إذ كان يورد نصوصه في ذلك متوالية متواترة، من مبدإ أمره إلى انتهاء عمره، بطرق مختلفة في وضوح الدلالة على إمامة أخيه ووصيّه، حسبما فرضته الحكمة عليه ; ومن تتبّع في ذلك سيرته أكبرَ حكمته (صلى الله عليه وآله وسلم) في أداء هذه المهمّة..
صدع بها أوّل بعثته قبل ظهور دعوته بمكّة، حين أنذر عشيرته الأقربين، على عهد بيضة البلد وشيخ الأباطح عمّه أبي طالب(1)، في داره، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ـ وقد أخذ برقبة عليّ وهو
____________
1- بَـيضةُ البلد وشيخ الأباطح: هو أبو طالب شـيخ قريـش والهاشميّين ووالد أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام).
قالت أُخت عمرو بن عبـد ودّ ترثيه، وتذكر قتلَ عليّ إيّـاه يوم الخنـدق:
لو كان قاتلُ عَمْرو غيرَ قاتلِهِ | ما زلتُ أَبكي عليه دائمَ الأبدِ |
لكنّ قاتلَه مَن لا يُقادُ بِهِ | وكانَ يُدعى أبوه بيضةَ البلدِ |
انظر: ذيل تاريخ بغداد ـ لابن النجّار ـ 17 / 289، شرح نهج البلاغة 1 / 20 ـ 21، الفصول المهمّة ـ لابن الصبّاغ ـ: 62، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) 2 / 168، الصراط المسـتقيم 1 / 160.
كما إنّ من معاني بيضة البلد: السَّـيِّـدُ، والرجلُ الكريم، وواحدُ البلد الذي يُجْـتَـمعُ إليه ويُـقْـبَـلُ قولُه، والرجلُ الـفَـرْدُ ليس أحدٌ مثله في شـرفه.
انظر مادّة " بيض " في: لسان العرب 1 / 553 و 554، تاج العروس 10 / 21.
وأبو طالب (عليه السلام) هو حامي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكافله، وناصره، الذي رُمي ظلماً بالشرك، وما ذاك إلاّ بغضاً لابنه عليّ (عليه السلام) ; وكيف يكون مشركاً وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الثابتة تشهد بإيمانه، ولطالمـا أثـنى عليه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما سأله عمّه العبّـاس: ما ترجو لأبي طالب؟ قال: كلّ الخير أرجو من ربّي.
مضافاً إلى ذلك الأدلّة الأُخرى، النقلية والعقلية، التي أثبتها الإمامية وغيرهم في عشرات الكتب والرسائل التي ألّفوها لإثبات إيمانه ; ودحض الروايات الواردة في تعذيبه، فهي روايات مكذوبة موضوعة، وأسانيدها معلولة بجرح أحد رواتها أو أكثر، أو بعلّة أُخرى كالإرسال والانقطاع وغيرهما.
راجع في تفصيل ذلك: دلائل الصدق 6 / 196 ـ 198.
____________
1- راجع تفسير الآية 214 من سورة الشعراء (وأَنذِر عشيرتك الأقربين) في: تفسير الحبري: 348، تفسير الطبري 9 / 483 ـ 484 ح 26806، شواهد التنزيل 1 / 420 ـ 421 ح 580، تفسير البغوي 3 / 341 ـ 342، تفسير ابن كثير 3 / 339، تفسـير الدرّ المنثور 6 / 327 ـ 328.
وانظر أيضاً: فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 2 / 807 ـ 808 ح 1108 و ص 871 ح 1196 و ص 887 ح 1220، السـنـن الـكـبـرى ـ للنسائي ـ 5 / 125 ـ 126 ح 8451، مسند البزّار 2 / 105 ـ 106 ح 456، المعجم الأوسط 3 / 241 ح 2836، تهذيب الآثار 4 / 60 ح 50 و ص 62 ح 127، تاريخ الطبري 1 / 542 ـ 543، العلل الواردة في الأحاديث 3 / 275 رقم 293، المسـتدرك على الصحيحين 3 / 143 ح 4652، دلائل النبوّة ـ لأبي نُعيم ـ 2 / 425 ح 331 قطعة منه، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 2 / 179 ـ 180، تاريخ دمشق 42 / 49 ـ 50، المنقذ من التقليد 2 / 311.
مرّة يكون التدليل بالنصّ الصريح الجلي الغني عن كلّ أمارة وقرينة، ومرّة يكون بظهور اللفظ محفوفاً بالقرائن والأمـارات القطعيـة، وقد يكون بمجـرّد الظهور خالياً من القـرائن..
تارة يختصّ عشـيرته بهـذا التدليل..
وتارة يختصّ به نسـاءه أُمّهات المؤمنين(2)..
وربّـما اختـصّ بـه أوليـاء عليّ (عليه السلام) مـن المهاجـرين، كـأبي ذرّ، والمِقـداد، وعمّـار..
____________
1- المراد: إنّ الأدلّة على إمامة وخلافة ووصاية أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)تكون تارة بالدلالة المطابقية، وهي النصّ ; وأُخرى بالدلالة الالتزامية، أي ما تسـتلزمه الإمامة، كالعصمة والأفضليّـة ; فإذا ثبتت عصمته وأفضليّـته على غيره كان لزاماً تقديمـه ; لوجوب تقديم الفاضل أو الأفضل على المفضـول.
2- انظر: فضائل الصحابة 2 / 720 ح 986، مناقب آل أبي طالب 2 / 46.
____________
1- انظر: فضائل الصحابة 2 / 704 ح 962 و ص 762 ح 1052 و ص 846 ح 1162، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 112 ح 121، مناقب آل أبي طالب 2 / 32 و 46، الاحتجاج 1 / 297 رقم 52.
2- هو: أُبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك النجّار، ويكنّى أبا المنذر، صحابي أنصاري.
شهد أُبيّ بن كعب العقبة مع السبعين من الأنصار في روايتهم جميعاً، وكان قبل الإسلام حبراً من أحبار اليهود، مطّلعاً على الكتب القديمة، يكتب ويقرأ على قلّة العارفين بالكتابة في عصره.
شـهد أُبيّ بدراً وأُحداً والخندق والمشاهد كلّها مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، مات بالمدينة في أيّام عثمان، وقيل أيضاً إنّه مات في أيّام عمر.
انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 378 رقم 174، أُسد الغابة 1 / 61 رقم 34، معرفة الصحابة 1 / 214 رقم 79، معجم رجال الحديث 1 / 333.
3- هو: خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن غبّان ابن عامر بن خطمة، الأنصاري الأوسي.
شهد بدراً وما بعدها من المشاهد كلّها، وكانت راية بني خطمة بيده يوم الفتح، وشهد مع الإمام عليّ (عليه السلام) الجمل وصِفّين، ولمّا استشهد عمّار بن ياسر بصِفّين قال خزيمة: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: " تقتل عمّاراً الفئة الباغية "، استشهد بعد عمّار في صِفّين سنة سـبع وثلاثين.
روى عنه ابنه عمارة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) اشترى فرساً من سواء بن قيس المحاربي فجحده سواء، فشهد خزيمة بن ثابت للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما حملك على الشهادة ولم تكن معنا حاضراً؟
قال: صدّقتك بما جئت به، وعلمت أنّك لا تقول إلاّ حقّاً.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من شهد له خزيمة أو عليه فحسـبه ; فجعل شهادة خزيمة شهادة رجلين.
انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 4 / 279 رقم 584، أُسـد الغابة 1 / 610 رقم 1446.
4- هو: فروة بن عمرو بن وَدقة بن عُبيد بن عامر بن بياضة، شهد العقبة مع من شهدها من الأنصار، آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بينه وبين عبـد الله بن مخرمة العامري، شهد فروة بدراً وأُحداً والخندق والمشاهد كلّها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، استعمله رسول الله على المغانم يوم خيبر، وكان يبعثه خارصـاً للمدينـة.
انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 449 رقم 321، أُسد الغابـة 4 / 57 رقم 4213.
____________
1- انظر: مسند أحمد 3 / 483، فضائل الصحابة 2 / 716 ح 981 و ص 722 ح 989 و ص 733 ح 1007، البداية والنهاية 5 / 81 و ج 7 / 276.
2- انظر: المعجم الكبير 22 / 135 ح 360، معرفة الصحابة 5 / 2723 رقم 2956، أُسد الغابة 4 / 681 رقم 5477، تاريخ دمشق 42 / 199، الإصابة 6 / 623 رقم 9163، البداية والنهاية 7 / 275، مجمع الزوائد 9 / 109.
وقـد يـخـتـصّ به أُولات الفضـل مـن نسـاء المـهـاجـريـن والأنـصـار، كأسـمـاء بـنـت عـمـيـس(2)، وأُمّ
____________
1- انظر: الأمالي في آثار الصحابة: 79 ح 109، مسند أحمد 4 / 437 ـ 438، فضائل الصحابة 2 / 749 ح 1035 و 1060، البداية والنهاية 5 / 82 و ج 7 / 274 ـ 276.
2- انظر: مسند أحمد 6 / 369 و ص 438، فضائل الصحابة 2 / 796 ح 1091، تاريخ 6 / 382.
وأسماء هي: بنت عميس بن معد بن تيم بن الحارث بن كعب بن مالك، أسلمت قبل دخول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دار الأرقم بمكّة وبايعت وهاجرت إلى أرض حبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فولدت له هناك عبـد الله ومحمّـداً وعونـاً.
وروي أنّها لمّا قدمت من أرض الحبشة قال لها عمر: يا حبشيّة! سـبقناكم بالهجرة! فقالت: إي لعمري لقد صدقت، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعلّم جاهلكم وكنّا البُعداء الطُّرداء، أما والله لآتينّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلأذكرنّ ذلك له ; فأتت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت ذلك له، فقال: " للناس هجرة واحدة ولكم هجرتان ".
قتل عنها جعفر بمؤتة شهيداً في جمادى الأُولى سنة 8 هـ، فتزوّجها أبو بكر فولدت له محمّـداً، وتوفّي عنها أبو بكر فتزوّجهـا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فولدت له يحيى وعوناً، وماتت بعد اسـتـشهاد الإمام عليّ (عليه السلام) نحو سـنة 40 هـ.
انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 8 / 219 ـ 223 رقم 4229، حلية الأولياء 2 / 74 رقم 158.
وكـثيراً ما نـوّه به على منبره الشـريف(2)، وربّما تحدّث بـه مع بعض أصحابه في البقيـع(3)، وقد باح به يوم المؤاخاة(4)، ويوم سدّ الأبواب من
____________
1- هي: ابنة مِلْحان ـ واسمه: مالك ـ ابن خالد الأنصارية، وهي أُخت حرام بن ملحان، اسـتُـشهد أبوها وأخوها بين يدي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت على جانب من الفضل والعقل، روت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أحاديث، وتُعدّ في أهل السوابق، وهي من الدعاة إلى الإسلام، وقد أسلم على يدها أبو طلحة الأنصاري ; إذ خطبها وهو كافر، فأبت أن تتزوّجه أو يسلم، فأسلم بدعوتها، وكان صداقها منه إسلامه.
وكانت أُمّ سُليم تغزو مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتداوي الجرحى، وتقوم بالمرضى، واتّخذت في غزاة خنجراً لتبقر به بطن مَن دنا إليها من المشركين، وكانت من أحسن النساء بلاءً في الإسلام، ولا تُعرف امرأة سواها كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يزورها في بيتها فتتحفه بالشيء تصنعه له، فقيل له، فقال: " إنّي أرحمها، قُـتل أخوها وأبوها معي ".
انظـر: معرفـة الصحابـة 6 / 3504 رقم 4093، الاسـتيعاب 4 / 1940 رقم 4163، أُسد الغابة 6 / 345 رقم 7471، الإصابة 8 / 227 رقم 12073.
2- انظر: فضائل الصحابة 2 / 771 ح 1066.
3- مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 88 ح 78، كفاية الطالب 334 ح 977، وانظر: كنز العمّال 11 / 613 ح 32969.
4- انظر: فضائل الصحابة 2 / 740 ح 1019 و ص 765 ح 1055، سنن الترمذي 5 / 595 ح 3720، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 16، السـيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 3 / 36، السيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 149، المستدرك على الصحيحين 3 / 15 ـ 16 ح 4288 و 4289، الاسـتيعاب 3 / 1098 ; وانظر: دلائل الصدق 6 / 122 ـ 132.
____________
1- انظر: مسند أحمد 1 / 175 و 331، فضائل الصحابة 2 / 720 ح 985 ; وراجع تفصيـل ذلك في: دلائل الصدق 6 / 105 ـ 121.
2- انظر: صحيح البخاري 5 / 89 ح 202 و ج 6 / 18 ح 408، صحيح مسلم 7 / 120 كتاب الفضائل / باب فضائل أمير المؤمنين، مسند أحمد 1 / 170 و 173 و 175 و ج 6 / 369 و 438، سنن الترمذي 5 / 596 ح 3724 و ص 599 ح 3730 و 3731، سـنن ابن ماجة 1 / 42 ـ 43 ح 115 و ص 45 ح 121، السـنن الـكبـرى ـ للنسـائي ـ 5 / 44 ح 8138 ـ 8143 و ص 119 ـ 125 ح 8429 ـ 8449 من طرق كـثـيـرة و ص 240 ح 8780، مـسـنـد الطيـالـسـي: 28 و 29 ح 205 و 209، مصنّف عبـد الرزّاق 5 / 406 ح 9745 و ج 11 / 226 ح 20390، مسـند الحميـدي 1 / 38 ح 71، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 16 ـ 17، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 496 ح 11 ـ 15 و ج 8 / 562 ح 4.
وراجع مفصّـلا: دلائل الصدق 6 / 80 ـ 88.
3- انظر: مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 498 ح 23 و ج 7 / 543 ح 2، مسند أبي يعلى 2 / 165 ـ 166 ح 859، المستدرك على الصحيحين 2 / 131 ح 2559، تاريخ دمشق 42 / 342، الدرّ المنثور 313، مجمع الزوائد 9 / 163، جواهر العقدين: 238، ينابيع المودّة 2 / 402 ح 53.
____________
1- انظر: سنن الترمذي 5 / 594 ح 3719، مسند أحمد 4 / 164 ـ 165، المستدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4576 و 4577، المعجم الكبير 5 / 166 ـ 167 ح 4969 ـ 4971.
2- انظر مثلا: سنن الترمذي 5 / 591 ح 3713، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 503 ح 55، مسند أحمد 1 / 152، المعجم الكبير 3 / 179 ح 3049، مسند الشاشي 1 / 127 ح 63 و 165 ـ 166 ح 106، العقد الـفـريـد 3 / 312، تـاريـخ بغـداد 8 / 290، منـاقـب الإمـام عليّ (عليه السلام)ـ للخوارزمي ـ: 135 ح 152.
3- هو: حبيب بن أوس بن الحارث، الشاعر المشهور، كان أوحد عصره في ديباجة لفظه ونصاعة شعره وحسن أُسلوبه، وله كتاب " الحماسة " الذي دلّ على غزارة فضله وإتقان معرفته بحسن اختياره، وله مجموع آخر سمّاه " فحول الشعراء " جمع فيه بين طائفة كبيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلام.
وقال العلماء: خرج من قبيلة طيّئ ثلاثة، كلّ واحد مجيد في بابه: حاتم الطائي في جوده، وداود بن نصير الطائي في زهده، وأبو تمّام حبيب بن أوس في شعره.
كانت ولادة أبي تمّام سنة 190، وقيل: 188، وقيل: 172 بجاسم، وتوفّي بالموصل سنة 231، وقيل: إنّه توفّي في ذي القعدة، وقيل: في جمادى الأُولى سنة 228، وقيل: 229، وقيل: في المحرّم سنة 232.
انظر: وفيات الأعيان 2 / 11 رقم 147.
ويوم الغدير استوضح الحقَّ أهلُه | بفيحاء ما فيها حجابٌ ولا سترُ |
يمدّ بضبـعـيـه ويعـلـم أنّـه | وليٌّ ومولاكم فهل لكم خبرُ؟! |
فـكـان لـه جـهرٌ بإثبات حقّه | وكان لهم في بزّهم حقّه جهرُ(1) |
وقال الكميت(2) ـ رحمه الله تعالى ـ:
____________
1- ديوان أبي تمّام 1 / 356، ورواية البيت الأوّل في الديوان:
ويوم الغدير استوضح الحقّ أهلُه | بفيحاء لا فيها حجاب ولا سرُّ |
ومطلع القصيـدة:
أظبية حيثُ اسـتنَّت الكُثُبُ العُـفْـرُ | رُوَيْدَكِ لا يَغتالُكِ اللّوْمُ والزَّجْرُ |
2- هو: الكُميت بن زيد بن خُنَيس بن مجالد، شاعر مقدَّم، عالم بلغات العرب، خبير بأيّامها، من شعراء مُضر وألسنتها، والمتعصّبين على القحطانية، المقارنين المقارعين لشعرائهم، العلماء بالمثالب والأيّام، المفاخرين بها، وكان في أيّام بني أُميّة ولم يدرك الدولة العبّاسـية، وكان معروفاً بالتشـيّع لبني هاشم، مشهوراً بذلك، وقصـائده الهاشميّات من جيّد شعره ومختاره.
وُلد الكميت أيّام استشهاد الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) سنة 60، ومات سـنة 126 هـ في خلافة مروان بن محمّـد، وكان مبلغ شـعره حين مات 5289 بيتـاً.
انظر: الأغاني 17 / 3 ـ 44.
ويوم الدوح دوح غدير خُمّ | أبان له الخلافة لو أُطيـعا |
ولكنّ الرجال تـبـايعـوها | فلم أر مثلها خطراً مبـيعا |
ولم أر مثل ذاك اليوم يوماً | ولم أر مثله حقّـاً أُضيعا(1) |
وقـال الله تعـالى: { لقـد ابتغـوا الفتـنـة مـن قبـل وقلّـبوا لك الأُمور حتّى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهـم كارهـون }(2).
بهذا الشكل الحكيم بلّـغ النـبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمـر الولايـة، وبهذه الطرق السـائغة بثّـها في أُمّـته، تَـدرّجَ فيـها بأحاديثه المختلفة وأساليبه المتنـوّعة تدريجاً تدريجاً على حسـب مقـتضيـات الأحـوال في مـقامـات مختـلفـة، ودواعي شـتّى، لـم يفاجئـهم دفعـة واحـدة بكـلام يحرجهـم ويسـدّ عليهم
____________
1- القصائد الهاشميات: 79، ومطلع القصيدة:
نفى عن عينِكَ الأرَقُ الهجُوعا | وهَمٌّ يمتري منها الدُّموعا |
2- سورة التوبة 9: 48.
بهذا خفّض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من غُلوائهم(1)، وزجر أحناء طيرهم(2)، ولو بادههم(3) بالأمر دفعة واحدة لَما أَمِنَ من معرّتهم(4)، فكأنّه خدّر بهذا الأُسلوب أعصابهم، فتدرّجوا معه بالقبول شـيئاً فشـيئاً، حتّى كان يوم الغدير، فأعلن الأمر لتلك الجماهير، وما كان ليعلنه لولا أنّ الله أمره بذلك، وضمِن له العصمة من أذاهم بقوله عزّ من قائل: { يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإنْ لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النـاس }(5).
فجمع (صلى الله عليه وآله وسلم) بحكمته البالغة بين تعيـيـن الإمام، وحفظ
____________
1- الغُـلْواء ; سرعةُ الشـباب وشِرّته، وغُلَواءُ كلّ شيء أوّلُه وشِرَّته ; انظر: لسان العرب 10 / 114 مادّة " غـلا ".
2- زجَرَ أحناء طيرهم: أي زجر نواحيهم يميناً وشمالا وأماماً وخلفاً، ويراد بالطير: الخفّـة والطيـش ; انظر: لسان العرب 3 / 373 مادّة " حنـا ".
3- بَدَهَهُ وبادَهَهُ بالأمر: فاجأه بالأمر وباغته به ; انظر: لسان العرب 1 / 347 مادّة " بده ".
4- المعرّة: الأذى ; انظر: لسان العرب 13 / 140 مادّة " معر ".
5- سورة المائـدة 5: 67.
وما كان المعارضون يحسـبون أن يقف موقفه يوم الغديـر أبـداً، فلمّـا وقف هذا الموقف وأدّى فيه عن الله ما أدّى، رأوا أنّ معارضـته ـ في آخر حياته وقـد بخـعت(1) العرب لطاعتـه ـ لا تجديهم نفعاً، بل تجرّ عليهم الويلات ; لأنّها توجب إمّا سقوطهم بالخصوص، أو سقوط الإسلام والعرب عامّـة، فيفوتهم الغرض الذي كانوا يأملون، والمنصب الذي كانوا له يعملـون!
لهذا رأوا أنّ الصبر عن الوثبة أحجى، فأجمعوا على تأجيلها إلى وقتها بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهكذا كان الأمر، وأوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)بما يضمرون، وأطلعه على ما سـيكون(2).
لكنّ الدين لا بُـدّ من إكماله، والنعمـة لا بُـدّ من إتمـامها، والرسـالة لا بُـدّ من أدائها.. { ليهلك من هلك عن بيّنة
____________
1- بخَعْتَ له: تذلّـلْتَ وأطعـتَ وأقـرَرْتَ وخضعـتَ ; انظر: لسان العـرب 1 / 332 مادّة " بخع ".
2- انظر: الخصال 4 / 499، الاحتجاج 1 / 127 ـ 132، مجمع البيان 5 / 84.
نعم، عهد لوصيّه وخليفته من بعده، أن يتغمّدهم ـ حين يعارضونه ـ بسعة ذرعه، ويتلقّاهم بطول أناته، وأمره أن يصبر على اسـتـئـثارهم بحقّـه، وأن يتلـقّى تلك المحنة بكظم الغيظ والاحتـساب، احتياطاً على الإسلام، وإيثاراً للصالح العامّ.
وأمر الأُمّـة بالصبر على تلك الملمّـة، كما فصّلناه في كـتاب " المراجعـات "(3).
وحسـبك ممّا صحّ من أوامره بذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في حديث حذيفة بن اليمان(4) ـ: " يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي، ولا يسـتنّون بسُـنّتي، وسـيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشـياطين في جثمان إنـس ".
____________
1- سورة الأنفال 8: 42.
2- سورة المائـدة 5: 99.
3- المراجعات: 437 المراجعة 82.
4- في ما أخرجه مسلم ص 120 من الجزء الثاني من صحيحه، ورواه أصحـاب السـنن كلّهم. منـه (قدس سره).
وانظر: صحيح مسلم 6 / 20 كتاب الإمارة / باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 8 / 157، فتح الباري 13 / 66، كنز العمّال 11 / 223 ح 31305.
قال: " تسمع وتطيع للأمير وإنْ ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع له وأَطِـع "(1).
ومثله قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث عبـد الله بن مسعود(2): " سـتكون بعدي أثَرة وأُمور تنكرونها ".
قالوا: يا رسول الله! كيف تأمر من أدرك منّا ذلك؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " تؤدّون الحقّ الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم ". انتهى.
وكان أبو ذرّ يقول(3): إنّ خليلي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
____________
1- إنّ من عرف ما ألمّ بالمسلمين عند فقد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم أنّ ذلك الوقت لا يسع نزاعاً، ولا يليق به إلاّ الصبر على الأذى، والغضّ على القذى ; لأنّ نزاع المسلمين يومئذ يؤدّي إلى اضمحلالهم ; ولذا أمرهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر. منـه (قدس سره).
أقـول: هذا إذا صحّ ذيل هذا الحديث، فيُحمل على تلك الفترة العصيبة التي تبعت وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلاّ فإطلاقه باطل ; لأنّه يدعو للخضوع للظلم والظالم! ومنه يُعلم حال الأحاديث التالية وما يشبهها.
2- وقـد أخرجـه مسـلم في ص 118 مـن الجـزء الثاني من صحيحـه. منـه (قدس سره).
وانظر: مشكاة المصابيح 2 / 335 ح 3672.
3- في مـا أخرجـه عنـه مسـلم أيضـاً في الجزء الثاني من صحيحـه. منـه (قدس سره).
وانظر: صحيح مسلم 6 / 14، شرح السُـنّة 6 / 42.
وقال سلمة الجعفي(1): يا نبيّ الله! أرأيت إن قامت علينا أُمراء يسألوننا حقّهم ويمنعوننا حقّنا فما تأمرنا؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " اسمعوا وأطيعوا، فإنّما عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم ".
وعن أُمّ سلمة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " ستكون أُمراء عليكم فتَعرفون وتُنكِرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سـلم "(2).
قالوا: أفلا نقاتلهم؟!
قال: " لا، ما صلّوا ".
والصحاح في هذا متواترة، ولا سـيّما من طريق العترة
____________
1- في ما أخرجه عنه مسلم، وهذه الأحاديث كلّها مسـتفيضة. منـه (قدس سره).
انظر: صحيح مسلم 6 / 19 كتاب الإمارة / باب في طاعة الأُمراء وإن منعوا الحقوق، مشكاة المصابيح 2 / 335 ح 3673.
2- هذا الحديث أخرجه مسلم في ص 122 من الجزء الثاني من صحيحه ; والمراد بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فمن عرف برئ " أنّ من عرف المنكر ولم يشـتبه عليه فقد صار له طريق إلى البراءة من إثمه وعقوبته بأن يغيّره بيده أو بلسانه، فإن عجز فليكرهه ولينكره بقلبه. منـه (قدس سره).
وانظر: شرح السُـنّة 6 / 38 ح 2459، مشكاة المصابيح 2 / 334 ح 3617.
فكانوا ـ كما قلناه في " المراجعـات "(1) ـ يتحرّون للقائمين بأُمور الأُمّـة وجوه النصح، وهم ـ من اسـتئثارهم بحقّهم ـ على أمرّ من العلقم، ويتوخّون لهم مناهج الرشد، وهم ـ من تبوّئهم عرشهم ـ على آلم للقلب من حزِّ الشِفار(2)، تنفيذاً للعهد، وعملا بمقتضى العقد، وقياماً بالواجب شرعاً وعقلا، من تقديم الأهمّ ـ في مقام التعارض ـ على المهمّ..
ولذا محض أمير المؤمنين كلاًّ من الخلفاء الثلاثة نصحَه، واجتهد لهم في المشورة.
فإنّه بعد أن يئس من حقّه في الخلافة شقّ بنفسه طريق الموادعة، وآثر مسالمة القائمين بالأمر.
____________
1- المراجعات: 441 ضمن المراجعة رقم 82.
2- الـشِّـفارُ والـشَّـفْـرُ، جمع: الـشَّـفْـرَةُ: وهي السِّـكّين العريضة العظيمة.. وشَفَرات السـيوف: حُروف حَـدّها ; انظر: لسان العرب 7 / 150 مادّة " شفر ".