ثمّ قال في الجواب عن شبهة هؤلاء: والادخال لا يستدعي حصول الموعود بلا توسّط شفاعة واستغفار، وعليه مبنى من قال: إنّ فائدة الاستغفار زيادة الكرامة والثواب، والاوّل هو الاولى، لانّ الدعاء بالادخال فيه صريح، وفي الثاني ضمنيّ، انتهى كلامه.
وعن بشر بن ذريح البصري، عن محمّد بن عليّ(عليهما السلام) في قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) قال: قال: (الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة).
وقال الرازي في هذه الاية: يعني به الشفاعة تعظيماً لنبيّه.
قال: عن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وابن عبّاس: إنّ هذا لهو الشفاعة في الاية.
يروى أنّه لما نزلت الاية قال(صلى الله عليه وآله وسلم): (إذن لا أرضى وواحد من أُمّتي في النار).
ثمّ قال: واعلم أنّ الحمل على الشفاعة متعيّن، ويدلّ عليهوجوه ذكرها هناك(1).
وفي «النهاية» لابن الاثير قال في ترجمة «وحا» من في حديث أنس: (شفاعتي لاهل الكبائر من أمّتي حتّى حكم وحاء)(2). قال: وهما قبيلتان جافيتان من وراء رمل يَبْرِيْنَ، ومثله قال في ترجمة «حَكَم».
وفي مرفوعة جابر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث له أنّه قال: (أنا سيّد ولد آدم ولا فخر،
____________
(1) التفسير الكبير للرازي.
(2) انظر كنز العمال 14/412.
وعن عبدالله بن عبّاس عن النبيّ أنّه قال: ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلاّ شفّعهم الله فيه(2).
إلى غير ذلك من الايات والروايات في إثبات عموم الشفاعة بما ورد من أعيان علماء السُّنّة والجماعة ومفسّريهم، مالا يحتمله هذا المختصر، فليراجع المطوّلات.
[تمويه في إنكار الشفاعة]
وبعدما أسلفناه وما سيأتي في معنى الاستشفاع بالاولياء، فلا يُصغى إلى شىء ممّا تكلّف به محمد بن عبد الوهّاب في رسالته من التمويه والمغالطة تبعاً لامامَيْهِ ابن القيّم وابن تيميّة بقوله:
فإن قال: إنّ النبيّ أُعطي الشفاعة وأطلبه مما أعطاه الله.
فالجواب: إنّ الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا ; يعني به الشرك، وقال (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً).
إن كنت تدعو الله أن يشفّعه فيك فأطعه في قوله: (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً).
____________
(1) مجمع الزوائد 10/376 و 380 عن الطبراني في الاوسط.
(2) مسلم 3/53، والترمذي 2/247، وابن ماجة 1/477، والنسائي 4/75، مسند أحمد 3/66 كلهم في الجنائز، وانظر كنز العمال 15/581، ومجمع الزوائد 5/292.
أقول: إعلم أنّ موضع المغالطة من كلامه، هو أنّه زعم أنّ الشفاعة هي شفع الغير مع الله في المسألة والدعوة لقضاء الحوائج.
ولم يَدْرِ المسكين أنّ الشفاعة ـ كما مرّ تعريفها في صدر المقام ـ هو شفع الغير وضمّه مع المستشفع للذهاب إلى الله وتوجّههما معاً إليه سبحانه، ودعاؤنا الشفيع دعوته لذلك، لا ما توهّمه المغالط.
[ليست الشفاعة بشرك]
وبعدما ثبتت الشفاعة إجمالاً وتفصيلاً، كتاباً وسنةً، إجماعاً وعقلاً، حيّاً كان الشفيع أو ميّتاً، فقد علم بالضرورة من الشريعة:
أنّها ليست بشرك.
وأنّ الاستشفاعات والتوسّلات لا تنافي شيئاً من التوحيد ولا الاخلاص.
وأنّ دعاء الصالحين والالتماس منهم إنّما هو لكي يدعو الله للعباد بالرحمة والمغفرة، فليس من الدعاء المنهيّ عنه.
وإنّما الدعاء المنهيّ عنه في قوله تعالى: (فَلاَ تَدْعوا مَعَ اللهِ أَحَداً) هو أنّ العبد يقرن الصالحين بالله في دعائه، ويسألهما معاً في عرض واحد، وذلك بقرينة لفظ «مع»، وكما هو معنى الشرك والتشريك في العبادة، فإنّ الاشراك هنا وضع المعبوديّة في غير الله.
وقوله تعالى عن إبليس: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ).
قال الرازي: أي بإشراككم إيّاي مع الله في الطاعة.
وقوله تعالى عن موسى: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي).
بجعله شريكاً له معه في النبوّة.
وأمّا إذا لم يكن سؤاله حقيقة إلاّ من الله، ولم يكن له النظر مستقلاًّ إلاّ إليه تعالى دون غيره، فيدعو الله ويسأله بوجه نبيّه، فهذا ليس من الشرك في شىء.
يفصح منه لفظ الشرك المشتقّ من مادّة الاشراك بجعل الشريكين على نمط واحد.
فلو سأل العبد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يغفر له ذنبه، أو سأل النبيّ مع الله بقوله: يا ألله ويا نبيّ الله اغفرا لي ذنبي، كان ذلك شركاً منه.
وأمّا لو سأله أن يسأل الله غفران ذنبه، فهذا من غفران الذنب الموعود من الله بالشفاعة، والسؤال منه تعالى، لا من النبيّ.
وإنّما المسؤول من النبيّ التماس دعائه من الله تعالى ليسأله بوجهه.
[صور من الادعية المأثورة]
وهذه دعواتنا المأثورة عن الائمّة(عليهم السلام)، حيث نقول:
(اللّهمّ إن كانت الذنوب والخطايا قد أخلقت وجهي، فإنّي أسألك بوجه حبيبك محمّد).
وفي الدعاء عند النوافل الليليّة:
(اللّهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأُقدّمهم بين يدي حوائجي في الدنيا والاخرة، فاجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنيا والاخرة ومن
أللّهمّ ارحمني بهم، ولا تعذبّني بهم...) الدعاء.
فليس المراد بالاستغاثات والتوسّلات إلاّ طلب الدعاء من المستغاث، كما في قوله عزّوجلّ في القدسيّات: (يا موسى ادعُني بلسان لم تعصِني به، فقال: يا ربّ وأين ذلك؟ فقال: بلسان الغير).
وأيضاً، فإنّ بني إسرائيل قد دعوا الله بلسان نبيّهم في مواضع من القرآن ; حيث حكى الله عنهم في قوله تعالى: (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ)الايات.
فأنِصفْ وراجع.
أين هذا من دعاء الغير أو شركة الغير مع الله في الدعاء؟!
سُبحانك إنْ هذا إلاّ بهتان عظيم.
وكيف كان، فقد عرفت أنّ الايات والروايات لاتدلّ على النهي بشيء من ذلك كلّه، بل الايات على خلافه كما عرفت.
[الاستشفاع بالاموات]
ثمّ، ومن أوهن المناقشات والشفاعات والتوسّلات، هو المناقشة في جوازها بعد موت الشفيع.
وذلك لثبوت جوازها مطلقاً ; من غير فرق بين النشآت.
بعد صريح عبارته في رسالته بشفاعة الملائكة والاولياء والافراط.
وصريح الايات بحياتهم المستقرّة بعد موتهم.
ومع اتّحاد المناط في الغايات.
وحكم العقل بحسن الواسطة من غير تخصيص ولا تبعيض.
قد أوضحنا الجواب عن الاُولى.
[الزيارة والعبادة]
وأمّا الثانية: فأمّا قوله فيما نسجه:
«ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الاولياء التي لا يقدر عليها إلاّ الله...» إلى قوله: «وأمّا بعد موته ـ يعني به النبيّ ـ فحاشا إنّهم ما سألوه عند قبره، بل أنكر السلف...» إلى آخر كلماته.
فأقول:
وليت شعري ما هذا النكير؟!
وما قياس الانبياء والشهداء ـ المصرّح بحياتهم المستقرّة في القرآن ـ بسائر الموتى؟!
وما معنى إضافة الاستغاثة إلى العبادة؟!
وما المانع من الاستغاثة عند قبور الاولياء؟!
وما المراد بقوله: «لا يقدر عليها إلاّ الله»؟!
وما هذا الخبط؟!
ثمّ وما هذا التحاشي والخلط ودعوى الانكار ؟
أفعلى عمد تركوا كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم؟
فإن كان المانع منها هو شبهة الشرك، فقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.
فليست الشفاعة والاستشفاع إلاّ قسماً من الدعاء الشامل لجميع الناس، واختصاص الاولياء والخواصّ بها باعتبار قبولها.
وقد ورد في باب زيارة النبيّ ـ كما عن حُجّة الاسلام الغزالي ـ قال: «ثمّ ترجع وتقف عند رأس رسول الله ـ بين القبر والاُسطوانة اليوم ـ وتستقبل القبلة...» إلى قوله: «ثمّ تقول: (أللّهمّ إنّك قلت ـ وقولك الحقّ.. (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ وَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيماً).
أللّهمّ إنّا قد سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، وقصدنا نبيّك متشفّعين به إليك في ذنوبنا وما أثقل ظهورنا من أوزارنا، تائبين من زللنا)...» إلى قوله: (أللّهمّ لا تجعله آخر العهد من قبر نبيّك ومن حرمك يا أرحم الراحمين).
ومعاذ الله أن يرفع المسلمون أحداً من هؤلاء المَزُورين عن مقام العبوديّة، أو يذكرهم في الدعاء بغير الاستشفاع والتوسّل.
فأين وصمة الشرك؟!
ثم وما حديث التبعيض والتخصيص؟!
وهل ظفر المتكلّف بعد ما تقدّم في الشفاعات والتوسّلات بآية أو رواية تخصّص بها العمومات، أو تقيد بها المطلقات ؟
أو يناقض بها ما صرّح به من قبل بقوله: «فصحّ أنّ الملائكة يشفعون، والاوليآء يشفعون، والافراط يشفعون» ؟ !
وليت شعري، فإن كان المناط في الشرك هو مجرّد التوسّل بالغير والاستشفاع به.
فهو الموجود عيناً في الاخرة، كما ورد أنّ الناس يسألونهم الشفاعة يوم
وإذا كانت المسألة والتوسّل موجوداً في النشأتين، والمناط قائم في المقامين.
فمن أين جاءت هذه الخصوصية؟!
على أنّه يلزم منه أن يكون الباطل بما هو باطل ينقلب في الاخرة حقّاً، والحقّ بما هو حقّ يكون في الدنيا باطلاً وشركاً.
وهذا هو التناقض البيّن وصريح الانقلاب المحال.
[المزورون أحياء في قبورهم]
وإن كان المانع منهما هو الموت فقد أثبت محكم القرآن حياتهم المستقرّة حياةً مخصوصة بهم، فيسمعون ويعقلون ويعرفون من يخاطبهم.
ولا غرو في الحياة بعد الموت مع الاقرار بعموم قدرته تعالى، فجاعل الروح في النطفة يضعها في التراب وحيث يشاء.
فلو كان خطاب الموتى ممّا يوجب عند الجاهل عبثاً، فلا يوجب كفراً وشركاً.
وبالجملة: فإطلاق الموت وخصوصيّة كيفيّة عود الاجسام المختصّة بالقيامة، ممّا لا ينافي شىء منها لحياتهم المستقرّة الثابتة لهم بعد الموت.
وعليه اعتقاد أعاظم المحققين من علماء السُّنّة والجماعة.
ويعاضده الاحاديث المعتبرة كما لا يخفى.
وكما في تفسير قوله تعالى: (واسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا).
وكان الاُستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعي يقول: إنّ الانبياء لا تبلى أجسادهم، ولا تأكل الارض منهم شيئاً، ولقد التقى نبيّنا مع
وقال الرازي في قوله تعالى: (بَلْ أَحْيَاءٌ):
«إنّهم في الوقت أحياء كان الله أحياهم لايصال الثواب إليهم، وهذا قول أكثر المفسّرين».
ثمّ أخذ يستدلّ على حياتهم المستقرّة بوجوه، سادسها: زيارة قبور الشهداء وتعظيمها انتهى.
على أنّهم يسمعون السلام، ويفهمون الكلام.
وأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغه صلوات المصلّين عليه، ويسمعهم، وهو يعلم بهم وبمقامهم، كما ورد في الصحاح:
منها: ما عن سنن أبي داود، رواه عن أبي هريرة قال: قال(صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ السلام)(1).
وعن صحيح النسائي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّ لله ملائكة في الارض يبلّغوني من أُمّتي السلام)(2).
وفي مرفوعة ابن عبّاس عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ... ـ إلى قوله ـ: فإنّ الله حرّم على الارض لحوم الانبياء)(3).
____________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 5/245 باب زيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومجمع الزوائد للهيثمي 10/162 عن الطبراني في الاوسط، وكنز العمال 1/491 عن أبي داود.
(2) سنن النسائي 3/43 في نوع آخر من التشهّد.
(3) سنن النسائي 3/91، وسنن الدارمي 1/369، وسنن ابن ماجة 1/345 و 524، ومستدرك الحاكم 1/278 و 4/560، والسنن الكبرى للبيهقي 3/249، وكنز العمال 1/499 و 7/708.
وفي آخر قال: (إنّ الله وكّل ملَكاً يُسمعني أقوال الخلائق، يقوم على قبري، فلا يصلّي عليّ أحد إلاّ قال: يا محمّد إنّ فلان بن فلان يصلّي عليك، صلّوا عليّ حيثما كنتم، فإنّ صلاتكم تبلغني)(2).
كما في المرويّ عن الدار قطني في السنن عنه(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)(3).
وعن ابن عمر ـ مرفوعاً عنه ـ أنّه قال: (من جاءني زائراً ليس له حاجة إلاّ زيارتي، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)(4).
وفي آخر: (من زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً).
ثمّ إنّ هؤلاء المزورين من الاولياء والصالحين، إن هم إلاّ عباد الله الذين تشرّفوا بطاعتهم وعبادتهم وتوحيدهم له جلّ شأنه، ولهم التقدّم بسابقتهم في
____________
(1) لم أجده، لكن في مجمع الزوائد 4/2: من حجّ، فزار قبري في مماتي كان كمن زارني في حياتي، رواه الطبراني في الكبير والاوسط.
(2) مجمع الزوائد 10/162 عن الطبراني في الكبير والاوسط، وكنز العمال 1/494 عن الفردوس.
(3) مجمع الزوائد 4/2 عن البزار.
(4) مجمع الزوائد 4/2 عن الطبراني في الكبير والاوسط.
وقد ورد في الشريعة المطهّرة والسُّنّة النبويّة من الرجحان في زيارة سائر المؤمنين من أهل القبور والتسليم عليهم، فكيف بهؤلاء؟!
وهل يكون التسليم على مثل هؤلاء الصالحين شِركاً وقد سلّم الله ـ عزّوجلّ ـ في كتابه على آحاد من الانبياء والمرسلين، فقال: (سَلاَمٌ عَلَى نُوح فِي الْعَالَمِينَ سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَ هَرُونَ).
وقد سلّم على يحيى وإلْياسين، وصلّى على الصابرين من المؤمنين، وأمر رسوله بالسلام عليهم.
وأوجب على المسلمين كافّة أن يُخاطبوا نبيّهم في كلّ يوم خمس مرّات إلى يوم القيامة بالصلوات عليه فيقولوا: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته).
وفرض السلام على عباد الله الصالحين من جميع المؤمنين السالفين منهم واللاحقين.
وأن لا يتمّ لاحد صلاته إلاّ بالصلوات على نبيّه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)الطاهرين. ولَنِعْم ما قال الشافعي، كما روى عنه ابن حجر في «الصواعق»:
[دفاع الالوسي]
وأمّا ما ذكره ابن الالوسي البغدادي فيما رّوج به أمر الوهابيين من «تاريخ نجد» ـ في صفحة 48 ـ قال:
والذي اعتقدوه في النبيّ أنّ رتبته أعلى مراتب المخلوقين على الاطلاق،
ففيه أوّلاً: أنّ صراحة الايات الُمحكمة في التنزيل، كما تراها ممّا تعمّ النبيّ وغيره من الشهداء والاولياء ممّن قُتل في سبيل الله، فلا اختصاص لها بالنبيّ، وإلاّ لافرده الله بالذكر دونهم.
وإذا كان كذلك فيتبعها لا محالة آثارها ولوازمها، من السلام والدعاء والتوسّل، كما في حياتهم.
وثانياً: أنّ المراد من الحياة الثابتة لهم بقوله تعالى: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)إنّما هو الاكمل والابلغ من الحياة البرزخيّة الثابتة لعموم الموتى، وذلك لوجهين:
الاوّل: تخصيص الشهداء بالذكر هنا دونهم.
والثاني: إفراد سائر الموتى بالذكر في آية أُخرى، لقوله تعالى فيهم: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً).
وقال في حياة الكفّار منهم: (أَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً) ; وذلك لانّ حياة القيامة ليس فيها بُكرة ولا عشيّ. هذا مع رعاية الافضليّة.
وفي المعتبرة أنّه لما سُئل النبيّ عن تكلّم الموتى، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) (نعم إنّهم يتزاورون).
وشواهد المقام لا تُحصى.
فقد ظهر فساد قوله في رسالته: ونحن أنكرنا الاستغاثة التي يفعلونها عند قبور الاولياء، التي لا يقدر عليها إلاّ الله.
وأمّا رفع الحاجة والسؤال في كلّ حال من الاحوال إلى الله القادر على كلّ شىء فممّا ليس فيه إشكال.
[السنة والسيرة في زيارة القبور]
وأما شدّة إنكارهم لزيارة القبور والوقوف عليها والدعاء لديها.
فالجواب عنه فضلاً عمّا عرفت: هو البيان بدليل القرآن وجميع المأثور في زيارة القبور وما ورد في فضلها، وأنها من السُّنّة، وما ورد من الاعمال والادعية هناك.
فضلاً عن سيرة رسول الله في زيارته شهداء أُحد، وحضوره لزيارة مقابر البقيع، ووقوفه عليها في الترحيم والتسليم، وأمره وحثّه وترغيبه وتقريره عليها.
كما ورد قوله: (كنتُ قد نهيتُكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنّها تذكّركم الاخرة)(1).
____________
(1) سنن النسائي 4/90 و 7/235، وفي مسلم 3/65 وفيه: تذكّر الموت، وكذا ابن ماجة 1/501، ومستدرك الحاكم 1/375، والسنن الكبرى للبيهقي 4/76، وعقد البيهقي باباً لخصوص زيارة القبور في البقيع فلاحظ 5/249، ولاحظ مجمع الزوائد 3/58 و 4/26، وكنز العمال 5/108 و 377 و 859، وانظر 15/646 وما بعدها.
وقد روى حجّة الاسلام الغزالي في الاحياء عن ابن أبي مليكة، قال: «أقبلت عائشة يوماً من المقابر، فقلت: يا أُمّ المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبدالرحمن. فقلت: أليس كان رسول الله نهى عنها؟ قالت: نعم، ثمّ أمر بها».
والسرّ في النهي الاوّل: أنه كان ذلك بدوَ الاسلام، وفي زيارة القبور وتذكار الموتى كان باعثاً على الجبن عن الجهاد، حتّى إذا قوي الاسلام أمرهم بها.
ومثله غير عزيز.
وقد سُئل عليّ(عليه السلام) في الخضاب عن قول النبيّ (غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود) فقال: (إنّما قال(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك والدين قلّ، فأما الان وقد اتّسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامرؤ وما اختار).
وفي الاحياء عن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (زوروا موتاكم، وسلّموا عليهم، فإن لكم فيهم عبرة).
وفيه عن نافع، عن ابن عمر: أنّه كان لا يمرّ بقبر أحد إلاّ وقف عليه، وسلّم عليه.
وكانت فاطمة بنت النبيّ تزور قبر عمّها حمزة في الايّام، فتصلّي وتبكي عنده.
وفيه: قال قال النبيّ: (من زار قبر أبويه أو أحدهما في كلّ جمعة غُفر له وكُتب بَرّاً).
وقال: قال سليمان بن سحيم: «رأيت رسول الله في النوم قلنا: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك يُسلّمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأردّ عليهم».
وقد تواترت الاحاديث الصحيحة الواردة عن آل محمد وحثّهم على زيارة الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام).
[ابن تيمية يعترف بمشروعية الزيارة]
وقال أحمد بن تيميّة في رسالته التي عملها في «مناسك الحج»(1): «فالزيارة الشرعية المقصود بها السلام على الميّت والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنّة أن يسلّم على الميّت، ويدعو له ; سواء كان نبيّاً أو غير نبيّ، وكما كان النبيّ يأمر أصحابه إذا زار القبور أن يقول أحدهم: السلام عليكم أهل الديار... إلى آخر الزيارة.
قال: وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة.
وفي المنقول عن كتاب له في فتاواه (مسألة 22)(2) قال: «لو سافر إلى المسجد النبوي، ثم ذهب معه إلى قبا، فهذا يستحبّ، كما يستحبّ زيارة أهل البقيع
____________
(1) صفحة 392.
(2) ص186.
وأما الدعاء عندها فلقو له تعالى: (وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ).
حيث ذكر المفسّرون ـ كأبي السعود والامام الرازي وغيرهم من أعاظم المفسّرين ـ: أنّ النبيّ كان من عادته إذا دُفن الميّت، وقف على قبره ساعة، ودعا له.
ففي الاية دلالة على أنّ القيام على القبور للدعاء عبادة مشروعة، ولولا ذلك لم يخصّ بالنهي عن الكافر.
[إسلام السلفية والوهابية]
وبها استدلّ أيضاً شيخ الوهّابية ومؤسّس ديانتهم أحمد بن تيمية فيما نقل عنه من كتاب له في فتاواه (في جواب مسألة 518)(1) قال:
«فأمّا الزيارة الشرعية فهي من جنس الصلاة على الميّت ; يقصد بها الدعاء للميّت، كما يقصد بالصلاة عليه، كما قال الله في حقّ المنافقين (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) فلمّا نهى عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، دلّ ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلّة الحكم على أنّ ذلك مشروع في حقّ المؤمنين.
والقيام على قبره بعد الدفن هو من جنس الصلاة عليه قبل الدفن ; يُراد به الدعاء له.
وهذا هو الذي نطقت به السُّنّة، واستحبّه السلف عند زيارة قبور الانبياء
____________
(1) مجلد 4 ص306.
انتهى كلامه على غلوّهم فيه وغلوّه في تحريم إتيان القبور والوقوف عليها والدعاء لديها وقراءة القرآن عندها.
وقد أورد الغزالي أيضا في «الاحياء» عن محمد بن أحمد المروزي، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد، واجعلوا ثواب ذلك لاهل المقابر، فإنه يصل إليهم...
إلى غير ذلك.
وبالجملة: فإذا كان الامر كذلك.
فما معنى تخصيص جواز زيارة القبور بالنبيّ خاصّة دون غيره.
وما خصوصية الحاضر دون السفر إليه وشدّ الرحل نحوه؟!
أليس هذا هو التقوّل بالغيب والفتوى في دين الله بالريب؟!
هذا، وأصالة الجواز فيما لم يرد فيه النهي كما تراها في الكّل محكّمة، وليست بمخصّصة، وعلى مدّعيه الاثبات، ودونه خرط القتاد.
أوليس قد صحّ ما ورد عن الغزالي عن النبي أنه قال: (من وجد سعة ولم يغدُ إليّ فقد جفاني).
فإنّ وجدان السعة إنما هو يصح للمسافر الذي يشدّ الرحل إليه.
[حديث لا تشدّ الرحال...]
ومن العجب تمسّكهم في ذلك بحديث: (لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد) المروي عن أبي هريرة.
مع أنّ ذكر المساجد في المستثنى بعد تسليم الحديث وصحّته، دليل على أنّ المستثنى منه هو خصوص المساجد، لا مطلق السفر ; أي لا تُشدّ الرحال إلى
فإن قالوا هناك بالتخصيص قلنا فيها أيضاً، وإن قالوا بالتخصّص فكذلك قلنا فيها.
[المؤلّفات في جواز الزيارات]
هذا مع ما روى بعض أجلّة الاعلام بما شاهد ممّا أُلّف وصُنِّف في هذا المقام.
فمنها: كتاب «شفاء السقام في زيارة خير الانام»، «شنّ الغارة على من أنكر فضل الزيارة) تأليف قاضي قضاة المسلمين في القرن الثامن، الشيخ الحافظ تقي الدين أبي الحسن السبكي، المطبوع بمصر ـ القاهرة، المرتّب على أبواب في إثبات حياة الانبياء والشفاعة وفضل الزيارة والسفر إليها ومسنونيتها، وأنها من القربة، وأبواب في الاستغاثات والتوسّلات.
ومنها: «الجوهر المنظّم في زيارة قبر النبي المكرّم» تأليف أحمد بن حجر الشافعي كذلك...
إلى غير ذلك من المؤلفات.
[تناقض التصرّفات]
وأما قوله فيما اعترف به من حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّه يسمع سلام من يسلّم
وإلاّ، فلِمَ لم يُراعوا بالامس حرمته في حرمه وضريحه، وقاتلوا وقتلوا من المسلمين حول حرمه وحماه ; ممّن يستغيث برسول الله ; وذلك بمراءىً منه ومسمع فيسمعه إغاثته بقوله: وا محمّداه !(1)
والناس إلى اليوم يُضربون على قول: «يا رسول الله» ! ؟
[لا فرق بين حياة الرسول وموته في تعظيمه]
وأيضاً ما يرون هؤلاء في قول الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ)، وكذا قوله تعالى: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) الاية.
هل هي من الاحكام الباقية إلى القيامة أم لا؟
فإن قالوا: لا، فقد كذبوا وخالفوا كتاب الله والسيرة المستمّرة وإجماع الاُمّة.
وإلاّ فليخبرونا ما الوجه في ذلك ؟
ولْيذعنوا أنها ليس إلاّ لحياته ولمعاملة الاُمّة معه معاملة الاحياء.
والعجب ممّن يظهر التحاشي، وينكر إنكار السلف على من قصد دعاء الله عند القبر، وقد شاع ما ورد في الكتب المعتبرة من فعل أعاظم الصحابة، من الشيخين وغيرهما إلى زمان التابعين والخلفاء.
ولم يزالوا خلفاً عن سلف يتشرّفون بزيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتبرّكون بحرمه وتقبيل قبره ومنبره من خارج الحرم، بعدما كانوايدخلون عليه في بُرهة من
____________
(1) لقد انتشر نبأ قتل الوهابية للمسلمين اللاجئين بحرم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع كتب التاريخ، فراجع.
ثمّ بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حول القبر، وبقي كذلك إلى أن بنوا جدارين من ركني القبر الشماليّين، وحرّفوهما حتّى التقيا ; لئلاّ يتمكّن أحد من استقبال القبر.
هذا ولم تزل الحجرة مزاراً للمؤمنين معاذاً للاّئذين.
ومن أحاط خبراً بتاريخ السلف وترجمة أحوال مهاجري الصحابة علم أنّهم كانوا كثيراً ما يقصدون المدينة لادراك زيارة الحجرة المنوّرة.
ولولا خوف الاطالة لاتيتُ على ذكرهم ولملاتُ هذا الكرّاس من تراجمهم.
هذا، ولم ينكر عليهم لا الشيخان ولا كبار الصحابة بشيء.
وهذا أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أتى بعد موت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ووقف على قبره الشريف، وخاطبه بقوله: (طبت حيّاً، وطبت ميّتاً... إلى قوله: بأبي أنت وأُمّي اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك وهمّك...) إلى آخر كلماته.
ووقف أيضاً يوم دفنه فاطمةَ (عليها السلام) على قبره، وخاطبه بقوله: (السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة بفنائك، البائتة في الثرى ببقعتك. قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي...) إلى آخر كلماته.
وهذا الحسين بن علي(عليهما السلام) سبطه وفرخه ; لما أراد المسير إلى العراق، أتى قبر جدّه وضريحه ثلاثة أيّام، زائراً مودّعاً داعياً مصلّياً، سائلاً منه التكليف لامره وحرمه وصحبه ; مخاطباً إيّاه بقوله: (يا جدّاه أنا الحسين بن فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلّفته في أُمّتك).
أم كان يسأله من أمره وتكليفه ؟
ولم يزل حتّى أجابه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (اُخرج إلى العراق، فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً...) إلى آخر ما أجابه من أمر حرمه وعيالاته.
وبالجملة: فإن كان المراد من النكير مجرّد الزيارة للقبور والتبرّك بها والصلوات والدعاء عندها، فقد عرفت أنه أمر راجح مسنون، وستعرف الامر بها في العمومات من الايات والقرآن العظيم، فانتظر المقام الثالث.
وإن أراد من ذلك عبادتها واتّخاذها ـ معاذ الله ـ آلهة تُعبد من دون الله، فحاشا، ثمّ حاشا من ذلك.
حيث لم نَرَ ولم نشهد ولم نسمع أنّ أحداً من المسلمين اعتقد بشيء من ذلك، أو خطر بباله، فكيف بالشيعة الاماميّة، وهم أوّل الموحّدين، وأحوطهم في تقديس الله ربّ العالمين، وأدقّهم في تقديسه ومعرفته(صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ ورثوا وأخذوا علومهم ومعارفهم عن مهابط الوحي والتنزيل؟!
فما معنى إنكار التبرّك بالقبور وزيارتها وتعاهدها، وبناء القِباب عليها والوقوف عندها؟!
وأيّ وجه للرمي بأنّها وسيلة للشرك؟!
وقد علمت أنّه ليس ذلك إلاّ للغايات الدينية، حفظاً لاثارهم وقبورهم الكريمة، وصيانة عن الاندراس والانطماس وفوات انتفاع المؤمنين بزيارتهم، والاسراج بها لتلاوة القرآن وذكر الله عندها.
أو ما تقدّم أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع، وإلاّ لكان الوهّابيّون الخاضعون لشهواتهم العابدون لاهوائهم في معاصيهم كفّاراً.
وإنّما العبادة هي الخضوع الخاصّ المقرون بالاخلاص عند أمر الله الواجب العظيم لذاته.
[تعظيم ما أمر الله، هو من عبادة الله وطاعته]
على أنّ تعظيم المأمور به لتعظيم أمر الله ـ عزّ وجلّ ـ إنّما هو في الحقيقة عبادة الله وتعظيمه تعالى ; من غير فرق بين أن يكون ذلك المأمور به إنساناً أو حجراً أو مدراً أو غيرها، كالامر بالسجود لادم فإنّه كان تعظيماً لامر الله تعالى وعبادة له، كما أنّه كان للملائكة امتحاناً، ولادم تشريفاً، فإنّ الغايات تتعدّد بالاعتبارات.
وكذلك أمر الشارع بفرض الطواف على أحجار البيت، وتقبيل الحجر الاسود واستلام الاركان والتزام المستجار.
وإلاّ لكان الامر بجميع ذلك أمراً بالشرك.
فمن تبّرك بشيء لامر الله، كان في الحقيقة عبادة الامر به.
وهذا عبدالله بن أحمد بن حنبل ـ كما هو المروي عن كتاب «العلل والسؤالات» ـ قال: سألتُ أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله، ويتبّرك بمسّه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله.
فقال: لا بأس به.
فالتواضع والتبرّك والاكرام والاحترام لما هو معظَّم عند الله، إنّما هو من تعظيم الله.
كما أنّ تعظيم بيوته ومساجده وقرآنه، بل والجلد والغلاف منه، إنّما هو لانتسابها إلى الله.
فمن قبّل الحجر الاسود أو عظّم البيت أو استلم الاركان أو وجد شيئاً من آيات القرآن وكلماته ملقىً مهاناً، فبادر إليها برفعها وتعظيمها وتقبيلها، فإنّما قبّل
ونعم ما قال العامري:
كلا، وليس استلام الحجر إلاّ لاستحضار [معنى] المبايعة لله على طاعته، والتصميم من المكلف لعزيمته على الوفاء ببيعته (وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).
ولذلك قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (الحجر الاسود يمين الله في الارض ; يصافح بها خلقه، كما يصافح الرجل أخاه).
ولـمّا قبّله عمر، قال: «لاعلم إنّك حجر ; لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقبّلك لما قبّلتك»(1).
فقال عليّ: (يا عمرُ مَهْ بل يضرّ وينفع، فإنّ الله سبحانه أخذالميثاق على بني آدم حيث يقول:(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الاية، القمه هذا الحجر ليكون شاهداً عليهم بأداء أمانتهم، وذلك معنى قول الانسان عند استلامه: (أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته ;لتشهد لي عند ربّك بالموافاة)(2)
____________
(1) الحديث إلى هنا في صحيح البخاري 2/160، ومسلم 4/66، سنن النسائي 5/227، ولاحظ التخريج التالي.
(2) أورد جواب علي(عليه السلام) لعمر، الحاكم في المستدرك على الصحيحين 1/458 وفي آخره:
فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لستَ فيهم، يا أبا حسن.وأورده في كنزالعمّال (5/177) رقم 12521 عن ابن الجنديّ في فضائل مكة وأبي الحسن القطّان في الطوالات والمستدرك وعبد الرزّاق في الجامع.
أقول: ونقله الاميني فى الغدير (6/103) وفى الطبعة الحديثة (6/148-149) عن الجامع الكبير للسيوطي كما في ترتيبه (3/35) وأضاف: تاريخ عمر لابن الجوزي(106) وفي طبعة (115) وإرشاد الساري للقسطلاني(3/195) وفي طبعة (4/135)ح 1597 وعمدة القاري للعيني (4/606) وفي طبعة (9/240) والازرقي في أخبار مكّة (1/323) والاحسان في تقريب صحيح ابن حبّان (9/130) ح 3821 و3822 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد(3/122) وفي طبعة (12/100)الخطبة 223 والفتوحات الاسلاميّة لاحمد زيني دحلان (2/486) وفي طبعة (2/318).
وهكذا أسرار السعي والهرولة بين الصفا والمروة والوقوفين والرمي والهدي...
إلى غير ذلك من الاحكام الشرعية، فإنّ لكلٍّ منها أسراراً إلهيّة وحكماً ومصالح روحية، كما هي المروية عن أهل بيت العصمة.
والمسكين المحروم منها هو الجامد على الظواهر، القاصر عن إدراكها.
[زيارة القبور سنّة نبويّة وغايتها]
وكما أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المشرّع لزيارة قبور المؤمنين المُسِنّ لها ; بتعاهدها والوقوف لديها والدعاء عندها، فقد أشار إلى بعض غاياتها ومصالحها فيما تقدّم من الصحيح بقوله: (ألا فزوروها، فإنها تذكّركم الاخرة).
وفي حديث آخر المروي عن الحاكم عن أبي ذر: (زر القبور تذكر بها الاخرة).
وما رواه الغزالي عن ابن أبي مليكة قال: (زوروا موتاكم وسلّموا عليهم، فإنّ لكم فيهم عبرة).
إلى غير ذلك من الغايات.
وذلك لان الحضور عند المزور إنّما يمثّل للزائر شخصيات المزور بجوامع مآثره ومجامع صفاته وآثاره، ولا سيّما إذا كان المزور من أكابر الاولياء والشهداء ; ممّن له في الاسلام ـ لهمّته وسابقته وعلمه وزهده وفتاواه ـ مقامات تاريخية ومواقف كريمة ومزايا عظيمة.
فتُلقي الزيارة على الزائرين ـ حينئذ ـ أبحاثاً جليّة، علميّة مبدئيّة مَعاديّة أخلاقيّة اجتماعيّة، يعتبر بها حسبما يتجلّى له من الحكم والمصالح العائدة إلى النفس التي لا ينبغي تفويتها، ويجب على الشارع الرؤوف الرحيم الحريص على تربية الاُمّة التنبيه عليها.
فالظاهريّة بجمودهم غَلَوا وأفرطوا فقتلوا حقائق الديانة، كغُلُوّ الباطنية في تفريطهم واعتبارهم القشريّة لظواهر الكتاب والسُّنّة.
فكأنّ الفريقين تظاهرا على قتل الشريعة ظهراً وبطناً.
مع أنّ الاحرى لهم التحرّي إلى التوسّط والاعتدال، وسلوكهم في الدين مسلك النبيّ محمّد والال.