من حديثه ; فمحاه(1).
|
وفي نصّ آخر: إنّ السائل المريد للكتابة هو مروان بن الحكم(2) لا معاوية بن أبي سفيان.
ومن الثابت جزماً أنّ معاوية ومروان كانا من أشدّ المانعين للتدوين، فكيف أرادا ـ أو أراد أحدهما ـ تدوين هذا الحديث؟!!
ان هذا تضارب صريح تُخفي وراءه أهداف؟!.
مع أنّ هذه الرواية تدلّك على أنّ الحكّام كانوا يريدون إباحة التدوين لأنفسهم دون غيرهم، أي يريدون تثبيت ما يرتضونه وترك ما لا يرتضونه، لِما فيه من مصلحة لهم.
على أنّ زيداً ادّعى نهي الرسول عن التدوين دون أن ينقل النصّ الناهي، إذ لعلّ زيداً استنتج ذلك خطأً من واقعة ما، أو حديث ما، ونحن غير ملزمين بفهم زيد، وإنّما يلزمنا قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو فعله أو تقريره، وهو غير مذكور في المقام.
____________
1- تقييد العلم: 35، جامع بيان العلم 1: 63.
2- جامع بيان العلم 1: 65، الطبقات الكبرى 2: 117، تاريخ دمشق 5: 449، هامش تقييد العلم: 35.
مناقشة روايات أبي هريرة الدوسي:
النصّ الأوّل:
فأمّا المدّعيات التي جاءت فيه عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله:
"أكتابٌ مع كتاب الله؟!".
وقوله: "فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثمّ أحرقناه بالنار.
فقلنا: أيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)! أنتحدّث عنك؟
قال: نعم، تحدّثوا عنّي ولا حرج...".
إلى أن يقول: "فقلنا: أنتحدّث عن بني إسرائيل، قال: تحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج...".
فلنا عليها ملاحظات:
الأولى:
إنّ جملة: "أكتابٌ مع كتاب الله؟!" تومى إلى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يعتقد أنّ الناس يريدون أن يجعلوا كلامه (صلى الله عليه وآله) عديل كتاب الله وقسيمه، وأنّه (صلى الله عليه وآله) نهاهم عن ذلك، لاعتقاده (صلى الله عليه وآله) بعدم صحّة هذا الفعل منهم ; لأنّ جمع كلامه (صلى الله عليه وآله) في مصحف سيؤثّر على كلام الله.
وهذا الكلام باطل صدوره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعدّة جهات:
أ ـ
نحن نعلم أنّ فهم القرآن "الذِكر" متوقّف على السُنّة، فلا
ب ـ
إنّ جملة "أكتابٌ مع كتاب الله؟!" توحي بأنّ كلام الله يمكن خلطه مع كلام الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهذا يعارض قوله تعالى:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ}(2).
مضافاً إلى ذلك أنّ الأوّل ـ القرآن ـ قد صدر على نحو الإعجاز البلاغي، وقد تكرّر دعوات القرآن المتحدّية للكفّار والمشركين بالبلاغة في القرآن بأساليب مختلفة، منها قوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا }(3).
وقوله: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَـدِقِينَ }(4).
وقوله: {فَأْتُواْ بِسُورَة مِّنْ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَـدِقِينَ }(5).
____________
1- سورة النحل 16: 44.
2- سورة الحجر 15: 9.
3- سورة الاسراء 17: 88.
4- سورة يونس 10: 38.
5- سورة البقرة 2: 23.
ج ـ
إنّ الكلام السابق يستلزم اتّهام اصحابة بفقدانهم القدرة على التمييز بين كلام الله ـ الذين حفظوه وتناقلوه ـ وبين كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذي صدر في مقام التفسير والشرح.
نعم، إنّ هذه المقولة قالها الخليفة الثاني لمن جمعهم عنده يستشيرهم في أمر التدوين بقوله: "وإني ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنّي والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً"(1).
فلا يستبعد بعد هذا أن يكون أنصار الخليفة وراء نسبة هذا القول إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، خصوصاً مع ملاحظة كون الراوي هنا هو أبو هريرة الدوسي الذي اتٌّهم صريحاً من الصحابة بالكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أحاديثه(2).
الثانية:
وهو الكلام في الجملة الثانية من رواية أبي هريرة، التي تدّعي تشريع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحرق الكتب ; لقول الراوي: "فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثمّ أحرقناه بالنار".
____________
1- تقييد العلم: 49، حجّيّة السُنّة: 395.
2- من عائشة وعليّ، وقد نهاه عمر من التحديث و...
نعم، إنّ الحرق هو الآخر من فعل الشيخين، إذ ثبت عن الخليفة الأوّل حرقه لأحاديثه الخمسمائة(2)، وثبت عن عمر حرقٌ مثله(3).
فلا غرابة أن نقول: الحرق المدّعى من وضع أتباع الخلفاء، إذ ترى الشيخين لم ينسبوا فعلهما (الحرق) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وهذا يؤكّد حقيقة أنّ الإحراق هو من فعل الشيخين لا من سيرة الرسول، فلو كان الحرق شرعياً لاستندوا إليه (صلى الله عليه وآله) واحتجّوا لفعلهم بفعله، وحينما لم تكن لهم تلك الحجة الشرعيّة اضطرّ اللاحقون لأن يضعوا هذه الفقرة على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتصحيح فعل السابقين.
الثالثة:
قوله (صلى الله عليه وآله): "تحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" فإنّ لنا على هذه المقولة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مؤاخذتين رئيسيّتين:
أولاهما: أنّ الثابت عند المسلمين أنّ ترك القرآن |
____________
1- انظر: الكامل في الضعفاء ـ لابن عديّ ـ 1: 177 والخبر عن عائشة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله).
2- تذكرة الحفّاظ 1: 5، حجّيّة السُنّة: 394، الاعتصام بحبل الله المتين 1: 30.
3- تقييد العلم: 52، وقريب منه في الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ.
والانصراف إلى ما سواه منهيّ عنه ومحرّم شرعاً، لكنّ الأدّعاء بأنّ الاشتغال بغير القرآن يؤدّي إلى تركه ثمّ تطبيق ذلك على السُنّة النبوية فيه من المسامحة ما لا خفاء فيه، لأنّ الثابت أنّ ما يؤدّي إلى ترك القرآن هو ما يكون منافياً له كالأخذ بالتوراة والإنجيل وما فيهما من العقائد والآراء، وأمّا العناية بمفسِّر القرآن ومبينه فلا مجال لعدّهِ موجباً لترك القرآن وهجرانه. وثانيتهما: أنّه كيف ساغ السماح بالتحديث عن بني إسرائيل بلا حرج، مع وقوفنا على النواهي النبويّة المتكرّرة عن الأخذ بأقوال أهل الكتاب؟!
|
فنحن لو تأمّلنا تحذير الله ورسوله وتخوّفه على الدين من دور بني إسرائيل في الشريعة، وتأثر الناس بهم في صدر الإسلام، حتّى إنهم كانوا يسألون اليهود في أحّقيّة اتباع محمّد وعدمه، فلو جمعنا كلّ هذه الحقائق لعرفنا حقائق أُخرى مهمّة في التشريع الإسلامي.
ولا أدري كيف يمكن للمطالع أن يصدّق سماح الرسول بالتحديث عن بني إسرائيل مع حظره المدّعى عن حديثه، وهو الصادق المصدّق؟!
بل كيف يجيز حرق حديثه ونراه لا يسمح بحرق التوراة والإنجيل؟!
الرابعة:
إنّ مرويّات المنع عن أبي هريرة تعارض ما رواه ـ هو ـ عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وأنّه كان أكثر حديثاً منه لأنّه كان يكتب ما يسمع(1).
فلو صحّ رأيه ونقله الأوّل(2) لصارت مرويّات عبدالله بن عمرو بن العاص كلّها ساقطه عن الحجّيّة وباطلة ; لعدم عمله بأمر الرسول بعدم كتابتها،بل يلزم علينا وعلى أبي هريرة حرق مدوّنة عبدالله بن عمرو وغيره لكونها منهيٌّ عنها، وبعد هذا فلا معنى لوجود مدوّنة لعبد الله بن عمرو وغيره.
وإنْ صحّ رأيه ونقله الثاني، فالخبر الأوّل سيكون باطلاً لمشروعيّة الكتابة عند المسلمين وسيرتهم العمليّة فيها ; لكتابة عبدالله بن عمرو وغيره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وممّا يؤيّد صحّة الخبر الثاني ما جاء عن ابن نهيك وإشهاد أبي هريرة على صحّة ما نقله من كتابه، أو ما جاء عن همّام
____________
1- تقييد العلم: 82، جامع بيان العلم 1: 70، مسند أحمد 2: 248 و 403.
2- أي المبحوث عنه هنا، وهو نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الكتابة وسماحه بالتحديث.
النصّ الثاني:
عن أبي هريرة، فلنا عليه تعليقتان:
الاُولى:
إنّ قوله (صلى الله عليه وآله): "إنما أنا بشر" يدلّ على أنّه (صلى الله عليه وآله) كان يعتقد بأنّ ليس لكلامه (صلى الله عليه وآله) الحجّيّة الشرعيّة، بل هو بشر عاديّ يقول في الغضب ما لا يقوله في الرضا، وهذا المدّعى نفس مدّعى قريش ومقولتها لعبد الله بعمرو بن العاص: "تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بشر يتكلّم في الرضا والغضب؟!".
لكنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان لا يرتضي مقولة قريش ويقول لعبد الله بن عمرو: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ ـ وأشار بيده إلى فيه ـ "(1).
وهذا هو معنىً آخر لقوله تعالى: { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى *
____________
1- تقييد العلم: 80، جامع بيان العلم 1: 71، مسند أحمد 2: 162.
وهذا كلام باطل لا يقبله أهل التحقيق ولا العقل السليم.
الثانية:
إنّ الدعوة للتحديث وترك التدوين هي من أُصول سياسة الشيخين كما ستعرف لاحقاً. فيستنتج من كلّ هذا أنّ أنصار الخليفة كانوا وراء هذا الخبر، كما قلنا سابقاً.
هذا، مع أنّنا أشـرنا ـ في ما سـلف ـ إلى أنّ هذا الحـديث لو صـحّ صـدوره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ وهـو غير صحـيح الصـدور ـ فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر فيه بإخراج الأحاديـث المدوّنـة مع كـتاب الله في كـتاب واحد، لا نفـي جواز ومشـروعـيّة تدو ينه، بل فـيه إشـارة إلى أرجحـيّة تدو يـن الأحاديـث النـبو يّـة.
فأمّا ما جاء عن كراهة بعض الصحابة للتدوين فليس هو حجّة علينا، ولا على غيرنا، بعدما عرفنا عدم نهي رسول الله
____________
1- النجم 53: 3 - 4.
"إنّ كلّ مَن نُقل عنه كراهيّة العلم، فقد نُقل عنه عكس ذلك أيضاً، ما عدا شخص أو شخصين، وقد ثبتت كتابتهم أو الكتابة عنهم فقط".
|
وأمّا أدلّة المجيزين
فهي كثيرة، يمكن حصرها في قسمين:
1 ـ السُنّة القوليّة.
2 ـ السُنّة الفعليّة.
فأمّا السُنّة القوليّة:
فهي كثيرة جدّاً، إذ صدرت عنه (صلى الله عليه وآله) روايات متعدّدة في محبوبيّة العلم والدعوة إلى التفقّة ولزوم ايصال ما عرفوه إلى الآخرين ; ومن تلك العمومات، الآخبار على جواز الكتابة والتحديث، وما يشير إلى أدوات الكتابة من قلم وسجلّ وصحف(1) و...
وقد أحصى الشيخ محمّد عزة دروز كلمات الكتابة، وأدواتها كالصحف والسجلّ والمداد والأقلام، وما إليها ممّا يتعلّق بالخطّ، في القرآن، فوجدها أكثر من ثلاثمائة كلمة، كما أحصى كلمات القراءة ومشتقّاتها فوجدها نحو تسعين مرّة
____________
1- انظر: تدوين السُنّة الشريفة: 97، وما بعده مثلاً.
فالبعثة النبويّة بدأت بـ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ }(2)وخُتمت بـ: "ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً".
وجاء عنه (صلى الله عليه وآله) قوله: قيدوا العلم بالكتاب(3).
وفي آخر: بالكتابة(4).
أو قوله: أكتبوا هذا العلم(5).
أو قوله: من كتب عنّي علماً...(6)
وغيرها الكثير من النصوص الداعية إلى الكتابة.
ومنها: قول رافع بن خديج: مرّ علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوماً ونحن نتحدّث، فقال: ما تحدّثون؟
فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله.
قال: تحدّثوا، وليتبوّأ مقعده ـ من كذب علَيّ ـ من جهنّم.
ومضى لحاجته، وسكت القوم، فقال (صلى الله عليه وآله): ما شأنهم لا يتحدّثون؟!
____________
1- تاريخ العرب 1: 103.
2- سورة العلق 96: 1.
3- تقييد العلم: 69، جامع بيان العلم 1: 73.
4- تاريخ اصفهان 2:228، كشف الظنون 1: 26.
5- تاريخ اصفهان 2: 228، كشف الظنون 1: 26.
6- كنز العمّال 10: 262 ح 29389.
قال: إني لم أُرد ذلك، إنّما أردت من تعمّد ذلك. فتحدّثنا.
قال: قلت: يا رسول الله! إنّا نسمع منك أشياء أفنكتبها؟
قال: اكتبوا، ولا حرج(1).
وعن أبي هريرة، قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيسمع من النبيّ (صلى الله عليه وآله) الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)! إني لأسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه؟.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): استعن بيمينك ; وأشار بيده إلى الخطّ(2).
وفي آخر: استعن على حفظك بيمينك ; يعني الكتاب(3).
وعن أبي هريرة، قال: لمّا فتح الله تعالى على رسوله (صلى الله عليه وآله) مكّة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
إن الله تبارك وتعالى حبس عن مكّة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنّها لم تحلّ لأحد كان قبلي، وإنما أحلّت لي الساعة من النهار، وإنها لن تحلّ لأحد بعدي فلا يُنفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحلّ ساقطتها إلاّ لمنشد، ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إمّا أن يفدي،
____________
1- تقييد العلم: 73، الكامل 1: 36.
2- تقييد العلم: 66 ـ 68، الكامل 1: 36.
3- تقييد العلم: 65، مجمع الزوائد 1: 152.
فقام أبو شاة ـ وكان رجلاً من اليمن ـ فقال: اكتُبوا لي يا رسول الله.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اكتبوا لأبي شاة(1).
وعن ابن عمر، قال: كان عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) أُناس من أصحابه وأنا معهم وأنا أصغر منهم.
فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): من كذب علَيّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار.
فلمّا خرج القوم، قلت لهم: كيف تحدّثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد سمعتم ما قال، وأنتم تتهكّمون في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!
قال: فضحكوا، فقالوا: يا بن أخينا، إنّ كلّ ما سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو عندنا في كتاب(2).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأُريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بشر يتكلّم في الرضا والغضب؟!
قال: فأمسكتُ، فذكرتُ ذلك لرسول الله، فقال: أُكتب،
____________
1- تقييد العلم: 86.
2- الكامل في الضعفاء 1: 36، وتقييد العلم: 98 عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وقريب منه في المحدّث الفاصل: 378 ح 361.
السُنّة الفعليّة:
فقد ثبت عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه كان يكاتب الرؤساء والملوك، ويعقد المواثيق مع القبائل العربيّة، فممّا كتبه هو:
كتابين إلى النجاشي ملك الحبشة، وأرسلهما إليه بيد عمرو بن أُميّة الضمري.
وكتاب إلى قيصر ملك الروم، بيد دحية بن خليفة الكلبي.
وكتاب إلى كسرى ملك الفرس، بيد عبدالله بن حذافة السهمي.
وأرسل حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى المقوقس، صاحب الإسكندر ية عظيم القبط.
وكتاب إلى جبلة بن الأيهم ملك غسّان.
وكتب للعلاء فرائض الإبل والغنم والثمار والأموال.
وإلى أهل اليمن كتاباً يخبرهم فيه بشرائع الإسلام، وفرائض الصدقة في المواشي والأموال، ويوصيهم برسله خيراً.
وكتب إلى أشخاص بالخصوص، مثل: الحارث بن أبي شمر الغسّاني، وإلى هوذة بن عليّ الحنفي، وإلى ذي الكلاع بن
____________
1- تقييد العلم: 80، جامع بيان العلم 1: 71، مسند أحمد 2: 162.
وكتب إلى بني معاوية من كندة، وبني عمرو من حمير يدعوهم إلى الإسلام، ولبني مُرّة، ولبني الضباب، وبني قنان، ولبني زياد، كلّهم من بني الحارث، ولبني جُوين وبني معاوية، وبني معن من الطائيّين، ولبني زرعة، وبني الربعة، ولبني جعيل، ومن أسلم من خزاعة.
وكتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاُسقف بني الحارث، وأساقفة نجران، ولمعد بن كرب بن أبرهة، ولمن أسلم من حَدَس من لخم وغيرها(1).
وكلّ هذه النصوص تؤكّد مشروعيّة الكتابة على عهد الرسول.
ومن تلك الأخبار: إجازة الرسول (صلى الله عليه وآله) عبدالله بن عمرو بن العاص في كتابة حديثه وقوله له: "أُكتب ولا حرج".
وفي آخر، قال: قلت: يا رسول الله! إنّا نسمع منك أشياء، أفتأذن لنا أن نكتبها؟
قال: نعم، شبّكوها بالكتب.
ومنها: إجازة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لغيره من الصحابة في كتابة
____________
1- للمزيد راجع الطبقات الكبرى 1: 258 ـ 290.
1 ـ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
أ ـ عن أُمّ سلمة قالت: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأديم، وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عنده، فلم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يملي وعليّ (عليه السلام) يكتب حتّى ملآ بطن الأديم وظهره وأكارعه(1).
ب ـ وعن عائشة، قالت: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّاً (صلى الله عليه وآله) بأديم ودواة، فأملى عليه وكتب حتّى ملأ الأديم(2).
ج ـ وفي الإمامة والتبصرة من الحيرة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعليّ (عليه السلام): أُكتب ما أُملي عليك.
فقال: يا نبيّ الله! وتخاف علَيّ النسيان؟!
____________
1- أدب الإملاء والاستملاء ـ للسمعاني ـ: 12 ـ 13، المحدّث الفاصل: 601 و 868، وفي الإمامة والتبصرة من الحيرة ـ لابن بابوية القمّي ـ: 174، بصائر الدرجات: 163 و 168 بنحو آخر.
2- محاسن الاصطلاح ـ للبلقيني ـ: 300.
قال: قلت: ومن شركائي، يا نبيّ الله؟
قال: الأئمّة من وُلدك...(1)
ولنا هنا أن نتساءل: هل إن المنسوب إلى الإمام عليّ (عليه السلام): صحيفة عليّ (عليه السلام)، كتاب عليّ (عليه السلام)، الجفر، الجامعة، وغيرها، شيء واحد؟ أم إنّ كلّ واحد منها مدوّنة مستقلّة؟
ففي أُصول الحديث ـ لعجاج ـ: إنّ الصحيفة غير الكتاب، ولم يستبعد بعضهم أن يكونا أمراً واحداً(2).
فالعبارات التي أُطلقت على كتاب عليّ هي: "فخذ بعير".. "كتاب غليظ".. "مدروجاً عظيماً".. "طوله سبعون ذراعاً" وغيرها من العبارات.
وأمّا الصحيفة فلم تكن كذلك، فهي صغيرة، وكانت في ذؤابة السيف.
وقد اهتمّ أهل البيت بكتاب عليّ (عليه السلام) وجميع المدوّنات كثيراً، وأشاروا إلى الأحاديث الموجودة فيها، ومن ذلك قول الزهراء (عليها السلام) لجاريتها: "ويحك اطلبيها، فإنّها تعدل عندي
____________
1- الإمامة والتبصرة من الحيرة: 183.
2- انظر: تدوين السُنّة الشريفة: 72.
وقد جمع الدكتور رفعت فوزي عبدالمطّلب أحاديث الصحيفة في كتاب اسماه "صحيفة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) "(4)، وكذا غيره.
ويمكن للباحث أن يقوم بدراسة بين المسائل التي انتخبناها في كتابنا منع التدوين عن كتاب عليّ (عليه السلام) (5) وما نقل عن صحيفة الإمام عليّ (عليه السلام) في الصحاح والسنن للوقوف على فقه الإمام عليّ (عليه السلام) في التراث الإسلامي.
2 ـ عبدالله بن عمرو بن العاص:
هو أحد العبادلة الأربعة الذين يعتمد عليهم في الحديث عند
____________
1- دلائل الإمامة: 1، عوالم العلوم 11: 188 و 620 و 621 وفي هامشه عن مسند الزهراء، وقريب منه في المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 22: 413، سفينة البحار 1: 299، مستدرك الوسائل 12: 81.
2- بصائر الدرجات: 299، الكافي 1: 241.
3- رجال النجاشي: 255.
4- طبع هذا الكتاب عام 1406 هـ في حلب / مكتبة دار السلام، وهو كتاب صغير ولنا دراسة موسعة بهذا الصدد نأمل له الاتمام والنجاح.
5- انظر: منع تدوين الحديث ـ لنا ـ: 461 ـ 464.
"ما يرغّبني في الحياة إلاّ خصلتان: الصادقة والوهط. فأمّا الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأمّا الوهط فأرض تصدّق بها عمرو بن العاص كنت أقوم عليها"(1).
|
وشهد أبو هريرة على أنّ عبدالله أكثر حديثاً منه بقوله: "ما من أصحاب النبيّ أحد أكثر حديثا منّي إلاّ ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يكتب ولا أكتب"(2).
وقيل: إن راوي صحيفته هو حفيده عمرو بن شعيب.
وجاء في الأمالي الخميسيّة عن عبدالرحمن الختلي ـ أبي عبدالله ـ قال: كنت أجمع حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، فلمّا ظننت أني قد فرغت منه، جلست ليلة في بيتي والسراج بين يدي، وأُمّي في صُفّة حيال البيت الذى أنا فيه، وابتدأت أُنظّم الرقاع وأصفّها، فغلبتني عيني، فرأيت كأنّ رجلاً أسود، قد دخل إليّ بمهنّد ذي نار، فقال: تجمع حديث هذا العدوّ لله؟! أحرقه وإلاّ أحرقتك! وأومأ بيده بالنار، فصحت، وانتبهت فعَدَتْ أُمّي، فقالت: ما لك؟! ما لك؟! فقلت: مناماً
____________
1- انظر: من تدوين الحديث: 461 ـ 464.
2- تقييد العلم: 82، جامع بيان العلم 1: 70، مسند أحمد 2: 248.