الصفحة 101

جدّية تقصي الحقيقة التي ظلت غائبة عنّي فترة من الزمن ، فحُبّي وعشقي للإمام علي(عليه السلام) ، عنصر آخر لا يمكن إهماله ، وإحساس يراود عقلي بأنّني قد أكون من سلالة أولئك الذين نذروا أنفسهم لأهل البيت(عليهم السلام) ، والدين الحق الذي احتضنوه واحتضنهم ، وفادوه بأنفسهم وفاداهم بأنْ خصّص لهم حيّزاً من الاعتبار والمحبّة عند الله تعالى وعند رسوله(صلى الله عليه وآله) ، وعند المؤمنين .

ولو اتبع المسلمون على مدى القرون الماضية خطّ أهل البيت(عليهم السلام) الذي يمثّل الإسلام المحمديّ بكلّ أبعاده وحقائقه ، لما ضلّوا طريقهم ، وانحرفوا عن جادّة الطاعة ، ولكانت عباداتهم سليمة بكلّ أجزائها وشرائطها ; لذلك فإنّني أنصح المسلمين الذين لا يزالون بعيدين عن خطّ أهل البيت(عليهم السلام) ، أنْ لا يأنسوا لمسألة ، ولا يتقبلوا حكماً من الأحكام المشكوك في صحة ورودها عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، خصوصاً إذا ما اتضح جليّاً تهافت القنوات التي ورد عليهم منها الدين على تحريف عدد من الأحكام كآية الوضوء مثلا ، والتسبب في ضلال أجيال كثرة تعبدت بغسل الرجلين في الوضوء على أساس أنّه الحكم الصحيح .

أقول لكم لا تتسرعوا في الحكم على المسلمين الشيعة حتّى تقرؤوا كتبهم ، لا كتب أعدائهم الذين لم يتركوا شائنة ولا سوءاً إلاّ ألصقوه بهم . فالحمد لله الذي هداني إلى اتّباع أوليائه الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ليكونوا وعاء دينه وحملة شريعته وأمناء وحي نبيه(صلى الله عليه وآله) ، سادة الدنيا وسادة الآخرة وقادة الدنيا وقادة الآخرة ، اللهمّ احشرني في زمرتهم ، واجعلني من حزبهم وطائفتهم ، والحقني بهم مؤمناً لا مُبدلا ولا مغيّراً ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .


الصفحة 102

الحلقة التاسعة

شيّعتني الصلاة البتراء

وتدخّل عبد الله ليقول : إنّ الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) الكاملة ، هي التي أحدثت في داخلي التحوّل الكامل نحو الحقّ ، الذي عليه المسلمون الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة ، فالصلاة التي أمر الله تعالى بها عندما نزلت الآية : {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(1) .

والتي بيّن النبي(صلى الله عليه وآله) كيفيتها في الرواية المشهورة :

عن أبي مسعود الأنصاري أنّه قال : "أتانا رسول الله(صلى الله عليه وآله) في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أنْ نصلّي عليك يا رسول الله ، فكيف نصلي عليك؟ قال فسكت رسول الله(صلى الله عليه وآله)حتّى تمنينا أنّه لم يسأله ، ثمّ قال : قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنّك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم"(2). فهذه الصلاة هي الصلاة الصحيحة الواجب ذكرها تماماً كما وردت ، دون إحداث أيّ تغيير فيها ، لأنّ تغيير أيّ شي ورد فيه نص من الباري تعالى ، أو جاء فيه حديث صحيح من النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، يعتبر تحريفاً وتغييراً للشريعة المقدسة ، بمعنى أنّنا إذا أردنا أنْ نصلّي على النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، لا بدّ أنْ نتّبع تعاليم الوحي وصاحبه ، فنقول : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، وعندما يذكر النبيّ في حضرتنا ، أو نسمع اسمه حتّى من بعيد نقول : صلى الله عليه وآله وسلم ; لأنّ هذه الصيغة هي الصلاة الصحيحة الكاملة .

____________

1-الأحزاب : 56 .

2-صحيح مسلم 2: 16، مسند أحمد 5: 274، سنن الترمذي 5: 38، واللفظ لأحمد.


الصفحة 103

ومع التشديد على عدم تجاوز النصّ ، حصل التجاوز بخصوص عدد من الأحكام من بينها الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله) ، ومع تحذير النبيّ(صلى الله عليه وآله) بعدم التصرّف في الصلاة عليه بالنقصان أو الزيادة قائلا : لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء؟ ورغم حرص النبيّ(صلى الله عليه وآله) على أن تكون فريضة الصلاة عليه تامّة الأركان ومستوفية الشروط ، فقد حصل المحظور ، ووقع ما تخوّفَ منه النبيّ(صلى الله عليه وآله) .

كنت أصلّي الصبح وبقيّة الصلوات بحسب الظروف في المسجد الجامع الذي لا يبعد عن مقرّ إقامتي غير بضع مئات من الأمتار ، وبعد الصلاة يبدأ المؤذّنُ في قراءة ما تيسّر من التعقيبات ، وكان من بينها الصلاة على النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فكان يردّدها صحيحة ، ويردّد معه المصلون الراغبون في التعقيب ، فالتفتُّ إلى تلك النقطة ، وتساءلتُ لماذا يُصلّي الناس على النبيّ(صلى الله عليه وآله) صلاة كاملة في تعقيبات الصلوات ، وعند الصلاة عليه خارج ذلك الإطار يُسقطون الصلاة على آله الكرام البررة؟ ومن لا يسقط آل النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، يدخل معهم من لا تشملهم تلك الصلاة الخاصّة بالنبيّ وآله ، كأزواجه وأصحابه .

وطالما أنّه أمرٌ نزل فيه الوحي ، وفصّلَه النبيّ(صلى الله عليه وآله) بحيث لم يترك فيه مجالا للتأويل ، فلماذا يتعامل حياله المسلمون بهذا الأسلوب المقصّر؟ وفهمت أنّ الأمر جاء تبعاً لتداعيات الحرب ، التي أعلنت على أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، والتي كانت غير معلنة بشكل واضح في العقد الأول الذي أعقب وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ثم استفحل الأمر بعد شهادة الإمام عليّ(عليه السلام) ، واشتدّ الأمر على أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم . وكانت شعيرة الصلاة على آل محمّد إحدى ضحايا تلك الحرب ، التي لم تراع قيمة من القيم التي جاء الإسلام من أجل إعلائها ، فسعت بكلّ ما أوتيت من دهاء وخبث إلى محقها ومحوها .


الصفحة 104

أنا لا أقول بأنّ تحريف الصلاة المسمّاة عندنا بالصلاة الإبراهيميّة قد تقبّله المسلمون من أتباع خطّ السقيفة بالرضا والتطبيق ، بقدر ما أجزم أنّ الذي أسّس ذلك التحريف هم أدعياء العلم من أتباع الأنظمة الظالمة، التي أسّست أساس التحريف ، وأجرته مجرى التنفيذ بواسطة أولئك العلماء .

الرواية المحرّفة ، عثرت عليها أثناء تصفُّحي لموطّأ مالك ، محاكية للصلاة على النبيّ(صلى الله عليه وآله) الصحيحة ، ومكتوبة جنباً إلى جنب معها ، تقول : عن أبي حميد الساعدي أنّهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال : "قولوا اللهمّ صلّ على محمّد وأزواجه وذريته ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد"(1) .

وبمجرّد قراءتها تكتشف عدم تناسق ألفاظ الرواية ، ممّا يوحي إليك من الوهلة الأولى أنّ هناك من استبدل ألفاظ : "وآل محمّد" ، وأحلّ محلّها : "وأزواجه وذريته" ، في محاولة يائسة لإقناع المسلمين بأنّ آل محمّد هم أزواجه وذريّته فقط ، وبذلك يُخرجون عليّاً(عليه السلام) من حساب آل محمّد صلّى الله عليهم أجمعين .

إنّ الصلاة التي نحن بصددها ، هي صلاة الصفوة الطاهرة ، ليس لنا الحقّ في أنْ نُسقط منها ونضيف ; لأنّنا لسنا طرفاً في التشريع . المشرّع الوحيد هو الله تعالى ، ومن سوّلت له نفسه دخول ذلك الباب تحت أي عنوان ، فقد برز لله بالمعصية ، ومن فعل ذلك فقد ضمن لنفسه دخول جهنّم وبئس المصير ، ولا أخال عاقلا يرغب في البروز إلى الله تعالى بمعصية التحريف ، وعذاب يوم القيامة ودخول النار وبئس القرار .

لكنّني وفي بداية اكتشافي لتحريف الصلاة على محمد وآل محمد ، لم أتبيّن

____________

1-الموطأ 1 : 165 .


الصفحة 105

السبب الذي دعا بأصحابه إلى القيام بذلك العمل المشين ، الذي حَرّم كثيراً من أتباع ذلك الخطّ من أجر كانوا سيجنونه من الصلاة لو بقي الحديث كما قاله النبي(صلى الله عليه وآله)غير محرّف ، لذلك لم أجد جواباً في تلك الفترة من الزمن ، وبقي السؤال عالقاً بدون إجابة ، إلى أن وقع في يدي يوماً كتاب تاريخي ، تناول الأحداث التاريخية للعصر الأموي ، فقرأت عن محدثات معاوية لعنه الله ، وجناياته على أهل البيت(عليهم السلام) من سبّ ، وقتل ، وتحريف ، ثمّ مررت على تمرّد عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان واستيلاءه على مكّة حوالي السنتين ، واستوقفني تصرّفه الذي أظهر ضغينة وبغضاً وعداء لا يمكن وصفه لأهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فقد بقي الرجل أربعين جمعة ، لا يُصلّي في خطبتيها على النبي(صلى الله عليه وآله) ، ولما سُئل عن ذلك قال : إنّ له أُهيل سوء ، ينغضون رؤوسهم عند ذكره(1) .

ساءني ذلك الأمر أيّما إساءة ، وحزّ في نفسي أنْ يتطاول المتطاولون على الإسلام وأهله ، مفضوحي النوايا ، قد انكشفت عورات سرائرهم ، ومع ذلك ما زال الناس ينظرون إليهم نظر المؤمنين المجاهدين في سبيل الله ، خصوصاً ونحن أمام نصّ صريح من الله تعالى يأمرنا فيه بمودّة أهل البيت(عليهم السلام) أجراً على ما بذله النبيّ من أجل تبليغه رسالة الإسلام إلينا ، فقال جلّ من قائل : {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى...}(2) ثم ثنى حرصا وتشجيعا في نفس الآية بقوله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) . والمودّة محبّة تتطلب الالتفات إلى كلّ ما يتعلق بأحوال أهل البيت(عليهم السلام) من تقديم واحترام وتبجيل وطاعة وموالاة ، وتعهد لأمرهم ، و محبّة من يُحبّهم ، وبغض من يبغضهم ،

____________

1-ورد قول ابن الزبير بألفاظ متفاوتة كلّها تعطي معنى واحد ، فانظر شرح نهج البلاغة (4 : 62) و(20 : 127) ، تاريخ اليعقوبي 2 : 261 ، مقاتل الطالبيين : 315 ، وغيرها .

2-الشورى : 23 .


الصفحة 106

ومحاربة من يحاربهم ، ومسالمة من يسالمهم ، تلك هي المودّة الحقيقية ، أمّا القول الذي لا فعل معه فلا معنى له ولا وزن .

أمّا من جانب النبيّ(صلى الله عليه وآله) فقد أكّد على أنّ محبّة عليّ(عليه السلام) إيمان ، وبغضه نفاق ، في حديثه الذي تناقله الحفاظ بقوله "يا علي لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق"(1) وكان الصحابة يقولون : "ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغض عليّ بن أبي طالب"(2) فكلّ من أعلن بغض علي(عليه السلام) كائناً من كان فهو منافق بالنصّ النبوي ، وكلّ من أعلن حبّ عليّ(عليه السلام) فهو مؤمن بالنصّ النبوي أيضاً .

إنّ المتتبع لسيره عبد الله بن الزبير ، يمكنه بدون عناء أنْ يستجلي حقيقته من خلال مواقفه التي كان يريد من خلالها أنْ يكون له حظُّ في السلطة ومسك زمام الأمّة ، فهو الذي أخرج أباه الزبير بن العوام ، الذي قال عنه الإمام علي(عليه السلام) : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتّى نشأ له عبد الله(3) .

ولم يكن عبد الله بن الزبير في هذا الشأن ، غير مقلّد لأثر معاوية ابن أبي سفيان ، الذي لم يمنع الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله) فقط ، بل ابتدع لعن الطاهرين من أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ومنع أحكاماً ، وحرّف سنناً ، وعطّل حدوداً ، وارتكب جرائم تقشعرّ منها نفوس البشر ، والتي منها التحريض على قتل سبط النبيّ(صلى الله عليه وآله)بدسّ السمّ له ، وقتل فضلاء الصحابة كحجر بن عدي ومن معه في مرج عذراء .

ولقد رأيت من إصرار الناس طيلة هذه القرون على التمسك بالصلاة البتراء تصغيراً من شأن أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ما يدعو إلى النظر في تعبّد هؤلاء وأحوالهم ، مع أنّ الذين أسّسوا أساس التحريف والحرب والمنع ، قد ذهبوا

____________

1-انظر مثلا : صحيح مسلم 1 : 60 ـ 61 .

2-الاستيعاب لابن عبد البر 3 : 1110 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 129 واللفظ للأول .

3-تاريخ دمشق 18 : 404 ، أُسدُ الغابة 3 : 244 .


الصفحة 107

بجرائرهم وجرائمهم ، فقد بقيت آثارهم السيّئة بين المسلمين ، يتقربون بها إلى الله ، ولا ملتفت إلى ذلك إلاّ القلّة القليلة من الذين فتح الله تعالى بصائرهم على الحقّ ، فاتبعوه ، ونفضوا أيديهم من باطل بني أميّة وزيفهم .

وبظهور الوهابيّة والسلفيّة ، ظهرت طريقة أخرى للصلاة على النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، زيد فيها السلف من الصحابة ، كالآتي : اللهمّ صلّ على محمّد وآله وصحبه وسلم .

مع أنّ بقيّة الناس بما فيهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، إلى هذا العصر لهم صلاتهم الخاصّة بهم من الله تعالى ، وهي في قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(1) .

الإشكال الآخر تمثّل في تعوّد أتباع خطّ الخلافة على عدم الصلاة على أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) عندما يُذكر النبيّ(صلى الله عليه وآله) في حضورهم ، حتّى عُرفوا وتميّزوا عن بقيّة المسلمين بعدم الصلاة عليهم ، فيقولون ويكتبون (صلى الله عليه وسلم) والأولى الأصح أن يقولوا (صلى الله عليه وآله وسلم) تطبيقاً للصلاة الكاملة التي أمرهم رسول الله(صلى الله عليه وآله)بها ، وبذلك فهمت أنّ الناس يتعبّدون ليس بالنصّ ، بقدر ما يتعبّدون وراثة ، وبلا أدنى نظر ، ولو كان هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم في معسكر المحاربين لأهل بيت النبوة يقيمون ما ورد إليهم ، وألزموا أنفسهم به ، لعادوا إلى الحقّ ، وعملوا بمقتضاه ، ووالوا قلباً وقالباً الصفوة الطاهرة ، وعملوا بذلك على إرضاء الله ورسوله(صلى الله عليه وآله) .

بعد ذلك تعرّفت على أحد الإخوة الشيعة ، فتحدثت معه ، فوجدته إنساناً متكامل العقل والعقيدة ، وصاحب حجّة وبرهان ، وكانت إطلالتي على درر أهل البيت(عليهم السلام) عن طريقه ، فالتزمته وتتبعت طيفه ، واقتفيت أثره ، ناسجاً على منواله بما حباه الله تعالى من بصيرة وعقل رداء الموالاة الصادق علماً وعملا ، ومن

____________

1-الأحزاب : 43 .


الصفحة 108

حديث الغدير(1) ، إلى حديث الثقلين(2) ، إلى حديث المنزلة(3) ، إلى حديث السفينة(4) ، إلى آية التطهير(5) ، وآية الولاية(6) ، وغيرها من النصوص ، والتي رجعت بعد كلّ لقاء معه إلى المراجع التي استدلّ بها العلماء على أحقيّة أهل البيت(عليهم السلام) بالاتّباع وقيادة الأمّة ، لأجد كلّ ما احتجّ به عليّ في كتبي المعتمدة ، فاقتنعت بأنّ اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) ، هو المنجى الوحيد من طوفان التحريف والجهل الذي عليه بقيّة المسلمين ، نسأل الله أنْ ينقذهم منه .

____________

1-إشارة إلى قوله(صلى الله عليه وآله) : "من كنتُ مولاه ، فهذا عليّ مولاه" ، وسيأتي في حلقه لاحقة .

2-إشارة إلى قوله(صلى الله عليه وآله) : "إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي..." . وسيأتي في حلقة لاحقة .

3-إشارة إلى قوله(صلى الله عليه وآله) : "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى..." وسيأتي فيما بعد .

4-إشارة إلى قوله(صلى الله عليه وآله) : "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق" ، انظر الحديث في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2 : 78 ، المستدرك على الصحيحين 2 : 343 ، 3 : 151 : المصنّف لابن أبي شيبة 7 : 503 ، وغيرها .

5-وهي الآية الشريفة : (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا) ، (الأحزاب : 33) .

6-وهي الآية الشريفة : (إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) ، (المائدة : 55) .


الصفحة 109

الحلقة العاشرة

شيّعتني البسملة

من بين الحضور ، شابٌ في مقتبل العمر يتّقد إيماناً وحيوية ، بدأ حياته مع أخيه في التجارة ، وكان في ذلك مجالا للتعرف على مختلف طبقات الناس أفكاراً وسلوكاً ، جاء دوره في الكلام ، ورغم شدّة حيائه ، وعدم تعوّده على الحديث ، وسط مجموعة كبيرة من الناس ، إلاّ أنّه تماسك متحدّياً الحرج الذي بدا على ملامح وجهه .

يقول زهير : لم أكن مُدركاً قيمة البسملة إلاّ بعد أن قرأت روايات عظيمة في فضلها منها ما ورد عن ابن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر ، فليقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم فإنّ فيها تسعة عشر حرفاً ، ليجعل الله له بكلّ حرف منها جُنّة من كل واحد"(1) .

ومع إدراكي لقيمتها وفضلها ، لم أفهم السبب الذي دعا ما يُسمّى بأهل السُنّة والجماعة إلى ترك البسملة ، وعدم قراءتها في صلواتهم المفروضة ، والتمادي في الإصرار على ذلك التعامل .

آية بتلك القيمة والعظمة والمكانة ، تعزف عنها شريحة كبرى من المسلمين ، ويتجنّبها من يتجنّبها منهم ، ويتنفّر منها من يتنفّر ، وزاد في حيرتي عثوري على نصوص من الخط الذي كنت فيه تقول :

"سئل أنس كيف كانت قراءة النبي(صلى الله عليه وآله)؟ فقال كانت مدّاً ، ثمّ قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) يمدّ ببسم الله ويمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم"(2) .

____________

1-تفسير الثعلبي 1 : 91 ، وانظر الدر المنثور 1 : 30 .

2-صحيح البخاري 6 : 112 .


الصفحة 110

ويضيف زهير : فلم أجد مُبرّراً يسوّغ للمالكية وللحنابلة وللحنفيّة إسقاط قراءة البسملة في فاتحة الكتاب ، وفي مفتتح السور في صلاة الفريضة ، ولم أرى مُبرّراً واحداً يسمح بذلك الترك ، ولا يعطي الحريّة لأيّ كان في إضافة أو حذف أيّ شأن من الشؤون العباديّة . وزاد في عجبي الأشرطة التي تُباع في الأسواق ، والتي تحتوي على تلاوات متنوعة من القُرّاء ، وأخصّ بالذكر منهم أمثال الحُذيفي والسديسي وغيرهما ، تسمع منها قراءات متقنة وأصواتاً جميلة ، لكنّك تصطدم بأنّ هؤلاء جميعاً مضربون عن قراءة البسملة ، فيستنجد طابع الشريط إلى صوت آخر يقرأ البسملة ، كأنّ الآية ليست من القرآن ، أو بها مانع يحول دون قراءتها ، أو هي ناقض من نواقض القراءة يفرّون منه بعدم تلاوته .

لكن الأعجبُ من ذلك ، أنّ هؤلاء المساكين المتعبدون بالتقليد والوراثة ، يقرؤون البسملة في نوافل شهر رمضان والمسماة بالتراويح ، كأنّما النوافل عندهم تحتمل ما لا تحتمله الفرائض ، أو أنّ النوافل هي أقلّ درجة أو قيمة من الفرائض . ولم أجد طيلة فترة تساءلي عن علّة إهمال البسملة من يقدّم لي الجواب الشافي ، إلى أنْ التقيت بصديق معروف بتشيعه لأهل البيت(عليهم السلام) ، فكانت له المبادرة إلى طرح هذا الإشكال ، فما كان مني إلاّ أنْ استوقفته متسائلا : وهل هناك من يقرأ البسملة في الفرائض؟ فقال : نعم ، إنّ الأئمة الأطهار من أهل بيت النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) ، وأتباعهم من الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة يوجبون قراءة البسملة في كلّ الصلوات ، مفروضة كانت أم مسنونة ، وذلك اتّباعاً لما ورثوه من أبيهم الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ، وهو بدوره أخذ ذلك عن أخيه وابن عمّه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، بل لعلّ الشافعي وهو واحد من المذاهب الأربعة ، بعدم مجاراته لمنع البسملة ، قد يكون أخذ وجوبها من علماء الشيعة ، لأنّ غيرهم قد اتّبع أمر معاوية في منع البسملة ، ورفع اليدين في التكبير ، سعياً إلى إبطال آثار علي بن


الصفحة 111

أبي طالب(عليه السلام) ، كأنّ معاوية ومن تبعه لا يدركون ، أنّ تلك الآثار التي حاولوا منعها ، هي دين الله تعالى وآثار رسوله(صلى الله عليه وآله) .

فقلت له : إذاً فإنّ المعضلة التي حالت دون قراءة البسملة في الصلوات المفروضة هي سياسة معاوية بن أبي سفيان .

قال صديقي : نعم ، إن التحريف الذي أشاعه بنو أميّة وحزب الطلقاء عموماً ، قد أضرّ بأكثر التفاصيل العبادية التي كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)يطبّقها ، فسعوا إلى محو تلك الآثار على أساس أنّها متعلقة بعدوّهم علي(عليه السلام) ، فمنعوا على سبيل المثال طريقة الوضوء الصحيحة ، ومنعوا الصلاة على آل محمد ، وحجروا قراءة البسملة في الصلاة ، وغيرها من المسائل المتعلقة بأهل البيت(عليهم السلام) .

وهذا الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) أستاذ مالك بن أنس وأبي حنيفة ، قال : "مالهم قاتلهم الله ، عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله ، فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها ، وهي بسم الله الرحمن الرحيم"(1) .

والإمام(عليه السلام) يقصد أنّ الذين منعوا البسملة هم بنو أميّة وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان .

قلت له : أنا إلى الآن لم افهم الداعي الذي ألجأ بنو أميّة إلى تتبّع هذه المسائل الفقهيّة بالرغم من أنّها لا تشكّل أيّ خطر على سلطانهم .

فقال لي : قد يظهر لك أنّ في الإجراء الذي اتّخذه معاوية وسيّر به بنو أميّة أجيالا عديدة من أبناء القرنين الأول والثاني يكتسي غرابة ، ولكن إذا اطلعت على الأوامر التي أطلقها في البلاد طولا وعرضاً شرقاً وغرباً تستطيع أنْ تفهم القصد والغاية التي خطّط لها طلقاء بني أميّة وأرادوا الوصول إليها ، وهي إجراء

____________

1-مستدرك الوسائل 4 : 166 .


الصفحة 112

التحريف في مختلف مجالات وأوجه الدين مجرى الدم من العروق ، وإنفاذ كلّ البدع التي اختلقت في ذلك الزمن لتتحوّل فيما بعد سُنّة نبوية أو حكماً واجباً أو شخصيّة ذات قداسة تفوق كلّ التصورات ، كما اختلق لأهل بدر قوله(صلى الله عليه وآله) : لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم(1) .

فقلت له : البسملة كما نعرف ، ليست ترقيماً حتّى يتجاوزه الناس ، وإنّما هي آية لها من الشأن ما يندر أن تضاهيه فيها آية أخرى ، فهي تستفتح بذكر ثلاثة من أسماء الله ، وهي : الله ـ الرحمان ـ الرحيم .

قد جعلها الله تعالى مفتتحا ل 113 سورة عدا سورة براءة ، والمسمّاة بالتوبة أيضاً ، لكنّه تعالى ثنّاها في سورة النمل ، فهي السورة الوحيدة التي فيها البسملة مرتين ، واحدة في مفتتح السورة ، والثانية في الآية 30 منها : (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . فهل عميت أعين علماء المالكيّة ومن حذا حذوهم إلى درجة جحدها والقول بأنّها ليست آية كما هو الشأن بالنسبة لأبي بكر الباقلاني وأبي بكر ابن العربي المالكيان اللذان أكّدا أنّها ليست من القرآن(2) .

فقال لي : لقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع"(3) . وقد أخرج الدارقطني عن أبي هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال : "إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم إنّها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحداها"(4) . وكان الصحابة لا يعرفون انتهاء سورة وابتداء أخرى إلاّ ببسم الله الرحمن الرحيم. ومع ذلك تراهم عمدوا إلى تركها وعدم قراءتها في الصلاة .

____________

1-صحيح البخاري 4 : 19 وصحيح مسلم 7 : 168 .

2-انظر احكام القرآن لابن العربي 1 : 5 ـ 6 ، ونكت الانتصار لنقل القرآن الباقلاني : 71 .

3-الدر المنثور 1 : 31 .

4-سنن الدارقطني 1 : 310 . المستدرك على الصحيحين 1 : 231 .


الصفحة 113

قلت له : لقد تبين لي الآن أنّ بني أميّة قد أدخلوا في الدين أشياء ليست منه ، واختلقوا سننا وأحكاماً ليست من الإسلام في شي ، من أجل تغيير ما اتخذه أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ديناً وأحكاماً ، لكن أودُّ أنْ أسألك عن لفظ آمين في آخر الفاتحة هل له أساس؟

فقال : لم يصحّ حديث عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال آمين بعد قراءته لفاتحة الكتاب ; لأنّ الفاتحة تدخل في مقام القراءة ، والدعاء مخصّص بالقنوت ، فهل يعقل أنْ نسقط أعظم آية لنختمها بما يختتم به النصارى في كنائسهم وهي آمين Amen . وأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله)لم يتعبدوا بنصّ إلاّ ومعهم بيانه وفي حوزتهم نصوصه ، وبين أيديهم علّته وأسبابه فهم النبع الصافي الذي استقى معينه من النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله) .

فقلت له : الآن اطمأنّ قلبي ، وعرفت العلّة التي حدت بهؤلاء القوم إلى ترك البسملة ، وأحمد الله تعالى الذي استنقذني من الانجراف وراء تُبّع بني أمية الذين يتصورون أنّهم يتّبعون سنّة النبي(صلى الله عليه وآله) ، وما هم إلاّ عابدون بالوراثة التي لا تستند إلى حجّة ويقين ، ومتّبعون لمحدثات معاوية اعتقاداً منهم أنّها سنّة النبي(صلى الله عليه وآله) .

هذا ما دار بيني وبين صديقي من حوار ذكرته لكم ، لتقفوا عن كثب على القناعة التي حصلت لي ، وتتعرفوا على السبب الذي جعلني أتخلى عن المذهب المالكي وأعتنق إسلام الطاهرين من أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) ، وأفتخر أنّني من شيعتهم وفي صفّهم ، ثبتني الله على ذلك في الدنيا والآخرة ، وأبعدني عن مذاهب الضلالة التي كنت منغمساً فيها ، والحمد لله أولا وأخيراً .


الصفحة 114

الحلقة الحادية عشر

شيّعني حديث الطائفة الظاهرة على الحق

علي كهلٌ تجاوز الخمسين من عمره ، مع ذلك لم يمنعه تقدّمه في السنّ من أنْ ينافس الشباب المؤمن في حيويته ونشاطه ، ومقاسمته آمالا عريضة في الغد المشرق للدين وأهله .

ورغم التوعّك الصحي الذي ألّم به قبل موعد الجلسة ، فإنّه أبى إلاّ أنْ يكون حاضراً ، مساهماً معنا في الإدلاء بشهادته ، عن السبب الذي أقنعه بترك مذهب آبائه وأجداده ، واعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، والمعروف بالشيعة الاماميّة الاثني عشريّة .

فُسح المجال لعلي في الكلام فقال : كنت من المتحمسين للدين الإسلامي ، ومهتما بكلّ متعلقاته ، حاملا هموم الأمّة وآمالها ،شأني في ذلك شأن الطلائع المؤمنة التي كتب عليها أن تتحمل مسؤوليات ثقيلة في توعية القاعدة وإرشادها ، خاصّة نحن نعيش في عصر كشّر فيه أعداء الدين عن أنيابهم ، وأبدوا من العداوة والحرب للدين وأهله ما لم يظهر منهم في السابق ، وبمعنى آخر كانت الحرب على الإسلام في ما مضى تحاك بسريّة وتخفٍّ ، بينما ظهرت على بعض المسارح اليوم بكلّ جلاء تفاصيل مؤامرات ما كان لها أنْ تطفو على الواجهة لو تمسّكت الأمة بدينها ، ولعلّ أحبولة الدنيا ومتاعها هي التي أوقعت الناس في مطبّ إهمال الدين وتركه ، ففارقوا معتصمهم ومنجاتهم في الدنيا والآخرة ، إلى متاع لا قيمة له في الميزان الأخروي ، واتّبعوا مسلك الشيطان الذي أفضى بهم إلى الذلّة والهوان ، فخسروا المطلبين .


الصفحة 115

كنت من عشّاق قراءة القرآن الكريم ، وتلاوته ، وتعهده صباحاً ومساءً ، لا يمنعني من ذلك طارىء أو عارض ، وإنْ تخلّفت عن حصصه حصة تداركتها سريعاً ، فتربّت روحي على روحيّة الوحي ، وتشبّع عقلي بآياته العظيمة ، من خلال تدبري لها أثناء التلاوة والترتيل .

من بين المصطلحات اللافتة في القرآن ، والتي أخذت من اهتمامي مأخذه ، الآيات التي تحدثت عن نسبيّة الفهم والإيمان عند الناس ، فعدد منها أشار إلى حقيقة أفادت بأنّ أهل الحقّ قلّة ، وأنّ أصحاب الإيمان قلّة أيضاً ، وأنّ الوعاة والعارفين وأصحاب الخصال الرفيعة قلّة أيضاً ، حتّى أنّ أتباع الأنبياء الصادقين قلّة ، والصفوة من بيوتات الأنبياء(عليهم السلام) هم قلّة القلّة ، ففهمت من خلال القرآن الكريم أنّ أتباع الصراط السويّ الذي جعله الله تعالى منهجاً آمناً للناس قلّة مقارنة بغيرهم ، فقال جلّ من قائل : {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}(1) .

{وقليل ما هم}(2) .

{...وَمَا يَعْلَمهُم إلاّ قَلِيل}(3) .

{كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}(4) .

ومقابل الثلّة المؤمنة التي حصرها الله تعالى في عدد صغير من الناس ، أظهر لنا الكتاب العزيز معادلة أخرى تمثّلت في أنّ أتباع الباطل كثرة لا تقاس مقارنة بالثلّة المحقّة :

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(5) .

____________

1-سبأ : 13 .

2-ص : 24 .

3-الكهف : 22 .

4-البقرة : 249 .

5-وردت في آيات عديدة منها آية (187) من سورة الأعراف والآيات (21 و40 و68) من سورة يوسف وآية (38) من سورة النحل ، وغيرها .


الصفحة 116

{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}(1) .

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الاَْرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(2) .

{وَلكِنّ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}(3) .

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(4) .

{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}(5) .

فحصلت لدي قناعة بأنّ تلك المعادلة القرآنية مفادها : أنّ أتباع الدين الحقّ أقليّة ، وأنّ أتباع مسالك الانحراف عن الدين الحقّ أكثريّة ، فعرفت حينها أنّ المتمسكين بالدين الحقّ والمعبر عنه بالدين القيّم ، هم قلّة قليلة ، وطائفة من وسط الأمّة الإسلاميّة ، ذلك لأنّ المفهوم القرآني قد اعتمد على ترجيح القلّة من أتباع الحقّ على الكثرة ، ثمّ اتجهت إلى كتب السيرة والحديث ، فوجدت أنّ أتباع الأنبياء والرسل(عليهم السلام) بما فيهم الرسول الخاتم(صلى الله عليه وآله) ، قلّة مستضعفون ليس لهم ثقل في مجتمعاتهم ..

وبتعدد قراءتي بدأتْ تظهر لي معان ومفاهيم متنوعة ، وكان تركيزي على الأحاديث الإخباريّة المتعلقة بمستقبل الأمّة الإسلاميّة ، فعثرت على أهم رواية جعلتني بعد الاطلاع عليها وإنزالها على أرض الواقع الإسلامي قديما وحديثاً ، اقتنع أنّ الحق لا يمكنه أن يتخطى أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) إلى غيرهم ، والدليل قائم خفّاق الراية دالا على أحقيّة ذلك الخطّ في أنْ يكون ممثلا وحيداً للإسلام

____________

1-العنكبوت : 63 .

2-الأنعام : 116 .

3-الزخرف : 78 .

4-يوسف : 106 .

5-يوسف : 103 .


الصفحة 117

الصافي الذي جاء به جدّهم(صلى الله عليه وآله) ، الرواية تقول : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خالفهم حتّى يأتي أمر الله وهم كذلك". أخرج الحديث مسلم والبخاري وغيرهم(1) ، متفقين على صحة صدوره عن النبي(صلى الله عليه وآله) ، وبذلك ينقطع سبب الطعن فيه .

وبالنظر إلى متن الحديث ، نرى أنّ في كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، إخبار بأنّ الدين الذي جاء به ، والذي عبّر عنه بالحقّ ، سيكون ملاكه طائفة من أمّته ، دون بقيّتها ، وهم في حال من الظهور والبروز ، بشكل جليّ في حاضرة الساحة الإسلامية ، وفي وسط مجتمعاتها على مرّ العصور ، دون انقطاع من عصر النبوة إلى أنْ يأتي أمر الله تعالى ، لا يلحقهم ضرر من مخالفيهم مهما أوتوا من فنون التمويه والمكر والخداع والتزوير ، لأنّ الدين الذي تبنوه هو دين الله ، والكلمة التي ألزموا بها أنفسهم هي كلمته سبحانه وتعالى .

ونظرت في دائرة النبي(صلى الله عليه وآله) ، فلم أجد غير عليّ(عليه السلام) عنصراً يحمل عنوان تلك الطائفة ، ورمزاً يؤكّد ذلك الظهور غير المنفك عن العصر النبوي ، رافعاً شعار أحقيته في قيادة الأمة الإسلامية ، مدللا على ذلك بجملة من الأفعال التي اقرّ بها المخالفون له ، اعترافاً منهم بالعجز عن حلّ المعضلات التي ليس لها أبو الحسن(2) .

وورث النهج العلويّ أبناء عليّ(عليه السلام) ، إماما الرحمة ، وسبطا الهدى ، وسيدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين(عليهما السلام) ، ومن بعدهما جاء بقيّة أسباط الأمّة من النسل الطاهر(عليهم السلام) ، وتبعهم شيعتهم البررة في كلّ العصور ، متحدين كلّ عوامل

____________

1-انظر الحديث بالفاظه المتفاوتة في : صحيح مسلم 6 : 52 ، 53 ، 54 وصحيح البخاري 8 : 149 وسنن الترمذي 3 : 342 ، وغير ذلك من المصادر .

2-انظر الطبقات الكبرى 2 : 329 والاستيعاب في معرفة الاصحاب 3 : 1102 ـ 1103 .


الصفحة 118

إعاقة بقاء نهجهم المحمدي ظاهرين على من خالفهم ، متمسكين بالقيم الإسلامية الصافية ، باذلين من أجلها النفس والمال والولد .

لم يكن من السهل عليّ أنْ أجدَ هذا الدليل إلاّ من بعد جهد ومعاناة طالت سنوات وأشهراً ، وقفت فيها أيضاً على أنّ بقيّة الخطوط الإسلاميّة كانت على صنفين :

الصنف الأول : المذاهب التي تأسست بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله)بأجيال عديدة ، لم يتحقق لهم فيها ظهور ، بقي منها من بقي بسبب دعم الحكّام لبعضها خدمة لأغراضه ، ومناوئة لأهل الحقّ من المحاربين لسياسات أولئك الحكام الظلمة ، اُذكر منها : المذاهب الأربعة في الفروع ومذهب الأشعريّ في الأصول ، والتي تناسل منها عدد آخر من الفرق كالوهابيّة والجماعات التكفيريّة كتنظيم القاعدة ، وجماعات التكفير والهجرة المنضوية تحت مظلّة السلفيّة .

الصنف الثاني : المذاهب التي تأسّست أيضاً بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) ، منقطعة عن عصره ، واندثرت بسبب عدم دعم الحكّام لها ، فأفِلت ولم يعد لها وجود ، لانتهائها بانتهاء أصحابها والأمثلة عديدة أسوق منها : مذهب الليث ، والأوزاعي وسفيان الثوري وابن عيينة وابن حزم . وتيقنت أنّ المذهب الذي كنت أعتنقه ، وهو مذهب مالك ابن أنس ، لم يكن ليجد سبيلا إلى الوجود لولا أبو جعفر المنصور العباسي ، الذي أمر مالكاً أن يكتب له كتاباً يواطىء عليه الناس ، في مسعى منه لصفّهم عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، أستاذه الذي درس على يديه باتّفاق أهل العلم ، ولم يسطع نجم مالك هذا إلاّ بعد الدعم المتواصل للعباسيين له ، حيث كان ينادى "لا يفتى ومالك في المدينة". والحال أنّ المدينة تعجُّ بشيوخ وأساتذة مالك ممّن لا يرضون بالركون إلى الظالمين .

ولم يكن لجوء المنصور إلى مالك إلاّ بعد أنْ أسقط من يديه محاولة تقريب


الصفحة 119

الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) إلى بلاطه ، تلك المحاولة التي سجّلها التاريخ بأحرف من عزّة وإباء :

أرسل المنصور العباسي إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)متوددا : لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه : "ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ولا أنت في نعمة فنهنيك ، ولا تراها نقمة فنعزيك بها ، فما نصنع عندك؟" .

فرد عليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا؟ فأجابه الإمام الصادق(عليه السلام)بقوله : "من أراد الدنيا لاينصحك ومن أراد الآخرة لايصحبك"(1) .

في عصر تزلّف به المتزلفون ، وتقرّب تجّار الدين بالدنيا إلى سلاطين الظلم وأئمة الجور ، كمالك بن أنس وغيره ممن كانوا يتردّدون على حكّام شهد لهم التاريخ بفظائع تكرّرت مع حلول كلّ واحد منهم على هرم السلطة في الأمّة .

ولم يكن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) مؤسس جامعة العلوم الإسلامية في المدينة ، والتي تخرج منها أربعة آلاف عالم في مختلف العلوم والفنون متبعاً غير منهج آبائه وأجداده في الالتزام بالإسلام المحمدي الأصيل ، الذي لم تشبه شائبة ، ولم يخالط كيانه دخيل من دخائل المتسلطين على رقاب المسلمين من بني أمية وبني العباس ، الذين لم يكن همّهم رعاية الدين ، بقدر ما كانوا يبحثون عمّن يمرّر مصالحهم ، ويحقّق مطامحهم ، ويكرّس رغبتهم في ترويض الأمة ، وإخضاعها لإرادتهم ، وقد نجحوا في ذلك من خلال غرس عقيدة تحريم الخروج على أولئك الحكام ، بدعوى محاربة الظلم ، ناسبين إلى النبي(صلى الله عليه وآله) نهيه عن ذلك بقوله : "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع . قالوا : أفلا نقاتلهم؟ قال : لا ما صلوا"(2) .

____________

1-كشف الغمة للاربلي 2 : 427 . مستدرك الوسائل 12 : 307 .

2-صحيح مسلم 6 : 23 .


الصفحة 120

وبعد اطلاعي على تسلسل ظهور خطّ إسلام أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ، والمعروف بالشيعة الامامية الاثني عشرية ، وكما يحلو للبعض تسميته بالرافضة ، وقوفاً دون إدراك لمعنى الرفض الذي ألبسوهم جلبابه ، وأدخلوهم بابه ، وهو رفض الأدعياء والظالمين الذين تسلّطوا على رقاب المسلمين ممّن لا أهليّة لهم في قيادة الأمة ، خرجت من استنتاجاتي واطلاعاتي على أحقيّة ذلك المنهج ، وموافقته للنصوص التي جاء بها القرآن والسنّة المطهرة .

لذلك كلّه أقول جازماً : إنّ الطائفة التي أخبرنا عنها النبي(صلى الله عليه وآله) ، لم تكن غير طائفة المؤمنين الذين شايعوا عليّاً وأهل بيته(عليهم السلام) ، من أمثال سلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والمقداد ابن الأسود ، وغيرهم من صلحاء الأمّة ، الذين عرفوا الحقّ ، وتبعاً لذلك عرفوا أهله ، وبقوا منذ أن وجدوا حول النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) ، ظاهرين علماً وعملا إلى يوم الناس هذا ، والحمد لله رب العالمين .


الصفحة 121

الحلقة الثانية عشر

مودّة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله) عند الشيعة هي التي شيّعتني

بشير ، هو واحد من الأصدقاء الذين عرفتهم كثيراً ، وتوطدت علاقتي به بعد تجربة أكدّت أنّه من طينة الأخلاّء الذين يندر وجودهم ، كان يتابع المتدخّلين في الجلسة بنظراته المتقدة بريقاً والدالّة على نباهة وبصيرة قلّما يتحلى بها الكثيرون من الناس ، كان يريد أن يسمع أكثر من أن يتكلم ، تابع باهتمام بالغ إفادات الحاضرين ، وكان يودَّ أنْ يكون آخر المتكلمين ، وإفادته خاتمة الإفادات ـ كذلك أسرّ إليّ قبل مجيئه إلى الجلسة ـ لكنّني فاجأته بإعطائه الكلمة ، طلباً لأولوية السبب الذي دعاه إلى التشيّع ، فلم يمانع من ذلك .

قال بشير : لم أكنْ ملتفتا إلى المعاني الحقيقيّة لفريضة مودة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلاّ بعد أنْ وقفت على لزومها من خلال النصوص العديدة التي أشار إليها المولى سبحانه وتعالى في محكم كتابه ، فقال جلّ من قائل : {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(1) وبيّنها النبيّ(صلى الله عليه وآله) عندما نزلت الآية الكريمة ، ردّاً على سؤال وجه إليه من طرف بعض الصحابة : "يا رسول الله! مَن قرابتك هؤلاء من الذين وجبت علينا مودتهم يا رسول الله؟" فقال(صلى الله عليه وآله) : "عليّ وفاطمه وابناوهما"(2) . وحث(صلى الله عليه وآله)بعد ذلك على تلك المودّة في أكثر من مناسبة ، ولم أتساءل قبل ذلك عن الغاية التي كانت تراد منها تلك المودّة ، فقط كنت أتصور أنّها محبّة مجرّدة ، خالية من المقاصد الحقيقيّة المراد تحقيقها منها . بل لعل المتداول والمعمول به بين

____________

1-الشورى : 23 .

2-المعجم الكبير ، الطبراني 11 : 351 .


الصفحة 122

بني عقيدتي ، ممّن تسمّوا بأهل السنّة والجماعة ، هو تقديم الخلفاء الثلاثة على أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) ، وتقديم عائشة على فاطمة الزهراء(عليها السلام) ، رغم النصوص الصريحة التي تأبى عليهم ذلك الحيف والإجحاف بمن اصطفاهم الله سبحانه وتعالى ، وخصّهم منه بفضل لم يتسنّى لغيرهم ، مضافاً إلى سيرتيهما العطرة بالأعمال الجليلة والمثل النبيلة ، والقيم المجسّدة للإسلام في أبهى مظاهره ، وبلغ الأمر في هذا الإطار إلى أنْ أصبح عنوان التسنّن حبَّ الشيخين وتقديمهما على غيرهما ، وعنوان التشيّع حبّ عليّ(عليه السلام) وتقديمه على غيره .

بدأت التفاتتي إلى مسألة مودّة أهل البيت(عليهم السلام) ، عندما عثرت على رواية أخرجها الترمذي تقدّمُ الخليفة الأوّل وابنته على الصفوة الطاهرة ، تقول : عن أنس قال : "قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال : عائشة قيل : من الرجال؟ قال: أبوها"(1).

لم أستسغ الحديث في نفسي على الرغم من مذهبي الذي كان أحد أبرز سماته ذلك الاعتقاد في المفاضلة ، ولم أتلقّاه كعادتي عندما كنت أتقبل حديثاً مرويّاً عن النبي(صلى الله عليه وآله) ، فانبنى بيني وبينه حائل يتمثّل في مكانة عليّ وفاطمة الزهراء(عليها السلام) من رسول الله(صلى الله عليه وآله) .

والى جانب هذه الرواية أخرج الترمذي أيضا رواية أخرى مناقضة للرواية الأولى تقول : عن ابن بريدة عن أبيه قال : "كان أحب النساء إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)فاطمة ومن الرجال علي"(2) .

فاستغربت من إقدام حفّاظ الحديث عند الخطّ السنّي على نقل المتناقضات في كتبهم ، ولم أفهم السبب الذي دفع بهم إلى سلوك ذلك الأسلوب ، الذي لا يتيح

____________

1-سنن الترمذي 5 : 365 .

2-المصدر نفسه 5 : 360 .


الصفحة 123

للبسطاء إمكانيّة التمييز بين الحقّ والباطل ، والصحيح والمكذوب .

فقد كان من اليسير على الترمذي مثلا أنْ يعترف بأنّ أهل البيت(عليهم السلام) هم معدن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، لا يجب أن يقاس بهم أحد ، لأنّ الله تعالى اصطفاهم على العالمين ، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً كما صرّحت بذلك الآية الكريمة : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1) لكنّ الرجل كان متّبعاً لمنهج المناوئين لأهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ومنساقاً وراء تيار المتنكرين لمكانتهم في الأمّة .

فمقايسة الخليفة الأوّل بعليّ(عليه السلام) بالنسبة لي هي من باب محاكاة التبر بالتراب ، وتقديم ابنته على أساس أنّها زوجة النبي(صلى الله عليه وآله)ووضعها في مقام سابق لفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين(عليها السلام) جرأة على الله ورسوله لا يقدم عليها غير من عميت بصيرته ، وهان عليه دينه .

ولم أكن أعرف أنّ بتفضيلي لعليّ وفاطمة(عليهما السلام) على غيرهما ، أنّني نسبت نفسي إلى التشيّع لأهل البيت(عليهم السلام) دون أن أشعر ، لأنّ المسلم المتسنّن عرفاً واصطلاحاً لا يقدّم غير الخليفة الأول وابنته ، وهكذا كانوا يُميّزون بين من هو تابع لهذا الخطّ أو ذاك في علم الرجال ، وما يسمى أيضاً بعلم الجرح والتعديل ، وكم من حافظ أو راو للحديث ردّت روايته ، وطعن في حفظه ; لمجرّد تقديمه لعليّ(عليه السلام)على غيره ممّن عاصر النبي(صلى الله عليه وآله) ، وكم من راو أو حافظ وُثق وعدّل لمجرّد تقديمه للخليفة الأوّل والثاني ، دونما التفات إلى مسألة مودّة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله) التي لا تجيز تقديم المفضول على الفاضل ، وترى أنّ مجرّد المقايسة بين من اصطفاه المولى سبحانه وتعالى ورفع ذكره مع النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، هو تجاهل لإرادة الباري تعالى في تفضيله وتقديمه واختياره .

____________

1-الأحزاب : 33 .


الصفحة 124

لقد كانت بداية اكتشافي لحقيقة مودّة أهل البيت(عليهم السلام) عند الشيعة ، الذين كنت معتقداً فيما مضى أنّهم فرقة خارجة عن الإسلام ، بحسب ما حصلته من الخطّ السنّي الذي كنت من بين أفراده ، عندما شاهدت صدفة محاضرة إسلاميّة لأحد علماء الشيعة في إحدى الفضائيات ، لقد كانت محاضرة قيّمة وقفت من خلالها على القيمة العلمية التي يختزنها ذلك العالم الشيعي ، إلاّ أنّني سرعان ما اصطدمت بخاتمة المحاضرة التي أثار فيها المحاضر فاجعة كربلاء ، فأبكى الناس من حوله ، وأبكاني معهم بكاءً شديداً لم أبك مثله من قبل ; لأنّني كنت مغيّباً عن تفاصيل واقعة "الطف" ، شأني في ذلك شأنُ بقيّة المسلمين المخالفين لخطّ أهل البيت(عليهم السلام) ، وكان تأثري بما سمعته من سرد لبعض لقطات ومشاهد الواقعة كبيراً ، فقررت بعد ذلك أنْ أبحث عن حقيقة الأمر بخصوص مودّة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، أيّها الحقيقية؟ ما يدّعيه هذا الطرف؟ أو ما يتشبّث به الطرف الآخر؟ وبناءً على ذلك أتّخذ قراري في اتّباع الأولى والأقرب إلى الله ورسوله في الطاعة .

وجدت في عدد من التفاسير التي اعتمد أصحابها المدرسة السنيّة مذهباً ومنهجاً ، نصوصاً تؤكد على ثبوت نزول الآية في عليّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) ، وكان الإجماع على تلك الفريضة ممّا لم يختلف فيه اثنان .

وزاد في حيرتي أنْ عثرت يوماً في إحدى المكتبات على كتاب "مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الأصفهاني ، جمع فيه مؤلفه أسماء المشهورين من آل أبي طالب ممّن قتل في العهدين الأموي والعباسي ، بسبب انتمائه الفكري والعقائدي إلى أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) . وهالني وأنا أتصفح الكتاب ذلك العدد من الشهداء الذين قضوا دفاعاً عن الإسلام وليس دفاعاً عن شرفهم وانتسابهم ، فقد كان قاتلوهم يرون فيهم خطراً محدقاً بعروشهم،بسبب أحقيّتهم في قيادة الأمّة الإسلاميّة ،


الصفحة 125

وتساءلت في نفسي : أهذه هي مودّة القربى التي حثّ عليها المولى سبحانه وتعالى ، وجعلها فريضة من الفرائض التي لا مفرّ للمسلم من التقيد بها؟ أهكذا أوصى رسول الله(صلى الله عليه وآله)بأهل بيته ، وحثّ المسلمين على أدائها ؟ وما السبب الذي دعا بأغلب الأمة إلى التنكّر لتلك المودّة ، بل وعكسها تماماً لتصبح تجاهلا ثمّ حرباً لا هوادة فيها؟ ولماذا مورس ضدّ هؤلاء الأطهار كلّ ذلك العنف والإرهاب ، من قتل وتعذيب وسجن؟

بقيت الإجابة عالقة تحتاج إلى مزيد من البحث والتمحيص ، وبقيت أستجلي أثر الحقيقة من غبار الوهم وحبائل الزيف .

في أحد الأيّام التقيت واحداً من المسلمين الشيعة الذين كنت أعرف عدداً منهم ، ولم تسمح لي فرصة الاقتراب منهم ومحادثتهم ، لعدة أسباب لعل أهمها الشائعات التي تجند أعداؤهم لبثّها في المجتمع ، من أجل إقصائهم ، وحصر حججهم وأفكارهم في أضيق الأطر ، بحيث لا يمكن لها أنْ تجد آذانا صاغية وسط المجتمع .

بدأتُ حديثي معه عندما وجدته في مجلس ختم قرآن لأحد معارفي ، فانتهزت الفرصة لأعرف منه حقيقة مودّة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله)عند الشيعة .

فقلت له : وما تقول في مغالاة الشيعة في حبّ أهل البيت رضي الله عنهم ، إلى الإفراط في ذلك والبكاء عليهم ، وإظهار الحزن والجزع على مصائبهم ، إلى درجة إسالة الدماء وتعريض الأنفس إلى الهلاك؟

فقال لي : إنّ فريضة حبّ أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) مما اتفق جميع المسلمين على وجوبها ، لكنهم تباينوا في العمل بها وتطبيقها ، وجوب مودّة أهل البيت(عليهم السلام) كما دلت عليه الآية الكريمة : {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(1) لا

____________

1-الشورى : 23 .


الصفحة 126

يختلف فيها اثنان ، والآية المحكمة التي فرضت هذه الشعيرة واضحة الدلالة على مقصدها ، وفوق ذلك جاءت الأحاديث مفسرة لها ، وقد نقلها القاصي والداني ، واتّفق الجميع إلاّ من شذّ ، والشاذّ يحفظ ولا يقاس عليه ، في أنّ الذين وجبت مودّتهم هم : عليّ وفاطمة والحسن والحسين والخلف من ذريتهم (عليهم السلام) . وقد أجهد النبيّ(صلى الله عليه وآله) نفسه ، في بيان وتوضيح معاني المودّة التي أوجبها الله تعالى على الأمّة الإسلاميّة ، حتّى لم يعد هناك مجال للتأويل والريبة ، بخصوص هذه الشعيرة العظيمة ، إلاّ أنّ الغاصبين لنظام الحكم في الإسلام ، ومن تبعهم على ظلمهم ، سعوا إلى تجاهل ذلك الواجب ، فأداروا ظهورهم لأهل البيت(عليهم السلام) ، وعملوا جهدهم على إبطال آثارهم وإلغاء مآثرهم ، في مسعى من الظالمين لمحمّد(صلى الله عليه وآله) لمحو ذكرهم ، وتسويتهم بعامّة الناس ، حتّى لا يبقى هناك مجال للحديث عن الاصطفاء الذي خصّه الله تعالى نخبة خلقه . من خلال ترك هذه الشعيرة وإهمالها من جهة ، وادّعاء المهملين لها بأنّهم يحبّون أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) ، ويُجلّونهم ويُكبرونهم على غير حقيقة ولا تطبيق يظهر من خلاله التزام المحبّ بحبيبه،ذلك لأنّ المحبّة تستوجب الاتّباع وبذل الودّ للمحبوب لقوله تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ}(1) ودعوى المحبّة بدون اتّباع عارية من الصحة ، ولا علاقة لها بمفهوم المحبّة الذي يفيد دائماً الاتّباع والموالاة والاقتداء والتفضيل والتقديم .

وإذا سألت الذين يدّعون محبّة أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) قولا بلا عمل ، أهكذا تكون محبّة الطاهرين من صفوة الله تعالى؟ أجابوك باستنكار المقصّر والجاهل وكيف ترون الحب إذاً؟

وبما أنّ المودّة التي وجبت على كلّ مكلّف منذ نزول الآية إلى أنْ يرث الله

____________

1-آل عمران : 31 .


الصفحة 127

سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها ، فعلى كل مسلم إزاء ذلك التكليف ، أن يبرهن على ذلك بإحياء تلك المودّة وإظهارها قربة لله تعالى ، وسعياً لنيل رضاه ، وإظهار الحزن في أحزان أهل البيت(عليهم السلام)مودّة لهم ، وإظهار الفرح في أفراحهم مودّة لهم أيضا ، والبكاء من أرقى تعابير الحزن في المصيبة ، كما أنّه من أرفع درجات الخشوع في العبادة ، فهو إحساس قلبي وجداني لا يستطيع تحصيله غير الذي صلحت سريرته وصفا قلبه ، وسمت نفسه ، وهو مستعص على القاسية قلوبهم ، ومصيبة الأمّة الإسلاميّة ما تزال تلقي بظلالها على عموم الأمة .

في ماضي الأيام كنت متصوراً أنّ ما يقال عن الشيعة من نسب باطلة صحيحٌ ، خصوصاً وأسباب التواصل بين الطائفتين شبه معدوم ، ولكن وبعد أن توفرت أسباب المعرفة من كتب وفضائيات وانترنيت ، بدأ اللبس يرتفع عنّي .

فهمت أنّ محبّة أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، تتطلّب وضع الصفوة الطاهرة موضعها في الأمّة من تفضيل وتقديم وتبجيل ، فلا يكون هناك أحد أفضل من الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً . ومحبّة أهل البيت(عليهم السلام) واجبة على جميع المسلمين ، ويراد منها أن نضع هؤلاء الذين اصطفاهم الله تعالى موضعهم من قيادة الأمّة ، وليس مجرّد أنْ نكنّ لهم حبّاً لا معنى له على صعيد الواقع . ذلك الحبّ الذي تراه أنت من خلال قناعاتك مفرط أو مبالغ فيه ، ليس إلاّ امتثالا صحيحاً لأمر إلهي نطق به القرآن وصدع به النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، لم يزد القائمون به عليه شيئا من عندهم .

فقلت له : لكن ألا تعتبر هذه المراسم التي يحييها الشيعة لأهل البيت(عليهم السلام) ، وتلك المقامات التي شيّدوها على أضرحة أئمتهم نوعاً من الإفراط والتهويل؟

فقال لي : قد تشاطرني الرأي عندما أقول لك أن للحبّ والمودّة مقدّمات ومقامات يتوزّع بينها الناس ، وتكون ذات أهميّة أكبر لو كانت تلك المودّة نابعة


الصفحة 128

من أمر الهي ، كالذي نحن بصدده ، وقد تشبّث الشيعة بهذه الشعيرة ، وجعلوها عنواناً لنهجهم ، وسمة ظاهرة من سمات تدينهم ، ليقينهم بأنّ مودّة أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) هي البراءة الفعلية من غضب الله سبحانه وتعالى ، والخلاص الحقيقي من ناره وعذابه ; لذلك اهتمّ الشيعة بإحياء مراسم أهل البيت(عليهم السلام) في كلّ سنة ، ولم يفتر ساعدهم ، ولا ضعفت همّتهم ، عن إحياء تلك المناسبات العظيمة ، وتشييد المقامات والإنفاق عليها بكلّ سخاء ، إيماناً منهم بأنّها من أيام الله سبحانه وتعالى ، ومن شعائره ، ومن يعظم أيّامه وشعائره فقد نال أجراً عظيماً.

فقلت له : ألا ترى أنّ فريضة مودّة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله) يراد منها محبّة أهل البيت(عليهم السلام) وتقديرهم فقط ، دون ما ذهب إليه الشيعة من تقديم وتفضيل واتّباع وموالاة؟

فقال لي : على عكس ما تعتقده ، فقد كانت الغاية من تشريع مودّة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله) منحصرة في كونهم قدوة الأمّة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، والتجسيد الحيّ لكتاب الله وأحكامه ، فالمولى سبحانه وتعالى عندما قال : {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ}(1) . قد جعل محبّته متمثّلة في اتّباع النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومخصوصة به، فلا يصح حبّ المولى دون اتّباع للنبيّ(صلى الله عليه وآله) ، كذلك محبّة رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يمكن أن تتحقق إلاّ بإتباع أهل بيته الأئمة الهداة من بعده(عليهم السلام) .

ثمّ ألم تعلم أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قد فرح بإسلام عليّ(عليه السلام) كما فرح بولادة الزهراء(عليها السلام) ، وما تبع ذلك من فرحه بولادة الحسن والحسين وزينب(عليهم السلام) ، وانتصارات علي(عليه السلام) التي هي انتصارات للدين الخاتم ، فكانت كلّ أفراحه تلك سنّة وجب علينا إحياءها لأنّ النبيّ منطلقها ومؤسسها ، والشيعة يتعبدون بتلك الأفراح انطلاقاً من تأسيس الرسول(صلى الله عليه وآله) لها .

____________

1-آل عمران : 31 .


الصفحة 129

ولا أراك تجهل حزن النبي الكبير على موت خديجة سيّدة النساء(عليها السلام) ، وموت عمّه أبي طالب(عليه السلام) ، وموت ابنه إبراهيم(عليه السلام) ، وموت ربيبته رقيّة رضي الله عنها ، وكان حزنه أكبر على ولده الحسين(عليه السلام) عندما أخبره جبريل(عليه السلام) بمقتله ، وحكى له ما سيحصل له من أمّته ، والشيعة يظهرون الحزن على مصائب أهل البيت(عليهم السلام)ويتعبدون بإقامتها تأسيّاً بالنبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فلم يبتدعوا شيئاً من عندهم حتّى يتّهمهم بقيّة المسلمين بالتطرّف والخروج على الدين ، بل إنّني أرى عدم الفرح بأفراح أهل البيت(عليهم السلام) ، وعدم الحزن بأحزانهم هو التطرّف والتنكّر للنبيّ(صلى الله عليه وآله) وللدين في صوره الحقيقية .

قلت له : وما مشروعيّة البناء ، وقد وجد عندنا أنّ بني إسرائيل قد لعنوا على لسان نبيّهم لأنّهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؟

فقال لي : الرواية التي ذكرتها لا أساس لها من الصحّة ; لأنّها خلاف الواقع والعرف ، الذي درج عليه الناس منذ آدم ، والبناء على قبور الأنبياء(عليهم السلام) يراد به حفظ الضريح ، وحصر مكانه ; لأنّه يحتوي على صفوة الله تعالى وخاصّته من خلقه ، فزيارته واجبة ، والصلاة فيه والدعاء عنده مدعاة لقبول الأعمال ، فمسجد النبيّ(صلى الله عليه وآله) في المدينة المنورة ، وضريحه ومثواه ، قد اتخذه الناس مقصداً وشدّوا إليه الرحال ، ليجدّدوا فيه العهد مع نبيّهم(صلى الله عليه وآله) ، ويتّخذوا منه سبباً ووسيلة للتقرّب منه ومن ربّه ، أمر قد درج عليه المسلمون منذ غابر الأزمنة ، ولم يشذّ عن تلك السنّة غير الضالين من أتباع الوهابيّة ، والبيت الحرام الذي أمر الله سبحانه وتعالى سيدنا إبراهيم ببنائه ; ليكون قياما للناس ، ليس بيتا لله على وجه الحقيقة ، بل قَصد به الله سبحانه وتعالى رمزيّة البيت لا حقيقة البناء ، ليكون للناس سبباً من أسباب المغفرة والتوبة والإنابة . وقصة أصحاب الكهف(عليهم السلام) خير دليل على ما يقوله الشيعة ، ويحتجّون به على مشروعيّة البناء على قبور الصالحين ; لتكون


الصفحة 130

ملاذاً إلى الله تعالى ، ومقامات طاهرة يقصدونها تبرّكاً وتحبّباً إليه ، قال تعالى : {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}(1) .

ولو كان هنالك مانع أو مخالفة للتكليف الإلهي في بناء البنيان واتّخاذ المساجد على قبور الصالحين لنهى الله عنه أولياءه ، وحسم الأمر فيه إلاّ أنّ الآية جاءت مجوّزة لذلك العمل غير معترضة عليه .

لقد كانت حجّة المسلمين الشيعة قويّة في جميع المجالات ، مدعومة بالبراهين العقليّة والنقلية ، فلم يتعبّدوا في يوم من الأيام تبعاً لأئمتهم بالشكّ والظنّ ، مثلما وقع لبقيّة الفرق ، التي تاهت وانحرفت عن الجادّة في عدد من الأحكام ، وانغمست في تطبيقها بالعاطفة والوراثة ، لا بالعقل والدليل .

أحمد الله تعالى أنْ يسّر لي معرفة أوليائه ، وجنّبني سبل الضلال ، وجعلني ممّن اعتصم بحبله المتين ، وتمسّك بعروته الوثقى التي لا انفصام لها ، وهي موالاة محمّد وآله الكرام البررة ، قادة الأمّة بعد النبيّ بلا فصل ، وسفن نجاتها من ظلمات الغيّ والجهل ، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين .

____________

1-الكهف : 21 .