الحلقة الثانية
مظلومية الزهراء (عليها السلام) وأهل البيت(عليهم السلام) عناصر تشيّعي
كانت إجابة أحمد سريعة ومتحمسة ، فقد انبرى قائلا : الحمد لله تعالى الذي هداني إلى معرفة أهل ولايته ، واستنقذني من عمى الضلالة ، وتيه سبل الانحراف ، لقد عرفت الحقيقة ، ووقفت على صدق الدعوى التي رفعها النبي(صلى الله عليه وآله) ، والأئمة الأطهار من أهل بيته(عليهم السلام) ، رغم محاولات الطمس التي تعرضت لها قرون عديدة ، صحيح إنّ تضافر الأدلة التي احتج بها أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم ، على أحقيّة الأئمة الهداة في قيادة الأمة الإسلامية ، بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) ، لا تدع لمؤمن وجهة يقصدها غير أبواب الهداة الطاهرين ، التي جعلها الله تعالى قبلة وملاذا للمسلمين ، وأودع في بيوتهم العلم والحكمة ومكارم الأخلاق ، ففاضت على العالمين خيراً وبركة .
كلّ الأدلّة التي قرأتها ، وتثبتّ في صحة مصادرها ، أقنعتني وزادتني تثبيتاً ويقيناً ، من أنّ الحقّ هو في هذه الأمّة الموالية لأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) قلباً وقالباً ، وليس عنواناً يُدّعى بلا تطبيق ، كما يمارسه مخالفوهم ، غير أنّ التي أراحتني مطلقاً وهزّت مشاعري ، وأوقفتني وحدها على الحقيقة ، هي مظلومية السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي(صلى الله عليه وآله) ، وما لقيته من هضم وإجحاف ونقيصة وغميزة في حقّها ، من طرف من كان يشاهد ويسمع ويرى ما كان يفعله ويقوله ويطبقه في شأنها ، والدها النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) .
فمن تكون فاطمة الزهراء(عليها السلام) ؟ وما هي خصائصها ؟ وكيف ظلمت ؟ ومن ظلمها ؟ ولماذا ظلمت ؟ لذلك يمكنني القول : بأنّ الزهراء (عليها السلام) ، هي التي فتحت
قلبي قبل عيني على الحقيقة التي تقول، بأنّ الإسلام المحمدي الأصيل والصافي ، لا يوجد إلاّ عند الصفوة الطاهرة وشيعتهم ، الذين باركهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) في عدة أحاديث ، من بينها قوله(صلى الله عليه وآله) مشيراً لعلي(عليه السلام) "هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة" . وقد نقل هذه الرواية عدد من مفسّري وحفّاظ المخالفين لخط أهل البيت(عليهم السلام)(1) . لكن قبل أن أقدم دليل استبصاري ، اسمحوا لي بالتطرق ولو بإيجاز إلى هذه الفاضلة العظيمة(عليها السلام) ، وجعلنا الله من شفعائها يوم القيامة .
من هي فاطمة الزهراء(عليها السلام) ؟
هي بضعة المصطفى أبي القاسم محمّد خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وآله) ، وريحانته ، ومهجته ، وقلبه ، وروحه التي بين جنبيه ، حسب الأحاديث التي ذكرها النبي(صلى الله عليه وآله)بخصوصها .
ولدت على أشهر الروايات في السنة الخامسة بعد البعثة ، وقد استبشر أهل السماء بولادتها قبل أهل الأرض ، وتولّت ذلك في مقاطعة وغياب نساء قريش ، عدد من نساء أهل الجنّة ، أرسلهنّ الباري تعالى ليكونوا أنساً وخدماً للوالدة والمولودة(عليهما السلام) .
أمّا أمّها فهي السيّدة خديجة بنت خويلد ، تلك الفاضلة التي واست النبي(صلى الله عليه وآله)بنفسها ومالها ، حتّى قال فيها : "ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة"(2) .
وهي التي بشّرها رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأنّها من سيّدات نساء أهل الجنّة(3) . بقيت تحت النبي(صلى الله عليه وآله) إلى أنْ ماتت ولم يتزوج عليها ، بينما تزوج على غيرها تسعاً ، وبقيت أحبّ أزواجه إليه إلى أنْ مات(صلى الله عليه وآله) ، ولم تنسه واحدة ممن تزوجهنّ بعدها ذكر خديجة وأيّام خديجة(عليها السلام) .
____________
1-انظر الرواية في المناقب للخوارزمى : 111 ، تاريخ ابن عساكر 42 : 333 ، أنساب الأشراف ، البلاذري 1 : 182 ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني 2 : 467 ، وغيرهم . 2-الأمالي ، الطوسي : 468 . 3-المستدرك على الصحيحين 3 : 185 ـ 186 .
خصائصها(عليها السلام)
خصائص الصديقة الطاهرة أكثر من أن تعد ، فهي كما وصفها أبوها(صلى الله عليه وآله)حوراء إنسيّة ، قلباً وقالباً ، روحاً وعقلا ، فهماً وعلماً ، والشيء من مأتاه لا يستغرب كما يقولون .
ورغم كثرة تلك الخصائص ، فإنّني لن أطيل في هذا المقام ، لأنّ الجلسة لا تحتمل ذلك ، لذلك سوف أذكر بعض الخصائص الكبرى المتفق عليها عند كلّ الفرق الإسلاميّة :
الخاصيّة الأولى : كونها سيّدة نساء العالمين
فقد ذكر النبيّ(صلى الله عليه وآله) ذلك في عدد من الأحاديث منها ما صرحت به عائشة قالت : "أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقال : مرحباً بابنتي ، ثمّ أجلسها عن يمينه ثمّ أسرّ إليها حديثاً فبكت ، ثمّ أسرّ إليها حديثاً فضحكت ، فقلت : ما رأيت كاليوم أقرب فرحاً من حزن : فسألتها عمّا قال ، فقالت : ما كنت لأفشي على رسول الله(صلى الله عليه وآله) سرّه ، فلمّا قبض سألتها فأخبرتني أنّه قال : إنّ جبريل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة وإنّه عارضني العام مرتين ، وما أراه إلاّ قد حضر أجلي وإنّك أوّل أهل بيتي لحوقاً بي ونعم السلف أنا لك ، فبكيت ، فقال : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين فضحكت"(1) . وتشترك السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)في هذه الخاصية مع أمّها السيّدة خديجة ، لذلك فإنّنا نفتخر كمسلمين بأنّ لنا نصف سيدات نساء العالمين وأهل الجنّة اللاتي عدّتهنّ أربعة .
سيّدة النساء تفيد الكمال في هذا الإطار ، والسيادة لا تعني في لغتنا غير العلو والرفعة والتميّز والتفوّق، وقد نالت فاطمة(عليها السلام) السبق في كلّ المكارم التي يمكن
____________
1-الإصابة في تمييز الصحابة 8 : 265 ـ 266 .
للكائن الإنساني أنْ يصلها ، وهي زيادة على كونها بضعة من الرسول الخاتم(صلى الله عليه وآله) ، ذلك الكائن الذي تمكن من مجاراة نسق طاعة النبي(صلى الله عليه وآله) وطاعة الوصي ، إمام الأمّة عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ، فخرجت من بين القمّتين المستعصيتين قمّة أخرى لا تنال بلحظ ولا تدرك بعمل .
وهذا دليل آخر يمكن وضعه في خانة نسبة العصمة إلى فاطمة الزهراء(عليها السلام) .
الخاصيّة الثانية : كونَها أمّ أبيها
وقد لقبها أفضل المخلوقات بهذا اللقب ; لأنّها كانت بالفعل ، البنت والأمّ في نفس الوقت ، وقد استطاعت بحنانها الفياض أنْ تملأ عليه الفراغ الهائل الذي تركته زوجته وحبيبته خديجة بنت خويلد(عليها السلام) ، ولم تستطع واحدة من نسائه التسع اللاتي تزوجهنّ بعدها ، منْ أن تنسيه خديجة(عليها السلام) . ممّا أثار حفيظة إحداهنّ ، وهي عائشة التي امتلأ قلبها حقداً وغيرةً عليها كلّما رأت النبي(صلى الله عليه وآله)يهتم لصاحبات خديجة(عليها السلام) ، ويفرح بهنّ عندما يأتينه لحاجة أو زيارة ، إلى درجة وصفها بالعجوز الحمراء الشدقين .
الخاصيّة الثالثة : كونُها الصدّيقة
ولقبت بالصدّيقة ، لاشتراكها مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليهما السلام) في مقام الصدق ، حتّى نزل فيهم قرآن يحثنا على أنْ نكون معهم . قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(1) .
وطالما أنّ الصدق صفة نسبية في الناس ، ولا يمكن إطلاقها إلاّ على القلّة القليلة منهم ، فقد اتجه إلحاقها بمن كانت إرادتهم متطابقة دائما مع إرادة الباري تعالى ، وتفسير الآية متعلق بهم .
____________
1-التوبة : 119 .
والصدّيق صفة مبالغة من الصدق ، هؤلاء الذين كانوا دائما وراء النبي(صلى الله عليه وآله)تصديقاً وعملا بمقتضاه ، يتفق معهم هذا اللقب اتفاقاً كاملا بمقايسته ببقيّة الخصائص ، ويختلف مع غير هؤلاء ; لعدم ثبوت العصمة فيهم ، بينما ثبتت العصمة في أهل البيت(عليهم السلام) بالنصوص التي في حوزتنا ، وعمليّاً بما لم يسجّل عليهم التاريخ زلّةً واحدةً أو غميزة تزحزحهم عنها.
الخاصيّة الرابعة : كونُها محدّثة
لُقّبت فاطمة(عليها السلام) بالمحدّثة ، لأنّ الملائكة كانت تحدّثها ، وتأنسَ إليها في أكثر الأوقات ، بل وتعينها في بعض الشؤون ، وقد جاء جبريل(عليه السلام) بعد وفاة والدها لتعزيتها ومواساتها .
الخاصيّة الخامسة : كونُها طاهرة
فقد شملتها آية التطهير التي تدلُّ بوضوح على إذهاب رجس الشيطان عنها ، وتطهيرها تطهيراً كاملا ، وهذا دليل على كمال الزهراء عليها السلام وعصمتها .
الخاصيّة السادسة : كونُها الكوثر
وقد لقّبها الباري تعالى بالكوثر، مبشّراً نبيّه(صلى الله عليه وآله) ، بعدما شناه العاص بن وائل والد عمرو بن العاص ، وكان معدودا من المبغضين للنبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) ، معيّراً إيّاه بالأبتر ـ الذي لا عقب له ـ بسبب أنّ الذي لا يخلف ولداً ذكراً ، يعتبر لا عقب له بمنظور المجتمع الجاهلي ، فاغتمّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) لذلك ، ولجأ في ذلك إلى الله تعالى ، فأنزل عليه سورة الكوثر ; تطييباً لخاطره ، وبشارة له بكون عقبه سيكون من فاطمة الزهراء(عليها السلام) ، ولقّبها بالكوثر ; لكثرة نسلها من الصالحين . وقد ورد عنه(صلى الله عليه وآله) : "بني اُم ينتمون إلى عصبتهم إلاّ ولد فاطمة فإنّي أنا أبوهم وأنا عصبتهم"(1) .
____________
1-تهذيب الكمال 19 : 483 .
الخاصيّة السابعة : كونها الزهراء
لُقّبت فاطمة بالزهراء للنور الذي يزهر منها إلى عنان السماء إذا قامت في محرابها للصلاة . وفاطمة(عليها السلام) ضاهت ، بل فاقت مريم العذراء في تهجدها وعباداتها ، لذلك كساها الباري تعالى من نوره ظاهراً وباطناً ، وأسبغ عليها من نعمه ومننه ، حتّى قرن غضبها من غضبه ، ورضاها من رضاه ، وهذا مقام لم يستطع أحد من العالمين الوصول إليه غيرها . ولا عجب في من خرجت إلى الدنيا من نور حبيب الرحمان ، وتربّت بين سيّد النبيين(صلى الله عليه وآله) ، وسيّدة نساء أهل الجنة(عليها السلام) ، ثم انتقلت إلى بيت سيّد الوصيين(عليه السلام) ; لتتولى دورها المهم في تنشئة وإعداد أنوار الأمة وهداتها(عليهما السلام) .
كيف ظلمت؟
مظلومية فاطمة(عليها السلام) ، غير خافية على المتتبع لأحداث ما بعد موت النبي(صلى الله عليه وآله) ، فقد اقتُحِمَ عليها بابُها الذي جعله الله تعالى قبلة ومقصداً للمسلمين ، وحادثة سدّ الأبواب إلاّ بابها من أوضح الواضحات ، لا ينكره إلاّ جاحد ، انتُهكت حُرمة بيتها ، ووجىء في بطنها فأسقطت محسناً ، وضُرِبت وكُسِر ضلعها من طرف الغاصبين للحكومة الإسلامية ، حتّى كادوا يحرقون عليها بيتها بمن فيه ، مع علمهم التام واليقيني بمقامها ، ومكانة زوجها الرفيعة ، التي لا يشكُّ فيها إلاّ منافق خبيث الولادة ، ذلك التعدي الصارخ على حرمتها ، لم يكن وليد تلك اللحظة ، بل إنّ فيه ما يشير إلي أنّ أضغان المعتدين كانت مضطرمة قبل ذلك بكثير ، فقد كانت قلوبهم تتقد حقداً، وأفئدتهم تشتعل حسداً كلما رأوا النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) مهتماً بذلك البيت الطاهر ، ومعتنيا بأفراده المميزين(عليهم السلام) ، مشيراً إلى فضلهم ، ناصّاً على منزلتهم الرفيعة عند الله تعالى وعند رسوله(صلى الله عليه وآله) ..
لماذا ظلمت؟
أمّا لماذا ظلمت الزهراء(عليها السلام)؟ وهي على تلك المنزلة الرفيعة والمكانة الخصّيصة ، فهل يعقل أنْ تنسى مكانة الزهراء(عليها السلام) ، حتى يتعامل معها بذلك الأسلوب المخزي ؟ السبب متعلق كما أشرنا بمسألة حسّاسة ، وهي الحكومة الإسلامية ، والتي هي على ارتباط وثيق بزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، والنصوص المشيرة إليه عديدة ، ومكانته من النبي(صلى الله عليه وآله) واضحة ، وتفانيه من أجل إعلاء كلمة الله تعالى لا ينكره إلاّ معاند ، لذلك لم تكن ردود أفعال الغاصبين تجاه أصحاب الحقّ إلاّ دليلا على أحقيّتهم ، ولو لم يتعامل الغاصبون مع أهل البيت (عليهم السلام) بكلّ تلك القسوة والفضاضة لما أمكنهم أنْ يحافظوا على الحكم ، لأنّهم يُدركون جيداً من يواجهون ، ومن هو صاحب الحقّ في سياسة الأمّة الإسلامية بعد النبي(صلى الله عليه وآله) .
احتجاجها(عليها السلام)
لم تبقَ فاطمة الزهراء(عليها السلام) مكتوفة اليدين ، بعدما تناهت إلى أسماعها أنباء استيلاء الغاصبين على الحكم ، وتجاهل حقّ الإمام علي(عليه السلام) في قيادة الأمّة الإسلامية بعد النبي(صلى الله عليه وآله) ، فخرجت(عليها السلام) ليلا مع زوجها أمير المؤمنين(عليه السلام) ، تستحث الأنصار على بيعة سيّد الوصيين(عليه السلام) ، وتذكّرهم حقّه الذي خصّه الوحي به ، إلاّ أنّ بيعة القوم كانت قد انعقدت للغاصبين ، وأحجم أكثر الناس عن خلع بيعتهم ، لأسباب مختلفة منها ما هو متعلق بالخوف ، ومنها ما يتصل بطبيعة أولئك الممتنعين ، ومنها العامل الزمني الذي استغله الغاصبون لصالحهم على الوجه الذي ثبتت فيه أمورهم . لذلك لجأت(عليها السلام) إلى أسلوب آخر من إقامة الحجّة ، فطالبت بحقّها في ميراثها من أبيها(صلى الله عليه وآله) ، فكذب الغاصبون للحكم عليها ، وادّعوا أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قد قال : "إنّا معاشر الأنبياء لا نورث"(1) . فخطبت في الرد على تلك
____________
1-التمهيد لابن عبد البر 8 : 175 .
الفرية خطبة بليغة أفحمت فيها الظالمين ، وقصفت بهتانهم من الأساس ، مستدلّة في بيان أحقيتها وصحّة دعواها بما أخرس نعيق الباطل ، فقالت في آخر كلامها : "... وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" . أفلا تعلمون ، بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية ، أني ابنته ، أيها المسلمون أأغلب على إرثي؟
يا ابن أبي قحافة ، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريّاً ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}(1) وقال فيما اقتصّ من خبر يحى بن زكريا(عليه السلام) إذ قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}(2) . وقال : {وَأُوْلُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللهِ}(3) . وقال : {يُوصِيكُمْ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُْنثَيَيْنِ}(4) . وقال : {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}(5) . وزعمتم أنْ لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج أبي(صلى الله عليه وآله) منها ، أم هل تقولون : أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعمَ الحكم الله ، والزعيم محمّد(صلى الله عليه وآله) ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكل نبأ مستقر فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم(6) .
____________
1-النمل : 16 . 2-مريم : 5 ـ 6 . 3-الأنفال : 75 . 4-النساء : 11 . 5-البقرة : 180 . 6-الاحتجاج 1 : 138 ـ 139 .
فإنّها بذلك فنّدت مزاعم البغاة من أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لا يورث من جهة ، وأنّه قد ترك وصيته لأهله وأمته من جهة أخرى ; لأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) أوّل المكلفين والمطبقين للأحكام النازلة عليه ، ووجوب الوصيّة غير خاف في هذه الآية ، وحثّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) على القيام بها ، جاءت به عدّة من الروايات ، فلا تصح دعوى ترك الوصية عند من أطلقها ، لأنّها عارية عن الدليل ، وأدلّة إثبات الوصيّة قد بلغت من القوّة ما دفع بالمنكرين إلى مزيد من الكذب على الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله) ، فلم يزدهم ذلك من الله إلاّ بُعدا .
لكنّ البغاة على حقّها لم ينثن عزمهم ، ولا فتر جهدهم في منعها حقّها ، فتمسّكوا بالرواية المكذوبة ، وأصرّوا على إنفاذها إصراراً عجيباً ، ولمّا لم تجد منهم آذاناً صاغية ، رجعت لتطلب نحلتها في فدك التي نحلها إياها والدها بعد فتح خيبر ، وهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا رجال ، ونزل جبريل(عليه السلام) بقوله تعالى : {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}(1) . وأمره أنْ يعطي فدكاً لفاطمة(عليها السلام) ، فكانت تحت يدها على عهده(صلى الله عليه وآله) ، فلمّا توفي افتكت منها ، ولم يرجعها إلى ذريتها إلاّ عمر بن عبد العزيز الأموي الذي أراد الله تعالى أن يُتمَّ كشف الحقيقة على يديه ، وفضح أكذوبة ابن أبي قحافة وصاحبه وعصابتهما .
لكنّنا مع إثبات الزهراء(عليها السلام) لحجّتها بالكتاب العزيز ، وبقوّة الدليل ، نستهجن أنْ تترك الأمّة حجّة فاطمة الزهراء(عليها السلام) ، التي أذهب الله تعالى عنها الرجس وطهّرها تطهيرا ، لتستأنس بإعادة الخليفة الأموي لحقّها في فدك إلى ذريتها من بعدها ، فهل قصرت شخصيتها المباركة الطاهرة حتّى يلتفت إلى إثبات غيرها ، وتصديقها من ذلك الطريق ، وقد نزل في خصوصها ما نزل ، وقال فيها النبي(صلى الله عليه وآله)ما قال؟ ومنذ متى كان لذلك البيت الذي ينفق من الخصاصة ، ويعطي من القلّة ،
____________
1-الإسراء : 26 .
بعدما طلّق الدنيا ثلاثاً ، هم أو مطمح دنيوي ؟ ألم تكن فدك في أيديهم أكثر من سنتين ، ومع ذلك لم يخزنوا من نتاجها شيئا ، ولا أثر عنهم طرق وأساليب الناس في جمع الحطام؟ دأب ذلك البيت دائما الإنفاق في سبيل الله ، بطريقة لا يستطيعها غيرهم ، يعطون عطاء من لا يخشى الفقر ، تارة يخرجون من أموالهم كلّها ، وتارة يقاسمونها الله تعالى ، كما أثر عنهم(عليهم السلام) ، فهم أهل آخرة لا يهمهم من الدنيا إلاّ مقدار ما يوصلهم إلى غايتهم ، ومن هنا جاء سبب حجب حقوقهم عنهم ، لئلاّ يستميلوا بها سواد الناس ، وتكون لهم عونا على استرداد أحقيتهم في الحكم .
لقد مضى والدها(صلى الله عليه وآله) بين هؤلاء كالحلم ، فلم يفهموه ولا فهموا مقامه ، إلاّ قليل من المؤمنين ، وقد لقي من عجرفتهم وتعنتهم واستكبارهم ما لقي ، على قصر المدة التي قضاها بينهم ، فهل تراهم يقدّرون ابنته(عليها السلام) ، ويضعونها موضعها الذي تستحق؟
لم يكن شي من ذلك ، بل لقد حصل الأسوأ ، كأنّما قدر هذه الأمة أن تحذو حذو بقيّة الأمم في التنكر لأنبيائهم ، وتحريف أحكام الشريعة ، وتطويعها حسب مشيئة هذا الحاكم أو ذاك .
أهمّ ما قال النبي(صلى الله عليه وآله) في شأنها :
واصل أحمد حديثه فقال : مضافاً إلى كون فاطمة الزهراء من أهل البيت الذين نزلت فيهم آية التطهير ، وتحديد النبي(صلى الله عليه وآله) لعدد هؤلاء كما صرّحت بذلك كلّ من عائشة وأم سلمة ، وهم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) . فقد صرّح والدها(صلى الله عليه وآله) في شأنها بقوله : "فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها أغضبني"(1) .
وقد ماتت الصدّيقة شهيدة من جرّاء الضرر الذي لحقها من اقتحام الغاصبين لبيتها ، غاضبة على أولئك الذين تعاونوا على صرف الحكومة عن زوجها الأولى
____________
1-صحيح البخاري 4 : 210 .
والأحقّ بذلك المقام . صرح بذلك عدد من الحفاظ من أتباع خط السقيفة ، منهم البخاري(1) الذي يعتبر أكثرهم تحفظا على إخراج ما يتعلق بأهل البيت(عليهم السلام) ..
هل بايعت الزهراء(عليها السلام)؟
يضيف أحمد قائلا : نحن نعلم جيّداً أنّ فاطمة الزهراء(عليها السلام) هي سيّدة نساء العالمين ، بضعة المصطفى ، ومهجته ، وروحه التي بين جنبيه ، وهي أوّل الناس دخولا إلى الجنّة ، وأنّ شفاعتها يوم القيامة أكبر من أنْ تقدّر بعدد ، وكما نعلم بحسب الظاهر أنّها لم تبايع الغاصب الأول للحكم ، ولا حكي عنها ذلك إطلاقاً ، خاصّة إذا ما ثبت لدينا موتها وهي غاضبة عليه وعلى أعوانه ، وأوصت زوجها عليّاً(عليه السلام) بأنْ لا يأذن لأحد من الغاصبين بحضور جنازتها ، ووجوب البيعة أمر لا يختلف فيه اثنان ، بل لقد قرن النبي عدم البيعة بالجاهلية ، فقال : "من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية"(2) . فمن بايعت الزهراء إذاً؟
التفت إليّ أحمد بوجهه الصبوح المنشرح وقال : هذه هي النقطة التي أوصلتني إلى الحقيقة ، وعند هذه الحجّة ، انقطعت حجتي في اتّباع خطّ السقيفة ، صحيح أنّ الزهراء(عليها السلام) قد قطعت وجهة المتعلل في مسألة المطالبة بميراثها ونحلتها وسهمها ،إلاّ أنّ مسألة بيعتها هي التي أماطت عن بصيرتي حُجب الضلالة التي كنت أتخبط فيها.
واختتم أحمد كلامه قائلا : في الأخير أودّ أنْ أختم كلامي بالحديث عن واجب من الواجبات الأكيدة التي أمر بها الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه فقال: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(3) .
____________
1-المصدر نفسه 5 : 82 . 2-صحيح مسلم 7 : 263 . 3-الشورى : 23 .
أنّ فريضة المودة هذه متعلقة بأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) ، فمودتهم تستوجب محبتهم ومحبتهم تستوجب تقديمهم ، وتقديمهم يستوجب مولاتهم ، فأين مودة هؤلاء الذين انتهكوا حرمة فاطمة الزهراء(عليها السلام) ، أم أنّهم مستثنون من تلك المودة ؟ ولماذا أُعفي عن قبرها وهي التي من المفترض أن تكون بجانب أبيها ؟ لا شك أن من خلص معدنه وصفي باطنه سيدرك المعنى جيدا ، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الاْخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا}(1) .
لهذا وذاك أودّ أن أوجّه ندائي إلى عامّة هذه الأمّة المغلوبة على أمرها والمضيّعة لحقوقها والتاركة لواجباتها ، من أن يتوقفوا وقفة تأمل ، وليسألوا أنفسهم كما سألنا أنفسنا نحن : ماذا لو كان الخطّ الذي يسلكونه منحرفاً ؟ لأنّ الشك طريق إلى اليقين . وليبحثوا بعدها في الحجج التي ذكرتها ، وأثبتها غيري ، فإنّني على يقين من أنّهم سيدركون الحقيقة بكلّ يسر بمشيئة الباري سبحانه وتعالى ، والحمد لله أولا وأخيراً .
____________
1-الاسراء : 72 .
الحلقة الثالثة
عقيدة أهل البيت(عليهم السلام) في التوحيد هي التي شيّعتني
وما أن أتمّ أحمد حديثه حتّى انبرى صالح قائلا : أمّا أنا فقد شيعني التوحيد الخالص ، وبقيّة العقائد الصافية ، للأئمة الهداة من أهل بيت المصطفى(صلى الله عليه وآله) ، وهو دليل قاطع يؤكّد صحة الخطّ الذي عليه المسلمون الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، ويؤكّد سقوط بقيّة الخطوط في تيه لا نجاة منه ، بتشويهها للتوحيد الخالص ، واعتمادها لعقيدة التجسيم والتشبيه ، جرياً على اعتقادات المشركين من الأمم السابقة ، مصورة المولى سبحانه وتعالى جسما ، على صورة آدم(عليه السلام) ، وأنّ له أعضاء كاليدين والرجل ، وجوارح كالعينين ، وأنّه ينزل إلى السماء الدنيا ، كأنّما هو في حيّز ، ويحتاج في تدبيره للكون إلى حركة ، ويضع رجله في النار فيزوى بعضها إلى بعض ، كأنّما خلقها أكبر مما قدّره لها من العصاة والكافرين ، ويتنكر يوم القيامة فلا يكشفه غير المؤمنين ، إلى غير ذلك من الترّهات التي مرّرها كعب الأحبار عبر أبي هريرة الدوسي ، وأثبتها فيما بعد منظّروا الخطّ السلفي ، والمعروفين أيضاً بأهل الحديث ، كالحنابلة ونحوهم .
شاء القدر أن يضع في طريقي أحد فضلاء الشيعة أثناء أدائي لعمرة مستحبّة ، وقد كنت محظوظاً في ذلك ، لأنّ تعرّفي على ذلك الشخص قد قلب كياني ، وأوقفني على حقيقة التوحيد ، شاهدني الرجل وأنا متلهفٌ لأخذ كتاب التوحيد للمبتدع محمد بن عبد الوهاب ، فقد كنت أراه قمّة البيان والبرهان في التوحيد الخالص ، والصافي من شوائب الشرك ، ابتدرني قائلا وعيناه ترمقان الكتاب بنظرة فيها شي من الأسى : "السلام عليكم". فرددت عليه السلام .
قال : "هل تؤمن حقيقة بما جاء في هذا الكتاب؟"
فقلت له : "أفي الله شك فاطر السماوات الأرض" .
قال : "ليس القصد في أصل الاعتقاد بالله تعالى ، لأنّنا كلّنا نعتقد بوجوده ووحدانيته تقريباً ، وقد يشترك . معنا فيه كلّ المخلوقات حتّى المشركين ، لقوله تعالى : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ...}(1) . لكن المراد من سؤالي ، هو ما حواه الكتاب من إساءة لله تعالى ، وسوء تقدير له ، ووضعه موضع المحتاج ، وتشبيهه بخلقه ، والاعتقاد بأنّ له أعضاء وجوارح كالمخلوقات".
فقلت له : "هذه هي عقيدة أهل السنّة والجماعة ، والتي كان عليها السلف الصالح وأخذها عنهم التابعون لهم بإحسان . ولكن ما هو توحيدك أنت حتّى تتهمني بفساد العقيدة؟"
قال : "هو توحيد خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وآله) ، الذي علّمه لعليّ بن أبي طالب وأهل بيته(عليهم السلام) ، وتعلمه صفوة الصحابة ، أمثال أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر والمقداد وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم" .
فقلت : "وعلى أيّ أساس ينبني توحيد أهل البيت رضي الله تعالى عنهم؟" .
قال : "ينبني على تنزيه الله تعالى عن كل النقائص ، وإثبات كلّ كمال فيه جلّ شأنه ، وتوحيده في الذات والصفات والخلق والرزق والحاكمية والعبادة ، إلهاً واحداً أحداً لا مثيل له ولا شبيه ولا ندّ ، ليس كمثله شي وهو السميع البصير" .
قلت : "فهل لك من بيّنة من كلام أهل البيت رضي الله عنهم في هذا" .
قال : "لقد كان جلّ كلام أهل البيت(عليهم السلام) منصّباً في بيان مقام الخالق سبحانه وتعالى ، لعلمهم بأنّ عدم بيانه ـ رغم أنّه من أجلى الموجودات على الإطلاق ـ لا
____________
1-الزمر : 38 .
يؤسّس لعقيدة سليمة ، ولا يفوتني هنا أن أستحضر إحدى خطب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في التوحيد والتي منها : "... أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومَنْ قال فيم؟ فقد ضمنه ، ومن قال على ؟ فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شي لا بمقارنة ، وغير كل شي لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده..."(1) .
وقد سلك أبناؤه الكرام البررة ، هداة الأمّة وربّانيوها ، مسلكه في الدفاع والذبّ عن الدين الإسلامي الصافي ، عقيدة وشريعة ، فجاءت خطبهم ، ومناظراتهم ، وبياناتهم ، ودروسهم ، حتّى في أحلك ظروف الحبس والجبر والقهر ، جاءت أدعيتهم مصداقاً للعقيدة الربانيّة الحقيقية ، التي لم تخضع يوماً لظالم ، ومرّت إلينا بعد تضحياتهم الجسام التي كلفتهم حياتهم شهداء من أجل دين الله تعالى بالسيف أو بالسمّ ، ومعاناتهم عبر الزمن ، ولولا أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ، لما وصلنا من الدين الذي جاء به سيّدهم الأكبر(صلى الله عليه وآله) شيء يعتمد عليه .
اندهشت من دقّة كلام الإمام علي(عليه السلام) وعمق معانيه ، ووقفت بسرعة على حقيقة تقول بأنني غير متّجه بعقيدة محمد بن عبد الوهاب في التوحيد الوجهة الصحيحة ، لكنّني استدركت قائلا : "إذاً فما معنى هذه الآيات والروايات التي اعتمد عليها ابن عبد الوهاب في كتابه؟" .
____________
1-نهج البلاغة 1 : 16 .
قال : "إنّ الابتعاد عن النبع الصافي الذي تركه رسول الله(صلى الله عليه وآله)لأمته ، وهم أهل بيته(عليهم السلام) الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، قد ورث للناس ديناً وعقيدة بتراء عرجاء ، لا تنتج غير الأبتر والأعرج ، فأهل البيت(عليهم السلام) هم أهل الذكر الذين أشار القرآن إلى سؤالهم ، وهم الصادقون الذين أمرنا أن نكون معهم ، وهم الأبواب التي أمرنا أن نأتي منها ، وهم العروة الوثقى التي لا انفصام لها ، وهم حبل الله المتين الذي أمرنا بالاعتصام به ، وهم الراسخون في العلم الذين إذا سئلوا أجابوا ، ولم يقل أحد "سلوني قبل أن تفقدوني" غير علي(عليه السلام) بعد النبي(صلى الله عليه وآله)(1) ، فوجب إرجاع المتشابه إليهم ، والرجوع إليهم في كل ما نحتاجه من دين ودنيا ، لأنّهم ثقل الكتاب ووعاته ومستحفظوه .
أما الآيات التي اعتمد عليها ابن عبد الوهاب في بيان عقيدته الباطلة ، فهي لا تفيد ظاهراً بما رأى لأنّ كلام الله تعالى جاء محاكياً لبلاغة العرب في الاستعارات والكنايات والتشبيهات ، فعندما تقول العرب : قامت الحرب على ساق . فمعناه أنّه ليس للحرب ساق وإنّما المقصد منه اشتدت وحمي وطيسها . كذلك في قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}(2) كذلك معنى اليد والذي يفيد القدرة ، والاستواء معناه التمكن والهيمنة ، وغير ذلك مما يجب أن يجرى في التفسير مجرى المجاز لا الحقيقة ، واعتماد الأصل في مفهوم التوحيد الذي يقول : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ}(3) .
{لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(4) . ذلك هو الخالق المتعالي عن خلقه ، واحد أحد لا يتجزأ في حقيقة ولا وهم" .
____________
1-انظر : تاريخ الإسلام وفيات "11 ـ 40هـ" : 638 . 2-القلم : 42 . 3-الشورى : 11 . 4-الأنعام : 103 .
هكذا أنهى ذلك الرجل الفاضل كلامه ، واضعاً إيّاي على المنهاج المحمّدي الأصيل ، في التوحيد الذي جاء به(صلى الله عليه وآله) ، فكان له الفضل في إرشادي وتوجيهي إلى حيث التوحيد الخالص ، خطّ إسلام أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) ، ومدّني بكتاب "عقائد الإمامية" للشيخ المظفر تناول العقيدة الصافية ، التي شربها من معين أبي القاسم محمد(صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل بيته البررة(عليهم السلام) ، لا شائبة فيها ، ولا شبهة تعتريها ، فعلي(عليه السلام) ، هو باب مدينة علوم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، منه ومن ذريته الطاهرة(عليهم السلام)فاضت علوم الإسلام الحقّ على كلّ المسلمين الذين جاؤوا فنهلوا منها ، وتمسّك منهم من تمسّك بها ، وتركها من تركها على عمد ، خوفاً وفرقاً من الظالمين ، أو تعاون من تعاون من أجل محاربتهم ، فأتى بدين باطل متلبس ببعض الحقّ ، فشبّه للبسطاء فأخذوه وهم لا يدرون أنّه خليط ، ولو علموا وهنه لما اتّبعوه .
والعجب ليس في هؤلاء العامة الذين يتعبدون بالتبعية ، إنّما العجب من هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم موضع علمائهم وقد غرقوا في بالوعة التشبيه ، حتّى كادوا يساوون الله تعالى بمخلوقاته ، الله تعالى الذي ليس كمثله شي ، يوضع موضع المحدثات ، وينزل من علياء جبروته منزلة المخلوقين ، هكذا هي عقيدة ما يسمّى بأهل السنّة والجماعة وما حوته من أشعرية وسلفية ، فتمام الاعتقاد بالتوحيد الخالص عند هؤلاء ، الإيمان بأن الله تعالى جسم لكنّه ليس كالأجسام ، فهو جسم بلا كيف ، وله جوارح بلا كيف ، ويُرى في الآخرة مع احتمال رؤيته في المنام بلا كيف ، وينزل إلى السماء الدنيا ليلة الجمعة وليلة النصف من شعبان بلا كيف .
وقد أطنب علماء ذلك الخطّ في الدفاع عن عقيدة التجسيم والرؤية دفاع المستميت ، ضاربين في ذلك عرض الحائط بالعقل والمنطق والنصوص الصحيحة ، التي لا تعترف بتشويه عقيدة التوحيد ، وجعلها في مرتبة واحدة مع عقائد عبدة الأوثان ، بل أدهى وأمرّ ، لأنّه لو علم عبدة الأوثان حقيقة الخالق لما
شبّهوه بمصنوعات أيديهم ، كما لو علم هؤلاء الذين يدّعون بهتاناً وزوراً أنّهم أصحاب التوحيد الصحيح الخالي من الشرك ، أن الله لا تدركه الأوهام فضلا عن الأبصار ، ولا يستطيع أحد أنْ يحيط به علماً ، لما أقاموا على اعتقاد أنّه جسم ليس كالأجسام ، وله وجه ليس كالوجوه ، ويدان ليستا كالأيدي ، وعينان ليستا كالأعين ، إلى غير ذلك من الترّهات التي ما انزل الله بها من سلطان .
تبرير طالما ردّده أتباع خطّ التشبيه ، وهو إجراء معاني الآيات القرآنية على ظاهرها كما وردت عليه ، وإيكال تفسيرها إلى خالقها . مع ما ركنوا إليه من اعتماد بعض الروايات التي نزع مضمونها إلى تشبيه غريب ، يجزم المطلع عليه أنه مختلق ، لم يتفوّه به النبي(صلى الله عليه وآله) ، لأنّه لا يتّفق مع حقيقة الذات الألهية المقدّسة ، التي ليست جسماً بالتأكيد حتّى تكون لها جوارح كالإنسان ، ولا هي في حيّز حتّى تحتاج إلى الحركة ، من نزول ونحوه .
وطالما أنّ الله تعالى ليس بجسم ، فهو بالضرورة لا يُرى بالعين الباصرة ، ودعوى كونه جسماً ليس كالأجسام ، عارية من البرهان والإثبات ، فإمّا أنْ يكون جسماً فيكون محلا للحوادث ، وإذا كان محلاّ للحوادث صار ممكناً ، فلا يكون خالقاً ، وإمّا لا يكون كذلك ، فيكون واجباً ليس كمثله شيء غير محتاج ولا مركّب ، وذلك هو المولى سبحانه وتعالى .
في إحدى الجُمعات ، حضرت صلاة الجمعة ، فتحدّث الخطيب عن فضيلة ليلة الجمعة ، وذكر حديث نزول الربّ تبارك وتعالى في الثلث الأخير من ليلتها منادياً سائلا مستفسراً ، الرواية معروفة ومتسالم على صحتها عند أتباع خطّ التشبيه والتجسيم ، لكنّني قلت في نفسي : طالما أنّ الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا فأين يكون؟ أفي السماء الأخيرة ؟ أم فوق السماوات جميعاً؟ ولماذا ينزل طالما أنّه غير محتاج إلى النزول ، فهو الذي أخبر عن نفسه بقوله : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(1)؟
وتذكرتُ إمام الجمعة بعد ذلك ، عندما قرأت ما شاهده الرحّالة الشهير ابن بطوطة في المسجد الأموي بدمشق ، عندما حضر خطبة جمعة ألقاها ابن تيمية ، على جموع المسلمين في ذلك العصر ، وروى حديث نزول ربه إلى السماء الدنيا ، ونزل مرقاة أو مرقاتين ، وقال : "كنزولي هذا"(2). فحمدت الله تعالى أنّ جرأة ابن تيمية على الله تعالى لم تكن عامة في جميع خطباء الجمعة ، وإلاّ لكانت المصيبة أعظم على الأمّة التي أدخلت في تيه صنعه لها أناسٌ تصنّعوا العلم ، وركبوا مطيّة أنفسهم المستكبرة ، فضلّوا وأضلّوا .
وإلى جانب من أفرط في التشبيه كابن تيمية ومن نحا نحوه ، نجد شقّاً آخر من نفس الخطّ المنحرف ، أفرط هو أيضاً في التنزيه حتّى أفرد كتاباً خلُص فيه إلى أنّ الله ليس بشي تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيرا .
المدرسة التي شربت من عقائد اليهود إلى حدّ النخاع ، ونهل رواة حديثها من حافظة كعب الأحبار وتابعه أبو هريرة الدوسي ، جاءت بعقيدة في التوحيد شبيهة بعقائد اليهود والنصارى التي قصر فهمها للخالق سبحانه وتعالى ، فقرنوه وشبّهوه بعباده ، لأنّ اليهود عندما قالوا عزير ابن الله ، والنصارى عندما قالوا المسيح ابن الله ، كانوا يعتقدون بالشبه بين الخالق والمخلوق ، لم يرضهم أن تخلص عقيدة المسلمين ، وتصفو عن عكر عقائدهم ، فدسّوا من بين عوامّ المسلمين دهاة أحبارهم ورهبانهم ، ادّعوا دخول الإسلام ، فأفسدوا التوحيد في عقول من اتبعهم ، وجعلوه شبيهاً بعقائدهم . من بين تلك الروايات أستحضر رواية متناقضة في محتواها تقول : جاء حبر إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال يا محمد أو يا رسول الله إنّ
____________
1-يس : 82 . 2-رحلة ابن بطوطة : 113 .
الله عزّ وجلّ يوم القيامة يحمل السموات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ، يهزهنّ فيقول : أنا الملك . فضحك رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثمّ قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(1)(2) .
لست ادري الغاية التي دفعت بحبر من أحبار اليهود إلى أنْ يأتي للنبي(صلى الله عليه وآله)فهل جاء مستفسراً ، أو جاء مبيّناً ، الرواية لم تحدّد ذلك ممّا يوهن متنها .
أمّا ما جاء فيها فإنّه لم يكف هؤلاء بأنْ صوروا أنّ الله تعالى له يدان ، فأضافوا إليهما الأصابع ، وهل يمكن أن تكون يد بلا أصابع ؟ وهل يمكن أن تكون هناك أصابع بدون لحم وعظام وعروق وعصب؟ وهل يمكن أن تكون كذلك وليست لها حد ولا جهة؟
أمّا دعوى ضحك النبي(صلى الله عليه وآله) فهي عارية من الصحة لسببين اثنين :
الأوّل : لا يسوغ لعاقل أنْ يضحك على كفر وزندقة مثل التي لاكها الحبر بلسانه وألقاها ، والنبي(صلى الله عليه وآله) منزّه عن الوقوع في مثل هذه السقطات ، وتكليفه ببيان وبلاغ العقيدة والدين الحقّ عليه مدار نبوته . الثاني : تصديق النبي(صلى الله عليه وآله)لليهودي غير ثابت في الرواية ، بل إنّ الآية التي قرأها النبي(صلى الله عليه وآله) تفيدُ تكذيبه ، وهي {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}(3) .
لم يكن من السهل عليّ أنْ أقرّ بانحراف الخطّ الذي كنت فيه ; لأنّ التزييف والتمويه الذي أُلقي إلينا عبر بوابة الوراثة وتبعيّة السلطان ، أحكما غلق منافذ
____________
1-الزمر : 67 . 2-مسند أحمد 1 : 457 ، والرواية في صحيح البخاري 8 : 174 . 3-الزمر : 67 .
النجاة على الذين قنعوا بذلك الركام وتعبّدوا به على أساس أنّه الدين الإسلامي في أجلى مظاهره ، ولو التفت الناس إلى ما حولهم وتعرّفوا على ما يحيط بهم من نظريات وأفكار لتبيّن العقلاء منهم مورده ، ولصحّح طريقه . وإنّني كلّما عادت بي الذكرى إلى ما كنت فيه من تيه وضلال ، واسترجعت ذلك الاعتقاد الذي لا يمت بحقيقة التوحيد الإسلامي الصافي بصلة ، حمدت الله تعالى على استنقاذي من عبادة الشبه والوهم ، وهدايتي إلى توحيد آل محمّد(صلى الله عليه وآله) ، الذي غرسوه في خُلّص أتباعهم ، وانتقل منهم إلى المؤمنين في كلّ عصر ; لذلك فإنّني أنصح من بقي بعيداً عن هذه المنن الإلهيّة والعطايا الربانيّة ، أنْ لا يتردد في بذل الجهد لمعرفة الحق ; لأنّ الجزاء الذي أعدّه المولى سبحانه وتعالى لأوليائه ليس سهلا ، ولا يُعطى لكلّ من ادّعى الإسلام بلا بيّنة .
صراطه تعالى واضح ، ونهجه للسالكين ميسّر ، فقط طهّر قلبك ، والق من على كاهلك أوزار غيرك ، فإنّك بحول الله ستصل إلى ما وصلت إليه أنا من نعمة لا تضاهيها نعمة ، وهي موالاة الطاهرين واتّباعهم ، أئمة الدنيا والآخرة ، فالحمد لله على كلّ حال ونعوذ به من حال أهل النار .
الحلقة الرابعة
عقيدة أهل البيت(عليهم السلام) في النبوّة هي التي شيّعتني
جاء دور عبد الرحمان ، فتحدّث عن السبب المباشر لاستبصاره وقال : لقد كانت عقيدة النبوة التي اعتمدها المالكية وبقيّة ما يسمّى بأهل السنّة والجماعة مختلّة البناء ، لا تستقيم وحقيقة النبي(صلى الله عليه وآله) ، ولا الغاية من بعثته المباركة ، وقد كنت غير مقتنع منذ الدراسة الثانوية بالتفسير الذي لقنوه لنا ، في تفسير آية : {عَبَسَ وتَوَلّى}(1) ، فقالوا لنا حسب ما ورثوه ، وبدون أدنى نظر : إنّ العبوس والتولي صدر من رسول(صلى الله عليه وآله) ، عندما جاءه ابن أم مكتوم الأعمى ، وتساءلت يومها : كيف يعقل أنْ يصف المولى سبحانه وتعالى نبيّه المصطفى(صلى الله عليه وآله)بصاحب الخلق العظيم ، وبالرؤوف الرحيم على المؤمنين ، ثمّ يعود فيصفه بوصف مخالف لذلك الخلق ، ولتلك الرأفة والرّحمة ، بل ويضعه في نفس المقام مع عدوّه الوليد بن المغيرة ـ والد خالد بن الوليد ـ عندما حكى عنه بقوله : {ثُمّ عَبَسَ وَتَوَلّى}(2) .
فيكون عيسى(عليه السلام) في القرآن أكثر إنسانية ورحمة ، بإبرائه الأعمى والأكمه والأبرص وإحيائه الموتى من النبي الخاتم(صلى الله عليه وآله) . وباعتبار أنّني لم أجد بين يدي تفسيراً آخر يقدّم البديل الصحيح ، بقيت في هذه النقطة على شكٍّ من صحة نسبتها للنبي(صلى الله عليه وآله) .
ومرّت الأيام وكبرت معها ، وازداد عقلي رجوحاً ، وفكري تيقظاً وفطنة ، وزادت لهفتي على الكتاب والمطالعة بعد إنهائي للدراسة ، فكانت المكتبات
____________
1-عبس : 1 . 2-المدثر : 22 .
العامّة والخاصّة أماكن تواجدي المفضلة ، مستأنساً بمؤلفات الذين تركوا أثرهم في الحياة الدنيا ورحلوا عنّا ، منهم من كان متيقناً أنّه قدّم شيئاً لله تعالى وللبشريّة ، ومنهم من لم يكن على يقين من أمره ، كجلّ الذين كانوا في خدمة الطغاة والظالمين .
في أحد الأيام ، انزعجت كثيراً وأنا أقرأ تفسير الدرّ المنثور لجلال الدين السيوطي ، ففي تفسير سورة النجم ، ساق صاحب الكتاب في بيان تفسيره لآية : {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الاُْخْرَى}(1) . عدداً من الروايات المتنافرة والمتناقضة ، التي تقول بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) نطق الشيطان على لسانه والعياذ بالله ، وقال كلمات فيها إعلاء لآلهة قريش ، وترجّى شفاعتها ، وختمت الروايات بسجوده لها . يومها فهمت أنّ هذا الخطّ لا يتورع في ذكر أيّ شي يحطّ من مقام النبي(صلى الله عليه وآله) ، دون نظر وتثبت .
صاحب الدرّ المنثور لم يكن وحيداً في نشره وحفظه لروايات تشويه النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) ، وما هو في هذا الإطار إلاّ ناقل عن أمّهات الكتب المعتمدة عند خطّ تشويه الاعتقاد في عصمة النبي(صلى الله عليه وآله) . فالبخاري ومسلم وغيرهما من الكتب الروائية ، اتفقت على إخراج كلّ ما من شأنه أن يزعزع عقيدة المسلمين ، في طهارة الأنبياء ونزاهتهم وعصمتهم ، فألصقوا بخليل الرحمان إبراهيم(عليه السلام) ، كبيرة لا تليق إلاّ بمنافق ، فنقلوا عن أبي هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه(عليه السلام)كذب ثلاث كذبات(2) . وألصق به أيضا أنّه شك في عقيدته ، وعلّق النبي حسب زعمهم بقوله : "نحن أحقّ بالشك من إبراهيم"(3) وجعلوا موسى بن عمران(عليه السلام) في مرتبة لا
____________
1-النجم : 19 ـ 20 . 2-صحيح البخاري : 4/112 . 3-المصدر نفسه : 5/163 .
يرضاها إلاّ الأشرار والصعاليك ، بضربه لملك الموت وفقىء عينه(1) ، وان بني إسرائيل ادّعوا عليه أنّ به عاهة، فبرّأه الله سبحانه وتعالى بأن أخرجه من مغتسله عرياناً يجري وراء حجر هرب بثيابه ، حتى أوقفه أمام بني إسرائيل ، ووقفوا على خطأ دعواهم(2)، تصوّروا إنْ أمكن لكم ذلك ، ولا أراه ممكناً ، إذ كيف يمكن أن يكذّب خليل الرحمان، أو يشكّ في دينه ، او يمكن لنبي مهما أوتي من قوّة أنْ يفعل شيئاً مع ملك من ملائكة الله ، أو أنْ يفرّ حجر جامد بثياب نبي لتبرئته ممّا ألصق به ، كأنّما تلك هي السبيل الوحيدة للتبرئة؟ هل يعقل أن ينبري حافظ إلى نقل ترّهات كهذه ليقول بعد ذلك إنّها أصحّ الروايات، وإنّ كتابه أصح الكتب ، ونحمل عنه ذلك محمل التصديق والتعبّد دونما نظر ولا رويّة ولا تفحص ..
أمّا بالنسبة للنبوّة عموماً ، فقد كنت معتقداً كما هو حال جميع العوام ، أنّ الأنبياء(عليهم السلام) كلّهم غير معصومين في ما عدا الوحي ، وقد ذكر من تسمّوا بسنّته كذباً وتلفيقاً وبهتاناً ـ وخرجوا منها عمليّاً وفعليّاً بما ألزموا به أنفسهم من هذه الخزايا والترّهات ـ جملة من الروايات التي عدّدت أخطاءه ، أغلبها لا تجوز على البسطاء فضلا عن الأنبياء(عليهم السلام) ، وباعتباري كنت سنّياً مالكيّاً ، فقد تعبّدت بتلك العقيدة رغم شكّي في صحّة صدورها ، لا أجد مفرّاً منها إلى غيرها ولا بديلا عنها ، للاعتقاد السائد عند أغلبية أبناء ذلك الخطّ ، بأنّ الإسلام هو ما في حوزتهم ، بعدما وصف أوائل صانعي عقيدتهم كالأشعري ونحوه ، بقيّة المسلمين بصفات ونعوت شتّى ، تنفر النفس المحترمة منها.
اكتشفت صدفة وتحديداً في معرض للكتاب ، عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) ، عندما
____________
1-المصدر نفسه : 2/92 . 2-المصدر نفسه : 4/129 .
وقع بين يدي كتاب عن عقائدهم للسيّد عبد الله شبر ، عنوانه حق اليقين في معرفة أصول الدين ، فاقتنيته وعرفت من خلاله أنّ عقيدة أهل البيت(عليهم السلام) في النبوّة هي الأصحّ والأصوب ، والتي يجب على كلّ مؤمن أنْ يتعبد ويتقرب بها إلى الله تعالى ، فالأنبياء(عليهم السلام) كلهم معصومون ، والنبي الأعظم محمد بن عبد الله(صلى الله عليه وآله)إمامهم وخيرتهم ، حبيب الرحمان ، وصاحب لواء الحمد ، والحوض ، والشفاعة ، والصراط ، والمقام المحمود يوم القيامة ، لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة عمداً ولا سهواً من ولادته حتّى وفاته ، بل إنّ جميع آبائه مؤمنون موحّدون وليس كما يدعي أهل الباطل والزيف من أنّ أبواه ماتا على الشرك ، وما لفّقه عليه الملفّقون ، فهو محض كذب وادّعاء بلا بيّنة ، والأدلة القرآنية في إحقاق العصمة كثيرة ، فمن شاء طلبها من مظانّها .
أمّا ما قاله هؤلاء الجهلة الذين يدّعون العلم ، وليس العلم فقط ، بل اتّباع سنّة النبي(صلى الله عليه وآله) ، فهو أدهى وأمر ، فقد نقلوا أنّه يُقبّل ويباشر وهو صائم(1) ، وأنّه يُباشر وزوجته حائض والعياذ بالله(2) ، وأنّه كان يطوف على نسائه التسع في ليلة واحدة وبغسل واحد(3) ، وأنّه بال قائما(4) ، وقد نهى عن ذلك(5) ، وأنّه نسي بعضاً من القرآن فذكّره فيه قارئ بالليل(6) ، وسحره يهودي فبقي مدّة من الزمن لا يدري ما يفعل(7) ، وجاء إلى الصلاة وهو جنب ولما تذكر ذهب ليغتسل وترك الناس
____________
1-صحيح البخاري 2 : 233 . 2-المصدر نفسه 1 : 78 . 3-انظر صحيح البخاري 1 : 75 ، وصحيح مسلم 1 : 171 . 4-صحيح البخاري 1 : 62 . 5-المستدرك على الصحيحين 1 : 185 . 6-انظر صحيح البخاري 6 : 111 . 7-صحيح البخاري 4 : 91 ، 7 : 28، 30 .
واقفين(1) ، إلى غير ذلك ممّا قد أخرجه علماء الأمّة العدول وبيّنوا بطلانه ، وذكروه في مواضعه ليقف المسلمون على حقيقة عقيدة النبوّة ، من الزيف الذي لفّقه عليها أعداء الإسلام المحمّدي الأصيل .
هذا المحكيّ في كتب هؤلاء القوم ، والمنسوب للنبي(صلى الله عليه وآله) يثير الاشمئزاز والنفرة ، وهو مدعاة إلى أولئك الذين يحاربون الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله) ودينه ، إلى التشنيع والتشهير والحرب ، بل هي الحجّة التي ضرب بها سلمان رشدي لعنه الله وأمثاله ، الرسولَ الأكرم(صلى الله عليه وآله)والإسلام بكافّة تفاصيله .
إذاً فهؤلاء الذين ادّعوا اتّباع سنّة النبي(صلى الله عليه وآله) ، وأعلنوا نظريّاً حبّه ، ليس هذا فقط ، بل حاولوا سلب بقيّة المسلمين من التشرّف بالانتماء لسنته ، والإعلان من خلال ذلك بأنّهم من أتباعه ، بلغ بهم حبّ النبي(صلى الله عليه وآله) ، وإتباع سنته إلى حد انقلبوا فيه من حفظ السنّة الصحيحة ، إلى التمسك بمفتريات يهتزّ لها من في قلبه مثقال ذرّة من ولاء لله تعالى ولرسوله(صلى الله عليه وآله) غضباً وغيضاً .
لم يكن القصد من سلب العصمة عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) إلاّ غلق الباب في وجه من يدّعيها من غير مقام النبوّة ، فأهل البيت(عليهم السلام) من أولئك الذين عصمهم الله تعالى ، ليكونوا للأمّة منار هداية ، وعناصر حفظ لشريعة خاتمة ، نزل فيهم ما نزل من القرآن الذي يفيد عصمتهم كآية التطهير(2) ، وغيرها .
كما أنّ حديث الثقلين الذي قرن فيه النبي(صلى الله عليه وآله) الكتاب بالعترة الطاهرة ، وصرح بعدم افتراقهما عن بعضهما ، وجعل التمسك بهما معاً عاصماً من الضلالة(3) ، يدلُّ على عصمة أهل البيت(عليهم السلام) .
____________
1-المصدر نفسه 1 : 72 ـ 73 . 2-الأحزاب : 33 . 3-سنن الترمذي 5 : 329 .
لذلك ، فإنّ الإقرار بعصمة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، يؤدي إلى الاعتراف بعصمة أهل بيته الأطهار(عليهم السلام) ، وذلك مدعاة إلى نقض ما بناه الغاصبون لحقوق خلفاء الرسول الحقيقيين ، من كون أنّ نظريّة الحكم في الإسلام بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) هي على أساس من الشورى وليست بالنصّ كما يحتجّ بذلك المسلمون الشيعة وأئمتهم(عليهم السلام) ، فاتّجهوا إلى الحطّ من مقام سيّدهم الأكبر حتّى يهون مقامهم .
هكذا إذاً بُخِس حقّ إمام المرسلين(صلى الله عليه وآله) ، واستغفل أتباعه ، فتطاولوا على شخصه ومقامه ، وبقوا على تلك الحال رغم النداءات المتكررة ، التي أطلقها أهل البيت(عليهم السلام) وعلماؤهم وأتباعهم ، والتي دعت إلى إنصاف رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وإعادة حقّه في كونه أفضل المخلوقات على الإطلاق ، وما يترتب على ذلك من الإقرار بعصمته الكاملة ، وردّ جزء من الجميل الذي قدّمه للأمة الإسلامية ، ومودة قرباه الذين نكل بهم الظالمون في تفريط وغفلة وسهو من أسلافنا .
إنّنا جميعاً مطالبون أمام الله بالوفاء بتكاليفنا ، ومن أخل بأيّ واجب فإنّما يسي لنفسه ، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) ليس محتاجا للوفاء بتكاليفنا تلك بقدر ما نحن في أمسّ الحاجة إلى ذلك ، تبرئة لذممنا اتجاهه وطاعة لله تعالى في تكريم رسوله وتعظيمه وطاعته ومحبته .
وإذا كنتم أيّها الإخوة بالفعل تحبّون رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فلماذا تعكفون على باطل مثل الذي ألصق به ، لماذا لا تتبرؤون من معتنقي مثل تلك الخزايا ، إذا لم يرجعوا عنها ويرفضوها ، مهما كان العنوان الذي غُلّفت به، لماذا كلّ هذه الجفوة لأهل بيت المصطفى(صلى الله عليه وآله) ، وقد أُمرنا بمودتهم ، والمودّة ما هي إلاّ اتّباعهم ، قال تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ}(1) . ولو أُمِرَ هؤلاء المتأسلمون بجفائهم لما أمكنهم أن يأتوا بجفاء أكثر مما هم عليه .
____________
1-آل عمران : 31 .
الحلقة الخامسة
شيّعني حديث الاثني عشر خليفة
وجاء دور بكار الذي عبّر عن كيفية اقتناعه بالإسلام الذي اعتمده المسلمون الشيعة ، تبعاً لأئمتهم الأطهار(عليهم السلام) ، فقال : لا شكّ أنّ كلّ مسلم يؤمن بأنّ هذا الدين العظيم الذي حبانا الله تعالى به ، كآخر الأديان ، خاتماً لما سبقه من تشريعات إلهية ، وخلاصة لها ، جاء ليصحّح مسيرة البشرية ، ويقوّم اعوجاجها من الانحراف عن الحقّ تعالى ، واتّباع سبل الشيطان ، ليحقّق لها العدل والأمن . وهذا ما يؤسّس للحاجة إلى قيام حكومة تتبنى المنهج الإسلامي المتكامل على جميع الأصعدة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ، وإلاّ لم تكن هناك حاجة إلى ظهور الأنبياء والرسل وتشريعاتهم .
ولقد نظرنا في التاريخ البشري على طوله فلم نجد فيه ما يعطي النتيجة المرجوّة المثال الكامل ، غير الخالق سبحانه وتعالى . قال جلّ من قائل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}(1) .
كما لم نجد في التاريخ الإسلامي ما يشير إلى قيام حكومة إسلامية ، تكون مرجعيتها الحقيقية الكتاب والسنّة المطهرة ـ سوى السنوات القلائل التي حكم فيها أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ رغم ما قيل عن الخلافة التي ألبسوها لباسا إسلاميّا ، ونعتها من نعتها بالراشدة ، وحكم من حكم بأنّها النموذج الأمثل لعزّة الأمّة ومنعتها ، وبكى من بكى على أطلال سقوطها في عهد العثمانيين الأتراك . خلافة
____________
1-المائدة : 48 .
على شاكلة الخلافات التي داست على المستضعفين والمقدسات ، استأثرت بخيراتهم ، وعطّلت شريعتهم ، فمنذ قيام حكومة السقيفة وادّعائها خلافة النبي(صلى الله عليه وآله) ، انحسر الإشعاع الديني الذي أسّسه النبي(صلى الله عليه وآله) ، وذهبت نصائحه التي كان قدّمها لأبناء جيله ، وضاع جهده في تعليمهم أسس الدين وأحكامه بعد وفاته ، بضياع تلك النصائح وذلك العلم ، لأنّ العلم كما يقول الحديث يهتف بالعمل فان أجاب أو ارتحل .
وليس عجيباً ولا غريباً ، أنْ نجد اليوم في الأمة الإسلاميّة من يعتقد أنّ الباري تعالى قد ترك مسألة الحكومة الإسلامية للناس يرون فيها رأيهم ، هكذا مطلقاً ومن دون قيد ، ذلك لأنّ هؤلاء المسلمين قد ورثوا تراثاً يُكرّس مبدأ فصل الدين عن الحياة ، فقبله مَنْ قبله ، وسكت عنه مَنْ سكت ، كأنّ الأمر لا يعنيه ، ولم يعترض عليه غير فئة قليلة من أتباع أهل البيت(عليهم السلام) ، يُعرفون اليوم باسم الشيعة ( من شايع يشايع مشايعة ، معناها اتبع ، والشيعة لغة هم الأتباع ) كما كانوا في عصر مواجهاتهم لأنظمة الظلم والتحريف روافض ( بمعنى رفض الظالمين، وليس بالمعنى الذي أراده أعداؤهم من نسبتهم إلى رفض للدين ، أو رفض للصحابة ، فالدين عندهم وتشريعاته لديهم هو أكثر تناسقا ، وأكثر تكاملا ممّا هو عند غيرهم ، وما أكثر فقهاء وعلماء مدارسهم الفقهية إلاّ عيالا على أئمتهم(عليهم السلام) ، ومجتمع الصحابة كسائر المجتمعات فيه الطيب وفيه الخبيث ، والمؤمن والمنافق ، تماماً كما تحدّث عنهم الوحي ، لذلك ، فالشيعة يقولون رضي الله عن الصحابة الأخيار ، وليس الصحابة أجمعين لأنّنا إذا طلبنا الرضا لمغضوب عليه أو منافق ، فإنّنا لا نأمن غضب الله تعالى )
عدت إلى تصفح الكتب المعتمدة عند بني قومي ، وكان كتاب الجامع الصحيح لمسلم النيسابوري المتوفر لدي ، الوسيلة التي أمسكت بها خيط الحقيقة ، ففي