الصفحة 73
الأوهام!

[ 32 ]

وأما تشبثك بما يذكره إنجيلكم من (قول توما للمسيح: ربي وإلهي، وأن المسيح ارتضى إيمانه).

فإنك تعرف وهنه من نفس إنجيل يوحنا - الذي ذكره - وغيره من الأناجيل، فإنه ذكر أن لفظ الرب تفسيره المعلم (135).

وذكر أن المسيح قال للتلاميذ: اصعدوا إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم (136). فبين بهذا الكلام أن إله التلاميذ هو إله المسيح.

ولئن كان إله التلاميذ - ومنهم توما - هو إله المسيح فكيف يكون المسيح إله توما؟!

إذن فمن هو إله المسيح وتوما والتلاميذ؟!

فبأي العبارتين ينبغي أن يكذب هذا الإنجيل؟! مع أنه نفسه، وباقي الأناجيل، قد تكرر فيها الصراحة والمجاهرة بأن الله إله المسيح، و (إلهي إلهي، لماذا تركتني؟!) ويعترف بأنه الإله الحقيقي، ويسوع هو المسيح الذي أرسله (137).

وإنك - وأنت نصراني - يلزمك أن تعتقد بأن إنجيل يوحنا يوجد فيه ما تكذبه الأناجيل الثلاثة، فإنه يقول: إن التلاميذ - وخصوص بطرس ويوحنا - في يوم قيام المسيح من الموت لم يكونوا يعرفون الكتاب

____________

(135) يو 1: 38.

(136) يو 20: 17.

(137) يو 17: 3.


الصفحة 74
أنه ينبغي أن يقوم من الأموات (138) مع أنه تكرر في الأناجيل أكثر من عشر مرات أن المسيح صرح لتلاميذه بأنه يقتل، وفي اليوم الثالث يقوم من الموت، حتى أن بطرس صار ينتهره عند هذا القول (139) وحتى أن اليهود كانوا يعلمون ذلك من قوله (140).

فإن قلت: قد سمعوا ذلك منه، ولكنهم لم يؤمنوا به، لأنهم لم يعرفوه من الكتب.

قلنا: فعلى هذا لم يكونوا آمنوا بنبوة المسيح وصدقه بأخباره، فكيف يقول الإنجيل بأنهم يقولون بألوهيته؟!

[ 33 ]

وأما قولك: (وإن لم ينجع بك العيان، وشئت أن تستأنس بالبرهان، فدونك الحجة البينة، واعتبر بأن قيام المسيح من الأموات أوضح دليل على ألوهيته، فإن الأنبياء مهما كانوا عظماء لم يقدروا أن يقوموا بعد موتهم، وإن أقاموا غيرهم من الموت، ولكن المسيح - له المجد - لما كان إلها قدر بقوته الإلهية أن يقوم من الأموات، ويعود إلى الحياة ويصعد إلى السماء حيا ممجدا إلى يومنا هذا).

فقد سبقك فيه أناستاس - على ما حكي عنه - وجعله أعظم براهينهم على ألوهية المسيح، فكان من جملة البراهين - إن صح النقل عنه - على أن الرهبان والقسوس قد نصبوا أنفسهم لرئاسة الدين، وليس لهم خبرة بكتب دينهم، فصاروا يخبطون في الإلهيات حسب ما تترامى بهم

____________

(138) يو 20: 9.

(139) مت 16: 21 و 22.

(140) مت 27: 63.


الصفحة 75
العشواء.

عافاك الله وهداك، من قال لك: إن الأنبياء أقاموا غيرهم من الموت بقدرتهم؟! أفلم تسمع من إنجيلك أن المسيح - الذي تغالي به - لما أراد حياة أليعازر، كيف انقطع إلى الله، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: أيها الأب، أشكرك لأنك سمعت لي، وإنا أعلم أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني (141) فتوسل إلى الله أن يحيي أليعازر على يده ليدل بإعجاز على رسالته.

وإن اغتررت بقوله: (أيها الأب) فإنا نذكرك بقوله: (أبي أبيكم، وإلهي وإلهكم).

عافاك الله، ومن قال لك: إن المسيح قدر بقوته الإلهية أن يقوم بنفسه من الأموات؟! أفلم تقرأ في عمرك كله كتبكم لكي ترى المجاهرة فيها من رسلكم، في أكثر من عشرين موردا، بأن الله أقامه من الأموات؟! فانظر إلى الباب الثاني والثالث والرابع والعاشر والثالث عشر والسابع عشر من الأعمال، والرابع والثامن من رومية، والسادس والخامس من كورنتوش الأولى، والرابع من الثانية، والأول من غلاطية وافسس وتسالونيكي وبطرس الأوليين، والثاني من كولوسي، والثالث عشر من العبرانيين، فماذا - عافاك الله - تهزأ بنفسك؟!

[ 34 ]

وأما قولك: (بل إذا نظرت إلى ولادته المقدسة من روح القدس لم تشك بألوهيته لم يشارك البشر في التولد من فحل

____________

(141) يو 11: 41 و 42.


الصفحة 76
بشري، وهذه حجة ما فوقها حجة، وآية ما بعدها آية).

فنقول فيه: إن الاحتجاج على ألوهية المسيح بولادته المقدسة إنما هو من غرائب الأوهام.

أما أولا: فإن من عرفنا الإله ووجوب وجوده وأزليته وكمال ليسفه القول بألوهية من حدث بالولادة كيف ما كانت، كيف؟! وهي دليل النقص والحدوث والإمكان!

وأما ثانيا: فإن آدم المتكون بلا ولادة أولى بهذا الوصف من المسيح، لو كان معقولا!

أما ثالثا: فإن هذه الولادة قد تنازع فيها الإمكان والعادة، ولم يسمح لنا التثبت في الحقائق أن نعتمد على مجرد الإمكان، ولم يترجح عندنا، جانب الإمكان بدعاوى أمثالك أو أقوال كتبك التي هي بنفسها لم تدع مساغا للركون إليها، بل اعتمدنا في هذه الحقيقة على الوحي الصادق، وهو أشد المقاومين لدعوى ألوهية المسيح والمكفر لمدعيها، فكأنك سمعت بأنا نعترف بقدس ولادة المسيح فحسبت أنا اعتمدنا فيها على مجامعكم، أومنتك أوهامك بأن تخادعنا فلم تخدع إلا نفسك!

[ 35 ]

وأما قولك: (وإذا اقتفيت هدى الإنجيل فلا بد أن يسفر لك صبح اليقين بهذه الحقيقة).

فأقول فيه: هداك الله، أي إنجيل تدعوني إليه؟! فإنها أربعة متنافية متعارضة متهافتة، لم يراع كاتب أحدها كاتب الآخر.. أفأقضي عمري بهضم الأعداد حقائقها، وتثليث الواحد، وتوحيد الثلاثة والأربعة؟!


الصفحة 77
وإنا لو سلمنا الهدى - والعياذ بالله - إلى كتبكم لبهظتنا بما يعود منها إلى التعرض لقدس المسيح، وتناقض تعاليمه، ووهن حججه، وعدم صدور الآية منه، وانحصار دعواه بالرسالة إلى بني إسرائيل (142).

[ 36 ]

وأما قولك: (وكرم عنصره المتسلسل من أنبياء مطهرين إلى ملكوك مؤمنين).

فكم لك - هداك الله - من غفلة لا تليق بعوام الناس:

أما أولا: فأي ملازمة بين كرم العنصر وبين الألوهية وبين النبوة؟!

أجل، لماذا لم تقولوا بأبي مريم وجدها قلتموه بالمسيح؟!

وأما ثانيا: فهل عددت من الملوك المؤمنين رحبعام بن سليمان؟! الذي ترك شريعة الرب هو وكل إسرائيل معه، وأرخى العنان ليهودا، حتى بنوا لأنفسهم من شعائر الشرك وعبادة الأوثان مرتفعات وأنصابا وسواري على كل تل مرتفع وتحت كل شجرة خضراء. وكان أيضا مأبونون في الأرض، فعلموا حسب أرجاس المشركين.

أم من الملوك المؤمنين ابيا ابن رحبعام؟! الذي سار في جميع خطايا أبيه؟!

أم منهم يهورام وابنه اخزيا؟! اللذان عملا الشر على ضلالة بيت اخاب!

أم منهم يواش؟! الذي سمح ليهوذا بعبادة السواري والأصنام وترك بيت الرب إلههم!

____________

(142) تعرف مواقع ذلك في الإنجيل من الجزء الأول من كتاب (الهدى) صحيفة 185 - 235.


الصفحة 78
أم امصيا؟! الذي أتى بآلهة ساعير وأقامها له آلهة، وسجد أمامها، وأوقد لها!

أم احاز؟! الذي عمل تماثيل للبعليم، وذبح لآلهة دمشق، وأغلق أبواب بيت الرب وأبواب الرواق حتى احتاج حزقيا في تطهيره إلى عمل ثمانية أيام.

أم من الملوك المؤمنين منسى؟! الذي بنى المرتفعات، وأقام مذابح للبعليم، وسجد لكل جند السماء، وبنى لها مذابح في داري بيت الرب، ولكنه لما ذاق وبال أمره من ملوك آشور رجع إلى الله!

أم منهم ابنه امنون؟! الذي عمل كل ما عمله أبوه من الشرك ولم يرجع إلى الله!

إم منهم يهواحاز، ويهوياقيم، ويهوياكين، وصديقا؟! واللذين علموا الشر، وذكر أرميا في أيامهم أن يهوذا سكلوا وراء البعليم وآلهة أخرى حتى صارت آلهتهم بعدد مدنهم، وبعدد شوارع أرشليم!!

أفلم تطلع - هداك الله - على هذا كله من كتبكم حتى قلت ما قلت؟! إذن فراجع المقدمة الخامسة من كتاب (الهدى) صحيفة 21 - 28 تدلك على مواضع ذلك من كتبكم.

وهذا وإن كان لا يضر في قدس المسيح ولكنه يشينك بوصمة الجهل أو التجاهل والتدليس.

[ 37 ]

وأما قولك: (وطهارة مواليده).

فإني أشكرك فيه على الإذعان بهذه الحقيقة اللازمة في الأنبياء الذين لا ينبغي أن يكون فيهم نقص ينفر عن الانقياد إليهم، ولكني

الصفحة 79
أشكو إليك كتبك التي كأن لها غرضا في مباهظة هذه الحقيقة، حتى استهدفتها بالتعريض وبالتصريح أخرى، ولا أدري هل غفلت عن ذلك، أو عرفت كذب كتبك فيه؟!

أبدأ إليك - وإلى كل محب للمسيح - بالشكوى من إنجيل متى فإنه لما ذكر نسب المسيح خالس في الشتم والوقيعة مخالسة الأعداء، فأشار إلى مواقع الغميزة والثلب التي لفقها الضلال، فإنه لم يذكر - في طرد النسب من الأمهات - إلا من كان لكتبكم فيها كلام، فنص على ذكر ثامار، وراحاب، وراعوث، وامرأة اوريا (143).

أفتراه لا يريد بذلك أن يشير إلى ما في الثامن والثلاثين من التكوين؟! وما في الثاني من يشوع؟! وما في ثالث راعوث؟! وما في الحادي عشر من صموئيل الثاني؟!

ثم اثني بالشكوى من كتب العهد القديم، فإنها لم تدع منقصة وخسة تكون في العائلة إلا ووصمت به عائلات الأنبياء، في هذه السلسلة الطاهرة وأطرافها.. فانظر إلى ما تحكيه عن لوط وابنتيه (144) وعن روابين ابن يعقوب (145) وعن يهوذا وكنته ثامار، وولادة فارص (146) وعن داود (147) وعن امنون بن داود وثامار اخته ويوداناب ابن عمها، وسكوت دارد عن

____________

(143): مت 1: 3 - 7.

(144) تك 19.

(145) تك 35: 22.

(146) تك 38: 13.

(147) 2 صم 11.


الصفحة 80
مثل هذه الواقعة، مضافا إلى ما زادته الترجمة السبعينية في شأن داود فيها (148) وعن ابشالوم بن داود مع سراري أبيه (149) وعن ادونيا بن داود في أنه طلب من سليمان ابيشج الشمونية زوجة أبيه لتكون له امرأة (150)؟!

فهل كان للإلهام والوحي سابقة عداوة مع هذه السلسلة الطاهرة؟! أفلا ترى كيف جعل بيت داود؟!

هداك الله، ولو لم يكن في كتبكم إلا مثل هذه الدواهي لكفى صارفا عنها؟! فكيف بها وهي تورد عليك كل آونة - إذا سبرتها - داهية أعظم من أختها؟!

فخذ حظك - هداك الله - من رشدك، واتق الله في نفسك، وجاهدها في سبيل الله حق جهاده، ولا تأخذك فيه لومة لائم أو ميل هوى أو سابقة ألفة.

ولا أبهظ هواك في أول الأمر بالدعوة إلى دين خاص سوى التوحيد، فإن أنوار الحقيقية لا تخفى على كل عين أميط عنها قذى العصبية وغبار الهوى.

ولئن عرفت منك أن جوابي هذا لم يبهظ هواك، ولم يصدك اللجاج عن النظر فيه، وراجعتني فيه بالقبول أو المناظرة، فسوف أهدي لحضرتك - إن شاء الله - رسالة في تعريفك دين الحق وسبيل الهدى ووسيلة النجاة، والله الهادي الموفق.

____________

(148) 2 صم 13.

(149) 16: 21 و 22 مع 12: 11.

(150) 1 مل 2.


الصفحة 81
ولئن لم تعرفني أيضا نفسك لحكمة تؤثرها، فسأجلوها لحضرتك - إن شاء الله - على نحو هذه الرسالة، وبالله التوفيق.

[ 38 ]

وأما مخادعتك بقولك: (فتستريح إلى النواميس الروحية عن المتاعب البدنية التي هي للفناء).

فقد سمعنا ذلك قبلك من رابع غلاطيه، وثاني كولوسى: وغيرهما، وإن بعض الفساق المتمردين من برابرة المسلمين قد قال عند الاعتراض عليه في فسقه: (صلاة ملاة يوخدر، أصل قلبك نظيف) (151).

عافاك الله، أين النواميس الروحية التي استراح المدعون إليها؟! أفلسنا في العالم؟! فإن أهل الأمثال يقولون: (إن الرمح لا يخبأ في العدل) (152) ولا أرتني الأيام أني أستريح من حيث تعب الكرام وجهد الأنبياء والصالحون!

أفلا تعلم - هداك الله - أن العبادات البدنية وسيلة لتمرين النفس على التوجه إلى الله، ومظهر للخضوع بحضرته، والانقياد إلى طاعته، إحكام للرابطة بين العبد ومولاه، ورصد للنفس عن التمرد عليه، وحصن لها عن تسلط الشيطان على حوزتها وطمعه في غوايتها.. هذا مع ما فيها ومن فضيلة المناجاة مع المولى، وشرف المثول بحضرته، ووسيلة القرب منه، وغبظة الاستنزال لرحمته.

وإن أناجيلكم - مع تقصيرها في بيان عبادة المسيح وبره - قد

____________

(151) هذا تعبير كان شائعا بين فساق في العهد العثماني (التركي) ومعناه: ليس هناك صلاة، فالدين يريد أن يكون قلب الإنسان نظيفا.. أو ما هذا معناه. (م).

(152) مثل عامي عراقي. (م).


الصفحة 82
ذكرت أنه اعتمد من يوحنا بمعمدية التوراة ليكمل كل بر (153) وصار مع الوحوش في البرية أربعين يوما ليجرب من إبليس (154) وكان يصعد الجبل ليصلي منفردا، وينقضي بذلك أكثر النهار وأكثر الليل (155) ويقصد لصلاته المواضع الخالية (156) والانفراد (157).

ألم يذكر إنجيلكم أن المسيح ضرب مثلا في أنه ينبغي أن يصلي كل حين ولا يمل (158) وأعلم التلاميذ بأن المراتب العالية لا تنال إلا بالصوم والصلاة (159).

أفآل تعس الوقت إلى الترغيب بالاستراحة من العبادة؟!

عافاك الله، لا تليق هذه المغالطة إلا من الطبيعيين، وإن أردت أن تعرف موقع الصلاة في كتبكم فاستدل بما ذكره (مغني الطلاب) (160) في عنوانها وأوضاعها وفضلها ومن هم الذين ينكرونها.

[ 39 ]

وبذلك تعرف غفلتك في قولك: (ولا أقل من أن تسلم في سنتك من جوع شهر وعطشه في حر الهجير في البلاد الحارة).

أفلم تقرأ من كتبكم نقلها أن موسى صام مرتين، كل مرة أربعين

____________

(153) مت 3.

(154) مت 4، ومر 1، ولو 4.

(155) مت 14: 23 - 25، ومر 6: 46 - 48.

(156) مر 1: 35.

(157) لو 9: 18.

(158) لو 18: 1 - 8.

(159) مت 17: 21، ومر 9: 29.

(160) (م).


الصفحة 83
نهارا وأربعين ليلة، لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء؟! (161) والمسيح صام أربعين يوما وقال لإبليس: ليس بالخبز يحيا الإنسان، بل بكلمة تخرج من فم الله (162)؟!

أفلم تسمع من كتبك عن قول المسيح أن بعض المراتب العالية لا تنال إلا بالصوم والصلاة؟!

ألم تنظر إلى فضل الصوم وحكمته وفوائده في كتبكم؟!

فإن كنت في غفلة عن ذلك فاستدل عليه بمغني الطلاب.

[ 40 ]

وأما ترغيبك لي (بنجاة أولادي من ألم الختان وشوهته).

فتلك مخادعة سبقت من كتبكم، إذ تذكر أن الرسل ارتأوا في أمر الختان، فرأوه عثرة في سبيل انقياد الأمم إلى رئاستهم، ووجدوا أن إبطاله مصيدة للأمم! حتى بدا ذلك على فلتات الخامس عشر من الأعمال، إذ ينقل عن يعقوب ما حاصله استحسان التخفيف عن الأمم بإبطال شريعة الختان ترويجا لأمر المسيح، لأن موسى له من يكرز به في كل سبت، وإن البصير ليعرف من مخايل الكلام أن الغرض ترويج أسباب الرئاسة.

عافاك الله، هب أني ممن يعتمد على كتبكم، فهل يسوغ لي أن أعتمد على هذا الرأي الاستحساني وأترك ما تذكره التوراة من تأكيد الله على إبراهيم في أمر الختان، وأنه علامة العهد بين الله والمؤمنين (163)

____________

(161) تث 9: 9 و 18.

(162) مت 4: 2 - 5.

(163) تك 17: 9 - 15.


الصفحة 84
أم ترك شريعة التوراة به (164) وصراحتها بكونه شرطا في عمل الفصح؟! (165) أم شهادة بولص بأن إبراهيم أخذ علامة الختان ختما لبر الإيمان الذي كان في الغرلة؟! (166).

[ 41 ]

وأما زعمك (أن السبب في شريعة الختان لإبراهيم هو علم الله بأن ذريته سيدخلون مصر، فأراد الله أن يشوههم لتنفر عنهم الزواني المصريات فلا يؤاتينهم على الزنا).

فقد سمعت غلطه من رسالة المدعو بعبد المسيح، وما كنا نحسب أن أحدا غيره يقدم على ترويج العوائد الوثنية، وإبطال الشريعة بتكذيب التوراة، وتخطئة الأنبياء وتغليطهم في تبليغ شريعته الختان والعمل عليها، من موسى في تبليغ شريعته وجعله شرطا في الفصح بعد الخروج من مصر، ثم يوشع في ختانه لجميع بني إسرائيل بعد عبورهم الأردن، ثم الأنبياء إلى ما بعد ميلاد المسيح بنحو خمسين سنة.

عافاك الله، فلماذا تقتفي أثر أوهام المدعو بعبد المسيح؟! وأقل ما فيها أنك أنت اهتديت إلى العلة في أمر الختان، وجميع الأنبياء - من موسى والذين بعده - ضلوا عنها! حتى رسلكم إذ تشبثوا لإبطاله بالاستحسان الملفق، ولم يعتمدوا عليها، وأن بولسكم كاذب في شهادته بالعله كما ذكرناه.

[ 42 ]

وأما قولك: (وتسلم من طيش بعض الأفعال إذا حظيت

____________

(164) لا 14: 13.

(165) خر 12: 43 - 49.

(166) رو 4: 11.


الصفحة 85
بشرف الثروة، وأبهة الرفعة، ولا تستضر بمالك وراحتك ووقارك).

فإنك تعرض فيه بالحج إلى بيت الله الحرام، وقد أوضحت بنفسك عن وجه الحكمة الإلهية في شرعيته، حيث كشفت عن جبروت أمثال نفسك وانخداعها واغترارها بالثروة، التي عادت الشريف الفاضل، وواصلت الدني الخامل.


كم أعارت محاسن الدهر قوماملأوا عيبة الزمان عيوبا (167)

عافاك الله، كم شاهدنا مغرورا بالثروة، متجبرا بالغنى الموقت، قد ألقته الحاجة إلى مهانة السؤال بالكف!

أفبهذه الأوهام يتكبر الإنسان على عبادة الله وتأديبات شريعته لعباده؟!

أفلا ينبغي لك أن تتواضع من أنعم عليك بالثروة، وتعظم شعائره، وتتبع شريعته؟! فإنه لقادر على سلبها منك في طرفة عين.

وقد صدقت إنجيلك في قوله: (لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما يبغض أحدهما ويحب الآخر، أو يلازم أحدهما ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال) (168).

وقوله: (يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات، إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنيّ إلى ملكوت الله) (169).

هداك الله، وماذا تنكر من شريعة الحج؟! فهل تنكر أن المتمكن

____________

(167) (م).

(168) مت 6: 24، ولو 16: 13.

(169) مت 19: 23 و 24، ومر 10: 24 و 25.


الصفحة 86
القادر يجب عليه السفر إلى بيت الله لأجل عبادة الله وتعظيم شعائره مرة في عمره، وإن تطوع بعد ذلك فهو خير يستفيده؟!

وهذه توراتكم قد أوجبت على كل ذكور بني إسرائيل أن يقصدوا في أعيادهم في كل سنة ثلاث مرات إلى المحل الذي يختاره الرب (170) ويحملوا معهم عشورهم وأبكار غنمهم وبقرهم (171) فكانوا يقصدون حسب هذه الشريعة إلى خيمة الاجتماع موقتا، ثم إلى البيت الذي بناه سليمان.

كما تذكر كتبكم أن سليمان بنى أيضا بحذاء هذا البيت مرتفعات لتعظيم شعائر الأوثان، آلهة الصيدونيين والموابيين والعمونيين (172).

وإن البيت الذي نحج إليه بناه إبراهيم خليل الله وإسماعيل مبارك الله، وهما اللذان لم تقرفهما كتبكم بما قرفت به سليمان!

ولا بد لمن يقصد الهيكل من أقاصي أرض إسرائيل أن يقطع مسافة تقارب المائة وخمسين ميلا، واستمر اليهود على هذه الشريعة، حتى أن المسيح كان يقصده ويصعد إليه في الأعياد، حتى من الجليل من مسافة ستين ميلا فما فوق.

أم هل تنكر الإحرام ومناسك الحج؟! التي أقل حكمها وفوائدها الحميدة حبس النفس عن أهوائها وجبروتها ببطر الترف وأوهام الشرف، وإرغام طغيانها بخرافة الثروة، وكسر عادية غرورها الذي هو مفتاح

____________

(170) تث 16: 16.

(171) تث 14: 22 - 23.

(172) 1 مل 11: 7، و 2 مل 23: 13.


الصفحة 87
الشر والفساد، فيتجرد العبد بذلك إلى محاربة الهوى والشيطان، ويتخلى من مصائدها لأجل التوجه إلى مولاه بالرغبة والرهبة، وينبه نفسه الأمارة إلى أنه عبد مخلوق، ضعيف حقير، لا يملك من أمره شيئا، فيطهرها من قاذورات الأماني بشرف الثروة وأبهة الرفعة، وينزهها من خسة التكبر بهذه الأوهام الفاسدة والخيالات الزائفة.

عافاك الله، إن العليم الحكيم ليعلم أن الإنسان لا تنقاد روحه إلى النواميس الصالحة إلا إذا أدبته الشريعة الإلهية برياضة نواميسها، وقادته بزمامها، أفليس من هذا النحو ما تذكره أناجيلكم من أن المسيح صار في البرية مع الوحوش أربعين يوما ليجرب من إبليس، ومع هذه الرياضة لم ينقطع طمع إبليس في إغوائه بالشرك (173).

أفلم تسمع من كتبك أمرها بالخضوع والتواضع لله؟! (174) وأن المطلوب من العبد أن يسلك متواضعا مع إلهه (175).

عافاك الله، فهل رأيت أو سمعت أن المسلمين يطفرون ويرقصون في حجّهم كما يذكره كتابكم عن فعل داود أمام التابوت؟! (176).

أم هل وجدت في شريعة جامعة المسلمين لحجهم وعباداتهم كما تأمر به مزاميركم، إذ تقول: (ليسبحوا اسمه برقص) (177) (سبحوه بدف

____________

(173) انظر: مت 4، ولو 4.

(174) 1 بط 5: 5، ويع 4: 7.

(175) مي 6: 8.

(176) 2 صم 6: 19 - 23.

(177) مز 149: 3.


الصفحة 88
ورقص)؟! (178).

ولو أنك - على نصرانيتك - شهدت المواقف الشريفة وقد فزع فيها النساك إلى الله مولاهم، وهم على حالة واحدة، وزي واحد، في الخشوع والخضوع، لا تميز في ذلك فقيرهم من المتجبر المزدهي بشرف الثروة وأبهة الرفعة، واطلعت على تلك الهيئات الجميلة، لداخلك من الخشوع واستحسان ذلك النسك ما لا تحتسبه، ولقلت: أين هذه العبادة والخضوع من الصلاة بالترنيمات الموسيقية!

هداك الله، وإن رابطة المراسلة قد أيقظت بيننا العواطف البشرية، والعلاقة الجنسية (179)، ونبهتها إلى المطالبة بحقوقها، وحكم الله لها بوجب المعاونة على البر والتقوى وعرفان الحق، فلتزل مما بيننا معثرة التعصب، ونعط الحق حقه ومن النصفة، ونفزع إلى الله في طلب التوفيق والهدى إلى سبيله، فنستنزل رحمته بالانقطاع إليه في الدعاء، والنية الصادقة، والإقبال الخالص، ونكون يدا واحدة في محاربة الهوى والشيطان، مستعدين بعدة المباحثة وأهبة النظر، وسلاح الإنصاف، وثبات الإخلاص، سائلين من الله النصر، فإنه خير المسؤولين وأرحم الراحمين.

وحباك الله بلطفه، وأسعد حظك بالهدى إلى سبيله، والتوفيق لحقيقة طاعته ومعرفة دينه.

وإني لأرجو منك العود إلى المراسلة، فإنك لا تذم عاقبتها المحمودة إن شاء الله.

____________

(178) مز 15: 4.

(179) أي جنس البشر. (م).


الصفحة 89
وإنا قد اقتصرنا في رسالتنا هذه على ما جرى فيه كلامك، واقتصرنا في الجواب على أقل الواجب، ومسمى الإشارة، مؤثرين تعجيل البر بالجواب.

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.