كلمة المؤلّف
هذا نقد علمي لما كتبه الدكتور علي أحمد السالوس حول حديث الثقلين.
هذا الحديث الثابت صدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لدى المسلمين كافّة.
فقد توافقوا على روايته بأسانيدهم المعتبرة الكثيرة، وتسالموا على ثبوته عنه، ولم نجد ـ خلال هذه القرون المتمادية ـ من يشك في صحته إلاّ رجلاً واحداً... وهو أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي... حيث أودعه في روايةٍ واحدةٍ له كتاب (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية). وقد خطّئه العلماء، وحذّروا من الاغترار بفعله، ومنهم من أحسن الظنَّ به فحمل ذلك منه على عدم استحضاره لسائر طرق الحديث... لا سيّما وأنّه في صحيح مسلم... كما سترى ذلك كلّه في هذا الكتاب.
والحق معهم... فأنّه لو جاز رمي مثل هذا الحديث ـ الصحيحة أسانيده والكثيرة طرقه ـ بالضّعف لَما بقي فيما بأيدينا من الأحاديث النبوية ما نثق بصدوره عن الرسّول الكريم إلاّ الشاذ النادر، وهذا يؤدّي إلى سقوط السنّة النبويّة وهدم أركان الشريعة المقدّسة.
ولهذه الأمور وغيرها... لم نعثر ـ وما كنّا نظن العثور ـ على مقلّد لا بن الجوزي من أهل العلم فيما قاله حول هذا الحديث، حتى جاء دور «الدكتور».
و«للدكاترة» و «المشايخ» في الآونة الأخيرة تحرّك واسع في شتى البلدان
فالسّابقون منهم على أنّ «الخلافة عن النبي» من فروع الدين لا من أصوله، فتكون الإمامة من المسائل العمليّة الفرعية، شأنها شأن الصلاة والزكاة ونحوهما، ولكلّ مجتهدٍ رأيه... يقول القاضي عضد الدّين الايجي وشارحه الجرجاني: «الإمامة ومباحثها ليست من أصول الديانات والعقائد ـ خلافاً للشيعة ـ بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين»(1) ويقول سعد الدين التفتازاني: «لا نزاع في أن مباحث الإمامة بفروع الدين أليق، لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات... ولا خفاء في أن ذلك من الأحكام العملية دون الإعتقادية»(2) .
وإذا كان هذا حكم الإمامة عندهم، فلماذا هذه الحملات والهجمات على الإماميّة ؟
ثم إنهم يقولون بأنّ الإمامة تنعقد بالقهر والغلبة، فيجب إطاعة من تغلّب على الأمر وتسلّط على المسلمين بالجور والسّيف، وكان فاجراً وفاسقاً، وهذا ما نصَّ عليه التفتازاني وابن تيمية وغيرهما.
وفي هذه الأُصول إنكار للحكومة الشرعية، وتقرير لسلطنة الظالمين، وفصل بين الدنيا والدين...
فهذا ما بنى عليه السابقون.
____________
(1) شرح المواقف 8/344.
(2) شرح المقاصد 5/232.
وقد أثار القوم ضجّة كبيرةً على هذا المؤلف وكتابه، وكتبت الردود عليه، حتى كفّروه، واتّهموه بالتعاون مع السياسات الأجنبية، وكانت النتيجة صدور حكم من هيئة كبار العلماء في مصر ضّد الكتاب ومؤلفه(2) .
ونحن وإنْ كنّا نرى بطلان هذه الفكرة، إلاّ أنا نقول بأنّ ما ذهب إليه هذا الشيخ ليس إلاّ ردّ فعلِ للأسس التي بنيت عليه دعائم مذهب القوم منذ صدر الإسلام، لكنّهم يكفّرونه ويسكتون عمّن كان السّبب المباشر لحدوث مثل هذه الفكرة.
وحول القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال أئمتهم من الصّحابة بوقوع التحريف في القرآن، ففي أهم كتبهم الحديثية كالبخاري ومسلم ومسند أحمد والترمذي وابن ماجة والمستدرك وغيرها، عن غير واحدٍ من
____________
(1) لا حظ كتاب: الإسلام وأصول الحكم. للشيخ علي عبد الرزاق من كبار علماء الأزهر ومن مشاهير القضاة في الديار االمصرّية.
(2) لا حظ كتاب: الإسلام والخلافة في العصر الحديث للدكتور محمد ضياء الريّس. وكتاب: حقيقة الإسلام وأصول الحكم للشيخ محمد بخبت.
ومن هنا جاء في كتب القوم التصريح بالتحريف عن جماعةٍ منهم، ففي تفسير القرطبي أنّه طعن قوم على عثمان جمع القرآن(2) وذكر الرّافعي ذلك عن جماعةٍ من أهل الكلام(3) وعن الثوري ـ الذي وصفوه بأمير المؤمنين في الحديث ـ: «بلغنا أنّ ناساً من أصحاب النبي كانوا يقرأون القرآن اصيبوا يوم مسيلمة فذهب حروف من القرآن»(4) وقال الشعراني المتوفى سنة 973: «لولا ما يسبق للقلوب الضعيفة ووضع الحكمة في غير أهلها لبّينت جمعيع ما سقط من مصحف عثمان»(5) .
حتى أنّ بعض ائمتهم في القرآات في القرن الرابع، كان يقرأ ما حملته تلك الروايات عن أولئك الصحابة جاعلاً إيّاها من القرآن حقيقةً، اقتداءً بهم، لكنّ فقهاء القوم أشاروا على السّلطان بالقبض عليه، وضربه، فضرب ضرباً شديداً، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالتوبة، فخلي سبيله وكتب عليه كتاب بتوبته، وأخذ فيه خطّه بالتوبة(6) فتاب من العمل بما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وسائر الصّحاح... عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبي موسى الأشعري، وزيد بن ثابت،
____________
(1) تجد هذه الأحاديث وغيرها مع النظر في أسانيدها ومداليلها في كتابنا: التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف. ط دار القرآن الكريم. قم / ايران.
(2) تفسير القرطبي 1/84
(3) إعجاز القرآن: 41.
(4) الدر المنثور 5/179.
(5) الكبريت الأحمر ـ هامش اليواقيت والجواهر ـ 143.
(6) راجع قضية أبي الحسن محمد بن أحمد بن شنبوذ البغدادي المتوفى سنة 328 في تاريخ بغداد 1/280، وفيات الأعيان 3/326، غاية النهاية في طبقات القراء 2/52.
هذا ما فعله السابقون في هذا المجال، وكان الحق معهم، فلا يجوز متابعة أولئك... ولا يجوز الأخذ بالكتب المذكورة... في كل شيء...
والكتّاب المعاصرون... تناقضوا... فمن المشايخ والدكاترة كمحمد رشيد رضا، وأحمد محمد شاكر، وأحمد أمين، والرافعي، والخضري، ومصطفى زيد... وجماعة، يخطّأون الصحابة بصراحةٍ، ويردّون هذه الأحاديث ويبطلونها. يقول الرافعي: «ولا يتوهمنّ أحد أن نسبة بعض القول إلى الصحابة نص في أنّ ذلك القول صحيح ألبتة، فإنّ الصحابة غير معصومين»(1) ويقول مصطفى زيد: «أمّا الآثار التي يحتجّون بها فمعظمها مروي عن عمر وعائشة، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار عنهما، بالرغم من ورودها في الكتب الصّحاح، وفي بعض هذه الروايات جاءت العبارات التي لا تتفّق ومكانة عمر وعائشة، ممّا يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ودسّها على المسلمين»(2) .
ومنهم من ألّف كتاباً أسماه (الفرقان) فجمع فيه طائفةً من تلك الروايات المروية عن الصّحابة، معتقداً بصحّتها لكونها في الصحاح، فأحدث ضجّة كبيرةً ـ كما أحدث كتاب عبد الرزاق ـ حتى طلب علماء الأزهر من الحكومة مصادرة الكتاب !(3) ولا ندري هل فعل بمؤلفه ما فعل بالقارئ البغدادي المسكين أولا ؟
وحول الصحابة... قالوا: الصحابة كلّهم عدول، وادّعى غير واحدٍ من أئمة القوم كابن عبد البرّ القرطبي، وابن حزم الأندلسي، وابن حجر العسقلاني(4)
____________
(1) إعجاز القرآن: 44.
(2) النسخ في القرآن 1/ 283.
(3) طبع هذا الكتاب بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1367 ـ 1948.
(4) الاصابة 1/ 19، الاستيعاب 1/ 8.
والكتّاب المعاصرون... تناقضوا... فمن «المشايخ» و «الدكاترة» كمحمد رشيد رضا، ومحمود أبي رية، والرافعي، وطه حسين، وأحمد أمين... من يقول بأنّ في الصحابة عدولاً وغير عدول، كما قال التفتازاني وجماعة. ومنهم من بقي على قول السّلف...
وحول الصحيحين(2) ... فالمعروف بين السابقين منهم هو القول بصحّة ما جاء في هذين الكتابين من أول حديثٍ إلى آخر حديث، حتى اشتهر القول بينهم في كتب الرجال بأنّ من أخرج له في الصحيحين فقد جاز القنطرة. ومن السّابقين
____________
(1) شرح المقاصد 5 / 310.
(2) كتابا البخاري ومسلم عرفا بالصّحيحين، وذكر لهما من الفضائل والمناقب مالا تصدّقه العقول، وقد قال غير واحدٍ منهم: لو حلف رجل بطلاق زوجته في صحة أحاديثهما لم يحنث، وقد وقع الخلاف بينهم ـ بعد جعلهما أصح الكتب بعد القرآن ـ في ترجيح أحدهما على الآخر، والمعروف بينهم ترجيح كتاب البخاري.
والكتّاب المعاصرون... تناقضوا... فمنهم من خالف المشهور بين السّلف، وقد ذكرنا بعضهم، ومنهم الذين أقاموا الضجّة الكبرى على كتاب (أضواء على السنّة المحمدية) للشيخ محمود ابي ريّة، وثاروا عليه، حتى ألّفوا في ذلك كتباً، وما ذلك إلاّ لأنه جاء بحقائق عن الصحابة والكتب المعروفة بالصّحاح، حقائق طالما حاول السابقون ـ وأتباعهم اللاحقون عن أعين الناس...
و«الدكتور السالوس» لم نقف بعدُ على آرائه في القضايا المذكورة وغيرها، ولا ندري ما إذا كان أهلاً لأن يكون له رأي(2) ... أما في كتابه في (حديث الثقلين) وهو في (40) صفحة فلم يحدّد موقفه ـ عن اجتهادٍ أو تقليد ـ من شيء من ذلك... وعلى كلّ حالٍ فقد وجدنا كتابه الصغير يشتمل على تناقضٍ كثير، ولا يقوم بحثه على أصولٍ ثابتةٍ من العلم الكامل، والمنطق السليم، والأسلوب المهذّب.
إنّ الذين عبّر عنهم في كتابه بـ «بعض المسلمين» وهم الشيعة الاثنا عشرية، إنما يحتجّون بروايات الذين يسمّون أنفسهم بـ «أهل السّنة» تلك الروايات المخرّجة في كتبهم في شتى العلوم، والمرويّة بأسانيدهم عن الصّحابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم... إنما يحتجّون بها من باب الإلزام، لكونها رواياتهم وفي كتبهم، كما يحتج المسلم على النصراني بما في الانجيل لكونه الكتاب الذي يؤمن به، مع أنه في نفسه غير مؤمن بما يحتجُّ به.
وهكذا فعلوا في خصوص حديث الثقلين... في بحوثهم مع أهل السنّة...
____________
(1) قد ذكرنا في الكتاب بعض الموارد من ذلك.
(2) قد بلغنا أنّ هناك كتباً مطبوعة باسم «الدكتور» ولا ندري هل هي له أو مطبوعة باسمه أو قد عاونه فيها غيره كما قد صرّح بهذا هو في خصوص كتابه في حديث الثقلين. ولا تستغربنّ هذا الذي قلناه فإنّ من اليقين أن ما نشر باسم الرجل الباكستاني ـ حشرة الله مع أوليائه ـ لم يكن من تأليفه وكم له من نظير !
إنْ كان يذهب في هذه الأمور إلى غير مذهب الجمهور، كأن يقول: الصحابة فيهم العادل وغيره، وكتاب مسلم فيه الصحيح وغيره، وما يقوله كبار علماء السنّة غير معتمد، فليس للخصم أنْ يلزمه بما لا يراه حجةً، ويكون البحث معه بأسلوبٍ آخر.
ولكنْ إنْ كان مذهبه ذلك، ولذا قال بعدم صحة حديث الثقلين، والوارد في صحيح مسلم، ومسند أحمد، وصحيح الترمذي، والمستدرك على الصحيحين... فلماذا يستدل بأحاديث كتاب مسلم ومسند أحمد في الصفحات الأخيرة من كتابه ؟
وتناقضات «الدكتور» في كتابه كثيرة:
فإنّه إذا كان يرى أهل الكوفة شيعة، والشيعي لا يجوز الأخذ بحديثه، فكيف يحتج بما يرويه أهل الكوفة ؟
وإذا كان الأعمش مدلّساً فيتوّقف عن قبول حديثه، فكيف يستند إلى حديث يرويه الأعمش ؟
وإذا كان أحمد يتساهل في رواية أحاديث الفضائل في المسند، فكيف
وإذا كان الحاكم شيعيّاً ومتساهلاً في مستدركه، فكيف يستدل بحديثٍ يرويه السيوطي في الجامع الصغير عن المستدرك عن أبي هريرة ؟ وهل يجديه عدم ذكر المستدرك والنقل عن الجامع الصغير ؟
وإذا كان يأخذ رأي الذهبي في تلخيص المستدرك بعين الاعتبار، فلماذا يأخذه في موضعٍ ويتغافل عنه في مواضع ؟
وهكذا... في قضايا أخرى، تجدها في ثنايا الكتاب... ومن ذلك أنه: عندما يذكر رواية الترمذي يحرّف الكلام.
وعندما يورد عبارة ابن حجر حول الحاكم أو غيره يحرّفها !
وعندما يورد روايات أحمد في مسنده يقول: «هي سبعة» مع أنّها أكثر ؟
وبعد:
فقد رأينا أنّ في نشر هذا الكتاب خدمةً للحق، وأداء لبعض الواجب تجاه التراث، ووفاءً بما لروّاد الحقيقة وذوي الأفكار الحرّة علينا من وظيفة التوضيح والبيان، والتحذير من الانخداع بالأساليب التي يتّبعها بعض كتّاب العصر في البحوث العلمية، ثم توعية أهل الحق بما يدور حولهم هنا وهناك. والله ولي التوفيق.
قم / علي الحسيني الميلاني
مقدمة فيها أُمور
الأوّل:
لقد ولّت عصور التقليد الأعمى والتعصّب للهوى، تفتّحت العقول وتيقّظت الأفكار، الحقيقة ضالّتها المنشودة، والعلماء متوافرون، والكتب موجودة.
وسيرى القارىً الكريم إلتزامنا في هذا الكتاب بقواعد البحث وآدابه، وأصول الاستدلال وأُسسه المنطقيّة، فلم نتمسّك إلاّ بكتب أهل السنة، ولم نستدل إلاّ بكلمات علماء تلك الطائفة، من غير تصرّف في شيء أو تحريف، مع ذكر القائل واسم كتابه بتعيين رقم الصفحة والجزء إنْ كانت طبعته في أكثر من جزء.
الثاني:
ويرويه أهل السنّة بأسانيدهم وطرقهم المتكثرة عن أكثر من ثلاثين من أصحاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وهو مخرّج في أكثر كتبهم من الصّحاح والسّنن والمسانيد والمعاجم...
فاستدلال علماء الشيعة بكتب أهل السنة ورواياتهم لا يعني عدم وجوده عندهم بطرقهم، وإنما هو للالزام والإحتجاج حسبما تقتضيه قواعد البحث والمناظرة، إذْ لا تكون كتب الشيعة حجةً على غير الشيعة.
الثالث:
فما معنى التشيع ؟
قال الحافظ ابن حجر: «والتشيع محبّة علي وتقديمه على الصحابة، فمن
والقائلون بتقديم أمير المؤمنين علي على أبي بكر وعمر ـ فضلاً عن عثمان ـ في الصحابة والتابعين كثيرون.
فمن الصّحابة من ذكرهم الحافظ ابن عبد البر القرطبي في (الاستيعاب) حيث قال:
«وروي عن سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وخباب، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن الأرقم: أنّ علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أولّ من أسلم.
وفضّله هؤلاء على غيره»(2) .
ومن التابعين وأتباعهم ذكر ابن قتيبة جماعةً في كتابه المعارف حيث قال: «الشيعة: الحارث الأعور، وصعصعة بن صوحان، والأصبغ بن نباته، وعطية العوفي، وطاووس، والأعمش، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو صادق، وسلمة بن كهيل، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وابراهيم النخعي، وحبّة بن جوين، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور بن المعتمر، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وفطر بن خليفة، والحسن بن صالح بن حي، وشريك، وأبو إسرائيل المّلائي، ومحمد بن فضيل، ووكيع، وحميد الرواسي، وزيد بن الحباب، والفضل بن دكين، والمسعود الأصغر، وعبيد الله بن موسى، وجرير بن عبد الحميد، وعبد الله بن داود، وهشيم، وسليمان التيمي، وعوف الأعرابي، وجعفر الضبيعي، ويحيى بن سعيد القطّان، وابن لهيعة، وهشام بن عمّار، والمغيرة
____________
(1) مقدمة فتح الباري: 460.
(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1090.
ومن العلماء والمحدّثين في القرون اللاحقة من الشيعة من لا يحصي عددهم إلاّ الله...
وقد اضطرب القوم واختلف موقفهم تجاه هؤلاء الروّاة من الصحابة والتابعين وتابعيهم... ولننقل عبارة الحافظ ابن حجر فإنه قال:
«فقد اختلف أهل السنة في قبول حديث من هذا سبيله، إذا كان معروفاً بالتحرّز من الكذب، مشهوراً بالسلامة من خوارم المروءة، موصوفاً بالديانة والعبادة. فقيل: يقبل مطلقاً، وقيل: يرّد مطلقاً، والثالث التفصيل بين أنْ يكون داعيةً لبدعته أو غير داعية، فيقبل غير الداعية ويرّد حديث الداعية. وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة، وادعى ابن حبّان إجماع اهل النقل عليه، لكن في دعوى ذلك نظر. ثم اختلف القائلون بهذا التفصيل، فبعضهم أطلق ذلك، وبعضهم زاده تفصيلاً فقال: إنْ اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيد بدعته ويزيّنه ويحسّنه ظاهراً فلا تقبل، وإنْ لم تشتمل فتقبل، وطرد بعضهم هذا التفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال: إنْ اشتملت روايته على ما يرّد بدعته قبل وإلاّ فلا. وعلى هذا إذا اشتملت رواية المبتدع سواء كان داعيةً أم يكن على ما لا تعلّق له ببدعته أصلاً هل ترّد مطلقاً أو تقبل مطلقاً ؟ مال أبو الفتح القشيري إلى تفصيل آخر فيه فقال: انْ وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو إخماداً لبدعته وإطفاءً لناره، وانْ لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث الاّ عنده ـ مع ما وصفنا من صدقه وتحرّزه عن الكذب واشتهاره بالدين وعدم تعلّق ذلك الحديث ببدعته ـ فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة
____________
(1) المعارف: 341.
أقول:
فالتشيع لا يضر بالوثاقة ولا يمنع من الإعتماد، وهذا ما نصَّ عليه الحافظ ابن حجر في غير موضعٍ، ففي كلامه حول «خالد بن مخلّد القطواني الكوفي» قال:
«خ م ت س ق ـ خالد بن مخلَّد القطواني الكوفي أبو الهيثم، من كبار شيوخ البخاري، روى عنه وروى عن واحدٍ عنه، قال العجلي: ثقة وفيه تشيّع. وقال ابن سعد: كان متشيّعاً مفرطاً. وقال صالح جزرة: ثقة إلا أنه يتشيّع. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
قلت: أمّا التشيّع فقد قدّمنا أنه ـ إذا كان ثبت الأخذ والأداء ـ لا يضرّه، سيّما ولم يكن داعية الى رأيه»(2) .
بل الرّفض غير مضر... قال الحافظ ابن حجر:
«خ ت ق ـ عبّاد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبو سعيد، رافضي مشهور، إلاّ أنه كان صدوقاً، وثّقة أبو حاتم، وقال الحاكم: كان ابن خزيمة إذا حدّث عنه يقول: حدّثنا الثقة في روايته المتّهم في رأيه عبّاد بن يعقوب، وقال ابن حبان: كان رافضيّاً داعية، وقال صالح بن محمد، كان يشتم عثمان رضي الله عنه. قلت: روى عنه البخاري في كتاب التوحيد حديثاً واحداً مقروناً وهو حديث ابن مسعود: أيّ العمل أفضل ؟. وله عند البخاري طريق أخرى من رواية غيره»(3) .
وقال الحافظ الذهبي في «أبان بن تغلب»:
«أبان بن تغلب [ م، عو ] الكوفي شيعي جلد، لكنّه صدوق فلنا صدقه
____________
(1) مقدمة فتح الباري: 382.
(2) مقدمة فتح الباري: 398.
(3) مقدمة فتح الباري: 410.
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحدّ الثقة العدالة والإتقان ؟ فكيف يكون عدلاً مَن هو صاحب بدعة ؟
وجوابه: إن البدعة على ضربين، فبدعة صغرى كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصّدق. فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة...»(1) .
لكنّ بعض المتعصّبين منهم يقدحون في الرجل إذا كان شيعيّاً ويكرهون الرواية عنه، ويعبّرون عنه بعباراتٍ شنيعة، بل حتى وإنْ كان من الصّحابة، مع أنّ المشهور بينهم ـ بل ادعي عليه الإجماع ـ عدالة الصحابة أجمعين، وإليك نموذجاً من ذلك:
قال الحافظ ابن حجر: «ع ـ عامر بن واثلة أبو الطفيل الليثي المكي، أثبت مسلم وغيره له الصحبة ـ وقال أبو علي ابن السكن: روي عنه رويته لرسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلّم. من وجوهٍ ثابتة، ولم يرو عنه من وجهٍ ثابت سماعه. وروى البخاري في التاريخ الأوسط عنه أنه قال: أدركت ثمان سنين من حياة النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم. وقال ابن عدي: له صحبة، وكان الخوارج يرمونه باتّصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته، وليس بحديثه بأس. وقال ابن المديني: قلت لجرير: أكان مغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل ؟ قال: نعم. وقال: صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: مكي ثقة. وكذا قال ابن سعد وزاد: كان متشيّعاً. قلت: أساء أبو محمد ابن حزم فضعّف أحاديث أبي الطفيل وقال: كان صاحب راية المختار الكذّاب.
____________
(1) ميزان الاعتدال 1/5.
الرابع:
ولعلّك تستغرب إذا ما سمعت أنّ القوم لم يتّفقوا حتّى على مثل (البخاري) و (مسلم) صاحبي الكتابين المعروفين بـ (الصحيحين) !... لكنّه أمر واقع... وإليك بعض العبارات الصّريحة في هذا الأمر المهم بالنسبة إلى الأهم الأشهر منهما وهو «البخاري».
قال الحافظ الذهبي بترجمة علي بن المديني بعد الكلام عليه: «وكذا امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحه، لهذا المعنى، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه (محمد) لأجل مسألة اللفظ. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة»(2) .
و(محمد) هو (البخاري).
ولأجل تكلّم الرجلين في البخاري، فقد أورده الذهبي في (الضعفاء) وقال:
____________
(1) مقدمة فتح الباري: 410.
(2) ميزان الاعتدال 3/138.
وقد اغتاظ السبكي والمناوي من صنيع الذهبي هذا، كما ستعلم.
لكنّ ابن أبي حاتم قد سبق الذّهبي في ذلك، فأورد البخاري في كتابه (الجرح والتعديل) ونصَّ على ترك أبيه وأبي زرعة الرواية عن البخاري، وقد نقل الذهبي ذلك بترجمة البخاري(2) .
وأضاف الذّهبي بترجمة البخاري تكلّم محمد بن يحيى الذهلي فيه وأنه قال: «من ذهب بعد هذا إلى محمد بن اسماعيل البخاري فاتهموه، فإنّه لا يحضر مجلسه إلاّ من كان على مثل مذهبه»(3) .
بل ذكر أنّ الذهلي أخرج البخاريَّ ومسلماً من مدينة نيسابور(4) .
وقال بترجمة الذهلي: «كان الذهلي شديد التمسك بالسّنة، قام على محمد بن اسماعيل لكونه أشار في مسألة خلق أفعال العباد إلى أنّ تلفّظ القارى بالقرآن مخلوق... وسافر ابن اسماعيل مختفياً من نيسابور، وتألّم من فعل محمد ابن يحيى...»(5) .
أقول:
فهذا طرف من تكلّم الأكابر من السّنة في محمد بن اسماعيل البخاري، ولو أردنا التوسّع بذكر جميع ما قيل فيه وفي مسلم لخرجنا عن وضع المقدّمة.
وكما ذكرنا من قبل، فقد اشتد غيظ بعض العلماء على الذهبي لنقل هذه
____________
(1) المغني في الضّعفاء 2/557.
(2) سير أعلام النبلاء 12/462.
(3) سير أعلام النبلاء 12/453.
(4) سير أعلام النبلاء 12/455.
(5) سير أعلام النبلاء 12/283.
«وممّا ينبغي أن يتفقّد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنّسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه بذلك.
وإليه أشار الرافعي بقوله: وينبغي أنْ يكون المزكّون برآء من الشحناء والعصبّية في المذهب، خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة، جرحوا بناءً على معتقدهم وهم المخطَّئون والمجروح مصيب.
وقد أشار شيخ الإسلام سيد المتأخرين تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه الاقتراح إلى هذا وقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدّثون والحكّام.
قلت: ومن أمثلته قول بعضهم في البخاري: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ. فيالله والمسلمين ! أيجوز لأحدٍ أن يقول: البخاري متروك، وهو حامل لواء الصناعة ومقدَّم أهل السنة والجماعة !...».
وقال المنّاوي: «زين الأمة، إفتخار الأئمة، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن، ساحب ذيل الفضل على ممرّ الزمان، الذي قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم منه. وقال بعضهم: إنه آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض. قال الذهبي: كان من أفراد العالم، مع الدين والورع والمتانة. هذا كلامه في (الكاشف).
ومع ذلك غلب عليه الغرض من أهل السنة، فقال في (كتاب الضعفاء والمتروكين): ما سلم من الكلام لأجل مسألة، تركه لأجلها الرازيّان. هذه عبارته،
الخامس:
فمنها:
ما أخرجه البخاري من حديث خِطبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: «إنّما أنا أخوك». قال الحافظ ابن حجر: «قال مغلطاي: في صحّة هذا الحديث نظر...»(2) .
ومنها:
ما أخرجه البخاري حول شفاعة إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه. قال الحافظ ابن حجر: «قد استشكل الاسماعيلي هذا الحديث من أصله وطعن في صحّته»(3) .
ومنها:
ما أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه من حديث صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على عبد الله بن أُبي، وأنه نزل في هذه القصّة قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم...). قال ابن حجر: «استشكل فهم التخيير من الآية، حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطّعن في صحة هذا الحديث، مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرّجوا الصحيح على تصحيحه» فذكر من____________
(1) فيض القدير 1/24.
(2) فتح الباري 11/26.
(3) فتح الباري 8/406.
ومنها:
ما أخرجه البخاري من حديث دعاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في نزول المطر، ثم قوله: «اللهم حوالينا ولاعلينا». وقد أبطله كبار الأئمة كبدر الدين العيني صاحب (عمدة القاري في شرح البخاري)، وكالدمياطي، والداودي وأبي عبد الملك، والكرماني صاحب (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)(2) .والحافظ ابن حجر الذي طالما دافع عن أحاديث البخاري قال: ـ بترجمة أسباط بن نصر، راوي حديث الدعاء المشار إليه ـ: «هو حديث منكر»(3) .
ومنها:
ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث شريك حول إسراء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي جاء فيه: «وذلك قبل أنْ يوحى إليه». فقد قال النووي بشرحه: «هو غلط لم يوافق عليه»(4) وتبعه الكرماني في شرح البخاري(5) وقال ابن قيّم الجوزيّة: «قد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظ حديث الاسراء»(6) .
ومنها:
ما أخرجه البخاري من حديث رجم القردة الزناة !!. قال ابن حجر: «قد استنكر ابن عبد البر قصّة عمرو بن ميمون هذه وقال: فيها إضافة الزنا إلى غير مكلَّف وإقامة الحدّ على البهائم، وهذا منكر عند أهل العلم»(7) .
ومنها:
ما أخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس في التفسير، وهو ثلاثة____________
(1) فتح الباري 8/271.
(2) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 7/46.
(3) تهذيب التهذيب 1/212.
(4) المنهاج في شرح صحيح مسلم 2/65 ـ 66.
(5) الكواكب الدراري 25/204.
(6) زاد المعاد في هدي خير العباد 2/49.
(7) فتح الباري 7/127.
ومنها:
ما أخرجه البخاري من حديث فيه سماع (مسروق بن الأجدع) من (أم رومان) وهي أم عائشة. قال كبار الأئمة كالخطيب البغدادي، وابن عبد البر، والقاضي عياض، والسهيلي، وابن سيد الناس، والمزّي، والذهبي، والعلائي، وغيرهم: هذا باطل. فراجع(2) .أقول:
هذه نماذج في هذا الباب... ولو كان لنا مجال لأوردنا غيرها.
____________
(1) فتح الباري. المقدمة 2/135 ـ 136.
(2) الاستيعاب 4/1937، الروض الأنف 6/440، عيون الأثر في المغازي والسير 2/101، فتح الباري 7/53.