الصفحة 41

قال علي أمير المؤمنين عليه السلام "ليس له صفة تنال، ولا حد يضرب له فيه الأمثال، كل دون صفاته تجير الصفات، وضل هنالك تعاريف الصفات وحار في مكنونه عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير، وحال دون غيبه المكنون حجاب من العيون وتاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الدهور". (1)

قال الإمام الصادق عليه السلام "إنه شيء بحقيقة الشيئية، غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الا وهام ولا تنقصه الدهور ولا يغيره الزمان". (2)

____________

1- بحار الأنوار، للمجلسي، ج 4.

2- الإحتجاج للطبرسي ج 2، إحتجاج الصادق في شتى العلوم.


الصفحة 42

وحدة الوجود

لعل الذي يتأمل في الآيات الكريمة الخاصة بالإحاطة وكذلك خطبة الإمام علي عليه السلام "مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة" وقوله "ألا أنه بكل شيء محيطا" (فاطر: 41) وغيرها يتصور أن ذلك دليلا حول وحدة الوجود ويتصورأن الله عز وجل مندمجاً في المادة هذه المادة العاجزة الخالية من العقل والتفكير. كلا بل هو منفصل ومستقل وإنفصاله عنها بسيط وظاهر لأن المادة خالية من الإرادة والوعي والعلم والله تعالى عالم والمادة تحتاج إلى من ينظمها ويوجدها ويشكلها لتؤلف هذا الكون.

ولا تنظم نفسها بنفسها ولو إدعى أحداً أزليتها إنما تحتاج إلى مؤثر. قال تعالى "إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده" (فاطر: 41).


الصفحة 43

بعض المصطلحات المنطقية والفلسفية

لما كان علم الفلسفة يحتاج إلى مقدمة كعلم المنطق. وكلاهما فيه من المصطلحات التي تحتاج إلى تعريف لذا نلجأ إلى توضيح بعض الإصطلاحات لتتم الفائدة:

الحادث: هو المسبوق بالغير أو المسبوق بالعدم.

المحدث: هو الذي وجوده مسبوق بالغير، أو المسبوق بالعدم.

القديم والأزلي: هو المصاحب لمجموع الأزمنة المحققة والمقدرة بالنسبة إلى جانب الماضي.

الأزلي: ما لا أول له.

الباقي: هو المستمر الوجود المصاحب لجميع الأزمنة.

الأبدي: هو المصاحب كجميع الأزمنة محققة كانت أو مقدرة بالنسبة إلى الجانب المستقل أو هو ما لا آخر له.

الإدراك: هو السمع والبصر أي هو مدرك. أن الله سامع ليس بآلة وباصر ليس بآلة.

الجوهر: هو المتحيز بذاته والموجود لا في موضوع.

العرض: هو الموجود القائم بغيره كالألوان القائمة بالأجسام.

الهيولي: الجوهر القابل للصورة (وهي قوة محضة ولا تنتقل إلى الفعل إلا بقيام الصورة بها).

الصورة: هي الجوهر الذي به تتحقق فعلية المادة.

الجسم: ما تركب من المادة والصورة.


الصفحة 44

النفس: الجوهر المجرد عن المادة ذاتا والمتعلق بها فعلا، لاحتياجها إلى الآلة في التأثير.

التسلسل: هو ترتب العلل إلى ما لا نهاية.

الدور: هو توقف وجود الشيء على نفسه.

العقل النظري: إدراك ما ينبغي أن يعلم.

العقل العملي: إدراك ما ينبغي أن يعمل.

العلة: ما يؤثر في غيره.

المعلول: هو الأثر الحادث عن العلة.

الوجود: أوضح المفاهيم الموجودة في ذهن الإنسان.

العقل: هو الجوهر المجرد من المادة ذاتا وفعلا.

اللاهوت: الألوهية وعلم التوحيد.

الناسوت: الإنسان أو العالم السفلي.

النسبة القيدية: في أحكام الجواهر والأعراف.

التماثل: نسبة بين المعقولين المتساويين في تمام الماهية كالبياضين والسوادين.

التخالف: ويقسم إلى التلاقي والتقابل.

التلاقي: يقع بين الشيئين الوجوديين اللذين يمكن إجتماعهما، إلا أن الإفتراق بينهما منشأ بسبب خارج عن الذات (الشيء) كاحتراق الحلاوة ومواد في السكر والفحم وهما المتخالفين.

التقابل: ويقع بين المتغايرين أحدهما للآخر لذاته ويقسم إلى أقسام أربعة.


الصفحة 45

التضايف: يقع بين الشيئين الوجوديين الذين يعقل كل منهما بالنسبة إلى الآخر نحو الأبوة والنبوة.

التضاد: ويقع بين الشيئين الوجوديين اللذين لا يجتمعان في محل واحد ويمكن أن يرتفعان عنه كالسواد والبياض.

الملكة وعدمها: ويقعان في الشيئين اللذين أحدهما وجودي والآخر عدمي من شأنه أن يتصف محله بوجود مقابله، أي فيه قابلية الإتصاف بالملكة (كالعمى) وهما لا يجتمعان في ذات واحدة ولا يرتفعان عنها.

التناقض: ويقع بين الشيئين اللذين أحدهما وجودي والآخر عدمي يمثل الوجودي طرف الإيجاب أو الإثبات ويمثل العدمي السلب أو النفي مثل الوجود والعدم.

الضروري: البديهي وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب ونظر وفكر كتصديقنا بأن الكل أعظم من الجزء.

النظري: ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر كتصديقنا بأن الأرض متحركة حول نفسها ويسمى الكسبي.

الدلالة المطابقية: دلالة اللفظ على تمام معناه الموضع له ويطابقه، كدلالة لفظ الكتاب على تمام تمام معناه فيدخل فيه جميع أوراقه وما فيه من غلاف.

الدلالة التضمينية: بأن يدل اللفظ على جزء معناه الموضوع الداخل في ذلك الجزء في ضمنه كدلالة الجزء ضمن الكل كما لو بعت الكتاب يفهم المشتري دخول الغلاف فيه.

الدلالة الإلتزامية: التلازم بين معنى اللفظ والمعنى الخارج اللازم تلازماً ذهنياً فلا يكفي التلازم في الخارج فقط من دون رسوخه في الذهن ولا لما حصل إنتقال الذهن فينتقل الى لازمة دون حاجة لتوسط كدلالة لفظ الدواة على القلم فلو طلب أحداً أن تأتيه بدواة ولم ينص على القلم وأتيته بالدواة لعاتبك بأن طلب الدواة كافٍ في الدلالة على طلب القلم بالإلتزام.


الصفحة 46

الفصل الحادي عشر
ما السبيل لمعرفة كنهه


"لا سبيل إلى معرفة كنه الخالق وحقيقته والإحاطة به كما قال "ولا يحيطون به علماً" (طه: 110).

وقوله: "وما قد روا الله حق قدره" (الأنعام: 91).

وفي الدعاء "سبحان الله من لا يعلم ما هو إلا هو".

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين.

وقال علي عليه السلام: من قال فيه لم فقد علله، ومن قال فيه حتى فقد وقته، ومن قال فيم فقد ضمنه، ومن قال أنى فقد أنهاه، ومن قال متى فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد ألحد فيه، لا يتغير الله بتغاير المخلوق ولا يتجدد بتجدد المحدود.

وعن الصادق عليه السلام: وكيف أصفه بالكيف وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا، فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف وتوضيح ذلك على ما قاله بعض العارفين: أن الخلق لم يعرفوا إلا إحتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع مدبر حي عالم سميع بصير قادر وهذه المعرفة لها طرفان:

الأول: يتعلق بالعالم ومعلوم إحتياجه إلى مدبر.

الثاني: يتعلق بالله، ومعلومه، أسامي مشتقة من صفات غير داخلة في حقيقة الذات وماهيتة.

وقد ثبت إنه إذا أشار المشير إلى شيء وقال ما هو لم يكن ذكر الأسماء المشتقة جوابا أصلاً، فلو أشار شخص إلى حيوان فقال ما هو فقيل طويل أو أبيض أو بصير، أو أشار إلى ماء فقال ما هو فأجيب بأنه بارد، أو إلى نار فقال حار، فكل ذلك ليس


الصفحة 47

بجواب عن الماهية الحقه، والمعرفة بالشيء هو معرفة حقيقته وماهيته لا معرفة الأسامي المشتقة، فإن قولنا حار معناة شيء مبهم له وصف الحرارة، وكذلك قولنا قادر عالم معناه شيء مبهم له وصف العلم والقدرة.

وأما قولنا أنه واجب الوجود فهو عبارة عن إستغناءه عن الفاعل، وهذا يرجع إلى سلب السبب عنه. وقولنا أنه يوجد عنه كل موجود يرجع إلى إضافة الأفعال إليه، فإذا قيل له ما هذا الشيء فقلنا: هو الفاعل لم يكن جواباً فكيف قولنا هو الذي لا سبب له لأن كل الأخبار عن غير ذاته وعن إضافة له إلى ذاته إما بنفي أو إثبات، وكل ذلك في أسماء وصفات وإضافات فإنا لما رأينا الوجود والقدرة والعلم فينا وعلمنا أنها ليست من ذواتنا بل من الفياض الحقيقي علمنا أنه موجود قادر عالم ونجد ذلك بلا كيفية لصفاته.

ولما رأينا فينا بعض الكلمات كالوجود والقدرة والعلم والحياة والإدراك ونحوها وعلمنا أن نقائضها من العدم والعجز والجهل والموت وعدم الإدراك نقائض، وصفنا ربنا بالكمالات ونزهناه عن النقائض مع عدم علمنا بكنه ما أثبتناه له تعالى.

فنهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه حق معرفته، وأنه لا يمكنهم معرفة الحقيقية البتة وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفاته الربوبية إلا الله تعالى. فإذا انكشف لهم ذلك انكشافاً برهانياً فقد عرفوه أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته.

وهو الذي أشار إليه من قال العجز عن الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر ومن حيث قال: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولم يرد به أنه عرض منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه بل معناه إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتيك وإنما أنت المحيط بها وحدك. وقال صل الله عليه وآله وسلم: إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملا إلا على يطلبون كما تطلبونه أنتم.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله: من نظر في الله كيف هو هلك، وإما اتساع المعرفة فإنما يكون من معرفة أسمائه وصفاته وبما تتفاوت درجة درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة الله عز وجل وليس من يعلم أنه قادر عالم على الجملة


الصفحة 48

كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السماوات والأرض، وخلق الأرواح والأجساد وأطلع على بدائع المملكة وغرائب الصفة ممعنا في التفصيل ومستقصياً دقائق الحكم، ومستوفيا لطائق التدبير، ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله تعالى نائلا لتلك الصفات نيل إتصافه بها، بل بينهما من البون البعيد ما لا يكاد يحصى وفي تفصيل ذلك ومقاديره. تتفاوت الدرجات فلا تلتفت إلى من يزعم أنه وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة بل أحث التراب في فيه فقد ضل وغوى وكذب وافترى فإن الواقع أرفع وأظهر من أن يتلوث بخواطر البشر، وكلما تصوره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ، وأقصى ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغه في التدقيق سبحان من حارت لطائف الأوهام في بيداء كبريائه وعظمته وسبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.

وكما يمتنع على غير الله تعالى معرفة كنه ذات الله فكذلك يمتنع معرفة كنه صفاته لأن صفاته تعالى عين ذاته وكما وصفه به العقلاء فإنما هو على قدرأفهامهم وبحسب وسعهم فإنهم إنما يصفونه بالصفات التي ألفوها وشاهدوها في أنفسهم مع سلب النقائض الناشئة من إنتسابها إليهم بنوع من المقايسة ولو ذكر لهم من صفاته عز وجل ما ليس لهم ما يناسبه بعض المناسبة لم يفهموه ككونه تعالى لا أول له ولا آخر، ولا جزء له وليس في مكان ولا زمان، كان ولم يكن معه شيء من زمان أو مكان أو ليل أو نهار أو ظلمة أو ضياء، حاروا وتحيروا وعجزوا ولم يفهموا شيئاً فتوصيفهم إياه سبحانه بأشرف طرفي النقيض كالعلم والجهل والقدرة والعجز أو الحياة والموت إنما هو على قدرهم لا قدره، وبحسبهم لا بحسبه، فسبحانه عما يصفون وتعالى شأنه عما يقولون، ولذا قال باقر العلوم عليه السلام هل سمي عالماً قادراً الا لأنه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرون، وكلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق ممنوع متكلم مردود إليكم والباري تعالى واهب الحياة ومقدر الموت ولعل النمل الصغار تتوهم إن لله زبانيتين أي قرنين فإنهما كمالها وتتصور أن عدمهما نقصان لمن لا يكونان له، ولعل حال كثير من العقلاء كذلك فيما يصفون الله تعالى به سبحان ربك رب العزة عما يصفون، ولذا أورد النهي عن وصفه تعالى بغير ما وصف به نفسه". (1)

____________

1- حق اليقين.


الصفحة 49

الفصل الثاني عشر
ماهيته إ نيّته


يعم بحثنا بشرح ما قدمناه وما ذكر في الفصل الثالث في كتاب نهاية الحكمة للسيد محمد حسين الطباطبائي وقد شرحه السيد كمال الحيدري "واجب الوجود ماهيته إنيّته بمعنى أن لا ماهية له وراء وجوده الخاص به، وذلك أنه لو كانت له ماهية وذات وراء وجوده الخاص به، لكان وجوده زائداً على ذاته عرضياً لها، وكل عرضي معلل بالضرورة، فوجوده معلل، وعلته إما ماهيته أو غيرها. فإن كانت علته ماهيته - والعلة متقدمة على معلولها بالوجود بالضرورة - كانت الماهية متقدمة عليه بالوجود، وتقدمها عليه إما بهذا الوجود، ولازمه تقدم الشيء على نفسه وهو محال، وإما بوجود آخر وننقل الكلام إليه ويتسلسل. وإن كان علته غير ماهيته، فيكون معلولا لغيره، وذلك ينافي وجوب الوجود بالذات.

وقد تبيّن بذلك أن الوجوب بذاته وصف منتزع من حاق وجود الواجب، كاشف عن كون وجوده بحتاً في غاية الشدّة غير مشتمل على جهة عدمية، إذ لو اشتمل على شيء من الأعدام، حرم الكمال الوجودي الذي في مقابله، فكانت ذاته مقيّدة بعدمه، فلم يكن واجباً بالذات صرفاً له كل كمال.

الشرح: بعد أن ثبت في الفصل الأول أن الموجود ينقسم إلى الواجب والممكن، تعرض المصنف لبيان أحكام الواجب وأحكام الممكن، وبدأ يذكر أهم خواص واجب الوجود وهو أنه لا ماهية له وراء وجوده الخاص به. وهذا هو موضوع الفصل الثالث. وقبل إيراد الدليل الذي أقامه لإثبات هذه الدعوى لا بأس بالإشارة إلى البحوث التالية:

الأول: تحرير محل النزاع.

الثاني: ألنتائج المترتبة على تحقيق هذه المسألة.

الثالث: الأقوال فيها.

البحث الأول: تحرير محل النزاع:

تستعمل الماهية في البحوث الفلسفية على نحوين، فمرة تطلق ويراد بها ما يجاب به عن السؤال بـ"ما هو" وهذا المعنى هو ما يناله العقل من الموجودات الممكنة عند


الصفحة 50

تصورها تصوراً تاماً، وإن شئت قلت: قالب ذهني كلي للموجودات العينية، أو الحد العقلي الذي ينعكس في الذهن من الموجودات المحدودة، ويقال لها: الماهية بالمعنى الأخص، وتطلق أخرى ويراد بها "ما به الشيء هو هو" ويقال لها الماهية بالمعنى الأعم، لأنها تشمل الماهية بالمعنى الأخص والوجود والعدم أيضا، لأنه إن كان مصداق الشيء هو الماهية، فحقيقته وما به هو هو هي الماهية، وإن كان هو الوجود فهو الوجود، وإن كان العدم فهو العدم. وهذا الإصطلاح يصدق على ما لا ماهية له بالمعنى الأول كالواجب (تعالى) على مذاق مشهور الفلاسفة، وما له ماهية كالإنسان والماء والشجر ونحوها.

قال صدر المتألهين في الأسفار: إن الأمور التي تلينا لكل منها ماهية وإنية، والماهية ما به يجاب عن السؤال بـ"ما هو" كما أن الكمية ما به يجاب عن السؤال بـ"كم هو" وقد يفسر بـ"ما هو الشيء هو هو". وقد علق المصنف على هذا الكلام بقوله: "إن أخذ الجواب عن السؤال في هذا التعريف الأول، يدل على كون المعرّف - بالفتح - أمرا معقولا جائز الحلول في الذهن، ولا ينطبق هذا إلا على تلك الأمور الخارجية التي حيثية ماهيتها دون حيثية وجودها وخارجيتها المقابلة للذهن. وأما قولهم "ما به الشيء هو هو" فكما يجوز إنطباقه على حيثية ماهية الأشياء كذلك يجوز صدقه على حيثية وجودها، فيكون التعريف الثاني أعم مطلقاً".

إذا عرفت ذلك نقول: اختلفت تعبيرات القوم في هذه المسألة، فقد عبّر عنها المصنف في المتن "واجب الوجود ماهيته إنيته" وعبر عنها في نهاية الحكمة "واجب الوجودة لا ماهية له" وعبر عنها إبن سيناء في "الشفاء": "إن الأول لا ماهية له غير الأنية". لذلك قد يشكل على الجمع بين قولهم "لا ماهية له" وقولهم "ماهيته إنيته". وعندئذ يمكن أن يقال - كما ذكر شيخ الأشراق - "إن الماهية قد يعنى بها ما به يكون الشيء هو ما هو، وبهذا المعنى يقولو للباري ماهيته هي نفس الوجود وقد تخصّص بما يزيد على الوجود مما به الشيء هو ما هو فتقتصر على أشياء الوجود من لواحقها، وبهذا الإعتبار يقولون "الأول لا ماهية له" أي أمر يعرض له الوجود".

وهذا ما أشار إليه شيخنا حسن زاده آملي بقول "إنه تعالى إنية صرفة ووجود بحث وحقيقة محضة لا تشوبه وصمة الماهية أصلا، فلو أطلقت الماهية عليه (تعالى) فهي بمعناها الأعم، أي ما به هو هو، فإن الماهية بهذا المعنى يصح إطلاقها على الوجود أيضا فيصح إطلاقها عليه (تعالى)، وأما بمعناها الأخص، أي ما يقال في جواب ما


الصفحة 51

هو فهي مسلوبة عنه (تعالى). وربما قيل: يراد بالماهية في قولهم "ماهيته إنيته" المعنى الأول كما هو الحال في قولهم "لا ماهية له" فيكون هذا التركيب مجازياً للمبالغة في نفي الماهية عن الواجب (تعالى) كما تقول: "حدّه أنه لا حدّ له".

البحث الثاني: النتائج المترتبة على المسألة:

تعد هذه المسألة من أهم الأصول والقواعد حيث تبتني عليها فروع كثيرة في الإلهيات بالمغنى الأخص، وسيأتي بيان تلك النتائج في المرحلة الأخيرة من الكتاب، وللإشارة تعرض لبعضها:

- إثبات بساطة ذاته (تعالى) وعدم وجود جنس مشترك بينه وبين سائر الموجودات. وهذه البساطة لا يمكن إثباتها إلا بالإلتزام بأن الواجب (تعالى) لا ماهية له وراء وجوده الخاص به، وذلك لأن "كل ما يفصله الذهن إلى معروض وعارض هو الوجود، كان في مرتبة ذاته - مع قطع النظر عن العارض الذي هو الوجود - كلياً بالضرورة، وكل ما له ماهية كلية، فنفس تصورها لا يأبى أن يكون لها جزئيات غير متناهية إلا لمانع خارجي.

فلو كان المفروض واجباً معنى غير نفس الوجود، يكون معنى كلياً له جزئيات بحسب العقل، فتلك الجزئيات إما أن تكون جميعها ممتنعة لذاتها أو واجبة لذاتها أوممكنة لذاتها. لا سبيل إلى الأول وإلا لما تحقق شيء منها، والكلام على تقدير وجود فرد واجب منها، فلا يمتنع شيء منها لماهيتها، ولا إلى الثاني وإلا لوقع الكل وهو محال، ولا إلى الثالث وإلا لكان هذا الواقع ممكناً أيضا مع أنه واجب، هذا خلف. فإذن إن كان في الوجود واجب بالذات فليس له ماهية وراء الوجود بحيث يفصله الذهن إلى أمرين، فهو الوجود الصرف".

- إثبات توحيده (تعالى):

ودفع بعض الشبهات التي أوردت حوله. "وليعلم أن البراهين الدالة على هذا المطلب - يعني توحيده تعالى - الذي هو من أصول المباحث الإلهية كثيرة، لكن تتميم جميعها مما يتوقف على أن حقيقة الواجب (تعالى) هو الوجود البحت القائم بذاته المعبّر عنه بالوجود المتأكد. وبها يندفع ما تشوشت به طبائع الاكثرين وتبلدت أذهانهم مما ينسب إلى أبن كمونه، لإشتهاره بإبداع هذه الشبهة العويصة والعقدة العسيرة الحل". وسيأتي تقريرها والجواب عنها في الفصل الثاني من المرحلة الثانية عشرة.


الصفحة 52

- عدم إستطاعة العقل التعرف على كنه ذاته (سبحانه):

لأن العقل إنما يمكنه إكتناه الماهيات، وأما ما لا ماهية له فليس للعقل أن يعرف كنهه، لذلك قيل "إن حقيقة الواجب غير معلومة لأحد بالعلم الحصولي الصوري، فهذا مما لا خلاف فيه لأحد من الحكماء والعرفاء، وقد أقيم عليه البرهان، كيف وحقيقته ليست إلا نحو وجوده العيني الخاص به، وليس الوجود الخاص للشيء متعدداً بخلاف الماهية، فإنها أمر مبهم لا تأبى تعدد أنحاء الوجود لها، والعلم بالشيء ليس إلا نحواً من أنحاء وجود ذلك الشيء للذات المجردة".

وهذا بالإضافة إلى نتائج أخرى سنقف عليها في موضعها المناسب إن شاء الله، وربما قيل أيضا: إن هذه المسألة تطرح مرة في الإلهيات بالمعنى الأعم والأمور العامة وتطرح أخرى في الإلهيات بالمعنى الأخص، وهذا ما صنعه صدر المتالهين في كتابه "الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة" وتبعه المصنف في "نهاية الحكمة" وعندئذ هل يعدّ هذا تكرار في البحث أم هناك نكتة فنية توجب ذلك؟

والجواب أن الذي تثبته البراهين من وجود الواجب (تعالى) في الإلهيات بالمعنى الأخص هو الموجود الذي لا واسطة في الثبوت لوجوده، أي لا يحتاج في تحقق ذاته إلى غيره، بخلاف الممكن فإنه يحتاج في وجوده إلى واسطة في ثبوته، وأما نفي الواسطة في العروض، أي أن الواجب تعالى لا يحتاج إلى غيره في عروض الوجود للماهية، باعتبار أنه لا ماهية له وراء وجوده، فهو الذي يثبت من خلال هذا البحث.

قال المصنف في حواشيه على الأسفار "هذا البحث لا محيص عنه حتى على تقسيم المصنف - صدر المتالهين - الموجود إلى الواجب والممكن، بانتزاع الوجود عن ذاته بذاته، وانتزاعه بملاحظة غيره، فإن الممكن على هذا التقسيم يمكن أن يكون موجوداً بالواسطة في الثبوت كالوجود الإمكاني، أو بالواسطة في العروض كالماهية، فالواجب موجود بذاته من غير واسطة خارجة، أعم من الواسطة في الثبوت والواسطة في العروض، إلا أن الذي يثبته نوع البراهين من وجود الواجب هو الموجود الذي لا واسطة في الثبوت لوجوده، فنفي الواسطة في العروض في مورده يحتاج إلى هذا البحث، حتى يتم للواجب مصداق على هذا التقسيم".


الصفحة 53

البحث الثالث:

الأقوال في المسألة: ذكر الفخر الرازي في كتابه "المطالب العالية من العلم الإلهي" تحت عنوان "إن وجود الله تعالى نفس ماهيته أو صفة زائدة على ماهيته" : "إنه من المعلوم بالضرورة أنا نصف واجب الوجود لذاته بأنه موجود، ونصف أيضاً ممكن الوجود لذاته بأنه موجود. فنقول: إما أن يكون وقوع لفظ الوجود على هذين القسمين بحسب مفهوم مشترك بين هذين القسمين، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون بحسب الإشتراك اللفظي فقط. فإذا كان الحق هوالقسم الأول فنقول: هذا القسم ينقسم إلى قسمين آخرين.

وذلك لأن ذلك المفهوم المسمى بالوجود، إما أن يقال: إنه في حق واجب الوجود مقارن لماهية أخرى، ويكون هذا الوجود صفة لتلك الماهية ولاحقاً من لواحقها، وإما أن يقال: إنه أمر قائم بنفسه مستقل بذاته من غير أن يكون صفة لشيء من الماهيات، ومن غير أن يكون عارضاً لشيء من الحقائق. فيثبت أن القول في وجود الله تعالى لا يمكن أن يخرج من هذه الأقسام الثلاثة:

الأول:

قول من يقول: لفظ الموجود الواقع على الواجب لذاته وعلى الممكن لذاته، لا يفيد مفهوماً واحد مشتركاً فيه بين القسمين، بل هو بحسب الإشتراك اللفظي فقط، وهو قول طائفه عظيمة من المتكلمين كأبي الحسن الأشعري وأبي الحسين البصري.

الثاني:

قول من يقول: لفظ الموجود يفيد مفهوماً واحداً، إلا أنه في حق واجب الوجود لذاته وجود مجرد، أعني أنه وجود بشرط كونه غير عارض لشيء من الماهيات، بل يكون وجوداً قائماً بنفسه، وبهذا التقدير يكون وجود الله تعالى نفس حقيقته. وهو القول الذي اختاره إبن سينا في جميع كتبه.

الثالث:

قول من يقول: إن الوجود صفة من صفات حقيقة الله تعالى ونعت من نعوت ماهيته، وبهذا التقدير فوجود الله غير ماهيته. وهو قول طائفة عظيمة من المتكلمين وهو الذي نصرناه في أكثر كتبنا".


الصفحة 54

والذي ينبغي الوقوف عنده هما القولان "الأخيران، وإما الأول فقد تقدم الكلام عنه في الفصل الثاني من المرحلة الأولى وما يرد عليه. ولذا سوف نتوقر قليلاً على توضيح هذين القولين وما يمكن أن يقال فيهما.

القول الأول:

وهو الذي اختاره الفخر الرازي ونسبه إلى طائفة من المتكلمين، وتوضيحه أنه بعد أن حكم أن الوجود شيء واحد في الجميع بنحو الإشتراك المعنوي، ولا يقع على الموجودات بنحو الإشتراك اللفظي "صرح بأن وجود الواجب مساو لوجود الممكنات، ثم أنه لما رأى وجود الممكنات أمراً عارضاً لماهياتها، وكان قد حكم بأن وجود الواجب مساو لوجود الممكنات، حكم بأن وجود الواجب أيضا عارض لماهيته، فماهيته غير وجوده، وظن أنه إن لم يجعل وجود الواجب عارضاً لماهيته، لزمه أما كون ذلك الوجود مساويا للوجودات المعلولة، وإما وقوع الوجود على الواجب ووجود غيره بالإشتراك اللفظي".

والتأمل في كلماته جميعاً توصل إلى أنه يريد بيان حقيقة أن وجوده (تعالى) عارض على ماهيته وحقيقته عيناً وخارجاً وبتعبيره "نعت من نعوت ماهيته" والشاهد على ذلك الحجة التي أقامتها الحكمة المشائية لإبطال هذا القول، حيث سيتضح أنها قائمة على إفتراض أن عروض الوجود للماهية وزيادته عليها إنما هي في الواقع الخارجي لا التحليل العقلي. إذن فهذا القول يذهب إلى الزيادة العينية للوجود على الماهية فيه (تعالى) فضلا عن الزيادة والعروض الذهني له عليها. ولكن من جهة أخرى يرى أن ماهيته مجهولة الكنه بالنسبة إلينا، ولا يمكن الوقوف عليها، كما هو الأمر في الماهيات الإمكانية، التي يمكن التعرف عليها وجعلها في جواب السؤال بـ"ما هو".

القول الثاني:

إن واجب الوجود لا ماهية له بحسب التحليل العقلي فضلا على الواقع الخارجي، وهذا بخلاف الممكن كالإنسان مثلاً، فإن له ماهية هي الحيوان الناطق ووجوداً هو كونه في الأعيان، وهو الذي اختاره أكثر الحكماء "سواء كانوا قائلين بأصالة الوجود أو لا، فإنهم قائلون في هذه المسألة بأن أنيته تعالى ماهيته، بمعنى أنه لا ماهية له سوى الوجود الخاص المجرد عن مقارنة الماهية، وكما أنهم متفقون في أن الوجود أصل فيه تعالى كذلك متفقون أن ذلك الوجود الأصيل إنية صرفة".


الصفحة 55

قال الشيخ إبن سينا في إلهيات الشفاء "إن الأول لا ماهية له وراء الإنية" بمعنى إن واجب الوجود لا يصح أن يكون له ماهية يلزمها وجوب الوجود، ثم أوضح هذا المدعّى من خلال مثال هو أن المبدأ تعالى يتصف بانه واحد فقال: "والذي جعله - أي المبدأ - منهم واحداً، فمنهم من جعل المبدأ الأول لا ذات الواحد، بل شيئاً هو الواحد، مثل ماء أو هواء أو نار أو إنسان هو واحد، ومنهم من جعل المبدأ ذات الواحد من حيث هو واحد، لا شيء عرض له الواحد، ففرق إذن بين ماهية يعرض لها الواحد والموجود، وبين الواحد الموجود من حيث هو واحد وموجود.

فنقول: إن واجب الوجود لا يجوز أن يكون على الصفة التي فيها تركيب حتى يكون هناك ماهية ما، وتكون تلك الماهية واجبة الوجود، فيكون لتلك الماهية معنى غير حقيقتها، وذلك المعنى وجوب الوجود، مثلاً إذا كانت تلك الماهية أنه إنسان فيكون إنه إنسان غير أنه واجب الوجود".

القول الثالث:

وهو الذي يأخذ من كل من القولين السابقين شيئاً ويدع شيئا آخر، أما المأخوذ من الأول فهو قبول أن للواجب (تعالى) ماهية ووجوداً بحسب التحليل العقلي، وذلك لأن متقضى كونه وجوداً شخصياً ممتازاً عن غيره، كونه واجداً لما به يمتاز عما عداه، وما به إمتياز كل موجود عن غيره هو ماهيته التي تقال في جواب السؤال بـ"ماهو"، وإما المتروك منه فهو دعوى الزيادة والعروض بحسب الواقع الخارجي. والمأخوذ من الثاني أن الواجب (تعالى) بسيط حقيقة في متن الأعيان، وأن ماهيته عين وجوده الخارجي من دون تقدم أحدهما على الآخر في الواقع، لأن الموجود في الحقيقة هو الوجود، والماهية منتزعة عنه. وإذ جاء في كلمات الإعلام تقدم الوجود - بحسب العين - على الماهية، فمعنا أن الوجود هو الأصل في التقرر والتحقق في الأعيان لكونه نفس التقرر فيها، والماهية مفهومة منه منتزعة عن نحو الوجود الخاص، فتكون فرعاً للوجود بهذا الإعتبار، لا بمعنى المعلولية والتأثر، وليس هذا الأمر مختصاً بالواجب (تعالى)، بل نعتقد أن ذلك جار في الوجودات الإمكانية أيضا. قال المحقق الطوسي في شرح الإشارات: "إذا صدر عن المبدأ وجود، كان لذلك الوجود هوية مغايرة للأول، ومفهوم كونه صادراً عنه غير مفهوم كونه ذا هوية، فإذن ها هنا أمران معقولان:

أحدهما: الأمر الصادر عن الأول، وهو المسمى بالوجود.


الصفحة 56

وثانيهما: هو الهوية اللازمة لذلك الوجود، وهي المسمى بالماهية" وربما أشارت بعض كلمات صدر المتالهين إلى هذه الحقيقة أيضا، قال "وتحقيق الحق، إنه كما يوجد في الخارج شخص كزيد مثلا، ويوجد معه صفاته وأعراضه وذاتياته، كالأبيض والضاحك والماشي والجالس والنامي والحيوان والناطق، فهي موجودات توجد بوجود زيد، بل عين زيد ذاتا ووجوداً"، بتعبير آخر: تنتزع الماهية من مرتبة هوية الوجود، فهي غير الوجود ذهنا وعينه خارجاً.

وإما المتروك من الثاني فهو القول إنه لا يمكن تحليل واجب الوجود عقلا إلى ماهية ووجود. أجل، هذه الماهية مجهولة لكنه لغيره (تعالى) إذ لا يحيطون به علماً.

فأن قلت: كيف يصدق على ما به إمتيازه من غيره الماهية، وهي ما يقال في جواب السؤال بـ "ما هو" ولا يمكننا العلم بماهيته حتى نقوله في جواب "ما هو"؟

قلت: ليس معنى كون الشيء له ماهية تقال في جواب "ما هو" هو أن نقدر على معرفة تلك الماهية، وإنما المراد هو قبوله لذلك وإن لم نقدر عليه، فإن عدم علمنا بماهية شيء لا ينافي كونه ذا ماهية.

لقد إستدل المصنف في المتن لإثبات مدعى الحكماء بهذا البيان: لو كان للواجب (تعالى) ماهية وراء وجوده الخاص به، لكان وجوده زائداً على ذاته عرضياً لها، لأن الماهية - كما سيأتي في الفصل الأول من المرحلة الخامسة - من حيث هي ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة. بمعنى أن الموجودية ونقيضها ليس شيء منهما مأخوذا في حد ذاتها، بأن يكون عينها أو جزؤها، ومن ثم فهي لا تأبى أن تتصف بهما. إذن الوجود لا هو عين الماهية ولا جزؤها، كما هو الأمر في الحيوانية والناطقية بالنسبة إلى الإنسان. وكذلك لس الوجود لازماً إصطلاحيا للماهية كالزوجية إلى الأربعة، ولا هو لازم ذاتي للماهية كالإمكان بالنسبة إليها. فينحصر الأمر في أن يكون عرضاً غريباً للماهية. هذه صغرى القياس. أما الكبرى فهي قاعدة فلسفية مفادها "أن كل عرضي فهو معلل" بمعنى أن الوجود العارض لكي يحمل على الموضوع المعروض له يحتاج إلى علة.

قال صدر المألهين: "إن كل ماهية يعرض لها الوجود ففي إتصافها بالوجود وكونها مصداقاً للموجود، يحتاج إلى جاعل يجعلها كذلك، فإن كل عرضي معلل" فإذا كان وجوده معللا فيحتاج إلى علة، والعلة إما ماهية الواجب أو غيرها ولا ثالث لهما. والثاني محال لأنه يلزم أن يكون الواجب بالذات واجباً بالغير، وقد تقدم إسحالته في الفصل الثاني من هذه المرحلة. فينحصر الأمر في أن تكون الماهية علة لوجوده، وسيأتي في مباحث العلة والمعلول أن العلة التي تفيض الوجود لابد أن تكون متقدمة على المعلول وجوداً، لمكان توقف وجود الفعل على وجود الفاعل.

إذن فالماهية الموجودة تكون علة للوجود العارض عليها. هنا ننقل الكلام إلى الوجود الذي يقع وصفاً للماهية التي هي في رتبة العلة، هل هو نفس الوجود الذي يقع في رتبة المعلول أو غيره، ثم إحتمالان لا ثالث لهما، فإذا كان أحدهما عين الآخر يلزم تقدم الشيء على نفسه، لأن المعلول متأخر وجوداً والعلة متقدمة وجوداً، وبطلانه ضروري، حيث يكون الواجب موجوداً قبل أن يحصل له الوجود أي في حال العدم، والوجود في حال العدم جمع للنقيضين الذي هو بديهي الإستحالة. أما إذا كان الوجود في رتبة العلة غير الوجود في رتبة المعلول، فإنه - بالإضافة إلى أن ماهية واحدة توجد بوجودين، وهو غير معقول كما تقدم - يلزم التسلسل في الوجودات، لأننا ننقل الكلام إلى الوجود الذي في رتبة العلة، هل هو عين الماهية أو زائد عليها، فإن كان زائداً عليها كما هو المفروض، فيأتي البيان السابق، فتسلسل وجودات لا متناهية بالنسبة إلى الواجب سبحانه. "وهذا التسلسل المحال عند الحكماء لأن تلك الانيات مترتبة من جهة أن الوجود السابق منشأ للاحق، حيث إن العلة بوجودها مفيضة، ومجتمعة في الوجود أيضا كما هو الظاهر".


الصفحة 57

قال صدر المتألهين: "لو كان وجوده زائداً عليه يلزم تقدم الشيء بوجوده على وجوده، وبطلانه ضروري من دون الإستعانة بما ذكره صاحب المباحث، من أنه يفضي إلى وجود الشيء مرتين وإلى التسلسل في الوجودات، لأن الوجود المتقدم إن كان نفس الماهية فذاك، وإن كان غيرها عاد الكلام فيه وتسلسل.

وجه اللزوم: أن الموجود حينئذ يحتاج إلى الماهية إحتياج العارض إلى المعروض، فيكون ممكنا، ضرورة إحتياجه إلى الغير، فيفتقر إلى علة هي الماهية لا غير، لإمتناع إفتقار الواجب في وجوده إلى الغير، وكل علة فهي متقدمة على معلولها بالضرورة، فتكون الماهية متقدمة على وجودها بوجودها".


الصفحة 58

نفي التشبيه

في قوله "ليس كمثله شيء" فهو تعالى ليس له نظير من أي جهة، وذلك لأنه وجود مستقل بذاته، ولا نهاية له وغير محدود من جميع الجهات، لا في علمه، ولا في قدرته، ولا في حياته، ولا في إرادته. وإما ما سواه من الموجودات فهي تابعة ومحدودة ومتناهية وناقصة لذا لا يوجد وجه شبه بين وجوده الذي يمثل الكمال المطلق وبين النقصان المطلق (أي الموجودات) الإمكانية فهو الغني المطلق، ومن سواه فقير ومحتاج في كل شيء. وليس كذاته المقدسة شيء لأنه متنزه عن المثيل والشبيه وهو موجود في كل مكان وليس له كفوء أحد بمعنى ليس له نظير أو ضد والله أكبر من أن يوصف وأعلى من الخيال والقياس والظن والوهم ولا يقاس بمخلوقاته "ما قدّروا الله حق قدره" أي المشركون لأنهم قاسوه بمخلوقاته. قال أمير المؤمنين في خطبته الأشباح: وأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، ونطقت به شواهد صحيح بيناتك، وأنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكرها مكيف، ولا في روايات خواطرها فتكون محدوداً مصرفاً".

وفي حديث الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام بجوابه لأبو فروة عند سؤاله عن التوحيد "أنا روينا أن الله عزو وجل قسم الرؤية والكلام بين إثنين فقسم لموسى عليه السلام الكلام ولمحمد صلى الله عليه وآله الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن الله عز وجل إلى الثقلين الجن والإنس ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" و"لا يحيطون به علما" و"ليس كمثله شيء" أليس محمد صلى الله عليه وآله قال: فكيف يجب رجل إلى الخلف جميعا ويخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول ألا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، (ولا يحيطون به علما) (وليس كمثله شيء) ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً وهو على صورة البشر، أما تستحيون، ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشيء، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.

قال أبو فروة: فإنه يقول (ولقد رآه نزلة أخرى) فقال أبو الحسن عليه السلام: إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى، حيث قال: "ما كذب الفؤاد ما رأى" يقول ما كذب فؤاد محمد صل الله علي وآله ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى فقال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى، فآيات الله عز وجل غير الله: وقد قال ولا يحيطون به علماً، فإذا رأته


الصفحة 59

الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة، فقال أبو فروة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبت بها وما أجمع المسلمون عليه إنه لا يحاط به علم. لا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء.


الصفحة 60

مصادر البحث


1- كتاب كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

شرح الشيخ جمال الدين الحسن بن يوسف العلامة الحلي

2- حق اليقين في معرفة أصول الدين

للعلامة السيد عبد الله شير

3- التوحيد للسيد كمال الحيدري

4- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر

للمقداد السيوري

5- الكافي للكليني

6- التوحيد للشيخ أبي جعفر محمد بن علي الصدوق

7- علل الشرائع للشيخ أبي جعفر محمد بن علي الصدوق

8- بداية الحكمة للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي

9- نهاية الحكمة للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي

10- منظومة الحكمة للسيد عبد الهادي السبزواري

11- الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة لصدر المتألهين

12- موجز علم الكلام للدكتور عبد الهادي الفضيل