عافاك الله، أفلم تكن تسمع ما تقول أو تنظر ما تكتب؟! أفلم تكن تدري بما في كتبك؟!
ويا حسرتا، ماذا نقول للملاحدة المعطلة إذا قالوا لنا: أهذا مجد الإله الذي تكفروننا وتسفهوننا بجحوده؟!
[ 8 ]
وأما قولك: (ولا نأت بك مجاهل الغفلة عن معرفة قدر الرسل، وعظيم أثرهم في نصرة الحق، ورسوخ قدمهم في الإيمان، وحسن ائتلافهم في المحبة، وانتظام جماعتهم في الدعوة، حتى دمثوا للمؤمنين شريعة سهلة، أدبية عقلية، قد أسست ناموس الحرية، وبثت التعاليم الروحية، فلم تشن لينها بقساوة، ولم تحتفل بالأعمال الفارغة)
فإنما هو قول أنت تقوله، وكتابك الذي تعتمد عليه يعارضك في ذلك، ويقول: إن (بطرس) صار ينتهر المسيح حتى قال المسيح له: اذهب عني يا شيطان! أنت معثرة لي، لأنك تهتم بما للناس لا بما لله!
وإن عشرة منهم اغتاظوا على المسيح من أجل عنايته بابني (زبدي)!
ومالوا إلى الرئاسة، وتشاجروا فيمن يكون الأكبر منهم بعد المسيح لما أخبرهم بأنه ماض عنهم، حتى وعظهم ووعدهم ومناهم بما يرغبهم في الائتلاف وترك التشاجر!
كثيرا ما وبخهم على قلة إيمانهم، وأنهم لا إيمان لهم، وليس لهم من الإيمان مثل حبة خردل!
وطلب منهم المواساة بسهر ليلة فلم يواسوه، مع ما هو فيه من الدهشة والحزن والاكتئاب، حتى وبخهم على ذلك مرارا!
ولما هجم اليهود تركه الجميع وهربوا!
ثم لم يصدقوا اللاتي أخبرنهم بقيامه من الأموات، عدوا كلامهن كالهذيان، حتى وبخهم المسيح على قساوة قلوبهم، وعدم إيمانهم، إذ لم يصدقوا الذين نظروه وقد قام، مع أن الإنجيل كم وكم يذكر المسيح قد أخبرهم بأنه يقتل وفي اليوم الثالث يقوم من الموت!
وناهيك ما تذكره الأعمال والرسائل من العهد الجديد بعد حادثة الصلب في اضطراب المتنصرين ومشاغبتهم، والمذمة من بعضهم لبعض، حتى أدت تلك المشاغبة إلى أن (بطرس) و (برنابا) و (بولس) وجماعة قد استعملوا الرياء لحفظ الشريعة!
ولكن فرصة الوقت وميل الأهواء إلى الراحة قد ساعد التلاميذ و (بولس) بنقل كتبكم على محو رسوم الشريعة بخلاف ما أوصى به المسيح، فبعضهم اتفقت مشورتهم لجلب الأمم إلى الخضوع لرئاستهم بأن يصانعوا أهواءهم ومألوفاتهم برفع الختان وسائر قيود الشريعة، ولم تكن لهم حجة في مشورتهم في ذلك إلا استجلاب الأمم وترغيبهم إلى الإيمان بالمسيح، وأن موسى قد استوفى نصيبه من رئاسة الشريعة، لأن له من يكرز به في كل سبت.
وإني لأحاشي الحواريين من هذه النسب الفظيعة، ولكن الذي دمث للأهواء هذه الشريعة الشهوانية إنما هو من له عداوة مع الله وشريعة رسله، وإن فلتات لسانه في زخرف بيانه لتفضحه بذلك.
[ 9 ]
وأما تمجيدك لشريعة الرسل بأنها (أدبية عقلية) فقد سبقك به البوذيون في تمجيد شريعتهم، إذ مسخوا بها شريعة البراهمة قبل أن تدون كتبكم بقرون عديدة و (ما أشبه الليلة بالبارحة) (32) إلا أن تلك تخلصت من شريعة باطل قاسية، وهذه تمردت على شريعة حق عادلة.
أفتقول - هداك الله -: إن شريعة موسى ليست أدبية ولا عقلية؟! ثم ما الذي ورطك باسم العقل ههنا؟! وأنت تذم العقل والمعقول، وتحذرني من أن يرجع بي من نصف الطريق!
[ 10 ]
وأما قولك: (لم تحتفل بالأعمال الفارغة) فإنك قد تورطت به في معركة كتبك التي انقسمت إلى نصفين:
فصف التوراة ورسالة (يعقوب) يناضل في حماية الأعمال، وكذا الإنجيل حيث أوصى بحفظ ما يقول به الكتبة والفريسيون والعمل عليه، لأنهم على كرسي (موسى) جلسوا (33) جاهر بأنه لم يجئ لينقض
____________
(31) استدل على مواقع هذا كله بالجزء الأول من كتاب (الهدى) ص 30 - 34.
(32) في مادة برح من: لسان العرب 2 / 412 ومعجم مقاييس اللغة 1 / 239. (م).
(33) مت 23: 1 - 3.
والصف الثاني - وهو المنتظم تحت قيادة النسبة إلى (بولس) - يحصر النجاة بالإيمان، ولا يجعل لوجود الأعمال الصالحة أثرا ومداخلة في النجاة، بل وصف كثيرا من وصايا التوراة بأنها للفناء وتعاليم الناس.
هداك الله، وكلا الفريقين من كتبك! فكان الأولى بك في هذه الفتنة والمثابرة أن تلجأ إلى الحياد، ولا تغتر بغلبة أحد الفريقين بنصرة الهوى ومعونة حب الراحة.
[ 11 ]
وأما تمجيدك لشريعتك بأنها (عكفت عليها الأمم وتشرفت لها الملوك) فقد سبقت الشريعة البوذية في راحة إطلاقها بهذا الذي تزعمه مجدا أيام كانت الهند الشرقية تباهي بتمدنها الغرب الوحشي، على أن شريعتك قد مضت عليها قرون وهي عرضة لاضطهاد الملوك!
[ 12 ]
وأما قولك في شأن رسلكم: (وناهيك بأثرهم في المعرفة ومنتهم على البشر، إذ جلوا للناس حقيقة الثالوث ومجد الأقانيم وجاهروا بتعليمه).
فإنه قول من لا خبرة له بالتاريخ وأديان العالم، أو قول من يخادع نفسه ويسخر بها في محاولة التمويه، أفلا تعلم أن التثليث والثالوث والأقانيم والجسد وما تفرعونه عليها قد سبقت ضلالة الأوهام بها من زمان (برهما) و (بوذا) (35) أو قبل ذلك؟! فما القول المتأخر بها إلا تلمذ على
____________
(34) مت 5: 17 - 20.
(35) أنظر: كتاب (العقائد في الديانة النصرانية) وتاريخ برهما وتاريخ برهما وبوذا في حرف الباء من (دائرة المعارف).
وأما ما ذكرته من احتجاجك للتثليث بأوهامك من كتبك، فهو اللائق بمن لم يرتض العقل والمعقول، ولم يرتدع برادع الامتناع، وإنك - عافاك الله - إذ جانبت العقل والمعقول والوجدان والاعتبار بالإمكان والامتناع، كان عليك أن تتشبث أقلا بكتب جامعة لصفات الحجة:
الصفة الأولى: كونها معلومة النسبة لمصدرها الذي تدعى به.
الثانية، كونها سالمة من تلاعب التحريف والتبديل، ومداومة الأيام والأهواء على إكرامها وتحسينها بالزيادة والنقصان.
الثالثة، أن لا يكون بعضها شاهدا على بعضها بالتحريف.
الرابعة، أن لا تكون - بنفسها - شاهدة على أن نسختها الوحيدة - في بعض الأزمنة - كانت كتابة جاهل لا يعرف الكتابة ومواقع الحروف، بل يقوم ويقع في الغلط الذي يمسخ المعاني مسخا واضحا، ويظهر عليه زيادة الحرف المغير للمعنى ونقصانه، وتبادل الحروف وزيادة الكلمات ونقصانها، وقد فضحها بذلك متبعوها حرصا على تدارك فارط الأيام وتقلبات الأحوال بالتلاعب فيها، فأكرموا وحدتها بأن تداولوها على صورتها المشوهة وغلطها الفاضح، وصاروا يصححون في حاشيتها ما يتضح غلطه فيها، ثم جاء المترجمون وأعرضوا عن صورتها واتبعوا في تراجمهم تصحيح الحواشي، الذي أوضحته القرائن القطعية - وفي خصوص أسفار التوراة الخمسة - من جميع أنواع هذه الأغلاط ما يزيد
الصفة الخامسة، إن تكون دلالتها على مدعاك جارية ولو على أضعف الدلالات المتبعة عند أهل المعرفة واللسان، لا كما نشاهده من بعض المعتوهين في الاحتجاج لهوساتهم بأمور يزعمون أنها رموز إلى خيالاتهم.
السادسة، أن لا تكون صراحتها المتكررة تناقض مدعاك.
السابعة، أن لا يكون أئمة نحلتك وقدوتك من سلفك بين من جعل على ما تحتج به على علامة الشك وعدم الوجود في أقدم النسخ وأصحها، وبين من جاهر بزيادتها على الكتاب وأسقطها منه.
ثم بعد ذلك يلزمك أن تكون من العارفين بلسان كتبك الأصلي، وأوضاع لغاتها، ووضع محاوراتها.
فكيف بك - هداك الله - وأنت لم يسعفك الحظ، ولم يؤاتك الوقت بواحدة من هذه الصفات المذكورة؟! وفي هذا كفاية لسقوط احتجاجك بكتبك.
ومع ذلك، فإنا لا نتجافى عن التعرض لحججك واحدة واحدة لنرشدك إلى ما فيها من الخطل والفشل، فلعل الله أن يأخذ بيدك إلى الصواب إذا كنت قد جعلت الحق ضالتك التي تطلبها، فجاهدت في سبيل الله ولم تجمح مع الهوى.
[ 13 ]
فأما تشبثك في احتجاجك على التثليث بدعوى قول
____________
(36) أنظر: الصدر والتمهيد في الجزء الثاني من كتاب (الهدى).
وإنا لو أعرضنا عما ذكرناه في التوراة الرائجة من وجوه الوهن والغلط - كما أشرنا إليه في الصفات الأربع الأول من السبع - لقلنا: يكفي في شطط هذا التشبث كونه ناشئا عن الجهل باللسان العبراني!
فلماذا تجهل - عافاك الله - من كتابك ولغته أن ما يكون علامة الجمع - وهو الميم بعد الياء - في آخر الكلمة قد يجئ في أواخر الأعلام المفردة؟! نحو: (موفيم) و (حوفيم) ولدا (بنيامين) و (حوشيم) ابن (دان) و (شليم) ابن (نفتالي) (38) و (شحريم) و (حوشيم) امرأته (39).
وقد يجئ في أواخر أسماء الأجناس، كما جاء في الشعير (شعريم) وفي العدس (عدسيم) وفي الكرسنة (كوسميم) (40) وفي الماء (ميم) (41) وفي العنب (عنبيم) وفي الرمان (رمنيم) وفي التين (تانيم) (42) وفي التفاح (تفوحيم) (43) وفي الزيتون (زيتيم) (44) وفي الكتان (بستيم) (45) وفي الحنطة
____________
(37) تك 1: 1 - 31.
(38) تك 46: 21 - 25.
(39) 1 أي 8: *.
(40) خر 4: 9.
(41) تك 26: 32.
(42) عد 13: 23.
(43) نش 7: 9.
(44) زك 4: 12.
(45) أش 19: 9.
هداك الله، فلماذا لا يكون لفظ (الهيم) في الموارد التي تذكرها علما مفردا هو اسم لله جل شأنه وإن وقعت الميم في آخره كما وقعت في أواخر الأعلام التي ذكرناها؟!
وإن كل ما رأيناه من التراجم قد ترجمت فيه هذه اللفظة بما هو اسم مفرد علم لله تبارك اسمه في لغة ترجمته، ولم يطرق سمعي ترجمته - قبلك - بالآلهة إلا من المنسوب لعبد المسيح، ووجدته في الكتاب المستعار له اسم (الهداية) في الجزء الرابع، صحيفة 250.
ويؤيد العلمية أن هذه اللفظة - في الموارد التي تعنيها - لم تقترن في الأصل العبراني بعلامة التعريف في العبرانية، التي هي (الهاء) فلم يقل فيها: (هألهيم) بل يوضح العلمية أنه قد جاء في التوراة الرائجة العبرانية اسم علم يلحق بالميم مرة، ويجرد منها أخرى.
وذلك كقولها مرة: (ابني عناق) (47).
وتارة تقول: (يليدي ها عناق ويلدي ها عناق) (48) أي: أولاد عناق.
وتارة تقول في هذا الموضوع: (بني عناقيم) (49).
ولو كانت لفظة (الهيم) اسم الجنس أو جمعا - كما تزعم - لما حسن
____________
(46) نش 7: 3.
(47) عد 13: 33، وتث 9: 2.
(48) عد 13: 22 و 28.
(49) تث 1: 28، و 9: 2، وانظر: يش 15: 13 و 14.
ولعلك تقول: إن علامة التعريف في العبرانية قد تسقط من اللفظ مع كون التعريف مرادا أو لازما، وذلك لأجل الاكتفاء بدلالة المقام.
فنقول لك: وما البناء على ما تقول، لماذا لا يكون لفظ (الهيم) اسم جنس معرف بتعريف العهد كما تقول: خلق الإله، وقال الإله؟!
فإن قلت: إن (الهيم) قد جاء في المقابلة (ال) (50) و (الوه) (51) فيدل ذلك على أن (الهيم) جمع بمعنى الآلهة، و (ال) و (الوه) مفرده.
قلنا: لا دلالة في ذلك، فإنه قد جاء مثله في أسماء الأجناس، فذكرت الميم وحذفت والمعنى واحد.
فقد جاء في الحنطة - حطيم) و (حطه) (52) وفي الشعير (شعريم) و (شعره) (53) وفي الماء (ميم) و (مي) (54) وفي التفاح (تفوحيم) و (تفوح) (55) وفي العنب (عنبيم) و (عنب) (56) وفي الزيتون (زيتيم) و (زيت) (57) وفي الكتان (بستيم) و (بسته) (58)
____________
(50) تث 6: 15، و 32: 4.
(51) أش 44: 8.
(52) تث 8: 8.
(53) خر 9: 31.
(54) عد 5: 18 و 20 و 22 و 24.
(55) نش 2: 3.
(56) تث 32: 4.
(57) خر 27: 20، ولا 24: 2.
(58) 1 مل 7: 20.
وأيضا يقول كتابكم: إن شاول طلب من صاحبة الجان أن تصعد له صموئيل النبي ورأته واضطربت.
وقال لها شاول: ما رأيت؟
قالت - ما لفظه بالعبراني -: (الهيم رائيتي عليم من هأرص) (61).
فلم يحتمل شاول أنهم جماعة، بل عرف من المحاورة المتعارفة في العبرانية أنها عنت واحدا، ولذا قال لها: ما صورته؟
فقالت: (رجل شيخ صاعد وهو مغطى بجبة).
فعلم من ذلك أن المتعارف في المحاورات العبرانية أن لفظ (إله) يلحقون الميم به وبوصفه، مع أنهم لا يريدون ولا يفهمون منه في محاوراتهم إلا الواحد المفرد، بحيث لا يخفى ذلك على السامع ولا يحتمل الجمع، ولا علينا أن نقول: إن إلحاق الميم ههنا للتعظيم أو لغيره.
____________
(59) خر 4: 16.
(60) خر 7: 1.
(61) 1 صم 28: 13 و 14.
قلت: إذن لهفي عليك وعلى إدراكك البشري، إذ صرت تحتج في دينك ومعرفتك بإلهك بلفظ مشترك، وتتشبث به لهذه الدعوى التي يستهزئ بها العقل، ويطردها الوجدان، ويجرها الامتناع إليه من تلابيبها.
[ 14 ]
وأما تشبثك بقول توراتكم: (وقال الإله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا.. الإنسان صار كواحد منا.. تعالوا ننزل ونبلبل هناك لسانهم).
فقد أبيت فيه إلا أن تواسي المتسمي بعبد المسيح في أوهامه أو تجاهله في تشبثه بقول الأصل العبراني (نعسه آدام) وغفلته أو تغافله عن أن توراتكم العبرانية - زيادة على ما أشرنا إليه من غلطها في الكتابة - قد تفاحش فيها الاضطراب في شأن الضمائر، إفرادا وجمعا، وتذكيرا وتأنيثا، وكم حذفت هاء التأنيث في المؤنث! وكم أبدلت حرفا بحرف! وكم زادت ونقصت في الحروف! وزادت كلمة برأسها كما فضحها بذلك الحواشي ومراغمة التراجم بالمخالفة لأصلها.
كما كثر اضطرابها في شأن الفعل وهيئته، فتارة تقول فيما تعريبه: (ارتحلوا ويرتحلون): (يسعو) بالياء (62) وتارة تقول: (نسعو) بالنون (63).
____________
(62) انظر أقلا: عد 9: 17 - 20.
(63) 9: 21، و 10: 18 و 21.
وتارة تقول في (أعطى) للماضي الغائب المفرد (يتن) (66) بالياء، وتارة تقول فيه (نتن) (67) بالنون.
وتارة في تقول في (أخرج) للماضي المتعدي (يوصا) (68)، وتارة تقول ذلك في (أخرج) (69) للمتكلم، وتقول فيه أيضا (اصا) (70).
وتقول في (ظهر) للماضي (يرأ) (71) بالياء، وتقول فيه أيضا (نرأه) (72) بالنون وزيادة الهاء.
وتقول في (تكون) للغائبة (تهي) (73) بالتاء (وهايتاه) (74) و (نهايتاه) (75).
وتقول في (حلف) للمفرد المذكر (يشبع) (76) بالياء و (نشبع) (77) بالنون.
وتقول في (حلفت) المسند إلى المتكلم المفرد (نشبعتني) (78)، وفي
____________
(64) تك 46: 10، وخر 6: 15.
(65) عد 26: 12.
(66 و 67 و 68) تك 24: 53.
(69) خر 8: 25، و 11: 4.
(70) خر 11: 8.
(71 و 72) خر 3: 2 و 16.
(73) تك 2: 12.
(74 و 75) خر 11: 6.
(76 و 77) لا 5: 22 و 14.
(78) تك 22: 16، و 26: 3.
وأمثال ذلك كثير حدا في التوراة والعهد القديم وإن اقتصرنا على بعض مواردها.
فلماذا لا تكون النون في (نعسه) كهذه النونات، في عدم الدلالة على إرادة غير المفرد، بل جئ بها كغيرها مما ذكرناه؟!.
ويطرد أيضا في التوراة واللغة العبرانية مجئ النون في أول الفعل المبني للمجهول المسند إلى المفرد الغائب، ويؤتى بالنون في أوله علامة للبناء للمجهول، فمن أمثلته في التوراة: (تقطع: نكرتاه) (80) و (يحرق: نأكل) (81) و (يقدم: نقرب) (82) و (يكسر: نشبر) (83) و (ينهب: نشباه) (84) و (تفدى: نفداتاه) (85) و (يباع: نمكر) (86) و (يبقى: نوتر) (87).
وهذه الموارد وإن ترجمت في العربية بالفعل الماضي، لكن صيغتها في العبرانية صيغة الفعل المضارع، فإن العادة فيها أن تعبر عن الماضي الواقع بعد الواو بصيغة المضارع، وعلى هذا فإن كلمة (نعسه) هي فعل مضارع مبني للمجهول، ترجمته (يصنع).
كما ذكرت التوراة أن الله جل اسمه قال في إنشاء خلق السماوات
____________
(79) تك 26: 4، وقض 1: 12.
(80) خر 12: 19.
(81 - 84) خر 22: 5 و 6 و 9.
(85) لا 19: 30.
(86) لا 25: 39.
(87) خر 10: 15، وعد 26: 65.
ويدل على أن كلمة (نعسه) هي فعل مبني للمجهول، وأن (آدم) نائب الفاعل، هو أنه لو كانت كلمة (نعسه) فعلا مبنيا للفاعل و (آدم) مفعولا لقيل: (نعسه ات آدم) لأن لفظة (ات) لازمة في اللغة العبرانية للمفعول به، ولا تذكر مع نائب الفاعل، فكان عدمها ههنا حجة قاطعة من اللغة العبرانية على أن (نعسه) فعل مبني للمجهول، و (آدم) نائب الفاعل لا مفعول.
وأيضا، فإن اعتمادك في ترجمة توراتك بقولك: (على صورتنا كشبهنا) فليس إلا على قول الأصل العبراني (بصلمنو كد موتنو) وهو اعتماد واه، وتشبث سخيف، يعرف سخافته كل من وقف على الغلط الفاحش في الأصل العبراني مما نبهت عليه الحواشي والتراجم وزيادة، وكل من وقف على الهرج والمرج القائم في أمر النون في أواخر الكلمات، فقد ذكرت اسما في آخر نون، وحذفتها عند النسبة إليه هو (نعمان ونعمي) (89) وكم عكست فزادت النون عند النسبة إلى ما لا نون فيه نحو (ادموني) (90) للأحمر، من: ادوم، ونحوه (شلاه وشلاني) (91) وتقول في كلمة
____________
(88) أنظر: تك 1: 3 - 11.
(89) عد 26: 40.
(90) تك 25: 25.
(91) عد 26: 20.
وقالت التوراة أيضا في الوثن الذي سمته (توعباه) أي قبيحا أو رجسا (شقص بشقصنو وتعب تتعبنو) (97) أي بغضا تبغضه وكراهة تكرهه، فسبيل النون في قولها: (بصلمنو كد موتنو) كسبيلها في الموارد المذكورة وأمثالها الكثير جدا، من حيث الغلط في الكتابة أو التوسع في اللغة.
فإن قلت: إن النون في مثل (عودنو وتشقصنو) عليها علامة التشديد بخلاف النون في (بصلمنو كد موتنو).
قلنا: إن علامات التشديد والحركات والسكون لم توضع في الكتابة العبرانية إلا في مدرسة طبريا التي انشئت في قرن المسيح عليه السلام أو بعده، فعلامة التشديد ونحوه لم تكن في كتب اليهود قبل ذلك العصر، بل وإلى الآن لا توجد في التوراة التي يكتبونها ويقدسونها للتلاوة في معابدهم.
فإن قلت: إن قرينة المقام تعين موارد التشديد من غيرها.
قلت: وأي قرينة إذن أوضح من توحيد الله جل شأنه وتنزهه عن
____________
(92) تك 45: 3.
(93) تك 46: 30.
(94) تك 43: 27 و 28.
(95) 2: 21.
(96) تك 3: 7.
(97) تث 7: 26.