الصفحة 59

[بناء المشاهد والمزارات عمل شرعيّ]

ثمّ بعدما عرفت الغايات الدينية لبناء القباب وزيارتها وتعاهدها، فلا يخفى عليك أنه ليس في بناء القباب وتعليتها تجديداً للقبر، وإنّما هو وضع علامة عليها بعيدة عنها ; لتكون كما عرفت دلالة وعَلَماً على المزور، وحفظاً لبقاء الاثار، وتوصّلاً لزيارة الاطهار، وإرغاماً لغير المسلمين من الكفّار، وتعظيماً لشعائر الله المندوب إليها بالرفع والتشييد، ومعاونة على البّر لزوّارهم، واستكثاراً لتلاوة القرآن وذكر الله لديهم، وإهداء ثوابها لهم وإليهم.

كلّ هذا تقرّباً بالمسنونات، وأداء لحقّ سابقتهم في الاسلام، ووقاية للزائرين من الحرّ والبرد.

أو ليسوا من كبار الصحابة والتابعين ودعائم الدين وأئمّة المسلمين ؟ ؟

ومن الواضح غير الخفيّ أنّ التعظيم ليس لقبورهم بما هي حفرة وتراب، بل إنّما هو لذلك الشأن العظيم لهم في الاسلام.

أو ليس عمر أوّل من بنى قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)وسوّاه باللبن ؟ !

واقتدى به بعده الخلفاء خلفاً عن سلف من تسقيفه وعمارة ما حوله؟!

كما بنى عثمان المسجد بعد ذلك بالحجارة المنقوشة إلى أن بنوه بأحسن بناء.

أو ما كان قصد عمر والخلفاء من بعده هو التعظيم لشعائر الله.

أو هل قصد عمر بفعله هذا عبادة قبره(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعله وسيلة للشرك بربّه، حاشاه؟!

هذا، ولم يكن وضع القباب على القبور حادثاً في هذه القرون، بل كان ثابتاً في القرون السالفة من قبل الهجرة إلى أعصار الصحابة والتابعين والخلفاء الراشدين.

كما يظهر من تراجم الماضين وأحوالهم في الكتب المعتبرة، وأنّ للمعتبر بها

الصفحة 60
وبالاثار الباقية منها لعبرة.

فمنها قبر إبراهيم الخليل بفلسطين، وقبور سائر الانبياء السالفين ببيت المقدس.

وبمكّة في الحجر قبر إسماعيل وأُمّه هاجر، وفي تستر قبر دانيال... إلى غيرها من القبور وقبابها في أقطار العالم.

وكذلك تعلية القبور في الاسلام، فهذا «صحيح البخاري» فيما رواه عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبّان في زمن عثمان، وإنّ أشدّنا وثبةً الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه.

وقال: قال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجة فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمّه يزيد بن ثابت قال: إنّما كره ذلك لمن أحدث عليه.

وقال نافع: كان ابن عمر يجلس على القبر. وفيه أيضاً بإسناده إلى أبي بكر بن عباس عن سفيان التمار: أنه حدّثه: أنه رأى قبر النبيّ مسنَّماً.

وهذا التاريخ يعلن بقبر العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ وبناء القبّة عليه، الباقية إلى أواخر القرن الاول، كما عن ابن خلّكان.

وقد كان ينبغي لهم الاُسوة بإمضاء الشيخين وبقيّة الخلفاء.

أو ليس إبقاء هذه الاثار في عصرهم ـ مع قدرتهم وسلطنتهم على تلك الاقطار والديار ـ إمضاءً منهم وتقريراً لهم، وهي السُّنّة الباقية منهم؟!

أو ليس النكير عليهم ومخالفتهم وترك سنّتهم بدعة وضلالة؟!

والحاصل: أنّ حرمة موتى المؤمنين وقبورهم مما ثبت شرعاً.

وقد صحّ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (حرمة المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً).

وضرورة المسلمين بل الملّيّين، بل وجبلّة البشر على زيارة قبور موتاهم وتعاهدها.

الصفحة 61
فضلاً عمّا ورد في الشريعة من وجوب احترام موتى المسلمين، كالامرة بوجوب تغسيلهم وتكفينهم وتطييبهم، والرفق بهم، ودفنهم ومواراتهم.

وحرمة إهانتهم بجسارة أو بجناية، أو بمثلة بأجسادهم، وهتك لقبورهم.

كما ورد في مناهي النبيّ: من كراهة الجلوس على قبر المؤمن ووطئه بإهانة.

وحرمة سبّ الموتى، كما في البخاري في باب «ما ينهى عنها سبّ الاموات».

ففي المعتبرة أيضاً قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) (من وطىء قبراً فكأنما وطىء جمراً).

وفيما أخرجه النووي في «الكنوز»(1) عن الديلمي: (إياكم والبول في المقابر، فإنه يورث البرص).

وروى الرازي في تفسيره الكبير عن «الكشّاف» في حديث طويل، رواه عند قوله تعالى (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى قوله: (ألا ومن مات على حُبِّ آلِ مُحمّد فُتح في قبره بابان إلى الجنّة، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزاراً لملائكة الرحمة).

هذا كلّه في قبور سائر الموتى.

فكيف إذا كان الميّت نبيّاً أو وصيّاً أو وليّاً أو أحداً من الصالحين؟؟

____________

(1) في 52.

الصفحة 62

[كرامات الاولياء من قبورهم]

وحسبك ما يظهر منها من الكرامات وخوارق العادات، المشهودة المشهورة في كلّ عصر، ما يفتح أبواب معرفة الله الواهب لاثار صنعه، وعجائب قدرته وبركاته لاوليائه.

وهذا هو الامام الشافعي في المرويّ عن الشيخ في «اللمعات» حيث قال: «إنّ قبر الامام موسى الكاظم(عليه السلام) تِرياق مجرّب للاجابة»(1).

وبالجملة: فمن المغالطة الواضحة والافتراء العظيم نسبة هؤلاء الزائرين في إقامة الصلوات والدعوات وقراءة القرآن والايات في المشاهد المشرّفة والمقامات المتبرّكة، إلى عبادتها ! !

وإنّما هو البهتان العظيم والافك الكبير.

فليت شعري متى خصّ الله هؤلاء المفترين بعلم الغيب؟!

وكيف اطّلعوا على سرائر العباد وضمائرهم؟!

ومن أين وقفوا على نيّاتهم؟!

أو ما علموا ودَرَوا أنّ لمكان المصلّي دخلاً في الراجحية والمرجوحية من حيث الخِسّة والشرافة؟

أو مانهى النبيّ عن الصلاة في المزابل والمذابح ومبارك الابل ومرابط الخيل وقُرى النمل والاراضي السبخة وبيت فيه المسكر والطرق والشوارع؟!

أو ليس لله أن يفضّل الناس بعضهم على بعض ؟

كما فضّل الرسل، وقال: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعض).

وَفضّل بعض الناس على بعض، فقال: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض).

____________

(1) لم أجده، ولكن روى الذهبي في سير أعلام النبلاء 9/343 عن إبراهيم الحربي، قوله في قبر معروف الكرخي: إنه الترياق المجرّب.

الصفحة 63
وفضّل الرجال على النساء، فقال: (أَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ).

أوَ ما شرّف الله بقعة على بقعة كما شرّف المساجد أيضاً على البقاع، وكما شرّف المساجد الاربع على سائر المساجد، وشرّف المسجدين على غيرهما؟!

أوَ لم يرد في الاحاديث: أنّ الاعمال يتضاعف أجرها لشرف المكان أو الزمان؟!

أوَ لم يفضّل الله الاشهر الحُرُم على سائر الشهور، وفضّل شهر رمضان عليها؟!

أوَما صحّ أنّ النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم) خطب خطبته التي خطبها آخر جمعة من شعبان في فضيلة شهر رمضان، ومنها قوله(صلى الله عليه وآله وسلم)فيها: (شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الايّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات...) إلى قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): (من أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن قرأ فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور) الخطبة.

وبالجملة: فقد شرّف الله بعض الاحجار على بعض، والمقامات بعضها على بعض، كما شرّف أحجار البيت والحرم والحجر الاسود وزمزم وركن الحطيم ومقام إبراهيم، فقال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) أو ليست هي إلاّ صخرة عليها أثر قدم إبراهيم الخليل، وفيه قبر إسماعيل؟!

أوَ ما قرأت قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)حيث أمضى الله سبحانه فعلهم، وهم المؤمنون، وعليه المفسّرون ؟

وهذا وجه رغبة الشيخين في دفنهما مع الرسول في الروضة المنوّرة وجواره الشريف ; تبرّكاً بحرمته وشرفه وبركته.

وكذلك حكم العقل في حرمة حرمه وقبره.

الصفحة 64
فإنّ حرمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا تذهب بعد موته ضياعاً.

أفهل كان رغبتهما في الدفن عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ التبرّك بعظمته وتعظيماً لمضجعه بجميع مراتب التعظيم؟!

ومن ذلك رغبة عائشة، وادّخارها مكان القبر لها لكنّها آثرت عمر لما استأذن منها.

أوَ هل يستطيع المسلم أن يُنكر المقام العظيم في الاسلام لمثل هؤلاء الذين هُتكت حرمتهم بهدم قبابهم؟!

[يفترون على المسلمين]

ثم، وهذا الافتراء منهم وإفكهم، كقياسهم الحلف والنذورات والهدايا وذبائح المسلمين الواقعة لله رب العالمين، بما كان يفعله المشركون.

سُبحانك اللهم ونعوذ بك من هذا البهتان العظيم، وتفريق الكلمة وشقّ عصا الاُمّة من غير رويّة وبيّنة وحجّة.

وما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حُرمات الله ورمي عباده الموحّدّين!

وهل يخفى على مثل هؤلاء الموحّدين من أعلام الدين: أنّ الحلف بغير الله على وجه إرادته تعالى منه مما يوجب الخروج من رِبْقة المسلمين ؟

[الحلف عند المسلمين]

فالايمان الواقعة بغيره تعالى ممّا لا يُراد منها حقيقة القسم.

وحاشا أن يقع منهم ذلك على وجه إرادته تعالى، وإنما هو مجرّد العبارة وزيادة التأكيد.

الصفحة 65
فإنّ مثل هذا الصادر كثيراً في كلمات أعاظم الصحابة غير عزيز، كما لا يخفى على المتتّبع في كلماتهم.

وهل الحلف ببيت الله وكلمات الله وآيات الله، أو بضريح النبيّ وشيبته ومنبره وتربته، إلاّ لمجّرد التثبّت والتأكيد؟!

فإن لم يحضروا بلاد الشيعة الموحّدين، ولم يطّلعوا على سرائرهم، فهاهي بين أيديهم الكتب من فقه الامامية وسائر المسلمين ـ المطبوع منها وغير المطبوع ـ التي ملات أقطار العالم، فإنّ فيها ما يزجرهم عن هذا الافتراء العظيم.

وهل جعل الله للمسلمين حرمة أعظم من حرمة بيته وكعبته؟!

أوَ ما حرّم الله ظنّ السوء وسوء القول؟!

وهل يخفى على فحول العلماء والفقهاء ـ من أهل الجمعة والجماعة وإمعان النظر في الاحكام ـ أنّ الذبح لغير الله العظيم ـ تعالى شأنه ـ حرام ؟

وهذه أبواب فقههم مصرّحة بأنّ النذر لا ينعقد إلاّ لله سبحانه، ولا الذبائح والقرابين إلاّ له جلّ شانه، ولا تحصل التذكية إلاّ باسمه ـ تعالى اسمه ـ.

فلو لم يخصّ النذر بالله وبإنشائه له تعالى لم ينعقد، كما أنه إذا لم يُستقبل بالذبيحة ولم يسمّ الله عليها لا تحلّ ; وتقع ميتة نجسة.

وأمّا نسبتها بعد ذلك إلى النبيّ والوصيّ والوليّ، فإنّما هي لكي يصل الثواب إليهم، كما نقرأ القرآن ونهدي إليهم ثوابه، ونصلّي وندعو لهم، ونفعل جميع الخيرات عنهم، وفيه أجر عظيم.

وكان النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يذبح بيده، ويقول: (أللّهمّ هذا عنّي وعمّن لم يضحِّ من أُمّتي).

وكان عليّ يضحّي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بكبش، وكان يقول: (أوصاني أن أُضحّي عنه دائماً).

الصفحة 66
كذلك النذر، فانه لا يقع لغير الله بل على معنى أنها صدقة منذورة لله يهدي ثوابها إلى أولياء الله، وهذا لا يزيد عمن نذر لابيه وأمه أو حلف أو عاهد أن يتصدق عنهما.

كما أن اختيارهم لها الاماكن المشرفة ليس إلا لشرف المكان وتضاعف الحسنات فيها.

وبالجملة فان النذر عنهم، لا لهم.

فاين تذهبون وأنّى تؤفكون؟

وما هذا الرمي بالباطل والافك العظيم ؟

سبحانك اللهم ما أحلمك !

وكيف كان، فقد انقدح بما ذكرنا في المقامين: أنّ استدلال المموِّه المغالط بالمتشابه من آيات الشفاعة على دعواه، غلط باطل، وخلط ظاهر فساده.

كفساد استدلال المعتزلة والخوارج على نفي الشفاعة بها تارة، واُخرى بقوله تعالى: (وَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، ومرّة بقوله: (مَآ لِلظَّالِمينَ مِنْ حَمِيم وَلاَ شَفِيع يُطَاعُ).

فإنّ الايات ـ كما عرفت ـ سوقها للكفّار، وأنّ الظالم على إطلاقه هو الكافر بقرينة العهد وخصوصية مورد النزول.

فسلب المقيّد لا يستلزم سلب المطلق، ونفي المطاع لا يستلزم نفي المجاب ; بمعنى أنّ نفي الشفيع الخاصّ لا ينافي إثبات مطلق الشفيع والشفاعة.

وبداهة العلم بأنه تعالى ليس فوقه أحد، وكون الشفيع لا محالة دون المشفوع ممّا لا يوجب حملها على نفي المجاب، إذ غايتها أنّها سالبة كلّية، ونقيضها السلب الجزئي الملازم للايجاب الجزئي.

الصفحة 67
فسوق الايات لعموم السلب لا لسلب العموم.

على أنّا لا نسلّم عموم الازمان والاحوال فيها ; لجواز اختصاصها بموردها.

كما أن قوله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ من أنصار) وقوله: (وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ)ممّا لا تدلاّن على دعواه، فإنّ نفي النصرة لاتستلزم نفي الشفاعة ; لانها طلب على خضوع، وأما النصرة فربما ينبىء عن مدافعة ومكافأة.

الصفحة 68

الصفحة 69

المقام الثالث
في ثبوت الامر بالتوسّلات والاستغاثات والاستشفاعات.

وفيه الامر ببناء الضرائح والقِباب المتعلّقة بمشاهدهم.

[توسل آدم(عليه السلام) بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)]

فقد صحّ حديث توسّل آدم بالنبيّ من قبل أن يخلقه الله، ويبعثه إلى الدنيا، وكذا غيره من الانبياء.

كما في آيات المواثيق عن الانبياء بنبوّته(صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ).

وقال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ) فيما ورد التفسير به.

فقد أجمع السنّة والجماعة على حديث التوسّل حتّى ابن تيميّة وابن القيّم.

وممّا ورد في التوسّل ما أورده الحاكم وصحّحه، قال: (إنّ آدم لما اقترف

الصفحة 70
الخطيئة، قال: يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي. فقال: يا آدم كيف عرفته؟ قال: لانك لما خلقتني نظرت إلى العرش فوجدت مكتوباً فيه: «لا إله إلاّ الله محمد رسول الله»، فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك، فعرفته أحبّ الخلق إليك)(1).

ويؤيّده: أنه لما سأل أبو جعفر المنصور الامام مالكاً، فقال له: أأستقبل القبلة وأدعو الله، أو أستقبل قبر النبيّ؟

فقال له: يا أبا عبدالله، ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم!؟(2)

والقاضي أبو عمرو عثمان ابن أحمد رواه مرفوعاً عن ابن عبّاس، عن النبي أنه قال: (لما اشتملت آدم الخطيئة، نظر إلى أشباح تضيء حول العرش فقال: يا ربّ إنّي أرى أشباحاً تشبه خلقي، فما هي؟

قال الله تعالى: هذه الانوار أشباح اثنين من ولدك:

أحدهما محمد، أبدأ النبوّة بك، وأختمها به.

والاخر أخوه وابن أخي أبيه، اسمه عليّ، أُأيّد محمّداً به، وأنصره على يده.

والانوار التي حولهما أنوار ذرّيّة هذا النبيّ من أخيه هذا ; يزوّجه ابنته تكون له زوجة، يتصل بها أول الخلق إيماناً وتصديقاً له، أجعلها سيّدة النسوان، وأفطمها وذرّيّتها من النيران، فتقطع الاسباب والانساب يوم القيامة إلاّ سببه ونسبه.

____________

(1) المستدرك على الصحيحين للحاكم 2/615.

(2) ذكر ذلك القاضي عياض في الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى وانظر شفاء السقام للسبكي، الباب الرابع، دفع الشبه للحصني ص140.

الصفحة 71
فسجد آدم شكراً لله أن جعل ذلك في ذرّيّته فعوّضه الله عن ذلك السجود أن اسجد له ملائكته...) إلى آخره.

وما رواه القاضي زكريا الحنفي ـ قاضي قسطنطينة في عصر السلطان محمد الفاتح ـ ذكره في حاشية له على «الكشاف» في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ)، رُوي: أنّه الميثاق في المهدي من ولده، القائم في آخر الزمان.

وتبعه تلميذه خرّم اُوغْلي في تعليقته عليه.

[البيوت المرفوعة]

ومنها: ما رواه الشيخ ابن بِطْريق في «العمدة» عن الشيخ الحافظ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن نعيم الثعلبي في كتاب «الكشف والبيان في تفسير القرآن»، روى بإسناده عن القابوسي، عن الحسين بن سعيد، عن أبان بن تغلب، عن نفيع بن الحارث، عن أنس بن مالك، عن بريدة.

ورواه غيره ـ من أعاظم أهل السُّنّة بطرقهم ـ عن أنس وبريدة وابن عباس أنه قال: قرأ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (في بُيُوت أذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ رِجَالٌ).

فقام إليْه رجل، وقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الانبياء.

فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة، فقال: نعم، من أفاضلها.

ثم ذكر:

الصفحة 72

وبيت تقاصر عنه البيوت * وطال عُلوّاً على الفَرْقَدِ
تحوم الملائكُ من حولِهِ * ويصلح للوحي دار الندي
بيان: الاية عقيب آية النور(1).

والتقدير: أن المشكاة الثابتة في بيوت هذه صفتها.

والرازي: أنّ التقدير كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله، وهو اختيار كثير من المحّققين انتهى.

ولا شكّ أنّ البيوت أعمّ من المساجد، ومن بيت علم الله ووحيه وأنوار هدايته تعالى.

كما أنها تعمّ الرجال ومساكنهم ومحلّ التعاهد إليهم.

ويؤيّده: قرينة المشكاة، فإنّ مجرّد كون المشكاة في المساجد ممّالا معنى محصّل لها، ولا فائدة مهمّة لذكرها.

فالاية تمثيل لنور هدايته تعالى، وإعلانه عن شرافة أهل بيت نبيّه وأطائب عترته ; ممن خصّهم الله بعلمه ونور هدايته، ومن نصبهم لارشاد عباده، ومثّل نور هدايتهم المقتبسة من نوره تعالى بالمشكاة، فالظرفية متعلّقة بالنور المذكور في صدر الاية، لمظهريّته عن نور الله تعالى، ولم تكن قيداً للمشبَّه، ولا خبراً عن رجال.

ويؤيّد هذا التفسير للبيت: قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد صحّ تفسيرها وتواتر من طرق السنة والجماعة، نزولها في خصوص الخمسة ممن اجتمع تحت العباء الخيبرية.

كما ورد في تفسير قوله تعالى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ من أَبوابِهَا): أنها ليس المراد منها ظاهرها، بل هي من الكنايات، كما هو المتعارف في المحاورات.

ويؤيده ايضا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ان الله اختار من البيوتات أربعة، ثم تلا قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اصطَفَى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبراهيمَ وآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالَمِينَ).

ويؤيّده قراءة أهل البيت (يُسَّبح) بالمبني للمفعول، والوقف على (الآصال)، والابتداء بـ (برجال).

____________

(1) أي قوله تعالى

الصفحة 73
وفي المعتبرة من طرق الخاصة عن الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: (إلتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنّ الله أخبركم أنهم رجال).

ولما حضر قتادة قاضي قضاة البصرة عند الإمام ابي جعفر محمد ابن علي (عليه السلام) قال: (أصلحك الله يابن رسول الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدامك؟

فقال أبو جعفر: (أما تدري أين أنت ؟! أنت بين يدي (بيوتٍ أذِنْ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بيَْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وإِقَامَ الصَّلاةِ وإِيتاءِ الزَّكاةِ) ونحن أولئك).

فقال له قتادة: صدقت والله جعلني الله فداك ماهي بيوت حجارة ولاطين). الخبر.

فقد ظهر: أن البيوت أعمّ من ذلك.

[ومعنى رفع البيوت]

كما أنّ الرفع بإطلاقه يعمّ جميع معانيه:

فكما أنّ رفعها يكون بالسير اليها، لأخذ علومهم ومعارفهم التي ورثوها عن لسان الوحي، وارتضعوها من ثدي الرسالة.

كذلك يكون بالتعهد لمشاهدهم وضرائحهم، والتبّرك بها وتعظيمها، والدعاء عندها وبتعميرها وبنائها وتشييدها، لقوله تعالى (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا)، وقوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ).

ويؤيده هذا المعنى من الرفع حديث أبي عامر البناني ـ واعظ أهل الحجاز ـ قال: أتيت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، وقلت له: يابن رسول الله ما لمن زار قبره ـ يعني أمير المؤمنين ـ وعمّر تربته؟


الصفحة 74
قال: يا أبا عامر، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده الحسين بن علي، عن علي (عليه السلام): أنّ رسول الله قال: (والله لتقتلَنّ بأرض العراق وتُدفن بها. قلت: يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وتعاهدها ؟ فقال لي: يا أبا الحسن إنّ الله جعل قبرك وقبر ولدك، بقاعاً من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده، تحنّ إليكم، وتحتمل المذلّة والأذى، فيعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها تقرباً منهم الى الله ومودة منهم لرسوله، أولئك ـ يا علي ـ المخصوصون بشفاعتي، الواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنّة.

ياعلي من عمّر قبوركم وتعاهدها، فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس.

ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الاسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أُمّه.

فأبشر وبشر محبيك من النعيم وقرة العين بما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم كما تعير الزانية بزنائها، أُولئك شرار أُمتي، لا أنا لهم الله شفاعتي، ولا يردون حوضي).

رواه السيد الإمام المعظم الزاهد العابد، أبو المظفّر غياث الدين بن طاوس الحسيني بسلسلة إسناده، عن عمارة بن يزيد، عن أبي عامر البناني، ورواه غير واحد بإسناد آخر، كما رواه الشيخ العلامة عن محمد بن علي بن الفضل.

فالحديث يدلّ على تعمير القباب، وعليه استمرار طريقة الأصحاب.

[الوسيلة الى الله]

ومنها: قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِليْهِ الْوَسِيلَةَ).


الصفحة 75
ولا شكّ أنّ حسن التوسل إنّما يحكم به الادلة الاربعة، من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، بل وعرف العادات في الملوك والسلاطين.

وهل العبادات والطاعات إلا القربات والوسائل لنيل المثوبات؟!

أو لا ترى أنّ لرفع الحاجات الى الله وسائل واقعية، من الدعاء والإلحاح ونوافل الصلوات والصدقات وأنحاء القُرُبات، من الذبائح والتوسّلات.

وذلك لأنّها جرت عادة الله في الاُمور مجرى العرف والعادة بتوسّط الأسباب والمسبّبات، فجعل للعقاقير دخلاً في الاسشفاء بها وأثراً في عالم الطبيعة، وهو خالق الطبيعة وجاعل آثارها فيها.

ولكلّ نفل من العبادة خواصّ وآثار تزداد لفاعلها آثارها، وهو تعالى يقدر على إعطائها بدونها، مع علمه بحوائج عباده ولطفه الشامل لخلقه، وجواز قضائها وإنجاحها بعلمه من غير توسيط تلك الوسائل، ولولا ذلك لزم إلغاء كثير من العمومات الآمرة بها، ولكان الأمر بها لغواً وعبثاً، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.

مع ان المشهود من الإجابة بتوسيطها ضروريّ محسوس لاينكره إلا مكابر.

ولا يتخلّف المشروط بها إذا لم يكن محتوماً، وكان موافقاً لحكمته ومشيّته تعالى، كما أنّها ربما تتخلّف إن بلغت المسمى المحتوم، كما قال (عليه السلام): (يامن لاتبدِّل حكمته الوسائل).

ألـم تـر أنّ الله قـال لمـريم * وهزّي اليك الجذع تساقط الرطب
فلو شاء أن تجنيهِ من غير هزة * جنته ولكن كل شـيء له سـببْ

فمن شدة رافته تعالى بعباده جعل لهم وسائل بينه وبينهم، ليتشفعوا للمرتضين منهم بإذنه، وللمتخذين عهد التوحيد والإيمان به بكرمه ورحمته، كما قال: (ولا يشفعون الا لمن ارتضى)، أو (من اتخذ عند الرحمن عهداً).


الصفحة 76
فلا بأس بمن توسل الى الله بمعظم، من قرآن أو نبيّ او وصي أو ولي ونحوها من آياته العظيمة، وسأل الله بحقهم، فإن حق الشيء وحاقه وسطه، وأوسطه، وهم الوسائط بين عباده.

قال الجوهري: سقط فلان على حاقّ رأسه، اي وسط راسه، وجئته في حاق الشتاء، أي وسطه.

والفيروزآبادي: حقّه وحاقه وسطه.

والمخلوقية مما لا تمنع الوساطة، بل وانما تؤكد العلاقة العابدية والمعبودية، وتؤيد ربطها بها ربط المتضايفين، بل وهي الأنسب بمقام العبودية بما فيها من الاشارة الى جلالة مولاه وعظمة معبوده.

فتفسير بعضهم الوسيلة بخصوص الفرائض ـ مع ما عرفت انها تعم الوسائل الى الله كلها ـ تفسير بالرأي.

قال ابن الاثير في (النهاية) في حديث الأذان: اللهم آت محمداً الوسيلة، وهي في الاصل ما يتوصل به الى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل. يقال: وسل اليه وسيلة وتوسل، والمراد به في الحديث القرب من الله، وقيل: هي الشفاعة. انتهى.

وفي تفسير (الكشف والبيان) لأبي اسحاق الثعلبي عن الامام جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: (ابتغوا اليه الوسيلة: تقربوا اليه بالامام).

وهب ان المراد من الوسيلة الفريضة، او ليست المودة لذوي القربى من الفرائض ؟! بل وأهمّها المسؤول عنها في قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً الا المودة في القربى).

وإذ قد تبين من الآيات ثبوت الشفاعة للمرتضين وللمتخذين عهد توحيدهم وإيمانهم بربّ العالمين.

وظهر: أنّ اتخاذ العهد والاتضاء بحسب الإيمان مما لاينافي عدمها باعتبار


الصفحة 77
فسق المعصية، كما تقدم، فلا توجب المعصية ارتداداً وكفراً، ولا تخرج العباد عن الارتضاء شيئاً، فقد ثبت ان المعاصي ليست علّة تامة للتعذيب، وانما هي مقتضيات لولا المانع عن التأثير.

فكما أنّ الله جعل بفضله وكرمه الندم عن المعصية توبةً وعفواً، فلا غرو ان جعل الله الأمر بابتغاء الوسيلة بأوليائه، وايجاب فرض المودة لذوي قربى نبيه وأطائب عترته ولحمته مانعاً لها رافعاً لتأثيرها، ماحياً لموضوعها، مقرباً أولياءهم الى الله، موجباً لنيل حوائجهم وان رغم الراغمون، وهنالك يخسر المبطلون.

ثم لايخفى ان تفسيرهم الوسيلة هنا، ليست بأعجب من تفسيرهم (الإمام) في الحديث المتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة الجاهلية)(1).

حيث قالوا: إن المراد من الإمام القرآن؟

مع وضوح فساده، الظاهر من إضافة الإمام الى الزمان، المضاف الى ماصدق عليه الموصول في الحديث.

مع أن القرآن انما هو الامام المستمر الباقي، الذي لايختص بزمان دون زمان.

فلم يكن لتفسيرهم في المقامين وجه، فتدبر.

____________

1 ـ وفي مسند احمد 4 / 96: من مات بغير امام..، وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/77 و117: ومن مات وليس عليه إمام...، ونقله في مجمع الزوائد 5 /224، ورواه بلفظ بغير إمام في مجمع الزوائد 5 / 218، وبلفظ: ليس لإمام... 5 / 219، ورواه في كنز العمال 2 / 103 بلفظ (بغير إمام) عن احمد والطبراني، وبلفظ (ليس عليه إمام) في 1 / 207 وانظر 208 و6/65، ولكن اكثر مصادر الحديث اثبتوها بألفاظ اُخرى مثل (بغير سلطان، أو أمير أو بغير طاعة، أو من فارق الجماعة، أو ليس في عنقه بيعة...، ولاحظ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ياعلي، من مات وهو يبغظك مات ميتة جاهلية، رواه الطبراني في الكبير راه في مجمع الزوائد 9 /111 و 9 /121 و122، وكنز العمال 11 / 611 و13/159.


الصفحة 78

[التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم]

هذا، وقد صح حديث التوسل بالنبي من أعيان الصحابة من قبل، بل والتوسل بغير النبي من الصحابة.

ومن ذلك حديث استسقاء عمر بن الخطاب بوجه عباس بن عبد المطلب عم النبي، وقوله: (أللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل اليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل اليك بعم نبيك فاسقنا). رواه البخاري في الصحيح.

مع ان صحة التوسل بغير النبي مما يدل بالفحوى على التوسل بأطائب عترته وأهل بيته.

ورواه ابن عبد البر في (الاستيعاب) وغيره في غيره، وفيه: (فأرخت السماء عزاليها،(1) فأخصبت الأرض، فقال عمر: (هذه والله الوسيلة الى الله والمكان منه).

[تعظيم الشعائر]

ومنها قوله تعالى في سورة الحجّ: (ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب).

فسر الشعائر بمعالم الدين وطرقه المنصوبة الى الله تعالى والى معارفه، بل واطلاقه شامل لكل مايشعر ويشير اليه تعالى ويعرفه سبحانه.

ففي (النهاية) لابن الاثير عن الازهري قال: الشعائر المعالم التي ندب الله اليها وامر بالقيام عليها.

وقال السيوطي: الشعار العلامة، فالبدنة ـ وهي النسك للحاج القارن ـ من

____________

1 ـ العَزالي والعَزالَى: مصبّ الماء من القِربة ونحوها.


الصفحة 79
احدى مصاديق الشعار، كما هو الظاهر من قرينة (من) التبعيضية، ودخولها على منتهى الجموع.

على ان ذكر البعض مما لاينافي ثبوت الاخرين، فتخصيص الشعائر بالهدي والنسك خاصة دون غيره، تخصيص بلا دليل.

فإن قلت: إن الدليل هو الجعل فيه دون غيره، فتكون النسك مجعولاً في الشعارية.

قلت: لما كانت البدنة لذاتها مع قطع النظر من اعتبار النسكية للحج، غير ظاهرة في الشعارية، كما ان النعل وتقليدها ايضا كذلك، فكانت ـ لا جرم ـ تحتاج الى مايصرفها اليها، وهو قرينة الجعل.

كما ان الصفا والمروة والهرولة فيهما، مما هي بذاتها مفتقرة اليها، ولم تكن غنية عنها، فنص عليها بقوله تعالى: (ان الصفا والمروة من شعائر الله).

بخلاف ما اذا كان الشيء ظاهراً في الشعارية، فإنّه لا يحتاج اليها، فالتمسك باطلاق الشعار كاف في مصاديقه مالم يقم دليل على خلافه في الشعارية.

هذا، وأنت ترى ان المشاهد والقباب المشرفة للأئمة وأكابر الصحابة من عترة الرسول، بمظهريتها عن اولئك الاطائب، من آيات الله، وحملة علمه ووحيه وحماة دينه وشريعته والدعاة اليه، من اظهر مصاديق الشعائر؟

كيف، وهي البيوت التي (أذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه).

كما ان الحلي والحلل والزينة اللائقة بها فيها، مما يقصد بها الابهة الدينية، تجاه الاجانب من منكري دين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ربما تعدّ ايضا من الشعائر.

هذا كله لان تعظيم ماهو شعائر الله مما يرجع الى تعظيم الله سبحانه، بل هو تعظيمه في الحقيقة، والانفاق في هذه السبيل انما هو من امتحان القلب للتقوى تقوى القلب.


الصفحة 80
قال الرازي في قوله تعالى: (اولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى): أي امتحنها ليعلم منه التقوى، فان من يعظم واحداً من أبناء جنسه لكونه رسولاً مرسلاً، يكون تعظيمه للمرسل اعظم، وخوفه منه اقوى.

وهذا كما في قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب)، اي تعظيم أوامر الله تعالى من تقوى القلوب. انتهى.

[تعظيم حرمات الله ]

ومنها: قوله تعالى في سورة الحج: (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له).

والحرمة والحرمات والحرام ما لا يحل انتهاكه، وقيل: ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه.

وتعظيمها ترك ملابستها تعظيماً لله سبحانه، وتكريماً واجلالاً لأمره ونهيه، ومنه المشعر الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام، كلّ هذا باعتبار وجوب رعاية القيام بتعظيمها وحرمة انتهاكها، والتبرك بها باضافتها الى معظمها.

وعقد الاحرام هو الالتزام بتروكه والاتيان بواجباته.

والمحرم للحج هو الممنوع عما حرمه الله عليه بدخوله في حرمه.

وتكبيرة الاحرام، لان المصلي يكون معها ممنوعاً من الكلام ومن سائر المنافيات.

والمسلم محرم، اي يحرم اذاه، يعني بتسليمه الى الله وخصوعه لوجه الله كأنه داخل في حرم الله.

فحرمة هذه العناوين كلها بسبب اضافتها التشريفية وانتسابها الى مشرفها ومظهريتها عنه سبحانه.


الصفحة 81
ومنه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في (احد) كما في (صحيح البخاري) عن النبي لما طلع له (احد) فقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه. اللهم أن ابراهيم حرم مكة واني احرم مابين لابتيها، يعني المدينة)(1).

فتخصيصها بالمناسك دون غيرها تخصيص بغير دليل، والاطلاق كاف لشموله جميع المصاديق، كما تقدم في الشعائر، وقرينة اتصالها بآية النسك لاتزيد على الاشارة الى احدى مصاديقها شيئاً، فكيف بتخصيصها بها؟!

هذا وقد ورد في تفسير اهل البيت وباطن القرآن تفسيرها بهم (عليه السلام) كما عن الامام ابي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) في المعتبر انه قال: (نحن حرمات الله الأكبر).

وفي المروي عن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) انه قال: (إنّ الله حرمات ثلاثاً مثلهن: كتابه هو حكمته ونوره، وبيته الذي جعله قبلة للناس، وعترة نبيكم)(2).

وفي المرفوعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ستة لعنتهم ولعنهم الله، وكلّ نبيّ مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت، ليذل من أعزه الله، ويعزّ من اذله الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل لعترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي).

[الاعتصام بحبل الله]

ومنها: قوله تعالى في سورة آل عمران: (واعتصموا بحبل الله جميعاً

____________

1 ـ صحيح البخاري 5 / 136 باب نزول النبي (صلى الله عليه وآله) الحجر.

2 ـ رواه الصدوق الامامي في كتابه (معاني الاخبار ص 118 وانظر كتابه الخصال ص 146 باب: لله عز وجل حرمات ثلاث).


الصفحة 82
ولا تفرقوا).

قال الرازي في هذه الآية: أمر الله بالتمسك والاعتصام بما هو كالاصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل الله.

واعلم ان كل من يمشي على طريق دقيق يخاف ان تزلق رجله، فاذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق، أمن من الخوف.

ولاشك ان طريق الحق طريق دقيق، وقد زلقت ارجل الكثير من الخلق عنه، فمن اعتصم بدلائل الله وبيناته، فإنه يأمن من ذلك الخوف.

فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به الى الحق في طريق الدين، وهو انواع كثيرة.

ثم عد منها العهد في قوله تعالى: (وافوا بعهدي).

ومنها القرآن...

الى قوله: وروي عن ابي سعيد الخدري، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله حبل ممدود من الأرض عترتي واهل بيتي) والحديث متواتر بين الفريقين(1).

وزاد فيما رواه عبد الله بن احمد بن حنبل، وأخرجه باسناده عن ابن نمير، عن عبد الملك بن سليمان، عن عطية العوفي، عن ابي سعيد الخدري، عن رسول

____________

1 ـ حديث الثقلين متواتر بحكم جمع من أعلام الحديث وهو على كل حال مجمع على صحته، فأورده مسلم في صحيحه 7/122 ـ 123، وبشرح النوري 15/179 ـ 181، وأحمد في المسند 3/14 و17/26 و59 و4/371، والدارمي في السنن 2/432، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 3/109، وقال: صحيح على شرط الشيخين و3/148 وقال مثله، والبيهقي في السنن الكبرى 7 /30 و10 /114، وانظر مجمع الزوائد للهيثمي 9 / 163، وكنز العمال 1 / 186 و 5 / 290 و 13/104 و 3/641 و14/435، وأقرأ بحثاً مفصلاً عن الحديث ومصادره ودلالته في مجلة (علوم الحديث) العدد الأول لسنة 1418 هـ.


الصفحة 83
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال بعده: (إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).

وقال: قال ابن نمير: قال بعض أصحابنا عن الأعمش أنه قال: (انظروا كيف تخلفوني فيهما).

وفي رواية: (ألا وإني مخلف فيكم الثقلين: الثقل الاكبر القرآن، والثقل الاصغر عترتي أهل بيتي، وهما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا، سبب ـ أو طرف ـ منه بيد الله وسبب بأيديكم، ان اللطيف الخبير قد نبأني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كاصبعي هاتين وجمع بين سبابتيه) الحديث.

وعن تفسير (الكشف والبيان) لأبي اسحاق الثعلبي في هذه الآية، روي باسناده، رفعه الى الامام جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: (نحن حبل الله الذي قال الله: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا).

وفي حديث العنبري وقوله: (يارسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ماهذا الحبل الذي امرنا الله بالاعتصام به والا نتفرق عنه ؟

فأطرق مليا، ثم رفع راسه، واشار بيده الى علي بن ابي طالب، وقال: هذا حبل الله الذي من تمسك به عصم به في دنياه، ولم يضل به في آخرته.

فوثب الرجل الى علي (عليه السلام) فاحتضنه من وراء ظهره، وهو يقول: اعتصمت بحبل الله وحبل رسوله) الحديث.

وفي حديث محمد بن عبد الله المعمر الطبري الناصبي ـ بطبرية سنة 333 ـ رواه في وفد اليمانيين على رسول الله، والحديث مشهور الى قوله: (فقالوا يارسول الله بين لنا ماهذا الحبل ؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) هو قول الله: (الا بحبل من الله وحبل من الناس) فالحبل من الله كتابه، والحبل من الناس وصييي، ولم يعلم تأويله الا الله) الحديث.

فالآية كناية عن الالتزام بمودة ذوي القربى من اهل البيت واخذ العلم منهم


الصفحة 84
والتعظيم لاثارهم.

ومثله (العروة الوثقى) فيما أخرجه أبو المؤيد موفق بن احمد، عن عبد الرحمن ابن ابي ليلى، قال، قال رسول الله لعلي (عليه السلام): (أنت العروة الوثقى).

[أبواب البيوت]

ومنها: قوله تعالى: (وأتوا البيوت من ابوابها)(1).

والتقريب: أنّ الهداة من عترة الرسول انما هم ابواب مدينة علمه وخزنة وحيه ورسالته، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا مدينة العلم وعلي بابها، ولا توتى البيوت الا من ابوابها).

والحديث متواتر اللفظ والمعنى في طريق الفريقين.

ورواه ابن بطريق في (العمدة) بإسناده عن ابن المغازلي الواسطي الفقيه الشافعي في (المناقب) بإسناده عن علي بن عمر، عند حذيفة، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي غير: (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها)، ومن اراد الحكمة فليأت الباب).

وفيما اخرجه المناوي عن الترمذي (أنا دار الحكمة)، وفي بعضها مارواه باسناده عن ابن المغازلي، عن أحمد بن محمد بن عيسى سنة عشر وثلاث مائة معنعناً عن رسول الله (ص) أنه قال: (ياعلي انا المدينة وانت الباب، كذب من زعم انه يصل المدينة الا من الباب).

____________

1 ـ أورده الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3 / 127، وفي مجمع الزوائد 9 / 114، وكنز العمال 13 / 148 وتتكلموا حول إسناده.

وقد اشبع الامام المجتهد الحافظ احمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني المغربي المتوفي (1380 هـ)البحث عنه، واثبت صحته في كتاب (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي) المطبوع طبعة ثانية بالقاهرة عام 1389هـ.