الصفحة 273
قويّاً لا وهن فيه ولا شبهة معه ـ {خُذُوا مَا آتَيْناكُم بِقُوَّة }(1) ـ وإنّ خصال التقوى والصدق والإنصاف والاستمساك بالحقائق الواقعيّة.. كلّ ذلك يدفع المسلم لأن لا يتساهل في البحث عن المصادر النقيّة التي يأخذ منها معرفته، ويقوده لأن لا يأخذ بعض القضايا الموروثة على أنّها مسلّمات نهائيّة لا تقبل الحوار والنقاش. بل لابدّ أن يكون ميزانه في ذلك ـ بعد السـنّة النبوية الأصيلة ـ كتاب الله عزّ وجلّ الذي هو الفرقان بين الحقّ والباطل، وبين الأصيل والدخيل، وهو المائز بين ما هو معنىً دينىّ إلـهىّ خالص وبين ما هو غير دينىّ أُقْحِم في ظروف تاريخيّة في الدين.

وهذا ـ كما ترى ـ يتطلّب منّا شيئاً من الشجاعة الدينيّة والجرأة الوحدويّة التي لا تنشد غير المعاني الأصيلة الصافية صفاء الحقّ، المستقيمة استقامة نأْيَها عن سخط الله وعذابه.

والذي يجب الإشارة إليه هنا هو إضفاء بعض الناس هالة من القدسيّة على السلف ولزوم ترك مناقشة أقوالهم وأفعالهم، لأنّهم رجال ذهبوا، لهم مالهم وعليهم ما عليهم، فلا يصحّ لنا الدخول فيما كانوا فيه!!

نعم، يصحّ هذا الكلام لو اعتبرناهم رجال عاديّين ليس لهم دور في الشريعة، لكنّ حقيقة الحال غير هذا، لأنّ غالب قضايانا الشرعيّة أُخذت عنهم ولهم دور فعال في الشريعة، فلا محالة من الوقوف على نصوصهم، وسيرتهم وسلوكهم، لأنّه ممّا يرتبط بحياتنا العلميّة والعمليّة الشرعيّة.

مع تأكيدنا في لزوم ابتناء الدراسات على الأصول الثابتة العلميّة كالقرآن والسنّة والإجماع المحصّل والعقل في إطار نتائجه المقطوعة.

ومن هنا نرى في النصوص الواردة عن أهل بيت النبىّ (صلى الله عليه وآله) تأكيدهم على

____________

1- البقرة: 63.


الصفحة 274
اتّخاذ كتاب الله ميزاناً يُرَدّ إليه ما اختُلِف فيه، ودعوتهم المسلمين لأن يتحرّروا من عقدة الخوف من إخضاع كلّ شي للقرآن العظيم على أنّه الحاكم المهيمن الناطق بكلمة الفصل والحقّ.. الذي ينبغي طرح كلّ ما يخالفه ولا ينسجم معه. فإنّ أحاديث أهل البيت التي قالوها لتعليم المسلمين وإمدادهم بالوعي الدينىّ المتبصّر صريحة في أنّ ما خالف كتابَ الله فهو زُخرف مكذوب.

ودعوتنا هذه التي نريد أن نخلُص إليها لا تتصادم مع ما قيل عن الشيخين ـ مثلاً ـ من عزوفهما عن كثير من الملذّات، وفيما أسْدَوه من خدمات لتوسيع رقعة الدولة وانتشار صيتها في الآفاق; فهذا أمر محفوظ... بَيْد أنّ ما ينبغي التفطّن له هو أنّ التقشّف والفتوحات وحمل هموم الحرب والسلم شي، وقضايا الشريعة الإلـهيّة في خصائصها ونقاوة مصادرها شي آخر مختلف، كما هو بيّن لمن يميّز الأمور ويملك ذهنيّة دقيقة لا تخلط الفرع بالأصل، ولا تُدخل ملابسات الظروف الاجتماعيّة التاريخيّة في صُلب مضامين الدين.

إنّ المنع من تناقل حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، مع إصرار الصحابة على ضرورة التدوين كما مرّ في خبر عروة بن الزبير(1)، ثمّ مخالفة الخليفة لرأيهم، مع ملاحظة كونه قد رسم أُصول الشورى في الخلافة من بعده.. لأمر عظيم، ينبئ عن كون التدوين أمراً ثقافيّاً حضاريّاً يرتبط بالسياسة لا يمكن للخليفة تجاهله، وعليه فإنّ قضيّة منع تدوين السنّة الشريفة لم تكن قضيّة ثقافيّة خالصة، كما علّلها الخليفة بأنّها وليدة الخوف من اختلاط السنّة بالقرآن والخوف من تأثّر المسلمين بالأمم السـابقة.

فالمسألة هنا ترتبط بالعلم، كما اتّضحت خلال شواهد عديدة على ذلك، وأنّ

____________

1- الطبقات الكبرى 3: 287، تقييد العلم: 50، جامع بيان العلم وفضله 1: 64، كنز العمّال 10: 293، ح 29480.


الصفحة 275
الخليفة لم يكن يملك الرؤية العامّة للأحكام ولم يكن على إحاطة تامّـة ببيانات رسـول الله(صلى الله عليه وآله).

وأمّا ما قيل عن مقدرتهم في الجوانب الأخرى فالأمر يتعلّق بالمقدرة العسكريّة والحنكة السياسيّة فقط. والمعروف ـ عند أهل الخبرة ـ أنّ من له الحنكة السياسيّة يمكنه أن يوظّف كرسىّ العلم ويحتويه من خلال بعض القنوات الملتوية، بعكس الأوّل.

إنّ هذا يفرِض علينا قراءة جديدة للنصوص الصادرة عن الشيخين أو عن غيرهما. ممن يسير على خطاهما. وهذه القراءة ينبغي أن تنطلق من دوافع دينيّة صرفة، تطلب الوصول إلى الحقّ.. من خلال دراسة موضوعيّة متأنيّة لا تتعجّل الأمور ولا تبتر النتائج. وإنّ إحاطة ما صدر منهما من أقوال وأفعال بهالة من التقديس القَبْلىّ، بحيث يهاب المسلم مناقشة هذه الأقوال والأفعال.. غير بعيد أن يجعل هذه الحالة نوعاً من الإرهاب الفكرىّ الذميم الذي يصادر أىّ احتمال للحوار أو المناقشة فضلاً عن الاعتراض.. ممّا يُراد له جعل الشيخين في مصافّ الأنبياء أو فوق مصافّ الأنبياء، وهذا ما لا يرتضيه ذو عقل ودين; خاصّة ونحن نعلم كما تُجلي وقائع التاريخ أنّ الصحابة رجال متفاوتون علماً وإيماناً وقَدْراً. وكثيراً ما لاحظنا أنّهم كانوا يخطّئُ بعضُهم بعضاً، وينقد بعضهم مواقف بعض.. ولا حرج في ذلك ولا ضير.

إنّ كلّ من له دراية بالأخبار والأحاديث وتاريخ صدر الإسلام يعلم بوضوح أنّ الخليفة أبا بكر والخليفة عمر بن الخطّاب لم يكونا معصومين.. بل استبان من خلال النصوص أنّ جُلّ اجتهاداتهم كانت قائمة على الرأي المحض، ولم تكُنْ مُستقاةً أو مُشتقّة من القرآن الكريم أو من السنة التي لم يعرفاها.


الصفحة 276

وقفة عند رأي ابن قيّم الجوزيّة:

وعلى هذا فإنّ الفتاوى الصادرة عن أبي بكر وعمر لا تنحصر بما قاله ابن قيّم الجوزيّة، من أنّها لا تخرج عن ستّة أوجه:

(أحدها: أن يكون سَمِعها من النبىّ (صلى الله عليه وآله).

الثاني: أن يكون سمعها ممّن سمعها منه (صلى الله عليه وآله).

الثالث: أن يكون فَهِمَها من آية من كتاب الله فهماً خَفِيَ علينا.

الرابع: أن يكون قد اتّفق عليها ملؤهم(1)، ولم ينقل إلينا إلاّ قول المفتي بها وحده.

الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة، ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنّا، أو لقرائن حاليّة اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أُمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبىّ (صلى الله عليه وآله) ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته، وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود تنزيل الوحي، ومشاهدة تأويله الفعل، فيكون فَهِم ما لا نفهمه نحن. وعلى التقادير الخمسة تكون فتواه حجّة يجب اتّباعها.

السادس: أن يكون فَهِمَ ما لم يُرِده الرسـول وأخطأ في فهمه، والمراد غير ما فهمه، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجّة. ومعلوم قطعاً أنّ وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظنّ من وقوع احتمال واحد معيّن، هذا ممّا لا يشكّ فيه عاقل...)(2).

والواقع أنّ الأمر ليس على ما ظنّ ابن القيّم بل هو أبعد منه، لأنَّك قد وقفت على فتاواهم ومخالفة بعضها لصريح الكتاب والسنّة، مع علم صاحبها بقيام النصّ في غيره ووضوح ظهوره فيه، ولولا الحمل على الصحّة والتماس العذر لمن سلف، لكانت أقرب إلى التحدِّي منها إلى الاجتهاد!

____________

1- أي جميعهم.

2- إعلام الموقعين 4: 148.


الصفحة 277
وبعضها الآخر ـ أي من اجتهادات الشيخين ـ صريح المخالفة للنصوص أيضاً، لكنّها تختلف عن سابقتها، بأنّها صدرت لعدم علم صاحبها بتلكم النصوص الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وعودته إليها بعد تنبّهه، ومثل هذا القسم ـ عادةً ـ أهون مؤونةً وأقلّ مؤاخذة.

فالاجتهاد لو كان جارياً على وفق ما تقرّر لدى الأعلام من القواعد، للزم أن يكون صاحبه قد أكمل عدّته وانتهى من الفحص عن الدليل الأوّلي، وعاد يائساً من العثور عليه، فأفتى أو حَكَم بعد اليأس.

غير أنّ هذه الفتاوى والمواقف والأحكام لم تكن جارية ـ في نهج الخليفة وكثير من السلف الأوّل ـ على هذا النمط من الاستنباط الدقيق المأمون، بسبب التسرّع في الإفتاء والحكم قبل بذل الجهد للفحص الكافي، أو بسبب التقصير في استيعاب ما ينبغي استيعابه في الموضوع بإهمالهم سؤال العالمِين بالقرآن والتشريع ممّن كانوا بين ظهرانيهم، فإذا شَجَر ما يوجب الفحص والسؤال ولم يبادروا إلى الرجوع إلى هؤلاء العالمِين.. فإنّ هذا يعني، ولا ريب المؤاخذة والتقصير; لقيام الحجّة عليهم بهؤلاء العالمِين كما قال ابن حزم في النصّ الذي أوردناه مِن قبل.

وعلى هذا ففتاوى الأصحاب الصادرة عنهم لا تنحصر فيما حصره ابن القيّم من الصور الستّ، بل هناك احتمالات أُخرى ينبغي أن تضاف إلى احتمالات ابن القيّم، وهي:

الأوّل: أن يكون إفتاؤهما مخالفاً لكلام رسول الله، وقد ذكّرهما الصحابة بهذا فرجعا عمّا أفتيا به، فمن الطبيعىّ أن لا نرى ـ غالباً ـ امتداداً لرأي الخليفة في مثل هذه المسائل قبال سنّة رسول الله في العصور اللاحقة لرجوع الخليفة عمّا كان قد ذهب إليه وتنصَّل عنه.

الثاني: أن يتخالف إفتاؤهما مع حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو الآية القرآنيّة،

الصفحة 278
والصحابة ذكّروهما بذلك لكنهما لم يتراجعا عمّا أفتيا به، ومن هنا نرى وجود أحكام كهذه في الفقه الإسلامىّ، مع ترجيح الفقهاء لرأي الخليفة، والقول بأنّ آراء أُولئك الصحابة كان اجتهاداً منهم لا يمكن نقضه; لحجّيّة اجتهادات الصحابة في الصدر الإسلامىّ الأوّل!

الثالث: أن يفتي الخليفة في مسألة بما هو مخالف لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذِّكر الحكيم مع عدم حضور الصحابة في تلك الواقعة ليوقفوه على ما سمعوه من رسول الله أو ما جاء به الوحي في تلك المسألة. فترى امتداد خطّ الخليفة أقوى ممّا عند الصحابة من مرويّات في هذه المسائل!

الرابع: أن يفتي الخليفة بما يخالف الآية القرآنيّة وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولكنّ الصحابة لم يذكّروه خوفاً من درّته أو مهابةً له، أو لاكتساح هذا الرأي عموم المسلمين وتبنّي أغلبهم له، فنهج الخليفة في مثل هذا القسم هو أقوى ممّا سبقه; لعمل المسلمين به وقد يحدُث أن نقف بين الحين والآخر على نصوص من الصحابة أو التابعين تخالف رأي الخليفة، لكنّها أضعف ممّا سبقها!

الخامس: أن يكون ما أفتى به اجتهاداً منه، صدر عن مصلحة ارتضاها بمفرده، أو للرأي العامّ! لأنّه فيما يقول أعرف بها من سائر الصحابة. مع أنّه لم تكن تلك المصلحة بالمنزلة التي تَصوّرها الخليفة فيكون الحكم خاطئاً تبعاً للخطأ في تشخيص المصلحة، إلاّ أنّ أحداً لم ينتبه أو ينبّه على ذلك فسرى الحكم عامّاً شاملاً في كلّ العصور!

وهذه الاحتمالات التي نساها أو تناساها ابن القيم لها شواهد تاريخية كثيرة قد عرضنا لك بعضها فيما سبق.


الصفحة 279

حسبنا كتاب الله

فاتّضح إذن أنّ الاجتهاد قِبالَ النصّ قد مُورِسَ في عهد النبىّ (صلى الله عليه وآله) ـ رغم نهيه عنه ـ والعصر الإسلامىّ الأوّل، وفي نفس الظرف أُطلِقَ القول ب (حسبُنا كتاب الله) و(بيننا وبينكم كتاب الله)، مع وقوفنا على نهي رسول الله عنه!!

لكنّ بين الصحابة من كان لا يرتضي تلك النبرة الغريبة الُمحْدَثة، منهم: علىّ بن أبي طالب، الذي أوصى ابن عبّاس عندما أراد حِجاج الخوارج بقوله: لا تُخاصِمْهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجْهم بالسنّة; فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً(1).

أوصاه بهذا لأنّ المعروف عن الخوارج تمسّكهم الأعمى بظواهر نصوص الكتاب، وقد جرّ أُسلوبهم هذا الويلاتِ على المسلمين، فكان من العقل والتدبير أن يحتجّ عليهم بسيرة النبىّ وأفعاله التي لا يختلف فيها اثنان دون ما يُختلف فيه لئلاّ يقعوا في نفس مشكلة فهمهم الخاطىِ للكتاب، فاحتجّ عليهم بعمل النبىّ (صلى الله عليه وآله) حينما أوعز بمحو وصفه ب (رسول الله) في كتاب صلح الحديبيّة، فلم يبق مجال لاعتراض الخوارج على محو علىّ بن أبي طالب وصفَه ب (أمير المؤمنين) في كتاب الصلح مع معاوية(2)، وهذا الأسلوب هو الأنجح والأنسب في التعامل مع الخوارج.

نعم، إنّ القرآن والسنّة يكمل أحدهما الآخر، فلا يمكن الاكتفاء بالقرآن دون السنّة، وكذا العكس. وليس هناك أدنى تعارض بين هذين الأصلين، وإنَّ الذهاب إلى أحدهما دون الآخر ليس بصحيح.

قال ابن حزم في الإحكام: لا تعارض بين شي من نصوص القرآن ونصوص كلام

____________

1- نهج البلاغة 3: 136، الخطبة 77، من وصية له(عليه السلام) لعبد الله بن عباس، شرح النهج 18: 71، مفتاح الجنّة 1: 59.

2- مصنف عبد الرزاق 10: 158، سنن النسائي 5: 166، ح 8575، المعجم الكبير 10: 257، ح 10598، المستدرك على الصحيحين 2: 164، ح 2656، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، حلية الاولياء 1: 319، الاحاديث المختارة 10: 414.


الصفحة 280
النبىّ (صلى الله عليه وآله) وما نُقل من أفعاله، فقال سبحانه مُخبراً عن رسوله:

{ وما يَنْطقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى }(1) وقوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكْمْ فِي رَسُول اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2) وقوله: { وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غيرِ اللهِ لَوَجدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً}(3)، فأخبر عزّ وجلّ أنّ كلام نبيّه وحي من عنده، كالقرآن في أنّه وحي(4).

والخليفة أبو بكر لمّا قال ـ بعد وفاة رسول الله ـ كما في مرسلة ابن أبي مليكة المارّة الذكر: (بيننا وبينكم كتاب الله) أراد بقوله الاكتفاء بالقرآن، وقد سبقه إلى هذا الرأي عمر بن الخطّاب عند مرض الرسول عندما قال (حسبنا كتاب الله). وقد احتجّت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ابي بكر بالقرآن وحده في نزاعها معه في فدك إلزاماً له بما ألزم به نفسه حين قال: (حسبنا كتاب الله) فاستدلّت على أحقّيّتها بعموم آيات الإرث والآيات الدالّة على أنّ الأنبياء يورِّثُون ويُورثون، فاستدلّ هو بقوله (صلى الله عليه وآله): (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)، فاستدلّ بالسنّة المُدَّعاة بعد أن قال حسبنا كتاب الله، وهذا تهافت واضح.

فماذا كانوا يعنون بكلامهم هذا وهم أقرب المسلمين زمناً للتشريع؟

أكانوا يريدون ما أراده الخوارج لاحقاً من الاستعانة بالقرآن في فهم جميع الأمور والتشاغل به عن السنّة، أم كانوا يرجون غير ذلك؟

إنّ الدعوة إلى الأخذ بالقرآن ووضع السنّة جانباً ـ مع تصريح الرسول في حديث الأريكة بأنّ كلامه كلام الله، وهو المبيّن لأحكام الله ـ ثمّ إحلال اجتهاداتهم محل السنّة ما هو إلاّ قرار سياسىّ اتُّخذ لتصحيح ما يذهب إليه الشيخان، إذ لا يخفى على أبي بكر وعمر أنّ الأحكام بأسرها لا يمكن استقاؤها من القرآن وحده، وقد

____________

1- النجم: 3 ـ 4.

2- الأحزاب: 21.

3- النساء: 82.

4- الإحكام في أُصول الأحكام 2: 170.


الصفحة 281
جاء في كلام عمران بن الحصين ـ مجيباً من قال: تحدّث بالقرآن واترك السنّةـ:

أرأيتَ لو ُوكلْتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنتَ تجد فيه صلاة العصر أربعاً، وصلاة الظهر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والصبح تقرأ في اثنتين؟ وأكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بالصفا والمروة؟(1)

فلا يعقل إذن أن تخفى مثل هذه القضايا على أبي بكر وعمر، وإذا كانت غير خافية عليهما فَلِمَ يَدْعُوان إلى الاكتفاء بالقرآن ويقولان بـ(حسبنا كتاب الله)؟!

بهذا يتأكّد لنا أنَّ المحظور من الروايات هو ما لا يعرفه الخليفة، وما يُسبّب له مشاكل محرجة. وأمّا الأحاديث المعروفة التي تناقلها المسلمون وعرفوها والتي لا تخفى على الخليفة كما لا تخفى على غيره فلا تخوُّف منها ولا نهي عن تناقلها إن لم تمسّ أصل مشروعية الخلافة.

إنّ في كلام أبي بكر: (والناس بعدهم أشدّ اختلافاً) ما يكشف عن أنّ المسلمين ستختلف اتّجاهاتهم فيما بعد; لأخذِ كلّ واحد منهم برأي صحابىّ. ويعضد كلامَ أبي بكر ما جاء عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّ أُمّته مختلفة من بعده.

ولا ريب أنّ اختلاف نُقول هؤلاء الصحابة سيعارض اجتهادات الشيخين.

إنَّ تشريع سنّة الشيخين بإزاء سنّة رسول الله أو الارتقاء بها إلى سنّة رسول الله، ثمّ تعبّد الخلفاء بها من بعدهم جاعلين منها منهاج حياة ودستور دولة.. ما هو إلاّ تعبير عن المصلحة التي دعا إليها الخليفة، والمفتاح الذي يفتح به كلّ مشكل!

لأنّك قد عرفت أنّ الخليفة قد تخوّف من المحدِّثين، وحدّد نشاطهم ـ بالفعل ـ وأمرهم بالإقلال من الحديث. وقد حدّ من تحديثهم عن رسول الله، وعلّل حبسه

____________

1- الكفاية في علم الرواية 1: 15 وجاء في الكافي للكليني 1: 286 عن الإمام الصادق قوله: ان رسول الله نزلت عليه الصلاة ولم يُسم لهم ثلاثاً ولا اربعاً، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر لهم ذلك.


الصفحة 282
لهم بقوله: (أكثرتُم الحديثَ عن رسول الله)، وقوله: (أفشيتم الحديث عن رسول الله).

فالإفشاء والإكثار كان يؤذي الخليفتين; لأنّه يؤدّي إلى تعارض ما نُقِل عنه (صلى الله عليه وآله) مع نُقول الشيخين واجتهاداتهما، فكان عليهما ـ والحالة هذه ـ أن يَدْعُوا للأخذ بالقرآن أوّلاً، لا اعتقاداً منهما بكونه كافياً في معرفة الأحكام; فهما ـ حينما أرجعا الناس إلى القرآن ـ كانا يعلمان حقّ العلم أن القرآن محتاج إلى السنّة وأنّ رسول الله مكلّف بتبيين الأحكام للناس في قوله تعالى {لتُبيِّن للناس ما نزل اليهم}(1)، لكنّ إبعادهما الناس عن السنّة المطهّرة والدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن إنّما يمكّن لهما رسم البديل الذي هو اجتهاداتهما وأن يُصار إلى الاعتقاد بأنّهما أعلم من غيرهم: يؤخَذُ منهما ويردّ عليهما!

لذا نجد بين الصحابة من لا يرتضي العمل باجتهادات الشيخين، لأنّه عرف أنّ الكتاب والسنّة هما الأصلان الرئيسيّان في التشريع لا الاجتهاد بالرأي. ولو كان قد ورد في اجتهاد الشيخين نصّ خاصّ لسمعوه وتلقّوه، ولَمَا قالوا: أسنّة عمر نتّبع أم سنّة رسول الله؟!(2)

أو قولهم: أراهم سيهلكون، أقول: قال رسول الله، ويقولون: نهى أبو بكر وعمر(3).

ومن الطريف ونحن ندرس الحوادث أن نرى في سجلّ أصحاب الرأي والاجتهاد; ـ ذرّاً للرماد في العيون وخلطاً للحابل بالنابل ـ أسماءً لرجال أمثال ابن

____________

1- النحل: 44.

2- مسند أحمد 1: 420، ح 7500، مثله، وانظر سنن الترمذي 3: 185، ح 824، شرح معاني الاثار 2: 231، وفيه قول ام المؤمنين عائشة: فسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) أحق ان يؤخذ بها من سنة عمر، الفروع 3: 224، شرح سنن ابن ماجة: 214، ح 2978.

3- حجة الوداع: 353، ح 392، سير أعلام النبلاء 15: 243، تذكرة الحفاظ 3: 837، الاحاديث المختارة 10: 331، ح 357.


الصفحة 283
مسعود ومعاذ وابن عبّاس وغيرهم من أصحاب المدوّنات المتعبّدين نُسبت إليهم نصوص من البعيد أن تكون ممّا وقع فعلاً في التاريخ، بعد غضّ النظر عن سندها، لِما عرفنا من ملابسات الأمور وحاجة أنصار الخليفة إلى مثلها. ولو درسنا هذه القضايا بروح علميّة لوقفنا فيها على كثير من المؤاخذات والاضطرابات.

هذا وقد أكّد ابن حزم وغيره من أعلام العامّة أنّ حديث معاذ في الاجتهاد موضوع.

فقال ابن حزم ضمن كلامه: وبرهانُ وضعِ هذا الخبر وبطلانه هو أنّ من الباطل الممتنع أن يقول رسول اللهُ: فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه، وهو يسمع قول ربّه {واتّبِعُوا أحسنَ ما أُنزل إليكُم مِن ربّكُم}(1)، وقوله: {اليوم أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(2) وقوله: {ومَن يَتَعدَّ حُدودَ اللهِ فقد ظَلَمَ نَفْسَه}(3) ـ مع الثابت عنه(صلى الله عليه وآله) من تحريم القول بالرأي في الدين(4).

إن دراسة مثل هذه القضايا في الشريعة ستحلّق بالباحث للنظر في أُمور الشريعة من أُفق أوسع وزاوية علميّة أجدر، مؤكّداً بأنَّ عليه لزوم التجرّد عمّا يحمله من عواطف وأحاسيس، وليكن حرّاً في تفكيره وعقله وأن يدرس النصوص مع ملابساتها كما هي، وأن لا تسيّره الأهواء والعواطف، ثمّ فلينظر أحقاً أنّ رسول الله قد جوّز القول بالرأي وهو بين ظَهراني الأمّة، أم أنَّ المراد هو سماحه العمل طبق النصوص الصحيحة الموجودة عند الصحابىّ من الكتاب والسنّة لا الاجتهاد وفق الظنّ والتخمين؟ وإلى غيرها من الأسئلة.

نماذج من امتداد النهجين

____________

1- الزمر: 55.

2- المائدة: 3.

3- الطلاق: 1.

4- الإحكام في أصول الاحكام 6: 208، الباب (35) في الاستحسان والاستنباط بالرأي.


الصفحة 284

نظرات في الرأي

نُقل عن المستشرق (جولد تسيهر) أنّه ذهب إلى أنّ الرأي لم يكن على عهد النبىّ، بل هو ممّا طرأ لاحقاً على الشريعة. وقد نقل هذا الرأي عنه الدكتور محمّد يوسف موسى بقوله:

(نعم إنّ هذا المستشرق البحّاثة الحفىّ بالدراسات الإسلاميّة يرى أنّه قد حصل العمل بالرأي في الجيل الأوّل من التاريخ الإسلامىّ. ولكنّ الرأي في هذه المرحلة كان غامضاً، عارياً عن التوجيه الإيجابىّ، وبعيداً عن المذهب والطريقة الخاصّة به، ثمّ اكتسب في العصر التالي تحديداً معيّناً، وبدأ يتحرّك في اتّجاه ثابت، وحينئذ أخذ هذه الصيغة المنطقيّة: القياس)(1).

ثمّ تهجّم الدكتور موسى على (جولد تسيهر) وشكّ في قيمة رأيه ورأي زملائه المستشرقين، لبعدهم عن فهم روح الإسلام، مُعلّلاً بأنّ الروايات التي ذكرها ابن القيّم كافية للدلالة على ذلك. إلاّ أنّه عاد فقاربه بقوله:

حقّاً أنّ الرأي في هذه الفترة من فترات تاريخ الفقه الإسلامىّ ليس هو القياس الذي عُرف فيما بعد في عصر الفقهاء ـ أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة ـ ولكنّ الرأي الذي استعمله بعض الصحابة لا يبعد كثيراً عن هذا القياس إن لم يَكُنه، وإن كانوا لم يُؤْثَر عنهم في العلّة ومسالكها وسائر البحوث التي لابُدّ منها لاستعمال القياس شي ممّا عرفناه في عصر أُولئك الفقهاء(2).

ومهما تكن قيمة شكّ الدكتور، فلا يهمّنا أن نعرفه بقدر ما يهمّنا أن نعرف موقف الشيخين من الرأي، وهل كانا حقّاً يذهبان إليه عند عدم علمهم بحكم الله ورسوله؟

____________

1- محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامىّ للدكتور محمّد يوسف موسى: 24 كما في مقدّمة النصّ والاجتهاد: 52 للسيّد محمّد تقي الحكيم.

2- المصدر نفسه.


الصفحة 285
أم كانا يَرَيان لآرائهما الحجّيّة حتّى مع وجود نصّ من القرآن وأثر عن رسول الله؟

أكّدت النصوص السابقة على أنّهم كانوا يقولون بالرأي حتى مع وجود النصّ; إذ لا يعقل أن يخفى قوله تعالى:{والّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُم ويَذَرُونَ أزواجاً يَتَرَبصْنَ بأنْفُسِهنّ أربعةَ أشْهُرِ وَعَشْراً}(1) على أبي بكر في قضيّة خالد بن الوليد الذي دخل بزوجة مالك بن نويرة، وهي في العدّة!

وكيف يقول الخليفة أبو بكر لعمر: ما كنت أقتله; فإنّه تأوّل فأخطأ(2)، مع وقوفه على النصّ؟

ألم يكن هذا هو الاجتهاد قبال النصّ بعينه؟

وليتني أعرف هل خفيت الآية على الخليفة، أم أنّه رأى المصلحة فيما ذهب إليه؟

وهل المصلحة والقياس يُعمل بهما عند فقدان النصّ أم يَرِدان حتّى مع وجود النصّ؟

وإليك مجمل خبر خالد في رواية الطبرىّ، قال: (فلمّا دخل (خالد) المسجد، قام إليه عمر فانتزع الأسهُم من رأسه فحطّمها، ثمّ قال: أرئاءً؟! قتلت أمرءاً مسلماً ثمّ نزوتَ على امرأته! والله لأرجمنّك بأحجارك. ولا يكلّمه خالد بن الوليد ولا يظنّ إلاّ أنّ رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتّى دخل على أبي بكر، فلمّا..)(3).

وروى الطبرىّ: أنّ عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) لقي في خلافته رجلاً له قضيّة نَظَرَ فيها علىّ بن أبي طالب، فسأله عمر: ماذا صنعت؟

فقال: قضى علىٌّ بكذا.

قال عمر: لو كنتُ أنا لقضيت بكذا!

____________

1- البقرة: 234.

2- الإصابة 5: 755.

3- تاريخ الطبرىّ 2: 273، ثقات ابن حبان 2: 169، الاصابة 2: 255، سير أعلام النبلاء 1: 378، شذرات الذهب 1: 15.


الصفحة 286
قال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؟

قال عمر: لو أردّك إلى كتاب الله أو سنّة رسوله لفعلت، ولكنّي أردّك إلى رأي، والرأي مشترك، ولست أدري أىّ الرأيين أحقّ(1).

وجاء في (الإحكام) لابن حزم: (قال أبو محمّد: فقد ثبت أنّ الصحابة لم يُفتوا برأيهم على سبيل الإلزام، ولا على أنّه حقّ، لكن على أنّه ظنّ يستغفرون الله تعالى منه، أو على سبيل صلح بين الخصمين فلا يحل لمسلم ان يحتج بشي أتى عنهم على هذه السبيل)(2).

وقال ابن حزم: وليس في تعليم عمر(رضي الله عنه) الناس التشهّد على المنبر ما يدلّ على أنّه عن النبىّ(صلى الله عليه وآله). وقد نهى عمر وهو على المنبر عن المغالاة في مهور النساء، وعلّم الناس ذلك. ولا شكّ عند أحد في أنّ نهيه عن ذلك ليس عن النبىّ(صلى الله عليه وآله) ، وأنّ ذلك من اجتهاد عمر فقط، وقد أقر بذلك في ذلك الوقت، ورجع عن النهي عنه، إذ ذُكِّر أنَّ نهيه مخالف لِما في القرآن.

وأمّا التشّهدات المرويّة عن ابن عبّاس وعائشة وابن مسعود وأبي موسى ـ رضوان الله عليهم ـ فهي التي لا يحلّ تعدّيها لصحّة سندها إلى النبىّ. وقد خالف تشهّد عمر ـ الذي علّمه للناس على المنبر ـ ابنُه عبد الله وابن مسعود وابن عبّاس وعائشة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وقد شَهِدوه يخطب به...)(3).

وقالت الدكتورة نادية العمرىّ، وهي بصدد نفي ما قيل عن عمر: إنّه إذا أعياه أن يجد حكماً في القرآن والسنّة نظر: هل فيه لأبي بكر قضاء; فإنْ وجد له قضاء اتّبعه، قالت:

____________

1- الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: 47، لاحظ محاولته إضفاء مشروعية الرأي لكل الصحابة ودَرْج اسم علي بن ابي طالب المتعبّد فيهم.

2- الإحكام في اصول الاحكام 6: 222.

3- الإحكام في أُصول الأحكام 2: 183 ـ 184.


الصفحة 287
(وبناء على ذلك لم يكن يلتزم (أي عمر) برأي أبي بكر التزاماً مطلقاً، برغم مكانته الكبيرة في نفسه، إلاّ إذا استند إلى نصّ من كتاب أو سنّة. وهو في هذا الالتزام إنّما يتّبع هذا النصّ في الحقيقة، كما حصل بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) عندما ذكّره أبو بكر بآية من القرآن. أمّا حين يصبح الأمر شورى ورأياً خاصّاً، فإنّ الرأي مشترك، كما قال عمر. وقد خالف أبا بكر في مسألة إقطاع المؤلّفة قلوبهم، التي رجع أبو بكر فيها إلى رأي عمر، وخالفه أيضاً في الاستخلاف حين جعل الأمر شورى. وعلى هذا فإنّ عمر كان يستأنس برأي أبي بكر، ولكن لا يأخذه على سبيل الإلزام كالنصوص القرآنيّة والنبويّة، بدليل مخالفته له في أكثر من قضيّة وأكثر من موطن)(1).

والآن نتساءل كيف يمكننا الأخذ بسيرة الشيخين ونرى الاختلاف بين نُقولهما واجتهاداتهما؟ وكيف يمكن تصحيح ما نُسب إلى رسول الله: (اقتدوا بالذين من بعدي) (2) وقوله (عضّوا عليها بالنواجذ)(3) وقد رأيت الاختلاف بينهم واضحاً بيّناً وفي أكثر من قضيّة وموطن؟!

أفَتُرى أنّ رأي أبي بكر في قضيّة خالد هو الحجّة أم رأي عمر؟

وهل يُعقل أن يفرِض علينا النبىّ اتّباع رأي شخص غير معصوم وهو المطِّلع على آرائه واجتهاداته في الشريعة أيّام حياته (صلى الله عليه وآله)؟!

وماذا يمكننا أن نقول عن اجتهاد عمر ـ كما يقولون ـ في ردّ سهم المؤلّفة قلوبُهم(4)، وصريح القرآن يفرض الصدقات في قوله: {إنّما الصدَقات للفقراء

____________

1- اجتهاد الرسول: 299 ـ 300.

2- مسند الحميدي 1: 214، ح 449، المعجم الاوسط 4: 140، ح 3816، السنن الكبرى للبيهقي 8: 153، وغيرها من المصادر.

3- مسند أحمد 4: 126، سنن الدارمي 1: 57، باب اتباع السنة، ح 95، سنن الترمذي 5: 44، باب ما جاء في الاخذ بالسنة واجتناب البدع، ح 2676، سنن أبي داود 4: 200، ح 4607، سنن ابن ماجة 1: 15، 16، ح 42 وح 43.

4- انظر فتح القدير للشوكاني 2: 373.


الصفحة 288
والمَساكين والعاملين عليها والمؤلَّفة قلوبُهم...}؟(1).

وكيف يمكن تفسير رأيه في ميراث الجدّ مع الإخوة(2)، والطلاق ثلاثاً(3)، وبيع أُ مّهات الأولاد(4)، وعول الفرائض(5)، وعدم وجوب التيمّم للصلاة مع فقدان الماء(6)، ونهيه عن الصلاة بعد العصر(7)، وصلاته على الجنائز أربعاً(8)، وفي كلّ ذلك نصوص عن النبىّ تخالفه؟!

ليت شعري كيف يُعذر الشيخان ويصير ما قالاه حسناً مع تصريح عمر بن الخطّاب أنَّ صلاة التراويح كانت بدعة، ونعمت البدعة هي؟!

ثمّ يأتي العلماء ليفسّروا البدعة بمعناها اللغوىّ لا الشرعىّ فيذكرون خبراً عن الرسول ـ في شرعيّة صلاة التراويح ـ مجمله: أنّه خرج ليلاً للصلاة في المسجد فائْتَمَّ به الناس، وفي اليوم الثاني كثر العدد، وفي اليوم الثالث أكثر حتّى خرج بهم إلى خارج المسجد، فترك الرسول الخروج إلى المسجد ولم يَنْه عنها ثمّ راحوا يفسّرون البدعة بمعناها اللغوىّ!

____________

1- التوبة: 60 تفسير الطبري 10: 163، شرح فتح القدير 2: 259، نصب الراية 2: 394.

2- السنن الكبرى للبيهقي 6: 245، باب تشديد الكلام في مسألة الجد مع الاخوة ح 12192، (بسنده عن ابن سيرين عن عبيدة قال: ثم إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضاً). وانظر ايضاً فتح الباري 12: 21، وشرح الزرقاني 3: 142، باب ميراث الجد.

3- صحيح مسلم 2:1099، باب الطلاق ثلاث، ح 1472، المستدرك على الصحيحين 2:214، كتاب الطلاق، ح 2793. حديث صحيح ولم يخرجاه، مسند احمد 1: 314، ح 2877.

4- مصنف عبد الرزاق 7: 292، ح 13225، سنن الدراقطني 4: 134، كتاب المكاتب، ح 33 وح 34، المبسوط للسرخسي 13: 5، سبل السلام 3: 12.

5- المستدرك على الصحيحين 4: 378، ح 7985، السنن الكبرى للبيهقي 6: 253، باب العول، ح 12237، المغني 6: 175، منار السبيل 2: 76.

6- مصنف عبد الرزاق 1: 238، ح 915، مسند احمد 4: 319، سنن النسائي الكبرى 1: 133، ح 302.

7- مصنف ابن أبي شيبة 2: 133، ح 7342، مصنف عبد الرزاق 2: 433، ح 3974، المسند المستخرج على صحيح مسلم 2: 428، ح 1885.

8- شرح معاني الاثار 1: 499، مسند أبي حنيفة 1: 82، المحلى 5: 124.


الصفحة 289
فلو كان الأمر في صلاة التراويح شرعيّاً ولم ينه عنه الرسول (صلى الله عليه وآله) فما معنى حمل كلام عمر على معناه اللغوىّ عند الأعلام؟!

وإن كان الخليفة عمر بن الخطّاب يعني معنى البدعة الشرعىّ، فما معنى ما يقولونه في تأويل فعل عمر؟ إنّها تناقضات الأخبار والمعاذير المختلقة للأشخاص وهي مشهودة للباحث.

لا أدري: أتُصَدَّق النصوص وما جاء في تراثنا الغابر، أم ما يقوله الأساتذة من مبرّرات للشيخين؟!

أترى أنّ الله قد عصمهما من الخطأ وخُصّا بدليل يجوّز اجتهادهما ولزوم التعبّد برأيهما دون الآخرين، كما روي من قوله (صلى الله عليه وآله): (عليكم بما عرفتم من سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين...)؟(1)

أكان هذا النقل صحيحاً عن رسول الله؟ أم يُستشمّ منه وجود نهج آخر قِبال سنّة رسول الله؟

وأيُعقل أن يجعل رسولُ الله سنّته عدلاً لسنة الخلفاء الراشدين من بعده وهو العالم باختلاف أُمتّه من بعده والقرآن الكريم يقول: {أفَإنْ ماتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ}؟!(2) ونرى الاختلاف بين أقوالهم!

ولو ارتضينا هذا الحديث على علاّته، واجهتنا مشكلة اُخرى، وهي تضارب وتناقص وتخالف آراء الخلفاء من بعده، فأيّها المأمور بأخذه والالتزام به؟ وأىّ الخلفاء هم المقصودون، الأربعة الراشدون؟ أم كلّ من تسلّم اُمور الخلافة والسلطة؟ وإذا صحّ الحديث فلماذا لا يحمل على الخلفاء الاثني عشر الذابّين عن سنّته

____________

1- مسند أحمد 4: 126، سنن ابن ماجة 1: 15، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، ح 42، ح 43، المستدرك على الصحيحين 1: 174 ـ 177، ح 329، ح 331، ح 332، ح 333.

2- آل عمران: 144.