الصفحة 47

ثالثاً: شاهد على الصحابة:

ما نقله الدكتور في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع عمر بقوله: «المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارتدّوا على الاِسلام وكانوا كفرة، والنفاق أشدّ من الكفر، ومع ذلك كانوا جزءاً من الاَُمّة، ولمّا كانت تظهر على أحدهم أمارات وعلامات النفاق ويأتي عمر بن الخطّاب ويقول: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، يقول له: كلاّ! حتّى لا يقال إنّ محمّـداً يقتل أصحابـه».

وفيه:

1 ـ إنّ الحديث من حيث الدلالة يعني أنّ الصحابة ليسوا جميعاً عدولاً، وبالتالي ما المانع من رفض بعضهم حتّى يؤاخذه علينا؟!

2 ـ إنْ كان المراد منه عدم التعرّض للصحابة وإنْ كانوا منافقين حفاظاً على الوحدة، فيكون الخليفة الثاني نفسه قد غفل عنها بعض الشيء، لاَنّهم ذكروا أنّه أقام الحدّ على قدامة بن مظعون، وهو صحابي بدري، يعدّ من السابقين الاَوّلين، ومن المهاجرين الهجرتين، لشربه الخمر(1) ! وبالتالي يكون قد خالف حكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذا لا يقول به أهل السُنّة.

نعم، الطريق الصحيح لتقويم مسار التحقيق هو الحوار البنّاء والعلمي الدقيق، الذي ينظر للآخرين نظرة احترام لاَفكارهم ومعتقداتهم، وبعدها يناقش صحّة ما ندّعيه، ونناقش صحّة ما يدّعيه، وليكنْ حواراً تسود فيه أجواء المحبّة والاِخلاص للاَُمّة، لا طرح ادعاءات معينة دون براهين وإثباتات تذكر!

____________

(1) راجع أُسد الغابة 4/199.


الصفحة 48

رابعاً: سلامة الموقف الشيعي:

إنّ سمة التشيّع: النظر للاَُمور بواقعية تامّة، والحكم في إطار العدل والمساواة بناءً على الاَدلّة والشواهد.

ومن هنا، فإنّ الشيعة إنّما ينظرون إلى الصحابة نظرة علمية منطقية..

وهذه الصحيفة السجّادية للاِمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام يدعو فيها للصحابة فيقول:

«اللّهمّ وأصحاب محمّد خاصة الّذين أحسنوا الصحبة، والّذين أبلوا البلاء الحسن في نصره... فلا تنس اللّهمّ ما تركوا لك وفيك، وارضـهم من رضوانك، وبما حاشوا الخلق عليك، وكانوا مع رسولك دعاةً لك...»(1) .

يقول السيّـد مهدي الحسيني الروحاني في كتابه بحوث مع أهل السُنّة والسلفيّة: «... وغير خفيّ: أنّ هذه الدعوات بما فيها من الاِعظام والاِكبار، شاملة لمعظم الصحابة رضي الله عنهم، وأمّا آحادهم تفصيلاً فينظر في تراجمهم وتواريخهم ويحاكمون بمقتضى العدل، والقول الفصل، وحكم القرآن، وكلام نبيّ الاِسلام... وعليه فمن ناقش في علم بعض آحاد الصحابة، أو خطأهم في بعض أفعالهم وأقوالهم، حسب ما تقتضيه المقاييس الدينية، فإنّ ذلك لا يخرجه من الاِيمان إلى الكفر، ولا من السُنّة إلى البدعة، إذ ليس آحاد الصحابة وأشخاصهم محور الدين، والكفر، والسُنّة والبدعة»(2) .

____________

(1) الصحيفة السجّادية للاِمام زين العابدين عليه السلام: من دعائه عليه السلام في الصلاة على أتباع الرسل ومصدّقيهم.

(2) بحوث مع أهل السُنّة والسلفية ـ للسيّـد مهدي الحسيني الروحاني، المكتبة الاِسلامية، ط 1979 ـ: 36 ـ 37.


الصفحة 49

خامساً: بين العدالة والعصمة:

ولا ينقضي العجب من الدكتور وغيره الذين يصفون الشيعة بالغلوّ لاَنّهم قالوا بعصمة الاَئمّة الاثني عشر من جهة، ويرون أنّ كلّ الصحابة عدول من جهة أُخرى!!

والعدالة ـ كما يقال ـ بأنّها مَلَكَة اكتسابية تمنع الصحابي عن الوقوع في الخطأ، وأمّا العصمة ـ كما عرفت ـ فإنّها مَلَكَة نفسانية أو لطف إلهيّ تمنع المعصوم عن الخطأ.

وبالنظر إلى حقيقة العدالة والعصمة نعرف أنّ الفرق إنّما يكمن لا في النتيجة، بل في الطريقة...

ومعه، فلو صحّ أن يكون اعتقاد الشيعة بعصمة الاَئمّة الاثني عشر غلوّاً لكان الاعتقاد بعدالة جميع الصحابة أشدّ غلوّاً منهم!

قضية التشيّع والوحدة:

قال: «يقلقني أن يأتي الشيعة ليبشّرونا بمذهبهم ويزرعونه في قلب المجتمعات السُنّيّة، بنفس القدر الذي يقلقني أن يأتي نفر من أهل السُنّة ليزرع مذهب أهل السُنّة في المجتمعات الشيعية... فإنّما يأتي الشيعة يزرعون مذهب (الاِمامة والتشيّع) داخل مجتمعات سُنيّة أنعم الله عليها بالوحدة المذهبية، فهم يخلخلون وحدة المذهب، ويصنعون القلق الطائفي داخل مجتمعات برئت من هذه الخلخلة المذهبية والطائفية».

وفيه:


الصفحة 50
أوّلاً: إنّ هذا إقفال لباب الحوار، وقطع للطريق أمامه؛ لاَنّ المقتضي له طرح المشاكل العالقة بين الفريقين لتُحلّ حلاًّ جذرياً يتّفق عليه الطرفان، ولا يتناقض هذا والحوار مع غير المسلمين، فكيف إذا كان فيما بينهم؟!

ثانياً: إنّ المانع وهو الخلخلة في المجتمعات الاِسلامية ـ إذا صحّ ـ أمرٌ مطّرد في غيرها، ولكن الصحيح أنّ الحوار البنّاء المبنيّ على قواعد سليمة وأُسس متينة لا يولّد مثل هذه الخلخلة كما قد يُدّعى، وإنّما انسجام ووحدة في الحقيقة إذا ما خَلُص لنتيجة معينة، وطبعاً بشرط أن لا تسود هذه المجتمعات مثل تلك الحوارات التي تولّد تعصّباً في التفكير، وتطرح المغالطات، لاَنّها هي التي تصنع القلق الطائفي.

ثالثاً: نحن نسأل الدكتور لماذا الخوف من تشيّع بعضهم إذا كان ذلك مقنعاً لهم وثبت بالبراهين والاَدلة الشرعية والعقلية، التي عبّر عنها هو بأنّها «ممارسات رعناء هدفها خداع الشباب»، طالما أنّهم بقوا في حومة المسلمين، وأنّ وحدة الاَُمّة كما قال: «تسع المذاهب والتيّارات المختلفة وتسع (الاَلسنة ـ اللغات) والاَقاليم المختلفة، بما في ذلك أن تكون هناك ملل ونحل مختلفة في داخل الاَُمّة»؟!

وهل التشيّع إلاّ مذهب من تلك المذاهب المختلفة؟! أم إنّ هذا باعتقاده خروجاً عنهم؟!!

كما إنّه يجب ألاّ يقلقه أن يأتي أهل السُنّة ليبشّرونا! لاَنّنا ـ أوّلاً ـ لسنا معقّدين من فتح باب الحوار عن العقيدة، لا بل نطلبه.

وثانياً: لاَنّا نعلم أن ثقافتنا الشيعية تمتلك المؤهّلات الكافية للثبات ومواجهة الاَفكار الاَُخرى، لاَنّ ركيزتها ليست مبنيّة على التعصّب الفكري، بل على القواعد العلمية والفكرية الدقيقة.


الصفحة 51
ولعمري إنّ هذا الكلام الصادر من الدكتور أدلّ دليل على قوّة الفكر الشيعي.

وأمّا التعدّد الطائفي فهو ليس خللاً ـ كما يُتصوّر ـ بل عنصر من عناصر الحيوية في المجتمعات، لاَنّها تحرّك باتّجاه بناء عقائد صحيحة من خلال التعرّف على عقائد الآخرين ودفع شبهاتهم، وليست تلك نظرة قصيرة المدى ـ كما عبّر هو ـ إذا ما تمّ تصحيح الاعتقادات، لعدم الخـفاء بأنّ هذا أهمّ ما في الاِسلام، وهو أن يكون المسلم على بيّنة منها، لا بل إنّ التقوقع في قالب معيّن من الاعتقادات دون النظر إلى صحّتها وسقمها، هي نظرة قصيرة المدى، لاَنّها لا تنظر إلى الآخرة بعين الحقيقة، ولا أعتقد أنّ هنالك هدف أسمى من الآخرة للوصول إلى شاطىَ النعيم، ولذا قال تعالى: (ولتنظر نفس ما قدّمت لغد)(1) والآية مطلقة، والعجب أنّ الدكتور اعتبره خداعاً!!

ملاحظة:

قال: «وفي المقاومة الشعبية لظلم الحكّام الفاطميّين تدهش عندما تعلم أنّ المظاهرات كانت تهتف لتغيير الحاكم الفاطمي».

وهذه دعوىً لم يُقِم الدكتور عليها دليلاً! بل إنّ الدليل على خلافه كما يظهر من نصوص تلك الاَيّام وفي تلك الحقبة، والتي تشير إلى أنّ أهل السُنّة كانوا في تقيّة، خلال ذلك العهد!

قضية الثورية في الفكر الشيعي

قال: «يزعمون ـ خاصّة بعد الثورة الاِيرانية ـ أنّ الفكر الشيعي فكر

____________

(1) سورة الحشر 59: 18.


الصفحة 52
ثوري، وأنّه تصدّى لنُظُم الجور والطغيان على مرّ التاريخ، وأقول: إنّ هذا وهم، وهذه أُكذوبة، الشيعة منذ جعفر الصادق امتنعوا عن الثورة وعن العمل السياسي، وعن الدخول في كل قضايا السياسة ورضوا بكلّ النظم الحاكمة بصرف النظر عن جورها وعن عدلها، والذي كان يعارض ويناقش و.. و.. إلخ كان من علماء السُنّة.. إذن الفكر الذي كان يقوم بالثورات ـ دعنا من الخوارج ـ وكان له دور في المعارضة والانتقاد والسياسة والعمل السياسي كان هو الفكر السُنّي... إلى أن جاءت سنة 1920. وأوّل فتوى تصدر عن الشيعة بالعمل السياسي... إذن على طوال تاريخنا كان الفكر الشيعي وبالذات فكر الاثني عشرية بعيداً عن الاشتغال بالسياسة... فأين هي الثورية التي يخدعون بها بعض الشباب كي يرجّحوا كفّة المذهب الشيعي على المذهب السُنّي؟».

أقول: نحن نجيبك يا دكتور على سؤالك المطروح أخيراً في نقاط:

الاَُولى: ثورية الفكر الشيعي:

إنّ كون الفكر الشيعي فكراً ثورياً أمر لا يجادل فيه اثنان، وليست تلك أُكذوبة أو وهم كما تدّعي، لا بل إنّ روح التشيّع هي الثورية والتصدّي لنُظُم الجور والطغيان عبر التاريخ، ولذا قلتَ أنت يا دكتور! إنّ «المصريّين تعاطفوا معهم لاَنّهم اضطُهِدوا»!

أوَليس ذلك سببه الرفض لتلك الاَنظمة الجائرة والعمل على إسقاطها أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر؟

وقد صرّحت أيضاً في حوارك المتقدّم أنّه «كان الشيعة الفاطميّون يحزنون في عاشوراء».

وبالتالي نحن نسألك أيّها الدكتور، أليست عاشوراء هي ثورة الاِمام

الصفحة 53
أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام ؟! أم إنّك نسيت ذلك؟! وكأنّك تعلم بأنّ الشيعة إنّما يجدّدون كلّ سنة تلك الثورة من خلال إقامة المجالس والتذكير بمظلوميّة هذا الاِمام العظيم ووقوفه أمام الجور والطغيان ويردّدون كلّ سنة قوله: «إنّي ما خرجت أشراً ولا بطراً، إنّما خرجت لطلب الاِصلاح في أُمّة جدّي رسول الله» حتّى قيل عندنا: «إنّ الاِسلام محمّـدي الوجود حسينيّ البقاء».

وهذا إنّما يعني أنّ التشيّع روحه ثورة الاِمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام وبقاءه مرهون ببقائها في الاَذهان، وكفانا أن نعيد تلك الذكرى كلّ سنة عشرة أيّام حتّى تتجدّد في نفوسنا عزيمة الثورة لمقاومة أنظمة الاستكبار والجور والطغيان ولو تطلّب ذلك الاستشهاد في سبيل الله، ومن هنا تفهم عبارة الاِمام الخميني قدس سره: «إنّ كلّ ما لدينا هو من بركة كربلاء أبي عبدالله الحسين عليه السلام».

ونظرة واحدة في تراجم أئمتّهم، وحركات رجالاتهم، وانتفاضات الشيعة، تكفي للبرهنة على ثورية الفكر الشيعي، ولعلّ هذا من الاَُمور الواضحة للمسلمين التي لا يشكّك فيها إلاّ...

الثانية: رجالات الشيعة والسياسة:

إنّا لا نعلم من أين للدكتور تلك الدعوى من أنّ الشيعة لم يشتغلوا بالسياسة منذ عصر الاِمام جعفر الصادق عليه السلام حتى عام 1920 م؟!

إنّ هذا لدليل واضح على عدم احاطته بالتاريخ الشيعي على الاَقلّ، وإلاّ لعلم أنّ الاِمام موسى بن جعفر عليه السلام قضى أيّام حياته الاَخيرة في سجن بغداد واستشهد مسموماً.

وأنّ ولاية العهد التي أوصى بها المأمون للاِمام الرضا عليه السلام أشهر من

الصفحة 54
أن تُذكر واستشهد مسموماً أيضاً.

وأنّ المعتصم خاف من اجتماع الناس حول الاِمام محمّـد بن علي الجواد عليه السلام، فاستقدمه إلى بغداد ودسّ إليه السمّ فاستشهد.

وأنّ الاِمامين الهادي والعسكري عليهما السلام وُضعا تحت الاِقامة الجبرية، وجَعلوا عليهم جواسيس يراقبون منزلهما.

وأنّه بعد وفاة الاِمام العسكري عليه السلام بُعث إلى داره مَن يفتّشها ويفتّش حجرها وختم على جميع ما فيها(1) .

إضافة لما حصل للاِمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف وهو بحث خلافيّ يُترك إلى محلّه... وكلّه قبل الغَيْبة!

أمّا بعد الغَيْبة، فلقد كان للشيعة دور كبير في السياسة خفي على الدكتور ظاهراً، ولو ذكرنا الشهيد الاَوّل محمّـد بن جمال الدين مكّي العاملي، والشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي لكفانا افتخاراً بما قدّمنا، لا من الشهداء فحسب، بل من الشهداء العلماء الّذين خافت السلطة منهم، فكان جزاء الاَوّل القتل والصلب والرجم والحرق! وكان جزاء الثاني أن بُعث رأسه إلى السلطان حفاظاً على الخلافة من الضياع إذا استمرّ أمثال هؤلاء في جهادهم ضدّ الباطل،وإفتاء الناس بما لا يوافق السلطات الحاكمة آنذاك!

ولو أردنا أن نعدّ مِن الشيعة مَن اشتغل بالسياسة لاحتجنا أن نفرد كتاباً خاصّاً فيهم، ولكن نذكر منهم من بعد الغَيْبة وقبل 1920 م، على سبيل المثال:

____________

(1) يمكن مراجعة مصادرنا في هذا الخصوص.


الصفحة 55
1 ـ أبو الفضل محمّـد بن الحسين بن العيد، وزير ركن الدولة، والد عضد الدولة.

2 ـ أحمد بن إبراهيم الضبّي، وزير فخر الدولة.

3 ـ عميد الجيوش، أبو علي الحسن بن أُستاد هرمز، وزير بهاء الدولة.

4 ـ أبو القاسم الحسين بن علي، الوزير المغربي.

5 ـ الخواجة نظام الملك الطوسي.

6 ـ الحسن بن هارون، وزير معزّ الدولة.

7 ـ الصاحب بن عبّاد، وزير مؤيّد الدولة وفخر الدولة..

وقد عدّ منهم صاحب (الاَعيان) ما جاوز الاَربعين شخصاً ممّن كانت لهم المناصب الرفيعة من وزارة أو إمارة ناهيك عن القضاة والنقباء(1) .

وبهذا يتبيّن فساد الدعوى التي تقول بأنّ الشيعة لم يشتغلوا بالسياسة حتّى عام 1920.

الثالثة: الفكر السُنّي المهادن:

ولا يخفى عزيزي القارىَ أنّ من مذهب أهل السُنّة البخوع والخضوع للسلطة وللنظام القائم حتّى لو كان على رأسه فاجر فاسق! ونكتفي بذكر أقوال بعض أئمّة علماء أهل السُنّة:

أ ـ قال النووي في شرح صحيح مسلم: «وأمّا الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإنْ كانوا فسقة ظالمين»...

وقال جماهير أهل السُنّة من الفقهاء والمحدّثين والمتكلّمين: لا

____________

(1) راجع أعيان الشيعة 1: 190 ـ 193.


الصفحة 56
ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك»(1) !!

ب ـ قال الاِمام الاَشعري: «ويرون (أهل الحديث والسُنّة) العيد والجمعة والجماعة خلف كلّ برّ وفاجر... ويرون الدعاء لاَئمّة المسلمين بالصلاح، وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتن»(2) .

ج ـ قال أحمد بن حنبل: «السمع والطاعة للاَئمّة وأمير المؤمنين، البرّ والفاجر... وإقامة الحدود إلى الاَئمّة، وليس لاَحد أن يطعن عليهم وينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائز، من دفعها إليهم أجزأت عنهم، برّاً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفه وخلف كلّ وليّ، جائزة إقامته، ومن أعادها فهو مبتدع، تارك للآثار، مخالف للسُنّة»(3) !!

د ـ قال الاِمام أبو اليسر البزودي: «الاِمام إذا جار أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم وهو المذهب المرضيّ»!!

ثمّ قال: «وجه قول عامّة أهل السُنّة والجماعة إجماع الاَُمّة، فإنّهم رأوا الفسّاق أئمّة، فإنّ أكثر الصحابة كانوا يرون بني أُميّة وهم بنو مروان حتّى كانوا يصلّون الجمعة والجماعة خلفهم ويرون قضاياهم نافذة. وكذا الصحابة والتابعون، وكذا من بعدهم يرون خلافة بني عبّاس وأكثرهم فسّاق»(4) !!

كما لا يخفى أيضاً أنّ الصحاح قد نقلت روايات وأحاديث ـ نراها

____________

(1) شرح صحيح مسلم 12/229، باب لزوم طاعة الاَُمراء.

(2) مقالات الاِسلاميين: 323.

(3) مقالات الاِسلاميين: 323.

(4) أُصول الدين ـ للاِمام البزودي، ط القاهرة ـ: 190 ـ 192.


الصفحة 57
مفتعلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاَنّها مخالفة لكتاب الله وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

فقد روى مسلم، عن حذيفة بن اليمان، قلت: «يا رسول الله... إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنّون بسُنتي، وسيقوم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.

قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إنْ أدركت ذلك؟

قال: تسمع وتطيع للاَمير وإنْ ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع»(1) !!

هذا غيض من فيض ما جاءت به كتب أهل السُنّة... فاقضِ ما أنت قاض.

قضية الاجتهاد:

قال: «ثمّ قضية أنّ المذهب الشيعي فيه باب الاجتهاد مفتوح على عكس مذهب السُنّة، أقول: إنّ هذا وهم واسمح لي أن أكون صريحاً في هذا الموضوع، فنحن نتكلّم كعلماء، الفكر الشيعي صحيح لم يقل بإغلاق باب الاجتهاد.. لكن أين هو الاجتهاد؟

إذا كنت أمام عقل يقول: إنّ الاِمام قد غاب، وإنّه حيّ، وإنّه ما زال منتظَراً وإنّنا ننتظره، فأين هو العقل والعقلانية، وأين هو الاجتهاد؟

إذا كنت تقول: إنّ الاَُمّة غير مؤتمنة على الشريعة، وإنّ فرداً هو المؤتمَن على الشريعة، وإنّ الاِمامة والدولة والخلافة والسياسة لا علاقة للاَُمّة بها، ولا علاقة للشورى بها، وإنّ الاَُمّة في هذا كلّه منزوع سلطانها،

____________

(1) صحيح مسلم 6/20 ـ 21، باب الاَمر بلزوم الجماعة، وباب حكم من فارق أمر المسلمين.


الصفحة 58
فأين هو الاجتهاد، وأين هي العقلانية في هذا الموضوع؟!

أقول: الاجتهاد عند فقهاء الشيعة وقف عند أنّ هناك مرجعاً له كتاب فقهي وله مقلّدون، وهل الاجتهاد في فروع الفقه هو الاجتهاد؟

أقول بصراحة: إنّها أكثر من اللازم. يعني اجتهادات لدرجة التخيّل في فروع الفقه، إنّما القضية التي فيها الاجتهاد هي الاجتهاد في المعاملات وفي الاَُمور العامة وفي شؤون الدولة.

هذا هو الذي تعطل فيه الاجتهاد، والشيعة ليس لهم في هذا الميدان اجتهاد... إذن في الميدان الذي أُغلق فيه باب الاجتهاد عند السُنّة، الشيعة صفر في هذا الميدان، لاَنّهم يعلّقون الفكر فيه على الاِمام الغائب.

أمّا في فروع الفقه فأين هي الاجتهادات المتميزة في المذهب الجعفري التي ليس لها نظائر في مذاهب السُنّة الاَربعة؟».

أولاً: الاِمام المهديّ بين الاعتقاد والاجتهاد:

إنّ عدم تحرّي الدقّة سمة هذا الحوار مع الدكتور، وبيانه في هذه القضية يقع في نقطتين:

أ ـ في دفع شبهة:

إذ إنّ الاعتقاد بغَيْبة الاِمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف ليس اجتهاداً؛ لاَنّ «الاجتهاد: هو النظر في الاَدلّة الشرعية، لتحصيل معرفة الاَحكام الفرعية التي جاء بها سيّـد المرسلين»(1) والاَُمور الاعتقادية ليست من الاَحكام الفرعية كما لا يخفى!

بالاِضافة إلى أنّ الاعتقاد بالغَيْبة أمر متسالم به عندنا، فلا يحتاج للنظر

____________

(1) عقائد الاِمامية ـ للشيخ محمّـدرضا المظفر، نشر أشكوري، ط 1431 هـ ـ: 56.


الصفحة 59
إلاّ في إطار وجوب معرفة إمام زماننا؛ لاَنّه «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وهو حديث مستفيض ذكر بألفاظ مختلفة(1) .

ب ـ الاعتقاد بالاِمام المهدي في الاِمكان العقلي:

أعتقدُ أنّ العقل الذي قَبِل غَيْبة الاِمام المهدي وأنّه حيّ، هو نفس العقل الذي لم يستبعد قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألفَ سنة إلاّ خمسين عاماً)(2) .

وقوله عزّ وجلّ: (وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ومـا قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلاّ اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً)(3) .

وقد أخرج البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، أنّه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم»(4) .

وفي صحيح مسلم بسنده عن جابر بن عبدالله، قال: «سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله قال: لا تزال طائفة من أُمّتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة؛ قال: فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صلّ لنا، فيقول: لا، إنّ بعضكم على بعضٍ أمراء تكرمةً لهذه الاَُمّة»(5) ...

وبهذا يظهر أنّ الذي حفظ نوحاً 950 سنة للتبليغ في قومه، وحفظ

____________

(1) راجع صحيح البخاري 5/13، صحيح مسلم 6/12 ـ 22 ح 1894.

(2) سورة العنكبوت 29: 14.

(3) سورة النساء 4: 157 ـ 158.

(4) راجع صحيح البخاري 4/205، صحيح مسلم 1/136.

(5) صحيح مسلم 1/136 ح 244.


الصفحة 60
عيسى الى آخر الزمان، ألا يستطيع أن يحفظ الاِمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف؟!

أو إنّ العقلانية ترفض تلك الآيات والاَحاديث أيضاً؟!!

بالاِضافة إلى أنّ العقل لا يرفض قدرة الله عزّ وجلّ بالتحكّم في عمر الاِنسان بأن يطيله أو يقصّره وفقاً للمصلحة المقتضية له، إذ إنّه ليس في دائرة المستحيلات العقلية، لا بل إنّها من الاَُمور الملموسة في حياتنا العملية كـ (شعر الحاجبين).

ثانياً: الاجتهاد الشيعي:

ونتناول في المقام مسألتين:

أ ـ اجتهاد الشيعة في المعاملات:

ولا ينقضي العجب من قول الدكتور أنّ «الشيعة صفر في هذا الميدان [الاجتهاد في المعاملات] لاَنّهم يعلّقون الفكر فيه على الاِمام الغائب»!

إذ إنّ ما كتبه الشيعة في هذا الميدان أكثر من أن يُعدّ أو يحصـى، لا بل إنّك لا تجدّ كتاباً فقهياً إلاّ وهو على قسمين «كتاب العبادات» و«كتاب المعامَلات».

وفي الاَخير يبحث الفقهاء عن: التجارة، الشفعة، الاِجارة، المزارعة والمساقاة، السبق والرماية، الشركة، المضاربة، الوديعة، العارية، اللقطة، الغصب، إحياء الموات، الدَيْن، الرهن، الحجر، الضمان، الصلح، الاِقرار، الوكالة، الهبة، الوصية، الوقف، النكاح، الطلاق، الظهار، الحدود، القصاص، الاِيلاء، اللعان، الاَيمان، الصيد والذباحة، الاَطعمة والاَشربة، الميراث، والقضاء.


الصفحة 61
بالاِضافة إلى المسائل المستحدَثة، التي بحثها الفقهاء المعاصرون من قبيل: أحكام البنوك، أطفال الاَنابيب، الخلوّ، ويانصيب الحظّ، والتأمين، وغيرها.

وهل الدولة قائمة إلاّ على هذه الشؤون من المعاملات؟!

وأمّا إذا كان مراد الدكتور الشؤون العسكرية، فقد عقد الفقهاء بحثاً خاصاً لها يسمّى بـ «كتاب الجهاد» تناولوا فيه الاَحكام الاَوّليّة له، وأمّا الاَحكام الاستثنائية والطارئة فإنّما تُعهد إلى وليّ الاَمر العادل الذي تتوفّر فيه الشروط المعيّنة، من قبيل: الاجتهاد، ومعرفة أحوال أهل زمانه، وغيرها...

ولكن يبقى أن نسأل الدكتور أين تعطّل الاجتهاد عند الشيعة؟!!

ب ـ الاجتهاد والاِمامة:

أوّلاً: نقول: بأنّ الاِمامة ليست اجتهاداً عندنا؛ لاَنّها ليست من الاَحكام الفرعية، بل هي من الاَُصول.

ثانياً: إذا عُلم أنّنا نعدّ الاِمامة منصباً إلهيّاً، وأنّها تختصّ بأفرادٍ معيّنين عصمهم الله تعالى من الخطأ، فلا جرم أنْ يكون هؤلاء مؤتَمنين على الشريعة كما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مؤتمناً عليها، والقرار الاَخير هو الصادر منه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تشاركه الاَُمّة في اتّخاذه (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرَة من أمرهم)(1) .

ولا تنافيه المشورة، إلاّ أنّ تشخيص المصلحة آخر الاَمر يعود له وحده، ولا خطأ في أفعاله وقراراته صلى الله عليه وآله وسلم، فلا مانع من انتقال تلك

____________

(1) سورة الاَحزاب 33: 36.


الصفحة 62
الصلاحيّات كما هي للاِمام المنصوب، الذي هو أيضاً لا يخطىَ.

ج ـ الاجتهاد الشيعي المتميّز:

لعلّ الدكتور يقصد في قوله «اجتهادات لدرجة التخيّل» تلك الاَحكام التي تتعلّق بفروض نادرة أو يُتوقّع حدوثها، وهذه في الحقيقة شهادة متميّزة للفقه الشيعي، الذي يتكيّف مع مختلف العصور، ومع الوقائع الحادثة حتّى النادرة منها، والتي قد يتّفق أن تقع في الحال أو المستقبل، وهو دليل واضح على أنّ الفقه الشيعي لديه الاَجوبة الشافية والسريعة دائماً، خصوصاً في المواقف الحرجة، ومثاله الصلاة على القمر وإنْ كانت مُتخيَّلة منذ مائة سنة إلاّ أنّها أصبحت واقعاً ملموساً وممكناً، لذا فإنّ التخيّل المذكور يُعدّ غناءً في الفقه الشيعي والاجتهادي.

ثالثاً: اجتهاد ابن تيميّة:

قال: «أقول هذا لشبابنا ليرى أنّ الفكر السُنّي على مرّ تاريخه هو الذي كان يشتغل بذلك.. ابن تيميّة كان يحمل السيف ويجاهد ويكتب في السياسة والشرعية ويموت في سجن المماليك، من الذي يقول: إنّ هذا غير مجتهد، وإنّ هذا لا يشتغل بالسياسة، وإنّ هذا غير ثوري، الذي يجاهد التتار، بينما كان هناك (ولا نريد أن نفتح الاَبواب)...».

أ ـ اجتهاد ابن تيميّة المخالِف:

آخر ما كنت أتوقّع هو أن يأتي الدكتور بشخصية جهادية في الفكر السُنّي تكون نموذجاً للثورية ـ تحمل السيف وتجاهد، وتكتب في السياسة والشرعيّة، وتموت في السجن ـ كشخصية ابن تيميّة، ليضعه في خانة الثوريّين والاَبطال في الفكر السُنّي!!

والظاهر أنّ في الاَمر سّراً خَفِيَ علينا نحن لا نعلمه..


الصفحة 63
ولعلّ الدكتور غاب عن ذهنه مراجعة سيرة هذا الرجل فجعل يصفه بتلك الاَوصاف المخلّدة لذكراه، وكأنّه لم يعرف سبب جعل ابن تيميّة في السجن، وأنّه حُبِسَ لا لاَجل جهاده العريق، وإنّما بسبب اعتقاداته المنحرفة التي لا تجتمع مع جمهور المسلمين!

يقول ابن كثير ـ وهو تلميذه ـ: «وفي ليلة عيد الفطر من تلك السنة [706 هـ] أحضر الاَمير سيفُ الدين سلار، نائبُ مصر، القضاةَ الثلاثة وجماعةً من الفقهاء، فالقضاة: الشافعي والمالكي والحنفي، والفقهاء: الباجي والجزري والنمواري، وتكلّموا في إخراج الشيخ تقي الدين ابن تيميّة من الحبس، فاستشرط بعض الحاضرين عليه شروطاً في ذلك، منها أنّه يلتزم بالرجوع عن بعض عقائده»..

وفي سنة 709 هـ نفي إلى الاِسكندرية، ومنها عـاد إلى القاهرة، ثمّ إلى الشام.

وفي سنة 720 هـ صدرت منه فتاوى شاذّة، فعقد له مجلس حضره القضاة والمعنيّون من المذاهب الاَربعة، وحُبس خمسة أشهر.

حتّى جاءت سنة 726 هـ حين سجن مرّة أُخرى، ومات في قلعة دمشق للعلّة ذاتها!!

هذا هو من قال عنه الدكتور أنّه حُبِس من أجل جهاده في سجن المماليك... وقد تبيّن أنّه كان يجاهد مذاهب جمهور المسلمين وحُبس بفتياهم ـ فتيا فقهاء المذاهب الاَربعة ـ لانحرافه العقائدي(1) .

____________

(1) راجع تكملة السيف الصقيل ـ للشيخ محمّـد زاهد الكوثري ـ: 100.


الصفحة 64
ب ـ اجتهاد ابن تيميّة في ميزان ابن حجر:

وأمّا اجتهاده! فإنّي أقتصر على ما نقله العلاّمة الاَميني عن الحافظ ابن حجر في كتابه الفتاوى الحديثة ص 86، قال: «ابن تيميّة عبدٌ خذله الله وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه، وبذلك صرّح الاَئمّة الّذين بيّنوا فساد أحواله، وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الاِمام المجتهد، المتّفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد، ابن الحسن السبكي، وولده التاج، والشيخ الاِمام العزّ بن جماعة، وأهل عصرهم، وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية.

ولم يقصر اعتراضه على متأخّري الصوفيّة، بل اعترض على مثل عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهما)!.

والحاصل: أنْ لا يقام لكلامه وزن، بل يُرمى في كلّ وعر وحَزَن، ويُعتقد فيه أنّه مبتدع ضالّ مضلّ غالٍ، عامله الله بعلمه، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله، آمين...»... لا تعليق!

الوسطيّة في اجتهاد ابن تيميّة:

إنّ هذا النموذج الذي أعطاه الدكتور للشباب يهدم كلّ ما بناه في حواره، لاَنّ عقائد ابن تيميّة تخالـف نظريّته حول الوسطيّة الاِسلامية، إذ إنّها لن تُبقي من حبّ أهل البيت شيء لدرجة الاِطاحة بكلّ «المزارات والمقامات والمساجد لرموز من آل البيت» المقامة في مصر، التي يباهي بها معتبراً أنّ وجودها مصداقٌ لوسطيّة الشعب المصري؛ لاَنّها بنظر ابن تيميّة شرك وبدعة! كما هي الحال الآن في مزارات البقيع! وعندها سلامٌ على الوسطيّة يوم وُلدت ويوم ماتت!!..


الصفحة 65

قضيّة ولاية الفقيه

قال: «أنا أتصوّر أنّ الناس في إيران سواءً كانوا من أهل الحوزات العلمية أو من أهل السياسة لا يمكن أن يتصوّروا أنّ النموذج الاِيراني في ولاية الفقيه صالح للتعميم في العالم السُنّي، وإلاّ نكون أمام موقف ساذج، فما نرفضه في النموذج الاِيراني وهو قضيّة ولاية الفقيه قد يكون سرّ قوّة هذا النموذج داخل إيران، لكن لا يمكن أن يكون مقبولاً خارج الاِطار الاِيراني، لاَنّ هذا بُعد مذهبي».

أقول: بغضّ النظر عن أنّ هذا النموذج صالح للتعميم أو لا؛ لاَنّ الاِجابة تحتاج لدراسة مطوّلة تُعرض فيها تلك النظرية لترى إمكانية ذلك.. إلاّ أنّ الدكتور ـ جزاه الله خيراً ـ قد ساهم مساهمة فعّالة في الاِجابة عن أسئلة هو طرحها عندما قال:

1 ـ «أين هي الاجتهادات المتميّزة في المذهب الجعفري التي ليس لها نظائر في مذاهب السُنّة الاَربعة».

والجواب: إنّ نظام ولاية الفقيه ـ الذي هو سرّ قوّة هذا النموذج ـ من الاجتهادات الشيعية المتميّزة عن المذاهب الاَربعة بشهادتك حين قلت أيّها الدكتور: «لاَنّ هذا بُعد مذهبي».

2 ـ «وأنّ فرداً هو المؤتمَن على الشريعة... فأين الاجتهاد... وأين هي العقلانية في هذا الموضوع؟».

والجواب: إنّ نظام ولاية الفقيه ـ الذي هو سرّ قوّة هذا النموذج ـ يكون الفرد فيه ـ المتمثّل بقائد الثورة الاِسلامية ـ هو المؤتمَن على الشريعة

الصفحة 66
والدولة، وهو الذي يدير دفّة البلاد من شرقها إلى غربها مع أنّه ليس بمعصوم عندنا، فكيف هي الشريعة أو الدولة إذا أُنيطت بالمعصوم؟!

3 ـ «أقول: الاجتهاد عند فقه الشيعة وَقَفَ عند أنّ هناك مرجعاً له كتاب فقهي وله مقلّدون».

والجواب: إنّ نظام ولاية الفقيه ـ الذي هو سرّ قوّة هذا النموذج ـ أُنيطت السلطة المطلقة فيه للفقيه المجتهد العادل، الجامع للشرائط، والعارف بأُمور زمانه، بما فيها شؤون الدولة والسياسة والمجتمع وغير ذلك، فلا يقتصر على كتاب فقهيّ ومقلّدون.

خاتمة في وسطيّة عادلة:

ما نبغيه هو أن تتحلّى الاَُمّة الاِسلامية بدرجة من الوعي في إطارٍ تنسجم فيه جميع الاَطراف مع بعضها الآخر، فالوحدة الاِسلامية مطلوبة بلا شكّ، إلاّ أنّ لها أُسساً ومبادىَ تقوم على الانفتاح الفكري والعقائدي بين جميع الفئات المختلفة... ولكن في الطريق مررت بكتاب تحت عنوان «شيعةٌ... لكن لمن؟» لسمير الهضيبي ـ تفضّل بإطلاعي عليه أحد سادتنا العلماء، عندما عرف بأنّي في صدد الكتابة حول ما جاء في حوار الدكتور عمارة ـ والمفاجأة أنّ الغلاف كان يحمل ثناءً وإطراءً من الدكتور المذكور للكاتب وقد جاء فيه:

«فلقد سعدت بقراءة إبداعك الجديد (شيعة... لكن لمن؟) ويسعدني أن أضع بين يديك ـ بعد التهنئة على هذا العمل المتميّز ـ هذه الانطباعات والملاحظات:

ـ لقد نجحت في تحويل تاريخ ظهور الاِسلام... والصراعات التي

الصفحة 67
دارت حول الخلافة ومناهج الحكم في الحقبة الراشدة إلى خريطة حيّة يتذوّقها جمهور من القرّاء أوسع من جمهور قرّاء التاريخ..

ـ ونحجت في الحفاظ على دقّة الحدث التاريخي..

ـ وإذا كانت المشاهد الفنّيّة ـ الروائية ـ والتي شدّتني وأمتعتني ـ كقارىَ متذوّق ـ قد جاءت قليلة بالقياس إلى تدفّق أحداث التاريخ ونصوص حوارات أبطاله... فلقد قام (إحياء) التاريخ مقام (الخيال) فكان أدباً من لون جديد... الكلاسيكيّات التي ينهض فيها الصدق التاريخي ليحلّ محلّ الروائيّين!..

ـ كذلك نجحت في العرض المتوازن والوافي... التي مثّلت مذاهب ومدارس التأريخ لهذه الحقبة... وكان جميلاً أن يظهر الاِسلام في مكانه الاِلهيّ... وأن تظهر بشرية الجيل الرائد الذي أقام هذا الدين... لقد نجحت نجاحاً عظيماً في التمييز بين (المعصوم) و(غير المعصوم) على النحو الذي نرجو أن يسهم في حلّ مشكلات (القداسة) أو (الافتراء) على هذا التاريخ!.. تلك هي الانطباعات... التوقيع د. محمّـد عمارة».

تُرى، ماذا في الكتاب حتّى راح الدكتور يُثني عليه بهذه الطريقة مكرّراً نجاحه؟!

هل هو الحفاظ على دقّة الحدث التاريخي وأنّ الشيعة من تأسيس عبدالله بن سبأ اليهودي؟!

أم إنّه الاَدب الجديد الذي يصوّر أصحاب أمير المؤمنين كميل بن زياد ومالك الاَشتر بأبشع الصور الاستغلالية؟!

أو لا، هو ذلك التمييز بين «المعصوم» و «غير المعصوم» وأنّ علي بن أبي طالب عليه السلام كان مولعاً بالنساء؟!


الصفحة 68
أهكذا كان الكاتب يحلّ مشكلات «القداسة» أو «الافتراء» بنظر الدكتور «المتذوّق»؟!!

إنّها مجموعة افتراءات لا يوجد فيها مصدر واحد يُعتمد عليه سمّاها الدكتور صدقاً تاريخياً يحلّ محلّ خيال الروائيّين!!

وهل هي تلك الوسطيّة التي أتحفنا الدكتور بها؟!

أرى أنّ القاضي هو المدّعي في هذه القضية، والحال أنّه لا بُدّ أنْ يكون طرفاً محايداً...

مفكرٌ إسلاميٌ شدّته وأمتعته قصص سمير الهضيبي الخرافية!!

وهل تنسجم مثل تلك الافتراءات مع الوحدة الاِسلامية؟!

أين «تماسك النسيج»؟!!

(إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة)(1) .

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحّد صفوف المسلمين على العقائد الصحيحة، ويكشف عنهم الكرب والغمّ، راجين منه عزّ وجلّ أن يحرّر أرضهم من أيدي المستكبرين، ولا سيّما الصهاينة منهم، إنّه عليٌّ قدير.

والحمـد لله ربّ العالميـن.

* * *

____________

(1) سورة النور 24: 19.