ومرّة أخرى أسمعتهم مقالها، وعرَّفتهم رأيها، يوم اجتمعت بنسائهم قائلة:
" ويحهم انّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة ومهبط الروح الأمين، الطبين بأمور الدنيا والدين ـ تقصد عليّاً ـ ألا ذلك هو الخسران المبين..!
وما الذي نقموا من أبي الحسن؟!
نقموا والله منه نكير سيفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافأوا على زمام نبذه إليه رسول الله (ص) لاعتقله وسار بهم سيراً سجحاً، لا يكلم خشاشه، ولا يتتعتع راكبه، ولأوردهم منهلا روياً فضفاضاً... ".
حتّى تقول:
" وان تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أي لجأ التجاؤا؟ وبأي عروة تمسكوا، لبئس المولى ولبس العشير، وبئس للظالمين بدلا.
استبدلوا والله الذنابا بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعاً، ألا انّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
ويحهم! أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمَّن لا يهديّ الا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون؟ ".
الزهراء صريحة هنا كل الصراحة، ما الذي نقموا من أبي الحسن؟
أفمن يهدي إلى الحق أحقّ أن يتبع أمّن لا يهدي الا أن يهدى؟
وَلِمَ أَبعدوه عن زمام نبذه إليه رسول الله (ص)؟
فهي إن بدأت بحقها في فدك، جاوزته سريعاً إلى حقّ علي في الإمامة.
وهي إن بدأت بحقّ علي انتهت بحقّ علي أيضاً.
وكان ذلك اعلاناً بعد إعلان، وبياناً بعد بيان.
وهي إذ تموت توصي أن تدفن ليلا، ولا يشهد جنازتها أحد من هؤلاء الذين
وهي قبل أن تموت تعلن غضبها وسخطها على أبي بكر وعمر أمام الناس مرّة، واليهما مرّة اخرى حين جاءاها معتذرين فما عذرتهما.
أمّا شيعة علي فقد كان لهم نصيب في هذا الإعلان، وقد نقل المؤرخون احتجاجاً لاثني عشر رجلا من أصحاب علي (ع) صرحوا به أمام الملأ العام في مسجد النبي (ص)(1).
ونرجع إلى علي مرّة أخرى.
فهو لم يقنع برفض البيعة.
ولم يقنع أن كشف للناس رأيه في هذه الخلافة.
إنّما ظلَّ يصطحب الزهراء (ع)، يطوف بها ليلا على بيوت الأنصار، ولمدّة أربعين يوماً على ما تتفق عليه المصادر التاريخية.
وهو في هذا الطواف يشرح للأنصار واقع المنحى الذي اتجهت إليه التجربة الإسلامية حين أخذ الزمام من قيادتها الحقيقية، والزهراء معه تشرح لهم أبعاد ما يؤول إليه هذا الواقع.
وباستمرار كان علي (ع) وكان الخط الشيعي كلا يعمل إلى ترسيخ هذا المفهوم عن خلافة السقيفة، واعتبار الوضع وضعاً استثنائياً، وفي حالة غير طبيعية.
كان ينبه الأمة على أنها لا تعيش التجربة الإسلامية الحقيقية، وكما أرادها رسول الله (ص) وأرادها الإسلام، وبالتالي يجب أن لا يفهم الإسلام من هذه المداخل غير الطبيعية.
____________
1- انظر هذه الاحتجاجات في (المراجعات) للعلامة شرف الدين.
أي موقف أغرب من هذا الموقف، وأوضح منه دلالة في نفس الوقت.
كان علي في هذه اللحظة بالذات قادراً على أن يربح الحكم، لكن ذلك يكلفه الاعتراف بالشريعة لخلافة السقيفة، وهو لا يريد ذلك، فرفض رفضاً وهو يعلم انّ القيادة ستبتعد مرّة ثالثة، وهو يعلم انّ القيادة ستصير إلى عثمان، لكنّه كيفما كان لا يرى من صالح الرسالة أن يقبل البيعة وفيها الاعتراف بقيموميّة الشيخين على الرسالة.
وبهذا كان واضحاً لدى الرأي العام انّ علياً غير منسحب عن رأيه في خلافة السقيفة، وهو ما يزال يرى نفسه صاحب الحقّ الشرعي، رغم أنه عملياً قد بايع هذه الخلافة.
الخليفة الثاني (رض) كان يعرف هذه القضية جيداً. وكان يودُّ من أعماقه لو انّ علياً يتنازل له حقيقة وينسى الماضي.
كان يقول لابن عباس:
" حدّثني في صاحبكم هل بقي في نفسه من هذا الأمر شيء؟ ".
ولقد بلغ هذا الوضوح في موقف علي إلى درجة قيل فيه:
" إنّ ابن أبي طالب ما زال يطلب الملك ".
وحين دراستنا للموقف السياسي سنقرأ إن شاء الله نشاط الشيعة في الدعوة لعلي، وذاك يعني بطبيعة الحال التأكيد للرأي العام أنّ علياً هو صاحب الحقّ الشرعي، وانّ التجربة بمعزل عن قيادته تعيش وضعاً غير طبيعي.
فخلافة السقيفة لم تحكم فقط وإنما رسمت للرسالة خطاً معيّناً، في المفاهيم، والأهداف، وطريقة فهم الشريعة عموماً، بينما علي (ع) لا يؤمن بذاك الخط ويرفضه، ونحن سنرى إن شاء الله ان حكم الشيخين أصبح فيما بعد هو المستقى الذي اخذت عنه المدرسة السنيّة مجموع تصوراتها عن الرسالة.
إذن فعلي حين جاء إلى الحكم وبمقدار ما كان يسعى عملياً وممارسة مسح الأخطاء والتحريفات المتقدّمة سعى نظرياً لتأكيد وجهة نظره في خلافة السقيفة. فأعلن صريحاً أنها خروج عن الخط الطبيعي الذي وضع للتجربة الإسلامية.
ولعل خطبة الشقشقيّة كانت من أوضح وآكد تصريحاته في هذا السبيل.
" أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وانّه ليعلم انّ محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عين السيل، ولا يرقى إليَّ الطير، فسلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين ان أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه... ".
ويستمر في عرض أصدق صورة عن خلافة السقيفة، حتّى ليوضح للناس انّه فكّر في مناهضتها ومقارعتها السيف.
وحين استشهد الإمام علي (ع) جاء الحسن (ع) ليؤكد للناس ان الفشل السياسي الذي أصيب به الخط لا يزعزع من قيمة الخط نفسه، ولا يقتضيه للانسحاب ونقض تصوّراته وقناعاته.
كان علي هو الذي أوصى للحسن (ع) واستخلفه، أشياقاً مع رأيه في الحكم، يوم قال:
" لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ما كان منّا القارئ لكتاب الله... ".
وحينما جاء الإمام الحسن (ع) واضطرته الظروف السياسية ـ كما سنشرح ـ لأن يصالح معاوية صالح معاوية، لكن دون أن يعطيه أي قدر من الشرعية، وأي اعتراف بالقانونيّة.
صالحه على أن لا يدعوه بأمرة المؤمنين، وأمام الناس جميعاً قرئ كتاب الصلح، وكشف النقاب عن محتواه.
فقد جرّده إذن ـ ولو نظرياً ـ من إمرة المؤمنين، ومن الزعامة.
وحينما إشترط في الصلح أن تكون الخلافة له بعد معاوية، ثم لأخيه الحسين إن لم يكن هو في الوجود، كان ذلك كافياً لترسيخ المضمون الفكري للخط، وتحديده وتعميقه للناس رغم كل الحراجة والضغوط السياسية. إذن فالحسن الآن هو الخليفة الحقيقي، والزعيم الشرعي، ومن بعده الحسين، وليس لمعاوية شيء في ذلك سوى انّه غاصب، وغاصب فقط. كان المطلوب والمقصود في هذه المرحلة جرّ الرأي الإسلامي نحو الإعتراف بزعامة أهل البيت، واعتبارهم الممثل والزعيم والموجّه الحقيقي.
وكانت كلّ الخطوات مرسومة وموضوعة من أجل هذه الغاية، من علي وعمار وسلمان وأبي ذر، وإلى الحسن وأصحاب الحسن، ثم إلى الحسين (ع).
علي (ع) حين كان يدعو لنفسه، ويرشح نفسه، كان لا ينسى التأكيد على المحتوى الحقيقي للفكرة، فهو لا يرشح نفسه لأنّه علي، وانّما لأنّه واحد من أهل البيت الذي أعطيت لهم القيادة بوصفهم:
" القارئ لكتاب الله، الفقيه لدين الله، العالم بالسنّة... ".
بهذا الإتّجاه استخلف الحسن.
وبهذا الإتّجاه رفض الحسن أن يعترف لمعاوية ـ رغم انّه مضطر لمصالحته ـ
وبهذا الإتّجاه اشترط أن تكون الخلافة له ثم للحسين.
وسياسياً كان الحسن (ع) يرعى صالح الخط، لأنّه يرعى صالح الإسلام نفسه.
والأمة اليوم أمام مفترق طرق، والإسلام يواجه ضربة عنيفة، ضربة يسدّدها معاوية لتركيع الوجود الإسلامي كلّه، والإنزلاق به إلى وادي معاوية وبني معاوية، حيث تتحرَّف وتموّه وتزيَّف كلّ مفاهيم الرسالة ثم تخرج إلى الناس باسم الرسالة وهنا كان الحسن (ع)..
كان مسؤولا عن وضع العلائم والدلائل على الخط الآخر، والايضاح للناس انّ خط معاوية ليس هو خطّ الإسلام الحقيقي، انّما خط (أهل البيت).
وإذا كان هذا هو خطّ الإسلام فالحسن يسعى لصالح هذا الخطّ..
كان من أهم أهداف الحسن (ع) في الصلح الحفاظ على الوجود الشيعي المهدّد، والذي يواجه أخطر محاولة لتصفية نهائية أخيرة.
ولقد استطاع (ع) أن يستخدم حتّى معاوية نفسه لترسيخ هذا الخط من حيث لا يشعر فقد إشترط عليه " أن لا يتتبع شيعة عليّ وأن يعطي من له شهيد وأن لا يسبّ علياً ".
وبالرغم من انّ معاوية لم يلتزم بذلك عملياً، الاّ انّه سجَّل على نفسه وفي التاريخ محتوى هذا الخط، ووجود هذا الخط.
فهناك علي، وهناك شيعة علي، والحرب ليست حرب أشخاص وإنّما حرب خطوط.
لقد اشترط عليه أن يرفع السبّ عن علي.
ولقد كان معاوية يدرك حقيقة المعركة، كما كان الحسن والخطّ الشيعي كلا
والاّ فما معنى أن يتخذ معاوية سبّ علي سنّة، والحال قد انتهى علي.
وما معنى أن يعلن للناس البراءة ممن ذكر حديثاً في علي.
وما معنى أن يكتب لعملائه في الأقطار أن يضعوا في الشيخين وفي عثمان وفي عموم الصحابة مئات الأحاديث، ولا يدعوا فضيلة لعلي الاّ وجاؤوا بمثلها وأحسن منها للشيخين.
لقد بدأت معالم الخطوط تتّضح أكثر وتتجدد، وأصبح خط علي يأخذ موقعه، وسوف نرى بالتدريج أنّه سيصبح في نظر الناس الخط المعبّر عن الإسلام اُنظروا....
بعد سنوات، وبعد أن مات الحسن ومعاوية وجاء يزيد، ظهر أكبر تكتل في الوسط الإسلامي يحمل اسم علي.
انّ علياً قد انتهى بشخصه، كما انّ خصوم علي قد انتهوا بأشخاصهم، لكن علياً يمثل خطاً.
لقد ظهر أكبر تكتل يحمل اسم شيعة علي، والآن دعا لبيعة الحسين.
والحسين حينما ثار ماذا قال للناس؟ لقد جمع الحجيج وخطبهم معلناً عن بطلان حكومة يزيد، وداعياً للثورة عليها.
كان واحداً من أهداف الحسين في نهضته أن يركز الخطّ ولو نظرياً، وفي فهم الناس. كيف؟
لأن آلاف الناس في الكوفة دعوا الحسين لمبايعته، وقالوا نحن شيعتكم وأنتم قادتنا ولا غيركم.
لماذا لم يكتب هؤلاء إلى رجل آخر من رجالات الإسلام؟
إلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير؟ لماذا الحسين خاصة؟ صحيح
انّهم أصبحوا يدكرون انّ خطّ علي هو الخط الذي يحمل هموم الرسالة، ولذلك فهو الذي يعاديه خصوم الرسالة.
والحسين يريد أن ينمي هذا الشعور، ويعمق هذا الفهم، وهو لذلك لا يريد أن يخيب ظن هؤلاء به، وبالتالي يفقدوا ثقتهم بالخط كلّه.
وهو حتّى لو علم بأنّهم خاذلوه فيما بعد وتاركوه، فانّه لا يترك الجهر بهذا الصوت لكي يعرف هذا الصوت.
تركيز الخط، ووضع قواعده، وجرّ الناس إليه، كان واحداً من أهداف ثورة الحسين.
انّ الدم الذي سال في كربلاء لم يجف حتّى عرّف الناس كلّهم انّ أهل البيت هم رمز الإسلام ومركزه. ليس الحسين وحده ولا وحده ولا، انّما أهل البيت كلّهم.
ولذا فإنّ الدعوات والثورات التي اعقبت ثورة الحسين، كانت جميعاً تحمل اسم أهل البيت.
أرأيت الآن ماذا صنع علي والحسن والحسين (ع).
انّهم وضعوا القاعدة، أو بالأحرى ركزوا القاعدة التي وضعها رسول الله (ص)، ركزوها نظرياً.. من خلال تأكيد وتعميق وترسيخ صوت أهل البيت. وركزوها وجوداً وخارجاً.. من خلال رعاية المؤمنين بالخط وتحصينهم، وجرّ الناس الآخرين للدخول في قواعد الخط.
وبهذا بدأ يتكاثف بسرعة هائلة عدد الشيعة المؤمنين بأهل البيت، ورسخ في فهم الناس خطّ أهل البيت بوضفه الطريقة الصحيحة للإسلام.
المهمة الثانية: مواجهة المشكلة العلميّة:
لسنا بحاجة إلى تكرير الحديث عن أصل المشكلة، حجمها ومناشئها.
فإنّ طبيعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت بعد عصر الرسول (ص) كفيلة بأحداث تراكماً في الأسئلة، سواء في القضايا الشرعية أو العقيدية، وسواء ما يتعلق بالأحوال الشخصية، أو الأحوال المدنية والإدارية والسياسية.
خصوصاً وانّ عمر التجربة المحمديّة كان قصيراً، فقد مضى رسول الله (ص) وبعد لم يكمل فتح الجزيرة، ولم يعش محمد (ص) الاّ عشر سنوات كانت مكرّسة لبناء المجتمع الإسلامي ووضع خطوطه الأُولى.
أمّا الآن:
فهناك الوقائع التي لم يُسئل عنها رسول الله (ص) ولم يكن له فيها حديث، وهناك المسائل المستحدثة التي طرأت على المجتمع الإسلامي بأخرة، كمسائل الإقتصاد، والإدارة.
وهناك الإحراجات العلمية العنيفة التي يثيرها علماء اليهود والنصارى ممن لم يواجهوا رسول الله أيام حياته.
ولقد كانوا سألوا رسول الله (ص) أيام حياته عن مسائل شتى، سألوه عن الروح، وعن الساعة، وعن الأهلة، وكان رسول الله مسدّداً بالوحي فلا يقف عند سؤالهم.
أمّا وقد غاب شخص الرسول (ص) فإن على أمّة الإسلام أن تجيب وتواجه كلّ التحديات.
وتاريخ الإسلام في هذه الحقبة سرد لنا العديد من الأسئلة التي تقدم بها علماء أهل الكتاب، بغاية إحراج المسلمين، وانتزاع ثقتهم بأنفسهم ورسالتهم، هذا عن أصل المشكلة العلمية.
وما يهمّنا الآن هو التعرف على مستوى استعداد الأمة، وقدرتها على مواجهة
أمّا استعداد الأمة فانّه بلا شك لم يكن بمستوى المشكلة، ولم يوفّر الحدّ الأدنى لحلّها.
والاّ لم تلجأ الخلافة الحاكمة إلى فتح باب الرأي، والاجتهاد الشخصي، ولم تتورط الأمة في اختلافات فقهية كثيرة وعريضة بين الصحابة أنفسهم، حتّى انّهم اختلفوا في أبسط المسائل في طريقة الوضوء، والصلاة على الميت، والتشهد في الصلاة، والتيمم، وغسل الجنابة، فكيف بالمسائل النادرة، والمعقّدة، والجديدة. بل كانت الخلافة الحاكمة تمنع من السؤال وتعاقب عليه أحياناً، لقد أثقلت المشكلة العلمية ظهر الخلافة الحاكمة، حتّى كان أبوبكر يستقيل بيعته، وكان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن.
أمّا درجة خطورة هذه المشكلة فيمكن تسجيلها فيما يلي:
أولا: حينما تكون الأمة عاجزة عن مواجهة التحديّات العلمية، كما وعاجزة عن التعرّف على وجهة نظر رسالتها في مجموعة كبيرة من الأحداث والمسائل نتيجة لعدم استيعابها للرسالة، فإنّها ستقترب إلى الشك برسالتها تدريجياً، وتفقد الثقة بها، بوصفها الرسالة الشاملة والصحيحة.
وإذا لم يدعها ذلك إلى الشك في رسالتها، فانّه سيدعوها حتماً إلى الشك في امكانية العمل في ضوء تلك الرسالة، والحال انّها لا تملك تفاصيلها، ولا مستوعبة لها.
انّ أخطر مشكلة تواجهها الرسالات عموماً هي الفراغ الذي يحدث بموت القائد، وعدم وجود البديل الكفؤ له، والمستوعب لكل مفاهيم وأبعاد الرسالة. وفي كثير من الأحيان تعتبر ساعة موت القائد ساعة موت الرسالة كلّها.
ومنشأ الخطورة انّ هذا الفراغ يكون باعثاً على القلق، وداعياً إلى الشك في
وهذا الشك يعني انّ الأمة سوف لا تكون مستعدّة للتضحية من أجل رسالة مشكوكة، ولا حريصة كلّ الحرص على مستقبلها، وبالتدريج يتحول هذا الشك إلى انسحاب عن الرسالة واستبدالها.
وفي تاريخ الإسلام شاهد على هذه الحقيقة.
فيوم ظنّ المسلمون انّ محمداً (ص) قد قتل ـ في معركة أحد ـ ماذا حدث؟ لقد تخلى الجميع ـ عدا نفر قليل ـ عن الرسالة، ونفضوا أيديهم منها، لا خوفاً من القتل، وانّما يأساً من الانتصار الحقيقي، لأنّهم لم يكونوا بمستوى الرسالة، ولا هضموها فكيف يقاتلوا من أجلها؟
ويوم مات رسول الله (ص) ارتدّ كثير من الأعراب لماذا؟
لا حبّاً في الجاهلية، واعتزازاً بالشرك، وانّما لفقدان الأمل بالرسالة الجديدة، واليأس منها.
والواقع انّ المشكلة لم تكن تواجه الأعراب وحدهم، كما ان قمع حركة الردَّة بإرسال الجيوش لها لم يكن ليمنع من ردّة بطيئة تجتاح الأمة المسلمة كلّها وليس الأعراب وحدهم.
انّ المهاجرين والأنصار سيقعون في أسر المشكلة يوم يستشعرون الفراغ، ويوم لا يجدون رسالتهم عند كل نداء، وكل سؤال.
وحينذاك تتحقق ردّة غير معلن عنها، لكنّها ردّة على أي حال، وتنكُّر للرسالة، وابتعاد عنها، وكفر بقيمها وقيمومتها.
ثانياً: حينما تعيش الأمة وقيادتها أيضاً درجة من القصور العلمي، فإنّها ستضطر لا محالة إلى اصطناع وسائل من أجل سدّ الفراغ.
وتسبغ عليها طابع الشرعية في الوقت نفسه.
لكن هذه الوسائل بطبيعة الحال ليست شرعية، ولا مدوّنة في أصول الرسالة،
فإنّ اصطناع مثل هذه الوسائل ليس في صالح الرسالة، ولا يعالج المشكلة جذرياً، ما دامت وسائل دخيلة، ومتطفلة على الرسالة.
ونستذكر هنا على سبيل المثال الوسائل التي اتّخذتها خلافة السقيفة لسدّ الفراغ.
أوّلا: النهي عن السؤال حول معاني الآيات القرآنية.
ثانياً: فتح باب الرأي والاجتهادات الشخصية.
أمّا الأسلوب الأول فواضح انّه لا يحل المشكلة فإنّ السؤال سيبقى مادام لهذا القرآن بقاء، والنهي عن السؤال اعلان عن العجز، وخلق حالة غير طبيعية ولا صحيحة في تعامل الناس مع الكتاب الكريم.
أمّا الأسلوب الثاني فهو من ناحية لا يضمن لنا صحّة الموقف المتخذ على أساسه، مادام رأياً شخصياً غير مستند إلى الوحي.
وهو من ناحية ثانية سوف لا يقتصر على دائرة المسائل الخالية من نصّ شرعي وإنّما يتجاوزها طبيعياً إلى دائرة النصوص الشرعية.
لأن الرأي حينما يوضع مصدراً للشريعة، وفي صف الكتاب والسنّة، فإنّ ذلك سيهوّن كثيراً الخروج على الكتاب والسنّة مادام الرأي متَّبعاً.
ومن هنا لوحظ انّ خلافة السقيفة لم تعمل بالرأي في حالة عدم وجود النص الشرعي فقط، وإنّما استهانت بقيمة النص، وخرجت عليه في أكثر من مرّة، بل وأعطت نفسها الحقّ في أن تنسخ الأحكام الشرعيّة وتبدلّها إذا شاءت. حتّى كان عمر يقول: " متعتان أحلّهما محمد وأنا أحرّمهما " ومعلوم انّ الرسالة حين تخضع لاختيارات الناس واجتهاداتهم الشخصية فإنّها تسير إلى الموت المحتوم.
والآن ما هو دور علي؟ ودور الطليعة الشيعية عموماً.
كان وحده القادر على انقاذ الأمة من هذا المأزق، لكنّه لا يستطيع أن يفعل كل
كان عليه أن يؤدي مهمّته دون أن يثير الشكوك، ودون أن يدع الخلافة الحاكمة تتحفز للحذر منه.
وانّه في ظل وضع سياسي من هذا القبيل لا يستطيع أن يرتبط بالأمة مباشرة ضمن حلقات تدريس كبيرة أو صغيرة، كما لا يستطيع أن يدعو الأمة لنفسه، ولترجع إليه في مسائلها العلمية، فمن المتوقع جدّاً أن لا تكون هذه النشاطات مسموحة له، طالما تخلق له في الأمة مكانة اجتماعية تحذر منها الخلافة الحاكمة.
كان عليه أن يتحرك بكل هدوء، وينتظر فرصة اضطرار الخلافة الحاكمة للرجوع إليه، دون أن يقدّم نفسه أولا بأول.
وانّ له تجربة سابقة مع الخلافة الحاكمة عرّفته كم يجب أن يتخذ من الهدوء في هذا المجال، والاّ فإنّه سيحرم الأمة من طاقاته العلمية.
ذلك يوم جمع القرآن، وقدّمه بين يدي الخليفة الأوّل فرفضه. انّ هذه التجربة ذات معنى كبير وواضح.
ومن هنا وجدنا علياً حتّى في عهد الخليفة الثاني، حيث برز نجمه، فكان مرجعاً للمسلمين وللخليفة علناً، حتّى في هذا العهد كان كثيراً ما يجتنب الابتداء بالقول، وينتظر أن يسأله الخليفة فيجيب.
وعلى الرغم من صعوبة هذا الوضع فقد استطاع علي أن يكون مرجعاً للخليفة الأوّل وللثاني ولعموم المسلمين.
كان علي هو الذي يجيب علماء اليهود والنصارى الذين وفدوا بلاد الإسلام لاختبار الخليفة، وزعزعة ثقة المسلمين برسالتهم.
كما انّ الصحابة أنفسهم كانوا يرجعون الناس إلى علي فيما أشكل عليهم من الأمور.
أمّا في عهد الخليفة الثاني فقد أصبح هو الرجل الأول والأخير في هذا الجانب، حتّى كان الخليفة يمشي إليه سائلا حين يعزب عنه الجواب.
ولقد بلغت مشاركة علي (ع) إلى حدّ كان يتعوّذ الخليفة من معضلة ليس لها أبو الحسن، وانّه ليفزع إليه في كل ملمّة، ويشعر بالاطمئنان مادام علي موجوداً، لقد كان يقول حين يواجه مسألة لا يعرف حلّها: " ليس لها الاّ أبو الحسن ".
على انّ قيمة هذه المشاركة ليس ـ فقط ـ فيما يعطيه علي من اجابات عن مسائل متفرقة هنا وهناك، وإنّما في تعزيز ثقة الأمة برسالتها، وربطها بها أكثر فأكثر.
انّ المردود النفسي لهذه المشاركة، في نفس الخليفة، وفي مجموع الأمة أهم للرسالة، وأكثر نفعاً.
لقد استطاع علي من خلال تصدياته لكل الأسئلة والإحراجات العلمية، سواء ما تقدّم بها علماء أهل الكتاب، أو ما تورّط فيها المسلمون أنفسهم، ان يُقبع الأمة جميعاً بأنها تملك الحقيقة، وتملك التفوق على كل الخصوم، وانّ رسالتها لا تنفد، ولا تعجز عن اجابتهم عند كل نداء.
وكان علي يشارك لا بنفسه فقط، وإنّما بامتداده وبتلاميذه.
كان هناك (عبد الله بن عباس) حبر الأمة، وعلماً كبيراً في القرآن والسنة، وكان له مع الخليفة الثاني صلة وثيقة غاية الثقة.
لكن ابن عباس هذا يعترف بإنّه تلميذ من تلامذة علي (ع) وانّه علمه لا يساوي إلى علم علي الاّ كقطرة من بحر.
المهمة الثالثة: الرقابة الرسالية:
ما زال الباحثون يؤكدون القول بأن علياً كان معارضاً للخلفاء الثلاثة، على اختلاف في درجة هذه المعارضة بين عهد الأول والثاني وبين عهد عثمان.
وهذه الظاهرة هي ما نريد أن نشرح حقيقتها الآن، ونعرف موقعها من مهمات الخط الشيعي في هذه المرحلة بالذات.
انّ المدلول الحقيقي لهذه المعارضة ذو عمق رسالي وبعد ديني كبير. وليس كما قد يبدو للخيال أن طبيعة الصراع القديم بين علي والخلافة الحاكمة هي التي خلقت هذه الظاهرة، ووضعت علياً في موضع المجابه للخلافة.
الواقع انّ هذه المعارضة كانت تمثيلا لمهمة الرقابة الرسالية على مسير التجربة بعد الرسول (ص).
فلقد كان متوقعاً أن تسير الأمة بعد رسول الله (ص) باتجاه منحرف، ولقد شهدت الأمة حقّاً بدايات الانحراف، كما انّ خلافة السقيفة ـ على ما تقدّم ـ لم تكن بمستوى حاجة المرحلة، بل هي نفسها قد تورّطت في عثرات انعكست آثارها بسرعة على الرسالة.
كان لابدّ من رقيب يشرف على كلّ خطوة خطوة، سواء لمجموع الأمة أو لخصوص الخلافة الحاكمة. ولقد كانت الخلافة نفسها تعترف بحاجتها لهذا الرقيب كان أبوبكر يقول: " ولّيت عليكم ولست بخيّركم " و يقول: " إذا زغت فقوّموني ".
لكن من هو هذا الرقيب..؟
الأمة بمجموعها لا يمكن أن تكون هي الرقيب، لأنّها لم تستوعب رسالتها، ولم تهضم قيمها، ولا تخلصت من رواسب الماضي تماماً. ومثل هذا المستوى كيف يعطى حقّ الرقابة؟!
وهذه الأمة هي التي ستعرض على محمد (ص) فاذا بقوم من أصحابه يجاؤون دونه فيقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال: انّك لا تدري ما أحدثوا بعدك كما جاء في الحديث الشريف عنه (ص).
مثل هذه الأمة كيف يمكن أن تكون هي الرقيب على مسير التجربة؟! ومتى تستطيع أن تقوّم الخليفة إذا زاغ، وترشده إذا انحرف؟ ومن يضمن أن لا تنحرف هذه الأمة بانحرافه، وتسير مثل سيره؟ أليس شهدنا ذلك عياناً في عهد عثمان؟! حتّى كان ليحرّف الصلاة فيتبعه الناس خوف الفتنة، وخوف الشقاق؟!
على انّ الأمة لم تكن مستعدّة لجلب غضب الخلافة وعدائها.
وهي لا تملك من الوعي قدراً يشعرها بضرورة التضحية في هذا السبيل، كما انّها لا تملك قدراً من الوعي والنضح يمكنها من تشخيص الانحراف ثم محاربته.
ومن هنا لم يجرأ أحد لمعارضة أبي بكر يوم أسقط الحدّ عن خالد سوى عمر. ولم يجرأ أحد أن يعارضه حين أراد مخالفة السنّة في قطع يد السارق، بينما أراد قطع رجله، الاّ عمر بن الخطاب أيضاً، حيث كان يأمن سطوة الخليفة، ولا يخشى سخطه.
ويوم حكم عمر بن الخطاب كان الناس يهابون درّته، حتّى ليخافونها أكثر مما يخافون الله، وفي مثل هذا الحال من كان يعترض على الخليفة؟ ولأدنى شيء كانت الدرّة تعلو الرؤوس، وتلوّع الأبشار.
قليل هم الذين يملكون القدرة على مواجهة الخليفة، والاستعداد لتحمل غضبه.
ومهمة الإشراف والرقابة تتطلب زائداً على الاستيعاب لكل تفاصيل الرسالة التأثر المطلق بها، والالتحام التام مع مفاهيمها وقيمها، والقدرة على تجسيدها عملياً وتوجيه السلوك على اساسها، وهذا ما لم يكن متوفراً حتّى للخلافة الحاكمة، على ما تقدّم الحديث فيه مفصلا.
انّما شخص واحد كان هو القادر على اداء هذه المهمة، لأن الرسول (ص) أعدّه خصيصاً لهذه المهمّة.
ولقد سبق أن أعطاه رسول الله (ص) هذه القيمومة على الرسالة وعلى التجربة.
فكان يقول: " إذا أقبلت الفتن فعليكم بعلي ".
لكن علياً بعد أن صرف عنه الحكم، كان مسؤولا عن توجيه وتصحيح مسيرة التجربة الإسلامية، والسعي من أجل إنجاحها لفترة أطول.
وإذا كانت التجربة قد بدأت بالتعثر، والإبتعاد التدريجي عن واقع الإسلام، فإن ما كان في مقدور علي، وتحت مسؤوليّته، هو مواصلة الجهد من أجل تخفيف سرعة الانحراف، ومن أجل الحفاظ على قيمومة الرسالة في الأمة لعمر أطول.
وهذا الهدف هو الذي جعله يبرز بصفة معارض للحكومات الثلاثة.
ورغم انّ العلاقة بينه وبين الخليفة الثاني تحسَّنت فيما بعد، فإن ذلك لم يمنع من تسجيل طابع المعارضة في مواقف علي، لكنّها المعارضة التي تحمل معنى التصحيح والتوجيه واحياناً الضغط والمواجهة من أجل التحفظ على قيمومة الرسالة قدر الإمكان.
انّ أخطر مشكلة كانت تواجه الرسالة بعد الرسول (ص) هي أن تفقد تدريجياً قيمومتها في الأمة، وفي نظام الحكم، وتسقط كلمتها عن الاعتبار، وتنسحب
وخلافة السقيفة مهما جهدت في التزام الإسلام، وتسيير الأمة على أساسه، الاّ انّ الضرورة كانت ما تزال قائمة لاشعارها بالمقاومة لو دخلت بدايات الانحراف أليس أبوبكر نفسه كان يقول: " إذا زغت فقوموني ".
وكان يقول أيضاً: " إذا غضبت فاجتنبوني ".
ربما تقع الخلافة في غفلة، وربما وقعت تحت تأثير عواطف، ونزعات، وميول نفسية تحرفها عن تطبيق حكم الرسالة، وربما انحرفت وهي لا تشعر بالانحراف، وربما اتخذت موقفاً وهي لا تعرف خطورته على الرسالة في المستقبل القريب أو البعيد.
كل هذه الاحتمالات موجودة، مادامت الخلافة الحاكمة غير مستوعبة للرسالة تماماً، ولا متخلصة من رواسب الماضي العتيق.
وإذا لم يقف أحد بوجه الانحراف، يقوّم زيغ الخليفة، ويضطره إلى اتباع الحق، فانّ الانحراف سيتسع لا محاله، وسوف يكبر وينمو ويتزايد، وتنهار التجربة الإسلامية في أسرع وقت، وفي أقصر عمر.
كما انّ الإستسلام لرأي الخليفة ولو كان على حساب حكم الشريعة سيهدم قيمومة الرسالة في نظر الناس، وسوف لا تكون كلمة القرآن، وسنّة الرسول (ص) هي الحاكمة، وهي القيّمة.
وهذا أمر حدث بالفعل فقد كان الناس يتبعون رأي الخليفة وهم يعلمون مخالفته للقرآن والسنّة.
ومن هنا سعى الخطّ الشيعي في هذه المرحلة لأمرين:
أولا: الضغط على الخلافة الحاكمة، من أجل التطبيق الحرفي لأحكام الرسالة، القرآن والسنّة.
ثانياً: اعلام الأمة باستمرار انّ كلمة الرسالة هي القيّمة، وأن ليس من صلاحيات أحد مهما كان موقعه في المجتمع أن يتصرّف في أحكام الرسالة، أو يخرج عليها. وانّ من حقّ كل شخص بل من مسؤوليّته أن يعترض على أية مخالفة للقرآن والسنّة مهما كان عنوانها وبأي غاية، مادام ذلك خرقاً لقيمومة الرسالة وخروجاً عليها.
وعلينا أن لا ننسى ونحن ندرس هذه المهمة، أثر الوضع السياسي الذي كان يعيشه الخطّ الشيعي في هذه المرحلة. ففي الوقت الذي التزم الخطّ هذه المهمة، كان يدرك انّ قدراً كبيراً من التحفظ والاحتياط والاناة يجب التزامه، والاّ فانّ المجازفة في هذا السبيل تعني انتحار الخطّ كلّه والقضاء عليه.
ومن ذلك وجدنا انّ مستوى النشاط في هذه المهمة يتبع تقلبات الوضع السياسي. كما ويتبع أيضاً حجم المخالفات التي تتورط بها الخلافة الحاكمة وعلى العموم كان الشيعة يمثّلون دور الرقيب والمصحّح.