قال: إيّاك كنت أسأل.
قال: فإذا كان في يدي شيء، فادّعى فيه المسلمون، تسألني فيه البيّنة؟! فسكت أبو بكر..."(1).
وفي حديث آخر توجد زيادة: فما بال فاطمة سألتها البيّنة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده، ولم تسأل المسلمين البيّنة على ما ادّعوه شهوداً كما سألتني على ما ادّعيت عليهم؟!
فسكت أبو بكر.
فقال عمر: يا عليّ! دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوى على حجّتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلاّ فهو فيءٌ للمسلمين، لا حقّ لك ولا لفاطمة فيه.
فقال عليّ: يا أبا بكر! تقرأ كتاب الله؟!
قال: نعم.
قال: أخبرني عن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }(2) فينا نزلت أو في غيرنا؟!
____________
1- علل الشرائع: 190 ـ 192 ح 1.
2- الاحزاب 33: 33.
قال: فلو أنّ شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله بفاحشة، ما كنت صانعاً بها؟!
قال: كنت أُقيم عليها الحدّ كما أُقيم على سائر نساء العالمين!!
قال: كنت إذاً عند الله من الكافرين.
قال: ولِم؟!
قال: لأنّك رددت شهادة الله لها بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله ورسوله أنْ جَعَلَ لها فدك وقبضته في حياته (صلى الله عليه وآله)، ثمّ قبلتَ شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها، وزعمت أنّه فيءٌ للمسلمين، وقد قال رسول الله: "البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه" فرددت قول رسول الله: "البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادُّعي عليه"(1).
ونحو هذا استدلال الزهراء (عليها السلام) على أبي بكر(2)، وقول الأنصار لها: يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به(3).
وفي آخر: لو سمعنا حُجّتكم ما عدلنا عنكم.
____________
1- الاحتجا 1: 90 ـ 95 (طبعة النجف 1: 119 ـ 127).
2- انظر: كتاب سُليم بن قيس: 135 ـ 137.
3- الإمامة والسياسة 1: 175.
وهل يعقل أن تطلب فاطمة (عليها السلام) ـ وهى سيّدة نساء أهل الجنّة، مع طهارتها وعصمتها ـ شيئاً ليس لها؟!
وهل تريد ظلم جميع المسلمين بأخذها أموالهم؟!
وهل يجوز لعليٍّ أن يشهد لفاطمة بغير حقّ؟! أو يمكن تصوّر مخالفته للحقّ ورسول الله يقول: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ" ويقول: "اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار".
وهل يجوز القول عن أُمّ أيمن ـ المشهود لها بالجنّة ـ أنّها قد شهدت زوراً؟!
نعم، إنّا لا يمكننا أن نزكيّ أبا بكر والزهراء معاً! إذ لو صدّقنا أبا بكر في دعواه لصحّ ما تساءلناه عن الزهراء، وإن كان أبو بكر كاذباً فالزهراء صادقة لا محالة..
وهكذا الحال بالنسبة إلى أحاديث "من خرج على.." أو
____________
1- شرح نهج البلاغة 6: 12، الإمامة والسياسة 1: 29.
فنحن لو قبلنا هذه النصوص معتبرين أبا بكر هو إمام زمانه، للزم أن تكون الزهراء ـ سيّدة النساء، المطهرة بنصّ القرآن ـ قد ماتت ميتة جاهلية!!!
وأمّا لو شككنا في كونه إمام ذلك العصر ; لتخلّف بعض الصحابة عنه ـ كعليٍّ والعبّاس وبني هاشم والزبير والمقداد وسعد بن عبادة وغيرهم ـ لجاز خروج الزهراء عليه واعتقادها بانحرافه وضلالته، ولا يمكن تصحيح الموقفين معاً.
وإذا لم يقبل أبو بكر شهادة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لكونه المنتفع، فكيف قبل رسول الله شهادة خزيمة بن ثابت وعدّ شهادته شهادتين، وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو المنتفع؟!
ولو صحّ ما استدلّوا به من أنّ الشهادة لم تكمل في قضية فدك ـ مقتصرين على شهادة الإمام عليّ (عليه السلام) وأُمّ أيمن ـ فماذا نفعل بما جاء عن سيرة الحكّام وحكمهم بالشاهد الواحد مع اليمين..
ففي كتاب الشهادات من كنز العمّال:
إنّ رسول الله وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون |
بشهادة الواحد مع اليمين(1).
|
وروى البيهقي عن عليّ:
أنّ أبا بكر وعمر وعثمان يقضون باليمين مع الشاهد(2).
|
كانت هذه نظرة عابرة ونماذج متفرّقة عن اختلاف المفاهيم والاُصول عند الطرفين، وكيفية تشريع المواقف وصيرورتها أُصولاً تضاهي القرآن الحكيم والسُنّة المطهّرة في العصور اللاحقة، وقد أعطتك ـ وخصوصاً النقطة ما قبل الأخيرة ـ صورة عن تلاعب الحاكمين بالقوانين المالية الإسلامية كـ:
أ ـ سهم المؤلّفة قلوبهم.
ب ـ تمليك الحجرات لزوجات الرسول (صلى الله عليه وآله) دون بنيه!
ج ـ استجازة الحاكم الدفن عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع نقله قوله: "نحن معاشر الأنبياء...".. وغيرها.
____________
1- كنز العمّال 3: 4 و 6.
2- كنز العمّال 3: 178.
11 ـ الذهاب إلى مشروعية الرأي ومقولة: " حسبنا كتاب الله ":
ثبت عن أبي بكر أنّه أفتى بالرأي في الكلالة، مع أنّ الله كان قد وضّح حكمها في القرآن العزيز، لقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَـلَةِ إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَاتَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِنْ...}(1). هذا، إضافة إلى مفردات كثيرة من هذا القبيل.
وشرح أُبيّ بن كعب هذا في كلام له بعد خطبة لأبي بكر في يوم الجمعة أوّل شهر رمضان، فقال في جملة كلامه:
فهذا مثلكم أيّتها الاُمّة المهمَلَة ـ كما زعمتم ـ وأيمُ الله! ما أُهملتم، لقد نُصبَ لكم علمٌ يُحِلُّ لكم الحلال ويحرّم عليكم الحرام، لو أطعتموه ما اختلفتم ولا تدابرتم، ولا تقاتلتم، ولا برئ بعضكم من بعض.. فوالله! إنّكم بعده لمختلفون في أحكامكم، وإنّكم بعده لناقضون عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنّكم على عترته لمختلفون. إن سُئل هذا عن غير ما يعلم أفتى برأيه، فقد أبعدتم وتخارستم، وزعمتم أنّ الاختلاف رحمة، هيهات! أبى الكتاب ذلك عليكم، يقول الله تبارك وتعالى:{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ |
____________
1- سورة النساء 4: 176.
وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَاجَآءَهُمُ الْبَيِّنَـتُ وَأوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1)، ثمّ أخبرنا باختلافكم، فقال: {وَلاَيَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَالِكَ خَلَقَهُمْ }(2) أي:للرحمة، وهم آل محمّد..."(3).
|
ونحن كنّا قد فصّلنا هاتين المقولتين في كتابنا منع تدوين الحديث ولا نحبّ المعاودة إليهما، فمن أراد المزيد فليراجع ذلك الكتاب.
فهذه النصوص أوقفتك على ملابسات بعض الاُمور، ومَن هم وراء نسبة الأحاديث إلى هذا أو ذاك، وأنّ إنكار حجّيّة السُنّة النبوية، والتلاعب بالنصوص، وإدخال مفاهيم خارجة عن نطاق النصوص، لم يكن من قبل المستشرقين، أمثال جولدتسهير وجيم شاخت(4) فقط، بل سبقهم إليه الرعيل الأوّل من الصحابة، أمثال أبي بكر وعمر بقولهما: "بيننا
____________
1- سورة آل عمران 3: 105.
2- سورة هود 11: 118 و 119.
3- الاحتجاج 1: 112 ـ 115 (طبعة النجف 1: 153 ـ 157).
4- دراسات في الحديث النبوي ـ للدكتور الأعظمي ـ: المقدّمة (م) وصفحة 6.
إنّ النزعة الداعية إلى الأخذ بالقرآن وترك تدوين الحديث عند الشيخين ومَن ماشاهما، هي التي مهّدت الطريق للشيخ محمّد عبده(1) وأحمد أمين(2) وغلام أحمد رويز(3) وغيرهم للقول بالاكتفاء بالقرآن عن السُنّة.
وهو المصرّح به من قبل الشيخ محمّد رشيد رضا في تعليقته على مقالة الدكتور توفيق صدقي في المنار ; إذ جاء في تعليقته: "... بقي في الموضوع بحث آخر هو محلّ للنظر، وهو هل الأحاديث ـ ويسمّونها بسنن الأقوال ـ دين وشريعة عامّة، وإن لم تكن سُنناً متّبعة بالعمل بلا نزاع ولا خلاف لا سيّما في الصدر الأوّل؟
إن قلنا: نعم ; فأكبر شبهة تَرِدُ علينا نهي النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن كتابة شيء عنه غير القرآن، وعدم كتابة الصحابة للحديث، وعدم عناية علمائهم وأئمّتهم كالخلفاء بالتحديث، بل نقل عنهم الرغبة عنه، كما قلنا للدكتور صدقي في مذاكّرته قبل أن يكتب شيئاً في
____________
1- دراسات في الحديث النبويّ ـ للدكتور الأعظمي ـ 1: 27 عن أضواء على السُنّة المحمّدية: 405 ـ 406.
2- فجر الإسلام، وعنه في دراسات في الحديث النبويّ 1: 27، والسُنّة ومكانتها ـ للسباعي ـ: 213.
3- دراسات في الحديث النبويّ 1: 29 عن "سُنّت كى آئينى حيثيّت" ـ للمودودي ـ: 16.
ثمّ علّق الشيخ محمّد رشيد رضا على فقرة أُخرى من مقالة الدكتور صدقي بقوله: "وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث، بل في رغبتهم عنه، بل في نهيهم عنه، قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث كلّها ديناً عامّاً دائماً كالقرآن"(2).
أجل، إنّ تفكيراً كهذا قد وصل في الهند إلى أن يُستغلّ من قبل الأجنبي ـ حسب تعبير الدكتور مصطفى الأعظمي في الدراسات 1: 28 ـ لترسيخ بعض المفاهيم الجديدة على ضوء الموروث القديم.
فقد أسّس غلام أحمد برويز جمعية باسم: "أهل القرآن"، وأصدر مجلّة شهرية عنها، وفسّر بعض الكتب بهذا الصدد.
فـ "أهل القرآن" تركوا المتواتر العملي في الإسلام كالصلاة والزكاة والحجّ، وما شاكلها، وقالوا:
"لم يبيّن لنا القرآن الاُمور الجزئية إلاّ قليلاً، وقد تطرّق في أغلب الأحيان للكلّيات، فمثلاً: أمر الله سبحانه وتعالى بإقامة الصلاة، ولم يبيّن لنا مقدارها، فإن كان الله سبحانه وتعالى يريد أن |
____________
1- دراسات في الحديث النبويّ 1: 26 ـ 27، عن مجلّة "المنار" م 9: 929 ـ 930.
2- دراسات في الحديث النبويّ 1: 27 عن "مجلّة المنار" م 10: 511.
تصلّي كما يصلّون لذَكَرَه في آية واحدة، مثلاً: صلّوا الظهر والعصر والعشاء أربعاً والفجر ركعتين والمغرب ثلاثاً. ولا يمكن القول بأن مثل هذا التفصيل يزيد في حجم القرآن، لأنّ القرآن الكريم كرّر الأمر بإقامة الصلاة مرّة أو مرّتين، ثمّ تذكر التفصيلات لإقامة الصلاة بدلاً عن التكرار، وكذلك الزكاة، وهلمّ جرّاً"(1).
|
وقالوا:
"والخطأ الأساسي الذي وقع فيه المسلمون من بعد الخلافة الراشدة حتّى الآن أنّهم لم يفهموا الإسلام وروحه، إذ الإسلام نظام اجتماعي مبنيّ على الشورى، فالقرآن يأمرنا بالاُمور الكلّية ويترك تفصيلها لمجلس الشورى للمسلمين الذي يقرّر طريقة الصلاة ونسبة الزكاة حسب الزمان والمكان. وهذا ما فهمه أبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون(2)، فكانوا يستشيرون الصحابة، وحيث شعروا |
____________
1- دراسات في الحديث النبوي 1: 33 عن مقام حديث: 65 ـ 66 و "المنار" م 9: 517.
2- ثبت ذلك عن الثلاثة، أمّا الإمام عليّ (عليه السلام) فكان أصلب في معارضة هذا الفهم الخاطئ.
بالحاجة إلى الإضافة أضافوها، وإن لم يجدوا ضرورة للتغيير أبقوها. ولو كانت سُنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) شيئاً دائماً لأعطانا الرسول (صلى الله عليه وآله) شيئاً مكتوباً جاهزاً ; وليس معنى {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(1) أطيعوا سُنّة الرسول بعد وفاته ; لأنّ سُنّته لا تحمل في طيّاتها عنصر الديمومة والبقاء، بل معنى{أَطِيعُواْ الرَّسُولَ }: أطيعوا النظام الذي أرشد إليه القرآن والذي كان يمثّله الرسول في حياته، والذي يعني إقامة الخلافة على منهاج النبوّة. وبما أنّ هذا النظام قد استمرّ إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثمّ بعد مجيء الاُمويّين على مسرح السياسة اختلف الوضع، وأصبح هناك حدّ فاصل بين الدين والسياسة، ولم يفهم الناس معنى طاعة الرسول، فاتجهوا إلى الأحاديث ; لأنّ الأحكام في القرآن قليلة، وضرورات الحياة أكثر فأكثر، وكان من واجبات الخلافة على منهاج النبوّة أن تسدّ ضرورات المجتمع في القضايا المتجدّدة، لكنّ عدم وجود الدولة بهذا المفهوم دفع الناس |
____________
1- المائدة 5: 92.
إلى الأخذ بالحديث، وعند عدم كفاية المجـموعة الحديثية ازداد الوضع أكثر فأكثر"(1).
|
وبهذا فقد عرفنا السير الطبيعي لمقولة: "بيننا وبينكم كتاب الله" و "حسبنا كتاب الله" و "لا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً"! والأفكار المطروحة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) وما جرّته من مضاعفات خطيرة على السُنّة الشريفة، وعلى الباحث استكشاف حقائق أكثر في هذا السياق، خصوصاً عندما يقف عند النصوص وقفة تدبّر وتفكّر!
____________
1- دراسات في الحديث النبويّ 1: 33 ـ 34 عن مقام حديث: 68 ـ 70.
في الختام
كانت هذه محاولة تطبيقية بسيطة لما رجونا طرحه في هذه الدراسة، فانها وإن كانت متواضعة، لكن إتمامها يحتاج إلى بسط وتحليل أكثر، إذ أن دراسة مؤثرات عهد الشيخين وما بعدهما يستدعي جهداً أكبر مما مضى.
سائلين الله سبحانه أن يوفقنا لاكمال ما رجونا بيانه من مؤثرات العهود اللاحقة ـ خصوصاً العهدين الأموي والمرواني ـ حتّى عصر التدوين الحكومي في عهد عمر بن عبد العزيز ; لأنّ بذلك استكمال ما كتبناه وقدمناه عن أسباب "منع تدوين الحديث" ونتائجه، مكتفين الآن بنشر المطبوع في مجلة تراثنا مع اجراء بعض التعديلات البسيطة عليه، آملين أن نلتقي مع القراء لاحقاً في دراسة موسعة بهذا الصدد إن شاء الله تعالى.