الصفحة 561
وهذا الخبر يتضمّن مطلبين:

الأوّل: هو تعيين حدّ شارب الخمر وأنّه ثمانون جلدة.

والثاني: هو توسعة موضوع الخمريّة لكّل مسكر، وما من شأنه الإسكار كالنبيذ و...

أمّا الأوّل:

فقد ثبت عن أئمّة المذاهب الأربعة أنّ حدّ السكران ثمانون جلدة، اللهّمّ إلاّ ما ورد عن الشافعّي في أحد قوليه أنّه أربعون جلدة(1)، ومستند الأربعين ما ورد عن رسول الله من أنّه ضرب في الخمر بنعلين أربعين مرّة، أو بغيرهما ممّا كان له طرفان(2).

ومستند الثمانين قد انتزع من مشورة عمر الصحابة في حدّ الخمر، فقد صحّ عن علىّ قوله ـ في تلك المشورة ـ: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدّوه حدّ المفتري، وعن ابن عوف قوله: اجعله كأخفّ الحدود ثمانين(3)، فانتهى رأي الصحابة إلى الثمانين.

والغريب أنّ هناك من ظنّ غير الحقّ، وهو خلو الشريعة من حكم الجلد وأنّ الشارع (صلى الله عليه وآله) لم يضع حداً كما صرّح به ابن حزم في المحلّى عن البعض(4).

وليس هنا محلّ مناقشة ما نقله ابن حزم وردّه، إلاّ أنّنا نشير إلى أنَّ القول بهذه الدعوى يلزم منه القول بنقصان الشريعة ولغويّة قوله تعالى {تبياناً لكلّ شي }وهذا ما لا يقول به أحد من المسلمين.

وأمّا من استدلّ على الأربعين بفعل النبىّ أنّه (صلى الله عليه وآله) ضرب بالشي الذي له

____________

1- الفقه على المذاهب الأربعة 5: 31 ـ 32 وانظر المغني 9: 137.

2- المغني 9: 137.

3- المصدر نفسه.

4- المحلّي 11: 364.


الصفحة 562
طرفان أو بنعلين فهو ـ إن صحّ ـ أقربُ إلى القول بالثمانين، لأنَّ العرف لا يعدّ الضرب بنعلين جلدةً واحدة بل يعتبرها جلدتين، وهذا دليل للثمانين لا الأربعين.

وقد اشتُهر عن عمر أنّه حدّ في الخمر ـ قبل مشورته للصحابة ـ بأربعين وبستّين إلى أن استقّر رأيه على الثمانين بعد المشورة، وجاء عنه أنّه نفى شارب الخمر وقال بعد ذلك: لا أُغرّب أحداً بعده.(1)

فمدرسة التعبّد المحض تقطع بأنّ حكم الثمانين لم يكن رأياً عن علىّ، بل هو ممّا ثبت عن رسول الله، بقرينة ضربه (صلى الله عليه وآله) في الخمر بنعلين، وبدليل كتاب علىّ (عليه السلام) الذي هو بخطّ علىّ وأملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله).

والعجيب من السرخسىّ ادّعاؤه في المبسوط أنّ الحكم بالثمانين كان استنباطاً من علىّ(2)، ولم يفطن إلى أنّ كلامه (عليه السلام) كان قد أخذه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنّما جاء بذلك التعليل تقريباً للأفهام وترسيخاً لحكم رسول الله.

الثاني:

هو توسعة موضوع الخمر لكّل ما من شأنه الإسكار ـ كثيره، أو قليله الذي لا يسكر ـ وهذا هو الذي أجمعت عليه مدرسة التعبّد المحض.

وأمّا مدرسة الاجتهاد فقد وقعوا في اختلاف شديد في هذه المسألة، فمنهم من وافق مدرسة التعبّد وذهب إلى حرمة كلّ مسكر على أنّه اسم جامع لكلّ ما من شأنه الإسكار وإن لم يسكر قليله، كالشافعيّة والمالكيّة وغيرهم، فعن ابن حجر أنّه قال في سبل السلام ما معناه:... ذهبت الشافعيّة والمالكيّة وغيرهم إلى حرمة كلّ مسكر سواء كان من عصير أو نبيذ، ولا يجوز تناوله مطلقاً وإن قلّ ولم يسكر إذا

____________

1- المحلّي 11: 365.

2- المبسوط 24: 32.


الصفحة 563
كان في ذلك الجنس صلاحيّة الإسكار.(1)

ومنهم من ذهب إلى جواز شرب النبيذ الذي قليله لا يسكر، ومنهم اعتبروا أنّ شرب كثيره ليس بحرام، كإبراهيم النخعىّ، وسفيان الثورىّ، وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة، وأبي حنيفة، وسائر فقهاء الكوفيّين وأكثر علماء البصريّين إذ قالوا: إنّ المحرّم من سائر الأنبذة هو السكر نفسه لا العين (2).

قال ابن قدامة: وقالت طائفة، لا يُحدّ إلاّ أن يَسْكَر، ومنهم أبو وائل والنخعىّ وكثير من أهل الكوفة وأصحاب الرأي.(3)

وبقولهم هذا تراهم قد اشترطوا كون الإسكار فعليّاً، وهو خلاف ما قدمناه عن مدرسة التعبّد المحض والشافعيّة والمالكيّة الذين يعتقدون بحرمة شرب كلّ ما له أهليّة الإسكار، وبما أنَّ النبيذ له هذه الخصوصية فهو محرّم عندهم ولا يجوز شربه قليلاً أو كثيراً.

وقد استحسن هذا الحكم من الشيعة حتّى أعداؤهم لموافقته للفطرة والعقل، فقال موسي جار الله: يعجبني دين الشيعة في تحريم كلّ شراب يسكر كثيره، ما أسكر كثيره فقليله حرام. حتّى أنَّ المضطر لا يشرب الخمر ساعة الاضطرار، لأنّها قاتلة. والشيعة تحرّم الجلوس على مائدة كانت أو تكون فيها الخمر.

واستحسنت كلّ الاستحسان مذهب الشيعة الإماميّة في مسائل الطلاق وبعض ما تراه الشيعة في أُصول المواريث.(4)

وقد اشمأزّ ابن حزم في محلاّه من القائلين بالرأي الأوّل وتهجّم عليهم، ثمّ ذهب إلى ما تقوله مدرسة التعبّد المحض، لقوله: (... فهذه الآثار المتظاهرة الثابتة الصحاح

____________

1- سبل السلام 4: 33.

2- انظر بداية المجتهد 1: 345.

3- المغني 9: 136.

4- الوشيعة في نقد عقائد الشيعة: 118ـ 119 و140.


الصفحة 564
المتواترة عن أُمّ المؤمنين وأبي هريرة وأبي موسى وابن عمر وسعد بن أبي وقاصّ وجابر بن عبد الله والنعمان بن بشير والديلم بن الهوشع كلّهم عن النبىّ! بما لا يحتمل التأويل ولا يُقَدر فيه على حيلة، بل النصّ على تحريم الشراب نفسه إذا أسكر، وتحريم شراب العسل وشراب الشعير وشراب القمح إذا أسكر، وشراب الذرة إذا أسكر، وتحريم القليل من كلّ ما أسكر كثيره، بخلاف ما يقول من خذَله الله تعالى وحرمهُ التوفيق...) إلى أن يقول:

(وجلح(1) بعضهم بعدم الحياء في بعض هذه الآثار، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): كلّ مسكر حرام... فقال: إنّما عَنَى الكأس الأخير الذي يسكر منه).(2)

ويعني ابن حزم بقوله (بخلاف ما يقول من خذله الله تعالى وحرمه التوفيق) أبا حنيفة وأتباعه لأنّهم جوّزوا درديّ الخمر(3) على كراهة وقالوا: لا يحدّ من شربه إلاّ أن يسكر، فإن سَكَر حُدَّ، على ما نقله هو عنهم في المحلّى.(4)

ونحن نعلم من النصّ السابق (إنّما عنى الكأس الأخير الذي يسكر منه) جواز شرب قليل المشروبات أو النبيذ لأنّه لا يسكر فعلاً، دون الكأس الأخير الذي يتحقّق به الإسكار، فيجلد لذلك لا للكؤوس الأُولى منه.

والذي يظهر للمتتبِّع في مفردات تاريخ التشريع الإسلامىّ هو أنّ حجّة من ذهب إلى هذا القول هو فعل الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب وقوله فيه برأيه.

فقد ورد عنه: أنّ أعرابيّاً شرب من شرابه، فجلده عمر الحدّ، فقال الأعرابىّ، إنّما شربت من شرابك، فدعا عمر بشرابه فكسره بالماء ثمّ شرب، ثمّ قال: من رابه من

____________

1- جلح هو بمعني كابر.

2- المحّلي 7: 500.

3- دردىّ الخمر: هو المتبقي منه، وهو في نفسه خميرة لصنع خمر آخر.

4- المحلّي 7: 492.


الصفحة 565
شرابه شي فليكسره بالماء.(1)

وعنه أنّه قال: إنّا لنشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا، فمن رابه من شرابه شي فليمزجه بالماء،(2) وقال أيضاً: إنّي رجل معجار البطن ـ أو معسار البطن ـ فأشرب هذا السويق فلا يلاومني، وأشرب هذا اللبن فلا يلاومني، وأشربُ هذا النبيذ الشديد فيسهِّل بطني(3).

ويظهر مدّعانا واضحاً بجلاء فيما جاء عن أبي حنيفة ـ في بعض النصوص ـ وأنّه قد احتجّ على دعواه في حلِّيَّة قليل ما أسكر كثيرُهُ بسيرة الخليفة عمر بن الخطّاب فيه.

فقد ورد عن عبيد الله ـ بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ـ أنّه اعترض على أبي حنيفة في النبيذ، فقال أبو حنيفة: أخذناه من قِبَلِ أبيك، قال: وأبي من هو؟ قال: (حدثونا من قِبل أبيك رحمة الله عليه قال): إذا رابكم فاكسروه بالماء.

فقال عبيد الله العمرىّ: إِذا تيقّنت به ولم تَرْتَبْ، كيف تصنع؟ قال:فسكت أبو حنيفة.(4)

فتراهم يتمسّكون بأبعد الدلالات لكي يصلوا إلى نتيجة ما في هذا الفرع الفقهىّ، فلذلك وقعوا في اختلافات شديدة ووصلوا إلى نتائج متضاربة بعد أن تركوا النصوص الصحيحة الصريحة الواردة في كتاب علىّ والواردة عن أهل بيته.

وكأنّي أري الحكّام ـ أٌمويّين وعبّاسيّين ـ سعوا في التأكيد على هذا الحكم مشترطين فيه الإسكار الفعلىّ لكي يصرفوا الناس عن انتقادهم، ولكي يتسنّى لهم

____________

1- أحكام القرآن للجصاص 4: 126.

2- مصنف ابن أبي شيبة 5: 79، ح 23875، المحلى 7: 487.

3- مصنف ابن أبي شيبة 5: 80، ح 23879.

4- السنن الكبرى للبيهقي 8: 306 والنص عنه، وسنن الدارقطني 4: 261، وما بين القوسين عنه.


الصفحة 566
أن يشربوا المسكرات والنبيذ كما يحلو لهم دون أىّ رادع ولا وازع مستغلِّين جواز شرب النبيذ الشرعىّ، بمعنى إلقاء بعض التمرات في الماء الآجن لتذهب ملوحته، فاستغلّوا هذا الترخيص الشرعىّ من قبل الرسول وسرَّوا الحكم إلى ما نشّ من النبيذ، ثمّ اشترطوا في الحرمة الإسكار الفعلىّ.

قالوا بهذا وهم يعلمون أنّ رسول الله قال: لتستحلنّ طائفة من أُمّتي الخمر باسم يسمّونها إيّاه. رواه أحمد وابن ماجة.(1)

وروي عنه أنّه قال: لا تذهب الليالي والأيّام حتّى تشرب طائفة من أُمّتي الخمر ويسمّونها بغير اسمها. رواه ابن ماجة.(2)

وإذا أردنا تطبيق إخبار النبّي هذا على الواقع الخارجىّ وجدنا أنّ كبار الصحابة كانوا لا يشربون النبيذ ـ إلاّ ما ورد عن عمر مجتهداً في حليّة ذلك لأنّه قد دعا بالنبيذ ليشربه حتّى قبل مقتله(3) ـ ووجدنا أئمّة أهل البيت يحرّمونه تحريماً قطعيّاً، فلم يبق إلاّ أنَّ النبىّ (صلى الله عليه وآله) أشار بذلك إلى الحكّام ـ أمويّين كانوا أم عبّاسيّين ـ الذين شربوا ذلك فعلاً، وجاوزوه حتّى شربوا الخمر الصراح.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا الخلط بين الأُصول والمفاهيم لم يحصل لو كان هناك تدوين ثابت عند المسلمين، ولو أنّ الخلفاء تركوا المسلمين ليأخذوا معالم دينهم عن المدوّنات ـ ومنها كتاب علىّ ـ لكان أَعْوَدَ على الإسلام، وأنفعَ للمسلمين، ولما وصل الاختلاف بالأُمّة إلى هذا الحدّ في المسائل الفقهيّة.

____________

1- الفقه على المذاهب الأربعة 5: 21.

2- الفقه على المذاهب الأربعة 5: 21 أيضاً.

3- ففي السنن الكبرى للبيهقي 3: 113 عن عمرو بن ميمون الاودي، قال: شهدت عمر بن الخطاب حين طعن... فأتاه الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك؟ فقال: النبيذ، فدعي بالنبيذ فشرب منه فخرج من إحدى طعناته.


الصفحة 567

4 ـ دية الأسنان

روى الحكم بن عيينة، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنَّ بعض الناس في فيه اثنان وثلاثون سنّاً، وبعضهم له ثمانية وعشرون سنّاً، فعلى كم تقسم دية الأسنان؟ فقال: الخلقة إنّما هي ثمانية وعشرون سنّاً، اثنتا عشرة في مقاديم الفم. وستّ عشرة في مآخيره، فعلى هذا قسّمت دية الأسنان، فدية كلّ سنّ من المقاديم إذا كسرت حتّى تذهب خمسمائة درهم، فديتها كلّها ستّة آلاف درهم، وفي كلّ سنّ من المآخير إذا كسرت حتّى تذهب، فإنّ ديتها مائتان وخمسون درهماً، وهي ستّة عشر سنّاً. فديتها كلّها أربعة آلاف درهم، فجميع دية المقاديم والمآخير من الأسنان عشرة آلاف درهم، وإنّما وضعت الدية على هذا، فما زاد على ثمانية وعشرين سنّاً فلا دية له. وما نقص فلا دية له، هكذا وجدناه في كتاب علىّ(1)..

ورواه الصدوق بإسناده عن ابن محبوب مثله.(2)

وعن محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسن بن محبوب نحوه.(3)

وقد عمل بهذا فقهاء الإماميّة لأنّه قد جاء في كتاب علىّ، ولأجله لم يختلفوا في هذا التقسيم، ففي جواهر الكلام:

وفي إذهابها أجمع الدية كاملة بلا خلاف أجده فيه... بل عن ظاهر المبسوط الإجماع عليه، بل هو صريح محكي التحرير... وتقسّم الدية على ثمانية وعشرين سنّاً، بل عن الخلاف أنَّ عليه إجماع الفرقة وأخبارها... ففي المقاديم ستمائة دينار [وهي ستة آلاف درهم ]حصة كل سنّ خمسون ديناراً [وهي خمسمائة درهم]، وفي المآخير أربعمائة دينار [وهي أربعة آلاف درهم]، حصّة كلّ ضرس خمسة

____________

1- الوسائل 29: 343، ح 35740، التهذيب 10: 254، ح 1005، الاستبصار 4: 288، ح 1089.

2- من لا يحضره الفقيه 4: 137، ح 5304.

3- التهذيب 10: 255، ح 1006، الاستبصار 4: 288، ح 1090.


الصفحة 568
وعشرون ديناراً [وهي مائتان وخمسون درهماً...]وذلك تمام الدية..(1).

وأجمعت الإماميّة أيضاً على أنَّ الزائد ليس فيه دية السن كاملة، وإنّما فيه ثلث الدية أو الأرش أو المصالحة أو... وعلى كلّ التقادير فليس فيه دية السنّ وهذا هو معنى ومؤدّى الرواية التي تنصّ على أنّ هذا الحكم هو عن كتاب علىّ(عليه السلام).

فإذن نصّت الرواية ـ التي في كتاب علىّ ـ على أنَّ دية الأسنان دية كاملة، وأنَّ في المقاديم التي هي اثنا عشر سنّاً ستمائة دينار، لكلّ سنّ خمسون ديناراً (500 درهماَ)، وفي مآخيرها أربعمائة دينار، لكلّ سنّ خمسة وعشرون ديناراً (250 درهماً)، فالمجموع ألف دينار (000/10 درهم) وهي دية الأسنان كاملة وهي تساوي دية الإنسان كاملةً.

وأمّا من لم يأخذوا ـ أو لم يصلهم ـ ما في كتاب علىّ (عليه السلام) ، فإنّهم اختلفوا اختلافاً كثيراً، وذهبوا مذاهب شتّى، وفق اختلاف نقولاتهم وآرائهم.

فقد روي عن عطاء أنّه قال: في السنّ والرباعيّتين خمس خمس، وفي الباقي بعيران بعيران. وهي الرواية الثانية عن عمر.(2)

وأمّا روايته الأُولى فتنصّ على أنّ الدية في الباقي بعير لا بعيران في الأضراس.(3)

ومن جهة أُخرى نسب صاحب المغني إلى عطاء التسوية في مطلق الأسنان، المقاديم والمآخير، في كلّ واحد خمس من الإبل(4). وعلى هذا القول تكون دية الأسنان التي هي ثمانية وعشرون سنّاً مائة وأربعين بعيراً، أي أنّ دية الأسنان

____________

1- جواهر الكلام 43: 229 ـ 231.

2- مصنف ابن أبي شيبة 5: 366، ح 26978، مصنف عبد الرزاق 9: 345، باب الأسنان.

3- مصنف ابن أبي شيبة 5: 367، ح 2698، ومثله في الموطأ 2: 861، ح 1554 مختصراً، ونحوه في مصنف عبد الرزاق 9: 347، والسنن الكبرى للبيهقي 8: 90، باب الأسنان، عن الموطأ، والمغني 8: 353.

4- المغني 8: 353 باب الأسنان.


الصفحة 569
لوحدها أكثر من دية الإنسان كاملةً.

وروي عن ابن عبّاس وعمرو أنّه يجب في كلّ ثنيّة خمسون ديناراً. وفي الناجذ أربعون، وفي كلّ ضرس خمس وعشرون(1). وعلى هذا النقل يكون للخليفة عمر بن الخطّاب رأي ثالث في دية الأسنان.

وللخليفة عمر رأي رابع في دية الأسنان نقله صاحب المغني، وأنّ الدية هي التسوية بين الجميع(2). ونُسب هذا الرأي لابن عبّاس وعطاء أيضاً(3)

فالملاحظ هنا أنّ للخليفة عمر أربعة آراء في دية الأسنان. ولعطاء وابن عبّاس أكثر من رأي منسوب لهما، وهذا إن دلّ على شي فإنّما يدّل على ارتباك النقل عن الصحابة أو الناقلين عنهم، وإلاّ فإنّ من المعلوم بديهةً أنّ الدية لا تتغيّر كلّ يوم. ولا يمكن أن يكون لها كلّ وقت مقدار مغاير للمقدار الذي حدّده الشارع المقدّس. وهذا الاختلاف في النقل لا تجده عند أتباع مدرسة التعبّد المحض. لاعتمادهم على ما في كتاب علىّ المدوّن ـ القديم الأصيل ـ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولو قُدِّرَ لأتباع مدرسة الرأي والإجتهاد أن تعمل بما في كتاب علىّ لما وجدنا شيئاً من هذا التغاير العجيب عن الصحابىّ الواحد في المسألة الواحدة.

ومع أنّ النقل عن علىّ (عليه السلام) وأئمّة أهل البيت ثابت وصحيح في مقدار الدية المذكور، نرى أن مدرسة منع التدوين تأخذ بالثابت الصحيح وتؤوّله وفق رأيها واجتهادها، فإنّ عمدة دليل أكثر أتباع مدرسة الرأي القائلين بالتسوية هو ما روي في كتاب عمرو بن حزم (في السنّ خمس من الإبل)(4). وهذا لا يدلّ على العموم الذي يدّعونه لأنّ التعبير بالسنّ، مع تعبير أحاديث أٌخرى، بالأضراس والثنايا

____________

1- نيل الأوطار 7: 217.

2- المغني 8: 353.

3- المصدر نفسه.

4- المهذب 2: 204.


الصفحة 570
وغيرها، يبطل العموم والإطلاق المدَّعى لهذا النصّ بحيث يشمل الأضراس والمآخير وغيرها، فإنّ عمرو بن حزم الذي بعثه (صلى الله عليه وآله) إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات(1) نُقل عنه هذا المقدار في الدية، وهذا المقدار معتضد بما نقله أئمّة أهل البيت كما سترى، لكنّ هذا النقل المبتور دون بيان الوجه والتفصيل، ودخول الرأي والإجتهاد هو الذي أوقع أتباع مدرسة الرأي والإجتهاد في هذا الخطأ الذي أفتوا به.

فقد روي عن جعفر بن محمّد الصادق أنّه قال: في السنّ خمس من الإبل. أدناها وأقصاها وهو نصف عشر الدية، إن كانت دنانير فدنانير، وإن كانت دراهم فدراهم، وإن كانت بقراً فبقراً، وإن كانت غنماً فغنماً، وإن كانت إبلاً فإبلاً...(2).

فإنّ ما في هذه الرواية يراد منه المقاديم الإثنا عشر أقصاها وأدناها، وهو نصف عشر الدية، فإن كانت إبلاً كان لكلّ سنّ خمس من الإبل، وإن كانت دنانير كان لكلّ سنّ خمسون ديناراً، وإن كانت دراهم كان لكلّ سنّ خمسمائة درهم، وأمّا ديّة باقي الأسنان فقد عَرَفْتَ أنّما فُصّلت في روايات أٌخرى، فما في كتاب عمرو بن حزم يوافق ما جاء عن أهل البيت. وهذا من فوائد التدوين، لكنّ التأويل وعدم الالتفات إلى النكت الأُخرى والتفاصيل التي في باقي المروّيات، والتعميم الذي جاء في غير محلّه، هو الذي أوقع أتباع مدرسة الرأي والاجتهاد في هذا الغلط والاختلاف في مقدار دية الأسنان.

وأمّا استدلالهم بما روي عن ابن عبّاس من أنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله) قال: (الأصابع سواء

____________

1- سنن النسائي (المجتبى) 8: 57، ح 4853، المستدرك على الصحيحين 1: 553، ح 1446، السنن الكبرى للبيهقي 4: 89، ح 7047.

2- التهذيب 10: 261، ح 1030، الاستبصار 4: 289، ح 1093 مختصراً، الوسائل 29: 344، ح 35744.


الصفحة 571
والأسنان سواء الثنية والضرس سواء. هذه وهذه سواء)(1) فهو على تقدير صحّة نقله ليس بمدوّن، وهو معارَضٌ بما مرّ نقله من اختلاف النقول عن الصحابة والتابعين والفقهاء.

هذا، ونرى الإمام أحمد بن حنبل ـ الذي هو محدِّث وراو أكثر من كونه فقيهاً بإجماع المسلمين ـ يذهب إلى رأي يخالف فيه كلّ فقهاء العامّة ومنقولاتهم، ويوافق فيه ما ورد عن أهل البيت وأتباع مدرسة التعبّد المحض.

فقد ذهب الإمام أحمد إلى أنّ الدية في المقاديم ستمائة دينار (6000 درهم) وفي المآخرِ أربعمائة دينار (4000 درهم)، وهما تمام الدية، وقد صرَّح بذلك عنه النووىّ في المجموع(2)، وهو ظاهر المغني(3).

بعد هذه النماذج اليسيرة التي أخذناها، اتّضح لنا أهمّيّة التدوين وقيمة مدوّنة وكتاب علىّ (عليه السلام) ، وأنّ الآخذين بالتدوين من أتباع مدرسة التعبّد المحض هم أقرب للصواب وأصحّ منقولات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بعكس أتباع مدرسة الرأي والاجتهاد المانعين للتدوين، فإنّهم ابتعدوا عن التدوين والمدوّنات فوقعوا في الاختلاف والحيرة وتعدّد الآراء، وإن وصلهم شي من الأحكام عن طريق بعض المدوّنات، فإنّما هو نقل ناقص تدخّلت فيه الآراء والاجتهادات، فأبعدته هو الآخر عن جادّة الصواب، وبالتالي أصبح الفقه الإسلامىّ عند مدرسّة الرأي والاجتهاد فقهاً يبتني على الآراء، والرأي بطبيعته مختلف، ولذا ترى تعدّديّة الرأي، بعكس الفقه عند التعبّد المحض والمدوّنين للسنّة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمحافظين عليه من بعده، فإنّه ظلّ أبعد ما يكون عن الخطأ والتغيّر والنقصان، مع وضوح في وجوه

____________

1- المغني 8: 355.

2- المجموع 19: 99.

3- المغني 8: 353.


الصفحة 572
التفصيل وترابط في المنقولات عن المدوّنات، بحيث خرجوا بحكم واحد لا شبهة ولا شائبة فيه.

ونحن نهيب بالباحثين أن يدرسوا ما نقل من كتاب علىّ في الفقه الإسلامي دراسة تمحيصية لتتبيّن أكثر فأكثر أهميّة التدوين عموماً، وما في هذه الصحيفة المدوّنة بالذات.


الصفحة 573

الصفحة 574

دواعي التحريف والانحراف عند النهجين


أوضحت دراستنا فيما مرّ بعض أُصول الخلاف بين المدرستين التي نبعت واتّسعت متأثّرة بمنع التحديث والتدوين، وأوصلتنا وأوصلت معنا القارئ إلى نتائج مثمرة بأكبر رصيد من الصحّة حول بُنَى المدرستين (الاجتهاد والرأي) و(التعبّد المحض)، واتّضح لنا الأثر الإيجابىّ الذي خلّفه التدوين على فقه المدوّنين والسلبىّ على فقه المانعين، وبالتالي عرفنا قيمة المخزون الفقهىّ لكلنا المدرستين.

والآن نحاول عرض حصائلنا ووزنها بميزان آخر لمعرفة مدى تلائم كلّ من الاتّجاهين مع السير الطبيعىّ للسنن التاريخيّة وقواعد علم الاجتماع والأخلاق، ومدى انسياقها وتلائمها مع الظروف المختلفة التي أحاطت بهما، لنعرف أىّ المدرستين أبعد من التحريف والانحراف، وأيّهما أقرب لذلك.

فعن علىّ بن أبي طالب في خطبة له:

(ولقد بلغني أنّكم تقولون (علىٌّ يكذب) قاتلكم الله، فعلى من أكذب؟! أعلى الله، فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيّه؟ فأنا أوّل من صدَّقه)(1).

وهذا النصّ يختزن في طيّاته أدقّ وأروع معاني الاحتجاج والتنظير، وهو يشير إلى تأزّم مرض أخلاقىّ اجتماعىّ مُني به مجتمع كامل ـ أو شريحة كبيرة منه ـ إذ صَبَّت

____________

1- نهج البلاغة 1: 119، الخطبة رقم 71.


الصفحة 575
جام غضبها وكذبها على شخصيّة في أعلى درجات النزاهة والوضوح.

من هنا استدلّ الإمام على بطلان مزاعم تلك الشريحة بأنّ الكاذب لابُدّ وأن تكون له دوافع ذاتيّة أو خارجيّة تحدو به لأن يتّخذ الكذب مطيّة إلى مآربه وأهدافه. فإنّ الكاذب إمّا أن يكون مصاباً بعمى القلب والانهماك في المحرّمات والعصيان والتمرّد، ممّا يجعله شخصاً يستطيب ويستعذب الكذب، ولا يرتدع عن ارتكاب أقبح وأسوء الصفات.

وإمّا أن يكون ممّن يرجو مطمعاً ويبتغي عرضاً من الحياة الدنيا، فلا يمكنه الوصول إليه عن طريق الصدق، ممّا يضطرّه إلى أن يكذب ليصل إلى بغيته وطلبته.

وإمّا أن يكون جباناً يخاف عاقبة أمره وأن يطاله العقاب القانونىّ الدنيوىّ فيلجأ إلى الكذب للتخلّص من المأزق الذي هو فيه.

وإمّا أن يكون للتخلّص من سؤال محرج لا يهتدي فيه إلى وجه الصواب، فيتّخذ الكذب غطاءً ليغطّي عجزه وعوزه للدليل، و...

والذي يتصفَّح التاريخ الإسلامىّ، يرى أنّ غالبية الكاذبين على الله ورسوله كانوا ذوي نزعات جاهليّة أو ميول نفسانيّة أو عجز فكرىّ فاضح، وهم في الغالب ممّن أسلموا خوفاً من السيف أو اندسّوا في صفوف المسلمين كمسلمة الفتح ومن بعدهم، وكالمنافقين و...

وهذه الدواعي وما ضارعها، كلّها منتفية في حقّ علىّ بن أبي طالب، لأنّه الصحابىّ المخلص ـ الذي له أروع المواقف وأعلى الصفات ـ بلا خلاف بين المسلمين، كما أنّه ينتمي إلى شأو نسبىّ رفيع لا يحتاج معه إلى رفع رافع ولا يضطرّ معه إلى الكذب ـ والعياذ بالله ـ لتغطية النقص الاجتماعىّ الذي يحصل من ذلك، ولأجل ذلك تراه يقول (فعلى مَن أكذب، أعلى الله فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيّه، فأنا أوّل من صدّقه).


الصفحة 576
وقد صدق علىّ في قوله، إذ لا داعي لمثل ذلك، وهو الذي نزل فيه وفي آله الذكر الحكيم، كما في آيات التطهير، والمباهلة، والمودّة في القربى، وسورة الدهر، وقوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا} و{كونوا مع الصادقين} {وإن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} و{يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم} و{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} و{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصله جهنّم} و{إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد} و{إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون}(1) و....

فما هو الوجه والمبرّر لئن يكذب علىُّ على الله، بعد هذا إذَن؟!

وأمّا الكذب على رسوله، فإنّه شأن المتملّقين وأصحاب الأهواء والمطامع وأعداء الإسلام والمندسّين في صفوف المسلمين، الذين آذوا الرسول وكذّبوه، مخافةَ كشف أمرهم، وهم الذين رموه بالقمامة، وجعلوا في طريقه الشوك و...

وأمّا علىّ بن أبي طالب فهو ابن عمّه، والمدافع عنه بنفسه ومهجته، وهو أوّل من صدّقه بالنبوّة والرسالة، ونام على فراشه درءاً للخطر عنه (صلى الله عليه وآله) ، فمن كان هذا حاله، فهل يعقل أن يكذب على الرسول (صلى الله عليه وآله)؟! ونحن نرى مئات النصوص منه (صلى الله عليه وآله) في مدحه (عليه السلام) ، منها قوله عنه (إمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين)(2) وفي آخر (هذا أمير البررة، قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله)(3). وفي ثالث

____________

1- انظر مصادر نزول هذه الآيات وغيرها في علىّ وآله في كتاب المراجعات، المراجعة (12) صفحة 87.

2- انظر مصادر نزول هذه الآيات وغيرها في علىّ وآله في كتاب المراجعات، المراجعة (12).

3- المستدرك للحاكم 3: 140، ح 4644 وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، تاريخ بغداد 4: 218، ت 1915.


الصفحة 577
(أنا مدينة العلم وعلىّ بابها، فمن أراد العلم فليأت من الباب)(1)، وقوله (أنت تُبَيِّن لأمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي)(2) وقوله (أنا المنذر وعلىّ الهادي، وبك يا علىّ يهتدي المهتدون (3)من بعدي) وقوله لعلىّ (إنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملّتي وتقتل على سنّتي، مَن أحبّك أحبّني، ومن أبغضك أبغضني، وإنّ هذه ستخضب من هذا، يعني لحيته من رأسه)..(4).

وقد أخرج أحمد بسند صحيح عن ابن عمر والحاكم عن عمر بن الخطاب قوله ـ والنص للثاني ـ: لقد أُعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأَن تكون لي خصلة منها أَحب إلىّ من أن أُعطى حمر النعم.

قيل: وما هنّ يا أمير المؤمنين؟

قال: تزوجه فاطمة بنت رسول الله، وسكناه المسجد مع رسول الله يحلّ له فيها ما يحلّ له، والراية يوم خيبر(5).

وأخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص(6) وابن عبّاس قريباً منه(7).

____________

1- المعجم الكبير 11: 65، ح 11061 عن ابن عباس، وانظر أيضاً المستدرك على الصحيحين 3: 137، ح 4637، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه و3: 138، ح 4638 عن جابر بن عبد الله، فيض القدير 1: 36.

2- المستدرك، للحاكم 3: 132، ح 4620، حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

3- تفسير الطبري 13: 108 عن ابن عباس، وفتح الباري 8: 376، وتفسير ابن كثير 2: 503، والدر المنثور 4: 608.

4- أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 153، ح 4686 صحيح، وصحّحه الذهبىّ في تلخيصه، وانظر مسند البزار 9: 322، ح 3873، تاريخ دمشق 42: 269، وجاء مثله من طرق الشيعة كما في كمال الدين: 257 للصدوق عن ابن سمرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له: يابن سمرة! إذا اختلفت الأهواء وتفرّقت الآراء فعليك بعلىّ بن أبي طالب فإنّه إمام أُمّتي وخليفتي عليهم من بعدي.

5- مصنف ابن أبي شيبة 6: 369، ح 32099، والمستدرك على الصحيحين 3: 135، ح 4632، مجمع الزوائد 9: 120.

6- صحيح مسلم 4: 1871، ح 2404، سنن الترمذي 5: 638، ح 3724.

7- المعجم الأوسط 8: 212، ح 8432، مجمع الزوائد 9: 120، المستدرك 3: 120، ح 4582، الاستيعاب 3: 1090، باب علي (رض)، تاريخ دمشق 42: 72.