مقدّمة المركز
من الثوابت المسلّمة في عملية البناء الحضاري القويم، استناد الأُمّة إلى قيمها السليمة ومبادئها الأصيلة، الأمر الذي يمنحها الإرادة الصلبة والعزم الأكيد في التصدّي لمختلف التحدّيات والتهديدات التي تروم نخر كيانها وزلزلة وجودها عبر سلسلة من الأفكار المنحرفة والآثار الضالة باستخدام أرقى وسائل التقنية الحديثة.
وإن أنصفنا المقام حقّه بعد مزيد من الدقّة والتأمّل، نلحظ أنّ المرجعية الدينية المباركة كانت ولا زالت هي المنبع الأصيل والملاذ المطمئن لقاصدي الحقيقة ومراتبها الرفيعة، كيف؟! وهي التي تعكس تعاليم الدين الحنيف وقيمه المقدّسة المستقاة من
هذا، وكانت مرجعية سماحة آية اللّه العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني ــ مدّ ظلّه ــ هي السبّاقة دوماً في مضمار الذبّ عن حمى العقيدة ومفاهيمها الرصينة، فخطت بذلك خطوات مؤثّرة والتزمت برامج ومشاريع قطفت وستقطف أينع الثمار بحول اللّه تعالى.
ومركز الأبحاث العقائدية هو واحد من المشاريع المباركة الذي أُسس لأجل نصرة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمه الرفيعة.
ولهذا المركز قسم خاص يهتم بمعتنقي مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على مختلف الجهات، التي منها ترجمة ما تجود به أقلامهم وأفكارهم من نتاجات وآثار - حيث تحكى بوضوح عظمة نعمة الولاء التي مَنّ اللّه سبحانه وتعالى بهم عليهم - إلى مطبوعات توزّع في شتى أرجاء العالم.
وهذا المؤلَّف - " الوهابية جذورها التاريخية.. مواقفها من المسلمين" - الذي يصدر ضمن "سلسلة الرحلة إلى الثقلين" مصداق حيّ وأثر عملي بارز يؤكّد صحة هذا المدعى.
على أنّ الجهود مستمرة في تقديم يد العون والدعم قدر المكنة لكلّ معتنقي المذهب الحقّ بشتى الطرق والأساليب،
ختاماً نتقدّم بجزيل الشكر والتقدير إلى كلّ من ساهم في إخراج هذا الكتاب, ونخصّ بالذكر فضيلة الشيخ حكمت الرحمة الذي قام بمراجعة هذا الكتاب وإعداده للطبع, والحمد لله ربّ العالمين.
محمّد الحسّون
مركز الأبحاث العقائدية
22 ربيع الآخر 1428هـ
الصفحة على الانترنت: site.aqaed.com/Mohammad
البريد الالكتروني: muhammad@aqaed.com
الإهداء..
إلى وجه الحقّ..
إلى شمس الحقيقة الكونية..
إلى كلّ طالب حقّ.. وباحث عن حقيقة..
أُهدي هذه الوريقات..
المؤلّف
شكرٌ وتقدير
الشكر لله بالاستحقاق..
ولرسوله الكريم وآله الأطهار بالسباق..
والشكر جزيل إلى الأخ الفاضل والصديق العزيز "أبو مهدي".
أشكره على الفكرة والتأييد المعنوي الذي رافقني حتى إخراج هذا الكتاب إلى حيِّز الوجود..
وشكرٌ خاص جداً.. لنصف نفسي، لأهلي وعرسي.. زوجتي (أم علي) الغالية على ما تحملته من كَلِّي، وحملته من همّي وغمّي..
لها الشكر والتقدير عرفاناً مني بالجميل، ووفاء لعملها الجليل..
وأسأل الله أنْ يوفقنا لمراضيه، ويجنّبنا معاصيه.. وأنْ يحفظنا ولا يفرّقنا بعد أن جمعنا القرآن، إلاّ بالأجل ورفقة الجنان.. إنّه سميع قريب.. حنّان منّان.. والحمد لله وحده على كل حال وبكل لسان..
المقدّمة
لم يعان أحد كما عانى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الأمة.. لأنّه وكما قال: «ما أوذي أحد ما أوذيت»(1)، فبأي شيء أوذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)؟ ومن الذي آذاه؟ والقرآن الكريم يشدّد النهي عن إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويسميه إيذاءً لله قبل رسوله.. بآيات مباركة منها:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}(2).
{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ}(3).
{وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}(4).
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(5).
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}(6).
____________
(1) صحيح الجامع الصغير للألباني: 2/975.
(2) الأحزاب: 69.
(3) الأحزاب: 53.
(4) التوبة: 61.
(5) التوبة: 61.
(6) الأحزاب: 57.
بماذا أوذي كليم الله موسى (عليه السلام)؟ وهل تصدق تلك الروايات التي تتحدث عن هذا الأذى كروايات أبي هريرة الدوسي، وكعب الأحبار اليهودي، التي تنسب إلى ذاك الرسول العظيم ما يخجل منه ويأباه على نفسه وأهله؟
وهل تعلم أنّ أكبر أذى للرسول أو النبي هو عدم اتّباع نهجه ورسالته،، أو أذاه بأهله ووصيّه من بعده، كما فعل بنو إسرائيل بالرسالة، وهارون (عليه السلام) حيث كانوا يريدوا قتله، لأنّه يأمرهم بالمعروف والرسالة، وينهاهم عن المنكر وعبادة العجل؟
وهكذا فعل بهارون هذه الأمة الأخيرة المرحومة.. نعم، إنّه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي قال له صاحب الرسالة الخاتمة (صلى الله عليه وآله وسلّم): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي»(2).
وهل تعلم أنّه جاء مسخ حاقد آخر الزمان، وأراد أنْ يصحّح قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما يعتقد ويظن، فقال: «إنّما قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أنت مني بمنزلة قارون من موسى» وحذف آخر الرواية الشريفة
____________
(1) الأحزاب: 53.
(2) صحيح مسلم: 7/120.
ومن الذي اتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالجاسوسية، أو ضعف الشخصية، وقال عنه بأنّه أُذن يسمع ما يقوله له علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبنو هاشم لمصالحهم لا للدين ولا للرسالة؟
مَن الذي اتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك، ونسي قول الله عز وجل عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}(1).
وكم كان جواب الوحي المقدّس رائع وجميل بحيث أراد أن، يصدقهم بالقول ولكن يصحح المعنى المتبادر والمفهوم من الكلمة «أذن خير لكم» نعم.. إنّه أذن ولكن سمعه كان إلى السماء والوحي، لا إلى الأرض والبشر العاديين، لذا فإنّ ما يلقى إليه كان الخير وكل الخير فيه لهذه الأمة.
ومن الذي كان يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في الطعام، ومحادثة نسائه وزوجاته، وكان -روحي له الفداء- يستحيي منهم فلا يطردهم ولا ينهاهم، حتى يحافظ على شعورهم وكرامتهم، إلا أنّهم تمادوا في عملهم حتى أنزل الله جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآيات ليطردهم ويعلمهم أصول التعامل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
____________
(1) سورة النجم: 3-5.
من الذي آذاه وكيف؟ ومتى؟ وكل أدوات الاستفهام وأسمائه يمكن لنا أن نستخدمها في هذا المجال.. ولكن البحث يطول ويتشعب ولا حاجة لنا لكل ذلك.
ولكن ويا للأسف الشديد ما زالوا يؤذون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذاته المقدسة، ورسالته المباركة، وأهل بيته الأطهار، وأمته المرحومة، فيوجهون كل أنواع الأذى لكل ذلك تحت راية الإسلام، وباسم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم).
نعم، إنّهم خوارج هذه العصور المتأخرة الذين جاء بهم الزمان ورعفت بهم الأيام -وليتها لم تفعل- وتمخضت عنهم السنوات بعد هياط ومياط وطلق يقطع الأنياط، جاؤوا إلى هذه الأمة ليقولوا لها أنت كافرة، ومشركة ويجب أبادتك عن خريطة الزمان والمكان.
إنّها قصة الألم المتفجر.. إنّها حكاية الدم السائل الفوَّار والمسفوح ظلماً وعدواناً في الكثير من بقاع العالم الإسلامي، أو غير
____________
(1) صحيح الجامع الصغير للألباني: 2/975.
إنّه الحقد العجيب، والحسد الغريب، يحقدون علينا كأمة فيكفرونا ويقتلونا، ويحسدون الآخرين على ما هم فيه فيدمروهم ويقتلوهم بلا سبب ولا ذنب.. وبدم بارد وأساليب همجية يندى لها جبين الإنسانية لماذا؟ لست أدري.
نعم، إنّها السلفية البغيضة.. ونسختها المعدَّلة وراثياً: الوهابية المقيتة، فما هي السلفية، ومن هم الوهابيون في هذا الزمان؟
الفصل الأول
السلفية من؟
السلفية: هذا البلاء النازل على رقاب الأمة الإسلامية.. بل المتفشي في المجتمعات الإنسانية، تلك الغدة السرطانية في بناء الإسلام العقائدي.. ما هي حقيقتها؟ ومن الذي روّج لها؟ ومن أين جاءت جرثومتها القاتلة؟
قالوا: إنّها ظاهرة عباسية، ترتبط بالتيار الفكري الذي قاده الإمام احمد بن حنبل، كما قال محمد عمارة(1)، أمّا محمد الغزالي فقال فيها: إنّها نزعة عقلية عاطفية ترتبط بخير القرون وتعمّق ولاءها لكتاب الله وسنة رسوله(2).
أمّا محمد سعيد رمضان البوطي فإنه يعتبرها: مفهوماً زمنياً مباركاً.. فالسلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي(3) فهي إذن مفهوم زمني فكري يرتبط بلحظة زمنية فكرية محددة في تاريخ
____________
(1) «انظر تيارات الفكر الإسلامي المعاصر» لمحمد عمارة: ص 128-130.
(2) دستور الوحدة الثقافية لمحمد الغزالي: ص114.
(3) انظر كتاب «السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي» لمحمد سعيد رمضان البوطي.
وبعض المحدَثين يعتبرها: مفهوماً معرفياً منهجياً يحكم طريقة إنتاج الفكر الإسلامي للمنهج المطابق لمنهج (السلف الصالح) في القرون الهجرية الثلاثة الأولى التي حدَّث عنها الحديث النبوي المصنف في إطار مدونات الصحاح «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»(1).
فيعتبرون أنفسهم ليسوا أصحاب مذهب، بل أصحاب دين جديد، أو دين بديل، أو دين وضعي اخترعوه حديثاً ووضعوا عليه الطبعة المزيفة (صنع في القرن الأول) إذ إنّ ابن تيمية من القرون الثلاثة المفضّلة (حسب الحديث)؟ وأين هو من تلك القرون الأولى في الزمان والمكان..!؟
هذا عدا عن التلميذ غير القريب لابن تميمية محمد بن عبد الوهاب ومن لفّ لفَّه، ودار في فلكه، الذين جعلوا القرآن عضين، والسنّة بدعة، والدين أقرب إلى التين بما رفعوا من أحكام ووضعوا غيرها فأحلّوا حراماً، وحرّموا حلالاً باسم الدعوة إلى الإصلاح والتجديد.
____________
(1) دراسات استراتيجية، مقال محمد جمال باروت: ص196 ع11.
لقد حرصت جميع هذه الحركات على إدراج صفة السلفية بدرجات متفاوتة، ولهذا كان المفهوم العام لهم يكتنفه الغموض في دلالته أو مضمونه، أو بيان نشأته أو معرفة حدَّه.. وتلك سمة الكثير من المفاهيم والمصطلحات الشائعة في الساحة الإسلامية، فبقدر الذي يصبح فيه المصطلح شائعاً متداولاً بين فرقاء مختلفين، يزداد غموضه الفكري.
ولهذا قسَّم أحد العلماء، السلفية إلى ثمانية أقسام هي:
1- السلفية التاريخية.
2- السلفية المدرسية.
3- السلفية النهضوية.
4- السلفية الوطنية.
5- السلفية الحركية.
6- السلفية الجهادية.
7- السلفية التحررية.
8- السلفية المحدثة.
1- بنية السلفية العامة المرنة أو المفتوحة على الواقع بوعي وتعقّل.
2- بنية السلفية المذهبية الصلبة أو المغلقة على نفسها بتعصب وتحجّر.
والسلفية العامة المرنة نهضوية مفتوحة، لأنّها استفادت من النهضة الأوروبية فجاءت على أيدي أولئك المصريين الذين ذهبوا إلى فرنسا وعادوا منها محمَّلين بالأفكار الثورية للثورة الفرنسية، ومبهورين بالتقدم الحضاري الصناعي للبلاد الأوروبية، فتفتحت على يدي الشيخ محمد عبده وتلاميذه.
أمّا السلفية المذهبية الصلبة (النصوصية) فإنّها تبلورت في مطلع القرن الماضي في البيئة النجدية البدوية في شبه الجزيرة العربية، التي ارتبط اسمها المعاصر باسم ونتاج وعمل مؤسسها محمد بن عبد الوهاب (1115 - 1206هـ) حيث غذّاها بهذه الأفكار المتحجرة على الماضين والمتجرِّئة على المقدسات، لأنّها تحررت من فكرة تقديس الأماكن والأزمنة و الأشخاص، حيث ضربت بكل أنواع التقديس بوجه الحائط، فلا مقدسات لديهم إلا أنفسهم، ورموزهم من السلفية.
فالسلفية الوهابية هي نسخة معدلة بالاستنساخ الصناعي والتعديل الجيني لمدرسة ابن تيمية، اختلف عليها الوضع البيئي والاجتماعي؛ لأنّها نشأت في بيئة بدوية غليظة جدّاً وسيئة الأخلاق وبذيئة اللسان، مع ما أضافت عليها الصحراء القاحلة في بلاد نجد شرق الحجاز كما هو معروف.
فما جاء به ابن عبد الوهاب هو نفس ما جاء به ابن تيمية من قبل، مضافاً إليه بعض التعديلات، حيث زاد الزوايا حِدَّة والأفكار شدَّة، والعواطف تحجّراً، والقلوب تصلُّباً، والعقل غفلة ونوماً.. فكانت عقائده كنفسه الشريرة وبيئته الفاسدة غير الصالحة لأي أنواع الحياة الحضارية لبؤسها وقساوتها (كما قيل)..
فالأفكار تتأثر بالتكوين الجسدي للإنسان، الذي يتأثر هو كذلك بالغذاء والهواء والعوامل البيئية كما الوراثية تماماً، ولهذا قلنا الذي
والحقيقة أنّه لا فرق بين السلفية والوهابية، فهما وجهان لعملة واحدة، فهم يعتقدون بنفس المعتقدات والأفكار، فهي في داخل جزيرة العرب (وهابية حنبلية) وعندما تصدر إلى الخارج تسمى (سلفية).