن اخترامه من دونه قبيح.

ويجب أن يكون عالما بتكليفه ووجهه، أو متمكنا من ذلك، لأن الغرض المقصود من الثواب لا يثبت مع الجهل بوجوب الأفعال، لاختصاص استحقاقه بإيقاع ما وجب أو ندب إليه واجتناب ما قبح للوجه الذي له حسنا وقبح هذا، ولأن المكلف لا يأمن براءة ذمته مما وجب عليه فعلا وتركا من دون العلم بهما.

فما اقتضت الحكمة كونها من فعله تعالى، فلا بد من فعله للمكلف، كالعلم بالمشاهدات بأوائل العقول وسائر الضروريات، وما اقتضت المصلحة كونه من فعل المكلف، وجب إقداره عليه بإكمال عقله ونصب الأدلة وتخويفه من ترك النظر فيها، ويكفي ذلك في حسن تكليف ما يجب علمه استدلالا، وإن لم يكن

الصفحة 129
معلوما في الحال، ولا مما يعلم (1) في الثاني، لأن التكليف كاف، والتقصير مختص بالمكلف.

والحال التي يصح معها تكليف (2) العلم بالمعلوم، هي كون الحي عاقلا مخوفا من ترك النظر في الأدلة.

والعقل: مجموع علوم من فعله تعالى، وهي على ضروب:

منها: العلم بالمدركات مع ارتفاع اللبس.

ومنها: العلم بأن المعلوم لا بد أن يكون ثابتا أو منتفيا، والثابت لا يخلو أن يكون لوجوده أول أو لا أول لوجوده.

ومنها: العلم بوجوب شكر المنعم ورد الوديعة والصدق والإنصاف، وقبح الظلم والكذب والخطر، واستحقاق فاعل تلك ومجتنب هذه المدح والذم على فعل هذه واجتناب تلك إذا وقع ذلك عن قصد.

ومنها: العلم بتعلق التأثيرات بالعبدة وفرق ما بين من تعلقت به وتعذرت ومنها: العلم بجهات الخوف والمضار، وما يستندان إليه من العادات.

وقلنا: إن العقل مجموع هذه العلوم.

لأنها متى تكاملت لحي وصف بأنه عاقل ومتى اختل شئ منها لم يكن كذلك، ولو كان العقل معنى سواها لجاز تكاملها بحي ولا يكون عاقلا، بأن لا يفعل فيه ذلك المعنى، أو يفعل في حي من دونها، فيكون عاقلا، والمعلوم خلاف ذلك.

وقلنا: إنها من فعله تعالى لحصولها على وجه الاضطرار في الحي (3) لأنها

____________

(1) في النسخة: " لا يعلم ".

(2) في النسخة: " التكليف ".

(3) في النسخة: " الحق ".

الصفحة 130
لو كانت من فعل الحي منا لكانت تابعة لمقصوده.

وقلنا: إن كونه عاقلا شرط في تكليفه الضروري هو من جملتها (1)، والمكتسب لا يتم من دونها، لافتقاره إلى النظر الذي يجب أن يتقدمه العلم بمجموعها، ولأنه لا حكم للنظر من دونه.

ومما يجب كونه عليه التخلية بينه وبين مقدوره، فإن علم سبحانه حصول منع من فعله تعالى أو فعل المكلف أو غيره قبح تكليفه لتعذر وقوعه، وإن اختلفت أسباب التعذر.

ولا يحسن منه تعالى تكليفه بشرط زوال المنع، لأنه عالم بالعواقب، والاشتراط فيه لا يتقدر، وإنما يحسن فيمن لا يعلم العواقب (2)، ولذلك متى علمنا أو ظننا حصول منع من فعل لم يحسن منا تكليفه.

ومما يجب كونه عليه: صحة الفعل، وتركه، لأن إلجائه (3) ينقض الغرض المجري بالتكليف إليه من الثواب الموقوف على إيثار المشاق.

والالجاء يكون بشيئين:

أحدها: أن يعلم العاقل أو يظن في فعل أنه متى رامه منع منه لا محالة، كعلم الضعيف أنه متى رام قتل الملك منع منه هو الملجأ إلى الترك، وهذا الضرب من الالجاء لا يتغير.

والثاني: يكون بتقوية الدواعي إلى المنافع الكثيرة الخالصة أو الصوارف بالمضار الخالصة، وهذا يجوز تغييره بأن يقابل الدواعي صوارف يزيد عليها، والصوارف دواع يزيد عليها، ولهذا استحال الالجاء على القديم سبحانه،

____________

(1) كذا.

(2) في النسخة: " للعواقب ".

(3) في النسخة: " الحاء ".

الصفحة 131
لاستحالة ما يستند إليه من المنع ورجاء النفع وخوف الضرر.

ومن صفاته: أن يكون مائلا إلى القبيح نافرا من الواجب محتاجا، لاستحالة تقدير التكليف من دون ذلك، من حيث كانت المشقة شرطا فيه، ولا مشقة من دون الميل والنفور، لأن ما يلتذ به الحي أو لا يلتذ به ولا تألم لا يشق عليه، فعلا كان أو تركا، ولأن الوجه في حسنه (1) التعريض للنفع الملتذ به، ومتى لم يكن الحي على صفة من يلتذ ببعض المدركات ويألم ببعض لم يدعه داع إلى تكلف مشقة لاجتلاب نفع أو دفع مضرة، وكونه كذلك يقتضي كونه محتاجا إلى نيل النفع ودفع الضر، فإن فرضنا غناه بالحسن عن القبيح ارتفعت المشقة التي لا يتقدر تكليف من دونها.

وليس من شرط التكليف أن يعلم المكلف أن له مكلفا، لأن التكليف الضروري ثابت من دون العلم بمكلفه سبحانه، ولأن المعرفة بالمكلف سبحانه لا وجه لوجوبها إلا تعلقها بالضروري، فلو وقف حسن التكليف على العلم بالمكلف لتعذر ثبوت شئ من التكاليف.

وليس من شرطه أن يعلم المكلف أنه مكلف، لأنا قد بينا قبح الاشتراط في تكليفه سبحانه، وقبحه يوجب القطع على تبقيته المكلف الزمان الذي يصح منه فعل ما كلف على وجه، فلو كان من شرطه أن يكون عالما بأنه مكلف لوجب أن يكون قاطعا على البقاء إلى أن يؤدي ما كلف أو يخرج وقته، وذلك يقتضي كونه مغري بالقبح أو عصمته، والاغراء لا يجوز عليه، وعصمة كل مكلف معلوم ضرورة خلافه.

ولأنا نعلم من أنفسنا وغيرنا من المكلفين أنه لا أحد منا يقطع على بقائه وقتا واحدا، بل يجوز اخترامه بعد دخول وقت التكليف وقبل تأديته العبادة وبعد

____________

(1) في النسخة: " جنسه ".

الصفحة 132
ما دخل فيها ولم يحملها، وإنما نعلم أنه مكلف ما يحتاج إلى زمان إذا فعله أو خرج وقته إن كان موقتا.

وليس لأحد أن يقول: فعلى هذا لا يلزم أحدا أن يفعل شيئا من الواجبات، وإن فعلها فلغير وجه الوجوب.

لأنه لا يتعين له على ما ذكرتم إلا بعد الأداء أو خروج الوقت، لأنه وإن لم يعلم كونه مكلفا ما خوطب به إلا بعد فعله أو خروج وقته، فإنه يعلم وجوب الابتداء به، وإذا علم ذلك وجب عليه الدخول فيه والعزم على فعله لوجهه.

ولأنه يجوز البقاء، ويعلم أنه (إن) خرج وقته ولم يؤده استحق الضرر، فيجب عليه التحرز من الضرر المخوف ويفعله لوجهه، فكل ما مضى منه جزء علم كونه مكلفا له حتى يمضي جملته أو وقته، وإن اخترم على بعضه في وقته فتكليفه مختص بما فعله دون ما لم يفعله.

إن قيل: فيلزم على هذا أن يفرد كل حكم واجب من جملة تكليف بقصد مخصوص.

قيل: إذا كان الحكم من جملة تكليف وجب عليه الابتداء به كفاه (1) أن يبتديه بعزم على جملته وتفصيله لوجهه، لاختصاص تكليفه بذلك، وإن كان إفراد كل حكم من جملة تكليف بنية تخصه أفضل، ونية الجملة كافية، إذ لا فرق في تعلقها بالحكم بين مصاحبته أو تقدمها عليه في حال الابتداء بالعبادة التي هو من جملتها.

مسألة: (في الألم)

الألم: ما أدرك بمحل الحياة فيه، وهو: جنس، وغير جنس:

____________

(1) في النسخة: " كفارة ".

الصفحة 133
فالمدرك بمحل الحياة فيه - كالحادث عند الحي، وفي رأس المصدع - جنس.

والمدرك بمحل الحياة في غيره - كالحرارة، والبرودة، والطعم - ليس بجنس غير هذه المدركات.

وقلنا ذلك.

لأن الحي يجد من طريق الإدراك عند قطع بعض أعضائه ما لم يكن يجده، ويفصل بين تألمه من ناحية ذلك العضو وبين غيره.

والادراك يتعلق بأخص صفات المدرك، ولا يجوز تعلقه بتفريق البنية، لأن الأكوان غير مدركة بمحل الحياة ولا غيره، والميل والنفور غير مدركين، ولأن حال كل منهما يحصل للحي، وهو غير آلم ولا ملتذ، فثبت وجود منى تعلق الإدراك به.

وليست هذه حاله عند إدراك الحرارة والطعم وغيرهما، لأن الإدارك تعلق بجنس معلوم، فلا حاجة بنا إلى إثبات غيره، لما فيه من الجهالة.

وسمي هذا المعنى ألما إذا أدركه الحي وهو نافر، ويسمى لذة إذا أدركه وهو مشته.

والشهوة والنفار (1) معنيان مغايران للألم واللذة، مختصان بالقديم تعالى.

والألم مقدور للمحدث، ولا يصح منه إلا متولدا عن الوهي، وتقع منه تعالى متولدا ومبتدأ، كحصوله للمصدع والمنفرس.

وإذا ثبت أن الألم جنس الفعل بطل قول من زعم أنه قبيح لكونه ألما، من حيث كان الشئ لم يقبح لجنسه، لأن ذلك يقتضي اختصاص القبح بجنس معين، أو يماثل سائر الأجناس، لصحة الاشتراك في صفة القبح، ويتعذر الجنس

____________

(1) في النسخة: " والنفاق ".

الصفحة 134
في شئ من أعيان الجنس، وإنما يقبح لوقوعه على وجه، ولهذا يقبح بعض الأكوان يحسن بعض.

والوجه الذي عليه بقبح الألم هو كونه ظلما بتعريه من نفع يوفى عليه، ودفع ضرر هو أعظم منه، واستحقاق، وكونه مدافعة، وكونه عبثا بتعريه من عوض مثله، أو أنفع (لا) يحسن إيصاله (1) إلى المؤلم من دونه، أو لدفع ضرر يندفع بغيره، أو كونه استفسادا بأن يكون داعيا إلى قبيح، أو صارفا عن حسن.

والوجه الذي عليه يحسن هو أن يكون فيه نفع، أو دفع ضرر أعظم، أو عن استحقاق، أو مدافعة.

وقلنا بقبحه لتلك (2) الوجوه، وحسنه لهذه.

لحصول العلم الضروري لكل عاقل بذلك من غير نظر ولا تأمل، ويقوم الظن في جميع ذلك مقام العلم، لعلمنا باتباع الحسن والقبح له.

والوجه الذي يصح منه تعالى الايلام أن يكون مستحقا أو لطفا، وهذان الوجهان ثابتان فيما يفعله في الدنيا، فأما ما يفعله تعالى في الآخرة فمختص بالاستحقاق، لأن اللطف فيها غير متقدر.

وقلنا باختصاص إيلامه في الدنيا بالوجهين.

لأن الوجوه التي يقبح عليها الألم لا تصح منه تعالى، لما بيناه من حكمته تعالى.

ولدفع الضرر قبيح منه وإن حسن منا على وجه، لأن الإيلام لدفع الضرر لا يحسن إلا بحيث لا يندفع الأعظم إلا به.

يوضح ذلك: أن كسر يد الغريق لتخليصه لا يحسن مع غلبة الظن

____________

(1) في النسخة: " أو أنفع بحسن اتصاله ".

(2) في النسخة: " لذلك ".

الصفحة 135
بخلاصه بمجرد الجذب، ويحسن إذا غلب الظن أنه لا يتخلص إلا به، والقديم تعالى قادر على دفع كل ضرر من غير إضرار، فلا وجه له منه تعالى.

ولمجرد النفع لا يحسن، لكونه عبثا، لأن من استأجر غيره لنقل الرمل من جهة إلى أخرى لنفعه بالأجرة حسب يستحق الذم لكونه عبثا.

وإذا فعل سبحانه الألم لاعتبار (1) المفعول في المؤلم أو غيره، فلا بد من عوض ينغمر في جنبه (2)، ليخرج به عن كونه ظلا، ولهذا حسن ما يقع منه سبحانه من إيلام، ولم يحسن ما يقع منا عريا من النفع ودفع الضرر والاستحقاق والمدافعة، وهو الظلم، وإن كان في مقابلته عوض لا بد من إيصاله إلى المظلوم.

ولا فرق في حسن الألم للطف بين أن يكون اللطف مختصا به، أو مع مساواة النفع له في ذلك، لأنه بالعوض المستحق عليه قد لحق بالنفع وزاد عليه، فحاله تعالى في التخيير بينهما بخلاف حالنا، لأنا لا نقدر ولا نعلم من الأعواض ما يحسن له الألم، ولذلك لم يحسن منا الاستصلاح به بحيث يقوم النفع مقامه.

والوجه في حسن إيلام الأطفال كونه لطفا للعقلاء، وفي البهائم كونه كذلك، وللانتفاع به في الدنيا، فيخرج بذلك عن حد العبث، وعليه عوض يخرجه عن كونه ظلما.

وقلنا ذلك.

لأن إضافته إلى الطبائع، أو الكواكب، أو الظلمة، أو الشيطان، أو القديم تعالى على وجه يقبح لا يصح (3) على ما دللنا على فساده.

وكونه لذة معلوم ضرورة خلافه، وكونه للاستحقاق يقتضي مصاحبة الذم

____________

(1) في النسخة: " الاعتبار ".

(2) في النسخة: " جنسه ".

(3) في النسخة: " ولا يصح ".

الصفحة 136
له، ومعلوم قبحه وتقدم (1) تكليف قبل زمانه، وذلك يقتضي حصول الذكر له.

ولأن القائلين بذلك يبنونه على قبح الايلام لغير الاستحقاق، وقد بينا حصول العلم الضروري بحسنه، للنفع ودفع الضرر والمدافعة.

ولأنه يوجب عليهم تقدم تكليف على تكليف إلى ما لا نهاية له، أو الانتهاء إلى تكليف غير مستحق، فيسقط معه مذهبهم، ويقتضي كون التكليف عقابا، وذلك محال.

وبهذا يسقط مذهب القائلين بالتناسخ، ويسقطه أيضا قيام الدلالة على أن الحي هو الجملة دون بعضها أو غيرها، واستحالة كون زيد قردا (2)، وإنما كان يصح ذلك لو كان الحي غير الجملة، وقد أفسدناه، وإن كانوا لا يهتدون إلى هذا الذي لا يتقدر تناسخ من دونه، ولأنه يقتضي تكميل عقل المنسوخ ليعلم كونه معدولا فيه معدنا، والمعلوم ضرورة خلاف ذلك، ولأنه كان يجب ذم كل مؤلم لكونه (3) عقابا وإن كان نبيا أو صديقا.

واعتذارهم في عدم الذكر بالموت لا يغني سببا، لأن فقد العلم في مدته لا يمنع عند الإحياء وإكمال العقل من الذكر، بل يجب كالنوم وحال العقلاء في البعث، ولأن الموت غير متقدر على مذاهبهم، وإنما هو انتقال الروح أو الحي، فإن فهموا مذهب القائلين به من جملة إلى جملة فعلى هذا ما حاله في التنقل في الهياكل إلا كالتنقل في الأماكن، فكما يجب العلم بحمل أحوال المنتقل عن بلد إلى أخر فكذلك يجب ما قلناه.

____________

(1) في النسخة: " وبعدم ".

(2) في النسخة: " فردا ".

(3) في النسخة: " لكنه لكونه ".

الصفحة 137

مسألة: (في العوض)

العوض: هو النفع المستحق العري من تعظيم وتبجيل.

وليس بدائم، لأنه لو كان من حقه الدوام لكان شرطا في حسنه، وقد علمنا حسن الألم لنفع منقطع، وجهة استحقاقه على المحدث كون ما يستحق به ظلما من فعله أو واقعا عند فعله، كالآلام الواقعة من الكحل.

وهو على ضربين: أحدهما يصح نقله كالأموال، وما لا يصح ذلك فيه كالآلام والغموم على السب وفوت المنافع.

فعوض الأول يصح التخلص بإيصاله إلى مستحقه أو استحلاله لصحة قبضه واستيفائه، والثاني يقف على الانتصاف منه تعالى في الآخرة لتعذر القبض فيه والاستيفاء.

وجهات استحقاق العوض عليه تعالى من وجوه أربعة:

أحدها: لألم يفعله للطف به كالآلام المبتدأة في الأطفال والبالغين، وما يفعله عند التعريض منا للحر والبرد، لعلمنا بحسن ذلك، ولو كان العوض على من طرح غيره في الثلج لكان قبيحا مع كونه فعلا له سبحانه، وإنما يقبح التعريض.

وثانيها: ما يفعل بأمره، كالضحايا وحدود الامتحان.

وثالثها: ما يفعل بإباحته، كذبح الحيوان وركوب البهائم والحمل عليها واستخدام الرقيق.

ورابعها: ما يفعل بإلجائه.

وجهة استحقاق العوض من الوجه الأول قد بيناه، ومن الوجوه الثلاثة: علمنا بحسن ما يقع من الألم بأمره وإباحته وإلجائه، فلولا أنه سبحانه (1)

____________

(1) في النسخة: " فلولا أنه سبحانه أنه قد ".

الصفحة 138
تكفل بالعوض عنه لقبح (1)، كسائر ما نفعله (2) من الألم بغيرنا.

ويجوز تعجيل ما يمكن ذلك فيه في الدنيا، لأنه لا صفة له تمنع من تعجيله، وما لا تعجيل منه لا بد من فعله في الآخرة لمستحقه من العقلاء وغيرهم.

ولا يجوز في حكمته سبحانه تمكين غيره من الظلم إلا مع إمكان الانتصاف منه في حال الاستحقاق، لأن تبقيته أو تكفل العوض عنه تفضل عليه يجوز منعه، والانتصاف واجب، ولا يجوز تعلقه به.

والصحيح حسن تمكين من علم أنه يستحق من الأعراض بمقدار ما يستحق عليه في المستقبل، أو يتكفل القديم سبحانه عنه العوض، لأن الانتصاف للمظلوم وإيصاله إلى ما يستحقه من الأعواض ممكن مع كل واحد من الأمرين، كإمكانه مع ثبوت العوض في حال الظلم، ولا مانع من قبح ولا غيره.

مسألة: (في الآجال)

الكلام في الآجال عبارة، ومعنى:

فالعبارة: الأجل، وهو: الوقت، لأن أجل الذين وقت استحقاقه، والوقت هو الحادث الذي تعلق به حدوث غيره إذا كان معلوما، والموقت هو الحادث المتعلق بالوقت إذا لم يكن معلوما، كطلوع الشمس هو وقت لقدوم زيد إذا كان المخاطب يعلم طلوعها، لأنه حادث معلوم تعلق به حادث غير معلوم.

فإذا صح هذا فأجل الموت أو القتل وقت حدوثهما، ولو جاز أن يطلق على حدوث موت أو قتل أجلان لجاز عليه أن يطلق عليه وقتان، وتقدير بقائه لو لم يمت أو يقتل لا يجوز له أن يوصف بأن له أجلان، لأن ما لم يحدث فيه موت ولا قتل لا يوصف بذلك بالتقدير، كما لا يكون ما لم يقع فيه موت ولا قتل وقتا

____________

(1) في النسخة: " ولقبح ".

(2) في النسخة: " ما يفعله ".

الصفحة 139
للموت ولا قتل.

والمعنى: هل كان يجوز بقاء من مات أو قتل أكثر مما مضى أم لا؟ وهذا ينقسم:

إن أريد كونه مقدورا فذلك صحيح، لكونه سبحانه قادرا لنفسه، فالامتناع منه كفر.

وإن أريد العلم بوقوعه وحصوله فمحال، لأنه سبحانه عالم لنفسه، فلو كان يعلم أن هذا الميت أو المقتول يعيش أكثر مما مضى لعاش إليه ولم يمت ولم يقتل في هذه الحال، وفي اختصاص موته أو قتله بها دليل على أنه المعلوم الذي لا يتقدر غيره، وكونه معلوما لا يوجب وقوعه ولا يحيل تعلق القدرة (1) بخلافه، لأن العلم يتعلق بالشئ على ما هو به، ولا يجعله كذلك، لأنا نعلم جمادا وحيوانا ومؤمنا وكافرا، فلا يجوز انقلاب ما علمناه وإن كنا لم نوجب شيئا منه.

مسألة: (في الرزق)

الرزق: ما صح الانتفاع به ولا يكن لأحد المنع منه، بدليل إطلاق هذه العبارة فيمن تكاملت له هذه الشروط.

والملك: ما قدر الحق على التصرف فيه ولم يجز منعه، بدليل صحة هذا الإطلاق على من تكاملت له هذه الصفات كمالك الدار والدراهم.

والحرام لا يكون رزقا لمن قبضه، لأن الله تعالى أباح الانتفاع بالرزق بقوله تعالى: (كلوا واشربوا من زرق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (2)، ومدح على الإنفاق منه، فقال سبحانه: (ومما رزقناهم ينفقون) (3)، وكونه حراما

____________

(1) في النسخة: " للرزق ".

(2) البقرة 2: 60.

(3) البقرة 2: 3.

الصفحة 140
ينافي ذلك.

ولأنه لا يخلو أن تكون سمة الرزق مختصة بما ذكرنا، أو بما يصح الانتفاع به فقط، وكونها مختصة بما قلناه يمنع من وصف الحرام بالرزق، واختصاصها بما يصح الانتفاع به يقتضي كون أموال الغير وأملاكهم وأزواجهم والخمر ولحم الخنزير أرزاقا، لصحة الانتفاع بالجميع، وذلك فاسد، فثبت اختصاص سمته بما قلناه.

والرازق هو: من فعل الرزق أو سببه أو مكن منه على جهة التفضل والقصد، بدليل وصف من تكاملت هذه الشروط له رازقا، ولا يوصف البائع ولا قاضي الدين ولا المورث بأنه رازق.

وإذا وجب هذا لجميع ما ينتفع به الحي منا من غير منع، يوصف (1) بأنه تعالى الرازق له، لأنه الموجد للأجسام وما فيها من أجناس الملذوذات، والممكن من تناولها، والمرغب في إيصالها، والمبيح لها، وإن وصل الحي إلى شئ منها بفعله أو من جهة غيره، لاختصاص ذلك بما هو الخالق والمبيح والمقدر على تناوله وإيصاله والمرغب فيه وخالق الشهوة لمتناوله.

ويجوز وصف من أوصل إلى غيره تفضلا بأنه رازق له مجازا، وقد وصفهم بذلك سبحانه فقال: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم) (2)، ولأنه قد تفضل بما يصح الانتفاع به، وقد كان له أن لا يفعل، ولهذا يستحق به الشكر.

مسألة: (في الأسعار)

الكلام في الأسعار عبارة، ومعنى:

____________

(1) يوصف جواب وإذا.

(2) سورة النساء 4: 8.

الصفحة 141
فالعبارة: ما السعر؟

وهو: تقدير البدل فيما تباع به الأشياء، بدليل صحة هذه العبارة على تقدير البدل دون البدل والمبدل منه، لأن قولنا: الحنطة قفيزان بدرهم، لا يكون القفيزان ولا الدرهم سعرا على حال.

وتنقسم العبارة إلى رخص، وغلاء:

فالرخص: هو انحطاط السعر عما جرت العادة به في وقت ومكان مخصوصين، بدليل صحة إطلاق الرخص مع تكامل هذه الأوصاف.

واعتبرنا الوقت والمكان، لأن اختلاف المكان أو الوقت يمنع من إطلاق الرخص، ولذلك لا يوصف الثلج وقت سقوطه من السماء بالرخص ولا في محله، وإنما يوصف بذلك فيما نأى عن محله من الجبال في زمان الحر إذا زاد على المعهود.

والغلاء هو: زيادة السعر على ما جرت به العادة في وقت ومكان مخصوصين، بدليل ما قدمناه.

والمعنى: إلى من يضاف الرخص والغلاء؟

وذلك مختص بمن فعل سببهما؟

فإن كان الرخص لتكثير أجناس المبيعات، أو إماتة الخلق، أو تقليل شهواتهم للشئ الرخيص، فهو مضاف إليه سبحانه، لوقوف ذلك على فعله.

وإن كان الرخص مسببا عن العباد يجبر الناس على بيع الأمتعة، أو يدل بما يملكونه من كثيرها بالثمن اليسير، فالرخص مضاف إليهم، لوقوعه عند أفعالهم.

والغلاء إن كان حادثا للجدب والقحط، أو تكثير الخلق، أو تقوية شهواتهم، فمضاف إليه سبحانه.

وإن كان لاحتكار الظلمة، أو إخافة السبل ومنع المسافرة، فمضاف إلى من فعل ذلك دونه تعالى.


الصفحة 142
ولذلك (1) يجب شكره سبحانه على الوجهين الأولين، ويذم أو يمدح من سبب الغلاء أو الرخص من العباد.

____________

(1) في النسخة " وكذلك ".

الصفحة 143


(مسائل النبوة)





الصفحة 144

مسألة: (في كون الرئاسة واجبة في حكمته تعالى)

الرئاسة واجبة في حكمته تعالى على كل مكلف يجوز منه إيثار القبيح، لكونها لطفا في فعل الواجب والتقريب إليه وترك القبيح أو التبعيد منه، بدليل عموم العلم للعقلاء بكون من هذه حاله عند وجود الرئيس المنبسط اليد الشديد التدبير القوي الرهبة إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وكونهم عند فقده أو ضعفه بخلاف ذلك.

وقد ثبت وجوب ماله هذه الصفة من الألطاف في حكمته تعالى، فوجب لذلك نصب الرؤساء في كل زمان اشتمل على مكلفين غير معصومين.

والمخالف لنا في هذه لا يعدو خلافه أن يكون في الفرق بين وجود الرؤساء وعدمهم في باب الصلاح، أو في صلاح الخلق برئيس، أو في وقوع القبح (1) عند وجودهم كفقدهم.

فإن خالف في الأول فيجب مناظرته، لظهور هينه للعقلاء وعلمهم بكذبه على نفسه فيما يعلم ضرورة خلافه.

وإن خالف في الثاني لم يضر، لأنا لا نقل إن صلاح الخلق نفع كل رئيس، وإنما دللنا على كون الرئاسة لطفا في الجملة، فصلاح العقلاء على رئيس دون رئيس لا يقدح، على أنا سنبين أن الرئاسة المطلوب بها لا فساد فيها، لعصمة من ثبتت له وتوفيقه.

وإن خالف على الوجه الثالث لم يقدح أيضا، لأن الرئاسة لطف وليست ملجئة، فلا يخرجها عن ذلك وقوع القبيح عندها كسائر الألطاف، ولأن الواقع

____________

(1) في النسخة: " " أو في وقوع أن يكون في الفرق بين وجود الرؤساء وعدمهم في باب الصلاح القبيح ".

الصفحة 145
من القبيح عندها يسير من كثير، ولولاها لوقع أضعافه بقضية العادة.

ولا فرق في وجوب الاستصلاح بما يرفع القبح جملة، أو بعضه، أو يبعد منه، أو يؤثر وقوع كل واجب واحد، أو يقرب إليه.

ولا يقدح في ذلك إيثار بعض العقلاء لرئيس دون رئيس، واعتقاد الصلاح لفقد الرؤساء.

لأنا لا نستدل بفعلهم، وإنما استدللنا بقضية العادة الجارية بعموم الصلاح بالرؤساء والفساد بفقدهم، فحكمنا بوجوب ما له هذه الصفة في حكمته سبحانه وقبح الاخلال به مع ثبوت التكليف، وليس في الدنيا عاقل عرف العادات ينازع فيما قضينا به من الفرق بين وجود الرؤساء المهيبين وعدمهم، بل حال ضعفهم.

وفعل العقلاء أو بعضهم بخلاف ما يعلمونه لا يقدح في علمهم، كما لا يقدح إيثارهم للقبائح وإخلالهم بالواجبات الضرورية في وجوب هذه وقبح تلك.

على أن دعواهم اعتقاد بعض العقلاء حصول الصلاح للخلق بعدم الرؤساء، كاعتقاد بعضهم عدم (1) الصلاح بوجودهم.

كذب على أنفسهم يشهد الوجود به، لعلمنا بأنه ليس في الدنيا عاقل سليم الرأي من الهوى يؤثر عدم الرؤساء جملة ويعتقد عموم الصلاح به والفساد بوجودهم، فالمعلوم من ذلك هو اعتقاد بعض العقلاء حصول الفساد برئاسة ما يختصه ضررها بحسد أو طمع أو خوف ضرر إلى غير ذلك، دون نفي الرئاسة جملة، كأهل الذعارة والمفسدين في الأرض الذين لا يتم لهم بلوغ ما يؤثرونه من أخذ الأموال والفساد في الأرض إلا بفقد الرؤساء المرهوبين، فلذلك آثروا فقدهم واعتقدوا حصول الصلاح لهم بعدمهم، ولا شبهة في قبح هذا الاعتقاد

____________

(1) في النسخة: " عموم ".