الصفحة 113
فقلت: يا بن عبّاس! وما يوم الخميس؟!

قال: اشتدّ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه، فقال: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي" فتنازعوا، وما ينبغي عند نبيٍّ تنازع، وقالوا: ما شأنه؟! أهجر؟! استفهموه!

قال: "دعوني! فالذي أنا فيه خير، أُوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم" قال: وسكت عن الثالثة، أو قالها فأُنسيتها(1).

هذه النصوص توقفنا على واقعة مهمّة مفادها انقسام المسلمين بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى قسمين:

أحدهما: يدعو إلى الآخذ بكلام الرسول، وهم أهل بيته والمقرّبون من أصحابه.

والثاني: لا يرتضي التدوين، تأييداً لمقولة عمر بن الخطّاب: "غلبه الوجع" أو: "إنّ الرجل ليهجر"..

والباحث يعلم بأنّ هذه المقولة ما هي إلاّ تشكيك في سلامة عقل الرسول، والعياذ بالله.

نعم، إنّ أصحاب نهج الاجتهاد والرأي أرادوا التخلّص من هذه المقولة فسعوا لتأويلها باعذار اخترعوها، كقولهم: إنّ كلام الرسول جاء للامتحان والاختبار ولم يلحظ فيه التشريع

____________

1- صحيح مسلم 3: 1257.


الصفحة 114
والعزيمة حتّى يلزم فعله، بل يجوز للمكلّف تركه، لكونه رخصة جائزة الترك، وإنّ الله هدى عمر بن الخطّاب لمعرفة كون هذا الأمر رخصة فمنعهم من أخطارها، إشفاقاً من أن يأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) بشيء ولا يطاع في أمره، أو إشفاقاً منه على الاُمّة إذ خشي أن يكتب النبيّ (صلى الله عليه وآله) أُموراً يعجز عنها الناس فيستحقّون العقوبة بتركها، لكونها منصوصة لا سبيل للاجتهاد فيها.

لكن هذه المقولات وما يضارعها باطلة لعدّة جهات:

أولها:

إن عدّ فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ طلب إحضار الدواة ـ مجرّد اختبار لا غيره يلزم منه تجويز رسول الله (صلى الله عليه وآله) للكذب الواضح، الذي يجب تنزيه الأنبياء عنه، ولا سيّما في موضع كان ترك إحضار الدواة أوْلى من إحضارها حسب هذا التقوّل المزعوم...

ثانياً:

إنّ الوقت، لم يكن وقت اختبار وامتحان، ولو كان كذلك لحصل في طول المدّة التي صاحبوا النبيّ (صلى الله عليه وآله) فيها، بل كان الوقت وقت إنذار و إعذار و إبلاغ و إكمال.

ويمكن أن تفهم هذه الحقيقة من قوله (صلى الله عليه وآله): "لا تضلّوا بعده"، فهذه الجملة تؤكّد على أنّ الطلب لم يكن طلب اختبار ـ كما يقولون ـ لأنّه (صلى الله عليه وآله) أعقب طلبه بجملة "لا تضلوا"، وهي تفيد العزيمة لا الرخصة، وإنّ السعي في

الصفحة 115
تحقّق الامن من الضلال هو من شرائط الرسالة ومهام الرسول، وهو ممّا يجب تحقيقه مع المقدرة عليه.

أضف إلى ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): "قوموا عنّي"، فهو الآخر يشير إلى أنّ الأمر للإيجاب لا للمشورة.

فلو كان المانعون ـ من إتيان الكتاب للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ مصيبين في استنتاجهم لاستحسن (صلى الله عليه وآله) ممانعتهم، وسُرّ من موقفهم هذا ; وذلك لإصابتهم الحقّ، لكنّ الحال أننا نراه قد امتعض واستاء من فعلهم وقال غاضباً: "قوموا عنّي"، معرضاً عن آرائهم وتقوّلاتهم ; لأنّه (صلى الله عليه وآله) علم أن هذا القول سيكون بداية استحكام تيّار الرأي أمام السُنّة المطهّرة.

والأقوى من هذا كلّه أن جملة عمر بن الخطّاب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "غلبه الوجع"، أو: "إن الرجل ليهجر" تؤكّد على أن عمر عرف من الأمر العزيمة لا الرخصة ; لأنّا نراه قد جدّ في عدم تحقّق الكتابة، فلو كانت رخصة لَما ألزم عمر نفسه للقول بما قاله.

وبهذا فقد عرفنا أن هؤلاء قد ابتعدوا عن نهجه، وعصوه في أمره، وحكّموا تيّار الرأي أمام السُنّة "النص" وهو حيّ!

ثالثاً:

إن الواقعة واضحة وظاهرة في اختلاف الضوابط بين الاتّجاهين:

فالّذين نهوا عن الكتابة كانت حجّتهم مرض النبيّ وعدم

الصفحة 116
قدرته (صلى الله عليه وآله) على إقرار القرار الصائب، لقولهم عنه: "غلبه الوجع" و: "إن الرجل ليهجر".

لكنّ الآخرين كانوا لا يقبلون هذا التخرّص في حقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن الطريف أن نرى أتباع نهج الاجتهاد والرأي والداعين إلى ترك الأخذ بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه ـ لقول عمر عنه: غلبه الوجع ـ نراهم يأخذون بما أضافه عثمان بن عفّان في وصيّة أبي بكر قُبَيل موته، مع علمهم بأنّ عثمان قد تصرّف في وصيّة أبي بكر وهو مغمىً عليه!!

فلمَ لم يعدّ إدخال اسم عمر بن الخطّاب في وصيّة أبي بكر هُجراً، مع علمهم بأنّه مغمىً عليه ولا يدرك الاُمور؟!

وكيف يطلق "الهجر" و "غلبة الوجع" على رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! ومَن له كمال الوعي في انتخاب المواقف، وهو (صلى الله عليه وآله) يقول لهم: "ائتوني"، ويقول: "قوموا عنّي"، وغيره؟! ولا يمكن إطلاق الهجر على من تُتّخذ له المواقف وعلى لسانه وهو مغمىً عليه لا يدري ماذا يجري من حوله؟!

نعم، إنهم أخذوا بقول عمر بن الخطّاب في تعيين أعضاء الشورى الستّة وهو مريض، ولا يأخذون بكلام سيّد الاُمّة والمرسلين وهو يريد إبعادهم عن الضلالة، والذي قال عنه الوحي:


الصفحة 117
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى }(1)!!

رابعاً:

إنّ اتهام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالهجر وغلبة الوجع، كان يستبطن دعوة النبيّ (صلى الله عليه وآله) للمهادنة في أوامر الله تعالى ونواهيه، ومنها دعوته لعدم كتبه للوصيّة التي أراد كتابتها، فكأنّهم دعوه إلى ترك الاُمور سُدىً، بترك تعيين الخليفة، وترك التدوين، كما دعوه من قبل لأن يمتثل لكثير من طلباتهم التشريعيّة، كصوم الدهر، وعدم الإحلال إلاّ معه، و...

وفي مقابل ذلك كانوا يرون أن لابُدّ من فتح باب الرأي والاجتهاد وأن تختار قريش لأنفسها كما صرّح بذلك عمر بن الخطّاب من بعد!

فكان جواب النبيّ (صلى الله عليه وآله) قاطعاً وحاسماً، ذلك بقوله: "دعوني فالذي أنا فيه خيرٌ ممّا تدعوني إليه".

فقد دلل (صلى الله عليه وآله) على أنّه كان بكامل قواه العقليّة، وأنّه كان يأمر عن الله وينهى عنه (صلى الله عليه وآله)، وأنّه لا يبدّل حكماً من تلقاء نفسه، فهو (صلى الله عليه وآله) في وضع خير من الوضع الذي ير يدونه له و يدعونه إليه من الإفتاء بالرأي والمساومة في أوامر الله ونواهيه.

فكان (صلى الله عليه وآله) حتّى آخر حياته متعبّداً بأوامر الله تعالى، غير مُفت في الأحكام إلاّ بما أراه الله تعالى.

____________

1- النجم 53:3 -4.


الصفحة 118

بقي شيء يجب الإشارة إليه

وهو: لِمَ ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتابة كتابه بعد رزية يوم الخميس (24 صفر) إلى يوم وفاته يوم الاثنين (28 صفر) وقد كانت هذه الأيّام الأربعة الباقية من عمره الشريف كافية لأن يصدع بما قاله وهو (صلى الله عليه وآله) كان لا يترك التبليغ بسبب مخالفة الكافرين، فكيف بمخالفة المسلمين؟!!

والجواب:

نحن نعلم أنّ وظائف الرسول هو تبليغ أحكام الله للناس، وليس عليه امتثالهم لتلك الأحكام وعدم امتثالهم لها، فقال سبحانه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنـَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـغُ الْمُبِينُ }(1)..

وقوله: { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـغُ }(2)..

وقوله: {مَّاعَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَـغُ }(3)..

وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَـغُ الْمُبِينُ }(4)..

____________

1- سورة المائدة 5: 92.

2- سورة آل عمران 3: 20.

3- سورة المائدة 5: 99.

4- سورة النور 24: 54، سورة العنكبوت 29: 18.


الصفحة 119
وقوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَـغُ }(1)..

وقوله: { وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلَـغُ الْمُبِينُ }(2) و...

فرسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرهم بأنّه يريد أن يكتب لهم كتاباً لا يضلون بعده أبداً، فهو (صلى الله عليه وآله) قد أدّى ما عليه من الأمر في الإبلاغ والإنذار ولا ضرورة بعد هذا للمعاودة وتكرار الكلام، وخصوصاً أنّه يعلم بأن المعاودة لا تفيد مع هؤلاء، وبعد هذا تكون وظيفة المكلّف العمل أو الترك..

{ إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا }(3).

وعليه: فرسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أدّى ما عليه من واجب اتّجاه الاُمّة، وبالمعارضة سقط الوجوب عنه، بعدم امتثالهم لكلامه.. {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَـكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَـغُ }(4).

وبقولهم عنه إنه "هجر" و "غلبه الوجع" أفهموا الرسول (صلى الله عليه وآله) بأنّه لو أراد الاستمرار في تجديد الدعوة لشكّكوا في مكتوبته، ولبقي عليها احتمال "الهجر" وبالتالي تصير ساقطة عن الاعتبار بنظر القائلين بهجر النبي (صلى الله عليه وآله)!

____________

1- سورة النحل 16: 35.

2- سورة يس 26: 17.

3- سورة الإنسان 76: 3.

4- سورة الشورى 42: 48.


الصفحة 120
وأما القائلين بعصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقد فهموا مراده (صلى الله عليه وآله)، بل يمكننا القول بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لو أصرّ على كتابة الكتاب لحدثت ـ ولا شكّ ـ محاولات أكبر للتشكيك في أصل رسالته، ولقالوا عنه أنّه هجر في ما آتاهم من أحكام، وبذلك لضاعت الرسالة المحمّدية.

مع الإشارة إلى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يعلم بأنّ لا فائدة للمعاودة وتكرار الإخبار، لمعرفته بقوّة تيّار الرأى والاجتهاد، وإخبار الله تعالى له بأنّ الاُمّة مختلفة من بعده، وأنّهم كما قال العزيز في كتابه: { أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـبِكُمْ }(1)وحسبك حديث الحوض دليلاً على اختلاف الاُمّة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

نعم، إنّ نهج الاجتهاد والتأويل صوّر الرسول بصور ينبو اللسان عن ذِكرها، بدءاً من تخلّفه عن أوامر الله ـ كصلاته على المنافق ـ، وتخلّفه عن الإنسانيّة ـ كعبوسه بوجه الأعمى عبدالله بن مكتوم ـ ومروراً بسبّه (صلى الله عليه وآله) مَن لم يستحقّ السبّ واللعنة، واعتبار هذا الفعل كفّارة لذنوب ذلك الشخص الملعون!! ومشاهدته مع زوجاته (صلى الله عليه وآله) لعب الحبشة، ولهوه في المسجد، وانتهاءً بما لا ينتهي من الدعاوي والجروح!!

ومن نتائج هذه الافكار ظهرت سياسة تجريد القرآن عن

____________

1- سورة آل عمران 3: 144.


الصفحة 121
الحديث إذ قال عمر حين مرض الرسول " حسبنا كتاب الله"، ثمّ اعقبه قول أبي بكر "بيننا وبينكم كتاب" كما في حديث الاريكة، ومعاودة عمر الكرة مرة اخرى أيّام خلافتة فقال "لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوماً لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدويّ النحل فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالاحاديث وأنا شريكك في ذلك"(1).

أو قوله لوفد الكوفة: جردّوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم.

فكل هذه المواقف جاءت للحد من مكانة الرسول وما اعطاه الله اياه (صلى الله عليه وآله) ورفع الصحابة إلى مكانة (صلى الله عليه وآله).

وإن سياسة تجريد القرآن من الحديث شرعت كي لا يظهر العوز الفقهي لدى الخلفاء حسبما وضحناه في كتابنا "منع تدوين الحديث". لان رواية الحديث ـ الذي فيه تفسير الذكر الحكيم وسبب التنزيل ـ بجنب القرآن سيوضح اسرار كثير من الآيات القرآنية والتي لا يعرفها الخليفة أو يريد تناسيها.

فهذه وغيرها كانت هي اللبنات التي ابتنيت عليها الأفكار لاحقاً، ومنها حصل التلاعب بقدسيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) التي حاول الاُمويّون جاهدين على طمسها من خلال مساواة النبي (صلى الله عليه وآله) بمن

____________

1- انظر تاريخ الطبري وتاريخ ابن كثير.


الصفحة 122
هبّ ودبّ بحجةّ أنّه صحابيّ وأنّ النبيّ مجتهد يخطىَ ويصيب و...

ويبدو أنّ الذين منعوا عبدالله بن عمرو بن العاص، كانوا من نفس الطراز الذي كمن وراء موقف عمر وأيدّه في منع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كتابة ما ينجيهم من الضلالة، وكذلك كانوا وراء منع التحديث في زمن الخليفة الأوّل وحرقه لمدوّنته ودعوته إلى الأخذ بكتاب الله فقط!

وبعد هذا فقد عرفت وجود اتجاهين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وامتدادهما حتّى عصرنا الحاضر.

الأول: الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله) والمتعبّدون بقوله، الداعون إلى كتابة سُنّته، والناشرون لأحاديثه.

الثاني: قريش وأعلامها الّذين اعترضوا عليه في حياته (صلى الله عليه وآله) واجتهدوا بالرأي وأعملوه من بعده.

فأهل بيت الرسول ـ وعلى رأسهم عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس ـ استنصروا لكتابته (صلى الله عليه وآله) ولزوم التعبد بقوله (صلى الله عليه وآله) والنص المفروض اتباعه. قرآناً كان أم سنة.

واستنصر أصحاب الرأي للكفّة المقابلة، فدعوا إلى ما دعا إليه عمر بن الخطّاب.

والذي حدّث بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ وحتّى في حياته ـ هو أنّ أصحاب الرأي استخدموا الغلظة والعنف في تطبيق سياستهم وفرض آرائهم.


الصفحة 123
بل يظهر بجلاء أنّهم استخدموا الغلظة والعنف حتّى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لِما عرفت من إمساك عمر بن الخطّاب برداء النبيّ (صلى الله عليه وآله) حينما أراد الصلاة على المنافق، واعتراضه عليه (صلى الله عليه وآله) اعتراضاً شديداً في صلح الحديبيّة و...، ومنعهم عبدالله بن عمرو بن العاص من كتابة حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وختم عمر بن الخطّاب اعتراضاته ـ فى زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ باعتراضه على الكتابة، عبر قوله بمحضر الرسول: "إنّ الرجل ليهجر" أو: "غلبه الوجع".

ومعنى هذا الكلام بحضرته (صلى الله عليه وآله) هو: أنّه لا حاجة بنا إلى كلامك، إذ القرآن كاف شاف، وفيه تفسير كلّ شيء. وهذا ما أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث الآريكة، وما عمل بن منكرو السُنّة المطهّرة، القائلون بلزوم الاكتفاء بالقرآن.

وكان هذا من التنبّؤات الصادقة للصادق الأمين ; لأنّه (صلى الله عليه وآله) أخبر بأنّه سيتسلّم هذا الأمر مِن بعده مَن يقول: "بيننا وبينكم كتاب الله" و: "حسبنا كتاب الله"، وهو ما سمعناه بعينه عن أبي بكر بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) وأوائل خلافته:


"... إنّكم تحدّثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً! فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله".


وهذا هو الذي جرّأ أمثال الشيخ محمّد رشيد رضا والدكتور

الصفحة 124
توفيق صدقي ومنكري السُنّة بالباكستان حديثاً(1).

والقائلين لعمران بن الحصين: يا أبا نجيد! حدِّثنا بالقرآن...(2)، وقول أُميّة بن خالد لعبدالله بن عمر: إنّا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن...(3) قديماً.

وهذا هو الذي أعطى الجرأة لطائفة أن تردّ الأخبار كلّها وتنكر حجّيّة السنّة كمصدر للتشريع في نهاية القرن الثاني الهجري(4)والقول بلزوم الاكتفاء بالقرآن عن السُنّة!

وبهذا: فقد عرفنا أنّ ما روي من النهي ليس بأولى ممّا روي من الجواز، إذ عرفنا أنّ كلّ مَن روي عنه النهي النبويّ فقد روي عنه الجواز النبوي كذلك، وهم الأكثر عدداً، وقد عملوا بقولهم، فدوّنوا حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأصرّوا على المحافظة عليه وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم، وفيهم من هو أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الناهين، وأعلم بالسُنّة منهم، مع التأكيد على أنّ أحاديث الاذن أوضح دلالة، وأصحّ سنداً، وأكثر طرقاً ورواةً من روايات الحظر.

____________

1- سنتعرّض لكلامهم لاحقاً.

2- المستدرك على الصحيحين 1: 109 ـ 110، ونحوه مختصراً في الكفاية ـ للخطيب البغدادي ـ.

3- المستدرك على الصحيحين 1: 258.

4- الاُمّ ـ للشافعي ـ 7: 250 وفيه: " باب حكاية قول الطائفة التي ردّت الأخبار كلّها ".


الصفحة 125
كلّ هذه الاُمور تجعلنا نميل إلى القول بأنّ أحاديث النهي قد وُضعت لاحقاً، ولتصحيح نهي الشيخين عن التدوين لا غير!


الصفحة 126

الصفحة 127


المرحلة الثالثة
حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فترة الخلافة الراشدة





الصفحة 128

الصفحة 129

أ ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عهد أبي بكر:


يمكن للباحث والمطالع انتزاع وضعيّة الحديث النبوي في هذا العهد من خلال بيان نصيّن:

  النصّ الأوّل:

جاء في تذكرة الحفّاظ من مراسيل ابن أبي مليكة:


أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنّكم تحدّثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه(1).


ونحن في مناقشة هذا النصّ لابُدّ لنا من توضيح عدّة نقاط:

الأُولى:

هل إنّ الاختلاف الواقع بين المسلمين يرجع إلى الاختلاف

____________

1- تذكرة الحفّاظ 1: 2 ـ 3، حجّيّة السُنّة: 394.


الصفحة 130
في الاستنباط والفهم، أم إنّ الاختلاف هو في صدور المنقول والنصّ المرويّ؟

بمعنى: أنّ الاختلاف تارةً يكون في الفهم لمعنى الحديث، وأُخرى للنقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صحّةً وسقماً.

الواقع: أنّ الاختلاف ـ في النصّ المذكور ـ يعمّ كليهما وإن كنّا سنبيّن أنّ مراد أبي بكر هو الاختلاف في النصّ..

لأنّ الاختلاف في فهم معنى الحديث كان أمراً واقعاً في زمن أبي بكر وفي زمن غيره، وأنّ الخليفة لم يكن يلزم نفسه أو يلزم الآخرين في الأخذ عمّن يفترض الأخذ منه، أي أنّه كان يسمح للصحابة بالاختلاف في فهم معنى الحديث، بل نراه يُرجع الناس إلى الأخذ بالقرآن ـ والذي هو حمّال ذو وجوه ـ ومعنى فعله هذا أنّه لا ينهى عن الاختلاف في الفهم القرآني بل يجيزه.

وعليه: فنهي الخليفة لم يكن عن الفهم لمعنى الحديث، بل إنه صرّح في نهيه عن نقل الحديث، بقوله: "فلا تحدّثوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً"، فهو يريد النهي عن الحديث عموماً ; لمجيء النكرة بعد النهي، وهي تفيد العموم حسبما قاله الاُصوليّون.

ولذلك عدَّ كلّ من حصر أسباب اختلاف الفقهاء، الاختلاف في الفهم من أسباب الاختلافات.

فقد حصر محمّد بن السيّد البطليموسي أسباب اختلاف

الصفحة 131
الفقهاء في كتابه الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم بثمانية أسباب.

وحذا حذوه الشاطبي في المرافقات، إلاّ أ نّه فرّق بين الخلاف الحقيقي وبين المجازي.

وأرجع ابن رشد الأسباب إلى ستّة.

وحاول ابن تيميّة إرجاعها إلى ثلاثة أسباب في كتابه رفع الملام عن الأئمّة الأعلام.

وسار على خطاه الدهلوي في كتابه الإنصاف في بيان سبب الاختلاف فلم يزد على ما قاله ابن تيميّة سوى: الاجتهاد بالرأي، وذلك بسبب انقسام المسلمين إلى مدرستين فقهيتين، هما: مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث.

وعلى ذلك، الاختلاف في الفهم لم يكن هو مقصود الخليفة في كلامه!

الثانية:

هل إنّ التكذيب والسباب هما وليدا العصور اللاحقة؟ أم أن الصحابة والتابعين كان يسبّ الواحد منهم الآخر؟


أخرج البيهقي عن البَراء: لسنا كلّنا كان يسمع حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله)، كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن كان الناس لم يكونوا يكذبون، فيحدّث الشاهد الغائب.

وأخرج عن قتادة، أن أنساً حدّث بحديث، فقال له رجل: أسمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!



الصفحة 132

قال: نعم ـ أو: حدّثني مَن لم يكذب ـ، والله ما كنا نكذب، ولا كنا ندري ما الكذب(1).


ومعنى هذين النصيّن هو أنّهم كانوا محلّ الثقة فيما بينهم ولا يكذّب بعضهم بعضاً، وكلّ ما كان بينهم هو خلاف فقهيّ لا يتعدى النظر في أمر الشريعة.

لكنّ هذه الرؤية لم تكن صحيحة على إطلاقها ; لأنا نرى وجود الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عهده ومن ثمّ من بعده، بدليل قوله (صلى الله عليه وآله): "من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار "(2)، وقوله: " ستكثر القالةُ علَيِّ من بعدي "(3) و...

وقد كذّب الصحابة الواحد منهم الآخر، فأبو بكر كذّب الزهراء (عليها السلام) عند مطالبتها فدكاً.

وكذب عمر أبا موسى الأشعري في حديث: "إذا سلّم أحدكم ثلاثاً فلم يُجَب فليرجع"(4).

وقال هو في معرض تقييمه لأصحاب الشورى: لو ولّيتُها عثمان لحمل آل أبي عيط على رقاب الناس، والله لو فعلتُ لفعل، ولو فعل لاَوشكوا أن يسيروا إليه حتّى يجزّوا رأسه.

____________

1- مفتاح الجنّة ـ للسيوطي ـ: 25.

2- صحيح البخاري 1: 64 ح 51، صحيح مسلم 8: 229، سنن أبي داود 3: 318 ح 3651.

3- انظر: المعتبر ـ للعلاّمة الحلّي ـ 1: 29.

4- صحيح البخاري 8: 98 ح 18، صحيح مسلم 6: 177 ـ 180، سنن الترمذي 5: 52 ح 2691، مصنّف عبدالرزاق 10: 381 ح 19423.


الصفحة 133
فقالوا: عليٍّ؟

قال: رجل قُعْدد جأي: الجبان الخاملج.

وفي نصّ البلاذري وغيره: إنْ ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم.

قالوا: طلحة؟ قال: ذاك رجل فيه بَأْو جأي: الكِبْر والتعظيم فيهج ; وفي نصّ آخر قال: أنفه في السماء وإسته في الماء(1).

قالوا: الزبير؟

قال: ليس هناك..، وفي نصّ آخر: لقسّ، مؤمن الرضا، كافر الغضب، شحيح(2).

قالوا: سعد؟

قال: صاحب فرس وقوس ; وفي نص البلاذري: صاحب مِقْنَب.

فقالوا: عبدالرحمن بن عوف؟

قال: ذاك فيه إمساك شديد، ولا يصلح لهذا الأمر إلاّ معط في غير سرف وممسك في غير تقتير(3).

وقال عمر لاُبيّ بن كعب ـ حين قرأ: (مِنَ الذين استحقّ عليهم الأوْلَيانِ)(4) ـ: كذبت.

____________

1- أنساب الأشراف 5: 17.

2- أنساب الأشراف 5: 16.

3- أخرجه القاضي أبو يوسف في كتابه "الآثار" عن شيخه أبي حنيفة كما في الغدير ـ للأميني ـ 7: 144.

4- سورة المائدة 5: 107.


الصفحة 134
فقال له أُبيّ: أنت أكذب!

فقيل له: تكذّب أميرَ المؤمنين؟!(1).

وقول عليٍّ لنفر من أهل العراق: كذب جالمغيرة بن شعبةج، أحدث الناس عهدا برسول الله (صلى الله عليه وآله) قُثم بن العبّاس(2).

وجاء عن أبي بكر أنّه قال للسائل عن القدر: يابن اللخناء(3).

وعن عائشة قولها في عثمان: "لحيضة خير من عثمان الدهر"(4).

حتّى إنها جوّزت قتله ونسبته إلى الكفر بقولها: "اقتلوا نعثلاً فقد كفر"(5).

وقال الزبير عن عثمان: "جيفة على الصراط"(6).

وقال أبو ذّر لكعب الأحبار: "يابن اليهوديّة"(7).

____________

1- الكامل في الضعفاء ـ لابن عديّ ـ 1: 47.

2- الكامل في الضعفاء ـ لابن عديّ ـ 1: 47.

3- تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ: 65.

4- أنساب الاشراف ـ للبلاذري ـ 5: 0.

5- الفتوح ـ لابن أعثم ـ 1: 64، الكامل في التاريخ 3: 100 حوادث سنة 36 هـ.

6- أنساب الاشراف ـ للبلاذري ـ 5: 0.

7- تاريخ الطبري 4: 284، الكامل في التاريخ 3: 115، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 3: 54.


الصفحة 135
وتكذيب عبدالله بن سلاّم لكعب الآحبار في خبر طويل(1).

وقال عثمان لعمرو بن العاص: "... وإنّك ها هنا يابن النابغة.. قَمِلَ فَروْك" وفي آخر: "فروتك"(2).

ونُقل عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قوله لخالد بن الوليد لمّا هدّده بالقتل: "من يقتلني أضيق حلقة است منك"(3).

وجاء عن عثمان قوله: "كذب ابن عديس"(4).

وعن عبادة بن الصامت: "كذب أبو محمّد..."(5).

وكذّب أنس بن مالك من أخبر عنه أنّ القنوت بعد الركوع(6).

وردّت عائشة على أبي الدرداء في خبر الوتر(7).

وعن ابن عبّاس أنّه قال: كذب نوف البكالي(8).

هذا، إلى غيرها من النصوص الكثيرة.

____________

1- الكامل في الضعفاء ـ لابن عديّ ـ 1: 48.

2- انظر: تاريخ الطبري 2: 643 و 658 حوادث سنتَي 34 و 35هـ، الكامل في التاريخ 3: 42 و 54 حوادث سنتي 34 و 35هـ.

3- الاحتجاج 1: 233.

4- البداية والنهاية 7: 145 حوادث سنة 35 هـ.

5- الكامل في الضعفاء ـ لابن عديّ ـ 1: 49، واسمه مسعود بن زيد، انظر: تهذيب التهذيب 12: 225، وجامع بيان العلم 2: 191.

6- الكامل في الضعفاء ـ لابن عديّ ـ 1: 49.

7- الكامل في الضعفاء ـ لابن عديّ ـ 1: 49.

8- الكامل في الضعفاء ـ لابن عديّ ـ 1: 49.


الصفحة 136
فهذه النصوص تؤكّد على تكذيب الصحابة الواحد منهم للآخر، وأن الفحش والسباب لم يكن بالمستهجن عندهم، ولم يكن من مختلقات الشيعة والخوارج وغيرها من فرق الضلال كما يزعم بعضهم! بل إنها كانت حالة موجودة عندهم، فإنهم لم يكونوا بمعصومين في قولهم وفعلهم، حتّى يعسر صدور مثل هذه الأقوال عنهم. وياحبذا لو جمعت مهاترات الصحابة في كتاب.

وقد جاء عن أبي بكر أنّه كذّب من حدّثه بعد أن ائتمنه ووثق به ; لقوله: "... عن رجل ائتمنته ووثقته فلم يكن كما حدّثني".

وإنّ طلبه من المغيرة بن شعبة أن يقرن ما سمعه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الجدة بشاهد آخر، دليل آخر على احتمال التخطئة عند الصحابة، فشهد للمغيرة محمّد بن مسلمة فأنفذ أبو بكر كلامه.

وقد طلب عمر بن الخطّاب من أبي موسى الأشعري أن يشهد له شخص آخر على ما سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) "إذا سلّم أحدكم ثلاثاً فلم يجب فليرجع" فأتى بأبي سعيد الخدري إليه شاهداً فخلّى سبيله.

نعم، إنّ الأعلام حملوا بعض هذه الاُمور على التثبّت والتأكد، ولكن: هل كان ذلك حقّاً هو من التثبّت؟! أم أنّ هناك شيئاً آخر؟!