واستدلّوا على أحقّيّتهم بالخلافة من الأنصار بكونهم من قريش، وقريش أصل العرب!
في حين أنّا نعلم أنّ الإسلام كان قد أعطى الاُمور وفق الكفاءات الدينية لا الأعمار والموروثات القبلية، وجعل معيار التفاضل: "العلم، الجهاد، التقوى، و..." لا السنّ والقِدم والمكانة الاجتماعية، لقوله تعالى:
{ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }(2).
و {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـهِدِينَ عَلَى الْقَـعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا }(3).
وقوله (صلى الله عليه وآله): لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى(4) و...
ومن هذا المنطلق رأينا الرسول (صلى الله عليه وآله) قد ولّى بعض الشباب على سراياه وغزواته مع وجود شيوخ في تلك السرايا، كتوليته عليّ بن أبي طالب وهو حَدَثّ في أغلبية غزواته وسراياه.
____________
1- الطبقات الكبرى 3: 136، أنساب الأشراف 2: 260، كنز العمّال 5: 606 ح 14072، وانظر: الصحاح 5: 1874، النهاية ـ لابن الأثير ـ 1: 17، تاجّ العروس 16: 59.
2- سورة الزمر 39: 9.
3- سورة النساء 4: 95.
4- الاختصاص: 341.
لأن الناس كانوا قد طعنوا فيه ـ أي في صغر سنه ـ فأغضب ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
أمّا بعد، أيّها الناس! فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة، ولئن طعنتم في إمارتي أُسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله! وأيم الله إنْ كان للإمارة لخليقاً، و إنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة، و إنْ كان لمن أحبّ الناس إليّ.
|
وأخذ (صلى الله عليه وآله) يؤكّد على ذلك حتّى آخر لحظة من حياته بقوله:
أيّها الناس أنفذوا بعث أُسامة ; ثلاث مرّات(1).
|
كل ذلك للحدّ من تلك العقلية الجاهلية المستحكمة عندهم والتي لا ترضى إمرة شابّ على شيخ كبير!!
فالإسلام رغم احترامه للشيخ لم يأت ليحصر مسؤولية القيادة به، بل جاء ليبحث عن المؤهّلات والكفاءات الموجودة عند الأفراد، فإنْ وجدت عند الشيخ أعطاها إياه، وإنْ وجدت عند الشابّ منحها له، فالكفاءة الدينية والتنفذية إذاً هي الضابط الإسلامي لا الشيبة والسنّ، فلا ضرورة لإعطاء
____________
1- الطبقات الكبرى 2: 249.
فمن الواضح أنّ هذه التوليات من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله)، وخصوصاً إصراره (صلى الله عليه وآله) على تولية أُسامة بن زيد في آخر حياته ـ جاءت لتحطيم أنفة وشموخ القرشيّين الذين لا يرتضون إمرة شابّ، والّذين كانوا لا يحترمونه ولا يعيرون لقدراته الأهميّة اللازمة ـ للوقوف أمام تلك العقلية التي عرفوها وآمنوا بها.
ومن هذا المنطق الجاهلي جاء كلام أبي عبيدة بن الجرّاح لعليٍّ يوم السقيفة:
يا بن العمّ! إنك حديث السنّ، وهؤلاء مشيخة قريش قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاُمور، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً، فَسَلِّمْ لأبي بكر هذا الأمر، وارْضِ به ; فإنّك إنْ تعش و يطل عمرك فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق، في فضلك ودينك، وعلمك وفهمك، وسابقتك، ونسبك وصهرك(1).
|
فأبو عبيدة، ضَرَعَ لاحتجاجات عليٍّ (عليه السلام) الدينية، من الفضل والدين والعلم والفهم والسبق إلى الإسلام، لكنّه عاد لينقضها بمفهوم جاهلي، خلاصته أنّ عليّاً حدثّ وليس شيخاً!!!
____________
1- شرح نهج البلاغة 2: 5.
إنا والله ما فعلنا عن عداوة، ولكن استصغرناه، وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لِما قد وترها. فقال ابن عبّاس: فأردت أن أقول له: كان رسول الله يبعثه في الكتيبة فينطح كبشها فلم يستصغره، أفتستصغره أنت وصاحبك؟!(1)..
|
وفي اعتراض سلمان المحمّدي رضي الله عنه على الصحابة ـ لتأخيرهم أهل البيت وتقديمهم ذوي السنّ! ـ بقوله:
أصبتم ذا السنّ منكم، ولكنّكم أخطأتم أهل بيت نبيّكم(2).
إشارة إلى تحكيم العقلية الجاهلية عند بعض الصحابة بعد غياب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
فهذه النصوص وضّحت لنا صحّة الدعوى القائلة بأن كبر السنّ كان أحد الاُسس في بناء الشرعية المدّعاة للخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأنّه كان الضابط فيها، أو في ترجيح الأكفأ على
____________
1- الغدير 7: 389، عن المحاضرات ـ للراغب الأصفهاني ـ 2: 213، وقريب منه في شرح نهج البلاغة 2: 18 و 20: 115.
2- شرح نهج البلاغة 1: 131 و 2: 17.
أجل، إنّ التفكير الجاهلي قد أثر على الفقه والحديث تأثيراً واضحاً، والمطالع للنصوص الاُولى الصادرة عن تلك الفترة من تاريخ الإسلام يقر بهذه الحقيقة..
فممّا جاء في سيرة أبي بكر هو اعتقاده بأن الجدّ ـ نظراً لمكانته القبلية ـ يحجب الإخوة عن الإرث، لأنّه أصل الكلّ وأبوهم ; لقوله تعالى:
{ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ }(1).
ومثله الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطّاب، فإنه كان يذهب إلى نفس الرأي الأوّل، إذ نقل البخاري(2) والقرطبي(3) وغيرهم: إن أوّل جدّ كان في الإسلام هو عمر بن الخطّاب، فأراد أن يأخذ مال ابن أخيه دون إخوته، فأتاه عليّ وزيد فقالا: ليس لك ذلك، إنما كنت كأحد الأخوين!!
فعمر بن الخطّاب قد خالف برأيه هذا جمع من الصحابة، منهم: عليّ، وعثمان، وعبدالله بن عمرو، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، الذين ذهبوا إلى توريث الإخوة مع الجدّ،
____________
1- سورة الحجّ 22: 78.
2- صحيح البخاري، باب ميراث الجدّ.
3- تفسير القرطبي 5: 68.
فالمتدبّر في المرويّات المرجّحة للسنّ، والمذكورة في الكتب والصحاح، يعرف بأنّ وراء مسألة ترجيح السنّ والشيخوخة موروثاً جاهلياً يُفضَّل على طبِقه كلّ شيء، حتّى على النبوّة ـ والعياذ بالله ـ!!
وإليك بعض الأخبار في ذلك:
عن أنس بن مالك، قال: أقبل النبيّ إلى المدينة، وأبو بكر شيخ يُعرَف والنبيّ شابّ لا يُعرَف، فيلقى الرجلُ أبا بكر فيقول: يا أبا بكر! من هذا الرجل الذي بين يديك؟ هذا الرجل يهديني السبيل ; فيحسب الحاسب أنّه يهديه الطريق، وإنما يعني سبيل الخير... الخبر(2).
|
وفي تاريخ الإسلام ـ للذهبي ـ أخبار السنة الاُولى من الهجرة ـ روى ما أخرجه البخاري في صحيحه، وفيه:
... فطفق من لم يعرف رسول الله يسلّم على أبي بكر |
____________
1- أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 1: 94، تفسير القرطبي 5: 68.
2- صحيح البخاري 5: 161 ح 392 باب هجرة النبيّ، الطبقات الكبرى 1: 235، مسند أحمد 3: 235، تاريخ الإسلام (المغازي): 29، الرياض النضرة 1: 120، السيرة الحلبية 2: 235، وغيرها.
حتّى أصابت الشمس رسول الله، فأقبل أبو بكر يظلّه بردائه، فعرف الناس عند ذلك رسول الله...(1)
|
وعن يزيد بن الأصمّ أنّ النبيّ قال لأبي بكر: أنا أكبر منك أو أنت؟ قال: لا، بل أنت أكبر منّي وأكرم وخير منّي، وأنا أسنّ منك(2).
فأنت ترى في هذا النصّ أن واضعه أراد أن يعطي صفة فضل لأبي بكر على النبيّ، ولمّا لم يمكنه ذلك، لِما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من صفات لا يوازيه فيها بشر، جعل فضيلة السنّ لأبي بكر على النبيّ! مع أن النبيّ أكبر من أبي بكر بسنتين أو ثلاث!!
مثله ما ذكره اليافعي في روض الرياحين عن أبي بكر في حديث طويل، أن رجلاً أعمى دخل على النبيّ، والصحابة عنده، وطلب منه عدّة أشياء، فأُعطي، ثمّ طلب أن يضع يده في شبية أبي بكر.. فقبض الأعمى بلحية أبي بكر الصدّيق وقال: يا ربّ! أسألك بحرمة شيبة أبي بكر إلاّ رددت علَيَّ بصري ; فردّ الله عليه بصره لوقته!
فنزل جبرئيل (عليه السلام) على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وقال: يا محمّد! السلام
____________
1- تاريخ الإسلام (المغازي): 28، وانظر: صحيح البخاري 5: 159 ضمن ح 387، السيرة الحلبية 2: 235.
2- الاستيعاب ـ المطبوع بهامش الإصابة ـ 4: 17، الرياض النضرة 1: 127، تاريخ الخلفاء: 72.
وعن عكرمة، عن ابن عبّاس، أن عليّاً قال له: كنت جالساً عند رسول الله وليس معنا ثالث إلاّ الله، فقال: يا عليّ! تريد أن أُعرفك بسيّد كهول أهل الجنّة، وأعظمهم عند الله قدراً ومنزلةً يوم القيامة؟
فقلت: إي وعيشك يا رسول الله قال: هذان المقبلان، قال عليّ: فالتفتّ فإذا أبو بكر وعمر(2).
وحدّث الشيخ يوسف الفيش المالكي في حديث طويل، فيه: قال جبرئيل: أبو بكر له علَيَّ مشيخة في الأزل(3)!
وروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنّه إذا اشتاق إلى الجنّة قبّل شيبة أبي بكر(4)!
وذكر العجلوني في كشف الخفاء: أنّ لإبراهيم الخليل وأبي
____________
1- الغدير 7: 240 عن اليافعي.
2- عمدة التحقيق ـ للعبيدي المكّي ـ:105 المطبوع بهامش "روض الرياحين" كما في الغدير ـ للأميني ـ 7: 292، وفي طبعة مستقلّة ص 91.
3- عمدة التحقيق: 111 عن المصدر السابق.
4- الغدير 5: 270.
أقول: كيف كان رسول الله شاباً لا يُعرف وأبو بكر شيخٌ يُعرف؟! في حين أن العرب كانوا يحكّمون محمّداً فى نزاعاتهم قبل الإسلام، كما في وضع الحجر الأسود وغيره!! لأنّه لا يداري ولا يماري(2).
ولماذا يصف الخبرُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) بأنّه غلاماً (نكرة)!! فيلقى الرجلُ أبا بكر فيقول: يا أبا بكر! من هذا الذي بين يديك؟! فيقول: يهديني السبيل...؟!
وكيف يفترض وقوع مثل هذا في يثرب، وهي مدينة الرسول وبها بنو النجّار وهم خؤولة الرسول؟!! وبها الأنصار، والنقباء منهم الّذين رأوا النبيّ وعرفوه وبايعوه في بيعة العقبة الاُولى والثانية، وكان ذلك قبل هجرته المباركة إلى المدينة المنورّة.
ومتى كان أبو بكر أسنّ من النبيّ؟! ونحن نعلم بأنّ رسول الله وُلد عام الفيل، وأنّ أبا بكر وُلد بعد عام الفيل بثلاث سنين!!
قال سعيد بن المسيّب: استكمل أبو بكر بخلافته سنّ رسول الله، فتوفّي وهو بسنّ النبيّ وهو ابن ثلاث وستّين سنة(3).
|
____________
1- كشف الخفاء 1: 233 رقم 714، وانظر: الغدير 7: 241.
2- السيرة الحلبية 1: 145.
3- صحيح الترمذي 2: 288، تاريخ الطبري 2: 125، الاستيعاب 1: 335، سيرة ابن هشام: 205 كما في الغدير 7: 271.
وقال ابن قتيبة: اتفقوا على أنّ عمره ثلاث وستّون سنة، فكان رسول الله أسنّ من أبي بكر بمقدار سنيّ خلافته(1).
|
وكيف يُقسِم الأعمى بشيبة أبي بكر ولا يقسم بشيبة رسول الله، وهي أوْلى وأكرم على الله حتّى من شيبة إبراهيم الخليل؟!
ولزيادة التعمية والتعتيم تراهم قد خصّوا عليّاً بنقل هذه الفضيلة للشيخين، كي يلزموا شيعته ومحبّيه بأنّهما سيّدا كهول أهل الجنّة، وأنّهما أعظم قدراً عند الله يوم القيامة!!
وعجباً من جبرئيل الأمين أن تردعه هيبة أبي بكر فيقول: "فسجدت من هيبة أبي بكر فكان ما كان"(2) ولا تأخذه هيبة الله؟!!
فما معنى هذا الخبر؟!وهل إنّ ذِكر فضيلة لأبي بكر يأتي على حساب النَيل من الأمين جبرئيل؟! أو الصادق الامين؟!
ولا أدري كيف تكون لإبراهيم الخليل لحية في الجنّة وقد ورد ذلك بحقّ آدم ـ وهو أبو البشر ـ، الذي صرّح كعب الأحبار عنه بقوله: ليس أحد في الجنّة له لحية إلاّ آدم، لحيته سوداء إلى
____________
1- المعارف: 75.
2- الغدير 7: 251 عمّا حدّث به الشيخ يوسف الفيش المالكي.
أو لموسى بن عمران الذي جاء في الحديث عنه: ليس أحد يدخل الجنّة إلاّ جرد مرد إلاّ موسى بن عمران، فإن لحيته إلى سرّته(2)؟!
وما الذي يعنيه التأكيد على طول اللحية "إلى سرّته" عند أصحابها؟! هل لاعطاء الشرعية للحى بعض سلفية اليوم؟!
والعجيب منهم أنّهم عدّوا أبا بكر أباً ثانياً للأمة ـ في بعض الأخبار ـ، بدعوى أنّه فتح لها باب الدخول في الإسلام، كما سُمّي إبراهيم أباً لتسميته أُمّته بالمسلمين!! ولا يعدّون رسول الله أباً لهم مع روايتهم عن عائشة في قراءتها قوله تعالى:{النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَا جُهُ أُمَّهَـتُهُمْ }(3) وهو أب لهم(4).
وقوله (صلى الله عليه وآله): "يا عليّ! أنا وأنت أبوا هذه الاُمّة"(5).
وهو (صلى الله عليه وآله) الذي عرّفهم حقيقة الإسلام، وأوقفهم على تعاليمه ودعوتهم إليه!
____________
1- تاريخ ابن كثير 1: 97 كما في الغدير 7: 242.
2- السيرة الحلبية 1: 425.
3- الاحزاب 33: 6.
4- الدرّ المنثور 5: 183.
5- ينابيع المودة 1: 370 ح 4.
5 ـ كراهة قريش اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم:
لقد كان الجاهليّون حريصين أشد الحرص على احتلال مواقع اجتماعية وقيادية، راكضين وراء السلطة والرئاسة، وقد ساعد على تلك النعرة عدم وحدة القيادة آنذاك، وطموح كلّ شخص بالاستقلال بما يمكنه من حُكم.
وما تعدّد الآلهة واتخاذ كلّ قبيلة آلهة لها إلاّ مظهر من مظاهر ذلك الطموح، إذ أنّ الدين عندهم في بعض جوانبه يمثّل الاستقلال والانفراد بالسلطة الذاتية أو الحكم الذاتي مقابل سلطات الآخرين.
ومن خلال هذه الركيزة برز هذا الشكل من أشكال التعاطي مع الرسالة المحمّدية ـ ومن أول البعثة المباركة ـ إذ إن عتبة بن ربيعة بعد اتّفاقه مع قريش جاء ليفاوض النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكان في ما طرحه من بنود لحلّ ذلك النزاع، قال:
يا بن أخي! إنك منّا حيث قد علمتَ، من السلطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم... فاسمع منّي أعرض عليك أُموراً تنظر فيها، لعلّك تقبل منها بعضها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قُلْ يا أبا الوليد أسْمَعْ. قال: يا بن أخي! إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا |
حتّى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به مُلكاً ملّكناك علينا. ... ولما تلا عليه النبيّ آيات من الذِكر الحكيم رجع عتبة وقال لقريش فيما قال: أطيعوني واجعلوها بي. وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه... فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكه ملككم، وعزّه عزكم(1).
|
وأعاد عليه هذه المطالب نفسها زعماء قريش: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث بن كلدة، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطّلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبدالله بن أبي أُميّة، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبِّه ابنا الحجّاج، وأُميّة بن خلف ومن اجتمع منهم(2).
ولمّا راح النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه على القبائل ويدعوهم إلى الإسلام، حاول بنو عامر بن صعصعة ضمان رئاستهم ومجدهم مقابل دخولهم في الإسلام، فقد قال بيحَرَة بن فراس: لو أني أخذت هذا الفتى ـ يعني النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ من قريش لأكلتُ به العرب، ثمّ جاء للنبيّ وقال له: أرأيت إن نحن بايعنا على أمرك
____________
1- سيرة ابن هشام 1: 313.
2- سيرة ابن هشام 1: 313.
فقال (صلى الله عليه وآله): الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء.
فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟!
لا حاجة لنا بأمر ; فأبوا عليه(1).
وهذه النعرة لا نجدها عند الأنصار، بل نجد الأنصار يتخوّفون من بقائهم بلا أعوان، فحين بايعوا رسول الله بيعة العقبة الثانية، قالوا: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟!
فتبسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منّي، أُحارب من حاربتم، وأُسالم من سالمتم(2)..
وبايع الأنصار الرسول على شروط كان منها "أن لا ينازعوا الأمرَ أهلَه"(3).
ولمّا بلّغ رسول الله ما أمره ربّه في عليٍّ يوم الغدير، وشاع ذلك وطار في البلاد، بلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله وقال له:
____________
1- سيرة ابن هشام 2: 66، تاريخ ابن كثير 2: 158 ; وفيه: "أفنهدف".
2- سيرة ابن هشام 2: 85، تاريخ ابن كثير 2: 159.
3- سيرة ابن هشام 2: 442.
يا محمّد! أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه منك، وأمرتنا بالحجّ فقبلناه، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعَي ابن عمّك ففضّلته علينا، وقلت: "من كنتُ مولاه فعليٍّ مولاه"، فهذا شيء منك أم من الله عزّوجلّ؟! فقال (صلى الله عليه وآله): والذي لا إله إلاّ هو! إن هذا من الله. فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهمّ إن كان ما يقوله محمّد حقّاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله عزّوجلّ: {سَأَلَ سَآئِلُ بِعَذَاب وَاقِع * لِّلْكَـفِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ }(1)(2).
|
فإن هذا الرجل صرّح بإسلامه وقبول الشهادتين وباقي
____________
1- تفسير الثعلبي المخطوط، وشواهد التنزيل 2: 381 ـ 385، وفوائد السمطين 1: 82 ـ 93.
2- المعارج 70: 1 - 2.
فهذه النظرة كانت تتفاعل في نفوسهم، وكانوا يتعاملون مع السلطة النبويّة (صلى الله عليه وآله) والخلافة الإسلاميّة تعامل ملك وسلطان عشائري، فقد كانوا يعتقدون لزوم مشاركة القبائل والفصائل الأُخرى في الحكم وعدم تحديد ذلك في قوم أو أشخاص بأعيانهم وأسمائهم.
ومن هنا ظهرت مقولة أحقّية قريش بالخلافة من الآخرين، ولما كان أهل بيت النبيّ هم أصحاب الحقّ الشرعي والمؤهّلات السامية من قريش، طرحت مقولة "عدم قبول قريش باجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم"!
وقد ظهرت فكرة تقاسم السلطة في سقيفة بني ساعدة بقول أبي بكر "نحن الأُمراء وأنتم الوزراء"(1)، وبقيت في مكنون
____________
1- تقدّم تخريجه.
وفي هذا المضمار يبرز قول عليّ (عليه السلام) في تحليل مآل الخلافة، حين يقول لعمر واصفاً شدّة سعيه في إتمام البيعة لأبي بكر:
"احلب حلباً لك شطره، تولّيه أنت اليوم ليردّها عليك غداً"(2).
|
وقوله في التقاسم بين عبدالرحمن بن عوف وعثمان:
"والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليردّ الأمر عليك"(3).
|
وهذا وهو عين ما قلناه من أنّهم كانوا يريدون حصر الخلافة بالحزب القريشي، ولمّا أراد عثمان سحبه عنهم وإفراد بني أُميّة به، ثارت ثائرة ابن عوف فانقلب إلى ألدّ أعداء عثمان، حتّى ماتا متخاصمَين.
وشرح الإمام عليّ (عليه السلام) هذا الخطر السلبي، وتلك النظرة القاسية تجاه الخلافة النبويّة، حينما قال:
"حتّى إذا قبض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتّكلوا على الولائج ـ أي: البطانة ـ، ووصلوا غير الرحم، وهجروا |
____________
1- تاريخ الطبري 4: 53.
2- الإمامة والسياسة 1: 11، شرح نهج البلاغة 9: 15.
3- الكامل في التاريخ 3: 71.