الصفحة 29

3 ـ من السُنّة النبويّة:

وهي كثيرة جداً، وإنّما نكتفي بما يناسب البحث:

* حديث الدار في يوم الاِنذار:

وهو من الاَحاديث التي لا شكّ في صحّتها، وقد ذكرته كتب الفريقين في الصحاح وغيرها...

منها: ما أخرجه أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره الكشف والبيان عن البراء بن عازب قال: «لمّا نزلت هذه الآية: (وأنذر عشيرتك الاَقربين) جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبدالمطّلب وهم يومئذٍ أربعون رجلاً... ثمّ أنذرهم رسول الله فقال: يابني عبدالمطّلب! إنّي أنا النذير إليكم من الله عزّ وجلّ والبشير، فأسلموا، وأطيعوني تهتدوا.

ثمّ قال: من يؤاخيني ويؤازرني، ويكون وليّي ووصيّي بعدي، وخليفتي في أهلي، يقضي ديني؟!

فسكت القوم، فأعادها ثلاثاً، كلّ ذلك يسكت القوم ويقول عليٌّ: أنا.

فقال في المرّة الثالثة: أنت.

فقام وهم يقولون لاَبي طالب: أطع ابنك، فقد أُمِّر عليك!

هذا، وقد أُخرج الحديث بطرق متعدّدة، وفي صورٍ مختلفة، منها ما ذكره أحمد بن حنبل في مسنده 1/111، وتاريخ الطبري 2/62، والكامل في التاريخ 2/40، والنسائي في الخصائص: 18، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3/200، والسيوطي في جمع الجوامع 6/408، والحلبي

الصفحة 30
في سيرته 1/304.

وفي الحديث دلالة واضحة على الوصاية والخلافة من بعده وإنْ عزَّ على بعضهم الاِقرار بها! كما فعل الطبري في تفسيـره 19/74 عند قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أيّكم يؤازرني على هذا الاَمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ «مستبدلاً» الكلمتين الاَخيرتين بـ «كذا وكذا»!!.

وهكذا فعل ابن كثير في تفسيره أيضاً 3/351!!

ولا أعتقد أنّ لهذا مبرراً سوى إنّه تحريف للكلم عن مواضعه.

حديث المنزلة:

وهو حديث متواتر متّفق على صدوره من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رواه جمع المحدّثين بما فيهم أصحاب الصحاح، كالبخاري في صحيحه 5/24، ومسلم في صحيحه 6/120 ـ 121، والترمذي في جامع الصحيحين 13/175، والنسائي في الخصائص: 14، وابن كثير في البداية والنهاية 7/340، وابن الاَثير في أُسد الغابة 4/26، وأحمد بن حنبل في المسند 2/74.

ونصّ الحديث ـ كما فى البخاري ـ أنّه لمّا أراد الرسول الخروج إلى غزوة تبوك خرج الناس معه، فقال عليّ: «أخرج معك؟».

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا».

فبكى عليٌّ، فقال له رسول الله: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي».


الصفحة 31

حديث الغدير:

كأنّ الدكتور قد غاب عن ذهنه أنّ عمدة الاَدلّة عند الشيعة الدالّة على النصّ هو حديث الغدير، الذي نصَّ على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وقد تحقّق عند الجميع بأنّه قد روي، وثبت عند الفريقين.

وقد ورى ابن عساكر في تاريخ دمشق 2/45، قال: «أخبرنا... عن حذيفة بن أُسيد، قال: لمّا قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجّة الوداع نهى الصحابة عن شجرات البطحاء متقاربات أن ينزلوا حولهنّ، ثمّ بعث(1) إليهنّ فصّلى تحتهنّ.

ثمّ قام فقال: أيّها الناس! قد نبّأني اللطيف الخبير، أنّه لم يعمّر نبيٌّ إلاّ مثل نصف عمر الذي يليه من قبله، وإنيّ لاَظنّ أنّه يوشك أن أُدعى فأُجيب...

ثمّ قال: أيّها الناس! إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وإنّي أوْلى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه.

ثمّ قال: أيّها الناس! إنّي فرطكم وإنّكم واردون عليَّ الحوض... وإنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما! الثقل الاَكبر: كتاب الله سبب طرفه بيد الله عزّ وجلّ، وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلّوا ولا تبدّلوا؛ والثقل الاَصغر: عترتي أهل بيتي، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

____________

(1) وفي روايات أُخرى: «غدا» أو «عمد» إليهنّ.


الصفحة 32
وقد ذكر الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي في كتابه شبهات حول الشيعة(1) عدداً من الاَسانيد المنتهية إلى صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من كتب أهل السُنّة وصلت إلى 245 طريقاً ذُكرت في:

مسند أحمد بن حنبل 1/84 و88 و118 و152 و331، و ج4/281 و370 و372، و ج5/358 و366 و370، الخصائص ـ للنسائي ـ: 4 و21 و24 و26 و40، صحيح الترمذي 13/165، المستدرك على الصحيحين 3/109 و116، تفسير ابن كثير 2/14، سنن ابن ماجة 1/55 ـ 58، تاريخ دمشق: ذُكر في ما يقارب 29 موضعاً في الجزء الثاني منه، منها في ص 18 و19 و28 و30 و53، تاريخ بغداد 2/13 و12/343 و14/236، مجمع الزوائد، كفاية الطالب، الاِصابة، الكنى والاَسماء، مناقب ابن المغازلي، أُسد الغابة، المعجم الكبير، البداية والنهاية، ميزان الاعتدال، فرائد السمطين، الكنى للبخاري، الجرح والتعديل، وغيرها من المصادر التي يطول البحث فيها ولا تدع مجالاً للشكّ في صدور الحديث.

كما يمكن الرجوع إلى الجزء الاَول من كتاب الغـديـر للعلاّمة الاَميني، لتعرف أنّ النصّ لم ينفرد به الشيعة، بل رواه 12 صحابياً، و84 تابعياً، و360 من أئمّة الحديث وحفّاظه.

نعم، يبقى النقاش في الدلالة، وهي واضحة لمن جرّد ذاته عن العصبية، إذ لا معنى لاَنْ يجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس قبل ارتحاله إلى العليّ القدير بشهرين وعدّة أيّام ليحثّ الناس على نصرة عليّ دون استخلافه، إذ إنّ نصرته تحصيل حاصل يعرفها جميع المسلمين آنذاك،

____________

(1) شبهات حول الشيعة، الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي ـ دار القرآن الكريم، إيران ـ قم، ط 1417 هـ.


الصفحة 33
فلا بُدّ أن يكون المعنى هو تنصيب عليّ عليه السلام خليفة لا غير، وإلاّ فما معنى أن يعقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجالس تهنئة وتبريك، ويأمر أصحابه بالتهنئة لعليّ عليه السلام ومنهم عمر بن الخطاب الذي هنّأ عليّاً بقوله: «بخٍ بخٍ لك يا عليّ، أصبحت مولانا ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة» وقد نقل العلاّمة الاَميني في كتابه المذكور لحديث التهنئة؛ ستّين مصدراً من مصادر أهل السُنّة(1) .

حديث الثقلين:

وهو حديث مشهور متّفق عليه بين المسلمين، وقد رواه من العامّة الترمذي في جامع الصحيح 5/621، الطبراني في المعجم الكبير: 127 و157، الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3/109، الهيثمي في مجمع الزوائد 9/163، المتّقي في كنز العمّال 1/340، ابن الاَثير في جامع الاَُصول 10/470، ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 5/662، السيوطـي في الدرّ المنثور 2/60، مسلم في الصحيح 4/1873، ابن كثير في البداية والنهاية 7/348، وغيرهم...

ولفظ الحديث ـ كما في كنز العمّال ـ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّي تركت ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الاَرض؛ وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».

والمفهوم من الحديث أنّ ضلال الاَُمّة وهديها مرهون باتّباع تلك العترة الطاهرة والتمسّك بها، لاَنّهم ـ أي أهل البيت ـ يدورون مدار القرآن

____________

(1) الغدير 1/272 ـ 283.


الصفحة 34
العزيز، وهذا دليل على أنّهم العالمون بتأويله وتفسيره، وأنّهم السبيل الوحيد للنجاة، فكيف لا يكون هذا نصّاً على ولايتهم، وأنّهم الاَوصياء على الناس من بعده وإليهم يرجع في مختلف شؤون الحياة؟!

النقطة الثانية: في العصمة:

تميّزت الاِمامية الاثنا عشرية بالقول بوجوب عصمة الاِمام دون الفرق الاَُخرى... ولتوضيح هذه المسألة لا بُدّ من تناول نقاط عديدة:

أ ـ في معنى العصمة وحدّها:

يقول الشيخ المفيد في كتابه النكت الاعتقادية: «العصمة لطفٌ يفعله الله تعالى بالمكلَّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليها»(1) .

وبمعنىً آخر فإنّ العصمة هي أعلى درجات التقوى والابتعاد عن الشهوات... فأين هو الغلوّ بهذا المعنى؟!

ب ـ في أدلّة الشيعة على العصمة:

قال: «وهم بدلاً أن يقيسوا منصب الاِمامة كما صنع أهل السُنّة على الولاية، قاسوا منصب الاِمامة على النبوّة والرسالة، فجعلوا الاَئمّة معصومين كما أنّ الرسل معصومون، وجعلوهم المرجع للشريعة دون الاَُمّة، وجعلوهم هم الحجّة دون الاَُمّة».

نعم، نحن نقيس الاِمامة بالنبوّة والرسالة بخلاف أهل السُنّة الّذين قاسوا هذا المنصب على الولاية والولاة كما ذكر الدكتور، ولكن نقول له:

____________

(1) سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد محمّـد بن محمّـد النعمان (336 ـ 413 هـ) ـ دار المفيد، بيروت 1993: 37 ـ تحقيق السيّـد محمّـدرضا الحسيني الجلالي.


الصفحة 35
إنّ هذا أمر منصوص عليه من الشارع، وبرهانه القرآن الكريم، وتحديداً في آيات هي دالّة نقلاً وعقلاً على إمامة الاَئمّة من جهة، وعصمتهم من جهة أُخرى، منها:

1 ـ آية الطاعة:

وهي قوله تعالى: (يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الاَمر منكم...)(1) .

وأمّا نقلاً، فقد روى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 1/149 أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب، وكذا رواها كلٌّ من أبي حيّان الاَندلسي في تفسير البحر المحيط 3/278، ومحمّد صالح الترمذي في المناقب المرتضوية: 56، والقندوزي في ينابيع المودّة: 116، والآمرتسري في أرجح المطالب: 85..

هذا من حيث المناسبة على أنّ «أُولي الاَمر» مقصود بها عليٌّ، فتكون طاعته واجبة كما هي طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وأما عقلاً،

فالآية تثبت العصمة لعليّ عليه السلام خصوصاً، ولاَُولي الاَمر عموماً، إذ إنّ الله قرن طاعة الرسول بالطاعة لاَُولي الاَمر، فلو قلنا بجواز أن يأمر الله بالطاعة لغير المعصوم، فإنّ لازمه جواز الاَمر بالطاعة لمن يمكن في حقّه فعل المعصية، ويستحيل أن يأمر الله تعالى ويرخّص في اتّباع من يجوز في حقّه العصيان؛ لاَنّه قبيح بحكم العقل، كما هو الحال في حقّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الاتّفاق على عصمته، حذراً من انقداح الوثاقة في

____________

(1) سورة النساء 4: 59.


الصفحة 36
نقله صلى الله عليه وآله وسلم للاَحكام الاِلهيّة «فلو جاز الخطأ عليه لم يبق وثوق بما تعبّدنا الله تعالى به وما كلَّفَناه، وذلك يناقض الغرض من التكليف وهو الانقياد إلى مراد الله تعالى»(1) .

من هنا لا بُدّ أن تكون الطاعة المشار إليها في الآية مختصّة بمن هو معصوم، إذ لولا عصمة أُولي الاَمر لما أمرنا الله تعالى بطاعتهم، وللعلّة ذاتها ولنفس الملاك الذي في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ضرورة العصمة عقلاً.

وهذا الاِمام الرازي في تفسير الآية(2) يذعن لتلك الحقيقة، ويصرّح بدلالتها على العصمة.

2 ـ آية التطهير:

وهي قوله تعالى: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)(3) .

وقد وصلت الروايات التي دلّت على نزولها في حقّ أصحاب الكساء: رسول الله، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين صلوات الله وسلامه عليهم، إلى حدّ التواتر، ومن علماء أهل السُنّة الّذين رووا نزولها في حقّهم عليهم السلام الطبري في جامع البيان 22/6، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم 3/458، والبلاذري في أنساب الاَشراف 2/104، والسيوطي في الدرّ المنثور 5/198، والحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين 2/416، وابن عساكر في تاريخ دمشق 1/250، وغيرهم... حتّى وصلت

____________

(1) كشف المراد ـ للعلاّمة الحلي ـ: 391.

(2) التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ 1/144.

(3) سورة الاَحزاب 33: 33


الصفحة 37
ما يقارب أربعين طريقاً.

وأمّا الدلالة فواضحة:

إذ إنّ المراد من الرجس في الآية: القذارة، التي هي أعمّ من المادّية والمعنوية.

يقول ابن منظور في لسان العرب إنّ «الرجس: القذر، وكلّ قذر رجس، وفي الحديث: أعوذ بك من الرجس النجس. وقد يعبّر به عن الحرام والفعل القبيح والعذاب واللعن والكفر»(1) .

وقال الزجّاج: «الرجس في اللغة كلّ ما استقذر من عمل»(2) .

وقال ابن الكلبي: «رجس من عمل الشيطان أي مأثم».

والملاحظ أنّ القرآن قد استعملها عشر مرّات في الاَُمور المادية والمعنوية، فوصف بالرجس الّذين لا يعقلون، في قلوبهم مرض، لا يفقهون، لا يتوبون، لا يذّكّرون، كفروا، كذبوا، نافقوا.. إلى آخره، ولا شكّ أنّ المنفيّ مطلق الرجس، وأنّ الآية دالّة على عصمة أهل البيت بنفي مطلق الرجس عنهم واختصاصهم بها.

ولفظ الحديث عن واثلة بن الاَصقع، قال: «جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في منزل أُم سلمة، قد جاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى وقبّله، وجاء الحسين عليه السلام فأجلسه على فخذه اليسرى فقبّله، ثمّ جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه، ثمّ دعا بعليّ عليه السلام فجاء، فأردف عليهم خيبرياً، كأنّي أنظر إليه، ثمّ قال: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً) ».

____________

(1) لسان العرب 6/94، مادة «رجس».

(2) معاني القرآن وإعرابه 2/203.


الصفحة 38

3 ـ آية الاِمامة:

وهي قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات فأتمهنّ قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين)(1) .

ومن الواضح أنّ إبراهيم عليه السلام عندما سأل الاِمامة لذرّيته أجابه عزّ وجلّ بأنّ هذا المقام لا يناله ظالم، ولا شكّ أنّ من أذنب ذنباً في حياته ظالم في حقّ نفسه، وظالم لها وإن عاد عن ظلمه وارتفع العقاب عنه، والآية مطلقة تشـير إلى كلّ من ظلم نفسه سابقاً وحالاً فكيف لو كان الظلم هو الشرك فإنّه ظلم عظيم بنصّ القرآن الكريم؟!

والنتيجة: إنّ الاِمامة لا تصلح إلاّ لمن خلت نفسه عن الذنب، وبمعنى آخر فإنّ شرط الاِمامة العصمة، ومن دونها لا تصحّ.

النقطة الثالثة: في مسائل متفرّقة بين الاِمامة والعصمة:

لقد تعرّض لمسائل متعدّدة في قضية الاِمامة لا بأس أن نشير إلى بعضها ونترك الاَُخرى إلى محلّها، وهي كما يلي:

أ ـ احتكار أو إصطفاء للاِمامة؟!

قال: «لكنّ المصريّين تعاطفوا معهم... دون أن يتحوّل هذا التعاطف إلى الغلوّ الذي يجعلهم معصومين، أو الذي يجعلهم يحتكرون الاِمامة والخلافة والسلطة دون الاَُمّة».

____________

(1) سورة البقرة 2: 124.


الصفحة 39
إنّ العصمة وانتخاب أفراد معيّنين من ذرّيّة محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم للاِمامة لا ينافي مصلحة الاَُمّة، وليس هذا احتكاراً، وإلاّ لكان اختيار الله عزّ وجلّ لآدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين كذلك، وقد قال الله تعالى: (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم)(1) .

وقال عزّ وجلّ: (وكذلك يجتبيك ربّك ويعلّمك من تأويل الاَحاديث ويتمّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمّها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إنّ ربّك عليم حكيم)(2) .

وقال عزّ وجل: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذرّيتهما النبوّة والكتاب...)(3) .

لذا، نحن نسأل الدكتور هل إنّ القول بجعل النبوّة والكتاب في خصوص ذرّيّة إبراهيم ونوح احتكارٌ لهما؟!

ولا أعتقد أنّ أحداً من المسلمين يتجرّأ بنسبة ذلك إلى الله تعالى، والسبب جليّ.

ب ـ بين النبوّة والاِمامة:

إنْ قلت: إنّ العصمة والاِمامة لا يُتعدّى بهما إلى من هم دون مستوى النبوّة.

نقول لك: إنّ علماء المسلمين ومحدّثيهم اتّفقوا على النصوص التي استدلّ بها الشيعة على إمامة الاَئمّة، والتي لها دلالة قاطعة على أنّ الاِمامة

____________

(1) سورة آل عمران 3: 33.

(2) سورة يونس 12: 6.

(3) سورة الحديد 57: 26.


الصفحة 40
هي امتداد للولاية التي كانت قبلهم، وليس الالتزام بهذا موجباً لمناقضة عقلية إذا أُنيطت العصمة لهم على فرض طاعتهم وولايتهم كما فرضت طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وولايته على الناس.

فلا مانع عندئذٍ أنْ يخصّ الله بعض ذريّة محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم بعلم الكتاب والعصمة لطفاً منه كما جعلها في ذرّيّة إبراهيـم دون النبوّة، للاتّفاق والاِجماع على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الاَنبياء.

ومن هنا يُعلم معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» إذ إنّ الاَصل يقتضي ـ بعد انتفاء النبوّة بالتسالم والتصريح ـ بقاء علم الكتاب في ذرّيّة إبراهيم، وبالتالي في ذرّيّة محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا تصريح على خلافه، بل إنّ الحديث المتقدّم بالاِضافة إلـى بعض الروايات التي تشير لهذا المعنى، والآيات الاَُخرى من قبيل (إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين) ـ وقد مرّ البحث في دلالتها ـ يؤكّد ما ندّعيه.

* دفع توهّم:

إنْ قيل: إنّ إبراهيم قد سألها لذرّيّته ولم يجبه الله تعالى.

نقول: إنّ هذا صحيح بمعنى عدم شمولية الاِمامية لجميع ذرّيّة إبراهيم عليه السلام بل إنّها مختصّة ببعضهم دون بعضهم الآخر، ويشهد بذلك بقاء النبوّة في ذرّيّته: إسماعيل، إسحاق، يعقوب عليهم السلام...

ج ـ بين الاِمامة والاَُصول:

قال: «إذن هم ـ شاءوا أم لم يشاءوا ـ صرّحوا أو لم يصرّحوا، فمن الناحية العلمية وطالما أنّهم وضعوا الاِمامة أصلاً من أُصول العقائد فلا بُدّ أن يُكفّروا خصومهم، وأنا رأيي أنّ هذا هو سرّ الانقسام الذي

الصفحة 41
نجده في الكتب العلمية التي تكون علماء الدين».

1 ـ نحن نسأل الدكتور عن «شاءوا أم لم يشاءوا، صرّحوا أو لم يصرّحوا» هل هي عبارة توحي بالحوار الفكري أم إنّها تعبّر عن تطرّف ما في الآراء؟!

2 ـ يقول السيّد محسن الخرّازي في كتابه بداية المعارف الاِلهيّة في شرح عقائد الاِمامية: «ثمّ إنّ الاِمامة إذا كانت أصلاً من أُصول الدين يلزم من فقدها اختلال الدين، ولكن مقتضى الاَدلّة التعبّديّة هو كفاية الشهادتين في إجراء الاَحكام الاِسلامية في المجتمع الاِسلامي في ظاهر الحال، فلا منافاة بينهما، فلا تغفل.

ولِما ذُكر يظهر وجه تسمية (الاِمامة والعدل) بأُصول المذهب، فإنّ معناه ـ بعد ما عرفت من كفاية الشهادتين تعبّداً في ترتّب أحكام الاِسلام ـ أنّ إنكارها يوجب الخروج عن مذهب الاِمامية، لا عن إجراء الاَحكام الاِسلاميّة»(1) .

ومن هنا يُعلم أيضاً أنّ إفراد «العدل» من الصفات ـ مع أنّه يرجع إلى التوحيد الصفاتي ـ هو لاَجل أن يكون مائزاً بين الاَشاعرة الّذين أنكروا التحسين والتقبيح العقليّين، وبين الاِمامية والمعتزلة الّذين أثبتوهما، ولذا يقول السيّد محمّد كاظم الطباطبائي في رسالته الفقهية «العروة الوثقى»: «المراد بالكافر من كان منكراً للاَلوهيّة أو التوحيد أو الرسالة [النبوّة]، أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضرورياً»(2) ولم يذكر

____________

(1) بداية المعارف الاِلهيّة في شرح عقائد الاِمامية 2/18.

(2) العروة الوثقى ـ آية الله العظمى السيّد محمّـد كاظم الطباطبائي اليزدي، مؤسسة النشر الاِسلامي، ط 1417 هـ ـ 1/143 ـ 144.


الصفحة 42
الاِمامة.

نعم، زاد بعض الفقهاء «المعاد» لا غير، والعجيب في المسألة أنّ الدكتور لم يقل بضرورة تكفير المعتزلة للاَشاعرة لاَنّهم وضعوا «العدل» في أُصول الدين والاعتقاد!!

د ـ حلول فاشلة:

قال في حلّ مشكلة إقحام الاِمامة في الاَُصول الاعتقادية: «إذا شئنا حلاًّ لهذه المشكلة فعلى الاثني عشرية أن يصنعوا ما صنع الزيديّة... الزيديّة شيعة لكنّهم لم يجعلوا الاِمامة أصلاً من أُصول الاعتقاد».

وكان قد قال: «الزيديّين لا يكادون يختلفون عن الفكر السُنّي، وهم في الاَُصول قريبون من المعتزلة».

أيّها الدكتور! القول بأنّ الاِمامة أصل من أُصول الاعتقاد ليس اعتباطاً منّا، وإنّما تشهد بذلك النصوص وتؤيّده الآيات الداعمة وحكم العقل بضرورة نصب الاِمام.

لذا، عليكم ـ أوّلاً ـ أن تبرهنوا بالاَدلّة أنّ الاِمامة ليست أمراً سماوياً، ومن ثمّ تطلب منّا نزع هذا الاعتقاد لو تمّت، وإلاّ فهو اجتهاد مقابل النصّ الصريح عندنا، ولا نقبل به، ومثاله فيما لو توقّف إسلام عدد من الناس على حلّيّة الخمر، والخمر منهيٌّ عنه، فلا يمكن الحكم بحلّيّته، لاَنّه تصرّفٌ مخالفٌ للاَمر المولوي وإنْ كان عاملاً مساعداً في نشر الاِسلام، ومع ذلك فقد حللنا مشكلتكم في ما سبق، فلا داعي لمثل تلك الحلول.

هـ ـ مَغْلطَةُ دُكتور:

قال: «إنّ أُصول الاِسلام ليست خمسة [عند الشيعة]، إنّما هي ستّة، والسادس هو الولاية، وجعلوا هذا الاَصل (الاِمامة) أهمّ أصل من

الصفحة 43
أُصول...».

لا أدري من أين حصل الدكتور على هذه المعلومات! ولكن أُصول العقائد عند الشيعة خمسة ولا سادس لها.

خلاصة الكلام حول الاِمامة:

والحقّ أنّ الاِمامة لا شكّ في أنّها من الاَُمور التي يتوقّف عليها إكمال الاِيمان، وكما بيّنا فإنّ لنا عليها الاَدلّة العقلية والنقلية. في الحديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»(1) دلالة واضحة وغنىً وكفاية على مدّعانا، مضافاً إلى أنّ بعض علماء أهل السُنّة كالقاضي البيضاوي يقول بأنّ الاِمامة من الاَُصول، وبعضهم الآخر كالتفتازاني لا يجزم بكونها من الفروع وإنّما يقول: «هي بالفروع أليق»(2) ، فلا يصحّ مـا قاله بأن «أهل السُنّة جميعاً متّفقون على أنّ الاِمامة والسياسة ليستا من أُمهات العقائد، وليستا من أُصول العقائد».

قضايا اُخرى

لا بأس أوّلاً، وقبل الخوض في تلك القضايا الاَُخرى التي بحثها الدكتور، أن نتعرّض لمسألة تناولها الدكتور بشيء من المغالطة عندما قال: «تكتب إحدى المجلات، مجلّة (تراثنا) التي تصدر في قم بـ (إيران) سلسلة مقالات عن أعداء السُنّة النبوية، فيكون أوّل مقال عن العدوّ الاَكبر أبي بكر، والمقال الثاني عن العدوّ الثاني عمر...»

وفيه:

____________

(1) حديث مستفيض روته كتب الفريقين تمرّ عليك بعض مصادره.

(2) شرح المقاصد: 232.


الصفحة 44
أوّلاً: إنّه ليس في المجلّة مثل هذا الكلام، ولا أنّ فيها مقالاً عن «العدوّ الاَكبر أبي بكر» ولا عن «العدوّ الثاني عمر» وإنّما هي ادعاءات لا أساس لها، وعناوين لم ترد مطلقاً في المجلّة وليراجع عددها الاَول [22] السنة السادسة / 1411 هـ.

ثانياً: غاية ما هناك أنّ الباحث ذكر فيها بالاَدلّة والشواهد المتقنة من المصادر السُنّيّة أنّهما كانا يمنعان من نشر السُنّة النبوية بواسطة الصحابة وكذا من تدوينها، حتّى أنّ الاَوّل قد أحرق قسماً مكتوباً منها، واشترك مع الثاني بمنع الصحابة الرواة للسُنّة من الخروج من المدينة المنوّرة والالتقاء بسائر المسلمين..

هذا هو الذي قاله الباحث، فإنّ كان استنتاجكم أن ذلك عداءٌ للسُنّة النبوية فما ذنبه؟! وما ذنب اصحاب المجلّة؟!

كما أنّه لا بأس الاِشارة هنا إلى أنّ منهج المجلّة في دراساتها بعيدٌ كلّ البعد عن النعرات الطائفيّة والبلبلة المذهبيّة، وهدفها حفظ التراث الاِسلامي، والعمل على توحيد كلمة المسلمين تحت راية واحدة، ومن جال بنظره على أعدادها الصادرة حتّى الآن وراقبها عن كثب، يدرك تلك الحقيقة الجليّة، وأنّ أبحاثها إنّما تتميّز بالدقّة في التحليل والموضوعيّة في العرض للاَفكار والمعلومات المستندة إلى مصادر يمكن الرجوع إليها لكلّ من أراد الوقوف عليها.

بعدها نعود إلى صدر البحث شاكرين أوّلاً اعتبار الشيعة كجزءٍ من الاَُمّة الاِسلامية وهذا منه تكرّم وتفضّل عليهم!

ثانياً: مستغربين قضية التكفير تلك التي طرحها مشعراً بأنّ الشيعة إنّما يقولون بتكفير الصحابة، ولذا فإنّنا سنُفرد لذلك بحثاً خاصّاً في هذه القضية.


الصفحة 45

قضيّة الصحابة

قال خلال حواره في قضية الاِمامـة: «وتعصب الشيعة لاَئمتهم جعلهم يشقّون صفّ الاَُمّة، ويبدأون رفض الصحابة باستثناء ثلاثة أو أربعة من الّذين أيّدوا الاِمام عليّ: المقداد وسلمان وأبو ذرّ».

أوّلاً: مصادرة واضحة:

أ ـ على أيّ أساس يُقال: إنّ تعلّق الشيعة بأئمّتهم يشقّ صفّ الاَُمّة؟!

ألا يمكن أن يقال: إنّ تعصّب أهل السُنّة للصحابة يشقّ صفّ الاَُمّة أيضاً!

إنّ في كلام الدكتور مصادرة واضحة، لا بل إنّ مثل هذه الاتّهامات هي التي تشقّ وحدة المسلمين وتبعدهم عن العقلانية والمنطق في التحاور.

لذا، كان الاَجدر به أن يحاور وفق أُسس بنّاءة، لاَنّ ما يراه الشيعة في الاَئمّة ليس تعصّباً بقدر ما هو التزام بالشريعة واحتكام للمنطق والعقل.

لا بل إنّ الشيعة حافظوا على عرى الوحدة ومنعوا من انفصامها، وليس عليه إلاّ أنّ يراجع التاريخ ليعرف كيف أنّ مؤيّدي أمير المؤمنين عليه السلام من الصحابة وغيرهم إنّما مُنعوا من المواجهة حقناً لدماء المسلمين وحفظاً للاِسلام.

ثانياً: بين العدالة والتكفير:

نعود إلى مشكلة لا زال الدكتور يؤكد عليها في أبحاثه وآرائه التي تدخل في إطار زجّ الاِسلام والمسلمين في أغوار لا يعلم عقباها إلاّ الله تعالى!

ونقول: أيّها الدكتور! إنّ الشيعة عندما ترفض القول بعدالة بعض

الصفحة 46
الصحابة لا جميعهم، إنّما لاَجل فسقهم ولخلل في الاِيمان، والشواهد القرآنية والتاريخية دالّة على ما نقول، منها:

1 ـ أجماع المفسّرين على أنّ آية (يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسـقٌ بنبـإٍ فتبيّنـوا)(1) نزلت في الوليد بن عقبة، وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا خلال حياته صلى الله عليه وآله وسلم(2) .

2 ـ وأمّا بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فقد روى أصحاب التواريخ أنّ الوليد بن عقبة شرب الخمر أيّام ولايته وصلّى الفجر أربع ركعات!(3)

3 ـ طليحة بن خويلد ارتدّ عن الاِسلام وادّعى النبوّة، وكذلك مسيلمة والعنسي، وهما أشهر من أن يُعرَّفا.

إلى عديد من الشواهد الاَُخرى من الآيات والاَحاديث الدالّة على مدّعانا، وهي أنّ الخروج عن العدالة حقيقة لا ريب فيها، فأمّا القول «باستثناء ثلاثة أو أربعة» فهو مستند الى ما جاءت به الروايات والآثار المذكورة بتراجمهم من كتب معرفة الصحابة وغيرها، من كونهم من أهل الجنّة وأنّها تشتاق إليهم، ومن حبّ النبيّ وأهل بيته لهم، ولا شكّ في أنّ لهؤلاء مواقف مشكورة في سبيل حفظ الدين وجهود رسول ربّ العالمين(4) .

____________

(1) سورة الحجرات 49: 6.

(2) راجع تفسير ابن كثير 3/402، تفسير الطبري 2/62.

(3) راجع الكامل في التاريخ ـ لابن الاَثير ـ 2/52، أُسد الغابة 5/91.

(4) وللشيخ جعفر السبحاني في كتابه: الملل والنحل ـ مؤسّسة النشر الاِسلامي ـ 1/201، بحث مهمّ في عدالة الصحابة، وكذا للسيّـد علي الحسيني الميلاني في كتابه: الاِمامة في أهمّ الكتب الاِمامية ـ نشر الشريف الرضي، قم ـ.

وانظر فصل: «مشهوران لا أصل لهما» للسيّد علي الحسيني الميلاني في مقالة «التحقيق في نفي التحريف»، المنشور في تراثنا، العدد 14 لسنة 1409 هـ.