السبب الخامس
ما ذهب إليه الخطيب البغدادىّ وابن عبد البرّ
قال الخطيب: إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتشديده عليهم في ذلك؟
قيل له: فعل ذلك عمر احتياطاً للدين، وحسن نظر للمسلمين، لأنّه خاف أن ينكلوا عن الأعمال، ويتّكلوا على ظاهر الأخبار. وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها ولا كلّ من سمعها عرف فقهها; فقد يَرد الحديث مجملاً ويستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر أن يُحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحُكم خلاف مأخذه، وفي تشديد عمر ـ أيضاً ـ على الصحابة في روايتهم حفظ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وترهيب من لم يكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها(1).
قال الدكتور محمّد عجاج الخطيب، بعد نقله كلام الخطيب البغدادىّ: هذا ما رآه ابن عبد البرّ والخطيب البغدادىّ وغيرهما من أئمّة الحديث وإليه أذهب وبه أقول(2).
____________
1- شرف أصحاب الحديث: 97 ـ 98.
2- السنّة قبل التدوين: 106.
منها: أترى أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان أحرص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) على دين الله؟ وما معنى خوفه واحتياطه ورسول الله يقول للسائل: (حدِّث عنّي ولا حرج)؟ ويقول في آخر (اكتبوا ولا حرج)؟
وكيف لا يحتاط أبو ذرّ الغفارىّ وهو الصحابىّ الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ)(1) وابن مسعود وغيرهم.
ثمّ إنّ ما فعله عمر بن الخطّاب من حظر التحديث والتدوين، وجمعُهُ للصحابة المحدِّثين في حوزته إلى آخر حياته ـ من أمثال أبي ذرّ وابن مسعود وأبي مسعود وغيرهم ـ ليشير بوضوح إلى افتعال ما نُسب لهؤلاء من روايتهم أحاديث منع التدوين والتحديث عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، فقد ثبت من جهة أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب منع هؤلاء وفرض عليهم الإقامة الإجباريّة في المدينة، لتحديثهم عن رسول الله فلا يعقل في الجهة المقابلة أن يكون هؤلاء هم رواة أحاديث منع التدوين!! إذ لو كانوا كذلك لالتزموا بما سمعوا من منع النبىّ (صلى الله عليه وآله) ولما حدّثوا عنه (صلى الله عليه وآله) بشي.
بلى، لو صحّ أنّهم من مانعي الرواية والتحديث لما احتاج الخليفة إلى جمعهم ونهيهم عن التحديث، لأنّه تحصيل حاصل.
ثمّ ألم يكن في هذا القول ازدراء للصحابة؟ وتكذيب لما قاله ابن حجر عنهم: فنفى عنهم الكذب والخطأ والسهو والريب والفخر!
وإذا كان نقل الصحابة قد جاء تدريجيّاً واجتهاداً منهم، فهل يجوز لعمر نقض ما فعلوه؟
____________
1- مسند أحمد 2: 163، ح 6519، سنن ابن ماجة 1: 55، باب فضل ابي ذر، ح 156، سنن الترمذي 5: 669، باب مناقب أبي ذر 2، ح 3801، الاحاد والمثاني 2: 231، ح 986، الكنى للبخاري 1: 23، ح 181.
ألم يكن ذلك دليلاً على الجواز؟
وهل يعقل أن يمنع الرسول (صلى الله عليه وآله) من تناقل حديثه الذي فيه بلاغ للناس؟ وهو القائل (رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فبلغها عني)(1).
والعجيب أنّهم يدّعون أنّ في المنع احتياطاً للدين، ويفوت عليهم أنّ منع المنع هو الاحتياط للدين، لأنّ معنى المنع هو ضياع كثير من الأحكام وعدم وصولها للمسلمين وإخفاء حكم الله، وأمّا التحديث والتدوين فهو وإن كان عرضة للخطأ والتصحيف وو... لكنّه أعوَدُ على المسلمين من بقائهم في الجهل وعدم معرفة الأحكام.
ولو تنزّلنا وقلنا بأنّ الخليفة الثاني منع من التدوين احتياطاً للدين، فإنّنا سنواجه مشكلة في سيرة الخليفة من كونه حادّاً سريعاً في اتّخاذ المواقف منذ الجاهلية(2) وصدر الإسلام، وهذا لا يتفق مع خوفه من (أن ينكلوا عن الأعمال ويتكلوا على ظاهر الاخبار) ـ كما قاله الخطيب ـ لأن عمر كان لا يتأنّى ولا يتمهّل، بل تراه يتسرّع في كثير من الأمور ثمّ يندم على ذلك، اذ نراه ندم على ما فعله سابقاً في صلح الحديبيّة(3) وحينما صلى النبي (صلى الله عليه وآله) على المنافق(4)، ومثل ذلك ما تعجّل به
____________
1- سنن الترمذي 5: 34، كتاب العلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، باب ما جاء في الحث على تبليغ السامع، ح 2658، المسند المستخرج على صحيح مسلم 1: 41، ح 12، سنن ابن ماجة 1: 84، باب من بلغ علماً، ح 230 و1: 85، ح 231 و1: 86، ح 236: مسند أحمد 4: 80، ح 16784 و4: 82، ح 16800.
2- انظر المنمّق: 130.
3- صحيح البخاري 2: 978، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح 2581. و3: 1162، باب إثم من عاهد ثم غدر، ح 3011، و4: 1832، باب إذ يبايعونك تحت الشجرة، ح 1785 وصحيح مسلم 3: 1411 باب صلح الحديبيه ح 1785.
4- تاريخ المدينة لابن شبة 1: 372 بسنده عن الشعبي قال: إن عمر قال: لقد أصبت في الإسلام هفوة ما هفوت مثلها قط، ثم ذكر قضية صلاة النبي على عبد الله بن أبي وهو كان منافقاً فاعترض عمر على النبي (صلى الله عليه وآله) آخذاً بثوبه ليمنعه من الصلاة عليه. الدر المنثور 3: 264، كنز العمال 2: 419، ح 4393.
فكان النبىّ (صلى الله عليه وآله) لا يقبل على عمر، حتّى أسلم الحكم.
قال عمر: فما هو إلاّ أن رأيته أسلم، حتّى أخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: كيف أردّ على النبىّ أمراً هو أعلم به منّي، ثمّ أقول: إنّما أردت بذلك النصيحة لله ولرسوله؟!
قال عمر: فأسلم، فحسن إسلامه، وجاهد في الله حتّى قُتِل شهيداً ببئر معونة ورسول الله راض عنه. ودخل الجنان(1).
وكانت له مثل هذه المواقف في خلافة أبي بكر، فقد جاء نفر من مؤلّفة المسلمين إلى أبي بكر يطلبون سهمهم، فكتب لهم به، فذهبوا إلى عمر ليعطيهم، وأروه كتاب أبي بكر، فأبى وبزق [ بصق ] فيه ثم ضرب به وجوههما... فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟! فقال: بل هو إن شاء(2).
وقد أكثر من سرعة البتّ في الأمور في فترة خلافته، فغرّب نصر بن حجّاج، لأنّ امرأةٌ هتفت به(3)، وشرّع الطلاق ثلاثاً(4)، وأراد أخذ ذهب البيت الحرام ثمّ
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 137 ترجمة الحكم بن كيسان، وعنه في الخصائص الكبرى 2: 26، باب ما وقع في اسلام الحكم بن كيسان، والمنتظم لابن الجوزي 3: 209.
2- انظر فضائل الصحابة لابن حنبل 1: 292، روح المعاني 10: 123، الإكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء 3: 90، كنز العمال 3: 914، ح 9151 و12: 546، ح 35738، تاريخ دمشق 9: 196، ت 797 الأقرع بن حابس.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 285، باب ذكر استخلاف عمر، الاستيعاب 1: 326، ترجمة الحجاج بن علاط السلمي، الإصابة 6: 485، ت 8845، لنصر بن حجاج بن علاط السلمي المبسوط للسرخسي 9: 45، كتاب الحدود.
4- صحيح مسلم 2: 1099، باب طلاق الثلاث، ح 1472، المستدرك على الصحيحين 2: 214، كتاب الطلاق، ح 2792 ـ 2793، المسند المستخرج على صحيح مسلم 4: 153، باب في الرجل يطلق امرأته، ح 3472 و3473 و3474، مسند احمد 1: 314، ح 2877، السنن الكبرى للبيهقي 7: 336، باب من جعل الثلاث واحدة، ح 14749، 14750، 14751.
ومع هذا الذي نراه من سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، لا نستطيع أن نؤمن بأنّه فعل ذلك احتياطاً، لأنّ التسرّع والاجتهاد يتنافى مع الحذر والاحتياط.
وماذا نقول عن فعل الصحابة؟!
وهل يعقل أنّ الصحابة كانوا لا يرون الاحتياط في الدين؟ أم أنّهم كانوا يرون الاحتياط هو الأخذ برؤية تخالف ما ذهب إليه الخليفة؟!
وكيف يصحّ أن يقال إنّ فعل الخليفة عمر كان للاحتياط، مع أنّا نرى الصحابة أشاروا عليه بتدوين السنّة، فانفرد برأيه وأحرق المدوّنات ومنع من التدوين، ترى كيف صار خلاف صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) احتياطاً؟!
إنّ الاحتياط في أن يوافق الخليفة رأي أكثر الصحابة لقوله تعالى { وأمرهم شورى بينهم }(2)، ولإيمانه هو بمبدأ الشورى، فمخالفة ما أشار به الصحابة يعدّ نقضاً للاحتياط وهدماً لمبدأ الشورى الذي اتّخذه عمر بن الخطّاب.
بعد كلّ هذا يتجلّى ضعف هذا الرأي، وعدم صموده أمام النقد والتمحيص فلذلك نرى أن ننتقل إلى سبب آخر عسى أن نقف على الحلّ فيه.
____________
1- الاحكام لابن حزم 2: 152، 6: 249، فتح الباري 3: 456 ـ 458، سنن أبي داود 2: 215، باب في مال الكعبة، ح 2031، سنن ابن ماجة 2: 1040، باب مال الكعبة، ح 3116، السنن الكبرى للبيهقي 5: 159، باب ما جاء في مال الكعبة، ح 9511.
2- الشورى: 38.
السبب السادس
ما ذهب إليه بعض المستشرقين
قال المستشرق الألمانىّ شبرنجر: (إنّ الفاروق عمر لم يهدف إلى تعليم العرب البدو فحسب، بل تمنّى أن يحافظ على شجاعتهم وإيمانهم الدينىّ القوىّ ليجعلهم حكّاماً للعالم. والكتابة واتّساع المعرفة لا تتناسب مع الهدف الذي سعى من أجله)(1).
ومن هذا النصّ نفهم أنّ (شبرنجر) يريد استغلال منع عمر التدوين ليوحي بأنّ انتشار الإسلام كان على أساس القوّة المفرّغة من المعرفة، وأنّ الكتابة واتّساع المعرفة في نظره لا تناسب الشجاعة البدويّة، وروحيّة عمر الحربيّة!
والحقّ أنّ هذا الكلام فيه ما فيه من أضاليل المستشرقين، ومن ادّعاءاتهم التي يطلقونها في الهواء خلوّاً من أىّ برهان أو دليل.
وهذا المستشرق الآخر (ج، شاخت) يدّعي أن ليس بين الأحاديث المرويّة عند المسلمين حديث فقهىّ صحيح، بل إنّها وضعت بعدئذ في إطار المصالح المذهبيّة!(2).
____________
1- تدوين السنّة الشريفة: 530، عن دلائل التوثيق المبكّر: 230 ـ 231.
The origins of Muhammadanjurispradenee
وقد ذهب بعض كتّاب المسلمين كإسماعيل بن أدهم في رسالته المطبوعة سنة 1353هـ إلى أنَّ الأحاديث الصحاح (ليست ثابتة الأصول والدعائم، بل هي مشكوك فيها ويغلب عليها صفة الوضع)(2).
ومن أراد التفصيل في آراء المستشرقين الموهومة وأجوبتها، فليراجع كتاب الدكتور محمّد مصطفى الأعظمىّ (دراسات في الحديث النبوىّ) و(الحديث والمحدثون) لمحمد أبي زهو، وغيرهما من الكتب الرادَّة لأقوالهم ومفترياتهم. ونحن نرى أنّ الإعراض عن إجابة مثل هذه الافتراءات الواهية التي لا يعضدها دليل أولى بالمقام.
____________
1- من بحوثه: Muhammedanische Studiee باللغة الألمانيّة ـ نشر عام 1890م.
2- انظر دراسات في الحديث النبوىّ 1: 27 عن السنّة ومكانتها للسباعىّ:213، وذهب محمد عبده ـ كما نقل أبو ريّة عنه ـ والدكتور توفيق صدقي والسيد رشيد رضا وغيرهم الى الاكتفاء بالقرآن عن السنّة. (دراسات في الحديث النبوىّ 1: 26).
السبب السابع
ما ذهب إليه غالب كتّاب الشيعة
ويتلخّص ذلك: في أنّ النهي جاء للحدّ من نشر فضائل أهل البيت، وتخوّفاً من اشتهار أحاديث الرسول في فضل علىّ وأبنائه(1)، وما دلّ على إمامتهم(2). وقد اشتدّ هذا الأمر على عهد معاوية الذي كان يأمر الناس بلعن الإمام علىّ في خطب الجمعة على منابر المسلمين(3).
واستنتج هذا السبب من واقع الأمّة بعد رسول الله، وهيكليّة نظام الخلافة السياسىّ والاجتماعىّ، وأنّ العمل الثقافىّ ليس بأجنبىّ عن العمل السياسىّ، وحيث إنّ الخليفة لا يرتضي إعطاء أهل البيت مكاناً في النظام الجديد، بل سعى ليسلب منهم كلّ ما يتّكئون عليه، فلا يبعد إذاً أن تكون قرارات عمر بن الخطّاب الأخيرة في منع التدوين قد شرّعت لهذا الغرض.
وقد وُثِّقَت هذه الرؤية بما نقله الخطيب البغدادىّ عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، قال: جاء علقمة بكتاب من مكّة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث في أهل
____________
1- دراسات في الحديث والمحدِّثين: 22، تاريخ الفقه الجعفرىّ: 134.
2- تدوين السنّة الشريفة: 415، 421، 470، 534، 557، الشيعة الإماميّة ونشأة العلوم، للدكتور علاء القزوينىّ: 123 ـ 124.
3- معالم المدرستين 2: 57، الصحيح في سيرة النبىّ، للسيد جعفر مرتضى 1: 177، وانظر خبر لعن معاوية لعلي 3 في شرح النهج 20: 17، جواهر المطالب لابن الدمشقي 1401.
قال: فجعل يميثها فيها، ويقول: { نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن }(1)، القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها ما سواه(2).
ثمّ استنتج الذاهبون إلى هذا السبب، انحراف ابن مسعود عن مسار أهل البيت; فقالوا: إنّه انحرف عن علىّ(3) أو: إنّه لم يُعِر [ الموضوع ] اهتماماً وأباد الصحيفة محاولاً أن يُوهِم أنّ القرآن يغني عمّا فيها(4). وبذلك اعتبر محو أدلّة الإمامة هو الهدف الأساس في المنع، ولم يكن هناك سبب صحيح آخر(5).
ويمكن أن يؤخذ على هذا الرأي ما يلي:
الأوّل: المُشاهَدُ في المصادر وجود نصوص عن ابن مسعود، تؤكّد أنّه كان من دعاة التحديث والتدوين، ومن أجل موقفه هذا دُعي إلى المدينة أيّام الخليفة عمر بن الخطّاب وسجن حتّى آخر عهد عمر، وإليك بعض النصوص المؤكدة على أنّه كان من دعاة التحديث والتدوين، منها:
روى عمرو بن ميمون، قال: ما أخطاني ابن مسعود عشيّة خميس إلاّ أتيتُهُ فيه...(6).
____________
1- يوسف: 3.
2- تقييد العلم: 54.
3- دراسات في الكافي والصحيح: 19، أو دراسات في الحديث والمحدّثين: 22.
4- تدوين السنّة الشريفة: 413.
5- انظر تدوين السنّة الشريفة: 421، 470 مثلاً.
6- سنن الدارمي 1: 95، باب من خاف الفتيا، ح 270، سنن ابن ماجة 1: 10، باب التوقي في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ح 23، مسند أحمد 1: 452، ح 4321، التمييز، للإمام مسلم القشيرىّ: 174.
وعن أبي قلابة قال: قال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضُهُ ذهابُ أهله فإنّ أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، وستجدون أقواماً يزعمون أنّهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم(2).
وجاء عن معن، قال: (أخرج عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتاباً، وحلف له إنّه خطّ أبيه بيده)(3).
وفي جزء القراءة من صحيح البخارىّ(4) إشارة إلى وجود نسخة عنده أو كتب عنها. وحكي عن أصحابه أنّهم كانوا يرحلون لطلب العلم وتدوينه.
وعن الشعبىّ: ما علمت أنّ أحداً من الناس كان أطلب للعلم في أُفق من الآفاق من مسروق، وكان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلّمونهم السنّة: علقمة، ومسروق و...(5).
وجاء عن ابن عيّاش، قال: سمعت المغيرة يقول: (لم يكن يصدق على علِيّ في الحديث عنه، إلاّ من أصحاب عبد الله بن مسعود)(6)، كأمثال علقمة من الذين
____________
1- سنن ابن ماجة 1: 14، باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله، ح 36، مصنف بن ابي شيبة 5: 295، باب في تعمد الكذب على النبي (صلى الله عليه وآله) ، ح 26242، مسند أحمد 1: 165، ح 1413، وانظر صحيح البخاري 1: 52، باب اثم من كذب على النبي (صلى الله عليه وآله) ، ح 107.
2- تذكرة الحفّاظ 1: 16، مجمع الزوائد 1: 126، الجامع لمعمر بن راشد 11: 252، باب العلم، ح 20465، اعتقاد أهل السنة 1: 87، ح 108.
3- جامع بيان العلم 1: 72 وانظر مصنف ابن ابي شيبة 5: 313، باب من رخص في كتاب العلم، ح 26429.
4- كما في الدراسات للدكتور الأعظمىّ: 127، عنه.
5- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ 1: 94، تهذيب الكمال 27: 454، سير أعلام النبلاء 4: 65.
6- صحيح مسلم 1: 13، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، ح 7، المدخل الى السنن الكبرى 1: 132، ح 82.
وقد جاء في تاريخ الفَسَويّ: أنّ حفيد ابن مسعود أحضر الى (معن) كتاباً بخطّ أبيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كان يشتمل على الأحاديث وفقه ابن مسعود(1).
وروى الطبرانىّ، عن عامر بن عبد الله بن مسعود: أنّه كتب بعض الأحاديث النبويّة وفقه ابن مسعود وأرسل ذلك إلى يحيى بن أبي كثير(2).
فلو أضفت هذه النصوص إلى ما قيل عن ابن مسعود وكونه من الصحابة الستّة الأوائل المسارعين للإسلام، وأنّ رسول الله قال له: (إنَّك لَغلام معلّم)(3) و(من أحبّ أنْ يسمع القرآن غضّاً فليسمعه من ابن أُمّ عبد)(4)، وأنَّ عمر بن الخطّاب قد أرسله إلى الكوفة لتعليمهم أُمور الدين، لعلمتَ أنّها تدلّ على امتلاك ابن مسعود الرؤية الواضحة والثقافة الإسلاميّة، فهو يصرّ على إقراء الناس القراءةَ التي سمعها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، حتّى كسر ضلعه من قبل الخليفة عثمان بن عفّان(5). فمن كان هذا حاله لزم التوقّف فيما نُقل عنه واجتناب البتّ فيما قيل من ذهابه إلى منع التحديث والتدوين، ودراسة ذلك برويّة وحذر.
الثاني: لم نجد ذيل خبر علقمة ـ الذي ذكره الخطيب ـ في غريب الحديث لابن سلاّم، إذ ليس فيه أنّ الأحاديث كانت في أهل البيت، بيت النبىّ(6)، مضافاً إلى أنّ
____________
1- تاريخ الفسوىّ 3: 215 كما في الدراسات: 154.
2- المعجم الكبير للطبرانىّ 10: 56، ح 9942.
3- الإصابة 4: 234، ت 4957، فتح الباري 1: 252، الاستيعاب لابن عبد البر 3: 988، ح 1659، حلية الاولياء 1: 125، سير أعلام النبلاء 1: 465، أُسد الغابة 3: 255، المنتظم، 5: 30.
4- الاستيعاب 3: 99، 1659، وفي 2: 319 من المطبوع بهامش الإصابة.
5- شرح النهج 3: 43، عن الواقدي.
6- غريب الحديث لابن سلاّم 4: 48، وفيه (أتى عبد الله بصحيفة فيها حديث فدعا بماء فجعل يمحوها بيده)، حجّيّة السنّة: 396.
وقد اشتهر عنه أنّه نقل فضائل الخمسة أصحاب الكساء وخصوصاً الحسن والحسين(2).
وفي الإصابة وغيره، عن أبي موسى قال: قَدِمتُ أنا وأخي من اليمن، وما نرى ابن مسعود إلاّ أنّه رجلٌ من أهل بيت النبىّ (صلى الله عليه وآله) ; لما نرى من دخوله ودخول أُ مّه على النبىّ (صلى الله عليه وآله) (3).
وروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله): (أنّ الخلفاء بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل)(4).
وروى الخزّاز في (كفاية الأثر) مسنداً إلى ابن مسعود، أنّه قال: (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: الأئمّة بعدي اثنا عشر، تسعة من صُلب الحسين، والتاسع مَهْدِيّهم)(5).
____________
1- الخصال: 464، ابواب الإثني عشر.
2- انظر مسند أبي يعلي 9: 25، ح 5368، ومجمع الزوائد 9: 179، وكامل الزيارات: 112، الباب 14 ح 5.
3- صحيح البخاري 3: 1373، باب مناقب عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه)، ح 3552، و4: 1593، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، ح 4123، صحيح مسلم 4: 1911، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه (رضي الله عنه)، ح 2460، سنن الترمذي 5: 672، باب مناقب عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه)، ح 3806، الإصابة 4: 235، ت 4957، لعبد الله بن مسعود.
4- الخصال 468، باب الخلفاء والأئمّة بعد النبىّ، الأحاديث 6 ـ 11، تنقيح المقال 2: 215 الطبعة القديمة.
5- كفاية الأثر: 23.
وفي البداية والنهاية عنه: (إنّ رسول الله قال: يكون بعدي من الخلفاء عدّة أصحاب موسى)(2).
وقد أخرج الحاكم بسنده عن ابن مسعود (رضي الله عنه)، قال: (أتينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخرج إلينا مستبشراً يُعرَف السرور في وجهه، فما سألناه عن شي إلاّ أخبرنا به، ولا سَكَتْنا إلاّ ابتدأنا، حتّى مرّت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين، فلمّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقلنا: يا رسول الله! ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه.
فقال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشر يداً في البلاد حتّى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحقّ فلا يُعْطونَه، ثمّ يُسألونه فلا يُعطونه، فيقاتلون فيُنصرون...)(3).
وقد روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في الحاكم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم الله ذريّتها على النار)(4). و(النظر إلى وجه علىّ عبادة)(5).
____________
1- مسند أحمد 1: 406، ح 3859، فتح الباري 13: 212.
2- البداية والنهاية 6: 248، باب الاخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش.
3- المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابورىّ 4: 511، ح 8434، وهو عند الطبراني في المعجم الأوسط 6: 30، ح 5966، وانظر الرحلة في طلب الحديث 1: 146، ح 55 و56.
4- المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابورىّ 3: 165، ح 4726، ومسند البزار (4 ـ 9) 5: 223، ح 1829، تاريخ بغداد 3: 266، ت 1313.
5- المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوري 3: 152، ح 4682، المعجم الكبير 10: 76، ح 10006، الفردوس بمأثور الخطاب 4: 294، ح 6765، عن معاذ بن جبل، حلية الاولياء 5: 58.
وقوله (صلى الله عليه وآله): (من زعم أنّه آمَنَ بي وبما جئت به وهو يُبغض عليّاً، فهو كاذب ليس بمؤمن)(2).
وروى: (أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفع لعلىّ لواء المهاجرين يوم أحد)(3).
وغيرها من الأحاديث المادحة لعلىّ وفاطمة والحسن والحسين.
كقوله: (ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله إلاّ ببغضهم علىّ بن أبي طالب)(4).
و: (قُسِّمَت الحكمة عشرة أجزاء فأُعطىَ علىّ تسعة أجزاء، والناس جزءاً واحداً، وعلىّ أعلم بالواحد منهم)(5).
وفي آخر: إنّ القرآن اُنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ له ظهر وبطن وإنّ علىّ بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن(6).
وقال: (قرأتُ على رسول الله سبعين سورة، وختمت القرآن على خير الناس علىّ بن أبي طالب)(7). وروى الأعمش عن أبي عمرو الشيبانىّ، عن أبي موسى
____________
1- ينابيع المودة 1: 281، الباب 23، تاويل الايات 2: 451.
2- مناقب الخوارزمىّ: 35، تاريخ دمشق 42: 280.
3- تاريخ الطبري 2: 66، غزوة احد، البداية والنهاية 4: 20، مقتل حمزة، الثقات لابن حبان 1: 224، مجمع الزوائد 6: 114، باب منه في وقعة احد، الإرشاد للمفيد 1: 80.
4- الدرّ المنثور 7: 504، سبل الهدى والرشاد 11: 290، الباب العاشر، روح المعاني 26: 78.
5- حلية الأولياء 1: 65، الفردوس بمأثور الخطاب 3: 27، ح 4666، البداية والنهاية 7: 360، فيض القدير 3: 46، فتح الملك العلي: 69، تاريخ دمشق 42: 384.
6- حلية الأولياء 1: 65، وعنه في الإتقان 2: 493، ح 6370، تاريخ دمشق 42: 400، ينابيع المودّة: 448 باب (65)، الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة للوافي المهدي: 135.
7- المعجم الكبير 9: 76، ح 8446، المعجم الاوسط 5: 101، ح 4792، المسترشد للطبري: 278، تاريخ دمشق 42: 401، سبل الهدى والرشاد 11: 403 عن الطبراني.
ومن المشهور عن ابن مسعود أنّه كان يذهب إلى وجوب الصلاة على محمّد وعلى آله في التشهّد، فجاء في (الشفاء) للقاضي عياض، عن ابن مسعود، عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: من صلّى صلاةً ولم يصلّ فيها عَلَيَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه(2). وغيرها الكثير ممّا لا نريد الإطالة فيه، وما ذكرناه يكفي لمن نظر.
هذا وقد عُرف عنه أنّه خالف عثمان في أكثر من موقف وقضيّة، وكان يُحدّث بما سمعه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، رغم السياسات الضاغطة عليه، فلو صحّت هذه الأقوال عنه، فهل يطمئن القلب بعد هذا إلى ما حكاه الخطيب عن علقمة فيه؟
وإذا قبلنا ما حكاه الخطيب فيه، فماذا نفعل بما روي عنه من أنّه شهد الصلاة على فاطمة سيّدة النساء ودفنها؟
ألم تكن هذه خصوصيّة امتاز بها خلصاء الشيعة وأصفياء مُحبّي علىّ؟
ولو كان من مُحبّي أهل البيت فكيف يمحو الأحاديث التي (هي في أهل البيت، بيت النبىّ)؟
روى الصدوق في خصاله وأماليه مسنداً عن علىّ، أنّه قال: (خُلقت الأرض لسبعة بهم يرزقون، ويُمْطَرون، وبهم يُنصرون، وعدّ منهم عبد الله بن مسعود. قال: وهم الذين شهدوا الصلاة على فاطمة (عليها السلام))(3)، بل إنّه بعد ذلك شهد الصلاة على أبي ذرّ وغسله، وتكفينه، ودفنه.
إنّ كلّ ما نُقل في شأنه هو امتياز له، إذ صحّ عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، أنّه قال في وفاة أبي
____________
1- سير أعلام النبلاء 1: 468، المعرفة والتاريخ للفسوي 2: 541 ـ 542، تاريخ دمشق 33: 84، 151.
2- انظر أضواء على السنّة المحمّديّة: 86 عن الشفاء.
3- الخصال: 361، باب السبعة، روضة الواعظين: 280، تنقيح المقال 2: 215، وممّا يجب التنبيه عليه هنا هو وجود دراسة مفصّلة لنا عن ابن مسعود أثبتنا فيها أنّ فقهه قريب من فقه أهل البيت وهذا يضعّف ما نقله الخطيب عنه. وقاله بعض الاعلام.