الصفحة 291
قالت الأساقفة: لا ترد هذه المسألة لعلها تشككك. قال بريهة: قلها يا أبا الحكم. قال هشام: أفرأيتك الإبن يعلم ما عند الأب؟ قال: نعم. قال: أفرأيتك الأب يعلم كل ما عند الإبن؟ قال: نعم. قال: أفرأيتك تخبر عن الإبن أيقدر على حمل كل ما يقدر عليه الأب؟ قال: نعم. قال: أفرأيتك تخبر عن الأب أيقدر على كل ما يقدر عليه الإبن؟ قال: نعم. قال هشام: فكيف يكون واحد منهما ابن صاحبه وهما متساويان؟! وكيف يظلم كل واحد منهما صاحبه؟ قال بريهة: ليس منهما ظلم. قال هشام: من الحق بينهما أن يكون الابن أب الأب والأب ابن الإبن، بت عليها يا بريهة!

وافترق النصارى وهم يتمنون أن لا يكونوا رأوا هشاماً ولا أصحابه. قال: فرجع بريهة مغتماً مهتماً حتى صار إلى منزله. فقالت امرأته التي تخدمه: ما لي أراك مهتماً مغتماً. فحكى لها الكلام الذي كان بينه وبين هشام. فقالت لبريهة: ويحك أتريد أن تكون على حق أو على باطل؟! فقال بريهة: بل على الحق.

فقالت له: أينما وجدت الحق فمل إليه، وإياك واللجاجة فإن اللجاجة شك والشك شؤم وأهله في النار. قال: فصوب قولها وعزم على الغدو على هشام. قال: فغدا عليه وليس معه أحد من أصحابه. فقال: يا هشام ألك من تصدر عن رأيه وترجع إلى قوله وتدين بطاعته؟ قال هشام: نعم يا بريهة. قال: وما صفته؟ قال هشام: في نسبه أو في دينه؟ قال: فيهما جميعاً صفة نسبه وصفة دينه.

قال هشام: أما النسب خير الأنساب: رأس العرب وصفوة قريش وفاضل بني هاشم كل من نازعه في نسبه، وجده أفضل منه، لأن قريشاً أفضل

الصفحة 292
العرب وبني هاشم أفضل قريش، وأفضل بني هاشم خاصهم ودينهم وسيدهم، وكذلك ولد السيد أفضل من ولد غيره وهذا من ولد السيد. قال: فصف دينه. قال هشام: شرائعه أو صفة بدنه وطهارته؟ قال: صفة بدنه وطهارته.

قال هشام: معصوم فلا يعصي، وسخي فلا يبخل، شجاع فلا يجبن، وما استودع من العلم فلا يجهل، حافظ للدين قائم بما فرض عليه، من عترة الأنبياء، وجامع علم الأنبياء، يحلم عند الغضب، وينصف عند الظلم، ويعين عند الرضا، وينصف من الولي والعدو، ولايسأل شططاً في عدوه ولا يمنع إفادة وليه، يعمل بالكتاب ويحدث بالأعجوبات، من أهل الطهارات، يحكي قول الأئمة الأصفياء، لم تنقض له حجة، ولم يجهل مسألة، يفتي في كل سنة، ويجلو كل مدلهمة.

قال بريهة: وصفت المسيح في صفاته وأثبته بحججه وآياته، إلا أن الشخص بائن عن شخصه والوصف قائم بوصفه، فإن يصدق الوصف نؤمن بالشخص. قال هشام: إن تؤمن ترشد وإن تتبع الحق لا تؤنب. ثم قال هشام: يا بريهة ما من حجة أقامها الله على أول خلقه إلا أقامها على وسط خلقه وآخر خلقه، فلا تبطل الحجج، ولا تذهب الملل، ولا تذهب السنن. قال بريهة: ما أشبه هذا بالحق وأقربه من الصدق، وهذه صفة الحكماء يقيمون من الحجة ما ينفون به الشبهة.

قال هشام: نعم، فارتحلا حتى أتيا المدينة والمرأة معهما، وهما يريدان أبا عبد الله (عليه السلام) فلقيا موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فحكى له هشام الحكاية، فلما فرغ.


الصفحة 293
قال موسى بن جعفر (عليهما السلام)،: يا بريهة كيف علمك بكتابك؟ قال: أنا به عالم.

قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه. قال: فابتدأ موسى بن جعفر (عليهما السلام) بقراءة الإنجيل.. قال بريهة: والمسيح لقد كان يقرأ هكذا وما قرأ هذه القراءة إلا المسيح. ثم قال بريهة: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك، قال فآمن وحسن إيمانه وآمنت المرأة وحسن إيمانها.

قال: فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد الله (عليه السلام)، وحكى هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى (عليه السلام) وبريهة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. فقال بريهة: جعلت فداك أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوها. إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شئ فيقول لا أدري.

فلزم بريهة أبا عبد الله (عليه السلام) حتى مات أبو عبد الله (عليه السلام)، ثم لزم موسى بن جعفر (عليهما السلام) حتى مات في زمانه، فغسله بيده وكفنه بيده ولحده بيده، وقال: هذا حواري من حواريي المسيح يعرف حق الله عليه، قال: فتمنى أكثر أصحابه أن يكونوا مثله.

بعض ما نقله من مناظرات الإمام الصادق (عليه السلام)

  في الإحتجاج: 2/69:

(روي عن هشام بن الحكم أنه قال: من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (عليه السلام) أن قال: ما الدليل على صانع العالم؟


الصفحة 294
فقال أبو عبدالله (عليه السلام): وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعها صنعها. ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني، علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني، ولم تشاهده.

قال: فما هو؟ قال: هو شئ بخلاف الأشياء، أرجع بقولي شئ إلى إثباته، وأنه شئ بحقيقته الشيئية، غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور، ولا يغيره الزمان.

قال السائل: فإنا لم نجد موهوماً إلا مخلوقاً. قال أبو عبدالله (عليه السلام): لو كان ذلك كما تقول، لكان التوحيد عنا مرتفعاً لأنا لم نكلف أن نعتقد غير موهوم. لكنا نقول: كل موهوم بالحواس مدرك بها، تحده الحواس ممثلاً فهو مخلوق، ولابد من إثبات كون صانع الأشياء خارجاً من الجهتين المذمومتين: إحداهما النفي إذ كان النفي هو الإبطال والعدم، والجهة الثانية التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف، فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين، والإضطرار منهم إليه أنهم مصنوعون، وأن صانعهم غيرهم وليس مثلهم، إن كان مثلهم شبيهاً بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا، وتنقلهم من صغر إلى كبر، وسواد إلى بياض، وقوة إلى ضعف، وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها.

قال السائل: فأنت قد حددته إذ أثبت وجوده! قال أبو عبد الله (عليه السلام): لم أحدده، ولكني أثبته إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة.


الصفحة 295
قال السائل: فقوله: الرحمن على العرش استوى؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): بذلك وصف نفسه، وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه، من غير أن يكون العرش محلاًّ له. لكنا نقول: هو حامل وممسك للعرش، ونقول في ذلك ما قال: وسع كرسيه السماوات والأرض، فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته، ونفينا أن يكون العرش والكرسي حاوياً له، وأن يكون عز وجل محتاجاً إلى مكان، أو إلى شئ مما خلق، بل خلقه محتاجون إليه.

قال السائل: فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء، وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟ قال أبو عبد الله: في علمه وإحاطته وقدرته سواء، ولكنه عز وجل أمر أوليائه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش لأنه جعله معدن الرزق، فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول حين قال: إرفعوا أيديكم إلى الله عز وجل. وهذا تجمع عليه فرق الأمة كلها. ومن سؤاله أن قال: ألا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد؟

قال أبو عبد الله: لا يخلو قولك إنهما اثنان من أن يكونا: قديمين قويين أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفاً. فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه وينفرد بالربوبية، وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول، للعجز الظاهر في الثاني. وإن قلت إنهما اثنان، لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة، أو مفترقين من كل جهة، فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جارياً واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر، دل ذلك على صحة الأمر والتدبير وايتلاف الأمر، وأن المدبر واحد.


الصفحة 296
وعن هشام بن الحكم قال: دخل ابن أبي العوجاء على الصادق (عليه السلام) فقال له الصادق (عليه السلام): يا بن أبي العوجاء! أنت مصنوع أم غير مصنوع؟ قال: لست بمصنوع. فقال له الصادق: فلو كنت مصنوعاً كيف كنت؟ فلم يحر ابن أبي العوجاء جواباً، وقام وخرج.

وقال: دخل أبو شاكر الديصاني وهو زنديق على أبي عبد الله وقال: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي! فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أجلس! فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال أبو عبد الله: ناولني يا غلام البيضة، فناوله إياها. فقال أبو عبد الله: يا ديصاني هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مايعة، وفضة ذائبة، فلا الذهبة المايعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المايعة، فهي على حالها، لا يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبراً؟

قال: فأطرق ملياًّ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه، وأنا تائب مما كنت فيه....

وعن هشام بن الحكم قال: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد الله (عليه السلام) علم، فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها وقيل هو بمكة، فخرج إلى مكة ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام)، فانتهى إليه وهو في الطواف فدنا منه وسلم. فقال له أبو عبد الله: ما اسمك؟ قال: عبد الملك. قال: فما كنيتك؟ قال: أبو عبد الله. قال أبو عبد الله (عليه السلام): فمن ذا الملك

الصفحة 297
الذي أنت عبده، أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء، أم عبد إله الأرض؟ فسكت.

فقال أبو عبد الله: قل! فسكت. فقال: إذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ أبو عبدالله (عليه السلام) من الطواف أتاه الزنديق، فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً؟ فقال: نعم. قال: فدخلت تحتها؟ قال: لا. قال: فهل تدري ما تحتها؟ قال: لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شئ. فقال أبو عبد الله: فالظن عجز ما لم تستيقن. ثم قال له: صعدت إلى السماء؟ قال: لا. قال: أفتدري ما فيها؟ قال: لا. قال: فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟ قال: لا.

قال: فالعجب لك، لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد إلى السماء، ولم تخبر ما هناك فتعرف ما خلفهن، وأنت جاحد بما فيهن، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟!

فقال الزنديق: ما كلمني بهذا غيرك.

قال أبو عبد الله (عليه السلام): فأنت من ذلك في شك، فلعل هو ولعل ليس هو.

قال: ولعل ذلك. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، ولا حجة للجاهل على العالم، يا أخا أهل مصر تفهم عني. أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان، يذهبان ويرجعان، قد اضطرا ليس لهما مكان إلا مكانهما، فإن كانا يقدران

الصفحة 298
على أن يذهبا فلم يرجعان، وأن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً؟ اضطرا والله.

يا أخا أهل مصر، إن الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر، فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم؟ وإن كان يردهم فلم يذهب بهم؟ أما ترى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، لا تسقط السماء على الأرض، ولا تنحدر الأرض فوق ما تحتها، أمسكها والله خالقها ومدبرها. قال فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله، فقال: يا هشام خذه إليك وعلمه).

  وفي الإحتجاج: 2/142:

(وعن هشام بن الحكم قال: اجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الديصاني الزنديق وعبد الملك البصري وابن المقفع، عند بيت الله الحرام يستهزؤون بالحاج ويطعنون بالقرآن! فقال ابن أبي العوجا: تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله، فإن في نقض القرآن إبطال نبوة محمد، وفي إبطال نبوته إبطال الإسلام وإثبات ما نحن فيه.

فاتفقوا على ذلك وافترقوا، فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام. فقال ابن أبي العوجاء: أما أنا فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية: فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً، فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكر في ما سواها.

فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو

الصفحة 299
اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب. ولم أقدر على الإتيان بمثلها. فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، لم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفع: يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: وقيل يا أرض ابلعي مائك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين. لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فقال: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصية محمد إلا إلى جعفر بن محمد، والله ما رأيناه قط إلا هبناه واقشعرت جلودنا لهيبته، ثم تفرقوا مقرين بالعجز).

مناظرته مع عمرو بن عبيد

  في لإحتجاج: 2/126:

(قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد، وجلوسه في مسجد البصرة، وعظم ذلك علي، فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتزر بها من صوف وشملة مرتد بها، والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي. ثم قلت: أيها العالم أنا رجل

الصفحة 300
غريب، أتأذن لي فأسألك عن مسألة؟ قال: إسأل! قلت له: ألك عين؟ قال: يا بني أي شئ هذا من السؤال إذ كيف تسأل عنه؟ فقلت: هذا مسألتي. فقال: يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقى. قلت: أجبني فيها. قال فقال لي: سل! فقلت: ألك عين؟ قال: نعم. قال: قلت فما تصنع بها؟ قال: أرى بها الألوان والأشخاص. قال قلت: ألك أنف؟ قال: نعم. قال قلت: فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة. قال قلت: ألك لسان؟ قال: نعم. قال قلت: فما تصنع به؟ قال: أتكلم به. قال قلت: ألك أذن؟ قال: نعم. قلت: ما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الأصوات. قال قلت: ألك يدان؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بهما؟ قال: أبطش بهما، وأعرف بهما اللين من الخشن. قال قلت: ألك رجلان؟ قال: نعم. قال قلت: فما تصنع بهما؟ قال أنتقل بهما من مكان إلى مكان. قال قلت: ألك فم؟ قال: نعم. قال قلت: فما تصنع به؟ قال: أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها. قال قلت: ألك قلب؟ قال: نعم. قال قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح. قال قلت: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا. قلت: وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة؟

قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته، ردته إلى القلب، فتيقن بها اليقين، وأبطل الشك. قال قلت: فإنما أقام الله عز وجل القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم. قلت: لا بد من القلب، وإلا لم يستيقن الجوارح. قال: نعم.

قلت: يا أبا مروان إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها إماماً، يصحح لها الصحيح وينفي ما شكت فيه، ويترك هذه الخلق كله في

الصفحة 301
حيرتهم وشكهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك، ترد إليه حيرتك وشكك. قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً. قال: ثم التفت إلي فقال لي: أنت هشام؟ قال قلت: لا. فقال لي: أجالسته؟ فقلت: لا. قال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: فأنت إذا هو. ثم ضمني إليه، وأقعدني في مجلسه، وما نطق حتى قمت)!!


*  *  *


الصفحة 302

الصفحة 303


الفصل الثاني عشر
نماذج من نصوص الشيعة في التوحيد





الصفحة 304

الصفحة 305

نماذج من نصوص الشيعة في التوحيد

استعمل مخالفو أهل البيت وشيعتهم سياسة التعتيم على أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) في فضائلهم، والتعتيم على أحاديثهم وآرائهم.

وليس هذا موضوع كلامنا، وإنما دعانا إليه أن الدكتور القفاري السالف الذكر ألف كتابه عن عقائد الشيعة من ثلاثة مجلدات، وذكر في آخره قائمة بمصادر الشيعة التي اعتمد عليها بلغت نحو ثلاث مئة مصدر..

ولكنه عندما وصل إلى اتهام الشيعة بالتجسيم جاء بنصوص من مصادر خصومهم، وعندما اتهمهم بالتعطيل لم يورد نصاً واحداً عنهم!

بل ذكر أن الصدوق المتوفى سنة 281 هجرية روى في كتابه التوحيد أكثر من سبعين رواية كلها بزعمه مكذوبة لأنها تدل على التعطيل، وقد بخل الدكتور الأكاديمي بذكر رواية واحدة منها!!

والواقع أن كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) من مفاخر المصادر الإسلامية القديمة في هذا الموضوع، وسنقتصر من الروايات (السبعين) التي أشار إليها القفاري على عشر روايات:


الصفحة 306

  روى الصدوق في كتابه التوحيد ص 107:

(عن أبي عبد الله، عن آبائه(عليهم السلام) قال: مر النبي (صلى الله عليه وآله) على رجل وهو رافع بصره إلى السماء يدعو، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): غض بصرك فإنك لن تراه.

وقال: ومر النبي (صلى الله عليه وآله) على رجل رافع يديه إلى السماء وهو يدعو، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أقصر من يديك فإنك لن تناله.

... عن عاصم بن حميد قال: ذاكرت أبا عبد الله (عليه السلام) فيما يروون من الرؤية فقال: الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب.

... حدثنا ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لماأسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه جبرئيل قط، فكشف لي فأراني الله عز وجل من نور عظمته ماأحب).

  وروى في ص 113:

(... عن إبراهيم بن محمد الخزاز، ومحمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فحكينا له ما روي أن محمداً (صلى الله عليه وآله) رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة رجلاه في خضرة، وقلت: إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد، فخر (عليه السلام) ساجداً ثم قال: سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبهوك بغيرك.


الصفحة 307
إلهي لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك، ولا أشبهك بخلقك، أنت أهل لكل خير، فلا تجعلني من القوم الظالمين.

ثم التفت إلينا فقال: ما توهمتم من شئ فتوهموا الله غيره، ثم قال: نحن آل محمد النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي.

يا محمد، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين نظر إلى عظمة ربه كان في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة. يا محمد عظم ربي وجل أن يكون في صفة المخلوقين. قال: قلت جعلت فداك من كانت رجلاه في خضرة؟

قال: ذاك محمد (صلى الله عليه وآله) كان إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب! إن نور الله منه أخضر ما اخضر، ومنه أحمر ما احمر، ومنه أبيض ما ابيض، ومنه غير ذلك. يا محمد ما شهد به الكتاب والسنة فنحن القائلون به.

  وروى في ص 398:

(عن حفص بن غياث، قال: حدثني خير الجعافر جعفر بن محمد، قال: حدثني باقر علوم الأولين والآخرين محمد بن علي، قال: حدثني سيد العابدين علي بن الحسين، قال: حدثني سيد الشهداء الحسين بن علي، قال: حدثني سيد الأوصياء علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم جالساً في مسجده إذ دخل عليه رجل من اليهود. فقال: يا محمد إلى ما تدعو؟

قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.


الصفحة 308
قال: يا محمد أخبرني عن هذا الرب الذي تدعو إلى وحدانيته وتزعم أنك رسوله. كيف هو؟

قال: يايهودي إن ربي لا يوصف بالكيف لأن الكيف مخلوق وهو مكيفه.

قال: فأين هو؟ قال: إن ربي لا يوصف بالأين، لأن الأين مخلوق وهو أينه.

قال: فهل رأيته يا محمد؟

قال: إنه لا يرى بالأبصار ولا يدرك بالأوهام.

قال: فبأي شئ نعلم أنه موجود؟ قال: بآياته وأعلامه.

قال: فهل يحمل العرش أم العرش يحمله؟

فقال: يا يهودي إن ربي ليس بحال ولا محل.

قال: فكيف خروج الأمر منه؟ قال: بإحداث الخطاب في المحال (جمع محل).

قال: يا محمد أليس الخلق كله له؟! قال: بلى.

قال: فبأي شئ اصطفى منهم قوماً لرسالته؟ قال: بسبقهم إلى الإقرار بربوبيته.

قال: فلم زعمت أنك أفضلهم؟ قال: لأني أسبقهم إلى الإقرار بربي عز وجل.

قال: فأخبرني عن ربك هل يفعل الظلم؟ قال: لا.

قال: ولم؟ قال: لعلمه بقبحه واستغنائه عنه.

قال: فهل أنزل عليك في ذلك قرآناً يتلى؟


الصفحة 309
قال: نعم إنه يقول عز وجل: وما ربك بظلام للعبيد، ويقول: إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ويقول: وما الله يريد ظلماً للعالمين، ويقول: وما الله يريد ظلماً للعباد.

قال اليهودي: يا محمد فإن زعمت أن ربك لا يظلم، فكيف أغرق قوم نوح وفيهم الأطفال؟

فقال: يا يهودي إن الله عز وجل أعقم أرحام نساء قوم نوح أربعين عاماً فأغرقهم حين أغرقهم ولا طفل فيهم، وما كان الله ليهلك الذرية بذنوب آبائهم، تعالى عن الظلم والجور علواًً كبيراً.

قال اليهودي: فإن كان ربك لا يظلم فكيف يخلد في النار أبد الأبدين من لم يعصه إلا أياماً معدودة؟

قال: يخلده على نيته، فمن علم الله نيته أنه لو بقي في الدنيا إلى انقضائها كان يعصي الله عزوجل خلده في ناره على نيته، ونيته في ذلك شر من عمله. وكذلك يخلد من يخلد في الجنة بأنه ينوي أنه لو بقي في الدنيا أيامها لأطاع الله أبداً، ونيته خير من عمله، فبالنيات يخلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، والله عز وجل يقول: قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً.

قال اليهودي: يا محمد إني أجد في التوراة أنه لم يكن لله عز وجل نبي إلا كان له وصي من أمته، فمن وصيك؟

قال: يا يهودي وصيي على بن أبي طالب، واسمه في التوراة إليا وفي الإنجيل حيدار، وهو أفضل أمتي وأعلمهم بربي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وإنه لسيد الأوصياء كما أني سيد الأنبياء.