الفصل الثاني
ابن كثير والتاريخ
«يُعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا |
الإمام علي (عليه السلام)
ابن كثير... المحدث المؤرخ
لعل كتاب البداية والنهاية يعتبر من أهم المراجع التاريخية المعتمدة في الفكر الإسلامي، وذلك لما اكتسب صاحبه من شهرة ومكانة كعالم من علماء المسلمين، بحيث سعى في كتابة تدوين التاريخ الإسلامي بطريقة يحفظ من خلالها كرامة هذا التاريخ وعزته ; وخصوصاً المرحلة المباركة! والتي تشكّل الشعلة الأولى للأمّة الإسلامية.
وقد لبس هذا المؤرخ رداء المسلم المشبّع بالمؤثرات السلفية ; فصبغ تلك المرحلة ورجالاتها بقداسة خارقة يتوقف فيها العقل عن ممارسة فعله الحقيقي في الدراسة، وذلك للتراكمات المعرفية المؤطّرة للعقل الفاعل، وجْعلهِ محدود الفعالية.
فبنظر ابن كثير أن تلك المرحلة هي خير القرون، ورجالاتها خير الرجالات، لأن في الحديث النبوي الشريف قد ورد أن خير القرون قرني هذا والذي يليه ثم الذي يليه، ومن هنا ندخل في النقطة الحساسة، وهي هذه القداسة المفتعلة والتي حاول البعض أن يصبغ التاريخ بها. وابن كثير في تاريخه أحد ضحايا هذه الأحاديث حيث لم يكن ذلك المؤرخ الذي يعمل على توثيق الأحداث التاريخية بضرب
إن عملية نقد الروايات والأخبار الواردة لم تكن واردة في ذهن ابن كثير بقدر ما كان همه الكبير هو جمع عدد كبير من الروايات والأحداث ومحاولة إخراجها بشكل يساير طابعه الايديلوجي الطاغي عليه، حيث أن النظر عنده في الرواية، او الحدث التاريخي لا يخرج عن إطارين ; الأول: تمجيد مرحلة الصحابة والتابعين، والانتصار لهذا التاريخ الملغوم ; ثانياً قبول كل ماروي في رفع شأن هذه المرحلة حتى ولو المشهود عليه بالكذب، من قبيل روايات سيف بن عمر التميمي حيث لم يكتف ابن كثير بأخذ الرواية عنه بل ترحم عليه أيضاً(2).
____________
1- عبد الله العروي مفهوم التاريخ: 2 / 343.
2- ابن كثير ـ البداية والنهاية: 5 / 319.
ومن هذا المنطلق فإن ابن كثير تعامل بشكل انتقائي مع الأحداث، بحيث لم يراعي الموضوعية وتواتر الحدث، بقدر ما راعى طبيعة رواة الحدث مما يجعل تاريخه هذا انتقائياً يراد منه الانتصار لجهة معينة دون اُخرى، إذ أن الكتابة التاريخية عنده لم تكن من أجل تدوين تاريخ كما يريده البشر مطابقاً للواقع بل كانت كتابته بالطريقة التي أرادها هو لهذا البشر.
وقد عبر ابن كثير بنفسه عن هذا المنهج الانتقائي بقوله:
«وكان فراغي من الانتقاء من تأريخه في يوم الأربعاء العشرين من جمادي الآخرة سنة 751»(2) وهذا اعتراف ضمني منه بعملية الانتقاء التي قام بها.
ويقول في آخر هذا الفصل:
____________
1- ابن كثير ـ البداية والنهاية: 5 / 222، 223.
2- المصدر السابق: 14 / 194.
وأثناء دراسة البداية والنهاية ستصل حتماً إلى أنّ هذه الانتقائية تغلب عليها السذاجة والعاطفة المذهبية، وكل رواية وتظهر تلك الفترة بشيء من المزايا وعلى علّة مضمونها يصدقها ويسلم بصحتها بحيث يرى أن السعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم(2)، فيغيب بذلك عنده النظر الذي يجعل في المادة التاريخية تناسقاً بحيث لا يغلب عليها الارتجال.
وكذلك لا أظن أن التكرار المتزايد للأحداث هو من قبيل العبث، كما أنه لا يغيب عن أحد أقطاب العلم وهو يؤلف، ولكن هي حركة يراد منها تثبيت فكرة معينة.
كما أن هذا التكرار ليس عاما لكل الأحداث بقدر ماهو خاص بأحداث معينة وقعت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك خلال الفتنة الكبرى.
____________
1- البداية والنهاية: 5 / 214.
2- المصدر السابق: 1 / 4.
«ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور، والتواطئ على معاندة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام وكفر بإجماع الأئمة الاعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام»(1).
هذا القول يرتبط بحديث الغدير وبيعة الامام علي (عليه السلام)، فابن كثير لم يكلف نفسه أن يتتبع الحدث التاريخي مصداقيته التاريخية، علماً أنه مؤمن بصحة الحديث، لكنه لا يريد إيصاله إلى الهدف الذي رسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن هذا في نظره يمس مكانة أولئك الاشخاص المحيطين به (صلى الله عليه وآله وسلم).
وكما قلنا سابقاً أن هؤلاء الأشخاص ماهم إلاّ بشر خاضعين لموضوع الرسالة ولثنائية الجنة والنار، وكان المنافقون ومن تلهيهم أموالهم عن الجهاد في سبيل الله لهم نشاطهم السلبي في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف وهو غائب عنهم.
وهذه المثالية السلفية والمتطرفة لم تقف عند هذا الحد بل جعل من
____________
1- المصدر السابق: 5 / 221.
وبحيث لا يغفل عن بالنا وعلى غير ما ذهب إليه جموع من الناس في أن ابن كثير وإن لم يضطلع بدور سياسي، لكن كانت له مشاركة في صنع القرارات، إذ يذكر في تاريخه أنه اجتمع مع نائب السلطان في بلاد الشام(1)، وذكر له أشياء كثيرة مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب ووعيد العقاب، ويذكر مرة أنه اجتمع بالخليفة ووصفه بأنه متواضع جيد الفهم حلو العبارة رحم الله سلفه(2).
ولا يخفى على أي مطلع أن الطائفة التي عرفت بالمعارضة طوال التاريخ هم الشيعة. فكما كان نصيب الشيعة من السلطان السيف كان نصيبهم سلاطة القلم من ابن كثير. بحيث أنه كان في أي موضع من المواضع يرى فيها قوة أدلة الشيعة يخرج كماً من اللعنات والتلفيقات فيلقيها على الشيعة والتشيع.
علما أن الدقة والتمحيص لازمتين لإخراج الحقيقة من بين ركام من الأحداث حتى تكون المفاهيم والحقائق المطروحة معقولة، وعلى حد قول «رانكه»: يبدأ العلم بنقد التقليد الموروث(3) وإدخاله في تحقيق معرفي مع ذاته حتى تنفرز الأحداث الصحيحة والخاطئة والمكذوبة
____________
1- احمد ابو ملحم عن مقدمة البداية والنهاية.
2- ابن كثير ـ البداية والنهاية: 14 / 257.
3- عبد الله العروي مفهوم التاريخ: 1 / 86.
كل هذه المناهج تؤدي حتماً إلى استخلاص النتيجة الصحيحة، لكن إلى أي حد كان ابن كثير موضوعياً في تعاطيه مع الأحداث والوقائع؟ هذا ما يبينه لنا اسلوبه في عرض الحقائق.
يذكر ابن كثير رزية الخميس، وهي من الأحداث التاريخية الشائكة في الإسلام لأن فيها أولاً أتهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهجر، وثانياً منع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتابة وصية مهمه تعصم الأمة عن الوقوع في الضلال من بعده. فيعلق على هذا الحديث بقوله: وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من الشيعة وغيرهم كل مدع أنه كان يريد أن في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم وأهل المحكم يأخذون بالمحكم ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عز وجل في كتابه وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار(2).
____________
1- المصدر السابق ص86.
2- ابن كثير: 5 / 200.
ويسترسل ابن كثير في ذكر أحاديث يدعو فيها الرسول أبا بكر وابنه عبد الرحمن ويكذب وصيّة تنص على أبي بكر، وهذا مسلك الراسخين على حد قوله.
إن عملية النقد التاريخي لا تكون بهذه السذاجة لأن الأحداث هي بمثابة جزئيات مختزلة من التيار الزماني، قابلة أن تكون أسباباً في حاجة إلى نتائج او نتائج في حاجة لأسباب، وصاحب الأمر في هذه القضية هو المؤرخ الذي يسمي الأشياء، فيقول هذه سابقة وهذه لاحقة بالنظر إلى قضية مطروحة مجموعة من الشواهد يقابل مجموع من الأحداث المذكورة المحفوظة(1). إذن هل سطر ابن كثير النتائج؟ وهل حدد أسباب النتائج؟
الجواب: كلا، لأنّ عملية التأريخ عنده لم تكن إلاّ حالة من محاولات الانتصار المذهبية العقيمة التي لا تفيد العلم في شيء بقدر ماهي محاولات لتكريس التخلف.
وهذا لم يكن بمحض الصدفة ولكن هو نتاج المنهج العلمي والمذهبي الذي تبناه ابن كثير، فما هو الاّ أحد المخلصين لاستاذه ابن
____________
1- انظر: عبد الله العروي، مفهوم التاريخ: 1 / 82.
من هنا تظهر العلاقة الوطيدة بين زعيم التيار السلفي ألا وهو ابن تيمية وتلميذه النجيب ابن كثير الذي كرس كل جهده لتكريس النظرة السلفية ـ التيمية ـ للتاريخ، والذي جعل هذه المدونة التاريخية عبارةً عن سجل دفاع، ورد خصومات، وتهجم على الفرق الأخرى وخاصة الشيعة. ونظراً للترابط الوثيق بين ابن كثير وابن تيمية افردنا لهذا الأخير بحثاً خاصاً وموجزاً يعرض رؤيته التاريخية.
____________
1- احمد أبو ملحم: ترجمة ابن كثير البداية والنهاية 1.
2- المصدر السابق.
ابن كثير وابن تيمية وجهان لعملة واحدة
لقد أسلفنا سابقاً بأنّ ابن كثير كان من التلاميذ النجباء لابن تيمية ومن المدافعين عنه، والحاملين المخلصين لأفكاره. فلا جرم إذن أن تكون هذه الأفكار هي نفسها التي يجهر بها أُستاذه وتنعكس حتماً على مؤلفاته وخاصة موسوعاته التاريخية البداية والنهاية.
ويكون الجامع الوحيد لهما هي هذه المدرسة السلفية التي أرسى دعائمها ابن تيمية وأصبحت المدافع الحقيقي عن هذا الدين! وكل ما عدا هذا الخط الجديد فهو خارج عن إطار الشريعة والسنة المحمدية الأصيلة بزعمهم، وهم السالكون على حد قول ابن كثير منهج الراسخين في العلم الذين لا يضلهم الهوى.
وهذا لا يختلف في شيء عما صرّح به استاذه الجليل تقي الدين ابن تيمية حيث يقول:
«ان أهل السنة هم وحدهم الذين يأخذون بالقصد والعدل في طريقهم بين جموع فرق المسلمين»(1).
____________
1- ابو الحسن الندوي ـ الحافظ ابن تيمية ص278 بواسطة صائب عبد الحميد ابن تيمية حياته وعقائده.
إن هذا مسلك من التدليج يحاول الزام الخلق باتّباع هذا الطريق ولو عن مضض مخافة الخروج على الهدي النبوي! لأنه بنظره أنهم ـ أي أهل السنة ـ لم يتفقوا قط على خطأ(1). وبهذا دخلوا دائرة العصمة وأصبح قولهم هو الفيصل لانهم لا يتفقون على ضلالة(2) وما خالفتهم طائفة في أمر اتفقوا عليه إلاّ الصواب معهم والخطأ مع غيرهم(3).
من هنا يظهر لنا هذا التسطيح في التعامل مع الآخرين والانفراد بالصواب دونهم علماً أنه لا أحد يمتلك الحقيقة بقدر ماهو باحث عنها وهي ضالة المؤمن فحيثما وجدها فهي له.
كما أن ابن كثير تجده يعكس كل أفكار استاذه ويتمثل بكل حالاته المعرفية حتى هذه الحساسية المفرطة من الشيعة والسب فيهم ولعنهم كما سبق ذكره، وفإنها لم يكن هذا الأمر وليدة الصدفة، ولكن هي حالات تعكس ذلك الفيض التيمي على روح ابن كثير، فابن تيمية ألف كتابه منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية وعرف في أوانه بكتاب الرد على الرافضي وذلك في رده على كتاب ـ منهاج الكرامة في
____________
1- ابن تيمية منهاج السنة: 2 / 14.
2- المصدر السابق: 2/ 17.
3- المصدر السابق: 2 / 75.
لو كنت تعلم كل ما علم الورى | طـرا لـصرت صديق كل العالم |
لكن جهلت فقلت إن جـميع من | يهوى خلاف هواك ليس بعالم(2) |
إن هذه الكلمات الأخيرة كافية لمعرفة قدر هذا العالم وبالتالي كل من حدا حدوه واتبع مسلكه، كما أن ابن بطوطة سماه بالعالم ذو اللوثة لما حضر احد دروسه بالمسجد(3) ولمعرفة دقائق الامور من فكره فليرجع إلى كتاب الأُستاذ صائب عبد الحميد «ابن تيميه حياته وعقائده» وكذلك الجزء الرابع من كتاب «بحوث في الملل والنحل» للعلامة جعفر السبحاني.
____________
1- راجع: ابن تيمية حياته وعقائده صائب عبد الحميد ص215 ـ 231.
وجعفر السبحاني بحوث في الملل والنحل ج4.
2- ابن حجر العسقلاني الدرر الكامنة: 2 / 71.
3- ادريس هاني محنة التراث الآخر.