الأمثال‏ والحكم ‏المستخرجة من ‏نهج‏البلاغة

 

محمد الغروي‏

 

 

اسم‏الكتاب: الأمثال‏ والحكم ‏المستخرجة من ‏نهج‏البلاغة

المؤلف: محمد الغروي‏

الموضوع: أمثال وأعلام‏

القطع: وزيري‏

عدد الصفحات: 676

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي‏

سنةالنشر: 1407

مكان‏الطبع: قم‏

عصرالمؤلف: معاصر

المذهب: شيعي‏

إعداد نسخة الكتروني: متين الأنطاكي – موقع الغدير

www.elgadir.com

تنبيه: موافق للمطبوع

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 5

تمهيد

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد خاتم النّبيّين، وعلى عليّ أمير المؤمنين وأولاده الخلفاء المعصومين، ولا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين الإمام المهديّ المنتظر عجّل اللّه فرجه الشّريف.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 6

في ضمن دراستنا للأمثال والحكم استخرجنا ما يقرب من ألف مثل من كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في كتاب (نهج البلاغة)، وغيره. سمّيناه (الأمثال والحكم العلويّة) تباعا لكتابنا (الأمثال النّبويّة). وقد رأينا أن نقدّم قسما من الأمثال والحكم المستخرجة من نهج البلاغة، تلبية لطلب بعض الإخوان وليكون بداية خير للأمثال العلويّة.

         وأوّل الغيث رشّ ثم ينسكب.

 

هذا، وقد استخرجنا من روايات سائر أهل البيت المعصومين عليهم السّلام كميّة كبيرة من الامثال لا تقلّ عن هذا العدد في هذه الدّراسة المثليّة لاشتراكها كلّها في تهذيب النّفوس، والأهداف الرّفيعة، والدّعوة إلى دين اللّه جلّ جلاله الخالص.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 7

الأمثال:

تنقسم الأمثال إلى: مثل سائر، ومثل قياسيّ.

و المثل السّائر: ما قاله القائل من العرب، أو غير العرب في واقعة اقتضته، ثمّ جرى على الألسن، وسار به الرّكبان يتمثّل به في الشّي‏ء المنشود المشابه للواقعة بدون تبديل.

و القياسيّ: هو تصوير، يخلقه المصوّر، لتوضيح فكرة عن طريق تشبيه، يسمّيه أرباب البلاغة: (التّمثيل المركّب) أو إبداع، يقصد جمال التّصوير به، ويجمع بينه وبين ما ينشده المتمثّل من أهداف.

و إن شئت قلت عن الأوّل: كلّ حكمة جارية على الألسن، كما قاله العسكريّ وعن الثّاني: كلّ ما يبدعه الممثّل.

و المثل المبحوث في هذا الكتاب ما يشمل الأقسام حتّى الصّالح لأن يكون مثلا، كما يمرّ إن شاء اللّه تعالى.

التّصنيف:

بوسعنا أن نصنّف الأمثال في (نهج البلاغة)، وسائر كلمات الإمام عليه السّلام إلى: قرآنيّة، وأمثال سائرة، وقياسيّة وإلى: نثريّة، وشعريّة وإلى: جاهليّة، وإسلاميّة، ومخضرمة وإلى ما سواها من صنوف.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 8

الفوائد:

قد استوفينا كتابة شي‏ء كثير من فوائد الأمثال، في مقدّمة (الأمثال النّبويّة)، و(الأمثال العلويّة)، مضافة إلى (الأمثال القرآنيّة) وكذلك تعاريف القوم لها، فلا نعيد.

الكتب المؤلّفة:

قد أشار إلى عدّة منها صاحب رسالة الإسلام كما يلي، قال: وأراني قبل أن أدخل البحث مطالبا بالإشادة، بذكر جهود متقدّمين، ساهموا في جمع جملة من أمثال الإمام عليه السّلام وحكمه، ممّا هو ضمن (نهج البلاغة)، وما هو في غيره، وكذلك شاركوا في شرحها بما يوضح معانيها.

و مجموعاتهم حسبما يذكرها كارل برو كلمان-  هي: 1-  100 حكمة ومثل. وقد ترجمت إلى الفارسيّة والتّركيّة والألمانيّة.

و شرحت من قبل: أ-  رشيد الدّين الوطواط.

ب-  المستشرق فلايشر.

ج-  حسين بن معين الدّين الميبديّ.

د-  محمّد العمريّ.

ه-  جمال خلوتي.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 9

2-  غرر الحكم ودرر الكلم-  جمع عبد الواحد الآمديّ التّميميّ.

3-  حكم جمعها ابن دريد.

4-  أمثال ينسب جمعها إلى الجاحظ.

5-  حكم الإمام عليّ-  عليه السّلام-  (مجلّة المشرق-  ج: 5-  بيروت).

6-  شذرات الأدب من كلام العرب، وبعض أمثال عليّ الخليفة ولاية العجم وخطبة للشّيخ الرّئيس.

7-  نثر اللّآلي (المجموعة الثّانية من فلا يشر).

8-  كلمات عليّ بن أبي طالب-  عليه السّلام- ، شرح الشّيخ محمّد عبده.

9-  أقوال أمير المؤمنين-  عليه السّلام- ، عليّ بخاريّ.

10-  صد كلمه مولاى متقيان أمير المؤمنين-  عليه السّلام- ، وقد ترجمه وليم يول إلى الإنكليزيّة.

11-  ألف كلمة من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب-  عليه السّلام-  مجرّدة من شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة.

و بغية الوقوف على مخطوطات ومطبوعات هذه المؤلّفات، والمكتبات الّتي توجد فيها، يرجع إلى الجزء الأوّل من (تاريخ الأدب العربيّ) تأليف بروكلمان، ترجمة الدّكتور عبد الحليم النّجّار، تحت عنوان (أمثال سيّدنا عليّ)-  عليه السّلام-

------------------------------------------------------------------- صفحة 10

و لا يخفى أنّ بعض هذه الكتب متداخل في بعضها الآخر، فراجع.

و فيما نقلناه ههنا الكفاية، ومن أحبّ التّوسّع نظر المظانّ فإنّه قد كتب عنه عليه السّلام الشّي‏ء الكثير حتّى عدّ من كلماته بهذا الصّدد ما فوق ثلاثة عشر ألف من مثل وحكمة كما في كتاب: (عيون الحكم والمواعظ): ثلاثة عشر ألفا وستمائة وثمانية وعشرين حكمة...-  للشّيخ عليّ بن محمّد اللّيثيّ الواسطيّ كما في الذّريعة. ومن تلك المظانّ الجزء الأوّل، من أربعة أجزاء كتاب: (مصادر نهج البلاغة وأسانيده)، تأليف السّيّد عبد الزّهراء الحسينيّ الخطيب.

أمثال قرآنيّة:

في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام آيات قرآنيّة، تمثّل بها لما رام من أهداف توفّرت فيها الشّروط.

قال صاحب رسالة الإسلام: إنّ جميع ما استشهد به الإمام عليه السّلام من آيات قرآنيّة مثليّة في كلامه هي من نوع ما اصطلح عليه ب (الأمثال المكنيّة)، وهي الّتي (تتجلّى فيها الشّروط الأساسيّة الّتي وضعها أرسطو لتحديد المثل من حيث الإيجاز، والتّشبيه، وإصابة الغرض): 1-  ولتعلمنّ نبأه بعد حين-  88 ص.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 11

2-  ولا ينبّئك مثل خبير-  14 فاطر.

3-  عفا اللّه عمّا سلف-  95 المائدة.

4-  ألا إنّ حزب الشّيطن هم الخاسرون-  19 المجادلة.

5-  إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى-  26 النّازعات.

6-  وما هي من الظّالمين ببعيد-  83 هود.

إنّ الإمام-  عليه السّلام-  يكثر من استعمال آيات القرآن الكريم في كلامه، وبخاصّة الآيات الوعظيّة والمثليّة، وهي شي‏ء طبيعيّ من أديب خرّجته مدرسة القرآن الكريم، وتأثّر به أيّ تأثر. وظاهرة أخرى: هي أنّ الإمام-  عليه السّلام-  غالبا ما يأتي بالآية ختاما لكلامه، فقد رأيته في اثنين وعشرين نصّا ممّا استشهد فيه بالقرآن يختمه بالآية... إنّ الإمام-  عليه السّلام-  يتّبع طريقة المزج في الكثير من الآيات الّتي استعملها، فيخيّل للقارئ-  بادئ الأمر-  وهو يقرأ الآية في سياق كلام الإمام-  عليه السّلام-  أنّها منه، لو لا ما يبدو عليها من أسلوب القرآن المتفرّد فيميّزها.

و من أمثلة ذلك قوله-  عليه السّلام- : «ثم خرج إليّ جنيد متذائب ضعيف، كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون». وقوله-  عليه السّلام- : «و إن تكن الأخرى، فلا تذهب نفسك عليهم حسرت إنّ اللّه عليم بما يصنعون». وقوله-  عليه السّلام- : «و لو أشاء أن أقول‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 5

تمهيد

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد خاتم النّبيّين، وعلى عليّ أمير المؤمنين وأولاده الخلفاء المعصومين، ولا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين الإمام المهديّ المنتظر عجّل اللّه فرجه الشّريف.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 6

في ضمن دراستنا للأمثال والحكم استخرجنا ما يقرب من ألف مثل من كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في كتاب (نهج البلاغة)، وغيره. سمّيناه (الأمثال والحكم العلويّة) تباعا لكتابنا (الأمثال النّبويّة). وقد رأينا أن نقدّم قسما من الأمثال والحكم المستخرجة من نهج البلاغة، تلبية لطلب بعض الإخوان وليكون بداية خير للأمثال العلويّة.

         وأوّل الغيث رشّ ثم ينسكب.

 

هذا، وقد استخرجنا من روايات سائر أهل البيت المعصومين عليهم السّلام كميّة كبيرة من الامثال لا تقلّ عن هذا العدد في هذه الدّراسة المثليّة لاشتراكها كلّها في تهذيب النّفوس، والأهداف الرّفيعة، والدّعوة إلى دين اللّه جلّ جلاله الخالص.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 7

الأمثال:

تنقسم الأمثال إلى: مثل سائر، ومثل قياسيّ.

و المثل السّائر: ما قاله القائل من العرب، أو غير العرب في واقعة اقتضته، ثمّ جرى على الألسن، وسار به الرّكبان يتمثّل به في الشّي‏ء المنشود المشابه للواقعة بدون تبديل.

و القياسيّ: هو تصوير، يخلقه المصوّر، لتوضيح فكرة عن طريق تشبيه، يسمّيه أرباب البلاغة: (التّمثيل المركّب) أو إبداع، يقصد جمال التّصوير به، ويجمع بينه وبين ما ينشده المتمثّل من أهداف.

و إن شئت قلت عن الأوّل: كلّ حكمة جارية على الألسن، كما قاله العسكريّ وعن الثّاني: كلّ ما يبدعه الممثّل.

و المثل المبحوث في هذا الكتاب ما يشمل الأقسام حتّى الصّالح لأن يكون مثلا، كما يمرّ إن شاء اللّه تعالى.

التّصنيف:

بوسعنا أن نصنّف الأمثال في (نهج البلاغة)، وسائر كلمات الإمام عليه السّلام إلى: قرآنيّة، وأمثال سائرة، وقياسيّة وإلى: نثريّة، وشعريّة وإلى: جاهليّة، وإسلاميّة، ومخضرمة وإلى ما سواها من صنوف.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 8

الفوائد:

قد استوفينا كتابة شي‏ء كثير من فوائد الأمثال، في مقدّمة (الأمثال النّبويّة)، و(الأمثال العلويّة)، مضافة إلى (الأمثال القرآنيّة) وكذلك تعاريف القوم لها، فلا نعيد.

الكتب المؤلّفة:

قد أشار إلى عدّة منها صاحب رسالة الإسلام كما يلي، قال: وأراني قبل أن أدخل البحث مطالبا بالإشادة، بذكر جهود متقدّمين، ساهموا في جمع جملة من أمثال الإمام عليه السّلام وحكمه، ممّا هو ضمن (نهج البلاغة)، وما هو في غيره، وكذلك شاركوا في شرحها بما يوضح معانيها.

و مجموعاتهم حسبما يذكرها كارل برو كلمان-  هي: 1-  100 حكمة ومثل. وقد ترجمت إلى الفارسيّة والتّركيّة والألمانيّة.

و شرحت من قبل: أ-  رشيد الدّين الوطواط.

ب-  المستشرق فلايشر.

ج-  حسين بن معين الدّين الميبديّ.

د-  محمّد العمريّ.

ه-  جمال خلوتي.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 9

2-  غرر الحكم ودرر الكلم-  جمع عبد الواحد الآمديّ التّميميّ.

3-  حكم جمعها ابن دريد.

4-  أمثال ينسب جمعها إلى الجاحظ.

5-  حكم الإمام عليّ-  عليه السّلام-  (مجلّة المشرق-  ج: 5-  بيروت).

6-  شذرات الأدب من كلام العرب، وبعض أمثال عليّ الخليفة ولاية العجم وخطبة للشّيخ الرّئيس.

7-  نثر اللّآلي (المجموعة الثّانية من فلا يشر).

8-  كلمات عليّ بن أبي طالب-  عليه السّلام- ، شرح الشّيخ محمّد عبده.

9-  أقوال أمير المؤمنين-  عليه السّلام- ، عليّ بخاريّ.

10-  صد كلمه مولاى متقيان أمير المؤمنين-  عليه السّلام- ، وقد ترجمه وليم يول إلى الإنكليزيّة.

11-  ألف كلمة من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب-  عليه السّلام-  مجرّدة من شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة.

و بغية الوقوف على مخطوطات ومطبوعات هذه المؤلّفات، والمكتبات الّتي توجد فيها، يرجع إلى الجزء الأوّل من (تاريخ الأدب العربيّ) تأليف بروكلمان، ترجمة الدّكتور عبد الحليم النّجّار، تحت عنوان (أمثال سيّدنا عليّ)-  عليه السّلام-

------------------------------------------------------------------- صفحة 10

و لا يخفى أنّ بعض هذه الكتب متداخل في بعضها الآخر، فراجع.

و فيما نقلناه ههنا الكفاية، ومن أحبّ التّوسّع نظر المظانّ فإنّه قد كتب عنه عليه السّلام الشّي‏ء الكثير حتّى عدّ من كلماته بهذا الصّدد ما فوق ثلاثة عشر ألف من مثل وحكمة كما في كتاب: (عيون الحكم والمواعظ): ثلاثة عشر ألفا وستمائة وثمانية وعشرين حكمة...-  للشّيخ عليّ بن محمّد اللّيثيّ الواسطيّ كما في الذّريعة. ومن تلك المظانّ الجزء الأوّل، من أربعة أجزاء كتاب: (مصادر نهج البلاغة وأسانيده)، تأليف السّيّد عبد الزّهراء الحسينيّ الخطيب.

أمثال قرآنيّة:

في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام آيات قرآنيّة، تمثّل بها لما رام من أهداف توفّرت فيها الشّروط.

قال صاحب رسالة الإسلام: إنّ جميع ما استشهد به الإمام عليه السّلام من آيات قرآنيّة مثليّة في كلامه هي من نوع ما اصطلح عليه ب (الأمثال المكنيّة)، وهي الّتي (تتجلّى فيها الشّروط الأساسيّة الّتي وضعها أرسطو لتحديد المثل من حيث الإيجاز، والتّشبيه، وإصابة الغرض): 1-  ولتعلمنّ نبأه بعد حين-  88 ص.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 11

2-  ولا ينبّئك مثل خبير-  14 فاطر.

3-  عفا اللّه عمّا سلف-  95 المائدة.

4-  ألا إنّ حزب الشّيطن هم الخاسرون-  19 المجادلة.

5-  إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى-  26 النّازعات.

6-  وما هي من الظّالمين ببعيد-  83 هود.

إنّ الإمام-  عليه السّلام-  يكثر من استعمال آيات القرآن الكريم في كلامه، وبخاصّة الآيات الوعظيّة والمثليّة، وهي شي‏ء طبيعيّ من أديب خرّجته مدرسة القرآن الكريم، وتأثّر به أيّ تأثر. وظاهرة أخرى: هي أنّ الإمام-  عليه السّلام-  غالبا ما يأتي بالآية ختاما لكلامه، فقد رأيته في اثنين وعشرين نصّا ممّا استشهد فيه بالقرآن يختمه بالآية... إنّ الإمام-  عليه السّلام-  يتّبع طريقة المزج في الكثير من الآيات الّتي استعملها، فيخيّل للقارئ-  بادئ الأمر-  وهو يقرأ الآية في سياق كلام الإمام-  عليه السّلام-  أنّها منه، لو لا ما يبدو عليها من أسلوب القرآن المتفرّد فيميّزها.

و من أمثلة ذلك قوله-  عليه السّلام- : «ثم خرج إليّ جنيد متذائب ضعيف، كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون». وقوله-  عليه السّلام- : «و إن تكن الأخرى، فلا تذهب نفسك عليهم حسرت إنّ اللّه عليم بما يصنعون». وقوله-  عليه السّلام- : «و لو أشاء أن أقول‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 12

لقلت: عفا اللّه عمّا سلف».. لم يقصر تمثّله عليه السّلام بالآيات القرآنيّة على العدد المذكور، بل أكثر من أن يحصى، ولسنا بصدد تحريره، وهو ديدن أهل البيت عليهم السّلام، ومن حذا حذوهم.

هذه فاطمة الزّهراء عليها السّلام تقول في خطبتها: «و ما عشت أراك الدّهر عجبا، وإن تعجب فعجب قولهم» «ليت شعري إلى أيّ إسناد استندوا وعلى أيّ عماد اعتمدوا... لبئس المولى ولبئس العشير». و«بئس للّظلمين بدلا».. أقول: كذا في طبعة النّجف الأشرف، وفي طبعة بيروت (سناد) بدل (إسناد).

استعرضناه عند التّكلّم على (الأمثال الفاطميّة)، المستخرجة من كلماتها-  روحي فداها- .

و هكذا الإمام الحسن والحسين إلى المهديّ عليهم السّلام، وعجّل اللّه فرجهم الشّريف وفي ذلك بلاغ مبين، وأداء للرّسالة السّماويّة مهما كان نوع الأداء، واندفاع إلى القرآن الكريم، وأنّه المصدر لكلّ أمر، وشاهد صدق عليه: «و من أصدق من اللّه قيلا». وأحسن الحديث‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 13

كما قال جلّ جلاله: «اللّه نزّل أحسن الحديث كتبا». على أنّه كلام الحبيب يطيب للمحبّين أن يلهجوا به، انّه أحلى من الشّهد، وقد تجلّى اللّه جلّ جلاله في كتابه، كما قال عليه السّلام: «فتجلّى لهم سبحانه في كتابه، من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته...».

نهج الكتاب:

نهجنا في هذا الكتاب هو نهج (الأمثال النّبويّة)، على طريقة حروف التّهجّي، الحرف الأوّل فالأوّل، وإلغاء حرف التّعريف تسهيلا للاستخراج، ونقصد من المثل فيه، بأنواعه من السّائر والقياسيّ، وما يصلح للتّمثّل به، وإن لم يكن من الأمثال، وهو ديدننا في مؤلّفاتنا المثليّة على الإطلاق مقتصرين على طرف منها. و(خ-  ط) للخطبة، و(ك) للكتاب والكلام، و(ح) للحكمة. واعتمدنا على النّهج: المطبوع 1385، وشرحه للمعتزليّ بتحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم في عشرين جزءا في (الأمثال العلويّة)، و(الأمثال والحكم المستخرجة)، وهو هذا الكتاب الّذي بين يدي القارئ الكريم. وما توفيقي إلّا باللّه، وللّه الحمد في بداية الأمور ونهايتها، حمدا لا يقدر على إحصائه إلّا هو، بلا نهاية له، ولا أمد. ولنعم ما قال بعض الفضلاء:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 14

 

         الحمد للّه بقدر اللّه                لا قدر وسع العبد ذي التّناهي‏

         والحمد للّه الّذي برهانه          أن ليس شأن ليس فيه شانه‏

         والحمد للّه الّذي من ينكره       فإنّما ينكر من يصوّره

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 15

حرف الهمزة

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 16

1-  آخر الدّواء الكيّ

تمثّل به عليه السّلام في كتاب له، جوابا لقوم سألوه، عقاب من أجلب على عثمان بعد ما بويع: «يا إخوتاه إنّي لست أجهل ما تعلمون... وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم أجد بدّا، فآخر الدّواء الكيّ».

لأنّه إنّما يقدم عليه بعد أن لا ينفع كلّ دواء: أي إذا أعضل وأبى قبول كلّ دواء حسم بالكيّ. وقيل: (آخر الدّاء الكيّ)، وردّ أنّه من غلط العامّة، إذ الكيّ ليس من الدّاء، ليكون آخره.

قيل: أوّل من قال المثل لقمان بن عاد، في قصّة امرأة غازلت رجلا، زعمته أخاها، حتّى لقي لقمان زوجها، اسمه هانئ، يسوق إبله، ويقول: (الرّجز)

         روحي إلى الحيّ فإنّ نفسي            رهينة فيهم بخير عرس‏

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 17

         حسّانة المقلة ذات أنس            لا يشترى اليوم لها بأمس‏

 

فهتف به لقمان، يا هانئ وقال: (الرّجز)

         يا ذا البجاد الحلكه     ولزّوجة المشتركة

         عشّ رويدا إبلكه                لست لمن ليس لكه‏

 

قال هانئ: نور نور للّه أبوك. قال لقمان: عليّ التّنوير، وعليك التّغيير، مررت بها تغازل رجلا، زعمته أخاها، قال: فما الرّأي قال: أن تقلب الظّهر بطنا، حتّى يستبين لك الأمر. قال: أعالجها بكيّة توردها المنيّة، قال: (آخر الدّواء الكيّ).

يضرب فيمن يستعمل في أوّل ما يجب استعماله في آخره، وفي إعمال المخاشنة مع العدوّ، إذا لم يجد معه اللّين والمداراة صدقت القصّة أم لا، فإنّه يساعدها الاعتبار.

يريد عليه السّلام من ضرب المثل النّاس إن استقاموا أصابوا رشدهم وحظّهم، وإن اعوجّوا فلا بدّ من إقامة اعوجاجهم مهما كلّف الأمر. قال البحرانيّ: أي الحرب والقتال لأنّها الغاية الّتي ينتهي‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 18

أمر العصاة إليها ومداواة أمراض قلوبهم كما تنتهي مداواة المريض إلى أن يكوى.

2-  اتّباع الكلب للضّرغام يلوذ بمخالبه

من كتاب له عليه السّلام إلى عمرو بن العاص: «فإنّك قد جعلت دينك تبعا لدنيا امرئ ظاهر غيّه، مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفّه الحليم بخلطته، فاتّبعت أثره، وطلبت فضله، اتّباع الكلب للضّرغام يلوذ بمخالبه، ينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته، فأذهبت دنياك وآخرتك، ولو بالحقّ أخذت أدركت ما طلبت...».

وجه التّمثيل له بمتابعة الكلب للأسد للحصول على فضل فريسته واضح لقاعدة وهي: إذا دنئت نفس المرء غربت عنها المكارم الإنسانيّة والأخلاق المرضيّة، ورسخت فيها أضدادها، واستحكمت خلال البهائم والسّباع فيها إلى الغاية، فإذا استولى الغضب عليها فأسد

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 19

مفترس لا همّ له سوى الافتراس، وإذا ملكها الطّمع فصاحبها كلب لائذ ينتظر ما يلقى إليه، أو الاحتيال فثعلب.

و هلمّ جرّا في كلّ خصلة تختصلها السّباع والحيوانات تنكشف لذوي البصائر من الناس، فضلا عن أمير المؤمنين الّذي يرى الأشياء كما هي، إذا وصف شيئا منحه نعوته الجديرة به، لأنّه عليه السّلام الحكم العدل الّذي يعطي كلّ ذي حقّ حقّه.

فمن نظر إلى معاوية وابن العاص وجد الخلال الّتي بيّنها الإمام عليه السّلام من الفسق، وشين الكريم، وتسفيه الحليم فيهما وأنّهما يجريان مجرى الكلاب والأسود عند الفريسة تابعة ومتبوعة.

عن ابن مزاحم في كتاب صفّين بلفظ: «أما بعد، فإنّك تركت مروءتك لامرى‏ء فاسق، مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفّه الحليم بخلطته، فصار قلبك لقلبه تبعا، كما قيل: (وافق شنّ طبقة). فسلبك دينك، وأمانتك، ودنياك، وآخرتك... فصرت كالذّئب يتبع الضّرغام، إذا ما اللّيل دجى، أو أتى الصّبح، يلتمس فاضل سؤره، وحوايا فريسته، ولكن لا نجاة من القدر...».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 20

3-  أحبب حبيبك هونا مّا

قال عليه السّلام: «أحبب حبيبك هونا مّا، عسى أن يكون بغيضك يوما مّا، وأبغض بغيضك هونا مّا، عسى أن يكون حبيبك يوما مّا».

من كلمات الإمام عليه السّلام الحكميّة. عدّه أبو هلال العسكريّ من الأمثال في جمهرته، وقال: المثل لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه-  عليه السّلام-  وهونا: أي قصدا غير إفراط، وهو من قول النّمر بن تولب:

         وأحبب حبيبك حبّا رويدا            لئلّا يعولك أن تصرما

         وأبغض بغيضك رويدا               إذا أنت حاولت أن تحكما

 

و من أجود ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم: (لا تكن مكثرا، ثم تكون مقلّا، فيعرف سرفك في الإكثار، وجفاؤك في الإقلال).

------------------------------------------------------------------- صفحة 21

قال الشّارح: الهون بالفتح: التّأنّي. والبغيض: المبغض. وخلاصة هذه الكلمة: النّهي عن الإسراف في المودّة والبغضة، فربّما انقلب من تودّ فصار عدوّا، وربّما انقلب من تعاديه فصار صديقا.

و قال بعض الحكماء: توقّ الإفراط في المحبّة، فإنّ الإفراط فيها داع إلى التّقصير منها، ولأن تكون الحال بينك وبين حبيبك نامية، أولى من أن تكون متناهية.. وقال الشّاعر:

         وأحبب إذا أحببت حبّا مقاربا            فإنّك لا تدري متى أنت نازع‏

         وأبغض إذا أبغضت غير مباين           فإنك لا تدري متى أنت راجع‏

 

و قال عديّ بن زيد:

         ولا تأمنن من مبغض قرب داره            ولا من محبّ أن يملّ فيبعدا.

 

و قد جاء: «عثرة الاسترسال لا تستقال». إذا كان الحبّ مع اللّه عزّ وجلّ، فأحبب حبّا إلى الغاية بدون تقليل بل إلى حدّ العشق، وهو الحبّ المفرط، وأبغض الشّيطان، والنّفس الأمّارة، وما يصدّك عن اللّه تعالى بغضا إلى الغاية.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 22

4-  اختطاف الذّئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة

من كتاب له عليه السّلام لابن عمّه ابن عبّاس، استنكارا لأخذه من بيت المال، حينما كان واليا من قبله على البصرة، وفيه: «فلمّا أمكنتك الشّدّة في خيانة الأمّة، أسرعت الكرّة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذّئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصّدر بحمله غير متأثّم من أخذه.........». الذّئب الأزلّ: الخفيف الوركين، وذلك أشدّ لعدوه، وأسرع لوثبته، وإن اتفق أن تكون شاة من المعزى كسيرة ودامية أيضا، كان الذّئب على اختطافها أقدر. والأزلّ في الأصل: الصّغير العجز، وهو في صفات الذّئب الخفيف.

و قيل: هو من قولهم: (زلّ زليلا) إذا عدا.

------------------------------------------------------------------- صفحة 23

و إنّما خصّ الدّامية دون غيرها، لأنّ في طبع الذّئب محبّة الدّم، فهو يؤثر الدّامية على غيرها، ويبلغ به طبعه في ذلك أنّه يرى الذّئب مثله وقد دمى، فيثب عليه ليأكله.

قال الشاعر: (من الطّويل)

         فكنت كذئب السّوء لمّا رأى دما            بصاحبه يوما أحال على الدّم‏

 

و قال آخر: (من البسيط)

         إني رأيتك كالورقاء يوحشها            قرب الأليف وتغشاه إذا عقرا

 

(: أي الأليف)، والورقاء: ذئبة، يقول: لا تقرب الذّئب وتستوحش منه، فإذا عقر وثبت عليه. والمعز: الشّاة من الغنم خلاف الضّأن، وخصّ الإمام عليه السّلام الكسير منه لخروج الدّم الّذي يختطفه من أجله. وإنّما اختار عليه السّلام كلمة (الاختطاف)، للسّرعة المأخوذة في معناها: أي الأخذ بسرعة، ومنه البرق الخاطف.

يقول عليه السّلام: يابن عبّاس قد أخذت الأموال من غير حلّ، إذ

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 24

هي لليتامى والأرامل، برحب الصّدر منك في استلابها وحملها إلى الحجاز، لصرفها فيما تشتهي بلا احتشام ولا خوف من اللّه ولا منّي ولا من ذويها، وليس اختطافك لها إلّا كاختطاف الذّئب الوثّاب المعز الدّامي الكسير السّهل التّناوش، اعتداء القويّ على الضّعيف، ومنه يعرف حال الأقوياء المعتدين على من دونهم بلا اختصاص بابن عبّاس.

فمن شاء أن يكون ذئبا عاديا فليفعل فعله وليختطف، إلّا أن يتوب ويردّ مظلمة العباد.

5-  اختلف النّجر، وتشتّت الأمر

من خطبة له عليه السّلام بعد الحمد والاستغاثة والشّهادة للّه عزّ وجلّ، قال: «و أشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، أرسله بالدّين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنّور السّاطع، والضّياء اللّامع، والأمر الصّادع إزاحة للشّبهات، واحتجاجا بالبيّنات، وتحذيرا بالآيات، وتخويفا بالمثلات والنّاس في فتن انجذم فيها حبل الدّين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النّجر، وتشتّت الأمر......». نجر الخشبة ينجرها نجرا، من باب قتل: نحتها، والصّانع النّجّار،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 25

و النّجارة مثل الصّناعة. ونجران: بلدة من بلاد همدان من اليمن، سمّيت باسم بانيها نجران بن زيدان. وفي النّهاية: موضع معروف بين الحجاز والشّام واليمن.

و في الحديث: «شرّ النّصارى نصارى نجران». للنّجر معان: منها، الأصل، وأسماء عدّة مواضع، والجزاء، ومنه قولهم: «لأنجرنّ نجيرتك»: أي لأجرينّ جزاءك، ونجار كغراب، والأصل، واللّون.

 

 

و في المثل: (كلّ نجار إبل نجارها)، وهذا من قول رجل كان يغير على النّاس، ويطلب إبلهم ثم يأتي بها السّوق، فيعرضها على البيع، فيقول المشتري: من أيّ إبل هذه فيقول البائع: تسألني الباعة: أين دارها لا تسألوني، واسألوا: ما نارها (كلّ نجار إبل نجارها). والباعة ههنا: المشترون، والنّار من سمات الإبل. والنجران كسكران: العتبة قال:

         صببت الماء في النّجران حتّى            تركت الباب ليس له صرير.

 

و كيف كان: يريد عليه السّلام: بيان حال النّاس قبل الإسلام، في فتن تقطع الدّين فيها، لا يقين لهم بالمعاد ولا بالمبدأ، كلّ منهم له طور من الجهالة،

------------------------------------------------------------------- صفحة 26

كأنّهم نحتوا بأنواع شتّى من النّحت، فلكلّ نحت يخصّه، وأصل باطل ترعرع عليه، ولا تجد أمورهم إلّا وهي متشتّة لتشتّت أصولهم، وطباعهم الكدرة، ونفوسهم الشّرّيرة، حتّى جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بدين الإسلام، والقرآن النّور السّاطع والضّياء اللّامع، فأضاء الجزيرة، بل الدّنيا بربوعها بضياء حقائق النّبوّة الأحمديّة، والأحكام السّماويّة المهذّبة للطّبائع والنّفوس الخاضعة للأصنام الحجريّة والأوثان النّحاسيّة، فهداهم الإسلام إلى التّوحيد، والدّين الخالص، وترك الأنداد، فسادوا العالم كلّه ببركة دين اللّه عزّ وجلّ، والإيمان بالرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.

و الكلام صالح للتّمثّل به للفكر المتشتّت، والفرقة.

6-  أخرج الحقّ من خاصرته

في آخر خطبة له عليه السّلام: «و أيم اللّه لأبقرنّ الباطل، حتّى أخرج الحقّ من خاصرته». وآخر أخرى بلفظ: «فلأنقبن الباطل، حتّى يخرج الحقّ من جنبه». ونظيره ما ذكره الميدانيّ من المثل السّائر: (يخرج الحقّ من‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 27

خاصرة الباطل)، يضرب لمن يفرق بينهما. يراد بذلك: تحقيق الحقّ، وإبطال الباطل، مهما كلّف الأمر.

قال المعتزليّ: كأنّه جعل الباطل كالشّي‏ء المشتمل على الحقّ، غالبا عليه، ومحيطا به، فإذا بقر ظهر الحقّ الكامن فيه. وقال شارحا للأخرى: «فلأنقبنّ الباطل»: كأنّه جعل الباطل كشي‏ء، قد اشتمل على الحقّ، واحتوى عليه، وصار الحقّ في طيّه كالشّي‏ء الكامن المستتر فيه، فأقسم لينقبنّ ذلك الباطل، إلى أن يخرج الحقّ من جنبه. كلا الشّرحين متقارب.

و قد جاء المثل للحقّ والباطل في القرآن الكريم، والسّنّة النّبويّة، وأحاديث أهل البيت عليهم السّلام.

من الأوّل آية: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» في الآية تمثيلان: الأوّل تمثيل الوحي والمعارف بالماء النّازل من السّماء، وهو الحقّ، ويقابله تمثيل الأوهام بالزّبد الذّاهب، وهو الباطل. والثّاني، تمثيل كلّ ما ينفع النّاس، بما يوقد عليه في النّار من الحليّ والفلزّات وآلات الحرب، وما يبقى بعد الطّبخ للأكل وغيره، وهو

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 28

الحقّ، ويقابله ما لا يعتدّ به من الخليط والأزباد والتّافهات: وهي الباطل الّذي لا ينتفع به.

و من السنّة: «الحقّ ثقيل مرّ، والباطل خفيف حلو». ومن الرّوايات: المثل الجاري المبحوث عنه.

و من المثل السّائر: (الحقّ أبلج، والباطل لجج).

و لنعد إلى ما كنّا فيه من التّمثيل العلويّ للباطل بحيوان له خاصرة يخرج منها الحقّ ببقرها أو نقبها والبقر: الشّقّ والفتح، والتّوسّع في الشّي‏ء. وسمّي الإمام الباقر عليه السّلام باقرا لأنّه يبقر العلم بقرا: أي يشقّه ويفتحه. ومن السّعة الحديث: «سيأتي على النّاس فتنة باقرة، تدع الحليم حيران»: أي واسعة عظيمة. والمناسب للمقام الشّق.

و الخاصرة من الخصر، له معنيان: البرد، ووسط الشّي‏ء، من الأوّل قول حسان:

         ربّ خال لي لو أبصرته            سبط المشية في اليوم الخصر

 

-  السّبط: المسترسل.-  والخصر، خصر الإنسان وغيره: وهو

------------------------------------------------------------------- صفحة 29

وسطه المستدقّ فوق الوركين. اذا دريت ذلك تجلّى لك ما أراده عليه السّلام إنّه المحقّق الحقّ، والمبطل الباطل مهما كان، وفيه جاء النّبويّ: «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، ولن يفترقا، حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة». و«عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، يدور حيثما دار».

نقله العلّامة الأمينيّ رحمه اللّه بطرق متعدّدة. وهذه الخصيصة لا تفارق الأربعة عشر المعصومين، أوّلهم محمّد خاتم الأنبياء، وآخرهم خاتم الأوصياء، سمّي الرّسول، عجّل اللّه فرجه الشّريف.

7-  إذا تمّ العقل نقص الكلام

قال عليه السّلام: «إذا تمّ العقل نقص الكلام». والوجه في نقص الكلام (: أي قلّته)، إذا تمّ العقل، بيّنه عليه السّلام في بعض حكمه، قال عليه السّلام: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه». قال الرّضيّ رحمه اللّه تعالى: وهذا من المعاني العجيبة الشّريفة،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 30

و المراد به: أنّ العاقل لا يطلق لسانه إلّا بعد مشاورة الرّويّة ومؤامرة الفكر والأحمق تسبق حذفات لسانه، وفلتات كلامه مراجعة فكره وممّا خضة رأيه، فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبه، وكأنّ قلب الأحمق تابع للسانه.: أي فلا يتكلّم العاقل، إلّا بعد التّروّي والفكر فيما يريده ممّا له أو عليه في العاجل والآجل، فلا محالة يقلّ كلامه، وهو من المثل السّائر، وقد جاء في (مجمع الأمثال) و(التّمثيل والمحاضرة) في أثناء ذكر نبذة في العقل والعاقل، قال: (العقل عقال النّفس). (عقول كلّ قوم على قدر زمانهم).

(العقل أشرف الأحساب). (العقل جنّة واقية). (العقل الإصابة بالظّن، ومعرفة ما لم يكن بما كان). (أشدّ الفاقة عدم العقل). (لو صوّر العقل لأضاء معه اللّيل، ولو صوّر الجهل لأظلمت معه الشّمس). (كلّ عمل يأذن فيه العقل فهو صواب). (كلّ شي‏ء إذا كثر رخص إلّا العقل، فإنّه إذا كثر غلا). (العقل غريزة، تربّيها التّجارب). (إذا تمّ العقل نقص الكلام). (حسن الصّورة الجمال الظّاهر، وحسن العقل الجمال الباطن). (ليس الإنسان الصّورة، إنّما الإنسان العقل). (ما أبين وجوه الخير والشّرّ في مرآة العقل). (من غلبه الهوى فليس لعقله سلطان).

(العاقل من عقل لسانه، والجاهل من جهل قدره). (العقل صفاء النّفس، والجهل كدرها). (العاقل لا يستقبل النّعمة ببطر، ولا يودّعها بجزع). (لا ينبغي للعاقل أن يطلب طاعة غيره، وطاعة نفسه عليه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 31

ممتنعة). (أيدي العقول تمسك أعنّة النّفوس عن الهوى). (اقصر عن شهوة خالفت عقلك). (أعقل النّاس أعذرهم للنّاس). (أحر بمن كان عاقلا أن يكون عمّا لا يعنيه غافلا). وكفى في شرف العقل أنّه إذا جرى حديثه مدحه الكلّ، والحمق أو الجهل ذمّه الكلّ، وجاء القرآن الكريم ممتدحا للعقل في تسعة وأربعين موضعا تصريحا أو تلويحا منها: «وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». وحول العقل بحوث: منها: تعريفه، سئل الرّضا عليه السّلام: «ما العقل فقال: التّجرّع للغصّة، ومداهنة الأعداء، ومداراة الأصدقاء». ونبويّ: «إنّ العقل عقال من الجهل». وتعريفه بآثاره، إمّا لعدم تعقّل النّاس لكنهه، أو أنّ الغرض يترتّب على الاثار دون معرفة الكنه.

و منها: أين محلّه من البدن، ففي نبويّ: «مثل العقل في القلب كمثل السّراج وسط البيت». وصادقيّ: «و موضع العقل الدّماغ، الأترى أنّ الرّجل إذا كان قليل العقل، قيل له: ما أخفّ دماغك». وقيل: محلّه الدّماغ والقلب معا، فراجع.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 32

8-  إذا لم يكن ما تريد، فلا تبل كيف كنت

قال عليه السّلام: «إذا لم يكن ما تريد، فلا تبل كيف كنت». قال المعتزليّ: قد أعجم تفسير هذه الكلمة على جماعة من النّاس.

و قالوا: المشهور في كلام الحكماء: إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون. ولا معنى لقوله: «فلا تبل كيف كنت». وجهلوا مراده: إذا لم يكن ما تريد، فلا تبل بذلك: أي لا تكثرت بفوت مرادك، ولا تبتئس بالحرمان.

و لو وقف على هذا، لتمّ الكلام، وكمل المعنى، وصار هذا مثل قوله: «فلا تكثر على ما فاتك منها أسفا»، ومثل قول اللّه تعالى: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ». لكنّه تمّم وأكّد، فقال: «كيف كنت»: أي لا تبل بفوت ما كنت أمّلته، ولا تحمل لذلك همّا، كيف كنت، وعلى‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 33

أيّ حال كنت، من حبس، أو مرض، أو فقر، أو فقد حبيب.

و على الجملة: لا تبال الدّهر، ولا تكترث بما عكس عليك من غرضك، ويحرمك من أملك، وليكن هذا الإهوان به والاحتقار له ممّا تعتمده دائما على أيّ حال أفضى بك الدّهر إليها. في حديث قدسيّ: «يا داود تريد، وأريد، ولا يكون إلّا ما أريد». إذ ليس كلّ ما يريده الإنسان يدركه، لأنّ المراد لا يخلو عن شيئين: إمّا غير مقدّر لا له ولا لغيره، كالبقاء في الدّنيا، وقد قال تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ». أو من وسائل العيش الدّنيويّ، وهو أيضا لا يدرك منه إلّا ما قد قدّر وأوتي من ذلك.

كما دلّ على هذا التّبعيض كلمة (منها) في آية: «وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ». عن الصّادق عليه السّلام: «المال والبنون حرث الدّنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما لأقوام». كما قال الشّاعر:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 34

 

         ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا            وأقبح الكفر والإفلاس بالرّجل

 

و ما أكثر حواجز الوصول إلى ما يتمنّاه الإنسان وليس يدركه، وإن عاش ما عاش، على حدّ قول القائل:

         ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه            تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن

 

و هنا أمر هامّ: وهو أنّ الإنسان إذا لم يدرك أمنيّته، وكان على نهج الحقّ، فلم يبل كيف كان. ومنه قول الشهيد عليّ بن الحسين الأكبر عليهما السّلام: «لمّا نزل الحسين عليه السّلام الثّعلبيّة، فوضع رأسه، فرقد، ثمّ استيقظ، فقال: قد رأيت هاتفا يقول: أنتم تسرعون، والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة، فقال له ابنه عليّ: يا أبه أفلسنا على الحقّ فقال: بلى يا بنيّ والّذي إليه مرجع العباد، فقال: يا أبه إذن، لا نبالي بالموت، فقال له الحسين: جزاك اللّه يا بنيّ خير ما جزى ولدا عن والد». وهذا قول أهل البيت عليهم السّلام كلّهم، بل كلّ من عرف‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 35

اللّه عزّ وجلّ، وفناء الأشياء إلّا وجهه تعالى.

         ألا كلّ شي‏ء ما خلا اللّه باطل            وكلّ نعيم لا محالة زائل.

 

9-  ارتوى من آجن

من كلماته عليه السّلام الحكمية في صفة بعض القضاة: «بكّر فاستكثر من جمع، ما قلّ منه خير ممّا كثر، حتّى ارتوى من آجن، واكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا لتخليص ما التبس على غيره». هذا جزء من كلامه عليه السّلام، وزّعناه على نبذة أمثال‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 36

مضروبة لقسمين من القضاة، فللأوّل منهم: «حمّال خطايا غيره». وللثّاني: «ما قلّ منه خير ممّا كثر». «حتّى ارتوى من آجن» المبحوث هنا. «هو من الشّبهات في مثل نسج العنكبوت». «خبّاط جهالات». «لم يعضّ بضرس قاطع». «يذري.. إذ راء الرّيح الهشيم». «تعجّ منه المواريث». وكلّه عندنا، من الأمثال السّائرة أو الصّالحة أن يتمثّل بها على ما سلكناه في هذا الكتاب، «بكّر فاستكثر من جمع»، راجع معناه إلى: «ما قلّ منه خير ممّا كثر».

 

قوله عليه السّلام: «حتّى ارتوى من آجن»، قال ابن الأثير في حديث عليّ-  عليه السّلام- : «ارتوى من آجن»: هو الماء المتغيّر الطّعم واللّون. ويقال فيه: أجن وأجن ويأجن أجنا وأجونا، فهو آجن وأجن.

و منه حديث الحسن عليه السّلام: «أنّه كان لا يرى بأسا بالوضوء من الماء الآجن». وقال الطّريحيّ في الحديث: «نهي عن الوضوء في الماء الآجن»: أي المتغيّر لونه وطعمه. أقول: إذا خرج عن صدق الماء عليه بقول مطلق بأن صار مضافا، مثل ماء الورد، لم يجز الوضوء به عند علمائنا الإماميّة، وباقي‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 37

الفروع في الفقه، وفي حديث الصّادق عليه السّلام: «إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه». ثمّ الإمام عليه السّلام شبّه ما اكتنزه هذا الجالس بين النّاس قاضيا لرفع المخاصمات، من مزعبلاته وأوهامه الفاسدة، بماء تغيّر لونه وطعمه الّذي لا يجوز شربه، ولا الوضوء به، ولا سائر الاستعمالات، وذلك لأجل الحرمان من علوم أهل البيت عليهم السّلام، ومعارفهم المستقاة من نمير القرآن الكريم، والأبحر الّتي مجراها من الرّحمن عزّ وجلّ، قال السّيّد الأمين:

         هم أبحر العلم الّتي ما شانها            كدر ومجراها من الرّحمن

 

10-  أرعدوا، وأبرقوا

من كلام له عليه السّلام: «و قد أرعدوا، وأبرقوا، ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نرعد حتّى نوقع، ولا نسيل حتّى نمطر». الفقرة: «لسنا نرعد حتّى نوقع...»، تكلّمنا عليها. ونبحث الآن عن المثل الجاري: «أرعدوا وأبرقوا»، وهو المثل السّائر: (يرعد

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 38

و يبرق).

قال الميدانيّ بعد ذكره: يقال: رعد الرّجل وبرق، إذا تهدّد، ويروى: (يبرق ويرعد)، وينشد:

         أبرق وأرعد يا يزي            د فما وعيدك لي بضائر

 

و أنكر الأصمعيّ هذه اللّغة. قال الشّارح المعتزليّ: أرعد الرّجل وأبرق، إذا أوعد وتهدّد، وكان الأصمعيّ ينكره، ويزعم أنّه لا يقال إلّا رعد وبرق، ولمّا احتجّ عليه ببيت الكميت:

         أبرق...

 

 

قال- : أي الأصمعيّ- : الكميت قرويّ لا يحتجّ بقوله. وكلام أمير المؤمنين عليه السّلام حجّة دالّة على بطلان قول الأصمعيّ.

و الفشل: الجبن والخور. وقوله عليه السّلام: «و مع هذين الأمرين الفشل» معنى حسن، لأنّ الغالب من الجبناء كثرة الضّوضاء والجلبة يوم الحرب، كما أن الغالب من الشّجعان الصّمت والسّكون. وذكر الشّارح بعد ما تقدّم مثالا من فريقي الجبناء والشّجعان، موضحا لقول الإمام عليه السّلام: «مع هذين الأمرين الفشل»،

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 39

و يتجلّى ما قابل ذلك بالمقايسة. قال: سمع أبو طاهر الجنابيّ-  متولّي القرامطة-  ضوضاء عسكر المقتدر باللّه، ودبادبهم وبوقاتهم، وهو في ذلك ألف وخمسمائة، وعسكر المقتدر في عشرين ألفا، مقدّمهم يوسف بن أبي السّاج، فقال لبعض أصحابه: ما هذا الزّحل قال: فشل قال: أجل.

و يقال: إنّه ما رئي جيش كجيش أبي طاهر، ما كان يسمع لهم صوت، حتّى إنّ الخيل لم تكن لها حمحمة، فرشق عسكر ابن أبي السّاج القرامطة بالسّهام المسمومة، فجرح منهم أكثر من خمسمائة إنسان. وكان أبو طاهر في عمارية له، فنزل وركب فرسا. وحمل بنفسه ومعه أصحابه حملة على عسكر ابن أبي السّاج، فكسروه وفلّوه وخلصوا إلى يوسف فأسروه وتقطّع عسكره بعد أن أتى بالقتل على كثير منهم، وكان ذلك في سنة خمس عشرة وثلاثمائة.

و من أمثالهم: (الصّدق ينبئ عنك لا الوعيد). لسنا نجابه ما ذكره من تطبيق القصّة أو كذبها بعد عدم عزّة التّمثيل وما أجاب به الأصمعيّ من دلالة كلام الإمام عليه السّلام على بطلان زعمه حقّ، ونظيره من وجه قول الباقر عليه السّلام، عند ما سأله زرارة بن أعين: ألا تخبرني، من أين علمت، وقلت: أنّ المسح ببعض الرّأس وبعض الرّجلين فضحك، فقال: «يا زرارة قاله رسول اللّه-  صلّى اللّه عليه وآله وسلّم- ، ونزل به الكتاب... فقال: فامسحوا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 40

برءوسكم. فعرفنا حين قال: برءوسكم، أنّ المسح ببعض الرّأس، لمكان الباء» إلى آخر الحديث. فزعم سيبويه أنّ استعمال (الباء) في التّبعيض غلط، فدلّ على بطلان زعمه هذا الخبر الصّحيح الباقريّ. وتفصيل البحث في الفقه، والغرض التّنظير لا أكثر.

ثم الإبراق والإرعاد، كما تقدّم عن الميدانيّ وغيره، يتمثّل به للتّهديد ولعدمه إذا نفاهما المتكلّم، فقال: لسنا نبرق ولا نرعد، ويجوز أن يتمثّل بذلك في غير التّهديد، كما في المنافق، حيث يظهر ما ليس له حقيقة، وهو شأن كلّ مراء يري للنّاس ما ليس فيه، ومن هنا جاء التّشديد في إلاخلاص في العبادة للّه، بل جميع الحالات. ففي علويّ: «الدّنيا كلّها جهل إلّا مواضع العلم، والعلم كلّه حجّة إلّا ما عمل به، والعمل كلّه رياء إلّا ما كان مخلصا، والإخلاص على خطر حتّى ينظر العبد بما يختم له».

------------------------------------------------------------------- صفحة 41

و ليس الإبراق والإرعاد تبرز ظاهرتهما في القول فحسب، بل في العمل أيضا، إذا كان بغير الّذي أضمرته السّريرة، فلا يفارقه الفشل، لا محالة، عند تبيّن الحال.

11-  أعذر بما أنذر

من خطبة مطوّلة له عليه السّلام تسمّى بالغرّاء، وهي من الخطب العجيبة، أوّلها: «الحمد للّه علا بحوله، ودنا بطوله»-  إلى أن قال عليه السّلام:-  «أوصيكم بتقوى اللّه الّذي أعذر بما أنذر، واحتجّ بما نهج......». وهو من الأمثال السّائرة. قال الميدانيّ: (أعذر من أنذر): أي من حذّرك ما يحلّ بك، فقد أعذر إليك: أي صار معذورا عندك. وقال جار اللّه: (أعذر من أنذر): أي من حذّرك ما يحلّ بك، فقد بالغ في العذر. يرميان غرضا واحدا.

و لعلّ إلى ذلك ينظر قوله تعالى: «عُذْراً أَوْ نُذْراً». قيل: معناه: عذرا للمحقّين، ونذرا للمبطلين، وصفان للملائكة الملقيات ذكرا.

و للآية تفسير، يطلب من مظانّه. ومن المحتمل أن تكون (أو) في «عذرا أو نذرا» بمعنى الواو، وعليه يناسب المثل الجاري والحديث المرويّ: «أنا

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 42

النّذير العريان». إذ العرى أبين للنّظر، وأدلّ على الحذر، وكان من عادة العرب إذا أرادوا التّحذير من العدو، والمحذّر بعيد، حذّر القوم بالتّعرّي أو النّار في بعض الحالات.

و الإنذار على أقسام يجمعها مطلوبيّة الحذر من المنذر منه، مثلا قوله تعالى: «فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى». للتّحذّر عمّا يسبّب دخولها وقد صرّح لهذا الغرض في آية: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ». جعل غاية الإنذار حذر القوم، وحذف متعلّق الحذر دليل على عموم ما يسبّب العذاب والعقاب على ما بيّن لهم إن تمرّدوا.

و المقام كذلك، حيث صدّر الكلام العلويّ بإيصاء التّقوى، ثمّ وصف اللّه تعالى بأنّه المعذر المنذر.

و أمّا الإعذار المقرون بالإنذار في المثل (أعذر من أنذر)، أو «بما أنذر» كما في كلام الإمام عليه السّلام، وقد تعرّض له الشّيخ الطّريحي أيضا. فيراد به: أنّه صار ذا عذر، فلا يلام إذا أخذ المنذر (بالكسر) المنذر (بالفتح)، وعاقبه على عدم القيام بما يقتضيه المقام.

و نظيره من وجه، قوله الآخر عليه السّلام لابن ملجم:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 43

 

         أريد حياته ويريد قتلي            عذيرك من خليلك من مراد

 

يريد بقوله: (عذيرك) فإن أوقعت به كنت معذورا. وبلفظ آخر: قد تمّت الحجّة عليه.

12-  أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته

من كلام له عليه السّلام في ذكر عمرو بن العاص: «عجبا لابن النّابغة يزعم لأهل الشّام: أنّ فيّ دعابة، وأنّي امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس لقد قال باطلا، ونطق آثما. أما-  وشرّ القول الكذب-  إنّه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويسأل فيلحف، ويخون العهد، ويقطع الإلّ فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السّيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته».

------------------------------------------------------------------- صفحة 44

للكلام تتمّة لم نذكرها، والجملة الأخيرة المذكورة صالحة للمثل، وإن لم يرسلها الإمام عليه السّلام مثلا.

و منح الاست القرم المعبّر عنه بالسّبّة المراد به: كشف العورة، عمل شنيع أقدم عليه ابن العاص، لينجو به من القتل، ومن ثمّ قيل له: نجا بعورته عند ما قرب أجله بسيف الإمام عليه السّلام الّذي ما اعتلا امرأ إلّا قدّه، وما اعترضه إلّا قطّه ودخل النّار.

زعم ابن النّابغة الجبان: أنّ في أمير المؤمنين عليه السّلام دعابة ومعافسة وممارسة، وأنّه تلعابة.

الدّعابة: المزاح، كما في حديث صادقيّ: «ما من مؤمن إلّا وفيه دعابة، قلت: وما الدّعابة قال: المزاح». وهو من حسن الخلق، صرّح به في حديث يونس الشّيباني، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كيف مداعبة بعضكم بعضا قلت: قليل. قال: فلا تفعلوا، فإنّ المداعبة من حسن الخلق، وإنّك لتدخل بها السّرور على أخيك. ولقد كان رسول اللّه-  صلّى اللّه عليه وآله وسلّم-  يداعب الرّجل، يريد أن يسرّه». يراد ب (فلا تفعلوا): أي القلّة لا تفعلوها.

فالدّعابة سنّة ممدوحة، جعلها عمرو بن العاص، ومن قبل عمرو، عمر ذمّا لا يليق بالخلفاء، بل يحسن فيهم الغلظة والفظاظة. قياسا على‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 45

أنفسهم، حيث كانوا كذلك وإبطالا لقوله تعالى امتداحا لنبيّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ». وردعا له: «وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ». والتّلعابة: الكثير اللّعب. فوا عجبا كيف تسمع أمّة محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ذلك، ثمّ تغضي طرفها أ ينسب إلى المعصوم عليه السّلام اللّعب، وقد قال: «أما واللّه إنّي ليمنعني من اللّعب ذكر الموت»... والمنع منه متحقّق في المؤمنين، فكيف بأمير المؤمنين عليه السّلام وفي الفائق: العفاس والمراس: ملاعبة النّساء ومصارعتهنّ. والعجب من مؤلّفه رواية الحديث المختلق: (عليّ رضي اللّه تعالى عنه-  عليه السّلام-  كان تلعابة، فإذا فزع فزع إلى ضرس حديد). تصحيحا لقول ابن العاص ومن قبله.

و المعتزليّ أنكر ما نسب إلى الإمام عليه السّلام أشدّ الإنكار، فقال: فأصل ذلك كلمة قالها عمر، فتلقّفها حتّى جعلها أعداؤه عيبا له، وطعنا عليه.

------------------------------------------------------------------- صفحة 46

و قال: فإذا نظرت إلى كتب الحديث والسّير لم تجد أحدا، من خلق اللّه، عدوّا ولا صديقا روى عنه شيئا من هذا الفنّ، لا قولا ولا فعلا.

و لم يكن جدّ أعظم من جدّه، ولا وقار أتمّ من وقاره، وما هزل قطّ، ولا لعب، ولا فارق الحقّ والنّاموس الدينيّ سرّا ولا جهرا وكيف يكون هازلا، ومن كلامه المشهور عنه: «ما مزح امرؤ مزحة إلّا ومجّ معها من عقله مجّة» ولكنّه خلق على سجيّة لطيفة، وأخلاق سهلة، ووجه طلق، وقول حسن، وبشر ظاهر وذلك من فضائله وخصائصه الّتي منحه اللّه بشرفها، واختصّه بمزيّتها... وأنت تجد التّناقض في كلامه، حيث قال: أصل ذلك كلمة قالها عمر، ثمّ يقول: لم نجد، من خلق اللّه، عدوّا ولا صديقا، روى عنه شيئا من هذا الفن. فهل ما قاله عمر فيه عليه السّلام كذب أو صدق وهل هو عدوّ أو صديق.. بلى هي كلمة، تقال حتّى تصرف الوجوه عنه عليه السّلام، كما كانت كلمته عند انتشار موت الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أنّه لم يمت، ومن قال: إنّه قد مات، ضربته بسيفي، حتّى جاء أبو بكر فقال: من كان يعبد محمّدا فقد مات.. ثمّ تلا قوله تعالى: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ.... كلمة يقولها المصلحيّون السّياسيّون، يصرفون وجوه النّاس عمّن‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 47

لا يريدونه، وإن أراده اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والحديث ذو شجون. وفي الكلام العلويّ بيان خصائص ابن العاص: إذا قال كذب، وإذا وعد أخلف وإذا يسأل يبخل، وإذا سأل ألحف، خائن قاطع الإلّ: أي العهد، بائع الدّين بدنيا غيره وألف رذيلة أخرى فيه.

و الّذي يروم الاطّلاع على طائفة كبيرة من رذائله، فلينظر المناظرة والمفاخرة بين الإمام الحسن بن عليّ عليهما السّلام وبين جمع اجتمعوا عند معاوية، وهم: 1-  عمرو بن العاص 2-  الوليد بن عقبة بن أبي معيط 3-  عتبة بن أبي سفيان بن حرب 4-  المغيرة بن شعبة. فإنّها فاضحة لهم ورأسهم معاوية. وله عليه السّلام في المغيرة مثل، يجدر النّظر إليه. قوله عليه السّلام: «أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته»، هذا بعض الجملة، وهي: «فإذا كان عند الحرب، فأيّ زاجر وآمر هو ما لم تأخذ

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 48

السّيوف مآخذها، فإذا كان ذلك، كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته».

قال المعتزليّ: أي ما لم تبلغ الحرب إلى أن تخالط الرّؤوس: أي هو بالتّحريض والإغراء قبل أن تلتحم الحرب، فإذا التحمت واشتدّت فلا يمكث، وفعل فعلته الّتي فعل. من كشف سوءته ليسلم من القتل من عمل الجبان الدّني‏ء السّاقط من أمثال عمرو بن العاص.

و هذا الكلام ينطبق على كلّ من هو مثل ابن العاص العاصي، أصل الشّرّ والفساد والرّذيلة، فيشمل الكاذب إذا قال، المخلف إذا وعد، البخيل إذا سئل، الملحف إذا سأل، قاطع العهد الخائن، بائع الدّين بالدّنيا وألف رذيلة موروثة من ابن العاص.

و هكذا شأن جميع كلمات الإمام عليه السّلام التّمثيليّة، الّتي قالها في حقّ غير ابن العاص من المفسدين والمنحرفين، لم تخصّهم خاصّة، وإن جاءت فيهم، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، والشّي‏ء يشمله حكم مثله، وهذا معنى قوله عليه السّلام في بعض خطبه: «اعقل ذلك، فإنّ المثل دليل على شبهه، إنّ البهائم همّها بطونها، وإنّ السّباع همّها العدوان على غيرها، وإنّ النّساء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا والفساد فيها». وكذا الآيات القرآنيّة النّازلة في الأقوام الماضية، لا تخصّهم خاصّة، بل تعمّ كلّ من كان حاله حالهم، وعلى صفتهم، إذ لو كانت خاصّة بهم‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 49

دون غيرهم، فلو ماتوا كما ماتوا ماتت الآيات.

و إليك التّصريح بذلك في رواية خثيمة عن أبي جعفر عليه السّلام: «و لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم، ثمّ مات أولئك، ماتت الآية، لما بقي من القرآن شي‏ء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره، ما دامت السّماوات والأرض، ولكلّ قوم آية، يتلونها هم منها من خير أو شرّ». وأبي بصير عن الصّادق عليه السّلام قال: «و لو كانت إذا نزلت آية على رجل، ثمّ مات ذلك الرّجل، ماتت الآية، لمات الكتاب، ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى». والسّنّة النّبويّة وجميع روايات أهل البيت عليهم السّلام كالكتاب العزيز، تجري مجرى الشّمس والقمر. كما جاء التّمثيل بهما في رواية عبد الرّحيم قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ القرآن حيّ لم يمت، وأنّه يجري كما يجري اللّيل والنّهار، وكما تجري الشّمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا». فما جاء في الخطبة العلويّة من فضائل أو رذائل، غير مختصّة بمورد.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 50

13-  أمحى الظّلم لتذاكير الهمم

مثل من أمثال ثلاثة، أوّل من قالها أمير المؤمنين عليه السّلام، في كلام له يحثّ أصحابه على الجهاد: «و اللّه مستأديكم شكره، ومورثكم أمره، وممهلكم في مضمار ممدود لتتنازعوا سبقه. فشدّوا عقد المآزر، واطووا فضول الخواصر، لا تجتمع عزيمة ووليمة. ما أنقض النوم لعزائم اليوم وأمحى الظّلم لتذاكير الهمم». «لا تجتمع عزيمة ووليمة» و«ما أنقض النّوم لعزائم اليوم»، مثلان تكلّمنا عليهما، وثالثهما: «أمحى الظّلم لتذاكير الهمم»، واستوفينا البحث عمّا قبل الثّلاثة من الخطبة.

قال المعتزليّ في شرح المثل الثّالث: أي الظّلم الّتي ينام فيها لاكلّ الظّلم، ألا ترى أنّه إذا لم ينم في الظّلمة، بل كان عنده من شدّة العزم وقوّة التّصميم ما لا ينام معه، فإنّ الظّلمة لا تمحو تذاكير هممه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 51

و التّذاكير جمع تذكار.

و المثلان الأوّلان أحسن من الثّالث، وكان الثّالث من تتمّة الثّاني.

و قد قالت العرب في الجاهليّة هذا المعنى. وجاء في القرآن العزيز: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ». وهذا مثل قوله: «لا تجتمع عزيمة ووليمة»: أي لا يجتمع لكم دخول الجنّة والدّعة والقعود عن مشقّة الحرب. أقول: الظّلم جمع الظّلمة، وهي كما تطلق على ظلمة اللّيل، تقال على الكفر والفسق، وما يترك على لوحة النّفس من سواد الذّنوب وظلمتها. وعليه فلعلّ المراد: المعنى الأعمّ من ظلمة اللّيل الّتي ينام فيها، الذّاهبة بأنوار الهمم وتذاكيرها، ومن ظلمة النّفس المتكوّنة عن الذّنوب، وهي أيضا تمحو ضياء الفكرة ونور الهمّة.

 

فهذا المثل الثّالث أحسن من المثلين المتقدّمين، وأدقّ منهما، والّذي دعا المعتزليّ على العكس هو العطف له على الثّاني، ولعلّ النّسخة الأصليّة بلفظ: «و ما أمحى الظّلم لتذاكير الهمم» واللّه العالم.

و كيف كان، إنّ الإمام عليه السّلام يحذّر مغبّة التّساهل في الجهاد الظّاهريّ والباطنيّ، والكلام العلويّ جامع لهما، بل الباطنيّ أهمّ، لأنّه الجهاد الأكبر على ما نطق الخبر:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 52

«إنّ النّبيّ-  صلّى اللّه عليه وآله وسلّم-  بعث سريّة، فلمّا رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول اللّه ما الجهاد الأكبر قال: جهاد النّفس». فيا لها من حرب ما أكثر قتلاها، وأقلّ من نجا منها...

14-  أمرتكم أمري بمنعرج اللوى

في خطبة له عليه السّلام يشكو أصحابه متمثّلا بقوله:

         أمرتكم أمري بمنعرج اللّوى            فلم تستبينوا النّصح إلّا ضحى الغد

 

خطب عليه السّلام بها بعد التّحكيم: «... فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة، حتّى ارتاب النّاصح بنصحه، وضنّ الزّند بقدحه، فكنت أنا وإيّاكم كما قال أخو هوازن:

         أمرتكم أمري بمنعرج اللّوى            فلم تستبينوا النّصح إلّا ضحى الغد»

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 53

و أخو هوازن-  صاحب الشّعر-  هو دريد بن الصّمّة. والأبيات مذكورة في الحماسة، وأوّلها:

         نصحت لعارض وأصحاب عارض         ورهط بني السّوداء والقوم شهّدي‏

         فقلت لهم: ظنّوا بألفي مدجّج            سراتهم في الفارسيّ المسرّد

         أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى             فلم يستبينوا النّصح إلّا ضحى الغد

         فلمّا عصوني كنت منهم وقد أرى       غوايتهم وأنّني غير مهتد

         وما أنا إلّا من غزيّة إن غوت            غويت وإن ترشد غزيّة أرشد.

 

حادثة التّحكيم عند مخالفة أصحابه عليه السّلام يعرف عظمها من كلامه، حيث يقول: «فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة...». والكلّ يدري ما يصنع المخالف الجافي والمنابذ العاصي على أميره، وهو ناصحة حتّى ارتاب بنصحه.

و قوله عليه السّلام: «و ضنّ الزّند بقدحه»: أي لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح، لشدّة ما لقيت منكم من الإباء والخلاف والعصيان، لأنّ المشير النّاصح إذا اتّهم واستغشّ عمي قلبه وفسد رأيه. نعم المعصوم عليه السّلام لم يعم قلبه، ولم يفسد رأيه، ويصبر على البلوى، والأمر بطابعه الأوّليّ كذلك.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 54

15-  أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك

قال عليه السّلام لرجل أفرط في الثّناء عليه-  وكان له متّهما: «أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك». وذكره الميدانيّ في مجمع الأمثال، قال: قاله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه-  عليه السّلام-  لرجل مدحه نفاقا. والزّمخشري في المستقصى. قال الشّارح المعتزليّ: قالت الحكماء: إنّه يحدث للممدوح في وجهه أمران مهلكان: أحدهما: الإعجاب بنفسه.

و الثّاني: إذا أثنى عليه بالدّين أو العلم، فتر وقلّ اجتهاده، ورضي عن نفسه، ونقص تشميره وجدّه في طلب العلم والدّين فإنّه إنّما يتشمّر من رأى نفسه مقصّرا، فأمّا من أطلقت الألسن بالثّناء عليه، فإنّه يظنّ أنّه قد وصل وأدرك، فيقلّ اجتهاده، ويتّكل على ما قد حصل له عند النّاس.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 55

و لهذا قال النّبيّ صلّى اللّه عليه-  وآله-  وسلّم لمن مدح إنسانا كاد يسمعه: «ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح».

فأمّا قوله عليه السّلام: «و فوق ما في نفسك» فإنّه إنّما أراد أن ينبّهه على أنه قد عرف أنه كان يقع فيه وينحرف عنه، وإنّما أراد تعريفه ذلك، لما رآه من المصلحة، إمّا لظنّه أنّه يقلع عمّا كان يذمّه به، أو ليعلمه بتعريفه أنّه قد عرف ذلك، أو ليخوّفه ويزجره، أو لغير ذلك. أقول: لا يدرى بأيّ بيان كان قد مدح الإمام عليه السّلام، إلّا أنّ في ردعه إيّاه، وتفويق نفسه الشّريفة عمّا في نفس المادح درسا للأمّة لترك المدح في الوجه، والكفّ عن القول فيما لم يحط به، وترك النّفاق بإظهار ما لم يصدّقه القلب، كما في قوله تعالى في ردع المنافقين: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ». فليس ردع المدح عن صفة أنّ الصّفة غير موجودة، بل على نفس المادح نفاقا، أو جهلا، أو طمعا، أو صونا له، أو غير ذلك من الوجوه، ففي النّبويّ: «احثوا في وجوه المادحين التّراب». أو نفس الممدوح.

أمّا الإمام المعصوم فلا يحيط أحد بفضائله، إلّا المعصوم عليه السّلام بعد اللّه عزّ وجلّ، وقد جاء في الحديث: «يا عليّ لا يعرف اللّه إلّا أنا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 56

و أنت، ولا يعرفني إلّا اللّه وأنت، ولا يعرفك إلّا اللّه وأنا». ما مضمون ذلك، وكفى في تعريف اللّه عزّ وجلّ الإمام عليه السّلام ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن سائر النّاس، ولذكره مقام آخر.

16-  انفجرتم عن السّرار

في خطبة له عليه السّلام: «بنا اهتديتم في الظّلماء، وتسنّمتم العلياء، وبنا انفجرتم عن السّرار.

وقر سمع لم يفقه الواعية......». قال المعتزليّ: وأمّا قوله عليه السّلام: «بنا اهتديتم في الظّلماء»، فيعني بالظّلماء: الجهالة. «و تسنّمتم العلياء»: ركبتم سنامها، وهذه استعارة. قوله: «و بنا انفجرتم عن السّرار»: أي دخلتم في الفجر، والسّرار: اللّيلة واللّيلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشّهر، فلا يظهر. من معاني السّر: الإخفاء، يقابل الإعلان، ومنه المثل: «سرّك دمك، فلا تجرينّه إلّا في أوداجك». «ما يوم حليمة بسرّ».

------------------------------------------------------------------- صفحة 57

و خطّ الجبهة، ومنه العلويّ في وصف النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «و رونق الجلال يطّرد في أسرّة جبينه». وأوّل الشّهر ووسطه وآخره، ومنه النّبويّ: «صوموا الشّهر وسرّه»: أي أوّله أو وسطه. وسرّ كلّ شي‏ء جوفه، أو آخر ليلة يستتر الهلال بنور الشّمس. والنّكاح، ومنه السرّيّة لأنّه أمر لا يعلن به.

و قيل: هو من الأضداد: أي الإخفاء والإظهار، ومنه قوله تعالى: «وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ». عن أبي عبيدة: أسررت الشّي‏ء: أعلنته، قال في الآية: أظهروها. والمناسب للمقام هو الاستتار المكنّى به عن الجهل وظلمته، وبالانفجار عن نور ولاية أهل البيت عليهم السّلام وهداهم. لولاهم لوقعنا في الشّقاوة الأبديّة، والجهالة الجاهليّة، فبضيائهم عليهم السّلام اهتدينا، وبسببهم وجدنا الطّريق المستقيم، وبولايتهم نجونا، والحمد للّه جلّت نعماؤه.

«و لو أنّ عبدا عبد اللّه بين الرّكن والمقام، وصام دهره، وقام ليله، ولم يأت بولاية أهل البيت عليهم السّلام، لم يقبل اللّه منه شيئا أبدا».

------------------------------------------------------------------- صفحة 58

و لا يجوز العبد يوم القيامة إلّا بجواز منهم وإذن. وهل الإنسان يستطيع الانفجار عن السّرار، والدّخول في الفجر لا... إنّما اللّه عزّ وجلّ يدخل من يشاء في رحمته، «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ». لعلّ المعنى على بعض التّفاسير: التّخلّص عمّا يلقاه من جرّاء أعماله، والخروج عمّا فيه من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن الهلاك إلى النّجاة والآية رادعة له عن الاستطاعة، وعن إرادته إلّا بسبب أهل البيت عليهم السّلام، يوفّق للانفجار عن السّرار: أي الخروج عن الظّلماء إلى الضّياء.

و الكلمة صالحة للمثل، بل هي منه، وقد عدّها كغيرها ابن أبي الحديد من الأمثال المذكورة في هذه الخطبة الشّريفة. فلا بدّ من مزيد تدبّر فيها.

17-  إنّ العطيّة على قدر النّيّة

من وصيّة له عليه السّلام، لابنه الحسن عليه السّلام: «فلا يقنطنّك إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة على قدر النّيّة، وربّما أخرّت عنك الإجابة، ليكون ذلك أعظم لأجر السّائل، وأجزل لعطاء الآمل».

------------------------------------------------------------------- صفحة 59

لإبطاء الإجابة أسباب: منها: النيّة، فلعلّها لم تكن خالصة.

و منها: ربّما أخّرت، ليكون أعظم لأجر السّائل بتحمّل المشقّة لأنّ الأجر على قدر المشقّة، ولأنّه أفضل، للنّبويّ: «أفضل الأعمال أحمزها». ومنها: أنّه لو أعطي ما أراد السّائل كان فيه هلاكه، أو فساد دينه.

و منها: أنّ الدّنيا فانية، لا تبقى له، ولا يبقى لها، وإنّما الآخرة باقية له، يفتقر إلى تزويد الزّاد لها، والصّبر على الحرمان ربّما كان منه.

و منها: ما قاله اللّه عزّ وجلّ: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» وهذا الوجه يعود لعلّه إلى الوجه المتقدّم، وإن كان بينهما فرق معنويّ.

و منها: أنّ اللّه يحبّ أن يسمع صوت عبده ودعاءه، وأنّ له دويّا في عالم الملكوت، تفرح به الملائكة.

و منها: أنّ ذلك سبب لغفران الذّنوب، ومكفّر لها، وغير ذلك من الوجوه.

و ليس معنى الإبطاء ردّ دعوة الدّاعي، فإنّه استبخال له تعالى، وهو كفر، وقد تظافرت روايات أهل البيت عليهم السّلام بالدّعاء، وكفى قوله تعالى: «وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».

------------------------------------------------------------------- صفحة 60

فانظر كيف جعل جلّ جلاله نفسه المقدّسة ضمان الإجابة ستّ مرّات كرّرها، وقد اشتملت الآية على التّضمين البالغ غايته، لو تدبّرها متدبّر.

ثمّ المثل السّائر ينطبق عليه تماما ما ذكره أبو هلال العسكريّ: من جعل كلّ حكمة سائرة مثلا. ولا ريب في كونه كلمة حكمة سائرة على الألسن. وللكلمة معنى عال رفيع المستوى، أخذا بما لها من إطلاق شامل، وذلك المعنى هو: أنّ النّاوي إذا جرّد النّيّة عن كلّ أمر فان، وأخلصها للباقي، عظمت عطيّته. ومن الواضح أنّ كلّ شي‏ء فان إلّا وجهه تعالى، كما قال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ». فمن اختار اللّه عزّ وجلّ ولم ينو سواه، كان اللّه تعالى هو عطيّته الباقية. فاختر من العطايا ما شئت.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 61

18-  إنّ غدا من اليوم قريب

قال عليه السّلام: «فسابقوا رحمكم اللّه إلى منازلكم الّتي أمرتم أن تعمروها، والّتي رغّبتم فيها، ودعيتم إليها، واستتمّوا نعم اللّه عليكم بالصّبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته. فإنّ غدا من اليوم قريب. ما أسرع السّاعات في اليوم، وأسرع الأيّام في الشّهر، وأسرع الشّهور في السّنة، وأسرع السّنين في العمر». وفي خطبة أخرى: «و إنّ غدا من اليوم قريب، يذهب اليوم بما فيه، ويجي‏ء الغد لا حقا به». وخطبة أخرى: «و ما أقرب اليوم من تباشير غد». والتّباشير: أوائل كلّ شي‏ء، ومنه تباشير الصّبح: أوائله. ولا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 62

يكون منه فعل. وبمعنى البشرى: أي تبشّر أوائل الغد بلحوقه اليوم، وحلوله محلّه.

قال المعتزليّ: قوله عليه السّلام: «إنّ غدا من اليوم قريب»، كلام يجري مجرى المثل، والأصل فيه قول اللّه تعالى: «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ». ومنه قوله:

         فإنّ غدا لناظره قريب‏

 

و قوله:

         غد ما غد ما أقرب اليوم من غد

 

و صدر البيت الأوّل:

         فإن يك صدر هذا اليوم ولّى

 

قال الميدانيّ: أوّل من قال:

         إنّ غدا لناظره قريب‏

 

قراد بن أجدع في قصّة طويلة، ذكرها في المجمع.

------------------------------------------------------------------- صفحة 63

و جاء ذكره في كتاب التّمثيل والمحاضرة، والفاخر. ويماثل المثل المذكور قولهم: (كلّ ما هو آت قريب). وقولهم: (ما فات فات، وما أقرب ما هو آت). (إنّ مع اليوم غدا) وهو قول منصور المصريّ:

         يا من يخاف أن يكو            ن ما يخاف سرمدا

         أما سمعت قولهم:              إنّ مع اليوم غدا

 

و قولهم: (مع اليوم غد). قال أبو هلال العسكريّ: يضرب مثلا للنّظر في العواقب. وقال الرّاجز:

         لا تقلوها وادلوها دلوا            إنّ مع اليوم أخاه غدوا

 

و القلو: السّير الحثيث، والدّلو: السّير الرّفيق. يقول: ارفق بها، ولا تقتلها اليوم بشدّة السّير، فإنّك تحتاج إليها غدا. وقال: غدوا على الأصل، وأصل (غد) غدو. ونحوه قول الشّاعر:

------------------------------------------------------------------- صفحة 64

 

         خفت مأثور الحديث غدا            وغد أدنى لمنتظره‏

 

و قال النّابغة الجعديّ:

         وإنّ مع اليوم الّذي علموا غدا            وإنّ الأمور بالرّجال تقلب‏

 

و قال غيره:

         فإن يك صدر هذا اليوم ولّى              فإنّ غدا لناظره قريب‏

 

و هذا مثل لمن حرم مراده اليوم، فوعده في غد، وفي خلافه.

قول الرّاجز:

         يا عجبا لقولهم غد غد            قولا كشحم الإرة المزهّد

         ولا يجي‏ء دسم على يدي‏

 

و لا تكاد الأعراب تنشده إلّا غد غد بالكسر. ثمّ إنّ المثل الجاري- : أي قول الإمام عليه السّلام: «إنّ غدا من اليوم قريب»-  يضرب للتّرغيب والنّظر في العواقب، ومنه: «فسابقوا رحمكم اللّه إلى منازلكم...». والتّرهيب عمّا فيه ذكر الموت، وما ينبّه الذّاكر المتفكّر، ومنه قوله‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 65

عليه السّلام لزياد بن أبيه: «فدع الإسراف مقتصدا، واذكر في اليوم غدا». وقد ذكرنا شيئا من الموت عند التّكلّم على المثل: «كلّ متوقّع آت، وكلّ آت قريب دان». وجاء ذكر الموت في القرآن الكريم في 165 موضعا، وقد أطلق على النّوم، كما في دعاء الانتباه بعد النوم: «الحمد للّه الّذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النّشور» سمّي النّوم موتا، لأنّه يزول معه العقل والحركة، تمثيلا أو تشبيها لا تحقيقا.

و قيل: الموت في كلام العرب يطلق على السّكون، يقال: ماتت الرّيح، إذا سكنت.

و الموت يقع بحسب أنواع الحياة على ما قال الشّيخ الطّريحيّ: فمنها: ما هو بإزاء القوّة النّامية الموجودة في الحيوان والنّبات، كقوله تعالى: «وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» 30 19. ومنها: زوال القوّة الحسّيّة، كقوله تعالى: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» 19 23.

و منها: زوال القوّة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى: «إِنَّ الصَّفا وَ

------------------------------------------------------------------- صفحة 66

 كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ» 6 122، و«إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏» 27 80. ومنها: الحزن والخوف المكدّر للحياة، كقوله تعالى: «وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» 14 17. وقد يستعار الموت للأحوال الشّاقّة، كالفقر والذّلّ والسّؤال والهدم وغير ذلك. أمّا حقيقة الموت فقد تناولها الحكماء بالبحث، بأنّه خلع ولبس، كمن ينزع لباسا على بدنه، ويلبس آخر، ولكنّه كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت، وحسرة الفوت». «و استعدّوا للموت، فقد أظلّكم، وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا». وفي الدّيوان المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام:

         إلى م تجرّ أذيال التّصابي             وشيبك قد نضابرد الشّباب‏

         بلال الشّيب في فوديك نادى           بأعلى الصّوت حيّ على الذّهاب‏

         خلقت من التّراب وعن قريب         تغيّب تحت أطباق التّراب‏

         طمعت إقامة في دار طعن              ولا تطمع فرجلك في الرّكاب‏

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 67

         وأرخيت الحجاب فسوف يأتي        رسول ليس يحجب بالحجاب‏

         أعامر قصرك المرفوع اقصر            فإنّك ساكن القبر الخراب.

 

19-  إنّها خدعة الصّبيّ عن اللّبن في أوّل الفصال

من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية جوابا عن كتابه-  قال عليه السّلام في آخره- : «و أمّا تلك الّتي تريد فإنّها خدعة الصّبيّ عن اللّبن في أوّل الفصال، والسّلام لأهله». ذكر الميدانيّ المثل: (إنّها ليست بخدعة الصّبيّ)، ضدّ المثل العلويّ، وأنّه لمعاوية، فراجع. الحاجة الّتي يريدها معاوية التّلبيس على النّاس، بأنّه صاحب دم عثمان، وبالنّتيجة التّرأّس عليهم من وراء ذلك، وهم لا يعلمون أنّ مطالبته لدم عثمان خدعة، يراد بها الرّئاسة لا الثّأر، كما يخدع الصّبيّ عن اللّبن، لغاية الانفصال عنه.

و خدعة الصّبيّ عن اللّبن: هي تلطيخ الثّدي بشي‏ء مرّ، لينفر عن الالتقام، مقدّمة للفطام، وليس القصد من ذلك إلّا الانفصال فحسب،

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 68

عند انقضاء حولين كاملين، كما قال تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ. فيقصد معاوية ومن قبله عائشة-  خالقة حرب الجمل، الطّالبة بدم عثمان-  التّرأّس. أمّا معاوية فلنفسه، والأخرى لطلحة والزّبير، وبالأخير دفع الإمام عليه السّلام عن الخلافة، المنصوصة له بنصّ الغدير وغيره والخادعون-  وإن ظفروا بما خدعوا من أجله في الدّنيا للدّنيا، وربّما لم يظفروا به-  حالهم حال السّاحر في الكيد والخداع، في عدم الفلاح. كما قال جلّ جلاله: «إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى‏». هذا في الدّنيا، وفي الآخرة يرون جزاء خداعهم.

و لا ريب أنّ مخادعة الإمام عليه السّلام المفترض الطّاعة مخادعة الرّسول، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ومخادعته مخادعة اللّه عزّ وجلّ، وقد قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ. بافتضاحهم في الدّنيا، وعذابهم في الآخرة.

و في الحقيقة إنّما المخادع يخادع نفسه، شعر بذلك أم لا والغالب عليهم عدم الشّعور، كما قال جلّ جلاله: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. والخدعة تنشأ من دناءة النّفس وخبثها، وتترفّع عنها النّفوس النّظيفة، والعقول الحصيفة. وقد يقال للمجرّب في الخداع: داهية، ومن‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 69

هنا عدّ معاوية وعمرو بن العاص من الدّهاة، والإمام عليه السّلام قال: «و لو لا كراهية الغدر، لكنت من أدهي النّاس».

20-  أهل الدّنيا كركب، يسار بهم، وهم نيام

قال عليه السّلام: «أهل الدّنيا كركب، يسار بهم، وهم نيام». التّمثيل بالرّكب السّائرة وهم نيام ناظر إلى سرعة تصرّم العمر، في حين غفلة العامر، والإدبار عن الدّنيا، والإقبال إلى الآخرة، حيث إنّ السّائر إلى مكان يبتعد عمّا كان قبل السّير، ويقرب إلى ما يسير إليه، قربا وبعدا قهريّا، علم السّائر به أم لم يعلم، وأنّ الموت نازل بهم لا محالة.

إنّ الدّنيا قنطرة، يعبرون عليها إلى الآخرة، ومنازل يتحوّلون عنها إلى منازل لا زوال لها ولا تحوّل عنها لأنّها دار بقاء لا فناء لها.

سرور الدّنيا غرور، نعيمها زائل، وعيشها باطل، وإنّ أهلها كركب، أناخوا عشيّا في منزل، وفي الصّبح عنه راحلون.

         تزوّد من الدّنيا فإنك راحل            وبادر فإنّ الموت لا شكّ نازل‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 70

         سرورك في الدّنيا غرور وحسرة     وعيشك في الدّنيا محال وباطل‏

         ألا إنّما الدّنيا كمنزل راكب            أناخ عشيّا وهو في الصّبح راحل

         قل للمقيم بغير دار إقامة              حان الرّحيل فودّع الأحبابا

         إنّ الّذين لقيتهم وصحبتهم           صاروا جميعا في القبور ترابا

 

و من حكمه عليه السّلام: «و إنّ أهل الدّنيا كركب، بيناهم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم، فارتحلوا»، ويناسبه قول أبي العتاهية:

         إنّ دارا نحن فيها لدار             ليس فيها لمقيم قرار

         كم وكم قد حلّها من أناس         ذهب اللّيل بهم والنّهار

         فهم الرّكب قد أصابوا مناخا       فاستراحوا ساعة ثمّ ساروا

         وكذا الدّنيا على ما رأينا          يذهب النّاس وتخلو الدّيار

 

و له عليه السّلام في خطبة: «فإنّما أنتم كركب وقوف، لا يدرون متى يؤمرون بالمسير».

------------------------------------------------------------------- صفحة 71

و التّمثيل بالرّكب السّائرة مرّة والوقوف أخرى: بلحاظ الفناء التّدريجي، والبقاء الموهوم، والحياة المزعومة، والأعمار المتصرّمة، و(النّاس نيام، إذا ماتوا انتبهوا). وليس الحياة إلّا لحظات، وكما قال القائل:

         دقّات قلب المرء قائلة له            إنّ الحياة دقائق وثوان

 

أنفاس المرء خطاه إلى الموت، فما هذه الطّمأنينة وأنت مزعج وما هذا الولوج وأنت مخرج جمعك إلى تفريق، ورفوك إلى تمزيق، وسعتك إلى ضيق فيا أيّها المفتون، والطّامح بما لا يكون «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ».

         ستندم عند الموت شرّ ندامة            إذا ضمّ أعضاك الثّرى والمطابق‏

         وعاينت أعلام المنيّة والرّدى        ووافاك ما تبيضّ منه المفارق‏

         وصرت رهينا في ضريحك مفردا      وباعدك الجار القريب الملاصق

 

و قوله عليه السّلام: «فإنّما أنتم سفر حلول، والموت بكم نزول».

------------------------------------------------------------------- صفحة 72

و الآخر: «إنّما أنتم فيها كركب، عرّسوا وارتاحوا، ثمّ استقلّوا، فغدوا وراحوا». نظائر المثل المبحوث عنه.

21-  أورى قبس القابس

هذا من تمثيلاته عليه السّلام، في خطبة له علّم فيها النّاس الصّلاة على النّبيّ، صلّى اللّه عليه وآله-  وسلّم. أوّلها- : «اللّهم داحي المدحوّات... اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك، على محمّد عبدك ورسولك...... قائما بأمرك، مستوفزا في مرضاتك، غير ناكل عن قدم، ولا واه في عزم واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك، حتّى أورى قبس القابس، وأضاء الطّريق للخابط......». جئنا على بعض الخطبة عند التّمثيل: «الدّامغ صولات الأضاليل».

------------------------------------------------------------------- صفحة 73

و بعضها الآخر عند قوله عليه السّلام: «أضاء الطّريق للخابط». المستوفز من الوفز: العجلة: أي المستعجل في مرضاة اللّه تعالى، والقدم: الإقدام، ومعناه: غير الجبان، والواهي: الضّعيف، «واعيا لوحيك»: أي فاهمه، والماضي في نفاذ الأمر: المصرّ فيه.

قال ابن الأثير: (ورى الزند يري)، إذا استخرج ناره، والزّند الواري: الّذي تظهر ناره سريعة، ومنه حديث عليّ عليه السّلام: «حتّى أورى قبسا لقابس»: أي أظهر نورا من الحقّ لطالب الهدى والقبس: الشّعلة من النّار، والقابس: طالب النّار. أقول: الإيراء والقبس لغة قرآنيّة.

من الأوّل: «فَالْمُورِياتِ قَدْحاً»،: أي حوافر خيول المجاهدين في سبيل اللّه، إذا صكّت أحجار الأرض أخرجت نار الحباحب بقدحها لها. وآية: «أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ»،: أي تستخرجونها.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 74

و من الثّاني: إِذْ رَأى‏ ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً. أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. كما وفي خطبة الزّهراء عليها السّلام: «و قبسة العجلان». ومن أمثال العرب: (القابس العجلان). جاء فيه لفظ: (القبس).

و معنى خطبة الإمام عليه السّلام: خصّ يا ربّ صلواتك الشّريفة، وبركاتك النّامية، بمحمّد الرّسول القائم بالأمر الرّسالي، المستعجل في طلب المرضاة، الفاهم لوحيك، الحافظ لعهدك، المصرّ في تنفيذ أوامرك، حتّى اهتدى طالب الهدى بنوره، وأبصر المتحيّر طريقه بإضاءة شريعته الغرّاء، والقرآن المنزل عليه، وانمحت ظلمة الجهالة الجاهليّة بنور النّبوّة، والعلم، والهدى وأزيح المانع عن الوصول إلى المعارف الإلهيّة الّتي كانت منطمسة الأعلام، مظلمة السّبل بالأباطيل والأضاليل.

فيا أيّها القابسون اقتبسوا من الأنوار...

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 75

22-  أيادي سبأ

من كلام له عليه السّلام: «... فما آتي على آخر قولي، حتى أراكم متفرّقين أيادي سبأ...». اختلف: أنّ المثل إسلامي، أصله قوله تعالى: «وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ». في قصّة أهل سبأ وتفرّقهم المذكورة في القرآن الكريم، وروايات أهل البيت عليهم السّلام.

أو جاهليّ، كما ذهب إليه الدّكتور صفا خلوصيّ، لأنّ سبأ وجدت قبل الإسلام. أقول: وهل وجود قوم سبأ قبل الإسلام يصيّر المثل مثلا جاهليّا، أو لا بدّ من ضربه لتلك الحالة في ذلك الزّمن... قال ابن أبي الحديد: «أيادي سبأ» مثل، يضرب للمتفرّقين، وأصله قوله تعالى عن أهل سبأ: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ».

                       

-------------------------------------------------------------------صفحة 76

و سبأ مهموز، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويقال: (ذهبوا أيدي سبا، وأيادي سبا). الياء ساكنة، وكذلك الألف، وهكذا نقل المثل: أي ذهبوا متفرّقين. وهما اسمان، جعلا واحدا مثل: (معدي كرب). وهو كالصّريح في كونه إسلاميّا.

و كيف ما كان، فيمكن أن يكون لمعنيين: يضرب المثل المذكور، لبيان تفرّق القوم المقصود جمعهم، كما تقدّم، وللّدعاء عليهم: أي لا تفارقهم الفرقة.

و لعلّ الثّاني أولى بكلام الإمام عليه السّلام، ليكون جملة: «أيادي سبأ» دعاء عليهم، ولكن ظهورها في تشبيه تفرّق أصحابه عند خطابه عليه السّلام بتفرّق قوم سبأ يمنع الدّعاء، اللّهمّ إلّا أن يعمّ المعنيين بالاشتراك إن صحّ ذلك.

لقد كان أمير المؤمنين عليه السّلام يعاني من تفرّق أصحابه، المسبّب لإبادتهم بغلبة العدوّ، وقد نهى اللّه عزّ وجلّ عن الفرقة، وأمر باعتصام الحبل الإلهي، في آية: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. والإمام المعصوم هو الحبل الّذي أمر العباد بتمسّكه، ولا ينافي كونه القرآن أو الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، إذ كلّ ذلك واحد في المعنى، يدعو إلى الواحد الأحد، وهو اللّه تعالى، ويؤول الاعتصام بالآخرة به وإليه تعالى.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 77

23-  إيّاك وما يعتذر منه

جاء المثل في كتاب له عليه السّلام إلى قثم بن عبّاس، وهو عامله على مكّة، أوّله: «أمّا بعد، فإنّ عيني بالمغرب كتب إليّ، يعلمني، أنّه وجّه إلى الموسم أناس... إيّاك وما يعتذر منه...». قال الميدانيّ بعد المثل المذكور: أي لا ترتكب أمرا تحتاج فيه إلى الاعتذار منه. وهو من الأمثال المرسلة، وإن لم يرسله الإمام عليه السّلام. ثمّ الاعتذار ممّا يوجبه، إنّما هو من صنع الجاهل، حيث يقدم على ما لا يدري مغبّته، ولا حسنه من قبحه، أو خيره من شرّه، فإذا انكشف الحال ندم واعتذر. أمّا العاقل فلا يترأّى قبل أن يتروّى، ولا يقدم على عمل إلّا بعد التّثبّت والعلم بمغبّته.

و قد قالوا: المثل: (شرّ الرّأي الدّبريّ)، والدّبريّ: الّذي يجي‏ء بعد ما يفوت الأمر ومن أجله رغّبت المشورة، وأمر الجاهل بالسّؤال من‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 78

أهل الذّكر في الكتاب والسّنّة في أمور الدّين والدّنيا، والمستبدّ برأيه هالك، والتّثبّت في كلّ شي‏ء حتّى لا يقع فيما لا يحمد عقباه، وعدم جواز الأخذ بنبإ الفاسق إلّا بعد التّبيّن، لئلّا يصيب إنسانا بجهالة، فيصبح على ما فعل نادما، كما قال تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ. والمورد لا يخصّص، فيجري فيما ماثله من نوعه، ثمّ المثل يشمل كلّ ما ذكر وما لم يذكر من الموارد الّتي تورث الاعتذار بعدها، سواء أ كان من قول أو عمل، بل مطلق السّكون والحركة الّتي لا يخلو منهما الإنسان.

فلا بدّ من التّفكّر فيه أوّلا، فإن علم أنّ في ذلك رشدا أقدم، أوغيّا أحجم عنه. ويقف عند الشّبهة لئلّا يهلك من حيث لا يعلم، كما جاء ذلك في حديث التّثليث: «الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وشبهات بين ذلك فمن أخذ بها هلك من حيث لا يعلم، ومن وقف نجا». ما مضمون الحديث فراجع.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 79

حرف الباء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 80

24-  باع اليقين بشكّه والعزيمة بوهنه

من بعض خطبة له عليه السّلام يصف آدم عليه السّلام: «ثمّ أسكن آدم دارا، أرغد فيها عيشه، وآمن فيها محلّته، وحذّره إبليس وعداوته، فاغترّه عدوّه نفاسة عليه بدار المقام، ومرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكّه، والعزيمة بوهنه، واستبدل بالجذل وجلا، وبالاغترار ندما......». البيع: مبادلة مال بمال، وأخذ شي‏ء بإعطاء شي‏ء مطلقا، ولم يختصّ بتمليك عين بعوض، على ما اصطلح عليه الفقهاء، والدّليل: الكتاب والحديث.

من الأوّل: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ-  إلى قوله تعالى:-  فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ». وتناول الشّراء في خمسة وعشرين موضعا إيجابا وقبولا بدون قصر على التّفسير الفقهيّ.

و من الثّاني: «باع اليقين بشكّه»، والمراد: نسيان العهد الرّبّانيّ من‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 81

النّهي عن اقتراب الشّجرة. ويدلّ على النّسيان قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. عن الباقر عليه السّلام: «إنّ اللّه تعالى عهد إلى آدم: أن لا يقرب هذه الشّجرة، فلمّا بلغ الوقت كان في علم اللّه أن يأكل منها، فنسي فأكل منها». وعنه عليه السّلام أيضا: «إنّ اللّه قال لآدم وزوجته: لا تقرباها، فقالا: نعم يا ربّنا لا نقربها، ولا نأكل منها. ولم يستثنيا في قولهما: نعم، فوكلهما اللّه في ذلك إلى أنفسهما، وإلى ذكرهما». وصادقيّ: «سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى. قال اللّه تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ. والنّسيان مرفوع لا عقاب عليه، لعدم الاختيار، نعم إذا كان السّبب اختياريّا، فلا يمنعه العقل، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، وإليه تشير آية: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. فيثبت الإثم على المضطرّ الباغي والعادي.

أمّا إطلاق العصيان والغواية على آدم في آية: وَعَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏. فحقّ إذ كان عليه الاهتمام الأكثر، حتّى لا يقع فيما لا ينبغي الوقوع فيه، وإن كان حال النّسيان لا إثم عليه لعدم توجّه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 82

الخطاب إلى النّاسي.

فالإطلاق باعتبار المقدّمة الاختياريّة، على أنّ آدم عليه السّلام لم يظنّ بمن يقسم باللّه عزّ وجلّ كاذبا، وقد نسي كلّ ما قال اللّه تعالى له من نهي الشّجرة وغيره، وإليك بعض ما اقتصّه اللّه عزّ وجلّ عنه، حيث قال تعالى: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ. وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ. إلى آخر الآيات الدّالّة على نهي اللّه عزّ وجلّ، والوعد الإبليسيّ له بالخلود، والقسم على ذلك. وبالنّتيجة وقوع آدم وحوّاء فيما لا يجدر بهما عليهما السّلام. والعقل قاض بلزوم العصمة للأنبياء عليهم السّلام، وعليه لا بدّ من تأويل ما ظاهره المنافاة للبرهان القاطع العقليّ.

قال المعتزليّ: إن قيل: كلام أمير المؤمنين عليه السّلام تصريح بوقوع المعصية من آدم عليه السّلام.

الجواب: أمّا أصحابنا فإنّهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه، ويقولون: إنّها كانت صغيرة، وعندهم أنّ الصّغائر جائزة على الأنبياء عليهم السّلام.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 83

و أمّا الإماميّة فيقولون: إنّ النّهي كان نهي تنزيه، لا نهي تحريم، لأنّهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط والخطأ، لا كبيرا ولا صغيرا. وظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم. نعم لو لا الدّليل العقليّ على العصمة. والبحث مشبع في محلّه.

ثمّ إن قلنا: إنّ البيع مبادلة خاصّة، لا تشمل بيع اليقين بالشّك، لفقد العين المعتبرة فيه، كان تمثيلا. والمختار عندنا الشّمول لأنّ أسماء الأجناس-  ومنها البيع-  موضوعة للطّبائع الكلّيّة المشتركة المطبّقة على أفرادها، كالإنسان المشترك الكلّيّ المطبّق على جزئيّاته، وباقي البحث في الأصول. فيكون مثلا إطلاقا، ونظيره المثل السّائر: (باع كرمه، واشترى معصرة) (باع دينه بدنياه، أو بدنيا غيره). (البيع مرتخص وغال).

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 84

25-  باحتمال المؤن يحب السّؤدد

قال عليه السّلام: «بكثرة الصّمت تكون الهيبة، وبالنّصفة يكثر المواصلون، وبالإفضال تعظّم الأقدار، وبالتّواضع تتمّ النّعمة، وباحتمال المؤن يجب السّؤدد، وبالسّيرة العادلة يقهر المناوئ، وبالحلم عن السّفيه تكثر الأنصار عليه». سبع كلمات حكميّة، لكلّ واحدة منهنّ تفسير يخصّها.

قال المعتزليّ: ولا سؤدد إلّا باحتمال المؤن، كما قال أبو تمّام:

         والحمد شهد لا ترى مشتاره         يجنيه إلّا من نقيع الحنظل‏

         غلّ لحامله ويحسبه الّذي            لم يوه عاتقه خفيف المحمل

 

ليس كلّ نفس تحتمل الصّعاب في سبيل راحة النّاس، ومن ثمّ‏

 

         -------------------------------------------------------------------صفحة 85

جاء في صفات المؤمن: «نفسه في تعب، والنّاس منه في راحة، وخيره مأمول، وشرّه مأمون». وقبل كلّ شي‏ء قوله تعالى: «وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ». فانظر كيف كان عاقبة صبرهم على احتمال الصّعاب والمؤن، أن جعلهم اللّه عزّ وجلّ قدوة للنّاس، يدعونهم إليه تعالى. فالصّبر يوجب السّؤدد والتّقدّم والرّفعة بين النّاس، وأيّ سؤدد أرفع من جعلهم أئمّة، يهدون بأمره عزّ وجلّ ومن هنا تعرف ما للأئمّة المعصومين عليهم السّلام من رفعة وسؤدد ربّانيّ، بين خلق الأوّلين والآخرين.

و لمحتمل المؤن مراتب عاليات ودانيات، وللكلّ فضل، حتّى المتحمّل في دار من أذى الجار، الإحسان إليه بدل المكافأة، فإنّه السّيّد في منطقته، لأجل قوّة احتمال الأذى، وهكذا المحتمل من عشيرته وأصحابه أو أمّته، كما جاء الحديث النّبويّ: «ما أوذي أحد مثل ما أوذيت». فكما أنّ أذاه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لا يحتمله غيره، من نبيّ أو غيره، كذلك لا يداني سؤدده سؤدد. فهو سيّد البشر جميعا، ومن بعده وصيّه عليّ بن أبي طالب، وولده الطّاهرون عليهم السّلام.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 86

فالإمام عليه السّلام عند ما يقول: «و باحتمال المؤن يجب السّؤدد»، هو من أجلى مظاهره، وكذا خواصّ أصحابه المحتملون الأذى في سبيل اللّه عزّ وجلّ، لهم السّيادة في الدّنيا والآخرة.

و يماثل المثل المبحوث عنه المثل السّائر: (السّؤدد مع السّواد)،: أي مع احتمال أذاهم.

26-  بعد اللّتيا والّتي

قال عليه السّلام في خطبة له: «.. وإن أقل يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت. هيهات بعد اللّتيا والّتي، واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه...». وهو من الأمثال الجارية على الألسن، تمثّل به الإمام عليه السّلام حين مني بأصحابه المتمرّدين.

و (اللّتيا): تصغير الّتي، كما أن اللّذيا تصغير الّذي. وفي القاموس: بفتح اللّام المشدّدة وضمّها. وهيهات، لظنّهم فيه الجزع: أي أبعد اللّتيا والّتي أجزع أبعد أن قاسيت الأهوال الكبار والصّغار، ومنيت بكلّ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 87

داهية عظيمة وصغيرة فاللّتيا للصّغيرة، والّتي للكبيرة. ومن الامثال السّائرة قولهم: (بعد اللّتيا والّتي)، كما جاء ذكره في فهرس أمثال النّهاية. وقال الميدانيّ بعد ذكر المثل: هما الدّاهية الكبيرة والصّغيرة، وكنّى عن الكبيرة بلفظ التّصغير، تشبيها بالحيّة، فإنّها إذا كثر سمّها صغرت، لأن السمّ يأكل جسدها.

و قيل: الأصل فيه أنّ رجلا من جديس تزوّج امرأة قصيرة، فقاسى منها الشّدائد، وكان يعبّر عنها بالتّصغير. فتزوّج امرأة طويلة، فقاسى منها ضعف ما قاسى من الصّغيرة، فطلّقها، وقال: بعد اللّتيا والّتي، لا أتزوّج أبدا، فجرى ذلك على الدّاهية.

و قيل: إنّ العرب تصغّر الشّي‏ء العظيم، كالدّهيم، واللّهيم، وذلك منهم رمز. وهو مثل سائر، يضرب لأمرين داهيتين، إحداهما أدهى من الأخرى.

يريد عليه السّلام بالقول: مطالبة الخلافة من الشّيخين، إذا طالبهما بها، قال النّاس: حرص على الملك الدّنيويّ، أ ترى حين تقمّصاها، لم لا يقولوا لهما: حرصتما على الملك‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 88

و يقولون ذلك لأمير المؤمنين عليه السّلام، وهو على حدّ أن يقولوه لرسول اللَّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأنّ النّبوة والخلافة كلتاهما أمر سماويّ.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 89

حرف التّاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 90

27-  ترسل في غير سدد

من كلام له عليه السّلام لبعض أصحابه، وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام، وأنتم أحقّ به فقال عليه السّلام: «يا أخا بني أسد إنّك لقلق الوضين، ترسل في غير سدد، ولك بعد ذمامة الصّهر، وحقّ المسألة، وقد استعلمت فاعلم......». عند التّكلّم على المثل: «ودع عنك نهبا صيح في حجراته» ذكرنا بعض كلام الإمام عليه السّلام. القلق: الانزعاج. والوضين: حزام الرّحل، ومنه البيت الّذي تمثّل به النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عند إفاضته من عرفات، على ما روي:

         إليك تعدو قلقا وضينها            مخالفا دين النّصارى دينها.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 91

و الإرسال في غير سدد: التّكلّم في غير قصد، وغير صواب. والاستداد والسّدد: الاستقامة. وحاصل الكلام العلويّ: إنّك أيّها الأسديّ قلق الخاطر، ومضطرب الحزام. والحزام لا يضطرب إلّا وأنّ صاحبه مضطرب الفكر، فيضطرب بدنه، وحزامه بالتّبع.

و يسبّب الإرسال في غير سدد فقد الاستقامة في الكلام، فيأتي بغير الصّواب والعامل لاضطراب البدن، وخبط الكلام، هو تقلقل الفكر، واضطرابه، فيأتي بما لا يضمن الصّواب، ويكون كالمتهافت في الشّي‏ء، على حدّ المثل السّائر: (يخبط خبط عشواء)، يضرب للمتهافت في الشّي‏ء، كما قاله الميدانيّ. أو: «كحاطب ليل»، يضرب مثلا للرّجل يجمع كلّ شي‏ء، ولا يميّز بين الجيّد من الرّدي‏ء. والحاطب الّذي يجمع الحطب، وإذا حطب باللّيل جمع في حبله الحيّة والعقرب، على ما في جمهرة العسكريّ. وفي المقام ربّما كان الكلام كالحيّة والعقرب، إذا لم يكن صوابا وسدادا. فحال المرسل في الكلام حال الحاطب في اللّيل.

و جملة: «ترسل في غير سدد» صالحة للتمثّل بها، وضربها للمهذار، وللقائل المضطرب. ونظيره أيضا قولهم:

 

                        مثال‏والحكم‏المستخرجةمن‏نهج‏البلاغة، صفحة 92

(أخبط من حاطب ليل)، و(أخبط من عشواء). ثمّ مسألة الخلافة الّتي سأل الأسديّ أمير المؤمنين عليه السّلام عنها هي من أهمّ المسائل المذهبيّة، عند الجعفريّ والسّنّيّ. فتجد الشّارح المعتزليّ حينما يتناول هذا الكلام يجتهد في صرفه إلى ما يوافق مذهبه، مهما كان له من ظهور، أو صراحة على مذهب الإماميّة. فلو حاولت نقل مواضع اجتهاده لخرج بنا عن البحث، وإليك بعض المواضع من نفس الكلام الجاري. قال عليه السّلام: «و قد استعلمت فاعلم، أمّا الاستبداد علينا، ونحن الأعلون نسبا، والأشدّون بالرّسول صلّى اللّه عليه و-  آله-  وسلّم نوطا، فإنّها كانت أثرة، شحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم اللّه، والمعود إليه يوم القيامة». قال المعتزليّ: ويعني بالنّفوس الّتي سخت: نفسه، وبالنّفوس الّتي شحّت: امّا على قولنا، فإنّه يعني: نفوس أهل الشّورى بعد مقتل عمر، وأمّا على قول الإماميّة: فنفوس أهل السقيفة، وليس في الخبر ما يقتضي صرف ذلك إليهم، فالأولى أن يحمل على ما ظهر عنه من تألّمه من عبد الرّحمن بن عوف، وميله إلى عثمان.

------------------------------------------------------------------- صفحة 93

حكّم عقلك بعد الإحاطة بكلامه عليه السّلام، وبما قاله في آخره: «و الحكم اللّه، والمعود إليه يوم القيامة».

و هل سؤال الأسديّ كان عن إحدى الطّائفتين، حتّى يطابق الجواب السّؤال، أو كان عن أصل الخلافة، فيكون الجواب طبقا له حكّم عقلك، ثمّ اقض بما شئت. والحكم اللّه، والمعود إليه يوم القيامة إن شاء اللّه تعالى.

28-  تزول الجبال ولا تزل

من كلام له عليه السّلام لابنه محمّد بن الحنفيّة لمّا أعطاه الرّاية يوم الجمل: «تزول الجبال، ولا تزل، عضّ على ناجذك، أعر اللّه جمجمتك، تد في الأرض قدمك، ارم ببصرك أقصى القوم، وغضّ بصرك واعلم أنّ النّصر من عند اللّه سبحانه». الخطاب عامّ، وإن كان المخاطب ابن الحنفيّة، إذ هو سبب صدوره، وأنّه من أفراده، كبقيّة الخطابات غير المقصورة على مورد الصّدور.

قد حوى الخطاب العلويّ على مهامّ آداب الحرب. وهي سبعة: الأوّل: الثّبات فيها، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 94

فَاثْبُتُوا. وَلِيَرْبِطَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ومن هنا حسن التّمثيل بالجبال الّتي لا تحرّكها القواصف، لثبوتها وعدم زوالها. وزاد الإمام عليه السّلام فرض زوالها بفرض المحال العاديّ في مبالغة الثّبات في ميدان الحرب بقوله: «تزول الجبال، ولا تزل»: أي إن زالت، فلا تزل أنت، واثبت بدون فرار أو تحرّف.

و من شأن الجبال الثّبوت لثقلها، وقد ضربت أمثال سائرة في الجبل. قالت العرب: (أثقل من شمام)، قال الميدانيّ: وهو مبنيّ على الكسر عند الحجازيّين، وهو جبل له رأسان، يسمّيان: (ابني شمام). قال لبيد:

         فهل نبّئت عن أخوين داما            على الأحداث إلّا ابني شمام‏

 

(أثقل من نضاد) هذا أيضا جبل بالعالية:

         لو كان من حضن تضاءل ركنه            أو من نضاد بكى عليه نضاد

 

(أثقل من عماية) هي جبل بالبحرين من جبال هذيل. (أثقل من أحد) هو جبل بيثرب، معروف مشهور. (أثقل من دمخ الدّماخ) هو

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 95

جبل من جبال ضخام في حمى ضريّة، والدّماخ: اسم لتلك الجبال.

، وأصرحها دلالة على الثّبوت قوله عليه السّلام: «كالجبل لا تحرّكه القواصف، ولا تزيله العواصف». الثّاني من آداب الحرب: عضّ النّاجذ، وهو أقصى الأضراس، وبه ينبو السّيف عن الدّماغ. كما قال عليه السّلام: «و عضّوا على النّواجذ، فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام». الثّالث: إعارة اللّه جلّ جلاله الجمجمة، كناية عن بذلها في طاعته، ليردّها عليه، إمّا في الدّنيا بالنّصر، أو الآخرة ثواب الشّهداء.

الرّابع: وتد القدم في أرض المعركة، ويراد به: الرّسوخ فيها، وهو تأكيد في عدم الزّوال المتقدّم بيانه في الأوّل.

الخامس: رمي البصر إلى أقصى المحاربين.

السّادس: غضّ البصر. قال المعتزليّ: ولا تناقض بين قوله-  عليه السّلام- : (ارم ببصرك) وقوله: (غضّ بصرك) وذلك لأنّه في الأولى أمره أن يفتح عينه، ويرفع طرفه، ويحدّق إلى أقاصي القوم ببصره، فعل الشّجاع المقدام، غير المكترث، ولا المبالي لأنّ الجبان تضعف نفسه، ويخفق قلبه، فيقصر بصره، ويدهش، ويستشر خوفا. فكأنّه-  عليه السّلام-  قال: إذا عزمت على الحملة، وصمّمت، فغضّ حينئذ

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 96

بصرك، واحمل، وكن كالعشواء التي تخبط ما أمامها، ولا تبالي. السّابع: اليقين بأنّ النّصر هو من عند اللّه عزّ وجلّ، لا بساعده وبسالته. فإنّه كم من كميّ باسل صرع في المعركة.

و لئن ذكر عليه السّلام هذه الآداب الحربيّة لغيره، فإنّها قد تجمّعت فيه بأعلى مراتبها، وأقصاها. وهو الّذي يضرب به الأمثال في الحروب وكانت شجعان العرب تفتخر أن ترى مصرعها بيده. هذه أخت عمرو بن ودّ قائلة: كانت منيّته على يد كفو كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر ثمّ أنشأت تقول:

         لو كان قاتل عمر غير قاتله‏

 

الأبيات.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 97

29-  تعجّ منه المواريث

من كلامه عليه السّلام في وصف فاقد الأهليّة لمنصب القضاء بين النّاس: «تصرخ من جور قضائه الدّماء، وتعجّ منه المواريث، إلى اللّه أشكو من معشر، يعيشون جهّالا، ويموتون ضلّالا». صرخ يصرخ، من باب (قتل)، صراخا، وهو: الصّياح باستغاثة وجدّ وشدّة، وفي الدّعاء: «يا صريخ المستصرخين». وتعجّ من العجّ: أي رفع الصّوت، وفي حديث جبرئيل: «يا محمّد مر أصحابك بالعجّ والثّجّ»: أي رفع الصّوت في التّلبية. والثّجّ: إسالة الدّماء من الذّبح والنّحر في الأضاحي. وقد جمع الصّراخ والعجّ مع الضّجّ في دعاء النّدبة: «و ليصرخ الصّارخون، ويضجّ الضّاجّون، ويعجّ العاجّون».

------------------------------------------------------------------- صفحة 98

قال ابن فارس: العين والجيم أصل واحد يدلّ على ارتفاع في شي‏ء من صوت، أو غبار، وما أشبه ذلك، من ذلك، العجّ: رفع الصوت، عجّوا بالدّعاء، إذا رفعوا أصواتهم. وفي الحديث: «أفضل الحجّ: العجّ والثّجّ». قال ورقة:

         ولوجا في الذّي كرهت معدّ            ولو عجّت بمكّتها عجيجا

 

أراد: دخولا في الدّين. وعجيح الماء: صوته، ومنه، النّهر العجّاج، ويقولون: عجّت القوس: إذا صوّتت، قال:

         تعجّ بالكفّ إذا الرّامي اعتزم            ترنّم الشّارف في أخرى النّعم‏

 

قال أبو زيد: عجّت الرّيح، وأعجّت، إذا اشتدّت وساقت التّراب. وممّا يجري مجرى المثل والتّشبيه: (فلان يلفّ عجاجته على فلان)، إذا أغار عليه، وكأنّ ذلك من عجاجة الحرب وغيرها قال الشّنفرى:

         وإنّي لأهوى أن ألفّ عجاجتي            على ذي كساء من سلامان أو برد

 

قيل: استعمال الصّراخ والعجّ في كلامه عليه السّلام من باب‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 99

الاستعارة، أو التّمثيل للدّم والميراث بإنسان قد ظلم، وجير عليه، ويستغيث من ظلم ظالمه، وجور جائره. وليس الصّراخ والعجّ فيهما على الحقيقة، إذا لا صراخ للدّم، ولا عجيج للميراث.

و عليه فيكون من باب التّمثيل هذا، إن لم نقل بالاشتراك المعنويّ في مادّة الاشتقاق، بالإضافة إلى جميع مشتقّاتها. فمثلا، الصّراخ والعجّ بمعنى: الصّوت الخاصّ، ورفعه لبثّ الحزن، مختلف حسب المقامات، والمراد منه: أنّ المهراق دمه، أو المأخوذ منه المال، بحكم قضاوة باطلة، يستغيث بطبع الحال، ويطلب القصاص، وإرجاع المال من الظّالم الغاصب.

30-  تقصر دونها الأنوق، ويحاذى بها العيّوق

من كتابه عليه السّلام إلى معاوية: «...... وقد أتاني كتاب منك، ذو أفانين من القول، ضعفت قواها عن السّلم، وأساطير لم يحكها عنك علم ولا حلم، أصبحت منها كالخائض في الدّهاس، والخابط في الدّيماس، وترقّيت إلى مرقبة بعيدة المرام، نازحة الأعلام، تقصر دونها الأنوق، ويحاذى بها العيّوق...». في كلامه عليه السّلام أكثر من تمثيل، يظهر بعد شرح مفرداته:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 100

أفانين القول: أساليبه المتنوّعة. وضعف قوى الأفانين عن السّلم: أي الإسلام،: أي عدم صدورها عن مسلم، حيث طلب تولّيه العهد، وإبقاءه بالشّام رئيسا.

الأساطير جمع أسطورة: الأباطيل. حوكها: نظمها. والدّهاس بالكسر جمع دهس، وبالفتح مفرد، وهو: المكان السّهل، ليس هو بتراب ولا طين. والدّيماس بالكسر: السّرب المظلم تحت الأرض.

و المرقبة: الموضع العالي، يراقب عليه. والأعلام جمع علم: ما يهتدى به في الطّرقات. والأنوق بالفتح: طائر، وهو الرّخمة. وفي المثل: (أعزّ من بيض الأنوق)، لأنّها تحرزه، لا يظفر به أحد. والعيّوق: كوكب فوق زحل في العلوّ: أي أنت بكتابك المشتمل على دعاو باطلة، لا تصدر عن مسلم، ولا يحكى عن علم وحلم كاتبه لست إلّا كالخائض في أرض رخوة، يقوم ويقع، والخابط في نفق مظلم، لا يهتدي الطّريق.

سمت همّتك إلى الخلافة، وهي منك بموضع مرتفع عال، لا سبيل إليه ولا أعلام تهتدي بها، وهي كالرّخمة الّتي لا يظفر ببيضها، والكوكب الّذي فوق الكواكب كلّها وكيف ترومها ضربت هذه الأمثال، لبعد معاوية عن الخلافة الّتي يريدها. يضرب المثل المذكور لقصور طالب الشّي‏ء، وفي معنى المثلين قولهم: (دونه بيض الأنوق) و(دونه العيّوق).

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 101

31-  التّقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها

في خطبة له عليه السّلام: «ألا وإن الخطايا خيل شمس، حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحّمت بهم في النّار، ألا وإنّ التّقوى مطايا ذلل، حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمّتها، فأوردتهم الجنّة». تمثيلان تكلّمنا على أوّلهما الخاصّ بالذّنوب. وأمّا الثّاني فقد جاء في القرآن الكريم، أنّ التّقوى خير الزّاد، وهو قوله عزّ وجلّ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏. بناء على أنّه تمثيل بزاد المسافر الّذي هو من أهمّ لوازم السّفر.

و قد تناول التّنزيل التّقوى بما لها من مشتقّات في مائتين وستّين موضعا. ولا تجد أجمع تعريف للتّقوى، وأوجزه، كقوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لأنّه اشتمل على إيجاز

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 102

بليغ، وتعريف مطّرد، منعكس لها، بحيث لم يجي‏ء الإنسان بالصّدق والتّصديق، إلّا والتّقوى تلازمه، ويلازمها.

و كلمة: (جاء بالصّدق) إشارة إلى عدم قصر الصّدق على القول، وإلّا لقال تعالى: (و الّذي صدق)، فيعمّ الفعل والقصد وكلّ حركة وسكون. فمن كان صادقا قولا، وعملا، ونيّة، بل في كلّ حركة تصدر منه، أو سكون فهو في غاية التّقوى. ومن ثمّ فسّر بالأنبياء عليهم السّلام لأنّه العصمة، لا يستطيع سائر النّاس ذلك. ولكنّ الآية لها إطلاقها المنطبق على كلّ من كان كذلك من البشر، فتدبّر.

فلو لم يكن لبيان التّقوى والمتّقي إلّا قوله تعالى: بأنّها خير الزّاد، وأنّ الجائي بالصّدق، المصّدق بالصّدق، وهو المتّقي، لكفى مقياسا كاملا لمن أراد أن يذكر أو أراد أن يعرف كيف يتّقي ومن هو المتّقي وما هي نتيجة التّقوى في سفر الآخرة، وهو السّفر إلى اللَّه جلّ جلاله.

و لا ينال ما عند اللَّه تعالى، ولا ولاية أهل البيت عليهم السّلام إلّا بالتّقوى. إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. وإن كان تعليلا لقوله تعالى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ،: أي البيت الحرام لأنّه مبنيّ على تقوى، فلا يلي أمره إلّا المتّقون.

إلّا أنّ أهل البيت عليهم السّلام بما أنّهم أمراء المتّقين، لم يكن أولياؤهم إلّا المتّقين، بمناسبة الحكم والموضوع. ويشهد لذلك قول‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 103

الصّادق عليه السّلام: «يا خيثمة إنّا لا نغني عنهم من اللَّه شيئا، إلّا بالعمل الصّالح، فإنّ ولايتنا لا تنال إلّا بالورع». وَلِباسُ التَّقْوى‏ ذلِكَ خَيْرٌ. ترى المثل الرائع، حيث جعل التّقوى في ملازمتها للإنسان لزوم اللّباس له، سترا للعورة، وحفظا من الحرّ والقرّ، وزينة ز ووقارا.

و أمّا التّمثيل العلويّ بأنّ التّقوى مطايا سهلة الرّكوب يتوصّل بها حاملها إلى مآربه قد ملك زمامها يسير عليها إلى الجنّة بعزّ وافتخار. فهو ما يجده كلّ متّق عيانا لا يفتقر إلى بيان.

32-  تميد بأهلها ميدان السّفينة

من خطبة له عليه السّلام: «بعثه حين لا علم قائم، ولا منار ساطع، ولا منهج واضح أوصيكم عباد اللَّه بتقوى اللَّه، وأحذّركم الدّنيا، فإنّها دار شخوص، ومحلّة التّنغيص ساكنها ظاعن، وقاطنها بائن، تميد بأهلها ميدان السّفينة، تقصفها القواصف في لجج البحار، فمنهم الغرق الوبق، ومنهم النّاجي على بطون الأمواج، تحفزه الرّياح بأذيالها، وتحمله على أهوالها فما غرق منها فليس‏

------------------------------------------------------------------- صفحة 104

بمستدرك، وما نجا منها فإلى مهلك». كم من خطبة لأمير المؤمنين عليه السّلام، يصف فيها الدّنيا ويكشف عن حقيقتها للنّاس، ويضرب لهم الأمثال، ومنها المثل المذكور في هذه الخطبة، حيث ضرب عليه السّلام لأهل الدّنيا مثلا براكبي السّفينة في البحر، وقد مادت بهم. فمنهم الهالك على الفور، ومنهم من لا يتعجّل هلاكه، وتحمله الرّياح ساعة أو ساعات، ثمّ مآله إلى الهلاك أيضا.

قبل أن يشرح الشّارح المثل العلويّ، شرح صدر الكلام يقول: بعث اللَّه سبحانه محمّدا صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم- ، لمّا لم يبق علم يهتدي به المكلّفون لأنّه كان زمان الفترة، وتبدّل المصلحة، واقتضاء وجوب اللّطف عليه سبحانه تجديدا لبعثته ليعرّف المبعوث المكلّفين الأفعال الّتي تقرّبهم من فعل الواجبات العقليّة، وتبعدهم عن المقبّحات العقليّة.

و المنار السّاطع: المرتفع، سطع الصّبح سطوعا: ارتفع. ودار شخوص: دار رحلة. والظّاعن: المسافر. والقاطن: المقيم. والبائن: البعيد. يقول: ساكن الدّنيا ليس بساكن على الحقيقة، بل هو ظاعن في المعنى، وإن كان في الصّورة ساكنا. والمقيم بها مفارق، وإن ظنّ أنه مقيم.

و تميد بأهلها: تتحرك وتميل. والميدان: حركة واضطراب.

------------------------------------------------------------------- صفحة 105

و إنّما يحذّر العباد عن الدّنيا وغرورها، بما قد أخذ عليه السّلام قبل التّحذير حذره، ويوصيهم بتقوى اللَّه. وهو إمام المتّقين، ورأس الزّهد والتّقوى.

قال الشّارح: وأما الزّهد في الدّنيا، فهو سيّد الزّهّاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدّ الرّحال، وعنده تنفضّ الأحلاس ما شبع من طعام قطّ، وكان أخشن النّاس مأكلا وملبسا.

قال عبد اللَّه بن رافع: «دخلت إليه يوم عيد، فقدّم جرابا مختوما، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا، فقدّم، فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين فكيف تختمه قال: خفت هذين الولدين أن يلتّاه بسمن أو زيت». إنّه اقتدى بأخيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليهما وآلهما وسلّم، ولقد كان نبيّ الزّهّاد، كما أنّ عليّ بن أبي طالب إمامهم، بل وفاطمة الزّهراء والأحد عشر بهما مقتدون عليهم السّلام، بل هو ديدن شيعتهم الصّادقين في تشيّعهم إلى يوم القيامة.

ثمّ تشبيه الدّنيا بالبحر الموبق، لا ينجي راكبه والسّفينة الدّنيويّة، المائدة بأهلها. بل هنا سفينة، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى، وهي أهل بيت الرّسول صلّى اللَّه عليهم وسلّم. كما في النّبويّ المتّفق على نقله الفريقان: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها زجّ في النّار».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 106

 

         ولمّا رأيت النّاس قد ذهبت بهم            مذاهبهم في أبحر الغيّ والجهل‏

         ركبت على اسم اللَّه في سفن النّجا         وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرّسل.

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 107

حرف الثّاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 108

33-  ثكلتك أمّك

قال عليه السّلام لقائل، قال بحضرته: أستغفر اللَّه: «ثكلتك أمّك أ تدري ما الاستغفار إنّ للاستغفار درجة العلّيّين، وهو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها: النّدم على ما مضى، الثّاني: العزم على ترك العود إليه أبدا، والثّالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم، حتّى تلقى اللَّه عزّ وجلّ أملس ليس عليك تبعة، والرّابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها، فتؤدّي حقّها، والخامس: أن تعمد إلى اللّحم الّذي نبت على السّحت، فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، السّادس: أن تذيق الجسم ألم الطّاعة، كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول: أستغفر اللَّه». قوله عليه السّلام: «ثكلتك أمّك» من المثل السّائر قال الميدانيّ: (ثكلتك أمّك أيّ جرد ترقع). الجرد: الثّوب الخلق، يقال: ثوب سحق‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 109

و جرد: أي خلق. ونصب (أيّ) بترقع.

يضرب لمن يطلب ما لا نفع له فيه. وما نحن فيه للدّعاء على الإنسان، ومثله: (ثكلتك الجثل): أي صاحبة الشّعر الكثير من الأمّ، أو غيرها من قومه.

راجع المثل: «يا أمّه اثكليه». ومنه المثل: (ثكلتك الرّعبل): أي الخرقاء، من رعبل الثّوب، إذا خرقه، يعني: أمّه. يضرب في دعاء الشّرّ. وقد أشبعنا البحث عند المثل: «هبلتك الهبول». والمراد منه هنا: الرّدع عن التّلفّظ بكلمة الاستغفار، والغفلة عن حقيقة معناه، وأنّه ليس من مقولة اللّفظ، بل الاستغفار اسم واقع على حقيقة حاصلة من ستّة أمور، لولاها لما كان استغفارا: النّدم على الماضي، والعزم على ترك العود، وأداء حقوق المخلوق والخالق عزّ وجلّ، وإذابة اللّحم النّابت من السّحت بالأحزان، وإذاقة الجسم ألم الطّاعة فإذا فعل ذلك كلّه، ثمّ قال: أستغفر اللَّه، كان صادقا في استغفاره، وإلّا فهو كاذب لاغ.

و الشّرط الأوّل إذا صدق فيه، تحقّق الثّاني، وفرغ للثّالث والرّابع، ويتبع ذلك كلّه الخامس والسّادس. فإنّ هذه الأمور السّتّة يتبع بعضها

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 110

بعضا، لا أنّها أمور متباينة والعلّة في ذلك أنّ العبد إذا خاف مقام ربّه، قام بتلك الأمور، وجاءه الشّوق إلى لقاء اللَّه تعالى. والمشتاق إليه نادم على كلّ ما مضى منه في سبيل غيره، وصرف همّه فيه، وودّع ما سواه بردّ الحقوق. فيشعل الحبّ نار الفراق، فيحترق منه الجسد، ويبقى هزيلا ناحلا، ليس له إلّا اللَّه همّ، وترك العالم وكلّ بني آدم لأجله تعالى.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 111

حرف الجيم

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 112

34-  جاء بأمر لم يعرف بابه

من كلام له عليه السّلام في معنى طلحة بن عبيد اللَّه، أوّله: «قد كنت وما أهدّد بالحرب...،... وواللَّه ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفّان ظالما-  كما كان يزعم-  لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه، وأن ينابذ ناصريه. ولئن كان مظلوما، لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه، والمعذّرين فيه. ولئن كان في شكّ من الخصلتين، لقد كان ينبغي له أن يعتزله، ويركد جانبا، ويدع النّاس معه.

فما فعل واحدة من الثّلاث وجاء بأمر لم يعرف بابه، ولم تسلم معاذيره».

------------------------------------------------------------------- صفحة 113

في شرح قوله عليه السّلام: «قد كنت وما أهدّد بالحرب...» قال المعتزليّ: أي خلقت، ووجدت وأنا بهذه الصّفة، كما تقول: خلقني اللَّه وأنا شجاع كما في المثل: (لقد كنت وما أخشّى بالذّئب). وبقيّة المثل (فاليوم قيل: الذّئب الذّئب). قال الميدانيّ: المثل لقباث بن أشيم الكنانيّ، عمر حتّى أنكروا عقله... ثمّ شرح المعتزليّ حال طلحة، وقال: إنّه تجرّد للطّلب بدم عثمان، مغالطة للنّاس، وإيهاما لهم أنّه بري‏ء من دمه، فيلتبس الأمر، ويقع الشّكّ. وقد كان طلحة أجهد نفسه في أمر عثمان، والإجلاب عليه، والحصر له، والإعزاء به، ومنّته نفسه الخلافة بل تلبّس بها وتسلّم بيوت الأموال، وأخذ مفاتيحها، وقاتل النّاس، وأحدقوا به، ولم يبق إلّا أن يصفق بالخلافة على يده. من شاء تفصيل تلبيس الأمر منه على النّاس، وأنّه مناوى‏ء، أو ناصر، فلينظر الشّرح.

و يماثل المثل من بعض الوجوه المثل: (جاء ثانيا من عنانه)، إذا جاء ولم يقدر على حاجته، قاله ابن رفاعة. و(جاء بإحدى بنات طبق)، بنت طبق: سلحفاة. تزعم العرب أنّها تبيض تسعا وتسعين‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 114

بيضة، كلّها سلحفاة. يضرب للرّجل يأتي بالأمر العظيم. و(جاء بالتّرّه)، هو واحد التّرّهات. وكذلك (جاء بالتّهاته)، وهي جمع التّهتهة: وهي اللّكنة. قال القطاميّ:

         ولم يكن ما اجتدينا من مواعيدها            إلّا التّهاته والأمنيّة السّقما

 

و (جاء بمطفئة الرّضف): أي جاء بأمر أشدّ ممّا مضى، يضرب في الأمور العظام. و(جاء بالشّقر والبقر)، اسم لما لا يعرف، أي جاء بالكذب الصّريح.

35-  جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه

روى أبو جحيفة، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: «إنّ أوّل ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم، ثمّ بألسنتكم، ثمّ بقلوبكم فمن لم يعرف بقلبه معروفا، ولم ينكر منكرا، قلب فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه».

------------------------------------------------------------------- صفحة 115

قال المعتزليّ: إنّما قال ذلك لأنّ الإنكار بالقلب آخر المراتب، وهو الّذي لا بدّ منه على كلّ حال، فأمّا الإنكار باللّسان وباليد فقد يكون منهما بدّ، وعنهما عذر، فمن ترك النّهي عن المنكر بقلبه، والأمر بالمعروف بقلبه، فقد سخط اللَّه عليه بعصيانه، فصار كالمنسوخ الّذي يجعل اللَّه تعالى أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه تشويها لخلقته.

و من يقول بالأنفس الجسمانيّة، وأنّها بعد المفارقة يصعد بعضها إلى العالم العلويّ: وهي نفوس الأبرار، وبعضها ينزل إلى المركز، وهي نفوس الأشرار يتأوّل هذا الكلام على مذهبه، فيقول: إنّ من لا يعرف بقلبه معروفا: أي لا يعرف من نفسه باعثا عليه، ولا متقاضيا بفعله، ولا ينكر بقلبه منكرا: أي لا يأنف منه، ولا يستقبحه، ويمتعض من فعله، يقلب نفسه الّتي قد كان سبيلها أن تصعد إلى عالمها، فتجعل هاوية في حضيض الأرض، وذلك عندهم هو العذاب والعقاب. نقل هذا المذهب من دون ردّ ظاهر من الشّارح يوهم الإيمان به، ولعلّه اكتفى في ردّه بشرحه المذكور قبله.

قال الخطيب: أبو جحيفة وهب بن وهب كان من صغار الصّحابة، حتّى قيل: إنّه لم يبلغ الحلم عند وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  ولكنّه سمع منه وروى عنه. ونزل الكوفة، وشهد مع عليّ عليه السّلام مشاهده كلّها، وكان عليه السّلام يحبّه، ويثق به، ويسمّيه وهب الخير، وجعله على بيت مال الكوفة، وتوفّي سنة 72.

------------------------------------------------------------------- صفحة 116

قوله عليه السّلام: «فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه» يصلح ليضرب به مثلا لسوء العاقبة، على حدّ قوله تعالى: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 117

حرف الحاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 118

36-  حدو الزّاجر بشولة

قال عليه السّلام: «... عباد اللَّه إنّ الدّهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولّى منه، ولا يبقى سرمدا ما فيه، آخر فعاله كأوّله، متشابهة أموره، متظاهرة أعلامه فكأنّهم بالسّاعة تحدوكم حدو الزّاجر بشولة......». قال ابن الأثير في شرح الشائلة واحدة الشوائل: وهي الّتي شال لبنها: أي ارتفع، وتسمّى: الشّول: أي ذات شول لأنّه لم يبق في ضرعها إلّا شول من لبن: أي بقيّة. ويكون ذلك بعد سبعة أشهر من حملها. ومنه حديث عليّ-  عليه السّلام- : «فكأنّكم بالسّاعة تحدوكم حدو الزّاجر بشولة»: أي الّذي يزجر إبله لتسير. وقال الشّيخ الطّريحيّ: والتّاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 119

في (شولة) تأنيث أو مصدر: أي ذات شول. والشّائلة واحدة الشّوائل.

و شوّل كركّع جمع شائل: وهي النّاقة الّتي تشول بذنبها للّقاح، ولا لبن لها أصلا، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية. وشوّلت النّاقة: أي صارت شائلة.

و شوّال: أحد فصول السّنة، سمّي بذلك لشولان الإبل بأذنابها في ذلك الوقت، لشدّة شهوة الضّراب، ولذلك كرهت العرب التّزويج فيه، وعن النبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  «سمي شوّالا لأنّ فيه شالت ذنوب المؤمنين»: أي ارتفعت وذهبت. والحدو: سوق الإبل، والحادي: السّائق لها، والحديّ: التّغنّي لجدّ السّير.

و إنّما شبّه عليه السّلام اندفاع النّاس بالسّاعة: أي القيامة، بسائق النّاقة القليلة اللّبن أو عديمته في سرعة سيرها لخفّتها ولزجرها: أي أنّ السّاعة تقهركم على الموقف لمحاسبتكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.

و كرّر منه عليه السّلام التّعبير بالحدو، ومنه: «و إنّ وراءكم السّاعة تحدوكم»، «و أنّ السّاعة تحدوكم»، بل بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى‏ وَأَمَرُّ من الزّجر والقتل والأسر، وأفظع من كلّ فظيع، وأدهى من الدّواهي كلّها.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 120

37-  الحسد يأكل الإيمان، كما تأكل النّار الحطب

من تمثيلات صادرة عن الإمام عليه السّلام في إحدى خطبه، قال فيها: «و لا تحاسدوا، فإنّ الحسد يأكل الإيمان، كما تأكل النّار الحطب». من الإيمان أن يعقد المؤمن قلبه على أنّه تعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمّن يشاء، ويؤتي الفضل من رزق وغيره، كما قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. فإذا تمنّى زوال ذلك، وانضجر من وجوده، فقد عارض اللَّه في قضائه وعطائه. وهو مناف للإذعان بهما، فكيف يبقى الإيمان بل يفنى، كما تفني النّار الحطب.

ثمّ الحسد جاء الأمر بالتّعوّذ من شرّه، كما قال تعالى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ. وفي نبويّ: «... وكاد الحسد أن يغلب القدر».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 121

و صادقي: «آفة الدّين الحسد والعجب والفخر». ونبويّ: «قال اللَّه عزّ وجلّ لموسى بن عمران: يا ابن عمران لا تحسدنّ النّاس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدّنّ عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي، صادّ لقسمي الّذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه، وليس منّي». وهو من داعية الذّنوب. قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «... الحرص والكبر والحسد دواع إلى التّقحّم في الذّنوب». وكما لا يسلم له إيمان، لم تبق صحّة البدن معه قال عليه السّلام: «العجب لغفلة الحسّاد عن سلامة الأجساد». وقال عليه السّلام: «صحّة الجسد من قلّة الحسد». «و الحسد غلّ في عنق صاحبه»، وقد نفاه عليه السّلام عن الملائكة عند وصفهم: «و لا تولّاهم غلّ التّحاسد». وأيّ فرق بين من على عنقه غلّ ظاهريّ ومن شغل قلبه، وملك عقله الحسد والجامع بينهما سلب الاستطاعة والرّاحة.

و كرّر هذا التّمثيل المذكور في كلامه عليه السّلام في أكل الحسد الإيمان بأكل النّار الحطب في الأحاديث، ومنها النّبويّ.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 122

38-  الحكمة ضالّة المؤمن

من كلمات الإمام عليه السّلام ما رواه السّيّد الرّضيّ طاب ثراه، قال: وقد قال عليّ عليه السّلام في مثل ذلك.

«الحكمة ضالّة المؤمن، فخذ الحكمة، ولو من أهل النّفاق». بعد كلمة حكميّة أخرى بهذا الصّدد، وهي قوله عليه السّلام: «خذ الحكمة أنّى كانت، فإنّ الحكمة تكون في صدر المنافق، فتلجلج في صدره حتّى تخرج، فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن». ونحن أثبتناها في الكتاب بلفظ: «خذ الحكمة أنّى كانت» وإن كان فيه نوع تكرير يندفع بتطوّر البحوث هنا وهناك، قال الميدانيّ: يعني: أنّ المؤمن يحرص على جمع الحكم من أين يجدها يأخذها. ثمّ إنّ المثل على ما رواه السّيّد الرّضيّ: من الأمثال العلويّة. وقد جاء هذا المثل بعينه عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، كتبناه في‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 123

(الأمثال النّبويّة)، ولا منافاة أنّهما عليهما السّلام تمثّلابه.

عرّفت الحكمة بتعاريف، فقيل: هي فهم المعاني، والعلم بمصالح الدّارين، ومفاسدهما، وإتقان الأمور، أحكم الأمر: أتقنه وأبرمه. وطاعة اللَّه، والنّبوّة، ومعرفة الإمام عليه السّلام وقيل: أجمع تعريف: هي المعرفة بالشّرائع السّماويّة، والعمل بها. وغيرها من أقوال، وكلّ ذلك صحيح محقّق لحقيقتها.

ثمّ الحصول على الحكمة بأمور: منها: إخلاص العمل، وفيه جاء النّصّ: «من أخلص للَّه أربعين صباحا، جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه». ومنها: نوم القيلولة، وهو قبل الزّوال إلى ما بعده بساعة أو أكثر، وهذا مناف لوقت صلاة الظّهر، فالأولى الاختصاص إلى الزّوال.

و منها: صلاة اللّيل، وقراءة القرآن الكريم، وقلّة الأكل والكلام والنّوم، ومجالسة الأتقياء، ومجانبة أهل الغفلة.

و ليست الحكمة الّتي جاءت في القرآن الكريم والأحاديث المرويّة عن أهل البيت عليهم السّلام الحكمة المصطلحة عند الحكماء والفلاسفة اليونانيّين، بل هي أحد ما قدّمناه، أو كلّه، أو غير ذلك ممّا يناسب الكتاب والسّنّة المرويّة. فتدبّر جيّدا حتّى لا يختلط الوحي بغيره.

و معنى قوله عليه السّلام: «الحكمة ضالّة المؤمن» كما تقدّم من‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 124

الميدانيّ: أي هي منشودته. والاختصاص بالمؤمن لإيمانه المجامع للحكمة، بأيّ تفسير لها الّذي يفقده المنافق.

في حديث علوي: «من زهد في الدّنيا ولم يجزع من ذلّها، ولم ينافس في عزّها، هداه اللَّه بغير هداية من مخلوق، وعلّمه بغير تعليم، وأثبت الحكمة في صدره، وأجراها على لسانه». وهذا الحديث الشّريف، يؤكّد حديث: «من أخلص للَّه...» الآنف الذّكر، فافهم إن شاء اللَّه تعالى.

39-  الحمد للَّه كلّما لاح نجم وخفق

من خطبة له عليه السّلام عند المسير إلى الشّام، أوّلها: «الحمد للَّه كلّما وقب ليل وغسق، والحمد للَّه كلّما لاح نجم وخفق». لم ننه الخطبة لأنّ الفقرتين دون غيرهما مقصودتان بالبحث، في حديث نبويّ: «الحمد رأس الشّكر، ما شكر اللَّه عبد إلّا بحمده». والحمد والشّكر متقاربان، والحمد أعمّهما، لأنّك تحمد الإنسان على‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 125

صفاته الذّاتيّة، وعلى عطائه، ولا تشكره على صفاته. وإنّما كان الحمد رأس الشّكر لأنّ فيه إظهار النّعمة، وإلاشادة بها، ولأنّه أعمّ منه، فهو شكر وزيادة. وإن شئت زيادة الإيضاح نظرت كتاب: (البسملة والحمدلة). والحمد يدلّ على كرم الحامد، وأنّه القائم بما عليه من إظهار ما أسدى إليه المحمود، وممّن يقدّره بما يوجب الزّلفى لديه.

و من ثمّ جاء في المثل السّائر من أمثال العرب قولهم: (حمدا إذا استغنيت كان أكرم)، يعني: إذا سألت إنسانا شيئا، فبذله لك، واستغنيت، فاحمده واشكر له، فإنّ حمدك إيّاه أقرب إلى الدّليل على كرمك. والحمد تعظيم المحمود بما يليق به، قال ابن أبي الحديد: ومن مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم الباري عزّ جلاله بلفظ (الحمد للَّه) قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علميّة:

         الحمد للَّه بقدر اللَّه             لا قدر وسع العبد ذي التّناهي‏

         والحمد للَّه الّذي برهانه      أن ليس شأن ليس فيه شانه‏

         والحمد للَّه الّذي من ينكره   فإنّما ينكر من يصوّره.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 126

لاح الشّي‏ء: إذا لمح ولمع، والمصدر اللّوح. قال الشّاعر:

         أراقب لوحا من سهيل كأنّه            إذا ما بدا من آخر اللّيل يطرف

 

و خفق من الخفق والخفقان: أي الاضطراب. يقال: خفق القلم، وخفق النّجم، وخفق القلب، يخفق خفقانا. قال:

         كأنّ قطاة علّقت بجناحها            على كبدي من شدّة الخفقان

 

أو من خفق اللّيل، إذا ذهب أكثر، أو خفق النّجم، إذا انحطّ في المغرب، أو من خفق، إذا نعس نعسة، وعلى ذلك كلّه حمل حديث الدّجّال: «يخرج في قلّة من النّاس، وخفقة من الدّين». والمراد هنا: كلّما ظهر النّجم، وخفي. والكلام مسوق للاستمرار، كما أنّ: «الحمد للَّه كلّما وقب ليل وغسق» كذلك. وليس المقصود انتهاء الحمد عند انتهاء المعلّق عليه، نظير آية: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. المراد بها: الاستمرار لا التّعليق.

و قد كرّر التّعليق في الأدعية والزّيارات وغيرها، ومنها: «السّلام‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 127

عليك يا خليل اللَّه، ما دجى اللّيل وغسق، وأضاء النّهار وأشرق، السّلام عليك ما صمت صامت، ونطق ناطق، وذرّ شارق». ومنه ما ذكره العسكريّ من المثل السّائر: (قولهم: ما ذرّ شارق).

يقال: ما أفعل ذلك ما ذرّ شارق، يعنون: الشّمس. والشّارق: الطّالع.

أشرق إذا طلع أو أضاء وصفا، أو إذا دخل في الشّروق. وكيف كان، فهو من الأمثال السّائرة على الألسن أو صالح، لأن يتمثّل به إن لم يكن منها بالصّميم، ولا يخفى على اللّبيب النّكتة في اختيار المعلّق عليه حسب المقامات، علاوة على الاستمرار.

40-  حمّال خطايا غيره

من تمثيلاته عليه السّلام في كلام له في صفة من يتصدّى للحكم بين الأمّة، وليس لذلك أهل: «إنّ أبغض الخلائق إلى اللَّه رجلان: رجل وكله اللَّه إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السّبيل، مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضالّ عن هدى من كان قبله، مضلّ لمن اقتدى به في حياته، وبعد وفاته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته......».

------------------------------------------------------------------- صفحة 128

«حمّال خطايا»، الأصل فيه قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا، وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لفظ قرآني، كالأثقال والأوزار الّتي تحمل على ظهور أصحابها، كما قال تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى‏ ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ. وقال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ. كما أن قوله عليه السّلام: «رهن بخطيئته»، الأصل فيه كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ. ثمّ الرّجلان منطبقان على كلّ من توفّرت فيه أوصافهما. وقد تصدّينا لبيان وصف الثّاني عند عدّة أمثال، أحدها: «ما قلّ منه خير ممّا كثر». أمّا الرّجل المبحوث، فرجل وكله اللَّه إلى نفسه. والإيكال إليها: الحرمان من رعايته جلّ جلاله، ووضع الحبل على الغارب، وهو الهلاك.

و منه دعاء أبي حمزة الثّماليّ عن السّجّاد عليه السّلام: «يا سيّدي إن وكلتني إلى نفسي هلكت». «فهو جائر عن قصد السّبيل»، إذا لا ينفكّ عن الانحراف عن الصّراط المستقيم، لأنّه خابط لا محالة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 129

«مشغوف بكلام بدعة»: أي خرق الحبّ شغاف قلبه، حتّى وصل إلى فؤاده، والشّغاف: الحجاب، ومنه قوله تعالى: قَدْ شَغَفَها حُبًّا. والبدعة: إدخال ما ليس من الدّين فيه. «و دعاء ضلالة»، بإغواء غيره.

«فهو فتنة لمن افتتن به»: أي بلاء واختبار له. «ضالّ عن هدى من كان قبله»: أي هدى النّبيّ والأئمّة الطّاهرين والأنبياء عليهم السّلام.

«مضلّ لمن اقتدى به في حياته، وبعد وفاته»، من آثاره وكتبه المضلّة، المكتوبة عليه ب وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ. «حمّال خطايا غيره» مصداق لقوله تعالى: «وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ...» الآنف الذّكر. «رهن بخطيئته» وذلك لآية: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ. طبّق الآية والرّواية على نفسك قبل غيرك يا هذا.

41-  حنّ قدح ليس منها

تمثّل عليه السّلام بهذا المثل في جواب معاوية في كتاب له: «... وما للطّلقاء وأبناء الطّلقاء، والتّمييز بين المهاجرين الأوّلين، وترتيب‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 130

درجاتهم، وتعريف طبقاتهم، هيهات لقد حنّ قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها...». (حنّ) فعل ماض من الحنين: وهو نوع صوت، قال الشّارح: و(قدح) أصله من القداح، من عود واحد، يجعل فيها قدح من غير ذلك الخشب، فيصوّت إذا أرادها المفيض، فذلك الصّوت هو حنينه. هذا مثل يضرب لمن يدخل نفسه بين قوم، ليس له أن يدخل بينهم، أو لمن يفتخر بقوم ليس منهم، أو لمن يمتدح بما لا يوجد فيه.

قيل: المثل لعمر بن الخطّاب، أجاب به عقبة بن أبي معيط حينما قال له: (أ أقتل من بين قريش) ولكن يظهر من الزّمخشريّ أنّه ليس لعمر. قال: وقيل في بني الحنان، وهم بطن من بلحارث، أنّ جدّهم ألقى قدحا في قداح قوم يضربون بالمسير، وكان يضرب لهم رجل أعمى، فلمّا وقع قدحه في يده قال: (حنّ قدح ليس منها) فلقّب الحنّان لذلك.

و يؤيّد نفيه عن عمر قول الميدانيّ: أنّ عمر تمثّل به، وظاهر التمثّل أنّه لغيره.

و القدح: السّهم من أقداح الميسر، وعند إجالتها خالف صوت القدح الّذي ليس من مادّة بقيّة القداح صوتها، وبه يعرف أنّه ليس من جملتها.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 131

إن قلت: إنّ كلام الإمام عليه السّلام تصديق للشّيخين، بأنّهما من ذوي الرّتب والدّرجات، ليس لتمييزها إلّا لمن كان في درجتهم، وهو الإمام عليه السّلام.

و الجواب: أنّ الكلام جاء كمقياس كلّيّ لا ينطبق إلّا على موطنه.

42-  حيدي حياد

من خطبة له عليه السّلام: «أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهن الصّم الصّلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء. تقولون في المجالس: كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد...». في الشّرح: حيدي حياد، كلمة يقولها الهارب الفارّ، وهي نظيرة قولهم: (فيحي فياح)،: أي اتّسعي، و(صمّي صمام) للدّاهية: أي زيدي وأصلها من حاد عن الشّي‏ء: أي انحرف. وحياد، مبنيّة على الكسر، وكذلك ما كان من بابها، نحو قولهم: بدار: أي ليأخذ كلّ واحد

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 132

قرنه. وقولهم: خراج في لعبة للصّبيان: أي اخرجوا. وقال غير الشّارح: وفي خطبة عليّ عليه السّلام: «فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد»، حيدي: أي ميلي، وحياد بوزن قطام. قال الجوهريّ: هو مثل قولهم: فيحي فياح: أي اتّسعي. وفياح اسم للغارة.

 ونظيرها في لزوم الهيئة قولهم في المثل السّائر: (حماداك أن تفعل كذا): أي غايتك وفعلك المحمود، وهو مثل قولهم: (قصاراك)، و(غناماك). «تقولون في المجالس: كيت وكيت»: أي سنفعل وسنفعل.

قال الشّارح: وكيت وكيت، كناية عن الحديث، كما كنّي بفلان عن العلم، ولا تستعمل إلّا مكرّرة، وهما مخفّفان من (كيّة). فإذا جاء القتال فررتم وقلتم: الفرار الفرار. ثم أخذ في الشّكوى، فقال: من دعاكم لم تعزّ دعوته، ومن قاساكم لم يسترح قلبه. دأبكم التّعلّل بالأمور الباطلة، والأمانيّ الكاذبة، وسألتموني الإرجاء وتأخّر الحرب، كمن يمطل بدين لازم له. والضّيم لا يدفعه الذّليل، ولا يدرك الحقّ إلّا بالجدّ فيه والاجتهاد وعدم الانكماش. وقال الشّارح: وهذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السّلام في‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 133

غارة الضّحّاك بن قيس. قال: كانت غارة الضّحّاك بن قيس بعد الحكمين، وقبل قتال النّهروان، وذلك أنّ معاوية لمّا بلغه أن عليّا عليه السّلام بعد واقعة الحكمين تحمّل إليه مقبلا، هاله ذلك فخرج من دمشق معسكرا، وبعث إلى كور الشّام فصاح بها، إنّ عليّا قد سار إليكم، وكتب إليهم نسخة واحدة، فقرئت على النّاس.

و دعا معاوية الضّحّاك بن قيس، وقال له: سر حتّى تمرّ بناحية الكوفة، وترتفع عنها ما استطعت، فمن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليها.

و إذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى، ولا تقيمنّ لخيل بلغك أنّها قد سرّحت إليك لتلقاها فتقاتلها، فسرّحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف.

فأقبل الضّحّاك، فنهب الأموال، وقتل من لقي من الأعراب، حتّى مرّ بالثّعلبيّة، فأغار على الحاجّ، فأخذ أمتعهم.

ثمّ أقبل، فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الهذليّ، وهو أخو عبد اللَّه ابن مسعود، فقتله في طريق الحاجّ عند القطقطانة، وقتل معه ناسا من أصحابه.

و روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ، قال: استصرخ أمير المؤمنين عليه السّلام النّاس عقيب غارة الضّحّاك بن قيس الفهريّ على أطراف أعماله، فتقاعدوا عنه فخطبهم، فقال: «ما عزّت دعوة من دعاكم، ولا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 134

استراح قلب من قاساكم...». يا ساعد اللَّه قلبك يا أمير المؤمنين من أناس لم يعرفوك، ولم يقدروك، ومن معشر يعيشون جهّالا، ويموتون ضلّالا في دورك، وفي كلّ الأدوار.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 135

حرف الخاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 136

43-  خبّاط جهالات

من كلامه عليه السّلام، في صفة من ليس أهلا للقضاء بين النّاس: «جاهل خبّاط جهالات، عاش ركّاب عشوات». وفي رواية: «خبّاط عشوات، ركّاب جهالات». وزّعنا أبعاض الكلام على كلّ مثل مذكور فيه.

قال العسكريّ: (أخبط من عشواء): وهي النّاقة العشواء الّتي لا تبصر باللّيل، فتخبط كلّ شي‏ء تمرّ به. والخبط: أن تطأ برجلها فتكسره. (أخبط من حاطب ليل) لأنّه يجمع ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه. وقال الزّمخشريّ: (أخبط من حاطب ليل)، الخبط: الإصابة مرّة والإخطاء أخرى. وحاطب اللّيل كذلك لا يعرف ما يحتطبه... فهو بين الخطأ والصّواب. و(أخبط من عشواء): هي النّاقة الّتي لا تبصر باللّيل، تخبط فتصيب هذا، وتخطى‏ء هذا. قال زهير:

------------------------------------------------------------------- صفحة 137

(من الطّويل)

         رأيت المنايا خبط عشواء من تصب            تمته ومن تخطى‏ء يعمّر فيهرم

 

و قال الميدانيّ بعد المثل: ويقال في مثل آخر: (إنّ أخا الخلاط أعشى باللّيل). قالوا: الخلاط: القتال، وصاحب القتال باللّيل لا يدري من يضرب. قال ابن قتيبة: (خبّاط عشوات): أي خبّاط ظلمات، وخابط العشوة نحو: واطئ العشوة، وهو الّذي يمشي في اللّيل بلا مصباح فيتحيّر ويضلّ، وربّما تردّى في بئر، أو سقط على سبع. ويقال في مثل: (سقط العشاء على سرحان)، وذلك أنّ خارجا خرج يطلب العشاء، فسقط على ذئب فأكله. وبعض أصحاب اللّغة يزعم أن السّرحان في هذا المثل الأسد... وسواء أ كان (خبّاط جهالات) أو (خبّاط عشوات) ينطبق عليه المثل السّائر الّذي قدّمناه لأنّ ظلمة الجهل لا تقصر عن ظلمة اللّيل، ومن لا يبصر إذا مشى باللّيل، بل الجهل أشدّ منهما ظلمة، إذ القاضي إذا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 138

قضى بين النّاس، وهو جاهل، لا يدري أبحقّ قضى أم بباطل، هلك وهلكت نفوس وأعراض وأموال، ولأجله قال عليه السّلام: «تصرخ من جور قضائه الدّماء، وتعجّ منه المواريث» في نفس الخطبة.

فأيّهما أشد فظاعة، أخابط باللّيل أم خابط في القضاء الّذي من جرّاء ذلك تهراق الدّماء البريئة، وتهتك النّواميس والحرمات، وتؤخذ الأموال غصبا.

و من هنا شدّد في أمر القضاء، واشترط في القاضي أن يكون تقيّا ورعا عادلا فقيها بأحكام الإسلام، لا جاهلا لا يبالي بأمور الدّين ودنيا المسلمين، يقضي ما يشتهي، ويحكم ما يريد، لا كثرّ اللَّه أمثاله.

44-  خذ الحكمة أنّى كانت  من كلماته عليه السّلام الحكميّة المثليّة قوله: «خذ الحكمة أنّى كانت، فإنّ الحكمة تكون في صدر المنافق، فتلجلج في صدره حتّى تخرج، فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن». بحثنا حول المثل: «الحكمة ضالّة المؤمن» عن أشياء تمسّ المثل الجاري، فراجع.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 139

و قد روى المثل المبحوث عنه جمع من الكتّاب، منهم القضاعيّ، وقال: يقال: لجلج اللّقمة في فيه، إذا أدارها ولم يسغها.

و أراد عليه السّلام: أنّ الكلمة قد يعلمها المنافق، فلا تزال تتحرّك في صدره ولا تسكن حتّى يسمعها المؤمن أو العالم، فيثقفها فتسكن في صدره إلى أخواتها من كلم الحكمة. قال المعتزليّ: خطب الحجّاج، فقال: إنّ اللَّه أمرنا بطلب الآخرة، وكفانا مئونة الدّنيا، فليتنا كفينا مئونة الآخرة، وأمرنا بطلب الدّنيا فسمعها الحسن عليه السّلام، فقال: «هذه ضالّة المؤمن، خرجت من قلب المنافق». وفي وصيّة موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام بن الحكم: «و اعلموا أنّ الكلمة من الحكمة ضالّة المؤمن، فعليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه غيبة عالمكم بين أظهركم». وفسّرت: بأنّ المؤمن يأخذ الحكمة من كلّ من وجدها عنده، وإن كان كافرا أو فاسقا، كما أنّ صاحب الضّالّة يأخذها حيث وجدها.

و قيل: المراد: أنّ من كان عنده حكمة لا يفهمها ولا يستحقّها، وجب أن يطلب من يأخذها بحقّها، كما يجب تعريف الضّالّة، وإذا وجد من يستحقّها وجب أن لا يبخل في البذل كالضّالّة.

«يا هشام إنّ الزّرع ينبت في السّهل، ولا ينبت في الصّفا. فكذلك‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 140

الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار لأنّ اللَّه تعالى جعل التّواضع آلة العقل، وجعل التّكبّر من آلة الجهل. ألم تعلم أنّ من شمخ إلى السّقف برأسه شجّه، ومن خفض رأسه استظلّ تحته وأكنّه فكذلك من لم يتواضع للَّه خفضه اللَّه ومن تواضع للَّه رفعه اللَّه». وقال لقمان في وصاياه لابنه: «يا بنيّ تعلّم الحكمة تشرّف بها فإنّ الحكمة تدلّ على الدّين، وتشرّف العبد على الحرّ، وترفع المسكين على الغنيّ، وتقدّم الصّبيّ على الكبير، وتجلس المسكين مجالس الملوك، تزيد الشّريف شرفا، والسّيّد سؤددا، والغنيّ مجدا. وكيف يظنّ ابن آدم أن يتهيّأله أمر دينه ومعيشته بغير حكمة، ولن يهيّى‏ء اللَّه أمر الدّنيا والآخرة إلّا بالحكمة».

و من حكم عيسى عليه السّلام: «بحقّ أقول لكم: لا تكونوا كالمنخل يجرج الدّقيق الطّيّب، ويمسك النّخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم، ويتبقّى الغلّ في صدوركم» وقد جمعت الحكمة بأطرافها بعد القرآن وحديث النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم كلمات الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، ولا سيّما باب مدينة علم الرّسول وحكمته أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فدتهما أرواح العالمين، ولن تدخل المدينة إلّا من بابها وإنّ حديث المدينة النّبويّ قد رواه الفريقان، حتّى أنّ مؤلّف كتاب (الغدير) أنهاه إلى مائة وثلاثة

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 141

و أربعين طريقا عن الجمهور. والشّيخ الطّريحيّ نقل: أنّ سبب الحديث أنّ أعرابيّا أتى النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  فقال له: طمش طاح، فغادر شبلا، لمن النّشب فقال-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : «للشّبل مميطا». فدخل عليّ عليه السّلام، فذكر له النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  لفظ الأعرابيّ، فأجاب بما أجاب به النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  فقال: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها». الحديث. والظّاهر على تقدير صحّة النّقل: أنّ سؤال الأعرابي عن إنسان هلك، وخلّف ابنا ومالا، لمن المال فقال صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم: للابن لا ابن الابن أو غيره مدفوعا عن غير الابن وهو معنى الإماطة. والطّمش: الإنسان يقال: (وحش ولا طمش). و(طاح) من الطّوح أو الطّيح: السّقوط والهلاك كنّى عن الموت. والشّبل: ولد الأسد: أي ابن الميّت. والنّشب: العلق المكنّى به عن المال المتعلّق بالإنسان.

و المغادرة: التّرك. وحاصل السّؤال أنّ إنسانا أو رجلا مسمّى ب (طمش) مات وترك ابنا ومالا، ولأجل ابتعاده عنه بالموت عبّر بالمغادرة. وكان الجواب: أنّ المال للابن حال كونه حاجبا عن غيره، ويدفعه عن الإرث ويزيله وهو المراد بالإماطة في «مميطا» أي مزيلا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 142

إطلاقا لسواه، فيعطى المال كلّه للشّبل إن كان وحده كما هو مفروض السّؤال-  وإنّما ذكرنا ذلك كلّه لأدنى علقة بالمثل الجاري والتفصيل في محلّه.

45-  الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها

في خطبة له عليه السّلام: «ألا وإنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحّمت بهم في النّار». الشّمس واحدتها شموس، معرّب (چموش).

قال ابن الأثير فيه- : أي في الحديث- : «ما لي أراكم رافعي أيديكم في الصّلاة، كأنّها أذناب خيل شمس». هي جمع شموس: وهو النّفور من الدّوابّ: الّذي لا يستقرّ لشغبه وحدّته.

------------------------------------------------------------------- صفحة 143

تكلّمنا عند المثل: «كأنّها أذناب خيل شمس» من الأمثال النّبويّة على الحديث النّبويّ غير ما ذكره ابن الأثير، كما وأشرنا هنا لك إلى المثل العلويّ في المقام، وأمور ينبغي النّظر إليها، فراجع. شبّه عليه السّلام راكب الذّنوب الّتي تجرّ صاحبها إلى نار جهنّم بمن حمل على خيل نفور شاغبة، تمنع ظهرها عن الرّكوب، وقد خلعت لجمها، فكما تورد هذه راكبها الموت والهلاك، كذلك من يركب المعاصي تفضي براكبها إلى جهنّم والهلاك الأبديّ، وتجرّه إلى تكذيب آيات اللَّه عزّ وجلّ، كما دلّ على ذلك قوله تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ. إذ المذنب حين يذنب يسلب منه الإيمان، كما جاء به الحديث «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن». ومستخفّ باللَّه جلّ جلاله وإن كان عن جهل، إذ لو كان معظّما له تعالى لما تمرّد عليه، ولما ركب الخطايا وإنّما أودت به شقوته وعدم خشيته من سوء المغبّة وإِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. دلّ آخر الآية على أنّ اللَّه عزّ وجلّ غنيّ عن طاعة العلماء وخشيتهم، وأنّهم قاصرون مقصّرون مهما بلغوا من العلم والخشية، فضلا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 144

عن غيرهم، ولكنّه غفور يغفر الذّنب، وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. «و ما عصيتك إذ عصيتك، وأنا بك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا لنظرك مستخفّ، ولكن سوّلت لي نفسيّ، وأعانتني شقوتي، وغرّني سترك المرخى عليّ». وهل يعلم العاصي من يعصي ومن يخالف من لو لا رحمته وفضله علينا في أقلّ من طرفة عين لكنّا من الهالكين المعذّبين بالعذاب الأبديّ.

قال تعالى: وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. لا نجاة منه إلّا بفضله ورحمته الواسعة. فيا إنسان إيّاك والذّنب.

46-  خير دار، وشرّ جيران

من خطبة له عليه السّلام، منها قوله: «أطاعوا الشّيطان، فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه. في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون، جاهلون مفتونون، في‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 145

خير دار وشرّ جيران، نومهم سهود، وكحلهم دموع، بأرض عالمها ملجم، وجاهلها مكرم». نقل المعتزليّ عن الرّاونديّ: خير دار: الكوفة، وقيل: الشّام لأنّها الأرض المقدّسة، وأهلها شرّ جيران، يعني: أصحاب معاوية. وعلى التّفسير الأوّل، يعني: أصحابه عليه السّلام-  قال-  ونحن نقول: إنّه عليه السّلام لم يخرج من صفة أهل الجاهليّة، وقوله: «في خير دار» يعني: مكّة. و«شرّ جيران» يعني: قريشا. وهذا لفظ النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة، فقال: «كنت في خير دار» و«شرّ جيران». ثمّ حكى عليه السّلام ما جرى له مع عقبة بن أبي معيط. والحديث مشهور.

و قوله: «نومهم سهود وكحلهم دموع» مثل أن يقول: جودهم بخل، وأمنهم خوف: أي لو استماحهم محمّد-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  النّوم لجادوا عليه بالسّهود عوضا عنه، ولو استجداهم الكحل لكان كحلهم الّذي يصلونه به الدّموع.

ثمّ قال: «بأرض عالمها ملجم»: أي من عرف صدق محمّد صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم- ، وامن به في تقيّة وخوف. «و جاهلها مكرم»: أي من جحد نبوّته وكذّبه في عزّ ومنعة.

------------------------------------------------------------------- صفحة 146

اختلف المفسّرون لقوله عليه السّلام: «خير دار، وشرّ جيران»، قيل في الأوّل: الكوفة، أو الشّام، أو مكّة، أو الدّنيا والثّاني: أهلها على بيان، تعرّض له ابن ميثم البحرانيّ بتفصيل، فراجع وكيف كان، فهو صالح للتّمثّل به، إن لم يكن مثلا سائرا بالصّميم لكلّ دار تلائم ساكنها، ولم يسلم من شرّ جارها.

و ما ذكر من مكّة، أو الكوفة، أو الشّام، أو غيرها إنّما هي مصاديق المثل، من دون قصر عليها، شأن المثل أينما حلّ ونزل.

خصوصا الدّنيا، فقد عبّر عنها وعن الآخرة بالدّار، فيمكن وصف الأولى بالشّرّ والخير باعتبارين: من وقوع العصيان والكفر والتّمرّد على اللَّه بالشّرّ وكونها متجر الأولياء ومطيّة الأنبياء والمؤمنين بالخير. وهكذا أهلها المؤمنون خير جيران، وغيرهم بشرّ جيران. طبّق ولا حرج مع رعاية الحقّ من الجانبين، ولقد كان للمثل الجاري التّطبيق لدور السّكنى وجيرتها ما لا يخفى.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 147

حرف الدّال

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 148

47-  الدّامغ صولات الأضاليل

من خطبة له عليه السّلام، علّم فيها النّاس الصّلاة على النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم- ، أوّلها: «اللّهم داحي المدحوّات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطراتها، شقيّها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك على محمّد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحقّ بالحقّ، والدّافع جيشات الأباطيل، والدّامغ صولات الأضاليل، كما حمّل، فاصطلع قائما بأمرك......». قوله: «داحي المدحوّات» يعني: باسط الأرضين، وكان عزّ وجلّ خلقها ربوة، ثمّ بسطها. قال جلّ ذكره: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. ويروى: (بارئ المسموكات): أي خالق السّماوات.

و داعمها: ممسكها.

قال الفرزدق:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 149

 

         إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا            بيتا دعائمه أعزّ وأطول‏

 

و في لفظ: «دامغ جيشات الأباطيل» يريد عليه السّلام: المهلك لما نجم وارتفع من الأباطيل، وأصل الدّمغ من الدّماغ، كأنّه الّذي يضرب وسط الرّأس، فيدمغ: أي يصيب الدّماغ. ومنه قول اللَّه تعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ»،: أي يبطله. والدّماغ مقتل، فإذا أصيب هلك صاحبه. و(جيشات) مأخوذ من جاش الشّي‏ء، إذا ارتفع. وجاش الماء إذا طما، وجاشت النّفس. والآية تناسب الدّمغ للباطل لا لصولة الإضلال، ولذلك رواه جمع من الكتّاب: أي «الدّامغ جيشات الأباطيل» لا الدّامغ.

ثمّ في الخطبة استعارات وتمثيلات، منها تمثيل الأضاليل أو الأباطيل بإنسان ذي دماغ، يضربه الضّارب ضربا على الدّماغ فيهلك.

و كلّ هذه الأوصاف له صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم حيث أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم قد ختمت به نبوّة الأنبياء، وفتحت به أبواب المعارف والعلوم الّتي كانت مغلقة لم تهتد إليها القلوب، وأنّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم أظهر الحقّ في كلّ شي‏ء، وأوضح طرق الوصول إليه بالحقّ، ودفع الأباطيل عنها: أي عن الطّرق لأنّ الطّريق إلى شي‏ء إذا

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 150

كان باطلا كان المقصد مثله بدمغ رءوس الضّلالة، وهم كفّار قريش، وغير قريش، وكلّ ضالّ من فرق النّاس.

و قد حاربهم النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، ليغرس التّوحيد في القلوب، فقام بالرّسالة الملقاة عليه، حتّى أدّاها كما هي، وبلّغها إلى العالم كلّه بدون فتور وهوداة، فترك في اللَّه تعالى أدانيه وأقاربه، وقرّب الأقاصي والأباعد فيه، عند قبولهم الحقّ والتّوحيد والدّين الخالص.

و هكذا أهل بيته الأئمّة الطّاهرين، لا سيّما أمير المؤمنين عليه وعليهم السّلام، وكلّ ذلك وظيفة كلّ مؤمن باللَّه تعالى وبشريعته الغرّاء إلى يوم القيامة، للأسوة الحسنة المحثوثة عليها في القرآن.

48-  دع عنك من مالت به الرّميّة

من كلام له عليه السّلام في جواب لكتاب معاوية الّذي يذكر فيه بعض النّاس. قال عليه السّلام: «... فدع عنك من مالت به الرّميّة، فإنّا صنائع ربّنا، والنّاس بعد صنائع لنا...».

------------------------------------------------------------------- صفحة 151

لقوله عليه السّلام: «فإنّا صنائع ربّنا» إلى آخره تفسير مرهون بوقته.

الرّميّة بمعنى: الرّمي، والباء للإلصاق: أي دع من رمته الدّنيا بسهامها، وصار غرضا لها لإقباله عليها. ويشهد لذلك ما جاء في بعض خطبه عليه السّلام يصف فيه الدّنيا. قال عليه السّلام: «ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها». ويصحّ ذلك أيضا رميه بسهام النّفس، وإبليس. إذا استعارة رمي السّهام فيها بجامع التّأثير السّريع على حدّ سواء. وقد جاء: «النّظرة سهم مسموم من سهام الشّيطان». وقيل: الرّميّة: الطّريدة المرميّة. يقال للصيّد: يرمي هذه الرّميّة، وهي (فعلية) بمعنى مفعولة، والأصل في مثلها أن لا تلحقها الهاء نحو: (كفّ خضيب، وعين كحيل) إلّا أنّهم أجروها مجرى الأسماء لا النّعوت كالقصيدة والقطيعة.

و المعنى: دع ذكر من مال إلى الدّنيا، ومالت به: أي أمالته إليها. عن الشيخ محمّد عبده: يضرب لمن اعوجّ غرضه، فمال عن الاستقامة لطلبه. قيل: المراد من الموصول في المثل: هو عثمان لا الشّيخان لأنّه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 152

عليه السّلام لم يذكرهما بقدح، والمثل يضرب لذلك، فلا بدّ من صرفه إلى غيرهما. يجاب عنه أنّ الكلام مقياس كلّي له اطّراده في جميع النّاس، إذا تحقّقت فيه الرّميّة، مهما كان نوعه. ومعاوية المخاطب به من أجلى مصاديقه، ومن تدبّر صدر الكلام عرف الحقّ.

49-  الدّهر يخلق الأبدان ويجدّد الآمال

قال عليه السّلام: «الدّهر يخلق الأبدان، ويجدّد الآمال، ويقرّب المنيّة، ويباعد الأمنيّة. من ظفر به نصب، ومن فاته تعب». للدّهر أمثال سائرة عند العرب: (الدّهر أبلغ في النّكير) يعني بالنّكير: الإنكار والتغيير، يريد أنّ الدّهر يغيّر ما يأتي عليه. (الدّهر أطرق مستتب): أي مطرق مغض منقاد. قال بشّار بن برد:

         عام لا يغررك يوم من غد           عام إنّ الدّهر يغضي ويهب‏

         صاد ذا الضّغن إلى غرّته           وإذا درّت لبون فاحتلب‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 153

(الدّهر أرود مستبدّ): أي ليّن المعاملة، غالب على أمره. وهذا كقول ابن مقبل:

         إن ينقض الدّهر منّي مرّة لبلى            فالدّهر أرود بالأقوام ذو غير

 

(أرود): أي يعمل عمله في سكون لا يشعر به، ويقال: المستبدّ: الماضي في أمره لا يرجع عنه.

(الدّهر أنكب لا يلبّ)، ويروي: (أنكث لا يلث). أنكب من النّكبة: أي كثير النّكبات. والصّحيح أن يقال: أنكب من النّكب، وهو الميل، يعني: أنه عادل عن الاستقامة، لا يقيم على جهة واحدة.

و أنكث: أي كثير النّكث والنّقض لما أبرم. (دواء الدّهر الصّبر عليه). قال بعض الحكماء: الدّنيا تسرّ لتغرّ، وتفيد لتكيد، كم راقد في ظلّها قد أيقظته، وواثق بها قد خذلته، بهذا الخلق عرفت، وعلى هذا الشّرط صوحبت. قال شاعر فأحسن:

         كأنّك لم تسمع بأخبار من مضى           ولم تر بالباقين ما صنع الدّهر

         فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم            عفاها فحال الرّيح بعدك والقطر

         وهل أبصرت عيناك حيّا بمنزل            على الدّهر إلّا بالعراء له قبر

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 154

         فلا تحسبنّ الوفر مالا جمعته               ولكنّ ما قدّمت من صالح وفر

         مضى جامعوا الأموال لم يتزوّدوا        سوى الفقر يا بؤسى لمن زاده الفقر

         فحتّام لا تصحو وقد قرب المدى        وحتّام لا ينجاب عن قلبك السّكر

         بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا    وتذكر قولي حين لا ينفع الذّكر

         وما بين ميلاد الفتى ووفاته            إذا انتصح الأقوام أنفسهم عمر

         لأنّ الّذي يأتيه شبه الّذي مضى        وما هو إلّا وقتك الضّيّق النّزر

         فصبرا على الأيّام حتّى تجوزها        فعمّا قليل بعدها يحمد الصّبر

 

و المراد بالدّهر هنا: ما في قوله عليه السّلام: «الدّهر يومان: يوم لك، ويوم عليك»، لا ما في قوله: «لا تسبّوا الدّهر فإنّ الدّهر هو اللَّه».

50-  الدّهر يومان: يوم لك ويوم عليك

من كلام الإمام عليه السّلام الجاري مجرى الأمثال: «الدّهر يومان: يوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر».

------------------------------------------------------------------- صفحة 155

و يشبهه المثل: (الأيّام عوج رواجع) العوج جمع أعوج، يقال: الدّهر تارة يعوّج عليك، وتارة يرجع إليك. أثبته الميدانيّ. قال الشّارح: قديما قيل هذا المعنى: الدّهر يومان: يوم بلاء، ويوم رخاء. والدّهر ضربان: حبرة وعبرة. والدّهر وقتان: وقت سرور، ووقت ثبور. وقال أبو سفيان يوم احد، يوم بيوم بدر، والدّنيا دول.

و يحمل ذمّ البطر. ههنا على محملين: أحدهما: البطر بمعنى: الأشر وشدّة المرح، بطر الرّجل بالكسر يبطر، وقد أبطره المال، وقالوا: بطر فلان معيشته، كما قالوا: رشد فلان أمره.

و الثّاني: البطر بمعنى: الحيرة والدّهش: أي إذا كان الوقت لك فلا تقطعنّ زمانك بالحيرة والدّهش عن شكر اللَّه، ومكافأة النّعمة بالطّاعة والعبادة، والمحمل الأوّل أوضح. الدّهر هو ما سوى اللَّه جلّ جلاله برمّتة، الممتدّ من البداية إلى النّهاية، وربّما يتخيّل أنّه المنتزع من الحدّين وواقع المنتزع وما تقدّم هو المجزوم، ولامتداده ظنّ قدمه حتّى زعم الدّهريّون أنّه منشأ الحياة والهلاك، كما حكى عنهم اللَّه جلّ جلاله: (وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ). فإن أرادوا به اللَّه تعالى، وجهلوا أنّه هو، أو: أجروا عليه تعالى اسم الدّهر فهذا أهون من الأوّل. والبحث في محلّه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 156

يريد عليه السّلام: أنّ للدّنيا إقبالا وإدبارا، فانّ أقبلت عليك فلا تغترّ بها فتنسى كلّ شي‏ء وإن أدبرت فاصبر. وقد جاء في الحديث القدسيّ: «يا موسى إن أقبلت الدّنيا فعقوبة عجّلت، وإن أدبرت فقل: مرحبا بشعار الصّالحين». ثمّ المثل السّائر بلفظ: (يوم لنا، ويوم علينا) يضرب في انقلاب الدّول والتّسلّي عنها، قاله الميدانيّ.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 157

حرف الرّاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 158

51-  رأي الشّيخ أحبّ إليّ من جلد الغلام

قال عليه السّلام: «رأي الشّيخ أحبّ إليّ من جلد الغلام»، ويروى: «من مشهد الغلام». قال المعتزليّ: إنّما قال كذلك لأنّ الشّيخ كثير التّجربة، فيبلغ من العدوّ برأيه ما لا يبلغ بشجاعة الغلام الحدث غير المجرّب لأنّه قد يغرّر بنفسه، ويهلك أصحابه ولا ريب أنّ الرّأي مقدّم على الشّجاعة، ولذلك قال أبو الطّيّب:

         الرّأي قبل شجاعة الشّجعان            هو أوّل وهي المحلّ الثّاني‏

         فإذا هما اجتمعا لنفس مرّة             بلغت من العلياء كلّ مكان‏

         ولربّما طعن الفتى أقرانه            بالرّأي قبل تطاعن الأقران‏

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 159

         لو لا العقول لكان أدنى ضيغم           أدنى إلى شرف من الإنسان‏

         ولما تفاضلت الرّجال ودبّرت            أيدي الكماة عوالي المرّان‏

 

و قال لقيط بن يعمر...:

         وقلّدوا أمركم للَّه درّكم             رحب الذّراع بأمر الحرب مضطلعا

         لا مقرفا إن رخاء العيش ساعده     ولا إذا عضّ مكروه به خشعا

         ما زال يحلب هذا الدّهر أشطره      يكون متّبعا طورا ومتّبعا

         حتّى استمرّ على شزر مريرته        مستحكم الرّأي لا قحما ولا ضرعا

 

في كتاب مصادر النّهج عدّة مصادر للمثل المبحوث عنه. وجاء في كتب الأمثال منسوبا إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وأغلبها برواية: «من مشهد الغلام». منها: مجمع الميدانيّ، قال: قاله عليّ رضي اللَّه تعالى عنه-  عليه السّلام-  في بعض حروبه. وقال الزّمخشريّ بعد الرّواية: أي لأن يعينك الشّيخ برأيه وهو غائب، خير من أن يعينك الغلام بنفسه حاضرا معك. وكذا

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 160

الثّعالبيّ في التّمثيل والمحاضرة. وعلى الرّواية الأولى.

الجلد: هو الشّدّة، والضّرب بالسّيف. فالمراد: أنّ الرّأي الرّاسخ من المجرّب خير من البسالة الفاقدة للخبرة.

و الرّواية الثّانية: «مشهد الغلام»، إمّا من الشّهود: أي الحضور، ومنه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.: أي من كان حاضرا في البلد، ويقابله الغائب. فالمراد: أنّ رأي الشّيخ وإن كان غائبا خير من حضور الغلام، فضلا عن غيبته. أو من الشّهادة: أي ما يشاهد الرّائي من منظر الغلام، فالمعنى: أنّ رأي الشّيخ الطّاعن في السّنّ خير ممّا يجلب النّظر من جمال منظر الغلام، وطراوته، لاستبدال جمال صورة الشّيخ بجميل فكرته، على عكس الغلام الّذي ليس وراء روائه تجربة كافية في الحروب، ولا غيرها.

إما الطّاعن في السّنّ على مرور الأيّام، فقد حصل على التّجربة، والعقل بقسميه: المطبوع والمسموع ومن هنا جاء في المثل النّبويّ: «الشّباب شعبة من الجنون». وقيل: الشّباب كسكر الشّراب.

و على ذلك قول الشّاعر:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 161

 

         إنّ شرخ الشّباب والشّعر الأس            ود ما لم يعاص كان جنونا

 

و من أمثالهم: (زاحم بعود، أودع)، والعود: المسنّ من الإبل والشّاء. قال الكرمانيّ: أي لا تستعن إلّا بأهل السّنّ، والتّجربة في الأمور. قال الشّاعر:

         حنى الشّيب ظهري فاستمرّت عزيمتي            ولو لا انحناء القوس لم ينفذ السّهم‏

 

و قال ابن المعتز:

         وما ينتقص من شباب الرّجال            يزد في نهاها، وألبابها.

 

و هنا تفسير ثالث للمشهد: أي كلّ عمل مشهود منه يفقد الخبرة الكافية بما يلحقه من قدح، أو مدح يتقدّمه الواجد لها، وبما أنّ الغلام من أجلى مظاهر الفقدان، والشّيخ هو الواجد لها غالبا، جاء ذكرهما في الحديث.

لا يقال: إنّ بعض الأغلمة أعلى خبرة من بعض الشّيوخ. فإنّا نقول: إنّ الموضوع غالبيّ لا كلّي مطّرد فربّ شاب خير من شيخ. ومن ثمّ يراد منهما الجنس: أي بطبعهما، وإلّا فللمثل صور حاصلة بمقايسة بين الشّيخ والغلام، تثنية وجمعا إلى عدد غير مقصود به الكلام والوجه فيه ما

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 162

تقدّم من إرادة الجنس لا العدد. فتدبّر.

إنّ الشّيخوخة والصّبا من الأدوار المارّة على الإنسان، وقد تناول القرآن الكريم أكثرها، من كونه ترابا: وهو أوّلها، ثمّ نباتا، ثمّ نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ جنينا، ثمّ رضيعا، ثمّ طفلا، فغلاما، فمراهقا، ويافعا، وباقلا، وفتى، وشارخا، وكهلا، وشيخا، ويفنا، وميّتا، وجنازة، وغيرها من أسماء ذكر بعضها الثّعالبيّ وغيره.

و لو لا ضيق المجال لجئنا عليها، وأثبتناها من الكتاب والسّنّة والكلمات، ولاستدعى ذلك إلى وضع كتاب خاصّ جامع لجميعها بالأسر.

 

و قد عرفت مضرب المثل ممّا سلف من نقل الميدانيّ وغيره وهل المراد به شخص معهود الحقّ هو العموم.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 163

52-  ربّ بعيد أقرب من قريب

في كلام له عليه السّلام: «و ربّ بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد». وفي لفظ: «ربّ بعيد هو أقرب من قريب». وهذا المثل موافق للمثل السّائر: (ربّ بعيد لا يفقد برّه، وقريب لا يؤمن شرّه). و(ربّ أخ لك لم تلده أمّك)، يعني به: الصّديق، فإنّه ربّما أربى في الشّفقة على الأخ من الأب والأمّ. و(ربّ ابن عمّ ليس بابن عمّ).

قال الميدانيّ بعد المثل: هذا يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون شكاية من الأقارب: أي ربّ ابن عمّ لا ينصرك ولا ينفعك، فيكون كأنّه ليس بابن عمّ.

و الثّاني: أن يريد: ربّ إنسان من الأجانب يهتمّ بشأنك، ويستحي‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 164

من خذلانك، فهو ابن عمّ معنى، وإن لم يكن ابن عمّ نسبا، ومثله في احتمال المعنيين قولهم: (ربّ أخ لك لم تلده أمّك). أقول: احتمال المعنيين آت في قوله عليه السّلام: «ربّ بعيد أقرب من قريب»، بأن يضرب مثلا للشّكاية عن الأقارب، أخ أو ابن عمّ أو غيرهما إذا لم ينفعوك، وأن يضرب مثلا عن الأجانب المهتمّين بشأن الإنسان، فإنّهم أقرباء في المعنى، وإن لم يكونوا أقرباء نسبا. وهو معنى قوله عليه السّلام الآخر: «الموّدة قرابة مستفادة». و«الموّدة أشبك الأنساب». قال ابن أبي الحديد: وهذا معنى مطروق. قال الشّاعر:

         لعمرك ما يضرّك البعد يوما            إذا دنت القلوب من القلوب

 

جاءت الرّوايات والكلمات في القرب والبعد المعنويّين، والأمر بالأوّل، وإن لم يكن قريبا نسبيّا، والتّجنّب عن الثّاني، وإن كان من الأقربين، وأن لا يوادّ من حادّ اللَّه ورسوله وان كان أبا أو أخا، كما في آية: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ».

------------------------------------------------------------------- صفحة 165

و من الرّوايات: العلويّ: «و الإخوان صنفان: إخوان الثّقة، وإخوان المكاشرة. فأمّا إخوان الثّقة فهم الكفّ والجناح والأهل والمال». ومن الكلمات: الودّ أعطف من الرّحم. عليك بالإخوان، فإنّهم في الرّخاء زينة، وفي البلاء عدّة. النّفس بالصّديق آنس منها بالعشيق، وغزل المودّة أرقّ من غزل الصّبابة. لقاء الإخوان مسلاة للهموم.

و منها الإشارة إلى شروط المودّة:

         إن أخاك الصّدق من لم يخدعك           وإن رآك طالبا سعى معك‏

         ومن إذا ريب الزّمان صدعك              شتّت فيك شمله ليجمعك

 

المودّة الّتي لا أقرب منها هي المودّة في اللَّه عزّ وجلّ، وهي المعبّر عنها في الحديث بالحبّ في اللَّه، وروح اللَّه كما في قول المعصوم عليه السّلام: «إنّ من روح اللَّه ثلاثة: التّهجّد باللّيل، وإفطار الصّائم، ولقاء الإخوان».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 166

53-  ربّ قول أنفذ من صول

قوله عليه السّلام: «ربّ قول أنفذ من صول». من الكلمات القصار الحكميّة الّتي صارت من الأمثال السّائرة بعد صدورها، وهذا المثل ذكره جمع، منهم المفضّل، والميدانيّ بعد إيراده بلفظ: (ربّ قول أشدّ من صول)، وكذا الزّمخشريّ قال: يضرب عند الكلام، يؤثّر فيمن يواجه به.

قال أبو عبيد: وقد يضرب هذا المثل فيما يتّقى من العار. وقال أبو الهيثم: (أشدّ) في موضوع خفض لأنّه تابع للقول، وما جاء بعد (ربّ) فالنّعت تابع له. قال الشّارح: قد قيل هذا المعنى كثيرا، فمنه قولهم:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 167

 

         والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر

 

و من ذلك: القول لا تملك إذا نما، كالسّهم لا تملكه إذا رمى وقال الشّاعر:

         وقافية مثل حدّ السّنا            ن تبقى ويذهب من قالها

         تخيّرتها ثمّ أرسلتها             ولم يطق النّاس إرسالها

 

و قال محمود الورّاق:

         أتاني منك ما ليس           على مكروهه صبر

         فأغضيت على عمد           وكم يغضي الفتى الحرّ

         وأدّبتك بالهجر              فما أدّبك الهجر

         ولا ردّك عمّا كا              ن منك الصّفح والبرّ

         فلّما اضطرّني المكرو        ه واشتدّ بي الأمر

         تناولتك من شعرى          بما ليس له قدر

         فحرّكت جناح الضّرّ         لمّا مسّك الضّرّ.

 

و قد جاء في العلويّ: «ربّ كلام كالحسام».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 168

54-  ربّ ملوم لا ذنب له

قال الإمام أمير المؤمنين وإمام الهدى، أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

في جواب كتاب معاوية: «و ما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا فإن كان الذّنب إليه إرشادي وهدايتي له فربّ ملوم لا ذنب له،

         وقد يستفيد الظّنّة المتنّصح‏

 

و ما أردت إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه عليه توكّلت وإليه أنيب». هذا جزء من كلام له عليه السّلام بهذا الصّدد، حيث اتّهم معاوية الإمام عليه السّلام بالاشتراك في قتل عثمان، فأجاب عنه: بأنّي كنت ناقما عليه لأحداث ارتكبها، وليست هذه النّقمة شركة في قتل عثمان، بل كانت هداية له وإرشادا، فإن كنت يا معاوية تلومني على ذلك، «فرّب ملوم لا ذنب له»، وها أنا ذا ملوم بلا ذنب ركبته.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 169

قال الزّمخشريّ: (ربّ ملوم لا ذنب له) قال الأحنف لرجل ذمّ عنده الكمأة مع السّمن. قال: (المتقارب)

         فلا تلم المرء في شأنه            فرّب ملوم ولم يذنب

 

و (ربّ لائم مليم)، وهو معاوية وأضرابه من قالة الباطل. قيل: قال: (ربّ ملوم لا ذنب له)، هو أكثم بن صيفيّ، يقول: قد ظهر للنّاس منه أمر أنكروه عليه، وهم لا يعرفون حجّته وعذره، فهو يلام عليه، وذكروا: أنّ رجلا في مجلس الأحنف بن قيس قال: ليس شي‏ء أبغض إليّ من التّمر والزّبد. فقال الأحنف: (ربّ ملوم لا ذنب له). تقدّم انتماء المثل إلى الأحنف من صاحب المستقصى.

ثمّ الملامة أشدّ مراتب العتاب وهي تخطئ وتصيب.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 170

55-  رجع الحقّ إلى أهله

«لا يقاس بآل محمّد صلّى اللَّه عليه-  وآله وسلّم-  من هذه الأمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. هم أساس الدّين، وعماد اليقين، إليهم يفي‏ء الغالي، وبهم يلحق التّالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة. الآن إذ رجع الحّق إلى أهله، ونقل إلى منتقله». هذا فصل من فصول خطبة له عليه السّلام بعد انصرافه من صفّين.

و في معنى المثل المذكور ما جاء من أمثال العرب: (عاد السّهم إلى النّزعة): أي رجع الحقّ إلى أهله، والنّزعة: الرّماة من (نزع في قوسه): أي رمى، فإذا قالوا: (عاد الرّمي على النّزعة) كان المعنى: عاد عاقبة الظّلم على الظّالم، ويكنّى بها عن الهزيمة تقع على القوم. ومنها: (عاد الأمر إلى نصابه)، يضرب في الأمر يتولّاه أربابه.

                       

-------------------------------------------------------------------صفحة 171

يريد عليه السّلام بذلك: رجوع الخلافة بعد اغتصابها إليه أيّام خلافته. وتأوّل الكلام المعتزليّ بما يأباه العقل والنّقل، قال: وهذا يقتضي أن يكون فيما قبل في غير أهله. ونحن نتأوّل ذلك على غير ما تذكره الإماميّة.

و نقول: إنّه عليه السّلام كان أولى بالأمر وأحقّ، لا على وجه النّصّ على الخلافة، بل على وجه الأفضليّة... لكنّه ترك حقّه لما علمه من المصلحة... ليتني دريت ما حمل المعتزليّ على سحق عقله، حتّى يتناقض في القول إن كان عليه السّلام كما يقول: إنّه أحقّ بالخلافة من جميع المسلمين بحكم العقل، وإنّه أفضل البشر، فكيف يهمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم النّصّ عليه حتّى يختاروا من هو أدنى وهل هذا إلّا تغريرا منفيّا عنه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم وهل يشكّ عربيّ في معنى «رجع الحقّ إلى أهله»: أنّ من قبله غير أهل له والكلام المتقدّم ينصّ على انحصار الوصاية والوراثة، وهي الخلافة المنصوصة.

قال المعتزليّ: ولسنا نعني بالوصيّة: النّصّ على الخلافة، ولكن أمور أخرى. نعم أمور أخرى حملتك على ذلك والحديث ذو شجون.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 172

56-  ردّوا الحجر من حيث جاء

قال عليه السّلام: «ردّوا الحجر من حيث جاء، فإنّ الشّرّ لا يدفعه إلّا الشّرّ». قال الشّارح: هذا مثل قولهم في المثل: (إنّ الحديد بالحديد يفلح). وقال عمرو بن كلثوم:

         ألا لا يجهلن أحد علينا            فنجهل فوق جهل الجاهلينا

 

و قال الفند الزّمانيّ:

         فلمّا صرّح الشّرّ                 فأمسى وهو عريان‏

         ولم يبق سوى العدوا       ن دنّاهم كما دانوا

         وبعض الحلم عند            الجهل للذّلّة إذعان‏

         وفي الشّرّ نجاة حين         لا ينجيك إحسان‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 173

و قال الأحنف:

         وذي ضغن أمّت القول عنه            بحلمي فاستمرّ على المقال‏

         ومن يحلم وليس له سفيه            يلاق المعضلات من الرّجال

 

قال الميدانيّ: (ردّ الحجر من حيث جاءك): أي لا تقبل الضّيم، وارم من رماك. ومن أمثال متناسبة: (الشّرّ بالشّرّ ملحق)، (و الشّرّ للشّرّ خلق) وقد جاء في صادقيّ: «إنّ اللّعنة إذا خرجت من في صاحبها تردّدت، فإن وجدت مساغا وإلّا رجعت على صاحبها». والغرض من ردّ الحجر منع تجاوز الظّالم الغاشم، بردّ ظلمه إليه فإنّ الظّلم شرّ، وشرّ منه صاحبه: أي الظّالم، وانظر نظير المثل. فاذا لم يردّ على المتجاوز تجاوزه ازداد تجاوزا، وإذا عومل بمثل ما صنع ارتدع، فصبر المظلوم زيادة في ظلم الظّالم، ولا ينافيه ما جاء في الصّبر، فإنّ ذلك فيما لم يمكن ردّ الظّلم. وحمل الحجر على معناه الظّاهريّ لا يمنع من معناه المثليّ من ردّ ظلم الظّالم إليه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 174

57-  ركب الجهل مراكبه

كلمة تمثيليّة من تمثيلات الإمام عليه السّلام من خطبة في الملاحم: «... فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، وركب الجهل مراكبه...». بحثنا عن عدّة تمثيلات في الخطبة، منها: «صال الدّهر صيال السّبع العقور»، و«ليصدق الرّائد أهله»، و«خلق لكم الأمر خلق الخرزة». وغيرها المذكور منها في هذه الخطبة.

(ركب ومراكب) من الرّكب: الرّاء والكاف والباء. أصل منقاس، وهو علوّ شي‏ء شيئا. يقال: ركب ركوبا يركب، والرّكاب: المطي واحدتها راحلة. (ماله ركوبة ولا حمولة): أي ما يركبه، ويحمل‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 175

عليه. والمراكب جمع المركب البحريّ والبريّ والجويّ، يختلف المراد منه حسب المقام.

و الجهل يقابله العلم تارة، والعقل أخرى. وجاء في القرآن الكريم، من الأوّل قوله تعالى: قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ. ومن الثّاني يشير قوله عزّ وجلّ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ. أمّا الرّوايات فحدّث ولا حرج: «من قال: أنا عالم فهو جاهل» و«لا فقر أشدّ من الجهل، ولا عدم أشدّ من عدم العقل»: ويكفيك ما جاء من حديث جنود العقل والجهل. وما سئل عليه السّلام عن وصف العاقل، قال: «الّذي يضع الشّي‏ء مواضعه، وسئل عن الجاهل، فقال عليه السّلام: أجبت». والشّعر المنسوب إليه:

         والجاهلون لأهل العلم أعداء.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 176

و غير ذلك والسّرّ فيه أنّ الإنسان مهما بلغ من العلم ما لم يتعقّله، ولم يعمل على طبقه فهو جاهل لأنّ العلم سلّم العمل، فلو لم يكن عمل، كان السّلّم عبثا، لا يصنعه إلّا الجاهل.

ثمّ قوله عليه السّلام: «ركب الجهل مراكبه» إشارة إلى انغمار النّاس في ذلك الزّمان في الجهل، وأنّ أعمالهم وأقوالهم وما يزاولونه-  مهما كان نوعها-  بعيدة عن الصّواب، وفاقدة الحقيقة والحقّ المنشود، وليس فيها من نور، وكيف لا والعلم مخزون عند أهله، وهم الأنبياء وأوصياؤهم عليهم السّلام، ولم يحصل إلّا بالسّؤال عنهم والتّعلّم منهم.

قال أبو جعفر عليه السّلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شّرّقا وغرّبا، فلا تجدان علما صحيحا إلّا شيئا خرج من عندنا أهل البيت». فإذا لم يبق من القرآن إلّا رسمه، ولا من الإسلام في ذلك الزّمان إلّا اسمه، فمن أين يكون العلم فلا محالة يركب الجهل مراكبه بشتّى أنواع الرّكوب، وفي كلّ مكان تجده حاضرا، إذا غار العلم وفاض الجهل إلى اللَّه تعالى المشتكى.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 177

58-  ركبنا أعجاز الإبل

و الأصل فيه قوله عليه السّلام: «لنا حقّ، فإن أعطيناه وإلّا ركبنا أعجاز الإبل، وإن طال السّرى».

قال الرّضيّ رحمه اللَّه تعالى: وهذا القول من لطيف الكلام وفصيحه، ومعناه: أنّا إن لم نعط حقّنا كنّا أذلاء، وذلك أنّ الرّديف يركب عجز البعير، كالعبد والأسير، ومن يجري مجراهما. قال بعض الشّرّاح: له تفسيران: أحدهما: أنّ راكب عجز البعير يلحقه مشقّة وضرر. فأراد: أنّا إذا منعنا حقّنا صبرنا على المشقّة والمضرّة، كما يصبر راكب عجز البعير. وهذا التّفسير قريب ممّا فسّره الرّضيّ.

و الوجه الثّاني: أنّ راكب عجز البعير إنّما يكون إذا كان غيره قد ركب على ظهر البعير، وراكب ظهر البعير متقدّم على راكب عجز البعير.

فأراد: أنّا إذا منعنا حقّنا تأخّرنا وتقدّم غيرنا علينا، فكنّا كالرّاكب‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 178

رديفا لغيره.

و أكّد المعنى على كلا التّفسيرين بقوله: «و إن طال السّرى» لأنّه إذا طال السّرى كانت المشقّة على راكب البعير أعظم، وكان الصّبر على تأخّر راكب عجز البعير عن الرّاكب على ظهره أشدّ وأصعب... قاله يوم الشّورى. وقال آخر: عليّ رضي اللَّه تعالى عنه-  عليه السّلام-  قال يوم الشّورى: لنا حقّ إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السّرى. هذا مثل لركوبه الذّلّ والمشقّة وصبره عليه وإن تطاول ذلك، وأصله أنّ الرّاكب إذا اعرورى البعير ركب عجزه من أصل السّنام، فلا يطمئنّ ويحتمل المشقّة. وأراد بركوب أعجاز الإبل: كونه ردفا تابعا، وأنّه يصبر على ذلك وإن تطاول به. ويجوز أن يريد: وإن نمنعه نبذل الجهد في طلبه، فعل من يضرب في ابتغاء طلبته أكباد الإبل، ولا يبالي باحتمال طول السّرى. وهكذا غيرهما من الجمهور قد خصّصوا كلامه عليه السّلام بيوم الشّورى بعد وفاة عمر واجتماع الجماعة لاختيار واحد من السّتّة.

و ليت شعري لم خصّصوه بذلك وهل كان منع القوم الإمام عليه السّلام من حقّ الخلافة من بعد عمر وكان له ولصاحبه الحقّ ما ليس له عليه السّلام منه نصيب أو خصّهما اللَّه ورسوله به دونه أو أنّه خاصّ به، تقمصّه القوم اختر ما شئت.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 179

59-  رمى بأفوق ناصل

مثل سائر ضربه عليه السّلام في خطبة له، منها: «أيّ دار بعد داركم تمنعون ومع أيّ إمام بعدي تقاتلون المغرور واللَّه من غررتموه، ومن فاز بكم فقد واللَّه بالسّهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل». ورواه الشّيخ المجلسيّ، وجمع من الجمهور، منهم ابن الأثير قال: ومنه حديث عليّ-  عليه السّلام- : «و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل»: أي رمى بسهم منكسر الفوق، لا نصل فيه. والميدانيّ في مجمع الأمثال بلفظ: (رجع بأفوق ناصل)، وقال: النّاصل: السّهم سقط نصله، والأفوق: الّذي انكسر فوقه. يضرب لمن رجع عن مقصده بالخيبة، أو بما لا غناء عنده.

------------------------------------------------------------------- صفحة 180

و في هامش البحار، الأفوق من السّهام: المكسور الفوق. والفوق: موضع الوتر من السّهم. والنّاصل: العاري عن النّصل. ولا يخفى طيش السّهم الّذي لا فوق له ولا نصل فإنّه لا يكاد يتجاوز عن القوس: أي من رمى بهم فكأنّما رمى بسهم لا يثبت في الوتر حتّى يرمي، وإنّ من رمى به لم يصب مقتلا إذ لا نصل له. قوله عليه السّلام: «أيّ دار بعد داركم تمنعون» لقد كتبت الذّلّة والعار على قوم غزوا في عقر دارهم. وكذلك قومه عليه السّلام حيث أنّ قصّة الضّحّاك، دعت الإمام عليه السّلام على أن يخطب هذه الخطبة المليئة بالشّكوى، وكانت غارة الضّحّاك بعد الحكمين وقبل قتال النّهروان، حيث حثّ عليه السّلام الجيش على قتال معاوية، ولمّا بلغه ذلك هاله، فصاح إنّ عليّا قد سار إليكم، ودعا معاوية الضّحّاك، وقال له: سر حتّى تمرّ به بناحية الكوفة، فمن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ، فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليها، فأقبل الضّحّاك، فنهب الأموال، وقتل من لقي من الأعراب-  إلى آخره- .

و قال الشّيخ الكلينيّ رحمه اللَّه: استصرخ أمير المؤمنين عليه السّلام الناس عقيب غارة الضّحّاك على أطراف أعماله، فتقاعدوا عنه فخطبهم فقال: «ما عزّت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم».

                       

الأمثال‏ والحكم ‏المستخرجة من ‏نهج‏ البلاغة، صفحة 181

من فقرات الخطبة المذكورة فيها الكلمة التّمثيليّة، ومن ذلك تعرف الشّكوى العلويّة بادية الملامح عليها، وهي كلمة لا يقولها إلّا من ابتلى بقوم لا يستطيع وفاقهم ولا فراقهم، فإن وافقهم ضلّ، وإن فارقهم زلّ، ولعمر الحقّ أنّه المصيبة من مثل أمير المؤمنين الحجّة البالغة الرّبانيّة أن يبتلي بأصحاب لا يليقون به.

قوله عليه السّلام: «و مع أيّ إمام بعدي تقاتلون» نظير قوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ. يقال ذلك: لغير المؤمن بالحقّ الجاحد له قلبا.

و قوله عليه السّلام: «المغرور واللَّه من غررتموه»، القسم فيه لتهويل ما يزاولونه من التّمرّد على إمامهم وعصيانهم، والكلام مسوق للشّكوى، كما ذكرنا ذلك عند المثل: «فاز... بالسّهم الأخيب».

من سائر خطبه الدّالّة على بلوغ انضجاره عليه السّلام الغاية من صنع أصحابه، ومن ذلك قوله عليه السّلام في ذمّهم: «لوددت واللَّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدّينار بالدّرهم، فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين: صم ذوو أسماع، وبكم ذو وكلام، وعمي ذو وأبصار، لا أحرار صدق عند اللّقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء».

------------------------------------------------------------------- صفحة 182

يدلّ على حقيقة الأمر، علمه بالحقائق وجهلهم بها.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 183

حرف الزّاي

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 184

60-  زرعوا الفجور... وحصدوا الثّبور

من خطبة مطوّلة له عليه السّلام، ومنها في المنافقين: «زرعوا الفجور وسقوه الغرور، وحصدوا الثّبور». قال المعتزليّ: جعل ما فعلوه من القبيح بمنزلة زرع زرعوه ثمّ سقوه، فالّذي زرعوه الفجور، ثمّ سقوه بالغرور، والاستعارة واقعة موقعها لأنّ تمادّيهم وما سكنت إليه نفوسهم من الإمهال، هو الّذي أوجب استمرارهم على القبائح الّتي واقعوها، فكان ذلك كما يسقى الزّرع ويربّى بالماء ويستحفظ.

ثمّ قال: «و حصدوا الثّبور»: أي كانت نتيجة ذلك الزّرع والسّقي حصاد ما هو الهلاك والعطب. وإشارته هذه ليست إلى المنافقين، كما ذكره الرّضيّ رحمه اللَّه، وإنّما هي إشارة إلى من تغلّب عليه، وجحد حقّه كمعاوية وغيره. ولعلّ الرّضيّ رحمه اللَّه تعالى عرف ذلك وكنّى عنه.

------------------------------------------------------------------- صفحة 185

نعم إنّما معاوية رأس المنافقين، فكلمة المنافقين شاملة له ولغيره من الرّؤساء، والملاك عموم لفظ الإمام عليه السّلام، المنطبق على كلّ من كانت صفته ذلك، ثمّ الكلام صالح للمثل إن لم يكن نفسه.

و نظيره المثل النّبويّ السّائر: «من يزرع خيرا يحصد رغبة، ومن يزرع شرّا يحصد ندامة». ذكرناه في كتاب (الأمثال النّبويّة) وقلنا: يصحّحه صحيح أبي بصير، قال: «دخل رجلان على أبي عبد اللَّه عليه السّلام في مداراة بينهما ومعاملة، فلمّا أن سمع كلامهما قال: أما أنّه ما ظفر أحد بخير من ظفر بظلم، أما أنّ المظلوم يأخذ من دين الظّالم أكثر ممّا يأخذ الظّالم من مال المظلوم. ثمّ قال: من يفعل الشّرّ بالنّاس فلا ينكر الشّرّ إذا فعل به، أما أنّه إنّما يحصد ابن آدم ما يزرع، وليس يحصد أحد من المرّ حلوا، ولا من الحلو مرّا، فاصطلح الرّجلان قبل أن يقوما». مثل الصّادق عليه السّلام قد حوى طرفي المثل السّائر: الخير والشّرّ.

و من أمثال العرب: (أعجز من جاني العنب من الشّوك) هذا أيضا من قول الشّاعر:

         إذا وترت امرأ فاحذر عداوته            من يزرع الشّوك لا يحصد به عنبا

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 186

قال حمزة: وهذا الشّاعر أخذ هذا المثل من حكيم من حكماء العرب من قوله: (من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرّا يحصد ندامة، ولن يجتني من شوكة عنبة). المثل هو المثل النّبويّ، ولعلّ الحكيم يريد به النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم. وكيف كان، أنّ زارع الفجور المستقى بماء الغرور لا يحصد سوى الثّبور والويل والهلاك.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 187

حرف السّين

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 188

61-  سروح عاهة بواد وعث

أحد الأمثال الّتي ضربها في وصيّته لابنه الحسن عليهما السّلام، قال فيها: «و إيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدّنيا إليها، وتكالبهم عليها، فقد نبّأك اللَّه عنها، ونعتت لك نفسها، وتكشّفت لك عن مساويها فإنّما أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهرّ بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها. نعم معقّلة، وأخرى مهملة، قد أضلّت عقولها، وركبت مجهولها. سروح عاهة بواد وعث، ليس لها راع يقيمها، ولا مسيم يسيمها......». وهي وصيّة مطوّلة، أخذنا منها ما يربط المثل الجاري.

قال الشّارح: ثلاثة أمثال محرّكة لمن عنده استعداد. استقرأني أبو الفرج محمّد بن عبّاد رحمه اللَّه-  وأنا يومئذ حدث-  هذه الوصيّة، فقرأتها عليه من حفظي، فلمّا وصلت إلى هذا الموضع صاح صيحة شديدة وسقط، وكان جبّارا قاسي القلب.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 189

(سروح عاهة) السّروح، جمع سرح: وهو المال السّارح. والعاهة: الآفة. و(واد وعث): لا يثبت الحافر والخفّ فيه، بل يغيب فيه ويشقّ على من يمشي فيه. أو السّروح: الأغنام.

يقول عليه السّلام: أهل الدّنيا كلاب عاوية، وسباع جائعة، يتناهشن على جيف، أو أغنام سائمة ترعى، ومعقّلة متحيرّة في أودية لا يثبت فيها خفّ ولا حافر، لا راعي يرعاها، وقد اعتورتها الآفات من كلّ جوانبها. برزت في كلامه عليه السّلام حقائق أهل الدّنيا وبوائق ما زالت الأيّام تخفيها، وسوف يحشر النّاس على ما هم فيه من صفات الحيوانات، كما جاء في تفسير «وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ». يأتون يوم القيامة على صور ما كانوا يزاولون من صفات الكلاب والسّباع وغيرها.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 190

62-  السّعيد من وعظ بغيره

من خطبة له عليه السّلام، قال فيها: «السّعيد من وعظ بغيره، والشّقيّ من انخدع لهواه وغروره». قال ابن أبي الحديد: قوله: «السّعيد...» مثل من الأمثال النّبويّة. ونحن ذكرناه في كتابنا (الأمثال النّبويّة) ولكن لم يمنع كونه مثلا علويّا أيضا، وفي الحكم المنسوبة إليه عليه السّلام بلفظ: «السّعيد من وعظ بغيره، والشّقيّ من اتّعظ به غيره». وذكره الشّيخ المحموديّ في باب كتبه وخطبه. وهو من المثل السّائر.

قال الميدانيّ: «السّعيد من وعظ بغيره»: أي ذو الجدّ من اعتبر بما لحق غيره من المكروه، فيجتنب الوقوع في مثله.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 191

قيل: إنّ أوّل من قال ذلك مرثد بن سعد، وفد عاد الّذين بعثوا إلى مكّة يستسقون لهم فلمّا رأى ما في السّحابة الّتي رفعت لهم البحر من العذاب أسلم مرثد، وكتم أصحابه إسلامه، ثم أقبل عليهم، فقال: مالكم حيارى كأنّكم سكارى إنّ السّعيد من وعظ بغيره، ومن لم يعتبر الّذي بنفسه يلقى نكال غيره. فذهبت من قوله أمثالا. وقال العسكريّ: (قولهم: السّعيد من وعظ بغيره) من قول الحرث ابن كلدة:

         إنّ اختيارك لا عن خبرة سلفت           إلّا الرّجاء وقد ما يخطى‏ء البصر

         كالمستغيث ببطن السّيل يحسبه          حرزا يبادره إذ بلّه المطر

         فقد رأيت بعبد اللَّه واعظة                تنهى الحليم فما أنساني الغرر

         إنّ السّعيد له في غيره عظة               وفي الحوادث تحكيم ومعتبر

         لا أعرفنّك إن أرسلت قافية               تلقى المعاذير إن لم تنفع العذر

 

لم يأت اسم السّعيد والشّقي في القرآن الكريم إلّا في موضوع جامع، وهو قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. وموضع تفريق: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏

------------------------------------------------------------------- صفحة 192

 خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ. وقوع الاستثناء في الأشقياء المعلّق على المشيئة المشترك مفهوم من قوله تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ، وأمّا السّعداء فلم يخرجهم الاستثناء لقوله تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ الدّال على عدم انقطاع النّعيم عنهم، وإنّما التّعليق على المشيئة لبيان القدرة فقط لا الوقوع، فافهم، والخارج من الأشقياء طائفة مذنبون من أهل التّوحيد من النّار بالشّفاعة. والشّقيّ: المخالف لآل محمّد عليهم السّلام، والمطيع: هو السّعيد لأنّ الخلاف عليهم الخلاف على اللَّه والرّسول، وإطاعتهم إطاعتهما، كما جاء ذلك في زيارة المهديّ عجّل اللَّه فرجه الشّريف المبدوءة ب «سلام على آل يس»، «شقي من خالفكم، وسعد من أطاعكم». وفي السّعادة والشّقاوة أبحاث كلاميّة، تأتي في محلّها إن شاء اللَّه تعالى والغرض هنا الإشارة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 193

63-  سل عن الرّفيق قبل الطّريق، وعن الجار قبل الدّار

في الوصيّة لابنه الحسن عليهما السّلام: «سل عن الرّفيق قبل الطّريق، وعن الجار قبل الدّار». قال المعتزليّ: وقد روي هذا الكلام مرفوعا، وفي المثل: (جار السّوء كلب هارش، وأفعى ناهش). وفي المثل: (الرّفيق: إمّا رحيق أو حريق). يريد بالرّواية: النّبويّ: «الجار ثمّ الدّار، الرّفيق ثمّ الطّريق». فهو مثل سائر نبويّ وعلويّ. قال الميدانيّ: وكلاهما يروى عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه-  وآله-  وسلّم.

قال أبو عبيد: كان بعض فقهاء أهل الشّام يحدّث بهذا الحديث، ويقول: معناه: إذا أردت شراء دار فسل عن جوارها قبل شرائها.

------------------------------------------------------------------- صفحة 194

 

و يحتمل الإيصاء بالجار بأن لا يجوع وتشبع، وتشرب ويظمأ، وتكسى ويعرى، وكلّ ما أنت فيه من سرور وحبور يفقده ففي نبويّ: «من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم جاره». وآخر: «و الّذي نفسي بيده لا يسلم العبد حّتى يسلم قلبه ولسانه، ويأمن جاره بوائقه قالوا: وما بوائقه قال: غشمه، وظلمه». وقال لقمان: «يا بنيّ حملت الحجارة والحديد، فلم أر شيئا أثقل من جار السّوء». وأنشدوا:

         ألا من يشتري دارا برخص            كراهة بعض جيرتها تباع

 

و عند المثل النّبويّ بعد قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى‏ وَالْيَتامى‏ وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ. قسّمنا الجار إلى قريب الدّار أو بعيدها، وهما: إمّا قريب، أو أجنبيّ، فالجار الرّحم قريبا أو بعيدا داخل في «وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ»، والأجنبيّ القريب والبعيد في «وَ الْجارِ الْجُنُبِ»، «وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ» هو الّذي يصحبك في السّفر جنبا إلى جنب.

------------------------------------------------------------------- صفحة 195

و في وصيّته عليه السّلام لمّا ضربه ابن ملجم: «... واللَّه اللَّه في جيرانكم فإنّهم وصيّة نبيّكم ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم». قال المعتزليّ: وكان يقال: الجيران خمسة: الجار الضّار السّيّى‏ء الجوار، والجار الدّمس الحسن الجوار، والجار اليربوعيّ المنافق، والجار البراقشيّ المتلوّن في أفعاله، والجار الحسد ليّ الّذي عينه تراك، وقلبه يرعاك. الدّمس (بالسّين): الشّدّة وفي بعض النّسخ: (و الجار الدّمث): أي ليّن الخلق، وسهله. وهو أنسب.

و من أدب الجوار الصّبر على الأذى فضلا عن الأذى: ليس حسن الجوار كفّ الأذى، ولكنّ حسن الجوار الصّبر على الأذى.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 196

64-  سيرعف بهم الزّمان

من كلام له عليه السّلام لمّا أظفره اللَّه بأصحاب الجمل، وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلانا كان شاهدا ليرى ما نصرك اللَّه به على أعدائك، فقال عليه السّلام: «أهوى أخيك معنا فقال: نعم، قال: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرّجال، وأرحام النّساء، سيرعف بهم الزّمان، ويقوى بهم الإيمان». إن لم يكن الكلام من المثل في شي‏ء، فإنّه من باب التّمثيل بالصّميم لما ستعرفه بعد قليل.

رعف الرّجل، من بابي (قتل، ونفع): إذا خرج الدّم من أنفه. ويدّل على سبق وتقدّم، فرس راعف: سابق متقدّم. قال الأعشى:

         به ترعف الألف إذ أرسلت            غداة الصّباح إذا النّقع ثارا.

 

قال المعتزليّ: يرعف بهم الزّمان: يوجدهم ويخرجهم، كما يرعف‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 197

الإنسان بالدّم الّذي يخرجه من أنفه، قال الشّاعر:

         وما رعف الزّمان بمثل عمرو            ولا تلد النّساء له ضريبا.

 

تمثيل بما يأتي الدّم من الأنف من غير انتظار وحسبان، وهو المعبّر بالرّعاف، وكرّر في الحديث، ففي علويّ: «لا يقطع الصّلاة الرّعاف ولا القي‏ء ولا الأزّ». وصحيح الحلبيّ عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام، قال: «سألته عن رجل رعف، فلم يرق رعافه، حتّى دخل وقت الصّلاة، قال: يحشو أنفه بشي‏ء ثمّ يصلّي». قال الخطيب، نقلا عن البرقيّ: «لمّا قتل أمير المؤمنين عليه السّلام الخوارج يوم النّهروان، قام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين طوبى لنا إذ شهدنا معك هذا الموقف، وقتلنا معك هؤلاء الخوارج، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة لقد شهدنا في هذا الموقف أناس لم يخلق آباؤهم ولا أجدادهم بعد، فقال الرّجل: وكيف شهدنا قوم لم يخلقوا قال: بلى، قوم يكونون في آخر الزّمان، يشركوننا فيما نحن فيه، وهم يسلّمون لنا، فأولئك شركاؤنا فيما نحن فيه حقّا حقّا». ومصدر الشّريف غير هذه الرّواية، وتعدّد القضيّة ممكن، واتّحادها ممكن... «فلكلّ أمرئ ما نوى» و«الأعمال بالنّبيّات» و«من أحبّ‏

------------------------------------------------------------------- صفحة 198

عمل قوم أشرك في عملهم» و«إنّما يجمع النّاس الرّضا والسّخط». روى المحدّث القمّيّ رحمه اللَّه عن عطيّة العوفيّ، قال: خرجت مع جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رحمه اللَّه زائرين قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام، فلمّا وردنا كربلاء، دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل، ثمّ ائتزر بإزار، وارتدى بآخر، ثمّ فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثمّ لم يخط خطوة إلّا ذكر اللَّه حتّى دنا من القبر، قال: ألمسنيه، فألمسته، فخرّ على القبر مغشيّا، فرششت عليه شيئا من الماء فأفاق، ثمّ قال: يا حسين ثلاثا، ثمّ قال: حبيب لا يجيب حبيبا، ثمّ قال: وأنّى لك بالجواب، وقد شحطت أوداجك على أثباجك، وفرّق بين بدنك ورأسك... ثمّ قال: والّذي بعث محمّدا صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  بالحقّ لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال عطيّة: فقلت لجابر: وكيف ولم نهبط واديا، ولم نعل جبلا، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فرّق بين رؤوسهم وأبدانهم، وأوتمت أولادهم، وأرملت الأزواج فقال: يا عطيّة سمعت حبيبى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  يقول: من أحبّ قوما حشر معهم، ومن أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم، والّذي بعث محمّدا صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  بالحقّ إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين عليه السّلام وأصحابه. ذكرناه لمناسبة البحث الجاري.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 199

حرف الشّين

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 200

65-

         شتّان ما يومي على كورها            ويوم حيّان أخي جابر

 

 

 من الأبيات المعدودة من الأمثال:

         شتّان ما يومي على كورها...

 

تمثّل عليه السّلام بالبيت في خطبته المعروفة ب (الشّقشقيّة).

قال المعتزليّ: إنّ البيت للأعشى الكبير، أعشى قيس، وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل. من القصيدة الّتي قالها في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطّفيل. وأوّلها:

         شاقتك من قتلة أطلاها           بالشّط فالوتر إلى حاجر

         فركن مهراس إلى مارد         فقاع منفوحة ذي الحائر

         دار لها غيّر آياتها              كلّ ملثّ صوبه زاخر

 

و الضّمير في (كورها) في البيت المتمثّل به يعود على النّاقة في بيت‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 201

متقدّم عليه، وهو قوله:

         وقد أسلى الهمّ حين اعترى            بجسرة دوسرة عاقر

 

 

و حيّان: اسم رجل من بني حنيفة، كان سيّدا مطاعا، وذا نعمة وافرة، وكان الأعشى ينادمه. وجابر: أخو حيّان، أصغر منه، وذكره الشّاعر للقافية.

و معنى البيت: فرق كبير ما بين سفري على ناقتي وبين يوم حيّان في نعمته الوافرة. يشير عليه السّلام به إلى أنّ هناك فرقا بين يومه في الخلافة مع ما انتقض عليه من الأمر، ومع يوم عمر، حيث وليها على قاعدة ممهّدة.

------------------------------------------------------------------- صفحة 202

و حصيلة ذلك، أنّ الفرق بين راكب النّاقة الرّاقلة به، وحيّان المتنعّم بنعمة ناعمة وراحة، هو الفرق بيني في خلافتي الّتي انتقض عليّ أمرها، وبين عمر الّذي مهّدت له الأمور، كما أراد وأرادها الأوّل، وهذا من دلالات مظلوميّته عليه السّلام واغتصاب حقّه الثّابت، فلو كان الأمر على ضوء وصاية النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم سائرا، لما اغتصب حقّ الخلافة منه، ولا حقّ إلى يوم القيامة.

66-  شحذ القين النّصل

من خطبة له عليه السّلام يقول فيها: «يا قوم هذا إبّان ورود كلّ موعود، ودنوّ من طلعة ما لا تعرفون، ألا وإنّ من أدركها منّا يسري بسراج منير، ويحذو فيها على مثال الصّالحين، ليحلّ فيها ربقا، ويعتق فيها رقّا، ويصدع شعبا، ويشعب صدعا في سترة عن النّاس، لا يبصر القائف أثره ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل...». في الدّعاء: «أعوذ بك من عدوّ شحذ لي ظبة مديته»: أي حدّ لي، من قولهم: شحذت السّكين، أشحذه شحذا، من باب منع: إذا حددته.

------------------------------------------------------------------- صفحة 203

و القين: الحدّاد، والجمع أقيان، ويقال للعبد: القين بالفتح، وجمعه القيان. والأوّل المراد هنا إذ الإمام عليه السّلام يريد بقوله: «و دنوّ من طلعة ما لا تعرفون» إلى آخره: الإخبار بمجي‏ء الإمام المهديّ عجّل اللَّه فرجه الشّريف، ونقبائه المعبّر عنهم بقوله عليه السّلام: «ثمّ ليشحذنّ فيها- : أي في الطّلعة غير المعروفة-  قوم شحذ القين النّصل» تمثيل لأذهانهم المتجلّية بأنوار القرآن، كأنّها شحّذت: أي حدّدت حتّى أصبحت تدرك كلّ شي‏ء.

كيف لا ولأبصارهم البرق الرّبّانيّ، ولأسماعهم الاتّصال بالوحي يقذف فيها الحقائق قذفا لها مباشرة، فيشربون من كؤوس الحكمة القرآنيّة في الصّبوح والغبوق، وهذا ما أشار إليه عليه السّلام بقوله: «تجلّى بالتّنزيل- : أي القرآن-  أبصارهم، ويرمى بالتّفسير في مسامعهم، ويغبقون كأس الحكمة بعد الصّبوح». كما أنّ الشّحّاذ المجلي عن السّيوف الزّنجار وخبث الحديد، كذلك القرآن الكريم مجل لأذهانهم كلّ كدر الطّبيعة، فتستنير بأنواره، ويخبرون عن الحقائق، أولئك أولياء الحجّة عليه السّلام، وشأن كلّ عالم ربّاني مهما كان، وأين ما كان يتلقّون الوحي، وتلقى في مسامعهم معانيه وأسراره.

ثمّ المثل يماثله من بعض الوجوه المثلان النّبويّان: «إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد» و«إنّ للقلوب صدأ كصدأ الحديد، وجلاؤها

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 204

الاستغفار وتلاوة القرآن». وأمّا المثل في القين وإن لم يرتبط بالمراد فهو المثل: (إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنّه مصبح). وهو سعد القين، صار مثلا في الكذب والباطل. وقال العسكريّ: قولهم: (إذا سمعت بسرى القين فأصبح) يضرب مثلا للرّجل يعرف بالكذب، حتّى يردّ صدقه، وأصله أنّ القين، وهو الحدّاد، إذا كسد عمله أشاع بارتحاله، وهو يريد الإقامة، وإنّما يذكر الرّحيل ليستعمله أهل الماء، ثمّ إذا صدق لم يصدّق لأنّ من عرف بالصّدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه. ثمّ إنّ الإمام عليه السّلام يشير في خطبته إلى زمان ظهور الحجّة المهديّ عجّل اللَّه فرجه، ونقبائه المشحذة أذهانهم بالحكمة والمعرفة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 205

67-  شدّوا عقد المآزر

مثل من الأمثال المذكورة في كلام له عليه السّلام، يحثّ أصحابه على الجهاد، أوردناه عند التّكلّم على المثل: «لا تجتمع عزيمة ووليمة»، والمثلين الآخرين، أوّله: أي أوّل كلامه عليه السّلام: «و اللَّه مستأديكم شكره، ومورّثكم أمره، وممهلكم في مضمار ممدود، لتتنازعوا سبقه. فشدّوا عقد المآزر، واطووا فضول الخواصر». ونقلنا ما شرحه المعتزليّ للأمثال، قال: أي شمّروا عن ساق الاجتهاد. ويقال لمن يوصى بالجدّ والتّشمير: (اشدد عقد إزارك) لأنّه إذا شدّها كان أبعد عن العثار، وأسرع للمشي. ومنه المثل السّائر: (شدّ للأمر حزيمه)، ويروى: حيزومه، والفرق بينهما، أنّ الحزيم موضع الحزام من الصّدر والظّهر، كلّه مستدير، والحيزوم ملتقى رأس الجوانح، ومن وسط الصّدر. قال وكيع بن أبي سويد:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 206

 

         شيخ إذا حمّل مكروهة            شدّ الحيازيم لها والحزام‏

 

و قال عليّ-  عليه السّلام- :

         اشدد حيازيمك للموت            فإنّ الموت لاقيك‏

         ولا تجزع من الموت           إذا حلّ بواديك

 

و قد سبق المثل: «أشدد حيازيمك للموت»، المرويّ من طريقنا ومن الجمهور، فراجع. والمقاصد الّتي يشدّ من أجلها الحزام، إمّا دنيويّة أو دينيّة، ولكلّ أهل، والّذي يحمل الإنسان على العمل وشدّ الحزام إنّما هو إلارادة. وأمّا الأهداف فربّما تتحقّق.

و ممّا يعجبني ما جاء من دعاء يوم المبعث النّبويّ السّابع والعشرين من رجب المرجّب منه: «و قد علمت أنّ أفضل زاد الرّاحل إليك عزم إرادة يختارك بها، وقد ناجاك بعزم الإرادة قلبي». ولا قيمة للأمر الدّنيويّ إذا لم ينته إلى الدّين، لا إرادة، ولا عملا،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 207

و لا شدّ عقدة الإزار لفنائه ونفاده، كما قال تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ. وأمّا أمره عليه السّلام بشدّ عقد المآزر، فناظر إلى الجهاد في سبيل اللَّه تعالى، ويحتمل النّظر إلى المعنى الشّامل، واللَّه العالم.

68-  الشّرّ بالشّرّ ملحق

قاله عليه السّلام في كتاب له كتبه إلى الحارث الهمدانيّ: «...،...،...، وإيّاك ومصاحبة الفسّاق فإنّ الشّرّ بالشّرّ ملحق...». قال الشّارح: يقول: إنّ الطّباع ينزع بعضها إلى بعض، فلا تصحبنّ الفسّاق، فإنّه ينزع بك ما فيك من طبع الشّرّ إلى مساعدتهم على الفسوق والمعصية، وما هو إلّا كالنّار تقوى بالنّار، فإذا لم تجاورها وتمازجها نار كانت إلى الانطفاء والخمود أقرب.

و روي: (ملحق) بكسر الحاء، وقد جاء في الخبر النّبويّ: «عذابك بالكفّار ملحق» بالكسر. قوله عليه السّلام: «الشّرّ بالشّرّ ملحق» معدود من الأمثال نظير قولهم: (الشّرّ للشّرّ خلق)، و(الحديد بالحديد يفلح).

------------------------------------------------------------------- صفحة 208

و الإنسان المغفّل إذا صاحب الفاسق، أثّر فسقه فيه، وزاد هو في فسقه إن لم يكن على حذر منه لا محالة، جاء التّأثير وزيادة الفسق بزيادة أفراد الفسّاق، وهو المصاحب، إذ المصاحبة مؤثّرة، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.

و جاء في حديث الإمام السّجّاد عليه السّلام النّهي عن مصاحبة خمسة، ومحادثتهم ومرافقتهم في طريق، وهم: الكذّاب، والفاسق، والبخيل، والأحمق، والقاطع لرحمه. ونسب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام ما يلي:

         عاشر أخا ثقة تحظى بصحبته            فالمرء مكتسب من كلّ مصحوب‏

         كالرّيح آخذة حين تمرّ به               نتن من النّتن أو طيب من الطّيب

 

و من آثار سوء مصاحبة الفاسق أنّه مظنّة سخط اللَّه عزّ وجلّ وعذابه، إذا نزل عمّ من معه، كما كان عكس ذلك مصاحبة المتّقي الّذي هو عرضة رحمة اللَّه تعالى فإنّها إن نزلت عمّت.

و الفسق: هو الخروج عن طاعة اللَّه تعالى، الّذي هو منشأ الشّرور، إذ لا يأمن معه ركوب المعاصي كلّها، من الاجتماعيّة وغيرها الّتي تجلب الشّرور.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 209

و من الأمثال السّائرة قولهم: (إنّ الشّقيّ ينتحي له الشّقيّ): أي أحدهما يقيّض لصاحبه، فيتعارفان ويأتلفان.

69-  الشّفيع جناح الطّالب

قال عليه السّلام: «الشّفيع جناح الطّالب». قيل: الشّفاعة: توسّط من له جاه عند المشفّع في إنجاح حاجة المشفوع له، فكأنّ المشفوع له يطير نحو ما قصده بوسيلة الشّفيع، فشبّهه بجناح الطّائر. إذا حقّقنا النّظر وجدنا الشّفاعة: هي الوساطة في حصول الشّي‏ء، والوسيلة والسّبب المؤثّر فيه من أيّ شي‏ء لأيّ شي‏ء عند أيّ شي‏ء من عالم الأسباب الّتي جاء فيها الحديث: روى الشّيخ الكلينيّ بسنده عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام، أنّه قال: «أبى اللَّه أن يجري الأشياء إلّا بالأسباب، فجعل لكلّ شي‏ء سببا،

------------------------------------------------------------------- صفحة 210

و جعل لكلّ سبب شرحا، وجعل لكلّ شرح علما، وجعل لكلّ علم بابا ناطقا، عرفه من عرفه، وجهله من جهله ذلك رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  ونحن». فأهل البيت عليهم السّلام من أشرف الأسباب، وأهمّ الوسائل المبتغاة المعنيّة بها الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. ممّن له جاه وكلّ حرمات اللَّه من رسل وكتب وغيرها.

فأهل البيت عليهم السّلام من أقرب ما يتوسّل به المتوسّلون إلى اللَّه تعالى، وهم شفعاؤنا إليه جلّ جلاله، كما جاء في زيارة الجامعة الكبيرة: «اللّهمّ إنّي لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمّد وأهل بيته الأخيار الأئمّة الأبرار، لجعلتهم شفعائي». وأسباب الشّفاعة كثيرة، منها: القرآن الكريم «إنّه شافع مشفّع». ومنها: اعتراف المذنب بذنبه وخضوعه، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «شفيع المذنب خضوعه». ويلزم الخضوع الاعتراف لا محالة.

ثمّ الشّفاعة لها شروط، أهمّها رضاء اللَّه تعالى، ومن بعد إذنه، على‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 211

ما نطق القرآن الكريم: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏. ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. وقد تناولها في ستة وعشرين موضعا، منه مصرّحا بهذا الشّرط أو ملوّحا وذلك لاعتبار القابليّة العقليّة. ففي النّبويّ: «رجلان لا تنالهما شفاعتي: سلطان عسوف غشوم، وغال في الدين مارق». وممّن يفقد القابليّة المستخفّ بالصّلاة في الباقريّ: «قال: قال رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : لا ينال شفاعتي من استخفّ بصلاته». وصحيح أبي بصير قال: «دخلت على أمّ حميدة أعزّيها بأبي عبد اللَّه عليه السّلام، فبكت وبكيت لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمّد لو رأيت أبا عبد اللَّه عند الموت لرأيت عجيبا، فتح عينيه ثمّ قال: اجمعوا لي كلّ من بيني وبينه قرابة، قالت: فما تركنا أحدا إلّا جمعناه، فنظر إليهم، ثمّ قال: إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّا بالصّلاة». وإذا تدبّرت عرفت صنوفا آخرين من النّاس لا تليق بهم الشّفاعة لأسباب مذكورة في الكتاب والسّنّة وعند العقول الحصيفة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 212

ثمّ كلام الإمام عليه السّلام: (الشّفيع جناح الطّالب) بيان لطبع المطلب مع قطع النّظر إلى شروط الشّفاعة والمشفوع له والشّفيع. بل المراد: أنّ كلّ من يقصر عن الوصول إلى المطلوب لأجل الموانع يرفعها الشّفيع ويساعده، كأنّه جناحه الّذي يطير به إلى مطلوبه، أو يعيره على حدّ قول القائل:

         أسرب القطاهل من يعير جناحه            لعلّي إلى من قد هويت أطير

 

70-  شقشقة هدرت ثمّ قرّت

من الكلمات المعدودة من الأمثال قوله عليه السّلام: «شقشقة هدرت ثمّ قرّت». وهو مثل سائر تمثّل به الإمام عليه السّلام لابن عبّاس، عند ما سأله اطّراده في خطبته المعروفة بالشّقشقيّة، سمّيت بها لاشتمالها على كلمة الشّقشقة، وقد ناوله رجل من أهل العراق كتابا لينظر فيه، فقطع خطبته لذلك، ولم يعد إليها، فتأسّف ابن عبّاس عمّا فاته من إكمالها عن‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 213

آخرها لأنّها تكشف عن مواقف الخلفاء الثّلاثة، والخلال الّتي لا تليق بمنصب الخلافة والإمامة على الأمّة المرحومة.

و قد أوّل الجمهور كلمات الخطبة بما لا تنطبق عليه اللّغة العربيّة ولا يشكّ في مراد الإمام عليه السّلام منها من له أدنى إلمام بها: أي باللّغة العربيّة من منطوق الخطبة ومفهومها ومن ثمّ أنكرها بعضهم أن تكون من خطبة عليه السّلام رأسا لئلّا يواجه مشكلة التّأويل.

و لم يذكر الزّمخشريّ المثل في (المستقصى في أمثال العرب)، ولا ريب في كونه منها-  فرارا-  من الإسناد إلى الخطبة العلويّة، وإلفات النّظر إليها.

و ذكره النّيسابوريّ في كتابه مجمع الأمثال مسندا الخطبة إليه عليه السّلام، مع تفسير المثل، قال: الشّقشقة: شي‏ء كالرّئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج. وإذا قالوا للخطيب: (ذو شقشقة) فإنّما يشبّه بالفحل.

و لأمير المؤمنين عليّ رضي اللَّه عنه-  عليه السّلام-  خطبة تعرف بالشّقشقيّة لأنّ ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال له حين قطع كلامه: يا أمير المؤمنين لو اطّردت مقالتك من حيث أفضيت. فقال: هيهات يا ابن عبّاس تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت. ولا ينقضي العجب من ابن أبي الحديد القائل بصدورها عن الإمام عليه السّلام، وتأويله لكلمات الخطبة والإصرار عليه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 214

قال: إن قيل: بيّنوا لنا ما عندكم في هذا الكلام، أليس صريحه دالّا على تظليم القوم ونسبتهم إلى اغتصاب الأمر فما قولكم في ذلك إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم، وإن لم تحكموا عليهم بذلك فقد طعنتم في المتظلّم المتكلّم عليهم.

قيل: أمّا الإماميّة من الشّيعة، فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها، وتذهب إلى أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  نصّ على أمير المؤمنين عليه السّلام، وأنّه غصب حقّه. وأمّا أصحابنا رحمهم اللَّه، فلهم أن يقولوا...-  أقول: وراح يلقّنهم ما يلفّقونه لصرف ظواهر ألفاظ الخطبة- : إنّه لمّا كان أمير المؤمنين عليه السّلام هو الأفضل والأحقّ، وعدل عنه إلى من لا يساويه في فضل، ولا يوازيه في جهاد وعلم، ولا يماثله في سؤدد وشرف-  ساغ إطلاق هذه الألفاظ، وإن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيّا، وكانت بيعته بيعة صحيحة ألا ترى أنّ البلد قد يكون فيه فقيهان، أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة، فيجعل السّلطان الأنقض علما منهما قاضيا، فيتوجّد الأعلم ويتألّم، وينفث أحيانا بالشّكوى، ولا يكون ذلك طعنا في القاضي، ولا تفسيقا له، ولا حكما منه بأنّه غير صالح، بل للعدول عن الأحقّ والأولى وهذا أمر مركوز في طباع البشر، ومجبول في أصل الغريزة والفطرة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 215

فأصحابنا رحمهم اللَّه لمّا أحسنوا الظّنّ بالصّحابة، حملوا ما وقع منهم على وجه الصّواب، وأنّهم نظروا إلى مصلحة الإسلام، وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط، بل وتفضي إلى ذهاب النّبوّة والملّة.

فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحقّ إلى فاضل آخر دونه، فعقدوا له-  احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ الصّادرة عمّن يعتقدونه في الجلالة والرّفعة قريبا من منزلة النّبوّة، فتأوّلوها بهذا التّأويل، وحملوها على التّألّم للعدول عن الأولى. ذكرت كلامه لتكون أنت الحكم فيه، وهل يسوغ البناء على أصل باطل في العقول من تأخير الفاضل عن المفضول، ثمّ التّفريع عليه أو هل للأمّة الخيرة في نصب الخليفة بعد نصّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم يوم الغدير له عليه السّلام أو يجوز حمل الخطبة على التّألّم للعدول عن الأولى، وما هو بمنزلة النّبوّة، كما اعترف بها أو من الممكن أن نصحّح عمل المفضول بتأويل القول الصّادر صريحا من الفاضل في قدحه.

فاختر ما تحبّ. والحديث ذو شجون.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 216

71-  الشّقيّ من انخدع لهواه وغروره

من خطبة له عليه السّلام، قال فيها: «السّعيد من وعظ بغيره، والشّقيّ من انخدع لهواه وغروره». تكلّمنا على الفقرة الأولى بما يغني البحث في المقام عن زيادة توضيح لأنّه كما قيل تعرف الأشياء بأضدادها. فإذا عرفت السّعيد عرفت ضدّه وهو الشّقّي. وقد حان الوفاء بما وعدناه هناك من بعض أبحاث كلاميّة: روى الشّيخ الكليني طاب ثراه بسنده الصّحيح، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام، قال: «إنّ اللَّه خلق السّعادة والشّقاوة قبل أن يخلق خلقه، فمن خلقه اللَّه سعيدا لم يبغضه أبدا، وإن عمل شرّا أبغض عمله ولم يبغضه، وإن كان شقيّا لم يحبّه أبدا، وإن عمل صالحا أحبّ عمله وأبغضه لما يصير إليه، فإذا أحبّ اللَّه شيئا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 217

لم يبغضه أبدا، وإذا أبغض شيئا لم يحبّه أبدا». تناول العلماء هذا الحديث وأشباهه الدّالّة على أنّ السّعادة والشّقاوة ليس للعباد فيهما صنع، وأنّهما مخلوقتان للَّه عزّ وجلّ، وهكذا الخير والشّرّ، والقضاء والقدر، الّتي نتيجة ذلك كلّه الجبر الباطل، وظاهر طائفة من آيات القرآن الكريم ممّا فيه الإضلال والقضاء والقدر وغيرها، وأحاديث الطّينة تولّد أصعب المسائل الكلاميّة، وهكذا من أحاديث القضاء والقدر الّتي استند القائل بالجبر بها.

و أمّا الجواب: فتارة يكون بالرّوايات المجيبة عن الإشكالات وهي كثيرة، وأخرى بكلمات العلماء، والاستدلالات العقليّة المذكورة في كتب الكلام، ونذكر هنا من النّوعين نبذا إذ الإنهاء مستدع لوضع كتاب على حده.

فمن الرّوايات الّتي بهذا الصّدد: 1-  صحيح الحلبيّ: عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ. قال: «و هم مستطيعون، يستطيعون الأخذ بما أمروا به، والتّرك لما نهوا عنه، وبذلك ابتلوا». 2-  وحديثه الآخر: قال عليه السّلام: «لا يكون العبد فاعلا ولا متحرّكا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 218

إلّا والاستطاعة معه من اللَّه عزّ وجلّ، وإنّما وقع التّكليف من اللَّه تبارك وتعالى بعد الاستطاعة، ولا يكون مكلّفا للفعل إلّا مستطيعا». 3-  وصحيحه الآخر: قال عليه السّلام: «ما أمر العباد إلّا بدون سعتهم، فكلّ شي‏ء أمر النّاس بأخذه، فهم متّسعون له، وما لا يتّسعون له فهو موضوع عنهم، ولكنّ النّاس لا خير فيهم». 4-  والرّضويّ: «يستطيع العبد بعد أربع خصال: أن يكون مخلّى السّرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح، يريد أن يزني، فلا يجد امرأة، ثمّ يجدها، فأمّا أن يعصم فيمتنع، كما امتنع يوسف عليه السّلام، أو يخلّى بينه وبين إرادته فيزني، فيسمّى زانيا، ولم يطع اللَّه بإكراه، ولم يعص بغلبة». 5-  والصّادقيّ: في قول اللَّه عزّ وجلّ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. قال: أكذبهم اللَّه عزّ وجلّ في قولهم: «لو استطعنا لخرجنا معكم»، وقد كانوا مستطيعين للخروج. 6-  والصّادقيّ الآخر: «لا يكون من العبد قبض ولا بسط إلّا باستطاعة متقدّمة للقبض والبسط». 7-  والموسويّ: قال: «مرّ أمير المؤمنين عليه السّلام بجماعة بالكوفة، وهم‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 219

يختصمون في القدر، فقال لمتكلّمهم: أبا للَّه تستطيع، أم مع اللَّه، أم من دون اللَّه فلم يدر ما يردّ عليه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّك إن زعمت أنّك باللَّه تستطيع فليس لك من الأمر شي‏ء.

 وإن زعمت أنّك مع اللَّه تستطيع، فقد زعمت أنّك شريك معه في ملكه، وإن زعمت أنّك من دون اللَّه تستطيع فقد ادّعيت الرّبوبيّة من دون اللَّه عزّ وجلّ فقال: يا أمير المؤمنين لابل باللَّه أستطيع، فقال عليه السّلام: أما إنّك لو قلت غير هذا لضربت عنقك». 8-  وصحيح ابن أبي عمير: قال: «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام عن معنى قول رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : «الشّقيّ من شقي في بطن أمّه، والسّعيد من سعد في بطن أمّه». فقال: الشّقيّ من علم اللَّه وهو في بطن أمّه أنّه يستعمل أعمال الأشقياء، والسّعيد من علم اللَّه وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال السّعداء، قلت له: فما معنى قوله-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : 9-  «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» فقال: إنّ اللَّه عزّ وجلّ خلق الجنّ والإنس ليعبدوه، ولم يخلقهم ليعصوه، وذلك قوله عزّ وجلّ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. فيسّر كلّا لما خلق له، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى».

------------------------------------------------------------------- صفحة 220

إذا كان العبد مجبورا في عمله، فلم يكن للسّعادة والشّقاوة معنى لأنّ السّعيد: الموفّق للعمل الصّالح باختياره. والشّقيّ: المخذول باختياره.

و هذه الرّوايات التّسع. أثبتت الاختيار، وعليه يكون للسّعادة والشّقاوة معنى معقول، إلّا الحديث الأوّل فإنّه لا بدّ من تأويله.

فنقول: ومن الكلمات وهي النّوع الثّاني في مقام الجواب عمّا يوهم الجبر الباطل، ما قاله المحقّق المازندرانيّ: (الإنسان عبارة عن مجموع الجوهرين: النّفس والبدن. ولكلّ واحد منهما طريقان: طريق الخير، وطريق الشّر. فطريق الخير للأوّل: العقائد الصّحيحة، والأخلاق المرضيّة، وللثّاني: هي الأعمال الحسنة، وطريق الشّرّ للأوّل، هي: العقائد الباطلة، والأخلاق الرّذيلة، وللثّاني، هي: الأعمال القبيحة.

فإن استقام هذان الجوهران في شخص دائما، كما في الأنبياء والأوصياء كان سعيدا مطلقا محبوبا للَّه تعالى دائما غير مبغوض أبدا، وإن لم يستقم شي‏ء منهما أبدا كان شقيّا مطلقا مبغوضا أبدا غير محبوب أصلا، وإن استقام الأوّل دائما دون الثّاني كان هو محبوبا دائما غير مبغوض أبدا لأنّ الجوهر الأوّل أولى بالحقيقة الإنسانيّة، بل هو الإنسان حقيقة، وكان عمله مبغوضا، وإن استقام الثّاني دائما دون الأوّل كان هو مبغوضا وعمله محبوبا. وإن استقام كلّ واحد منهما في وقت دون آخر، يعتبر حاله في الخاتمة، فإن استقاما أو استقام الأوّل وحده كان هو عند اللَّه محبوبا، وكان عمله مبغوضا، وإن استقام الثّاني، أو لم يستقم شي‏ء منهما كان هو عند اللَّه مبغوضا، وكان عمله محبوبا، وكلّما كان العمل وحده مبغوضا، أمكن أن تتداركه التّوبة أو المصيبة أو البرزخيّة أو الشّفاعة أو العفو.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 221

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ الكافر الّذي يؤمن محبوب له تعالى في علم الغيب، والمؤمن الّذي يكفر مبغوض أبدا، لا يقال: هذا ينافي قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. فإنّ هؤلاء كانوا محبوبين، ثمّ صار بعضهم مبغوضا بالنّفاق لأنّا نقول: الرّضا متعلّق بالمؤمنين، وكون هؤلاء من المؤمنين عند المبايعة ممنوع، وعلى تقدير التّسليم كان الرّضا مشروطا بالوفاء وعدم النّكث). وقال السّيّد شبّر: تطبيق هذا الحديث على قواعد العدليّة وأصول الإماميّة يقتضي أن يحمل الخلق في خلق السّعادة والشّقاوة على الخلق التّقديريّ لا التّكوينيّ، والخلق الثّاني في قوله: «قبل أن يخلق خلقه» على الخلق التّكوينيّ الموجود في الخارج، إلى آخر كلامه رحمه اللَّه. والتّأويل للظّواهر إذا لم يوافقها العقل واجب، ومنها المقام، فافهم.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 222

72-  الشّكر زينة الغنى

قال عليه السّلام: «العفاف زينة الفقر، والشّكر زينة الغنى». تكلّمنا على الفقرة الأولى. والشّكر: صرف العبد جميع ما أنعم اللَّه عليه فيما خلق من أجله، وعرّف بتعاريف، ذكرناها بالمناسبة في كتابنا (الاسم الأعظم، أو معارف البسملة والحمدلة). ويكون باللّسان والأركان والجنان: أي القلب، وهو أصل الأوّلين.

من الحكم المنسوبة إليه عليه السّلام: «ما أنعم اللَّه على عبد نعمة فشكرها بقلبه إلّا استوجب المزيد عليها، قبل ظهورها على لسانه». في ثلاثة وسبعين موضعا من القرآن الكريم تناول الشّكر ومشتقّاته الدّالّة على تعظيم المنعم منها: ما اقتصّ اللَّه عزّ وجلّ عن قول سليمان‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 223

عليه السّلام: «فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ». وقبل ارتداد الطّرف، عند ما رأى عرش بلقيس مستقرّا لديه: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ». والشّكر سبب الزّيادة، كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ». ولغيرها على ما أشير اليه في الأمثال السّائرة كما يلي: (النّعمة وحشيّة، إن شكرت قرّت، وإن كفرت فرّت). (الشّكر قيد النّعمة، ومفتاح الزّيادة، وثمن الجنّة). (من كنت طليق برّه، فلتكن أسير شكره). (النّعمة كالرّوضة، والشّكر كالزّهرة). (شكر المولى هو الأولى). (الشّكر صوان النّعمة، ومادّة الزّيادة). (الشّكر ترجمان النّيّة، ولسان الطّويّة). (الشّكر هو السّبب إلى الزّيادة، والطّريق إلى السّعادة). (اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك). (من شكر قليلا استحقّ جزيلا). (النّعمة عروس مهرها الشّكر). (إذا نزلت بك ضيفا فاجعل قراها الشّكر). (كلّ من أولي نعمة فهو عبدها حتّى يعتقد شكرها، ومن شكرها فقد استوجب مزيدها). (الشّكر أزكى مقال، ولشوارد النّعمة أوثق عقال). (الشّكر تميمة لتمام النّعمة). (إن‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 224

قصّرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشّكر). ولو عرف العبد ربّه لم يطلب سواه بشكره، وقد روي عن أهل البيت عليهم السّلام، ففي علويّ: «إنّ قوما عبدوا اللَّه رغبة، فتلك عبادة التّجّار، وإنّ قوما عبدوا اللَّه رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوما عبدوا اللَّه شكرا، فتلك عبادة الأحرار». ثمّ إنّما صار الشّكر زينة الغنى، بأيّ تفسير فسّر الغنى لأنّه جماله، كما أنّ الصّبر زينة العبادة، والحفظ زينة الرّواية، وخفض الجناح زينة العلم، وحسن الأدب زينة العقل، وبسط الوجه زينة الحلم، والإيثار زينة الزّهد، وبذل المجهود زينة المعروف، والخشوع زينة الصّلاة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 225

حرف الصّاد

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 226

73-  صاحب السّلطان كراكب الأسد

من تمثيلات الإمام عليه السّلام: «صاحب السّلطان كراكب الأسد، يغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه». قال بعض الشّرّاح: قد جاء في صحبة السّلطان أمثال حكميّة مستحسنة تناسب هذا المعنى، أو تجري مجراه، نحو قولهم: (صاحب السّلطان كراكب الأسد، يهابه النّاس، وهو لمركوبه أهيب).

(إذا صحبت السّلطان فلتكن مداراتك له مداراة المرأة القبيحة لبعلها المبغض لها فإنّها لا تدع التّصنّع له على حال). (العاقل من طلب السّلامة من عمل السّلطان) لأنّه إن عفّ جنى عليه العفاف عداوة الخاصّة، وإن بسط يده جنى عليه البسط ألسنة الرّعيّة.

------------------------------------------------------------------- صفحة 227

جاء التّحذير البالغ في أحاديثهم عليهم السّلام من الدّخول إلى دواوين الظّلمة والسّلاطين، وإعانتهم ولو بقطّ القلم، في نبويّ: «إذا كان يوم القيامة، نادى مناد: أين أعوان الظّلمة، ومن لاق لهم دواة، أو ربط كيسا، أو مدّ لهم مدّة قلم فاحشروهم معهم». إذ لا يأمن معهم من المعاصي، وقتل النّفس المحترمة، واغتصاب أموال النّاس، بل وترك جميع ما أوجبه اللَّه عزّ وجلّ، وركوب ما نهاه، ولا فرق بين العامل بالظّلم، والمعين، والرّاضي به كما في الحديث. نعم إذا قصد قضاء حوائج المؤمنين، ونجاتهم من الهلكة، جاز إلّا أن يغلب عليه، فلا يستطيع دفعا عن نفسه، فضلا عن غيره من نفوس.

و عليّ بن يقطين من النّوع الجائز.

ثمّ الإمام عليه السّلام أراد من التّمثيل براكب الأسد: خطورة الأمر، حيث لا يأمن راكبه من الهلاك، ولعلّه يعمّ كلّ متسلّط لم يقيّده الإيمان، ومقتدر وإن لم يكن بسلطان.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 228

74-  صاحبها كراكب الصّعبة

فقرة تمثيليّة أخرى من الخطبة الشّقشقيّة، قال عليه السّلام: «فصاحبها كراكب الصّعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم». قال المعتزليّ: والصّعبة من النّوق: ما لم تركب ولم ترض، إن أشنق لها راكبها بالزّمام خرم أنفها، وإن أسلس زمامها تقحّم في المهالك، فألقته في مهواة أو ماء أو نار، أو ندّت فلم تقف حتّى ترديه عنها فهلك. وأشنق الرّجل ناقته، إذا كفّها بالزّمام وهو راكبها. واللّغة المشهورة (شنق) ثلاثيّة. وأشنق البعير نفسه، إذا رفع رأسه.. وأصله من الشّناق: وهو خيط يشدّ به فم القربة.

و قال الرّضيّ أبو الحسن رحمه اللَّه تعالى: إنّما قال عليه السّلام: «أشنق لها»، ولم يقل: (أشنقها) لأنّه جعل ذلك في مقابلة قوله: «أسلس لها»، وهذا حسن فإنّهم إذا قصدوا الازدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا، قالوا: الغدايا والعشايا، والأصل الغدوات جمع غدوة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 229

و قال صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم- : «ارجعن مأزورات غير مأجورات»، وأصله (موزورات) بالواو لأنّه من الوزر... وقال الرّضيّ رحمه اللَّه تعالى أيضا: ويروى أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  خطب النّاس، وهو على ناقة قد شنق لها، وهي تقصع بجرّتها... الجرّة: ما يعلو من الجوف وتجرّه الإبل. قد طمع في الخلافة من لا يصلح لها، وإنّما هي لأهلها، وليس إلّا أمير المؤمنين عليه السّلام، وحيث عدلت عنه، أصبح موقفه منها حرجا، فإن أخذها قسرا، قالوا: إنّه عليه السّلام دنياويّ، مضافا إلى إراقة الدّماء، وإن صبر عنها، قالوا: إنّه عاجز، علاوة على تهمة الوفاق والرّضا بمن عدلت إليه. فحاله كما مثّل عليه السّلام براكب الصّعبة، إن كفّها شقّ أنفها، وإن أرخى زمامها هلكت وأهلكت، وكما قال عليه السّلام: «فمني النّاس لعمر اللَّه بخبط وشماس، وتلوّن واعتراض، فصبرت على طول المدّة، وشدّة المحنة». وقال قبل هذه الفقرات ما يكشف عن صعوبة الأمر، وهو عليه السّلام قد اختار الصبر فيها: «فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصّغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه، فرأيت أنّ الصّبر على‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 230

هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا...». ولن تجد من يكشف عن حقيقة الأمر الّذي كان فيه كنفسه الشّريفة، فهو أدرى بحاله من غيره، فلو كان بيان أجلى للكشف، لذكره.

و اللَّه جلّ جلاله ورسوله صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم يعلم عظم ما هو فيه، وهو «أوّل مظلوم، وأوّل من غصب حقّه». على وجه الأرض.

75-  صال الدّهر صيال السّبع العقور

كلمة تمثيليّة من خطبة الإمام عليه السّلام في الملاحم المشتملة على الحوادث الواقعة بعده، روحي فداه: «... فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطّاغية، وقلّت الدّاعية، وصال الدّهر صيال السّبع العقور......». «ركب الجهل مراكبه» عدّدناه من الأمثال فراجع.

------------------------------------------------------------------- صفحة 231

وصال، أصله الصّاد والواو واللّام، يدلّ على قهر وعلوّ. يقال: صال عليه يصول صولة، إذا استطال. وسطو وحمل ووثوب، ومنه: «ربّ قول أنفذ من صول». والدّعاء: «اللّهمّ بك أحول، وبك أصول». والصّيال: المصاولة من باب المفاعلة، التّصاول التّفاعل، ومنه الحديث: «إنّ هذين الحيّين من الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم تصاول الفحلين»: أي لا يفعل أحدهما معه شيئا إلّا فعل الآخر معه شيئا مثله. والسّبع والسّباع: الأسد والذّئاب والكلاب والنّمور وغيرها، والسّبع بمعنى: العدد وغيره. والعقور جاء في الحديث: «خمس يقتلن في الحلّ والحرم، وعدّمنها الكلب العقور»، وهو كلّ سبع يعقر: أي يجرح ويقتل ويفترس، كالأسد والنّمر والذّئب، سمّاها كلبا لاشتراكها في السّبعيّة.

و العقور من أبنية المبالغة. ومنه قوله عليه السّلام نقلا عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم: «إيّاكم والمثلة، ولو بالكلب العقور». ثمّ الكلام متّصل بما قبله الّذي لم نذكره هنا، وهو قوله عليه السّلام: «راية ضلال قد قامت على قطبها وتفرّقت بشعبها...» إلى أن يتّصل إلى المذكور هنا، وفي ارتباطه بحث لا يليق بالمقام.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 232

و المراد من صول الدّهر: أهل ذلك الزّمان من السّلاطين والحكّام الجائرة، بل أكثر أفراد النّاس يكونون سباعا ضاربة، يهرّ بعضها على بعض، والمؤمن فيهم كالشّاة الّتي احتوشتها الذّئاب والسّباع، فهل تسلم منها ولعلّ المثل النّبويّ: «من لم يكن ذئبا أكلته الذّئاب»، بعد قوله صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم: «يأتي على النّاس زمان، يكون النّاس فيه ذئابا» ناظر إليه.

و الإمام عليه السّلام علمه مستقى من عين النّبوّة الصّافية، وكذلك علوم أهل البيت عليهم السّلام، والكلّ مجراه من علم الرّحمن. قال السّيّد الأمين:

         هم أبحر العلم الّتي ما شانها            كدر ومجراها من الرّحمن.

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 233

76-  صنائع المعروف تقي مصارع الهوان

إحدى فقرات خطبة له عليه السّلام، أوّلها: «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللَّه سبحانه وتعالى، الإيمان به وبرسوله-  إلى أن قال عليه السّلام:-  وصنائع المعروف، فإنّها تقي مصارع الهوان». وهذا منطبق تماما على المثل المعروف: (اصطناع المعروف يقي مصارع السّوء).

قال الميدانيّ بعد المثل السّائر: يقال: صنع معروفا واصطنع كذلك في المعنى: أي فعل المعروف في أهله، يقي فاعله الوقوع في السّوء.

 ورواه غيره بلفظ: (صنائع المعروف تقي مصارع الحتوف). والكلّ متواطئ المعنى. وفسّر: كأسر الرّوم للمسلم، أو كأخذ الظّلمة لغير المستحقّ للأخذ.

------------------------------------------------------------------- صفحة 234

و قيل في المعروف والصّنيعة: المعروف حصن النّعم من صروف الزّمن. المعروف رقّ، والمكافأة عنه عتق. المعروف كنز لا تأكله النّار.

زكاة النّعم اتّخاذ الصّنائع. الصنائع ودائع الأيادي قروض. إنّما سمّي المعروف معروفا لأنّ الكرام عرفت فضله فأتته. في كلّ شي‏ء سرف إلّا في المعروف. نعم العدّة عند الحاجة إسلاف الصّنيعة. أهنأ المعروف أعجله.

أهنأ المعروف ما لا تبتذل فيه الوجوه. خير المعروف ما لا يتقدّمه مطل، ولم يتبعه منّ. للجواد الحازم كنز في الآخرة من عمله، وكنز في الدّنيا من معروفه. جود المقلّ من القليل. الجواد من يفيض من غيض. إنّ جود المقلّ غير قليل. لا تستحي من القليل، فإنّ الحرمان أقلّ منه. والمعروف: اسم جامع لكلّ ما عرف من طاعة اللَّه، والتّقرّب إليه، والإحسان إلى النّاس، وكلّ ما ندب إليه الشّرع، ونهى عنه، من المحسّنات والمقبّحات. وهو من الصّفات الغالبة: أي أمر معروف بين النّاس، إذا رأوه لا ينكرونه. والمعروف: النّصفة وحسن الصّحبة مع الأهل وغيرهم من النّاس. والمنكر: ضدّ ذلك جميعه. ومنه الحديث: «أهل المعروف في الدّنيا هم أهل المعروف في الآخرة»: أي من بذل معروفه للنّاس في الدّنيا آتاه اللَّه جزاء معروفه في الآخرة. وقد تناول القرآن الكريم المعروف في تسعة وثلاثين موضعا، نادبا إليه صراحة وفحوى. وفي زيارة الإمام المنتظر عجّل اللَّه فرجه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 235

الشّريف: «المعروف ما أمرتم به، والمنكر ما نهيتم عنه»: أي الأئمّة عليهم السّلام.

و المعروف كاسمه معروف، كما تقدّم بيانه، يعرفه الكلّ. والصّنائع واحدها الصّنيعة، لا ينبغي تركها لقلّتها أو حياء أو غيرها، كما قال القائل:

         افعل الخير ما استطعت وإن            كان قليلا فلن تحيط بكلّه‏

         ومتى تفعل الكثير من الخير            إذا كنت تاركا لأقلّه‏

         ليس جود الجواد من فضل مال          إنّما الجود للمقلّ المواسي‏

         بثّ النّوال ولا تمنعك قلّته              فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود

 

و في نبويّ: «إنّ للجنّة بابا، يقال له: باب المعروف، لا يدخله إلّا أهل المعروف». وروي: «اصطنع المعروف إلى أهله، وإلى غير أهله، فإن لم يكن من أهله فكن أنت من أهله». و

 

روي: «لا يتمّ المعروف إلّا بثلاث خصال: تعجيله، وتصغيره، وستره فإذا عجّلته هنأته، وإذا صغّرته عظّمته، وإذا سترته أتممته». وعن الباقر عليه السّلام: «صنائع المعروف تقي مصارع السّوء، وكلّ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 236

معروف صدقة، وأهل المعروف في الدّنيا أهل المعروف في الآخرة». قاله عليه السّلام تفسيرا لقوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ.

77-  الصّورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان

كلمة جارية على الألسن، قالها أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له، يصف طوائف، منها: «و آخر قد تسمّى عالما، ليس به، فاقتبس جهائل من جهّال، وأضاليل من ضلّال، ونصب للنّاس أشراكا من حبائل غرور، وقول زور، وقد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحقّ على أهوائه، يؤمّن النّاس من العظائم، ويهوّن كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشّبهات-  وفيها وقع، ويقول: اعتزل البدع وبينها اضطجع-  فالصّورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان......». قال المعتزليّ: وقوله: «فالصّورة صورة إنسان...»، فمراده بالحيوان ههنا: الحيوان الأخرس، الحمار والثّور، وليس يريد العموم لأنّ الإنسان داخل في الحيوان، وهذا مثل قوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 237

بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. وقال الشّاعر:

         وكائن ترى من صامت لك معجب          زيادته أو نقصه في التّكلّم‏

         لسان الفتى نصف ونصف فؤاده            فلم يبق إلّا صورة اللّحم والدّم

 

و لعلّ قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، يشمل مجي‏ء طائفة من النّاس يوم القيامة على صورة الوحوش والسّباع لما كانوا يزاولون من صفاتها وغرائزها الحيوانيّة الّتي كانت في الدّنيا مختفية عن الأنظار، فكشف عنها الغطاء، وأبليت سرائرهم على حدّ تعبير القرآن الكريم: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. فالسّلاطين سباع في الحقيقة يوم يقوم الأشهاد، وإن كانوا اليوم بصورة الأناسيّ، والكفّار بهائم، والفسّاق أحمرة والمنافقون يرابيع، والملحدون دوابّ، والجاحدون خنازير، وأهل الدّنيا كلاب، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «فإنّما أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية». فكلّ من اختصل بخصلة تخصّ حيوانا، مهما كان شكله واسمه، فهو هو، وإن لم يسمّ باسمه، فالحريص نمل، يأتي يوم الحشر الأكبر على صورته، والشّهويّ خنزير، والغضوب سبع، وهكذا من بقيّة الخصال غير الإنسانيّة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 238

كما إذا انعكس انعكس، مثل من بلغ في العفّة عن الشّهوات الغاية من التّعفّف، كاد أن يكون ملكا كريما. قال تعالى فيما اقتصّ عن امرأة عزيز مصر: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.: أي يوسف عليه السّلام بلغ من عفّته مبلغ الملائكة. وقد قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «كاد العفيف أن يكون ملكا من الملائكة». حتّى أنّ العادة قاضية من أكثر من شي‏ء تجسّد فيه ذلك الشّي‏ء، حتّى كأنّه هو، والّذي يعدل في كلّ شي‏ء يقال له: العدل وأنّه عينه.

فالخصال سواء فيها الفضائل والرّذائل، تجعل أصحابها إذا استحكمت فيهم، وصدرت آثارها بكثرة، كأنّهم هي، توسّعا أو حقيقة، وتجري عليهم أسماؤها اليوم، وحقائقها في المحشر.

و إنّ من عباد اللَّه قوما استنارت أبصارهم وبصائرهم بأنوار اللَّه ومعرفته، يعرفونهم بسيماهم وفي لحن القول وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وتفسير المتوسّم بالمعصوم عليه السّلام تفسير بأجلى مظاهره، وإلّا فقد جاء: «اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللَّه». وهم الأقلّون عددا.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 239

حرف الضّاد

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 240

78-  ضاق المخرج، وعمي المصدر

من خطبة سبق التّكلّم عليها حول المثل: «اختلف النّجر، وتشتّت الأمر»، أوّلها: «أحمده استتماما لنعمه، واستسلاما لعزّته، واستعصاما من معصيته... وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، أرسله بالدّين المشهور... والنّاس في فتن، انجذم فيها حبل الدّين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النّجر، وتشتّت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر...». مثل من أمثال سائرة، يضرب للشّدّة، أو هو صالح لذلك. بيان منه عليه السّلام لما عليه النّاس قبل ظهور الدّين، ومجي‏ء الرّسول الأمين، والقرآن النّور السّاطع، والضّياء اللّامع، أضاء العالم بنوره، وأزاح الفتن الدّامسة، وظلمة الجهالة الجاهليّة، ظلّلتهم الضّلالات.

قالت فاطمة الزّهراء عليها السّلام في خطبتها: وَكُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ. مذقة الشّارب، ونهزة

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 241

الطّامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام. تشربون الطّرق، وتقتاتون القدّ، تخافون أن يتخطّفكم النّاس من حولكم، فأنقذكم اللَّه تبارك وتعالى بمحمّد-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  بعد اللّتيا والّتي، وبعد أن مني ببهم الرّجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ. أو نجم قرن الشّيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها. فلا ينكفئ حتّى يطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهيبها بسيفه، مكدودا في ذات اللَّه، مجتهدا في أمر اللَّه، قريبا من رسول اللَّه...». ونظير المثل المثل القرآني: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 242

رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ. قال الفيض الكاشانيّ عند صدر الآية: أي مع سعتها، وهو مثل لحيرتهم في أمرهم، كأنّهم لا يجدون في الأرض موضع قرار. وعند بعضها الآخر: أي قلوبهم من فرط الوحشة والغمّ. وتخصّ الآية، الثّلاثة الّذين خلّفوا في الأرض، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الرّبيع، وهلال بن أميّة تخلّفوا عن غزوة تبوك عن أمر الرّسول صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، حتّى هجرهم المسلمون، حتّى أزواجهم، فتابوا، فتاب اللَّه عليهم.

و الحاصل أنّ كلام الإمام عليه السّلام يتبع المثل القرآنيّ في ضربه للشّدّة والحيرة.

و المراد بقوله عليه السّلام: (عمي المصدر)، يتجلّى بما بعده: «فالهدى خامل، والعمى شامل، عصي الرّحمن، ونصر الشّيطان، وخذل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكّرت معالمه».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 243

79-  ضحّ رويدا

من أمثال سائرة يستعمل للرّفق، وترك العجلة، جاء في كلام له عليه السّلام لابن عبّاس: «... وأقسم باللَّه ربّ العالمين، ما يسرّني أنّ ما أخذته من أموالهم حلال لي، أتركه ميراثا لمن بعدي، فضحّ رويدا، فكأنك قد بلغت المدى، ودفنت تحت الثّرى، وعرضت عليك أعمالك بالمحلّ الّذي ينادي الظّالم فيه بالحسرة...». قال الشّارح: (فضحّ رويدا) كلمة تقال لمن يؤمر بالتّؤدة والأناة والسّكون. وأصلها، الرّجل يطعم إبله ضحى، ويسيّرها مسرعا ليسير، فلا يشبعها، فيقال له: (ضحّ رويدا). قال الزّمخشريّ: (ضحّ رويدا): أي ترفّق ولا تعجل، وأصله أنّ الأعراب في باديتها تسير بالظّعن، فإذا عثرت على لمع من العشب قالت ذلك، وغرضها أن يرعى الإبل الضّحى قليلا قليلا، وهي سائرة حتّى‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 244

إذا بلغت مقصدها شبعت. فلمّا كان من التّرفّق في هذا توسّعوا، فقالوا: في كلّ موضع (ضحّ)، بمعنى: ارفق، والأصل ذاك. قال زيد الخيل:

         فلو أنّ نصرا أصلحت ذات بينها            لضحّت رويدا عن مطالبها عمرو

 

و غرض الإمام عليه السّلام من الأمر بالتّرفّق، أن ينبّه ابن عبّاس مغبّة الخيانة، ولا بدّ من الدّخول في القبر، والحشر والعرض على اللَّه بالأعمال، يوم ينادي الظّالم بالحسرة، ويعضّ على يده، وينادي بالويل والثّبور. والأمر أفظع من ذلك فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 245

حرف الطّاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 246

80-  الطّريق الوسطى هي الجادّة

في خطبة خطبها أمير المؤمنين عليه السّلام بالمدينة، لمّا بويع بالخلافة: «اليمين والشّمال مضلّة، والطّريق الوسطى هي الجادّة». قد تكلّمنا على «اليمين والشّمال مضلّة» المثل السّائر، أو صالح لأن يكون مثلا سائرا، ومنه يعلم قوله عليه السّلام: «الطّريق الوسطى هي الجادّة» بالمقابلة معه.

و قد كرّر التّرغيب على الأخذ بالوسط، ومنه الحديث النّبويّ: «خير الأمور أوسطها». الأمور جمع الأمر بمعنى: الشّي‏ء وأمّا بمعنى الطّلب فجمعه الأوامر.

و قبل كلّ شي‏ء القرآن الكريم، قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.

------------------------------------------------------------------- صفحة 247

قيل: أي خيارا، وقيل للخيار: وسط لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأعوار والأوساط محميّة محوّطة. ومنه قول الطّائي:

         كانت هي الوسط المحمّي فاكتنفت            بها الحوادث حتّى أصبحت طرفا

 

 

 

عن الصّادق عليه السّلام قال: «ظننت أنّ اللَّه-  تعالى-  عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين أفترى انّ من لا تجوز شهادته في الدّنيا على صاع من تمر، يطلب اللَّه شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية كلّا لم يعن اللَّه مثل هذا من خلقه، يعني الأمّة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم عليه السّلام: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. وهم الأمّة الوسطى، وهم خير أمّة أخرجت للنّاس. والأخبار كثيرة أنّها نزلت في الأئمّة عليهم السّلام، والجمهور فسّروها بغير ذلك. ففي الكشّاف: أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب اللَّه الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلّغوا، وهو أعلم، فيؤتى بأمّة محمّد-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  فيشهدون، فتقول الأمم: من أين عرفتم فيقولون: علمنا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 248

ذلك بإخبار اللَّه في كتابه النّاطق على نبيّه الصّادق، فيؤتى بمحمّد-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  فيسأل عن حال أمّته، فيزكّيهم ويشهد بعد التهم وذلك قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً. أقول: كيف يشهد صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم بعدالة أمّة قتلت ابن بنته الحسين بن عليّ عليهم السّلام مع ولده وأصحابه في أرض كربلاء، وقد صنعت ما صنعت قبل حادثة كربلاء وبعدها. وعليه فالحديث كما ترى لا يصلح لتفسير الآية به، ولا بغيره لمطلق الأمّة، بل المراد بها: الأئمّة المعصومون-  عليهم السّلام-  الجائزة شهادتهم على الإطلاق، لا الأمّة الّتي يقع منها الخطأ.

و عن الباقر عليه السّلام: «نحن الأمّة الوسط، ونحن شهداء اللَّه على خلقه، وحججه في أرضه وسمائه». وعبّر عنهم عليهم السّلام في أحاديثهم بالنّمرقة الوسطى، ونمط الحجاز، فمن الحكم العلويّة: «نحن النّمرقة الوسطى الّتي يلحق بها التّالي، وإليها يرجع الغالي». وعن الباقر عليه السّلام: «نحن نمط الحجاز. قيل: وما نمط الحجاز

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 249

قال: أوسط الأنماط، إنّ اللَّه يقول: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. قال: «إِلينا يرجع الغالي، وبنا يلحق المُقصّر». إنّ كلّ فضيلة مجنّحة بطرفين معدودين من الرّذائل، قاله المعتزليّ في كلام له: النّمرق والنّمرقة بالضّم فيهما: وسادة صغيرة ويجوز النّمرقة بالكسر فيهما ويقال للطّنفسة فوق الرّحل: نمرقة. والمعنى: أنّ كلّ فضيلة فإنّها مجنّحة بطرفين معدودين من الرّذائل، كما أوضحناه آنفا.

و المراد أنّ آل محمّد عليه وعليهم السّلام هم الأمر المتوسّط بين الطّرفين المذمومين، فكلّ من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم، وكلّ من قصّر عنهم فالواجب أن يلحق بهم. وللوسطى مصاديق أخر ومنها: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى‏. وهي الظّهر. وقيل: غيره.

------------------------------------------------------------------- صفحة 250

و الوسط محبوب، وسواه ضلال، ومنه: «اليمين والشّمال مضلّة».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 251

حرف الظّاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 252

81-  ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه

من حكمه عليه السّلام: «ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه». قال الشّارح المعتزليّ: قال زهير بن أبي سلمى:

         ومهما تكن عند امرئ من خليقة            وإن خالها تخفى على النّاس تعلم‏

 

و قال آخر:

         وفي عينيك ترجمة أراها          تدلّ على الضّغائن والحقود

         وأخلاق عهدت اللّين فيها         غدت وكأنّها زبر الحديد

         وقد عاهد تني بخلاف هذا        وقال اللَّه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

 

و كان يقال: العين والوجه واللّسان أصحاب أخبار على القلب.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 253

و قالوا: القلوب كالمرايا المتقابلة، إذا ارتسمت في إحداهنّ صورة ظهرت في الأخرى، إشارة إلى أوّل آية من سورة المائدة.

و من المثل السّائر المولّد: (غشّ القلوب يظهر في فلتات الألسن وصفحات الوجوه). إنّ الّذين يتفرّسون الحقائق من صفحات الوجوه وفلتات الألسن، على قسمين: الأوّل: هم المؤمنون ينظرون بنور الإيمان يشير إليه الحديث النّبويّ: «اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللَّه». وفي مقدّمتهم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام.

فسّرت الآية: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ بهم كما في صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «هم الأئمّة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم- : اتقوا...». إلى آخر الحديث المتقدّم.

تطبيق المؤمن عليهم عليهم السّلام من باب أظهر أفراد المؤمنين، بل‏

------------------------------------------------------------------- صفحة 254

هم أئمّتهم، وعلومهم مشتقّة من علم النّبيّ الأعظم صلّى اللَّه عليهم وسلّم، وهو من اللَّه عزّ وجلّ، كما أنشده السّيّد الأمين طاب ثراه:

         هم أبحر العلم الّتي ما شانها            كدر ومجراها من الرّحمن

 

و القسم الثّاني: هو فنّ حاصل عند أرباب التّجارب والذّكاء، يستدلّون على أمور تخفى بما في الوجوه والأعضاء. ربّ طرف أفصح من لسان.

         إن كاتمونا القلى نمّت عيونهم            والعين تظهر ما في القلب أو تصف‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 255

حرف العين

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 256

82-  العالم من عرف قدره

في خطبة له عليه السّلام: «العالم من عرف قدره، وكفى بالمرء جهلا ألّا يعرف قدره......». تقدّم البحث المشبع حول المثل: «كفى بالمرء جهلا ألّا يعرف قدره». قال المعتزليّ: قوله عليه السّلام: «العالم من عرف قدره»، من الأمثال المشهورة عنه عليه السّلام، وقد قال النّاس بعده في ذلك، فأكثروا، نحو قولهم: إذا جهلت قدر نفسك، فأنت لقدر غيرك أجهل. ونحو قولهم: من لم يعرف قدر نفسه، فالنّاس أعذر منه إذا لم يعرفوه، ونحو قول الشّاعر أبي الطّيّب:

         ومن جهلت نفسه قدره            رأى غيره منه ما لا يرى‏

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 257

ثمّ عبّر عن هذا المعنى بعبارة أخرى، فصارت مثلا أيضا: وهي قوله-  عليه السّلام- : «كفى بالمرء جهلا ألّا يعرف قدره». ومن الكلام المرويّ عن أبي عبد اللَّه الصّادق عليه السّلام مرفوعا: «ما هلك امروء عرف قدره». رواه أبو العبّاس المبرّد في الكامل، قال: ثمّ قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: «و ما أخال رجلا يرفع نفسه فوق قدرها إلّا من خلل في عقله». قد عرفت أنّ عامر الشّعبيّ عدّ المثل: «ما هلك امروء عرف قدره». من كلمات أمير المؤمنين عليه السّلام التّسع.

قال الشّارح إثر ما تقدّم: وروى صاحب الكامل أيضا عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «لمّا حضرت الوفاة عليّ بن الحسين-  عليهما السّلام-  أبي، ضمّني إلى صدره، ثمّ قال: يا بنيّ أوصيك بما أوصاني به أبي يوم قتل، وبما ذكر لي: أنّ أباه عليّا عليه السّلام أوصاه يا بنيّ: عليك ببذل نفسك فإنّه لا يسرّ أباك بذلّ نفسه حمر النّعم. وكان يقال: من عرف قدره استراح». وفي الحديث المرفوع: «ما رفع أمروء نفسه في الدّنيا درجة، إلّا حطّه اللَّه تعالى في الآخرة درجات». وكان يقال: من رضي عن نفسه كثر السّاخطون عليه

------------------------------------------------------------------- صفحة 258

و نحن قلنا في تفسير معرفة قدر المرء بالقياس إلى الفراغ الموجود في وجوده الّذي لا يسدّه شي‏ء إلّا اللَّه عزّ وجلّ، وهذه منزلة رفيعة لا أرفع منها. نعم إذا أخذنا بالاعتبار الاجتماعي جاء التّفسير المنقول والأولى القول بكلا التّفسيرين.

83-  عالمها ملجم وجاهلها مكرم

قوله عليه السّلام: «عالمها ملجم وجاهلها مكرم» من خطبة أوّلها: «أحمد استتماما لنعمته» مترسّلة إلى قوله عليه السّلام: «أطاعوا الشّيطان فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، بهم سادت أعلامه وقام لواؤه. في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون، في خير دار، وشرّ جيران، نومهم سهود وكحلهم دموع، بأرض عالمها ملجم، وجاهلها مكرم». إنّما كرّرناه هنا وقد ذكرناه مرّة عند المثل: «خير دار وشرّ جيران»، وأخرى عند أمثال مأخوذة من نفس الخطبة، فراجع.

 لتربط آخر قوله عليه السّلام المبحوث في المقام بأوّله.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 259

اللّجام: ما يوضع في فم الفرس، يقال: ألجمت الفرس إلجاما: أي جعلت اللّجام في فمه، قيل: هو عربيّ، وقيل: معرّب، والجمع لجم. «من سئل عمّا يعلمه فكتمه، ألجمه اللَّه بلجام من نار يوم القيامة». والممسك عن الكلام ممثّل بمن ألجم نفسه بلجام. والمراد بالعلم: ما يلزمه تعليمه، ويتعيّن عليه إظهاره، كمن يرى رجلا حديث عهد بالإسلام، ولا يحسن الصّلاة وقد حضر وقتها، فيقول: علّموني كيف أصلّي، وكمن جاء مستفتيا في حلال أو حرام فإنّه يلزم في هذا وأمثاله تعريف الجواب، ومن منعه استحقّ الوعيد. وأمّا المراد من قول الإمام عليه السّلام: «بأرض عالمها ملجم، وجاهلها مكرم»، فحالة التّقيّة والخوف من إظهار الحقّ، وهذا بخلاف الحديث المتقدّم، حيث المانع من قبل الكاتم مع وجود القابل لو أظهر الحقّ، فلو لم يظهره ألجم بلجام من النّار. نعم إنّ المؤمن ملجم لا يستطيع إظهار كلّ شي‏ء، بل الأحكام الخمسة جارية فيه من وجوب الإظهار وحرامه ومكروهه وندبه وإباحته، وهي في كلّ أمر قابل للقسمة إليها.

و أمّا قوله عليه السّلام: «و جاهلها مكرم»، فهذا إذا ضاع العالم بين النّاس، وقد تغلّب الجهل عليهم وساد، فلا يقيمون للعلم وزنا ومن ثمّ يموت العلم بموت حامله كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام في كلام له: «كذلك يموت العلم بموت حامليه...». وتظهر البدع فوجب على‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 260

العالم إظهار علمه على ما نصّ في النّبويّ: «إذا ظهرت البدع في أمّتي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللَّه». إلّا أن يلجمه صاحبه، كما في فرض كلام الإمام عليه السّلام.

 

ثمّ الكلام العلويّ صالح للتّمثّل به فيما يناسبه، وإن لم يكن مثلا.

84-  العفاف زينة الفقر

قال عليه السّلام: «العفاف زينة الفقر، والشّكر زينة الغنى». العفاف هنا: التّعفّف عن السّؤال بإظهار الغنى.

و آية: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وإن نزلت في أصحاب الصّفة، وهم نحو أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، إلّا أنّها تعمّ غيرهم أيضا.

قال بعضهم: وقفت على كنيف، وفي أسفله كنّاف، وهو ينشد:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 261

 

         وأكرم نفسي عن أمور كثيرة            ألا إنّ إكرام النّفوس من العقل‏

         وأبخل بالفضل المبين على الألى       رأيتهم لا يكرمون ذوي الفضل‏

         وما شانني كنس الكنيف وإنّما          يشين الفتى أن يجتدي نائل النّذل‏

         وأقبح ممّا بي وقوفي مؤمّلا             نوال فتى مثلي وأيّ فتى مثلي

 

و من أمثالهم المشهورة: (تجوع الحرّة، ولا تأكل بثدييها): أي لا تكون ظئرا، وإن آذاها الجوع. عن الصّادق عليه السّلام قال: «شيعتنا من لا يسأل النّاس، ولو مات جوعا». وعنه عليه السّلام أيضا: «لو يعلم السّائل ما عليه من الوزر ما سأل أحد أحدا، ولو يعلم المسئول ما عليه إذا منع ما منع أحد أحدا». وحديث باقريّ: «اليأس ممّا في أيدي النّاس عزّ للمؤمن في دينه. أو ما سمعت قول حاتم:

         إذا ما عزمت اليأس ألفيته الغنى            إذا عرفته النّفس والطّمع الفقر».

 

و صادقيّ: «ثلاثة هنّ فخر المؤمن، وزينة في الدّنيا والآخرة: الصّلاة

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 262

في آخر اللّيل، ويأسه ممّا في أيدي النّاس، وولاية الإمام من آل محمّد-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- ». ونبويّ: «ازهد في الدّنيا يحبّك اللَّه، وازهد فيما أيدي النّاس يحبّك النّاس». وأنشد الأصمعيّ لبعضهم:

         أقسم باللَّه لمصّ النّوى           وشرب ماء القلب المالحه‏

         أحسن بالإنسان من ذلّه           ومن سؤال الأوجه الكالحه‏

         فاستغن باللَّه تكن ذا غنى         مغتبطا بالصّفقة الرّابحه‏

         طوبى لمن تصبح ميزانه         يوم يلاقي ربّه راجحه

 

العفاف سبب القناعة بالقليل، وتعويد النّفس به، وقد قيل: أبرع بيت قالته العرب بيت أبي ذؤيب الهذليّ:

         والنّفس راغبة إذا رغّبتها            وإذا تردّ إلى قليل تقنع‏

 

و كان يقال: أنت أخو العزّ ما التحفت القناعة، ويقال: اليأس حرّ، والرّجاء عبد. وقال بعض المفسّرين في قول اللَّه عزّ وجلّ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً. قال: بالقناعة. وقال أبو العتاهية:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 263

 

         إن كان لا يغنيك ما يكفيكا            فكلّ ما في الأرض لا يغنيكا.

 

85-  على أثر الماضي ما يمضي الباقي

من خطبة له عليه السّلام: «... أو لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، وإلى الخلف الباقين لا يبقون أولستم ترون أهل الدّنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتّى: فميّت يبكى، وآخر يعزّى، وصريع مبتلى، وعائد يعود، وآخر بنفسه يجود، وطالب للدّنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي». كالقطار يتبع بعضه بعضا في السّير.

قيل: (ما) في (ما يمضي الباقي) زائدة: أي على أثر الماضي يمضي الباقي وهو صالح للمثل، إن لم يكن مثلا.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 264

قسّم عليه السّلام النّاس إلى سبعة أقسام: ميّت يبكي عليه أهله، ومعزّى يسلّيه أصحابه، ومريض يعالج مرضه، وعائد المرضى، ومحتضر يجود بنفسه، وفي حين ما يطلبون الدّنيا ولذّاتها، الموت في طلبهم، واللَّه عزّ وجلّ يرقب الغافل وهو له بالمرصاد. طبّق ولا حرج على نفسك، إنّهم لا يخلون منك وأنت منهم لا محالة.

و ربّما مات ميّت ولا باك له، إمّا لانقراض ذويه، أو مات في دار غربة إذ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ. أو لا أحد له فيعزّى بموته.

و أمّا سكرة الموت فالكلّ لها ذائقون، كائنا من كان لا يحيدون عنها: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ. ومن استطاع أن يفرّ من الموت فليفرّ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. واقع في قبضته كغيره، كما قال عزّ وجلّ مخاطبا لنبيّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. وماض على أثر الماضين: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.

------------------------------------------------------------------- صفحة 265

 

         وهنّ المنايا أيّ واد سلكته           عليها طريقي أو عليّ طريقها

         فقد آذنتني بانقطاع وفرقة           وأو مض لي من كلّ أفق بروقها

         وترمي قساوات القلوب بأسهم       وجمر فراق لا يبوخ حريقها

 

ثمّ قال السّجاد عليه السّلام: «فانظر بعين قلبك إلى مصارع أهل البذخ، وتأمّل معاقل الملوك ومصانع الجبّارين، وكيف عركتهم الدّنيا بكلا كل الفناء». (النّاس نقائع الموت). النّقيعة من الإبل: ما يجزر من النّهب قبل القسم. يعني أنّ الموت يجزر الخلق. وفي أبيات الإمام الهادي عليه السّلام في مجلس المتوكّل العباسيّ من العظة البالغة للمؤمنين وغيرهم، ممّن كان له قلب، أو من رام التّجافي عن دار الغرور.

«... كان المتوكّل جالسا في مجلس الشّرب، فدخل-  الإمام عليه السّلام-  عليه، والكأس في يد المتوكّل، فلمّا رآه هابه وعظّمه، وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التّي كانت في يده، فقال: واللَّه ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني، فأعفاه، فقال: أنشدني شعرا، فقال‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 266

عليه السّلام: إنّي قليل الرّواية للشّعر، فقال: لا بدّ، فأنشده عليه السّلام وهو جالس عنده:

         باتوا على قلل الأجبال تحرسهم         غلب الرّجال فلم تنفعهم القلل‏

         واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم          وأسكنوا حفرا يا بئسما نزلوا

         ناداهم صارخ من بعد دفنهم            أين الأساور والتّيجان والحلل‏

         أين الوجوه الّتي كانت منعّمة           من دونها تضرب الأستار والكلل‏

         فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم         تلك الوجوه عليها الدّود تقتتل‏

         قد طال ما أكلوا دهرا وقد شربوا      وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

 

».86-  على ذلك نسلت القرون

كلمة مقولة لاستدامة الشّي‏ء واستمراره، وقد طبّقها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام على تواتر الرّسل، وإنزال الكتب والشّرائع السّماويّة لهداية الخلق، منذ البدء إلى أن اتّصلت بشريعة المصطفى صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم. حيث قال عليه السّلام: «و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء، أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرّسالة أمانتهم...-  إلى أن قال عليه السّلام:-  لى ذلك نسلت‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 267

القرون، ومضت الدّهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث اللَّه سبحانه محمّدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  لإنجاز عدته، وتمام نبوّته، مأخوذا على النّبيّين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده......». قال ابن فارس: النّسل: الولد لأنّه ينسل من والدته، ومنه النّسلان: مشية الذّئب إذا أعنق وأسرع. والماشي ينسل إذا أسرع. قال اللَّه عزّ وعلا: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وقد أنسلت الإبل، حان لها أن تنسل وبرها. ونسل الثّوب عن الرّجل: سقط. أقول: من معنى الإسراع قوله تعالى: إِلى‏ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قال الشّيخ الطّريحيّ: قوله عزّ وجلّ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى‏ [20 51]: أي ما حال الأمم الماضية وشأنهم في السّعادة والشّقاوة والقرن: أهل زمان واحد. قال شاعرهم:

         إذا ذهب القرن الّذي أنت فيهم            وخلّفت في قرن فأنت غريب‏

 

و قيل: هو مدّة أغلب أعمار النّاس، وهو سبعون سنة.

------------------------------------------------------------------- صفحة 268

و قال ابن الأثير: القرن: أهل كلّ زمان، وهو مقدار التّوسّط في أعمار أهل كلّ زمان، مأخوذ من الاقتران، وكأنّه المقدار الّذي يقترن فيه أهل ذلك الزّمان في أعمارهم وأحوالهم.

و قيل: القرن: أربعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، ومنه الحديث: «أنه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  مسح على رأس غلام، وقال: عش قرنا»، فعاش مائة سنة. إن صحّ الحديث، فالقرن مائة سنة.

و كيف كان، فمراد الإمام عليه السّلام من «على ذلك نسلت القرون»: أنّهم توالدوا وتناسلوا على ذلك المنوال، من مجي‏ء كلّ نبيّ إلى أمّته، إلى أن انتهى الأمر إلى عصر النّبوّة المحمّديّة البيضاء وأمّته، فأدّى ما حمّل صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم من تبليغ الرّسالة، مبشّرا ونذيرا، ولكنّ الأمّة افترقت بعده إلى ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية، والبقيّة الباقيّة في النّار. وقد كثر التّمثيل للدّهر والزمان، ومنه قولهم: (أباد الأمم والقرون تعاقب الحركة والسّكون).

         الدّهر لا يبقى على حالة            لكنّه يقبل أو يدبر

         فإن تلقّاك بمكروهه                 فاصبر فإنّ الدّهر لا يصبر

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 269

87-  على وضر من ذا الإناء قليل

تمثّل به عليه السّلام، وهو شطر بيت أوّله:

         لعمر أبيك الخير يا عمرو إنّني‏

 

كما في خطبة له عليه السّلام، وقد تواتر عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه على اليمن، وهما: عبيد اللَّه بن عبّاس، وسعيد بن نمران، لمّا غلب عليهما بسر بن أرطاة، فقام على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد، ومخالفتهم له في الرّأي، فقال عليه السّلام: «ما هي إلّا الكوفة، أقبضها وأبسطها، إن لم يكن إلّا أنت تهبّ أعاصيرك، فقبّحك اللَّه، وتمثّل بقول الشّاعر:

         لعمر أبيك الخير يا عمرو إنّني            على وضر من ذا الإناء قليل‏

 

»

------------------------------------------------------------------- صفحة 270

و البيت من-  الطّويل- .

و الغرض من التّمثّل به يعرف من كلامه عليه السّلام قبله،: أي قبل البيت: «ما هي إلّا الكوفة...». إنّها لديه عليه السّلام كالوضر القليل في الإناء، وهو غسالة الشّي‏ء، وبقيّة الدّسم: أي لم يبق من البلاد والعباد له سوى الكوفة، وهي مهدّدة بجيش الشّام، لخذلان أصحابه بنهو ضهم للجهاد مع العدوّ، واستيلاء ابن أرطاة من قبل معاوية على اليمن، وقتل أهلها، وهي من الحوادث الممضّة. وهكذا كان-  أرواحنا فداه-  أيّام خلافته ممتحنا بالفتن، وخذلان صحبه، وأهل الكوفة أهل الغدر والتّخذيل، وكثيرا ما كان يستنهضهم لجهاد العدوّ، فلم ينهضوا. بالحرّ والقّرّ كانوا يقولون: حتّى تنقضي حمارّة الحرّ، أو قرص البرد. وهو يخوّفهم نار جهنّم وغيرها من ألوان عذاب اللَّه الأكبر، فلم يتخوّفوا.

فهو عليه السّلام أوّل مظلوم في العالم، قبل خلافته، وبعدها، وقبل وفاة النّبيّ الكريم صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، وبعدها، وفي كلّ حالاته صلوات اللَّه وسلامه عليه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 271

88-  عند الصّباح يحمد القوم السّرى

من خطبة آخرها: «و اللَّه لقد رقّعت مدرعتي هذه، حتّى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك فقلت: اعزب عنّي فعند الصّباح يحمد القوم السّرى». قال المفضّل: أوّل من قال ذلك خالد بن الوليد...:

         للَّه درّ رافع أنّى اهتدى            فوّز من قراقر إلى سوى‏

         عند الصّباح يحمد القوم السّرى    وتنجلي عنهم غيابات الكرى

 

قال الزّمخشريّ: أي إذا أصبح الّذين قاسوا كدّ السّرى وقد خلّفوا، تبجّحوا بذلك، وحمدوا ما فعلوا. يضرب في الحثّ على مزاولة الأمر بالصبّر، وتوطين النّفس حتّى تحمد عاقبته، قال الجليح:

         إنّى إذا الجبس على الكور انثنى          لو سئل الماء فداء لافتدى‏

         وقال: كم أتعبت قلت: قد أرى           عند الصّباح يحمد القوم السّرى‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 272

         وتنجلي عنه عمايات الكرى‏

 

 يضرب للرّجل يحتمل المشقّة رجاء الرّاحة. مثل يضرب لمحتمل المشقّة العاجلة رجاء الرّاحة الآجلة. اختلف في قائله، قد عرفت نسبته إلى خالد، وقيل: هو للجليح، وقيل: للأغلب العجليّ، أو غيرهم. وكيف كان، فقد بان معنى المثل في مورده الأوّل.

و أمّا تمثّل الإمام عليه السّلام به عند ترقيع مدرعته الّتي تعدل جبب السّلاطين، وألبستهم المزيّفة، بل لا قياس بينها وبين جميع ما في الدّنيا والعالم، فلو هن المادّة، وصغرها في عينه، ولاقتداء الفقراء به. قيل له: لم ترقّع قميصك قال عليه السّلام: ليخشع القلب، ويقتدي بي المؤمنون. قيل: كان راقعها ابنه الحسن عليه السّلام، أو أهله، ومن هنا قال عليه السّلام: «حتّى استحييت من رافعها». لا يستطيع واصف أن يصف زهده عليه السّلام، فعلى شيعته الاقتداء به، والاستضاءة بنور علمه، وتقوى اللَّه عزّ وجلّ، كما كان هو كذلك، روحي فداه. وكيف وهو إمام المتّقين.

و يضاهي المقام المثل السّائر: (التّمر في البئر، وعلى ظهر الجمل): أي من سقى وجد عاقبة سقيه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 273

حرف الغين

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 274

89-  غرض لنابل، وأكلة لآكل، وفريسة لصائل

من كلام له عليه السّلام: «أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السّماء، خفّت عقولكم، وسفهت حلومكم فأنتم غرض لنابل، وأكلة لآكل، وفريسة لصائل». قال البحرانيّ: قرب أرضهم- : أي أهل البصرة-  إشارة إلى أنّها- : أي البصرة-  موضع هابط مستفل من الأرض، وقريب من البحر، فهو- : أي البحر-  بصدد أن يعلوها بملاقاة دجلة، وذلك مشاهد في دخول الماء حدائقهم، وسقيه بساتينهم، في كلّ يوم مرّة أو مرّتين.

أمّا كونها بعيدة من السّماء، فبحسب استفالها عن غيرها من الأرض وقيل: إنّ من أبعد موضع في الأرض عن السّماء الأبلّة، وأنّ ذلك ممّا دلّت عليه الأرصاد، وبرهن عليه أصحاب علم الهيئة.

و قال بعضهم: إنّ كون ذلك في معرض الذّم يصرفه عن مظاهره، وإنّما الإشارة إلى أنّهم لمّا كانوا بالأوصاف المذمومة الّتي عدّدها فيهم،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 275

كانوا بعداء عن نزول الرّحمة عليهم من سماء الجود الإلهيّ، مستعدّين لنزول العذاب. ويصدق في العرف أن يقال: فلان بعيد من السّماء، إذا كان كما ذكرناه.

قوله: «خفّت عقولكم» إشارة إلى قلّة استعدادهم لدرك وجوه المصالح، وضعف عقولهم عن تدبير أحوالهم، وتسرّعهم إلى ما لا ينبغي لغفلتهم عمّا ينبغي، وهو وصف لهم برذيلة الغباوة.

قوله: «سفهت حلومكم» إشارة إلى وصفهم برذيلة السّفه، والخفّة المقابلة للحلم.

قوله: «فأنتم غرض لنابل، وأكلة لآكل، وفريسة لصائل»، هذه الأوصاف الثّلاثة لازمة عن خفّة عقولهم، وسفه حلومهم ولذلك عقّبها بها لأنّ طمع القاصد لهم بأنواع الأذى إنّما ينشأ من العلم بقلّة عقليّتهم لوجوه المصالح، وسفههم، فيقصدهم بحسن تدبيره.

و الأوّل من هذه الأوصاف كناية عن كونهم مقصدا لمن يريد أذاهم.

و الثّاني كناية عن كونهم في معرض أن يطمع في أموالهم ونعمتهم، ويأكلها من يقصد أكلها.

و الثّالث عن كونهم بصدد أن يفترسهم من يقصد قتلهم وإهلاكهم.

و استعار لفظ الغرض- : أي المرمى-  والأكلة والفريسة لهم، ووجوه المشابهة فيها ظاهرة. وقد راعى في القرائن السّجع، ففي الأوّلين السّجع‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 276

المطرّف، وفي الآخرين بعدهما والثّلاث السّجع المتوازي. جئنا عن آخر كلامه-  رحمه اللَّه-  لكونه وافيا بالمقصود، ولكن ما نقله عن البغض من صرف ظاهر كلام الإمام عليه السّلام إلى المراد من بعد أرضهم من السّماء، بعدهم عن نزول الرّحمة، وقربهم إلى العذاب، يردّه التّعليل والتّرتّب بين قرب الأرض من الماء، وبعدها عن السّماء، وخفّة عقولهم، وسفه حلومهم. فالأولى الإبقاء على ظاهر الكلام، ولا وجه لتأويل ما كان فيه للحقيقة سبيل.

ثمّ الأمثال الثّلاثة لها نظائر من المثل السّائر، ومنه الدّعاء: «لا تجعلني للبلاء غرضا». و(أكلة الشّيطان). ولا يقال الفريسة إلّا في الأسد: وهو كسر العظم للأكل، وكذا الصّول.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 277

90-  الغريب من لم يكن له حبيب

في كلام له عليه السّلام: «الغريب من لم يكن له حبيب». قال ابن أبي الحديد: يريد بالحبيب ههنا: المحبّ، لا المحبوب.

قال الشّاعر:

         أسرة المرء والداه وفيما            بين جنبيهما الحياة تطيب‏

         وإذا ولّيا عن المرء يوما            فهو في النّاس أجنبيّ غريب

 

و يماثله من وجه المثل السّائر: (إنّ الذّليل الّذي ليس له عضد). أقول: قد يكون الحبيب بمعنى المحبوب إذا كان الحبّ حبّا حقيقيّا، متبادلا بين الجانبين. والأصل في الحبّ حبّ اللَّه عزّ وجلّ‏

------------------------------------------------------------------- صفحة 278

لولاه لما كان حبّ والدّليل عليه قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ حيث قدّم حبّه تعالى على حبّهم في الذّكر وفقا لتقديم العلّة على المعلول، وهو تعالى على الإطلاق محبوب محبّ. وكذا رسوله، وأهل بيته عليهم السّلام.

و من هنا جاء في زيارة الإمام المهديّ عجّل اللَّه فرجه الشّريف المبدوءة ب: «سلام على آل يس»، «و أنّ محمّدا عبده ورسوله، لا حبيب إلّا هو وأهله» بعد حبّ اللَّه عزّ وجلّ.

فالمؤمن وإن كان بحسب بعض الأحاديث غريبا، ليس بغريب لأنّ اللَّه ورسوله والأئمّة الهادين أحبّاؤه، وكذا بالقياس إلى مؤمن مثله والكافر غريب، وإن كان له حبيب، أو المؤمن الكائن في دار الشّرك، أو غيره، كما يشهد لذلك ما عن الصّادق عليه السّلام، قال: «يقول أحدكم: إنّي غريب، إنّما الغريب الّذي يكون في دار الشّرك». ومنه الحديث النّبويّ: «الإسلام بدأ غريبا، وسيعود كما بدأ، وطوبى للغرباء».

------------------------------------------------------------------- صفحة 279

و الوجه فيه أنّ الغربة والأنس أمران إضافيّان، فالغربة في شي‏ء بالقياس إلى شخص، أنس بالقياس إلى آخر، أو حالة بالإضافة إلى حالة ثانية، وهكذا، ولا بدّ من لحاظ الواجد لمن يأنس به والفاقد له.

و امّا كلام الإمام عليه السّلام، فربّما يزعم أنّه يريد معنى متعارفا هو أضيق دائرة من المعنى المتقدّم الذّكر، إلّا أنّه زعم لا دليل عليه بعد إطلاق الكلام الشّامل للمعنى الأوسع، فاختر ما تحبّ.

حبيب الإنسان: الّذي هو موضع سرّه الصّادق في حبّه، وألف خصلة أخرى تحقّق أخوّته وخلّته (إنّ الصّديق من صدقك لا من صدّقك)، (أخوك من صدقك النّصيحة)، يعني: النّصيحة في أمر الدّين والدّنيا. (لا يكون الصّديق صديقا حتّى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته.) وصادقيّ: «إنّ الّذين تراهم لك أصدقاء، إذا بلوتهم وجدتهم على طبقات شتّى: فمنهم كالأسد في عظم الأكل، وشدّة الصّولة، ومنهم كالذّئب في المضرّة، ومنهم كالكلب في البصبصة، ومنهم كالثّعلب في الرّوغان والسّرقة صورهم مختلفة، والحرفة واحدة. ما تصنع غدا إذا تركت فدا وحيدا لا أهل لك ولا ولد، إلّا اللَّه ربّ العالمين». وعن الصّادق عليه السّلام:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 280

 

         أخوك الّذي لو جئت بالسّيف عامدا         لتضربه لم يستغشّك في الودّ

         ولو جئته تدعوه للموت لم يكن            يردّك إبقاء عليك من الرّدّ...

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 281

حرف الفاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 282

91-  فاز... بالسّهم الأخيب

في خطبة له عليه السّلام، أوّلها: «أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم-  إلى فقرة:-  ومن فاز بكم فقد فاز واللَّه بالسّهم الأخيب...». ونقلها الشّيخ المجلسيّ مع تفاوت الألفاظ منها: «إنّ من فاز بكم فقد فاز بالخيبة». والشّيخ المحموديّ في باب الخطب: «من فاز بكم فاز بالسّهم الأخيب». وهو من الأمثال السّائرة، ذكره الميدانيّ، قال: (من فاز بفلان فقد فاز بالسّهم الأخيب). وفي كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه-  عليه السّلام-  أنّه قال: «من فاز بكم فقد فاز بالسّهم الأخيب»، يضرب في خيبة الرّجل في مطلوبه.

------------------------------------------------------------------- صفحة 283

و الزّمخشريّ قال: قاله عليّ رضي اللَّه عنه-  عليه السّلام-  في بعض من استبطأ من أصحابه. يضرب في ذمّ الرّجل النّكد. النّكد بكسر النّون: قليل الخير العسر، وجمعه أنكاد.

و قال ابن الأثير: في حديث عليّ-  عليه السّلام- : «من فاز بكم فقد فاز بالقدح الأخيب»: أي بالسّهم الخائب الّذي لا نصيب له من قداح الميسر، وهي ثلاثة: المنيح، والسّفيح، والوغد. والخيبة: الحرمان والخسران، وقد خاب يخيب ويخوب. وقال: السّهم في الأصل واحد السّهام الّتي يضرب بها في الميسر، وهي القداح، ثمّ سمّي به ما يفوز به الفالج سهمه، ثمّ كثر حتّى سمّي كلّ نصيب سهما. ويجمع السّهم على أسهم وسهام وسهمان. ومنه قوله تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. قال الباقر عليه السّلام: «لمّا ركب- : أي يونس-  مع القوم، فوقفت السّفينة في اللّجّة، واستهموا، فوقع السّهم على يونس ثلاث مرّات، فمضى يونس الى صدر السّفينة، فإذا الحوت فاتح فاه، فرمى بنفسه».

------------------------------------------------------------------- صفحة 284

سمّيت القرعة بالمساهمة لكتابة الاسم على السّهم. ومنه الصّادقيّ: «إنّ اللَّه عزّ وجلّ وضع الإيمان على سبعة أسهم: على البرّ، والصّدق، واليقين، والرّضا، والوفاء، والعلم، والحلم ثمّ قسّم ذلك بين النّاس. فمن جعل فيه هذه السّبعة الأسهم فهو كامل محتمل، وقسّم لبعض السّهم، ولبعض السّهمين، ولبعض الثّلاثة، حتّى انتهوا إلى السّبعة، ثمّ قال: لا تحملوا على صاحب السّهم سهمين، ولا على صاحب السّهمين ثلاثة، فتبهضوهم...». وليس أمير المؤمنين عليه السّلام لأوّل مرّة يشكو من أصحابه المتمرّدين، لقد جاء في كلماته: «إن كانت الرّعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، فإنّني اليوم لأشكو حيف رعيّتى، كأنّني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة». «قاتلكم اللَّه، لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التّهمام أنفاسا، وأفسدتم عليّ رأبي بالعصيان والخذلان». النّغب جمع نغبة: وهي الجرعة. والتّهمام بفتح التّاء: الهمّ: أي في كلّ نفس أتجرّع الهمّ منكم. ساعد اللَّه قلبك يا أمير المؤمنين.

و منها قوله عليه السّلام: «اللّهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني، وسئمتهم‏

  

-------------------------------------------------------------------صفحة 285

و سئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرّا منّي اللّهمّ مث قلوبهم، كما يماث الملح في الماء، أما واللَّه لوددت أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم:

         هنالك لو دعوت أتاك منهم            فواس مثل أرمية الحميم‏

 

ثمّ نزل عليه السّلام من المنبر». وما أقلّ أهل الوفاء من أصحابه، يشار بهم بالبنان، كعمّار بن ياسر، والأشتر، وذي الشّهادتين وأضرابهم.

9-  فاعل الخير خير منه، وفاعل الشّرّ شرّ منه

من الكلمات المعدودة من الأمثال، قوله عليه السّلام: «فاعل الخير خير منه، وفاعل الشّرّ شرّ منه». ويماثل المثل الّذي ضربه عليه السّلام، أو هو هو بتغيير مّا، ما ذكره الميدانيّ: (إنّ خيرا من الخير فاعله، وإنّ شرّا من الشّرّ فاعله). وقال: هذا المثل لأخ للنّعمان بن المنذر، يقال له: علقمة، قاله لعمرو بن هند في‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 286

مواعظ كثيرة، كذا ذكره أبو عبيد في كتابه. وللشّارح شرح وبيان قال: قد نظمت أنا هذا اللّفظ والمعنى، فقلت في جملة أبيات لي:

         خير البضائع للإنسان مكرمة            تنمي وتزكو إذا بارت بضائعه‏

         فالخير خير وخير منه فاعله             والشّرّ شرّ وشرّ منه صانعه‏

 

فإن قلت: كيف يكون فاعل الخير خيرا من الخير، وفاعل الشّرّ شرّا من الشّرّ، مع أنّ فاعل الخير إنّما كان ممدوحا لأجل الخير، وفاعل الشّرّ إنّما كان مذموما لأجل الشّرّ، فإذا كان الخير والشّرّهما سببا المدح والذّم، وهما الأصل في ذلك، فكيف يكون فاعلاهما خيرا وشرّا منهما.

قلت: لأنّ الخير والشّرّ ليسا عبارة عن ذات حيّة قادرة، وإنّما هما فعلان، أو فعل وعدم فعل، أو عدمان، فلو قطع النّظر عن الذّات الحيّة القادرة الّتي يصدران عنها لما انتفع أحد بهما، ولا استضرّ، فالنّفع والضّرّ إنّما حصلا من الحيّ الموصوف بهما لا منهما على انفرادهما، فلذلك كان فاعل الخير خيرا من الخير، وفاعل الشّرّ شرّا من الشّرّ. ويؤيّده من بعض الوجوه أنّ العلم إنّما يقوم بأهله، وكذا الجهل لا يكون إلّا بالجاهل، فالعلم والجهل بما هما لا وجود لهما، وهكذا الصّدق‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 287

و الكذب. وقد جاء: «أحسن من الصّدق قائله، وخير من الخير فاعله». وهل الخير قبل الشّرّ كما في الخبر وفيهما بحوث لا تسع المقام.

93-  الفضل للبادي

قال عليه السّلام: «إذا حيّيت بتحيّة فحيّ بأحسن منها، وإذا أسديت إليك يد فكافئها بما يربي عليها، والفضل مع ذلك للبادي». دلّ على ردّ التّحيّة بالأحسن قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. ولعلّ السّرّ فيه هو مكافأة البادي الّذي له الفضل بابتدائه بالتّحيّة ومن أجله قدّم الرّدّ بالأحسن على ردّها بالمثل في الآية الكريمة لأنّ الرّدّ بالمثل إنّما هو جزاء أصل التّحيّة دون الفضل المسبّب عن ابتدائها.

و التّحيّة تعمّ التّحيّة القوليّة وغيرها، ومنه إسداء اليد ومكافأتها المذكور في كلام الإمام عليه السّلام في الفقرة الثّانية.

و في أحاديث أهل البيت عليهم السّلام دلالة على هذا التّعميم:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 288

«جاءت جارية للحسن عليه السّلام بطاق ريحان فقال لها: أنت حرّة لوجه اللَّه، فقيل له في ذلك، فقال عليه السّلام: أدّبنا اللَّه تعالى، فقال: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها، وكان أحسن منها إعتاقها». كما وإنّ من تمام التّحيّة المصافحة والمعانقة، عن الصّادق عليه السّلام: «إنّ من تمام التّحيّة للمقيم المصافحة، وتمام التّسّليم للمسافر المعانقة». والتّحيّة القوليّة: هي السّلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، على اختلاف الصّيغ الّتي يقتضيها المقام.

جاء القرآن الكريم بسلام من اللَّه تعالى ورسله وملائكته: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ. فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وهو تحيّة الإسلام، وإن كان لكلّ ملّة تحيّة تخصّهم هي دونها، لدلالة السّلام على سلامة نفس المسلّم مع أخيه المسلم وعدم حربه، وهو اسم من اسماء اللَّه الحسنى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 289

السَّلامُ. «اللّهم أنت السّلام، ومنك السّلام، وإليك يعود السّلام، ودارك دار السّلام، حيّنا ربّنا منك بالسّلام». ثمّ البادي بالتّحيّة الّذي له الفضل لا يخصّها فحسب، بل له ذلك إطلاقا في كلّ خير، ومن هنا امتدح السّابقون إلى الخيرات، المسارعون إلى المغفرة في آية الاستباق والمسارعة، وأنّهم المقرّبون في آية: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. ومن قياس الضّدّ يعلم حال البادي بالشّرّ والظّلم، وأنّ له زيادة العذاب. قال عليه السّلام: «للظّالم البادي غدا بكفّه عضّة». «لا تدعونّ إلى مبارزة، وإن دعيت إليها فأجب، فإنّ الدّاعي باغ، والباغي مصروع». فالبادي بالحرب الّتي هي من أجلى مظاهر الشّرور باغ هالك، جئنا بذلك لأدنى صلة تمسّ الموضوع.

ثمّ المثل الجاري يماثله ما عن المولّدين: (الفضل للمبتدي، وإن أحسن المقتدي). فيكون مثلنا من الأمثال السّائرة بالذّات، يقال للحثّ على فعل الخير المقدم عليه قبل كلّ أحد.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 290

94-  فعل فعل السّادة، وفرّ فرار العبيد

من كلام له عليه السّلام لمّا هرب مصقلة بن هبيرة الشّيبانيّ إلى معاوية، وكان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السّلام وأعتقه، فلمّا طالبه بالمال خاس به، وهرب إلى الشّام، فقال عليه السّلام: «قبّح اللَّه مصقلة، فعل فعل السّادة، وفرّ فرار العبيد فما أنطق مادحه حتّى أسكته، ولا صدق واصفه حتّى بكّته، ولو أقام لأخذنا ميسوره، وانتظرنا بماله وفوره». قال المعتزليّ: خاس به يخيس ويخوس: أي غدر به، خاس فلان بالعهد: أي نكث. وقبّح اللَّه فلانا: أي نحّاه عن الخير، فهو مقبوح.

و التّبكيت: كالتّقريع والتّعنيف. والوفور مصدر وفر المال: أي تمّ. من هو مصقلة وكيف كان ابتياع سبي بني ناجية من عامل الإمام عليه السّلام ومن بنو ناجية وناجية نفسها

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 291

فهنا أمور أربعة: الأوّل، قال السّيّد الخوئي: عدّه الشّيخ في رجاله من أصحاب عليّ عليه السّلام. ومثله الأردبيليّ. وكلّ من ترجمه عرّفه بهربه من عليّ عليه السّلام إلى معاوية، وهو عامله عليه السّلام على (أرد شير خرّة)، كورة من بلاد فارس. مكنّى بأبي الفضل.

الأمر الثّاني، لا بدّ أوّلا من بيان جهة سبي بني ناجية، ثمّ كيفيّة ابتياعهم: لمّا بايع أهل البصرة عليّا عليه السّلام بعد الهزيمة، دخلوا في الطّاعة غير بني ناجية، فإنّهم عسكروا، فبعث عليّ عليه السّلام رجلا من أصحابه في خيل ليقاتلهم، فأتاهم، فقال: ما بالكم عسكرتم، وقد دخل النّاس في الطّاعة غيركم فافترقوا ثلاث فرق: فرقة قالوا: كنّا نصارى، فأسلمنا، ودخلنا فيما دخل فيه النّاس من الفتنة، ونحن نبايع كما بايع النّاس، فأمرهم، فاعتزلوا.

و فرقة قالوا: كنّا نصارى، ولم نسلم، فخرجنا مع القوم الّذين كانوا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 292

خرجوا، قهرونا، فأخرجونا كرها، فخرجنا معهم، فهزموا فنحن ندخل فيما دخل فيه النّاس، ونعطيكم الجزية، كما أعطيناهم. فقال لهم: اعتزلوا.

و فرقة قالوا: إنّا نصارى، فأسلمنا، فلم يعجبنا الإسلام، فرجعنا.

فنعطيكم الجزية كالنّصارى، فقال لهم: توبوا وارجعوا إلى الإسلام، فأبوا. فقاتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، فقدم بهم على أمير المؤمنين عليه السّلام.

و قيل: إنّ الأمير من قبل عليّ عليه السّلام كان معقل بن قيس، ولمّا انقضى أمر الحرب لم يقتل من المرتدّين من بني ناجيه إلّا رجلا واحدا، ورجع الباقون إلى الإسلام، واسترقّ من النّصارى منهم الّذين ساعدوا في الحرب، وشهروا السّيف على جيش الإمام عليه السّلام.

ثمّ أقبل بالأسارى حتّى مرّ على مصقلة بن هبيرة الشّيبانيّ، وهو عامل عليّ عليه السّلام على أردشير خرّة وهم خمسمائة إنسان، فبكت إليه النّساء والصّبيان، وتصايح الرّجال، وسألوه أن يشتريهم ويعتقهم، فابتاعهم بخمسمائة ألف درهم، فأرسل إليه أمير المؤمنين أبا حرّة الحنفيّ، ليأخذ منه المال، فادّى إليه مائتي ألف درهم، وعجز عن الباقي، فهرب إلى معاوية. قال السّيّد الأستاذ الخوئي: وروى الشّيخ بإسناده عن الحسين بن‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 293

سعيد عن حمّاد وصفوان عن معاوية بن عمّار عن أبيه عن أبي الطّفيل: أنّ بني ناجية قوم كانوا يسكنون الأسياف، وكانوا قوما يدعون في قريش نسبا، وكانوا نصارى، فأسلموا، ثمّ رجعوا عن الإسلام، فبعث أمير المؤمنين عليه السّلام معقل بن قيس التّميميّ، فخرجنا معه (...).

فدعاهم إلى الإسلام ثلاث مرّات، فأبوا. فوضع يده على رأسه.

قال: فقتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم. قال: فأتي بهم عليّا عليه السّلام، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة بمائة ألف درهم، فأعتقهم، وحمل إلى أمير المؤمنين خمسين ألفا، فأبى أن يقبلها. قال: فخرج بها فدفنها في داره، وأجاز عتقهم. ونقلها العسكريّ في جمهرة الأمثال تحت عنوان: (و أهل الكوفة يقولون: حتّى يرجع مصقلة من طبرستان). وهو نقل يخالف الرّواية الأولى. قال: وهو مصقلة بن هبيرة، وكان سبب هربه من الكوفة أنّه كان على أردشير خرّة من قبل عليّ عليه السّلام، فجاء معقل بن قيس بسبي بني ناجية، وكانوا قد ارتدّوا عن الإسلام، فصاحوا إلى مصقلة يا أبا الفضل امنن علينا، فاشتراهم بثلاثمائة ألف درهم، فأعتقهم، وخرج إلى عليّ عليه السّلام، فدفع إليه مائة درهم، وهرب إلى معاوية.

فقال عليّ عليه السّلام: «قبّح اللَّه مصقلة، فعل فعل السّيّد، وفرّ فرار العبد، ولو أقام ورأيناه قد عجز لم نأخذه بشي‏ء». وأجاز عتق من أعتق ففتّش عليّ-  عليه السّلام-  دار مصقلة، فوجد فيها سلاحا، فقال:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 294

 

         أرى حربا مفرّقة وسلما            وعهدا ليس بالعهد الوثيق‏

 

ثمّ هدمها، فقال يحيى بن منصور:

         قضى وطرا منها عليّ فأصبحت            إمارته فيها أحاديث كاذب‏

 

فبناها له معاوية بعد. وقال مصقلة حين لحق بمعاوية:

         تركت نساء الحيّ بكر بن وائل            وأعتقت سبيا من لؤيّ بن غالب‏

         وفارقت خير النّاس بعد محمّد             لمال قليل لا محالة ذاهب

 

الأمر الثّالث والرّابع من بنو ناجية، وناجية نفسها قال الشّارح المعتزليّ: فأمّا القول في نسب بني ناجية، فإنّهم ينسبون أنفسهم إلى سامة بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.

و قريش تدفعهم عن هذا النّسب، ويسمّونهم بني ناجية-  وهي أمّهم-  وهي امرأة سامة بن لؤيّ بن غالب. ويقولون: إنّ سامة خرج إلى ناحية البحرين مغاضبا لأخيه كعب بن لؤيّ بن غالب في مماظّة كانت بينهما، فطأطأت ناقته رأسها لتأخذ العشب، فعلق بمشفرها

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 295

أفعى، عطفت على قتبها، فحكّته به، فدبّ الأفعى على القتب حتّى نهش ساق سامة فقتله، فقال أخوه كعب بن لؤيّ يرثيه:

         عين جودي لسامة بن لؤيّ            علقت ساق سامة العلاقه‏

         ربّ كأس هرقتها ابن لؤيّ           حذر الموت لم تكن مهراقه‏

 

قالوا: وكانت معه امرأته ناجية، فلمّا مات، تزوّجت رجلا في البحرين، فولدت منه الحارث، ومات أبوه وهو صغير، فلمّا ترعرع طمعت أمّه أن تلحقه بقريش، فأخبرته أنّه ابن سامة بن لؤيّ بن غالب، فرحل من البحرين إلى مكّة، ومعه أمّه.

فأخبر كعب بن لؤيّ أنّه ابن أخيه سامة، فعرف كعب أمّه ناجية، فظنّ أنّه صادق في دعواه، فقبله، ومكث عنده مدّة حتّى قدم مكّة ركب من البحرين، فرأوا الحارث، فسلّموا عليه، وحادثوه، فسألهم كعب بن لؤيّ: من أين يعرفونه فقالوا: هذا ابن رجل من بلدنا، يعرف بفلان، وشرحوا له خبره، فنفاه كعب عن مكّة، ونفى أمّه، فرجعا إلى البحرين، فكانا هناك، وتزوّج الحارث، فأعقب هذا العقب. قوله عليه السّلام: «فعل فعل السّادة، وفرّ فرار العبيد»، يقال لمن له حالة حسنة، وأخرى سيّئة، فهو مثل بالصّميم، وإن لم يرسله عليه السّلام مثلا، على أنّه (حتّى يرجع مصقلة من طبرستان) مثل سائر.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 296

95-  فقد الأحبّة غربة

قال عليه السّلام: «فقد الأحبّة غربة». هذا من المثل السّائر ذكره أرباب كتب الأمثال، منها المستقصى، وفيه: فقد الأحبّة غربة. ومجمع الأمثال بلفظ: فقد الإخوان غربة.

(قال مؤلّفه): قريب من هذا قول الشّيخ أبي سليمان:

         وإنّي غريب بين بست وأهلها            وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي‏

         وما غربة الإنسان في غربة النّوى         ولكنّها واللّه في عدم الشّكل

 

و قال زيادة بن زيد:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 297

 

         هل الدّهر والأيّام إلّا كما ترى            رزيّة مال أو فراق حبيب

 

و قال الشّارح المعتزليّ: ومثله قوله عليه السّلام: «الغريب من لم يكن له حبيب» وقال الشّاعر:

         أسرة المرء والداه وفيما            بين حضنيهما الحياة تطيب‏

         وإذا ولّيا عن المرء يوما            فهو في النّاس أجنبيّ غريب‏

 

و قال آخر:

         إذا ما مضى القرن الّذي كنت فيهم            وخلّقت في قرن فأنت غريب

 

الأحبّة والأحبّاء جمع الحبيب، مصدرها المحبّة: وهي المودّة. و«المودّة قرابة مستفادة». وعند فقد الأحبّة يحسّ الإنسان بالاغتراب، حتّى يرى الرّاحة في الموت، ويتمنّاه من هنا تجد الإمام عليه السّلام عند فقد عمّار بن ياسر حبيبه تمنّاه قائلا:

         ألا أيّها الموت الّذي ليس تاركي            أرحني فقد أفنيت كلّ خليل‏

        

------------------------------------------------------------------- صفحة 298

         أراك بصيرا بالّذين أحبّهم            كأنّك تسعى نحوهم بدليل

 

و الفرقة بين الخليلين كغيرهما بالهجران أو الموت، لا بدّ ولا مناص عنها، حتّى الأنبياء والأئمّة الهداة عليهم السّلام الّذين هم من أصدق الأحبّة وأعزّهم لا بدّ من فقدهم بالموت، كما قال تعالى لأشرف خلقه محمّد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ». والإمام عليه السّلام عند موت سيّدة نساء العالمين فاطمة عليها السّلام يتمثّل بأبيات تدلّ على فرقة الموت والغربة:

         لكلّ اجتماع من خليلين فرقة            وكلّ الّذي دون الوفاة قليل‏

         وإنّ افتقادي واحدا بعد واحد          دليل على أن لا يدوم خليل

 

و في بعض النّسخ:

         وإنّ افتقادي فاطما بعد أحمد

 

على ما ببالي. وإنّ الإنسان كثير بحبيبه، يسكن إليه، ويرفع وحدته، لا سيّما إذا كان الحبّ في اللَّه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 299

عن السّجّاد عليه السّلام: «إذا جمع اللَّه الأوّلين والآخرين، قام مناد فنادى يسمع النّاس، فيقول: أين المتحابّون في اللَّه قال: فيقوم عنق من النّاس، فيقال: اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب». وباقريّ: «ودّ المؤمن في اللَّه من أعظم شعب الإيمان». ونبويّ: «يا عليّ من أوثق عرى الإيمان الحبّ في اللَّه، والبغض في اللَّه». وصادقيّ: «طوبى للمتحابّين في اللَّه».

96-  فلق لكم الأمر فلْق الخرزة

كلمة تمثيليّة من خطبة له عليه السّلام، منها: «... فاستمعوا من ربّانيّكم، وأحضروه قلوبكم، واستيقظوا إن هتف بكم، وليصدق رائد أهله، وليجمع شمله، وليحضر ذهنه، فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة، وقرفه قرف الصّمغة...».

------------------------------------------------------------------- صفحة 300

قوله عليه السّلام: «ليصدق رائد أهله» من أمثال سائرة أثبتناه. و(الفلق) بالتّحريك: الصّبح وضوؤه، ومنه: «كان صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  يرى الرّؤيا، فتأتي مثل فلق الصّبح». وبالسّكون: الشّقّ ومنه: «يا فالق الحبّ والنّوى»، وحديثه عليه السّلام: «و الّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة»، وكثيرا ما كان يقسم بها. الخرزة: أصلها الخاء والرّاء والزّاي، يدلّ على جمع الشّي‏ء إلى الشّي‏ء وضمّه إليه، فمنه خرز الخلد، ومنه الخرز، وهو معروف لأنّه ينظم، وينضد بعضه إلى بعض، وفقار الظّهر خرز لانتظامه، وخرزات الملك، كان الملك منهم كلّما ملك عاما زيدت في تاجه خرزة ليعلم بذلك عدد سنّي ملكه، قال:

         رعى خرزات الملك عشرين حجّة            وعشرين حتّى فاد والشّيب شامل

 

و لنعد إلى كلام الإمام عليه السّلام، قال شارحه: الرّبّانيّ الّذي أمرهم الاستماع منه، إنّما يعني به نفسه عليه السّلام. ويقال: رجل ربّانيّ: أي متألّه عارف بالرّبّ سبحانه، وفي وصف الحسن لأمير المؤمنين عليه السّلام: «كان واللَّه ربّانيّ هذه الأمّة، وذا فضلها،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 301

و ذا قرابتها، وذا سابقتها». ثمّ قال: «و أحضروه قلوبكم»: أي اجعلوا قلوبكم حاضرة عنده: أي لا تقنعوا لأنفسكم بحضور الأجساد وغيبة القلوب فإنّكم لا تنتفعون بذلك.

و الرّائد: الّذي يتقدّم المنتجعين، لينظر لهم الماء والكلأ، وفي المثل «الرّائد لا يكذب أهله». «و ليجمع شمله»: أي وليجمع عزائمه وأفكاره لينظر. فقد فلق هذا الرّبّانيّ لكم الأمر: أي شقّ ما كان مبهما، وفتح ما كان مغلقا، كما تفلق الخرزة، فيعرف باطنها، وكما تقشّر الصّمغة عن عود الشّجرة وتقلع لأنّ قوله عليه السّلام: «قرفه قرف الصّمغة» من القرف بمعنى القشر.

و الكلمة تصلح مثلا لوضوح الشّي‏ء وظهوره. وكلمته هذه متّجهة كبقيّة كلماته عليه السّلام إلى كلّ من بلغته، سواء في ذلك من حضر عند إلقائها، أو لم يحضر، وإلى شيعته خاصّة إلى يوم القيامة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 302

97-  فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها

قال عليه السّلام: «فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها». هذا من أمثال المولّدين، أثبته الميدانيّ. وفي كتاب التّمثيل والمحاضرة بلفظ: «أشدّ من فوت الحاجة طلبها من غير أهلها». يقال: لا تطلبوا الحوائج إلى ثلاثة: إلى عبد يقول: الأمر إلى غيري، وإلى رجل حديث الغنى، وإلى تاجر همّته أن يستربح في كلّ عشرين دينارا حبّة واحدة، ففي نبويّ: «يا عليّ لأن أدخل يدي في فم التّنّين إلى المرفق أحبّ إليّ من أن أسأل من لم يكن ثمّ كان». وباقريّ: «مثل الحاجة إلى‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 303

من أصاب ماله حديثا كمثل الدّرهم في فم الأفعى، أنت إليه محوج، وأنت منها على خطر». تكلّمنا على الحديثين في كتابنا (الأمثال النّبويّة). وعن إعلام الدّين، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال لولده الحسن عليه السّلام: «يا بنيّ إذا نزل بك كلب الزّمان، وقحط الدّهر، فعليك بذوي الأصول الثّابتة، والفروع النّابتة، من أهل الرّحمة والإيثار والشّفقة فإنّهم أقضى للحاجات، وأمضى لدفع الملمّات، وإيّاك وطلب الفضل، واكتساب الطّسايج والقراريط من ذوي الأكفّ اليابسة، والوجوه العابسة فإنّهم إن أعطوا منّوا، وإن منعوا كدّوا، ثمّ أنشأ يقول:

         واسأل العرف إن سألت كريما     لم يزل يعرف الغنى واليسارا

         فسؤال الكريم يورث عزّا            وسؤال اللّئيم يورث عارا

         وإذا لم تجد من الذّلّ بدّا           فالق بالذّلّ إن لقيت كبارا

         ليس إجلالك الكبير بعار            إنّما العار أن تجلّ الصّغارا

 

» كلام أهل البيت عليهم السّلام نور في درب الحياة المادّيّة والرّوحيّة، ولربّما يوجّهون الخطاب إلى أنفسهم عليهم السّلام، وإن لم يبتلوا به تعليما

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 304

لمن ابتلى، على حدّ قول القائل: (إيّاك أعني واسمعي يا جاره). كما جاء ذلك في كثير من خطابات القرآن الكريم، على ما نصّ به الحديث الصّادقيّ: «نزل القرآن بإيّاك أعني واسمعى يا جاره». ثمّ السّؤال ذلّ، لا يرضى الحرّ ذلك، خاصّة ممّن وصف بصفات دنيئة. في صادقيّ: «إنّما شيعتنا من لا يهرّ هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب، ولا يسأل النّاس بكفّه، وإن مات جوعا، واتّخذ اللَّه عزّ وجلّ إبراهيم خليلا لأنّه لم يردّ أحدا، ولم يسأل أحدا غير اللَّه عزّ وجلّ». قال عليّ عليه السّلام: «المنيّة ولا الدّنيّة، والتّقلّل ولا التّوسّل». قال الشّاعر:

         أقسم باللَّه لمصّ النّوى            وشرب ماء القلب المالحه‏

         أحسن بالإنسان من ذلّه            ومن سؤال الأوجه الكالحه‏

         واستغن باللَّه تكن ذا غنى        مغتبطا بالصّفقة الرّابحه

 

و من النّاس طوائف لا يسوغ عرض الحاجة عليهم، منهم المذكور في حديثنا الجاري، ومنهم من لا يخفون على العارف الحرّ اللّبيب.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 305

حرف القاف

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 306

98-  قد أضاء الصّبح لذي عينين

من كلماته عليه السّلام الحكميّة قوله: «قد أضاء الصّبح لذي عينين». قال المعتزليّ: هذا الكلام جار مجرى المثل، ومثله:

         والشّمس لا تخفى عن الأبصار

 

و مثله:

         إنّ الغزالة لا تخفى عن البصر

 

و قال ابن هانئ يمدح المعتزّ:

         فاستيقظوا من رقدة وتنبّهوا            ما بالصّباح عن العيون خفاء

         ليست سماء اللَّه ما تروّنها              لكنّ أرضا تحتويه سماء

 

قال الميدانيّ: (قد بيّن الصّبح لذي عينين)، بيّن بمعنى: تبيّن،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 307

يضرب للأمر يظهر كلّ الظهور، وذكره العسكريّ أيضا، وقال: يضرب مثلا للأمر ينكشف ويظهر. فالمثل الجاري الّذي ضربه الإمام عليه السّلام متّحد مع المثل السّائر مع تغيير مّا في لفظه.

و هل المقصود من الانكشاف للجميع خلافته الكبرى المنصوص عليها بنصّ الغدير حيث جمع الرّسول صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم النّاس عند الوصول إلى هدا المكان، وقد نزل عليه جبرائيل عليه السّلام بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. وهكذا ولده الأحد عشر الأوصياء المعصومون، نصّت على وصايتهم النّصوص المعتبرة، كما ذكرها علماؤنا في مجامعهم، والجمهور: «أنّ الأئمّة من قريش يملكها اثنا عشر منهم». وحديث الثّقلين الدّالّ على أنّ من لم يتمسّك بالكتاب وعترته-  أهل بيته-  ضالّ، والمتمسّك غير ضالّ ذلك بأنّ أهل البيت عليهم السّلام معهم الشّرائع من الحلال والحرام، بل وجميع أحكام الإسلام، وبعد ذلك على الأمّة الرّجوع إليهم، والأخذ عنهم عليهم السّلام في كلّ شي‏ء.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 308

99-  قدّم للوثبة يدا، وأخّر للنّكوص رجلا

 

من كلام له عليه السّلام، كان يقوله لأصحابه في بعض أيّام صفّين: «......... وعليكم بهذا السّواد الأعظم، والرّواق المطنّب، فاضربوا ثبجه فإنّ الشّيطان كامن في كسره، وقد قدّم للوثبة يدا، وأخّر للنّكوص رجلا». هذا بعض خطبته عليه السّلام في يوم صفّين، يحرّض جيوشه فيها على قتال أهل الشّام، جيش معاوية عموما، ورأس الفتنة معاوية بالخصوص.

قال المعتزليّ: «و الرّواق المطنّب»، يريد به: مضرب معاوية، ذا الأطناب، وكان معاوية في مضرب عليه قبّة عالية، وحوله صناديد أهل الشّام. و(ثبجه): وسطه، وثبج الإنسان: ما بين كاهله إلى ظهره.

و (الكسر): جانب الخباء.

و قوله-  عليه السّلام- : «فإنّ الشّيطان كامن في كسره» يحتمل وجهين: أحدهما: أن يعني به الشّيطان الحقيقيّ: وهو إبليس.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 309

و الثّاني: أن يعني به: معاوية.

و الثّاني هو الأظهر للقرينة الّتي تؤيّده وهي قوله: «قدّم للوثبة يدا، وأخّر للّنكوص رجلا»: أي إن جبنتم وثب، وإن شجعتم نكص: أي تأخّر.

و من حمله على الوجه الأوّل جعله من باب المجاز: أي أنّ إبليس كالإنسان الّذي يعتوره دواع مختلفة بحسب التّجدّدات، فإن أنتم صدقتم عدوّكم القتال فرّ عنكم بفرار عدوّكم، وإن تخاذلتم وتواكلتم طمع فيكم بطمعه، وأقدم عليكم بإقدامه. قال ابن الأثير: وفي حديث عليّ عليه السّلام يوم صفّين: «قدّم للوثبة يدا، وأخّر للنّكوص رجلا»: أي إن أصاب فرصة نهض إليها، وإلّا رجع وترك. ليس الكلام المذكور: أي «قدّم للوثبة يدا، وأخّر للنّكوص رجلا» مقصورا على معاوية، بل هو مثل بالصّميم، يقال على كلّ من شاكله في الجبن. إن جاء الجدّ والإقبال على الدّنيا ما وجد إليها سبيلا، وهو من صفات الأنذال، يصفرون إذا خلا لهم الجوّ، ويفرّون عند الهيجاء حرصا على البقاء.

و من أجله: أي الحرص على البقاء في الدّنيا يثيرون الفتن،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 310

و يحرّضون الآخرين على القتال، حتّى يستقرّ لهم الملك والسّلطة، ولا يرعون جانب الحقّ.

و ذلك لم يخل منه كلّ إنسان على وجه البسيطة من معتركه الدّاخليّ بين العقل والشّهوة ومشتهياتهما، فهو دائما بين الوثبة والنّكوص، فإمّا ينخرط في جيش علويّ، أو ملحق بمعاوية.

100-  قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع

من خطبة له عليه السّلام: «إنّ الوفا توأم الصّدق، ولا أعلم جنّة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم اللَّه قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر اللَّه ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين». علّل توأميّة الوفاء للصّدق بأنّ الوفاء صدق في الحقيقة ألا ترى أنّه قد عاهد على أمر، وصدق فيه ولم يخلف وكأنّهما أعمّ وأخصّ، وكلّ وفاء صدق، وليس كلّ صدق وفاء. فإن امتنع من حيث الاصطلاح تسمية الوفاء صدقا، فلأمر آخر، وهو أنّ الوفاء قد يكون بالفعل دون‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 311

القول، ولا يكون الصّدق إلّا في القول لأنّه نوع من أنواع الخبر، والخبر قول. ثمّ قال-  عليه السّلام- : «و لا أعلم جنّة»: أي درعا. «أوقى منه»: أي أشدّ وقاية وحفظا لأنّ الوفيّ محفوظ من اللَّه، مشكور بين النّاس.

ثمّ قال-  عليه السّلام- : «و ما يغدر من علم كيف المرجع»: أي من علم الآخرة، وطوى عليها عقيدته، منعه ذلك أن يغدر، لأنّ الغدر يحبط الإيمان.

ثمّ ذكر-  عليه السّلام- : أنّ النّاس في هذا الزّمان ينسبون أصحاب الغدر إلى الكيس: وهو الفطنة والذّكاء، فيقولون لمن يخدع ويغدر ولأرباب الجريرة والمكر: هؤلاء أذكياء أكياس، كما كانوا يقولون في عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، وينسبون أرباب ذلك إلى حسن الحيلة وصحّة التّدبير.

ثمّ قال-  عليه السّلام- : «ما لهم قاتلهم اللَّه»، دعاء عليهم.

ثمّ قال-  عليه السّلام- : «قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة»، ويمنعه عنها نهي اللَّه تعالى عنها وتحريمه بعد أن قدر عليها وأمكنه. والحوّل القلّب: الّذي قد تحوّل وتقلّب في الأمور وجرّب، وحنّكته الخطوب والحوادث.

ثمّ قال-  عليه السّلام- : «و ينتهز فرصتها»: أي يبادر إلى افتراصها ويغتنمها «من لا حريجة له في الدّين»: أي ليس بذي حرج، والتّحرّج:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 312

التّاثّم، والحريجة: التّقوى.

و هذه كانت سجيّته عليه السّلام وشيمته، ملك أهل الشّام الماء عليه والشّريعة بصفّين، وأرادوا قتله وقتل أهل العراق عطشا فضاربهم على الشّريعة حتّى ملكها عليهم، وطردهم عنها فقال له أهل العراق: اقتلهم بسيوف العطش، وامنعهم الماء، وخذهم قبضا بالأيدي. فقال-  عليه السّلام- : إنّ في حدّ السّيف لغنى عن ذلك، وإنّي لا أستحلّ منعهم الماء. فأفرج لهم عن الماء فوردوه، ثمّ قاسمهم الشّريعة شطرين بينهم وبينه. وكان الأشتر يستأذنه أن يبيّت معاوية، فيقول: إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه-  وآله وسلّم-  نهى أن يبيّت المشركون. وتوارث بنوه عليه السّلام هذا الخلق الأبيّ. قد جاءت الكلمة العلويّة التّمثيليّة في زيارة الغدير: «ثمّ لحزمك المشهور، وبصيرتك في الأمور، أمّرك في المواطن، ولم يكن عليك أمير وكم من أمر صدّك عن إمضاء عزمك فيه التّقى، واتّبع غيرك في مثله الهوى، فظنّ الجاهلون أنّك عجزت عمّا إليه انتهى، ضلّ واللَّه الظّانّ لذلك وما اهتدى، ولقد أوضحت ما أشكل من ذلك لمن توهّم وامترى بقولك صلّى اللَّه عليك: قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى، فيدعها رأي العين، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين».

------------------------------------------------------------------- صفحة 313

(الحوّل): ذو التّصرّف والاحتيال في الأمور. (القلّب): الّذي يقلّب الأمور، ويحتال لها: أي المجرّب المدرّب العارف لها.

101-  قد يرمي الرّامي، وتخطئ السّهام

قال عليه السّلام: «أيّها النّاس من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال، أما إنّه قد يرمي الرّامي، وتخطئ السّهام، ويحيل الكلام، وباطل ذلك يبور. واللَّه سميع وشهيد». وللكلام باقية ذكرناها عند المثل: «ليس بين الحقّ والباطل إلّا أربع أصابع». يريد عليه السّلام: أن ليس من الأخوّة الموثوقة بها الّذي عرفت الاستقامة منه، تحكيم الأقاويل فيه ففي حديث علويّ: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 314

أخيك سوءا، وأنت تجد لها في الخير محملا». قال ابن أبي الحديد: ثمّ ضرب عليه السّلام مثلا، فقال: قد يرمي الرّامي فلا يصيب الغرض، وكذلك قد يطعن الطّاعن فلا يكون طعنه صحيحا، وربّما كان لغرض فاسد أو سمعه ممّن له غرض فاسد كالعدوّ والحسود. وقد يشتبه الأمر فيظنّ المعروف منكرا، فيعجّل الإنسان بقول لا يتحقّقه، كمن يرى غلام زيد يحمل في إناء مستور مغطّى خلّا فيظنّه خمرا. قال الشّيخ التّستريّ: ومن أمثالهم: (قرينك سهمك، يخطئ ويصيب)، ومنها أيضا: (رماه بنبلة الصّائب). قال لبيد:

         فرميت القوم نبلا صائبا            ليس بالعضل ولا بالمفتعل‏

 

و المراد: أنّ أقاويل الرّجال ليست دائما حقّا عن علم وعرفان، بل تصدر كثيرا عن حدس وتخمين وسماع أخبار أراجيف، والغالب فيها الخطأ والاشتباه، فلا يجوز أن يدع عرفانه لأقاويل هكذا. (و يحيل الكلام): أي يكون باطلا. أحال الرّجل في منطقه، إذا تكلّم الّذي لا حقيقة له، ومن النّاس من يرويه: (و يحيك الكلام)

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 315

بالكاف، من قولك: ما حاك السّيف، ويجوز أحاك: أي ما أخّر. يعني: أنّ القول يؤثّر في العرض، وإن كان باطلا. والرّواية الأولى أشهر وأظهر. وأورد عليه التّستريّ بما رام إثبات رواية الكاف، والاستشهاد لها بقضيّة يجلّ الكلام عنها فراجع. والظّاهر ما ذهب إليه المعتزليّ.

ثمّ الكلام وإن كان في مورد سماع قول السّوء في الأخ المؤمن وصرفه إلى محمل جميل إلّا أنّ المثل: «قد يرمي الرّامي وتخطئ السّهام» عامّ يشمل أيضا الفتيا في الأحكام الخاطئة في بعض الأحيان، والمجتهد وإن أفرغ الوسع والجهد في إصابة الواقع إلّا أنه قد يخطئ لأنّ العصمة لأهلها، ولا بأس في ذلك عليه لما جاء: «للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد». ويشمل أيضا سلوك طريق تهذيب النّفس والتّحلّي بالأخلاق المرضيّة، إذا ما نوى المؤمن الحقيقة، وعمل بما وظّف له في الشّرع، فالخطأ مغفور له، نعم يمكن القول بعدم الخطأ للنّبويّ: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللَّه». إن صدق إيمانه،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 316

و ارتضاه اللَّه عزّ وجلّ «و قليلٌ ما هم». فلو كان شي‏ء لم يقصّر العبد في عمله من خطأ فيه، شمله قول الإمام: «قد يرمي الرّامي وتخطئ السّهام». أو كان الأمر من غير هذه الفروض: أي لا من سماع الأقوال، ولا من الفتاوى، ولا من قبيل آداب السّلوك، شمله المثل أيضا لانطلاق الأمثال عن أيّ قيد وتضييق.

102-  قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ

من كتاب له عليه السّلام إلى بعض عمّاله، والظّاهر أنّه ابن عبّاس الوالي من قبله على البصرة. أوّله: «أمّا بعد، فإنّي كنت أشركتك في أمانتي...... فلمّا رأيت الزّمان على ابن عمّك قد كلب، والعدوّ قد حرب، وأمانة النّاس قد خزيت، وهذه الأمّة قد فتكت وشغرت، قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ، ففارقته مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين......». (المجنّ) بالكسر والتّشديد: التّرس، لأنّ صاحبه يتستّر به، والجمع‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 317

المجانّ بالفتح. هذا مثل لمن كان لصاحبه على مودّة أو رعاية، ثمّ حال عن ذلك: أي تغيّر عليه وساء رأيه فيه، قال معن بن اوس: من (الطّويل)

         قلبت له ظهر المجنّ فلم أدم            على ذاك إلّا ريثما أتحوّل‏

 

و قال عديّ: من (الرّمل)

         بينما يغبطه أشياعه            قلب الدّهر له ظهر المجنّ‏

 

و قال آخر: من (الكامل)

         وقلبتم ظهر المجنّ لنا            إنّ اللّيئم العاجز الخبّ‏

 

و قال روبة: من (الرّجز)

         أخشى عليك الوارثين بعدي            إذا رأوني جدفا في اللّحد

         أن يعضهوك بالدّواهي الرّبد            أو يقلب المجنّ من يفدّي.

 

أي ينقلب عمّا كان من ودّه، يخلجه خالج، فيرجع إلى خلاف ما كان عليه، كما قال الشّاعر:

         بينما الفتى يسعى ويسعى له            تاح له من أمره خالج

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 318

و ممّن نقل كتاب الإمام عليه السّلام الميدانيّ في مجمع الأمثال بعد المثل: (قلب له ظهر المجنّ). يريد عليه السّلام: يابن عبّاس حينما رأيت إعراض الأمّة عنّي، ومفارقتهم إيّاي تركتني، وفارقتني، وأنت ابن عمّي وشريكي في أداء الرّسالة، وردّ الأمانة إلى أهلها، كمثل من يدافع عن صاحبه في الحرب بالتّستّر بالتّرس. كيلا يلوحه العدوّ، ليصان هو وصاحبه، فيترك الدّفاع بقلب التّرس، بتحويل باطنه إلى العدوّ، وظهره إلى نفسه، ليتمكّن العدوّ منه ومن صاحبه فتصيبهما الإصابة بدون حائل يحول بينه وما يريد من قتل أوفتك، فحالك حال هذا المدافع، وكذا حال كلّ من يخذل صاحبه بعد الذّبّ عنه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 319

حرف الكاف

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 320

103-  كأنّ بين أعينهم ركب المعزى

قال عليه السّلام في كلام له: «لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى اللَّه عليه-  وآله وسلّم-  فما أرى أحدا يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا، وقد باتوا سجّدا وقياما يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من معادهم، كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم إذا ذكر اللَّه هملت اعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف خوفا من العقاب، ورجاء للثّواب». قال الشّارح المعتزليّ: «يصبحون شعثا غبرا» من قشف العبادة، وقيام اللّيل، وصوم النّهار، وهجر الملاذّ. فيراوحون بين جباههم وخدودهم، تارة يسجدون على الجباه، وتارة يضعون خدودهم على الأرض بعد الصّلاة، تذلّلا وخضوعا. والمراوحة بين العمل: أن يعمل هذا مرّة وهذا مرّة. ويراوح بين رجليه، إذا قام على هذه تارة، وعلى هذه أخرى.

------------------------------------------------------------------- صفحة 321

(ركب) جمع ركبة: موصل السّاق من الرّجل بالفخذ، وإنّما خصّ ركب المعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة. واحد المعز ماعز، كصحب وصاحب. ويقال: معزى لهذا الجنس من الغنم.

المعز خلاف الضّأن، وهو من ذوات الشّعر، والذّكر منها يسمّى تيسا والأنثى عنزا. والضّأن اسم لذوات الأصواف، الذّكر منها الكبش، والأنثى النّعجة. وأمّا الغنم فاسم جنس يعمّ الضّأن والمعز جميعا. فاتّضح تمثيل ما في جباههم بركب المعزى وهي السّجّادة، من طول سجودهم المعنيّة بقوله عزّ وجلّ: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. والآية برمّتها تصف من وصفهم أمير المؤمنين عليه السّلام: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. رهبان باللّيل، ليوث بالنّهار.

و كان السّجاد عليه السّلام يسمّى به لكثرة سجوده. وذو الثّفنات، جمع ثفنة، بكسر الفاء: وهي من الإنسان الرّكبة، ومجتمع السّاق والفخذ لأنّ طول السّجود أثّر في ثفناته. والكاظم عليه السّلام حليف السّجدة الطّويلة، والدّموع الغزيرة،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 322

و الضّراعات المتّصلة، وكان له غلام أسود بيده مقصّ يأخذ اللّحم من جبينه، وعرنين أنفه من كثرة سجوده. وهذه سيرة العبّاد فضلا عن أئمّة العباد عليهم السّلام.

104-  كأنّه قلع داريّ عنجه نوتيّه

من خطبة له عليه السّلام يصف فيها ذنب الطّاوس وجناحه: «بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه، وسما به مطلّا على رأسه، كأنّه قلع داريّ عنجه نوتيّه». قال ابن أبي الحديد: ثمّ ذكر ذنب الطّاوس، وأنّه طويل المسحب، وأنّ الطّاوس إذا درج إلى الأنثى للّسفاد، نشر ذنبه من طيّه، وعلابه مرتفعا على رأسه.

و القلع: شراع السّفينة، وجمعه قلاع. والدّاريّ: جالب العطر في البحر من دارين، وهي فرضة بالبحرين فيها سوق يحمل إليها المسك من‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 323

الهند. وفي الحديث: «الجليس الصّالح كالدّاريّ، إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه». قال الشّاعر:

         إذا التّاجر الدّاريّ جاء بفأرة            من المسك راحت في مفارقهم تجري‏

 

و النّوتيّ: الملّاح، وجمعه نواتيّ. وعنجه: عطفه، وعنجت خطام البعير: رددته على رجليه، أعنجه بالضّم، والاسم العنج بالتّحريك. وفي المثل: (عود يعلّم العنج). يضرب مثلا لتعليم الحاذق. قال الميدانيّ: العنج بتسكين النّون: ضرب من رياضة البعير، وهو أن يجذب الرّاكب خطامه، فيردّه على رجليه. ومعنى المثل: أنّه جلّ عن الرّياضة كما جلّ ذلك عن التّلقيح وذلك أنّ العنج إنّما يكون للبكارة، فأمّا العودة (: أي المسنّة) فلا تحتاج إليه. قال ابن الأثير: وفيه: (مثل الجليس الصّالح مثل الدّاريّ)، الدّاريّ بتشديد الياء: العطّار، قالوا: لأنّه نسب إلى دارين، وهو موضع في البحر، يؤتى منه بالطّيب. ومنه كلام عليّ رضي اللَّه عنه-  عليه السّلام- : «كأنّه قلع داريّ»: أي شراع منسوب إلى هذا الموضع البحريّ.

------------------------------------------------------------------- صفحة 324

و المعنى: أنّ مثل الطّاوس إذا نشر جناحه، ورفع ذنبه مثل الملّاح الّذي يرفع شراع السّفينة، لإجراء الرّياح في علمه، حتّى تسرع في سيرها، وتصل إلى المقصد. وكذلك الطّاوس عند ما أراد السّفاد نشر الجناح، ورفع الذّنب ليصل إلى مقصوده. فانظر كيف صوّر الإمام عليه السّلام حالة الطّاوس عند ما أراد إبقاء نوعه بما يمثّل حالة الملّاح، للوصول إلى المقصد المنظور.

قيل: ممّا خصّ اللَّه به بلاد الهند الطّاوس. قال الجاحظ: والفيل والببر والطّاوس والببغا والدّجاج السّنديّ والكركدنّ ممّا خصّ اللَّه به الهند. وفي القول: بأنّه من طير الجنّة، قال: فما كان كالخيل والظّباء والطّواويس والتّدارج فإنّ تلك في الجنّة ويلذّ أولياء اللَّه عزّ وجلّ بمناظرها. وممّا يونق بمنظره ويمتّع الأبصار حسنه كالطّواويس والتّدارج. وإنّما حسنه في تعاريج ريشه وجمال منظره.

و ممّا جاء: «أنّه ذكر عند أبي الحسن عليه السّلام حسن الطّاوس: فقال: لا يزيدك على حسن الدّيك الأبيض بشي‏ء». وعن الرّضا عليه السّلام «قال: الطّاوس مسخ، كان رجلا جميلا، فكابر امرأة رجل مؤمن تحبّه، فوقع بها، ثمّ راسلته بعد فمسخها اللَّه تعالى طاوسين، أنثى وذكرا، فلا تأكل لحمه ولا بيضه». وأعجب الأمور أنّه مع حسنه يتشأّم.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 325

105-  كاد العفيف أن يكون ملكا من الملائكة

قال عليه السّلام: «ما المجاهد الشّهيد في سبيل اللَّه بأعظم أجرا ممّن قدر فعفّ لكاد العفيف أن يكون ملكا من الملائكة». نفي أعظميّة الأجر يلازم إمّا المساواة مع أجر العفيف، أو يكون الشّهيد أقلّ والوجه في ذلك أنّ العفّة بما لهذه الكلمة من معنى هي الجهاد الأكبر، والقتل في سبيل اللَّه الجهاد الأصغر، والأكبر أعظم أجرا من الأصغر لا محالة.

و بيانه: بأنّ من يقدر على ارتكاب الشّهوات والمحرّمات، فيعفّ عنها ويقدّم رضا اللَّه عزّ وجلّ على رضا نفسه وهواها، هو بمنزلة من يقتل في كلّ يوم سبعين مرّة، والمجاهد بالسّيف مرّة واحدة.

و قد روى الشّيخ الصّدوق بالسند الصّحيح عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  بعث سريّة، فلمّا رجعوا، قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 326

الجهاد الأكبر: قيل: يا رسول اللَّه وما الجهاد الأكبر فقال: جهاد النّفس». «و إنّ أفضل الجهاد من جاهد نفسه الّتي بين جنبيه». ثمّ العفّة صنوف: عفّة اليد عن جنايات تخصّها، وعفّة اللّسان كذلك، وعفّة الفرج، وهي العظمى، وعفّة البطن، وعفّة سائر الأعضاء، كلّ بحسبه، فمثلا عفّة البصر عن النّظر إلى ما لا يحلّ، وهكذا.

و في حديث: «من عشق فكتم، وعفّ، وصبر، فمات مات شهيدا، ودخل الجنّة». وفي حكمة سليمان: «إنّ الغالب لهواه أشدّ من الّذي يفتح المدينة وحده». وفي القرآن من مشتقّات العفّة منها، ما جاء في العفّة عن السّؤال كما في وصف أهل الصفّة: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. ومنها العفّة في الأكل، وهي: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، وآيتان في العفّة العظمى، هما: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً، وأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فالمجموعة أربع آيات.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 327

و في العّفة العظمى حكايات ذكرها بعض الشّرّاح، ملخّصها فيما يلي: نزل خارجيّ على بعض إخوانه مستترا عن الحجّاج، فشخص المنزول عليه لبعض حاجاته، وقال لزوجته: يا ظمياء أوصيك بضيفي هذا خيرا، وكانت من أحسن النّاس. فلمّا عاد بعد شهر، قال لها: كيف كان ضيفك قالت: ما أشغله بالعمى من كلّ شي‏ء، وكان الضّيف أطبق جفنيه، فلم ينظر إلى المرأة، ولا إلى منزلها، إلى أن عاد زوجها.

و قال الشّاعر:

         إن أكن طامح اللّحاظ فإنّي            والذي يملك القلوب عفيف

 

و قال بعضهم:

         وإنّي لعفّ عن فكاهة جارتي            وإنّي لمشنوء إليّ اغتيابها

         إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها        صديقا ولم تأنس إليّ كلابها

         ولم أك طالبا أحاديث سرّها            ولا عالما من أيّ حوك ثيابها

 

و قال أبو سهل السّاعديّ: دخلت على جميل في مرض موته، فقال: يا أبا سهل رجل يلقى اللَّه ولم يسفك دما حراما، ولم يشرب خمرا، ولم يأت فاحشة، أ ترجو له الجنّة قلت: إي واللَّه، فمن هو قال: إنّي لأرجو أن أكون أنا ذلك، فذكرت له بثينة، فقال: إنّي لفي آخر يوم من أيّام الدّنيا،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 328

و أوّل يوم من أيّام الآخرة، لانالتني شفاعة محمّد-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  إن كنت حدّثت نفسي بريبة معها، أو مع غيرها قطّ.

قال الشّاعر:

         ثنتان لا أصبو لوصلهما            عرس الصّديق وجارة الجنب‏

         أمّا الصّديق فلست خائنه         والجار أوصاني به ربّي

 

يريد: قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ. يقال: إنّ امرأة ذات جمال دعت عبد اللَّه بن عبد المطلب إلى نفسها، لما كانت ترى على وجهه من النّور، فأبى وقال:

         أمّا الحرام فالممات دونه            والحلّ لا حلّ فأستبينه‏

         فكيف بالأمر الذى تبغينه           يحمي الكريم عرضه ودينه‏

 

خرجت امرأة من صالحات نساء قريش إلى بابها لتغلقه، ورأسها مكشوف، فرآها رجل أجنبي، فرجعت وحلقت شعرها، وكانت من أحسن النّساء شعرا. فقيل لها في ذلك، قالت: ما كنت لأدع على رأسي شعرا رآه من ليس لي بمحرم.

في الحديث المرفوع: «لا تكوننّ حديد النّظر إلى ما ليس لك فإنّه لا يزني فرجك ما حفظت عينيك، وإن استطعت ألّا تنظر إلى ثوب المرأة

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 329

الّتي لا تحلّ لك فافعل، ولن تستطيع ذلك إلّا بإذن اللَّه». قال الشّاعر:

         ما إن دعاني الهوى لفاحشة            إلّا نهاني الحياء والكرم‏

         ولا إلى محرم مددت يدي            ولا مشت بي لريبة قدم‏

 

قال بعض الحكماء: إذا شئت أن تعرف ربّك معرفة يقينيّة فاجعل بينك وبين المحارم حائطا من حديد، فسوف يفتح عليك أبواب معرفته. كان في عصر الدّولة الصّفويّة في أصبهان رجل، قد لجأت إليه فتاة تائهة، وطلبت منه المبيت ليلتها، فقبلها، وبات تحدّثه النّفس والشّيطان بالنّيل منها، فعمد إلى إصبع من أصابعه، فأحرقه بسراج كان هناك، فأصبح وقد أحرقها كلّها، وقال: اذهبي إلى أهلك، ثمّ وجدوها فحدّثتهم بالإحراق، وبالنّتيجة زوّجوها منه جزاء عفّته. وهي حقيقة التّقوى الّتي تكفّ النّفس عن ركوب المحرّمات. في باقريّ: «ما عبادة أفضل عند اللَّه من عفّة بطن وفرج». ونبويّ: «أكثر ما تلج به أمّتي النّار الأجوفان: البطن، والفرج». وعلويّ: «أفضل العبادة العفاف». وصادقيّ: «إنّما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه...».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 330

106-  كجؤجؤ سفينة، أو نعامة جاثمة

من كلام له عليه السّلام في ذمّ أهل البصرة.

قوله عليه السّلام فيه: «كأنّي بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث اللَّه عليها العذاب، من فوقها ومن تحتها، وغرق من في ضمنها». وفي رواية: وأيم اللَّه لتغرقنّ بلدتكم، حتّى كأنّي أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة، أو نعامة جاثمة.

و في رواية: «كجؤجؤ في لجّة بحر». وفي رواية: «... كأنّي أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها الماء حتّى ما يرى منها إلّا شرف المسجد كأنّه جؤجؤ طير في لجّة بحر». قال المعتزليّ: والجؤجؤ: عظم الصّدر وجؤجؤ السّفينة: صدرها.

فأمّا إخباره عليه السّلام: أنّ البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها، فقد رأيت من يذكر: أنّ كتب الملاحم تدلّ على أنّ البصرة تهلك بالماء الأسود، ينفجر من أرضها، فتغرق ويبقى مسجدها.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 331

و الصّحيح: أنّ المخبر به قد وقع فإنّ البصرة غرقت مرّتين، مرّة في أيّام القادر باللَّه، ومرّة في أيّام القائم بأمر اللَّه، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلّا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطّائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السّلام، جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السّنام، وخربت دورها، وغرق كلّ ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها.

و أخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة، يتناقلها خلفهم عن سلفهم. وقال الشّيخ الطّريحيّ في الحديث «: ينبغي لمن سجد سجدة الشّكر أن يلصق جؤجؤه بالأرض». الجؤجؤ بضمّ المعجمتين من الطّائر والسّفينة: صدرهما. وقيل: الجؤجؤ: عظام الصّدر، ومنه حديث سفينة نوح عليه السّلام: «فضربت بجؤجؤها حول الجبل». والمراد بالجبل: ما قرب من نجف الكوفة. وقال البحرانيّ: وأمّا تشبيه ما يخرج من الماء من شرفات المسجد بصدر السّفينة، وفي الرّواية الأخرى بالنّعامة الجاثمة، وفي الرّواية الثّالثة بالطّائر في لجّة البحر فتشبيهات ظاهرة، يضرب به لقدر قليل بارز من الشّي‏ء، أو لبيان كيفيّة القلّة الباقية.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 332

أمّا النّعامة، فقال الجاحظ: والفرس تسمّي الأشياء بالاشتقاقات، كما تقول للنّعامة: (أشتر مرغ)، وكأنّهم في التّقدير قالوا هو طائر وجمل، فلم نجد هذا الاسم أوجب أن تكون النعامة نتاج ما بين الإبل والطّير، ولكن القوم لمّا شبّهوها بشيئين متقاربين، سمّوها بذينك الشّيئين.

و هم يسمّون الشّي‏ء المرّالحلو: (ترش شرين)، وهو في التّفسير حلو حامض. والنّعامة ذات ريش ومنقار وبيض وجناحين وليست من الطّير. ومن المثل قولهم: (إنما أنت نعامة، إذا قيل لها: احملي، قالت: أنا طائر وإذا قيل لها: طيري، قالت: أنا بعير). ثمّ التّمثيل بجثّو النّعامة لبروز بقيّتها شيئا قليلا منها بعد الجثوّ.

107-  كالجبل لا تحرّكه القواصف، ولا تزيله العواصف

من كلام له عليه السّلام، يجري مجرى الخطبة: فقمت بالأمر حين فشلوا، وتطلّعت حين تقبّعوا، ونطقت حين تعتعوا، ومضيت بنور اللَّه حين وقفوا، وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 333

فوتا، فطرت بعنانها، واستبددت برهانها، كالجبل لا تحرّكه القواصف، ولا تزيله العواصف......». للخطبة الشّريفة تتمّة مرهونة بوقتها، ومجموعها فصول يمتاز بعضها عن بعض، ويجمعها بيان ما كان عليه السّلام عليه، ومن هنا قال المعتزليّ وكلّ كلام منها ينحو به أمير المؤمنين عليه السّلام نحوا غير ما ينحوه بالآخر.

و الرّضيّ رحمه اللَّه تعالى التقطها من كلام لأمير المؤمنين عليه السّلام طويل منتشر، قاله بعد وقعة النّهروان، ذكر فيه حاله منذ توفّي رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  وإلى آخر وقت، فجعل الرّضيّ رحمه اللَّه تعالى ما التقطه منه سردا، وصار عند السّامع كأنّه يقصد به مقصدا واحدا. أقول: ينظر الشّريف الرّضيّ عليه من اللَّه الرّضا والرّضوان إلى ما يجمع كلامه عليه السّلام من بيان ما كان عليه، والامتياز وضده أمر نسبيّ.

و لنعد إلى الشّرح، يشير عليه السّلام ب «فقمت بالأمر...» إلى قيامه بالخلافة بعد قتل عثمان وفشله، وفشل من قبله حيث أنّهم لم يقوموا بما عليهم من حقوق وعدل. فإنّ أوّل الحقّ تسليم الحقّ إلى من هو أولى‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 334

منهم بالحقّ. وب: «و تطلّعت حين تقبّعوا» إلى طلوع جمال الولاية الكبرى ومحيّاها، لولاها لساخت الأرض بأهلها، بطلوع بدره التّام بعد ما غطى الظّلام الجزيرة، بل العالم بأسره، باغتصاب الخلافة الرّبّانيّة عن أهلها وهو التّقبّع الحقيقيّ المأخوذ من (قبع القنفذ) إذا أدخل راسه في جلده، وقد تقبّع الرّجل: أي اختبأ، وضدّه تطلّع. وإلى نطق الحقائق والمعارف والشّرائع بقوله عليه السّلام: «و نطقت حين تعتعوا» بعد مضيّ مدّة العيّ والحصر والتّردّد في الأوهام والجهالة الّتي كانت سائدة ومخيّمة على النّاس، مأخوذ من التّعتعة.

قال الشّيخ الطّريحيّ رحمه اللَّه في وصف عليّ عليه السّلام: «و نطقت بالأمر حين تتعتعوا» هو من التّعتعة في الكلام: التّردّد فيه من حصر أوعيّ: أي حين عجزوا عن القيام به. وفي الحديث: «ما قدّست أمّة لم تأخذ ضعيفها من قويّها بحقّه غير متعتع». وإلى خضوعه الذّاتيّ أمام اللَّه جلّ جلاله ب: «كنت أخفضهم صوتا» وإلى علوّ نفسه الشّريفة، واستباقها إلى العلى من غيره ب: «و أعلاهم فوتا». وإلى طيرانه بأعنّة الحقائق، وانفراده بالخطر في ميدان السّباق ب: «فطرت بعنانها واستبددت برهانها». وإلى يقينه باللَّه، وبما جاء به الرّسول صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم في جميع المقامات، وبشئون الخالق عزّ وجلّ، والخلق لا يشوبه ريب، وجهاده المتواصل في حياة النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، ومماته لا يزيله‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 335

شي‏ء بقوله عليه السّلام: «كالجبل لا تحرّكه القواصف، ولا تزيله العواصف». والقواصف واحدها القاصفة: أي الكاسرة من القصف بمعنى: الكسر أو الصّوت الشّديد، كما في آية: قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ، هي الّتي لها قصف: أي صوت شديد، كأنّها تقصف لأنّها لا تمرّ بشي‏ء إلّا قصفته. والعواصف جمع العاصفة، ومنها آية: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وهي الرّياح الشّداد. وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً،: أي إن أراد أن تعصف عصفت، وأن ترخى رخت. ثمّ إنّ هذا التّمثيل جاء في زيارة يوم توفّي فيه عليه السّلام، زاره بها الخضر عليه السّلام، عرّف النّاس بعض ماله من خصائص خصّه اللَّه عزّ وجلّ بها، وبعد ما عرفوه، ولا دروا ما هو ومن هو...

         إنّ للَّه في معاليك سرّا            أكثر العالمين ما علموه

 

فسلام اللَّه عليك غادية ورائحة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 336

108-  كر بيضة الغنم

في خطبة الإمام عليه السّلام الشّقشقيّة: «... مجتمعين حولي كر بيضة الغنم، فلّما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وفسق آخرون...». قال المعتزليّ: قوله: «كر بيضة الغنم»: أي كالقطعة الرّابضة من الغنم، يصف شدّة ازدحامهم حوله، وجثومهم بين يديه.

و قال القطب الرّاونديّ: يصف بلادتهم ونقصان عقولهم لأنّ الغنم توصف بقلّة الفطنة. وهذا التّفسير بعيد، وغير مناسب للحال. أقول: لو كانوا ذوي فطنة لما تمرّدوا على الإمام المعصوم عليه السّلام من قبل انتهاء الخلافة إليه بطاعة من لا طاعة له من قبل اللَّه عزّ وجلّ ولا رسوله صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم ولما افترقوا عليه إلى طوائف ناكثة، ومارقة وفاسقة الّذين صرّح عليه السّلام بهم في هذه الخطبة، وعليه فما قاله القطب الرّاونديّ حقّ ولا ينافي وصف شدّة الزّحام والكثرة به.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 337

و الرّبيضة، كما تقدّم: القطعة من البقر والفرس والكلب والغنم، كبروك الإبل وجثوم الطّير. ومنه الحديث: «إنّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  بعث ضحّاك بن سفيان إلى قومه وقال: إذا أتيتهم فاربض في دارهم ظبيا»: أي أقم فيها آمنا لا تبرح، كأنّك ظبي في كناسة قد امن حيث لا يرى إنسيّا. ومنها المثل: (منك ربضك، وإن كان سمارا): أي منك أهلك وخدمك وإن كانوا مقصّرين. وهذا كقولهم: (أنفك منك وإن كان أجدع). قال الشيخ الطّريحيّ: في الحديث: «أقلّ ما يكون بينك وبين القبلة مربض غنم، وأكثر ما يكون مربط فرس». مرابض الغنم جمع مربض بفتح الميم وكسر الباء: وهو موضع ربض الغنم، وهو كالجلوس للإنسان، وقيل: كالاضطجاع له. وفي حديث عليّ عليه السّلام: «و النّاس حولي كربيضة الغنم»: أي البارك. يريد بالحديث: الخطبة المبحوثة.

و لعلّ الغرض من التّمثيل العلويّ بيان عدم المعارضة، وتسليم القوم له عليه السّلام من غير خلاف في بداية الأمر، وإن اختلفوا عليه بعد ذلك، لقوله عليه السّلام: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة...» ويمكن أن يريد عليه السّلام به الكثرة المؤكّدة، لقوله: «مجتمعين حولي». لذكره المثل له، كما يقال: (مثل ربيعة ومضر). تمثيلا للكثرة. أو: (كالجراد) أو غير ذلك ممّا يدلّ على التّكثير.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 338

و لا شكّ أنّ الطّوائف الثّلاث هي من المجتمعين حوله عليه السّلام وهم من الكثرة الكاثرة يعني: أنّهم الآن مقبلون عليّ بكثرتهم، ولكن بعد مضيّ فترة من الزّمان، يخرجون عن طاعتي، ناكثين، مارقين، فاسقين.

فسلام اللَّه عليك من مظلوم ما أصبرك يا أمير المؤمنين

109-  كعرف الضّبع

قال عليه السّلام في خطبته الشّقشقيّة: «فما راعني إلّا والنّاس إليّ كعرف الضّبع، ينثالون عليّ من كلّ جانب حتّى لقد وطئ الحسنان، وشقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم......». إنّما لم نستوف الخطبة كلّها إلّا ما اشتمل على المثل للمثل المعروف: (لكلّ مقام مقال). قوله عليه السّلام: «كعرف الضّبع». قال ابن فارس: العين والرّاء والفاء أصلان صحيحان، يدلّ أحدهما على تتابع الشّي‏ء متّصلا بعضه ببعض، والآخر على السّكون والطّمأنينة. فالأوّل: العرف عرف‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 339

الفرس. وسمّي بذلك لتتابع الشّعر عليه، ويقال: جاءت القطا عرفا عرفا: أي بعضها خلف بعض. والأصل الآخر: المعرفة والعرفان، تقول: عرف فلان فلانا عرفانا ومعرفة. وهذا أمر معروف. وهذا يدلّ على ما قلناه من سكونه إليه لأنّ من أنكر شيئا توحّش منه، ونبا عنه. والشّاهد للأوّل من الأصلين، قيل في: «وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً» يعني: الملائكة أرسلوا للمعروف والإحسان. والعرف ضدّ النكر. وقيل: أراد أنّها أرسلت متتابعة كعرف الفرس. أقول: وللضّبع شعر متتابع يسمى عرفه كالفرس.

قال المعتزليّ: عرف الضّبع ثخين، ويضرب به المثل في الازدحام.

و ينثالون: يتتابعون مزدحمين. والحسنان: الحسن والحسين عليهما السّلام. والعطفان: من المنكب إلى الورك، ويروى: (عطافي).

و العطاف: الرّداء وهو أشبه بالحال، إلّا أنّ الرّواية الأولى أشهر، والمعنى: خدش جانباي لشدّة الاصطكاك منهم والزّحام.

و قال القطب الرّواندي: الحسنان: إبها ما الرّجل، وهذا لا أعرفه. وقال السّيد الخطيب: عرف الضّبع: شبّه كثرتهم بكثرته، والعرف: الشّعر النّابت على عنق الفرس فاستعار للضّبع. وعليه فلا عرف له،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 340

نعم عدّ من ذوات الشّعر كالماعز. واسم الضّبع الفارسيّ: (كفتار). ومن المثل السّائر: (عزلت السّباع ووليّت الضّباع). وكيف كان فالمراد كما تقدّم: زحام النّاس عليه عليه السّلام للبيعة (بعد اللّتيا والّتي). ولم تفتح إمارته إلّا بالحروب الطّاحنة، من حرب الجمل وصفّين والنّهروان، وقد ملأوا قلبه الشّريف قيحا. كما قال عليه السّلام: «لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرّ عتموني نغب التّهام أنفاسا، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان......» إلّا القليل ممّن وفى لرعاية الحقّ، وأطاع إمامه المعصوم عليه السّلام.

و النُغَب جمع نغبة وهي: الجرعة. والتّهام: الهمّ.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 341

110-  كفى بالمرء جهلا ألّا يعرف قدره

في خطبة له عليه السّلام حاوية لعدّة أمثال منها: «و كفى بالمرء جهلا ألّا يعرف قدره». ونظيره في خطبة أخرى: «العالم من عرف قدره، وكفى بالمرء جهلا ألّا يعرف قدره، وإنّ من أبغض الرّجال إلى اللَّه تعالى لعبدا وكله اللَّه إلى نفسه......». ذكرناه بعنوان: «العالم من عرف قدره». من الأمثال المشهورة صرّح به المعتزليّ. وفي معناه: «و ما هلك امرؤ عرف قدره».

و فيما رواه الشّيخ الصّدوق طاب ثراه بسنده عن عامر الشّعبيّ قال: تكلّم أمير المؤمنين-  عليه السّلام-  بتسع كلمات، ارتجلهنّ ارتجالا، فقأن عيون البلاغة، وأيتمن جواهر الحكمة، وقطّعن جميع الأنام عن اللّحاق بواحدة منهنّ: ثلاث منها في المناجاة، وثلاث منها في الحكمة، وثلاث منها في الأدب. فأمّا اللّاتي في المناجاة، فقال: «إلهي كفى لي‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 342

عزّا أن أكون لك عبدا، وكفى بي فخرا أن تكون لي ربّا، أنت كما أحبّ، فاجعلني كما تحبّ». وأمّا اللّاتي في الحكمة، فقال: «قيمة كلّ امرئ ما يحسنه، وما هلك امرؤ عرف قدره، والمرء مخبوّ تحت لسانه». وأمّا اللّاتي في الأدب، فقال: «امنن على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره». يضرب في الحثّ على معرفة النّفس. وقد ذكرنا حديث الشّعبيّ عند التّكلّم على ما هو الصّالح للمثل: «غرّك عزّك، فصار قصار ذلك ذلّك». وقلنا: إنّ كلماته عليه السّلام لا تقصر على التّسع، فراجع. ما هو قدر المرء الّذي ذمّ الجهل به نقول: للإنسان فراغ لا يسدّه إلّا اللَّه وحده، ولا تكفيه الكوافي، مهما كان نوعها وشكلها من مناصب وملاذّ وغيرها. ومن هنا قال عليه السّلام: «ما لعليّ ولنعيم يفنى، ولذّة لا تبقى، نعوذ باللَّه من سبات العقل، وقبح الزّلل، وبه نستعين». يلقي أضواء ودروسا من المعرفة يعرفها العارف، تصديقا لقوله عزّ وجلّ: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ. بلى واللَّه هو الكافي لا سواه، نجد في أنفسنا طلبا لا يقف على حدّ إلّا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 343

و نشبع منه إذا أوتيناه، ثمّ نطلب شيئا بعد شي‏ء حتّى نترفّع عنه، وذلك لرفعة النّفس عن العالم كلّه إلى أن تنتهي إلى اللَّه، فتسكن وتطمئنّ، وهو قوله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. وهي الّتي جعلت همومها همّا واحدا انفردت به، ألا وهو همّ اللَّه تعالى فحسب:

         اللَّه ربّ النّاس فارفع همّكا            لا شي‏ء غير اللَّه أن يهمّكا

 

111-  كلاب عاوية وسباع ضارية

هذا أحد أمثال ضربها في وصيّة له لابنه الحسن عليهما السّلام: «و إيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدّنيا إليها، وتكالبهم عليها، فقد نبّأك اللَّه عنها، ونعتت لك نفسها، وتكشّفت لك عن مساويها. فإنّما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهرّ بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها». تكلّمنا على بعض الأمثال المذكورة فيها بعنوان: «سروح عاهة بواد وعث» بما يربط الموضوع فراجع.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 344

قال الشّيخ المحدّث القميّ طاب ثراه: وساق عليه السّلام الكلام في زهد الأنبياء عليهم السّلام، وتنزّههم عنها، وأنّهم أنزلوا الدّنيا من أنفسهم، كالميتة الّتي لا يحلّ لأحد أن يأكل منها، إلّا في حال الضّرورة إليها، وأنّهم أكلوا منها بقدر ما أبقى لهم النّفس، وأمسك الرّوح، وجعلوها بمنزلة الجيفة الّتي اشتدّ نتنها، فكلّ من مرّبها أمسك على فيه. وفي نسخة: على فمه.

قال الباقر عليه السّلام: «ما الدّنيا وما عسى أن تكون الدّنيا هل هي إلّا طعام أكلته، أو ثوب لبسته-  إلى أن قال:-  فأنزل الدّنيا كمنزل نزلته، ثمّ ارتحلت عنه، أو كمال وجدته في منامك، واستيقظت وليس معك منه شي‏ء، إنّي إنّما ضربت لك هذا مثلا لأنّها عند أهل اللّبّ والعلم باللَّه كفي‏ء الضّلال». والنّبويّ: «إذا تخلّى المؤمن من الدّنيا سما، ووجد حلاوة حبّ اللَّه، وكان عند أهل الدّنيا كأنّه قد خولط، وإنّما خالط القوم حلاوة حبّ اللَّه، فلم يشتغلوا بغيره. وقال: إنّ القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتّى يسمو». وإنّما أمير المؤمنين عليه السّلام يكرّر في خطبه ووصاياه من ضرب الأمثال للدّنيا، تحذيرا لمن يحبّها ويعتنقها فإنّ حبّها رأس كلّ خطيئة،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 345

كما نصّ عليه الحديث، ولعلمه عليه السّلام بحقيقتها، وما يعقب حبّها من آثار سيّئة.

فتجده عليه السّلام في هذه الوصيّة الشّريفة يمثّل لك الدّنيا بجيفة، لا يطلبها سوى الكلاب العاوية والسّباع الضّارية الهارّة بعضها على بعض مخافة الاستباق إليها، فيقلّ سهمه من الجيفة، وكذلك أهل الدّنيا يتكالبون في حطامها، فيقهر قويّهم ضعيفهم للحصول على الأكثر منها، وأمّا العارفون بحقيقة الدّنيا يتعجّبون من تكالبهم، وعلى رأسهم الأئمّة الهداة عليهم السّلام.

112-  كلعقة لاعق

من كتاب له عليه السّلام إلى أهل البصرة، أوّله: «و قد كان من انتشار حبلكم وشقاقكم ما لم تغبوا عنه، فعفوت عن مجرمكم...... ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة، لا يكون يوم الجمل إليها إلّا كلعقة لاعق...». شقاق أهل البصرة مع أمير المؤمنين عليه السّلام معروف. وجاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 346

ذمّهم على لسانه عليه السّلام غير مرّة، وكفى شقاقا يوم الجمل، والكلام تهديد لتكرير الشّقاق والخلاف منهم، وأنّه عليه السّلام يوقع وقعة هي أمرّ وأدهى من يوم الجمل، بل لا يكون القياس إلى الوقعة المتوقّعة إلّا بمثل لعقة لاعق.

قال الشّارح: «كلعقة لاعق»، مثل يضرب للشّي‏ء الحقير التّافه، ويروى بضمّ اللّام: وهي ما تأخذه الملعقة. قال الشّيخ الطّريحيّ: في الحديث: «الويل لمن باع معاده بلعقة لم تبق». اللّعقة بالفتح: المرّة من لعقت الشّي‏ء بالكسر، ألعقه لعقا: أي لحسته، ومنه لعق الأصابع.

و من كلام له عليه السّلام في أمر الخلافة وتأخيره عنها: «و هل هي إلّا كلعقة الآكل، ومذقة الشّارب، وخفقة الوسنان، ثمّ تلزمكم المعرّات». ومثله قوله عليه السّلام: «مصادرين أحدكم لعقة على لسانه صنيع من قد فرغ من عمله، وأحرز رضى سيّده». ومثله قوله عليه السّلام في خلافة مروان: «إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه»، لأنّ خلافته كانت ستة أشهر. من ذلك كلّه عرف أنّ المثل المذكور يضرب للأمر التّافه وللقلّة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 347

و قد يأتي من لفظه لما لم يكن له حقيقة ثابتة، كقول الإمام الحسين عليه السّلام في كلام له: «الدّين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الدّيّانون».

113-  كلّ غدرة فجرة

من كلام له عليه السّلام: «و اللَّه ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس، ولكن كلّ غدرة فجرة، وكلّ فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة، واللَّه ما أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشّديدة». قال المعتزليّ: الغدرة على (فعلة): الكثير الغدر، والفجرة والكفرة: الكثير الفجور والكفر، وكلّ ما كان على هذا البناء فهو للفاعل، فإن سكّنت العين فهو للمفعول، تقول: رجل ضحكة: أي يضحك، وضحكة: يضحك منه... يقول عليه السّلام: كلّ غادر فاجر، وكلّ فاجر كافر.

و قوله: «لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة»، حديث صحيح مرويّ عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  ثمّ أقسم عليه السّلام أنّه‏

 

مثال‏والحكم‏المستخرجةمن‏نهج‏البلاغة، صفحة 348

لا يستغفل بالمكيدة: أي لا تجوز المكيدة عليّ، كما تجوز على ذوي الغفلة، وأنّه لا يستغمز بالشّديدة: أي لا أهين ولا ألين للخطب الشّديد. وقال: وأمّا الرّأي والتّدبير، فكان من أسدّ النّاس رأيا، وأصحّهم تدبيرا، وهو الّذي أشار على عثمان بأمور، كان صلاحه فيها، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث وإنّما قال أعداؤه: لا رأي له لأنّه كان متقيّدا بالشّريعة، لا يرى خلافها، ولا يعمل بما يقتضي الدّين تحريمه. وقد قال عليه السّلام: «لو لا التّقى لكنت أدهى العرب». وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه، سواء أ كان مطابقا للشّرع أم لم يكن ولا ريب أنّ من يعمل بما يؤدّي إليه اجتهاده، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها ممّا يرى الصّلاح فيه تكون أحواله الدّنيويّة إلى الانتظام أقرب، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدّنيويّة إلى الانتثار أقرب.

و أمّا السّياسة، فإنّه كان شديد السّياسة خشنا في ذات اللَّه، لم يراقب ابن عمّه في عمل كان ولّاه إيّاه، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به، وأحرق قوما بالنّار، ونقض دار مصقلة بن هبيرة، ودار جرير بن عبد اللَّه البجليّ، وقطع جماعة، وصلب آخرين إجراء لحدود اللَّه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 349

تعالى عليهم، غير مداهن، ولا متوان، ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم، ولا أخوّة أخ أو قرابة كما يصنع غيره من الخلفاء من تعطيل حدوده عزّ وجلّ، بل تجاوزهم الموجب لها وغدرهم الّذي عدّوابه من دهاة النّاس.

و قال أيضا: أي المعتزليّ: اعلم أنّ السّائس لا يتمكّن من السّياسة البالغة إلّا إذا كان يعمل برأيه، وبما يرى فيه صلاح ملكه، وتمهيد أمره، وتوطيد قاعدته، سواء وافق الشّريعة أو لم يوافقها. ومتى لم يعمل في السّياسة والتّدبير بموجب ما قلناه، فبعيد أن ينتظم أمره، أو يستوثق حاله، وأمير المؤمنين كان مقيّدا بقيود الشّريعة، مدفوعا إلى اتّباعها، ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتّدبير، إذا لم يكن للشّرع موافقا، فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممّن لم يلتزم بذلك.

و لسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطّاب، ولا ناسبين إليه ما هو منزّه عنه، ولكنّه كان مجتهدا، يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة. إلى آخر ما لفّقه لتبرير أعماله.

و نقول له: هل الرّسول صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم كان يعمل بالقياس، حتّى يتبعه الخليفة أم يرى ما لا يراه والحديث ذو شجون.

و قد جاء من روايات أهل بيت النّبوّة عليهم السّلام ما يقرب من مائة وثلاثين حديثا في منع القياس، منها الباقريّ: «قال لأبي حنيفة: اتّق اللَّه، ولا تقس في الدّين برأيك فإنّ أوّل من قاس إبليس...».

------------------------------------------------------------------- صفحة 350

و قد جرى الحقّ على لسان المعتزليّ، إلّا أنّه منعه من القبول ما اللَّه يعلمه. ومن هوان الأمور مقارنة أمير المؤمنين عليه السّلام مع غيره في ذلك. مع أنّ الفتك والغدر لا يقدم عليه من له أدنى مرتبة من الإيمان لأنّ الإيمان قيد الفتك. كيف وهو أمير المؤمنين، وسيّد العارفين.

 

114-  كلّ متوقّع آت، وكلّ آت قريب دان

قال عليه السّلام: «كلّ معدود منقض وكلّ متوقّع آت، وكلّ آت قريب دان». تكلّمنا على الكلمة الأولى. قال ابن أبي الحديد: فأمّا قوله: «و كلّ متوقّع آت» فيماثله قول العامّة في أمثالها: (لو انتظرت القيامة لقامت). والقول في نفسه حقّ لأنّ العقلاء لا ينتظرون ما يستحيل وقوعه، وإنّما ينتظرون ما يمكن وقوعه، وما لا بدّ من‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 351

وقوعه، فقد صحّ أنّ كلّ منتظر سيأتي. وردّه الشّيخ التّستريّ، بأنّ المراد بالمتوقّع: الموت، والموت حتم آت، وإنّما أتى عليه السّلام بلفظة (كلّ) لأنّ المتوقّع كلّ حتميّ لا يعلم ساعة وقوعه لا ما يمكن وقوعه فانّه لا يجب وقوعه، كالمطر في الشّتاء، وبالجملة، كلامه عليه السّلام استدلال بالعلّة والمعلول حتى يلتزم بالقبول. وهو (يعني المعتزليّ) جعله ككلام عاميّ مرذول. أقول: يراد بالمتوقّع الآتي: الأعمّ من الموت والقيامة، وكلّ أمر واقع عقلا أو عادة والشّمول أقرب إلى ظاهر الكلام أنّ كلّ ما يتوقّع لا بدّ أن يأتي وكلّ ما سيأتي فهو قريب وكأنّه قد أتى.

قال الشّارح المعتزليّ: وهذا مثل قول قسّ بن ساعدة الإياديّ: (مالي أرى النّاس يذهبون ثمّ لا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا أقسم قسّ قسما، إنّ في السّماء لخبرا، وإنّ في الأرض لعبرا، سقف مرفوع، ومهاد موضوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور. اسمعوا أيّها النّاس وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت). أقول: من مات لم يفت، نعم فاتت منه أمور لزمته تبعتها في البرزخ والقيامة، لا ما قالته الدّهريّة، كما حكاه اللَّه عزّ وجلّ عنهم: وَقالُوا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 352

ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ. بل بعد الموت حياة ومساءلة ونعيم ونار وعقبات لا تأتي في حسبان إنسان، ولا تخطر على قلب، إلّا كما وصف في القرآن الكريم، وكتب السّماء، وأخبر بها أنبياء اللَّه تعالى يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ. وما بين أحدكم وبين الجنّة والنّار إلّا الموت أن ينزل به. «فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ. إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ». «و إِنّ غاية تنقصها اللّحظة وتهدمها السّاعة لجديرة بقصر المدّة». الغاية: مدى الشّي‏ء، والجمع غاي مثل ساعة وساع. والسّاعة: الوقت الحاضر. والجمع السّاعات. قال القطاميّ:

         وكنّا كالحريق لدى كفاح            فيخبو ساعة ويهبّ ساعا

 

و في المصباح: السّاعة: الوقت من ليل أو نهار، والعرب تطلقها وتريد بها: الوقت والحين، وإن قلّ، وعليه قوله تعالى: لا يَسْتَأْخِرُونَ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 353

ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. «و إنّ غائبا يحدوه الجديدان، اللّيل والنهار، لحريّ بسرعة الأوبة».

         وكلّ يوم مضى أو ليلة سلفت            فيها النّفوس إلى الآجال تزدلف

 

115-  كلّ معدود منقض

قال عليه السّلام: «كلّ معدود منقض، وكلّ متوقع آت». هذا تنبيه بطريق الاستدلال النّظريّ، على انّ الدّنيا زائلة ومنصرفة، وقد استدلّ المتكلّمون بهذا على أنّ حركات الفلك يستحيل ألّا يكون لها أوّل، فقالوا: لأنّها داخلة تحت العدد، وكلّ معدود يستحيل أن يكون غير متناه. قاله الشّارح المعتزليّ، وهو الحقّ، فلا مجال للتّشكيك في حدوث المعدود وانتهائه، كما في قول له في شرح الكلمة في موضوع آخر، قال: الكلمة الأولى تؤكّد مذهب جمهور المتكلّمين، في أنّ العالم كلّه لا بدّ أن‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 354

ينقضي ويفنى، ولكنّ المتكلّمين الذّاهبين إلى هذا القول لا يقولون: يجب أن يكون فانيا ومنقضيا لأنّه معدود. فإنّ ذلك لا يلزم، ومن الجائز أن يكون معدودا، ولا يجب فناؤه ولهذا قال أصحابنا: إنّما علمنا أنّ العالم يفنى عن طريق السّمع، لا من طريق العقل.

فيجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على ما يطابق ذلك، وهو أنّه ليس يعني أنّ العدد علّة في وجوب الانقضاء، كما يشعر به ظاهر لفظه، وهو الّذي يسمّيه أصحاب أصول الفقه إيماء، وإنّما مراده كلّ معدود فاعلموا أنّه فان ومنقض، فقد حكم على كلّ معدود بالانقضاء حكما مجرّدا عن العلّة. كما لو قيل: زيد قائم. ليس يعني أنّه قائم، لأنّه يسمّى زيدا. أقول: ما لا آخر له لا أوّل له: وكان أزليّا، فلو فرض أنّ المعدود لا يجب فناؤه، فلا آخر له، وعليه فلا أوّل له، وقد أبطله الإمام عليه السّلام في خطبة له: «... ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله...». قال المعتزليّ في شرح (فقد عدّه): أي جعله من جملة الجثّة المعدودة فيما بيننا، كسائر البشر والحيوانات. ومن قال بذلك فقد أبطل أزله لأنّ كلّ ذات مماثلة لهذه الذّوات المحدثة فإنّها محدثة مثلها، والمحدث لا يكون أزليّا.

------------------------------------------------------------------- صفحة 355

و في (غرر الحكم): «كلّ معدود منتقص، كلّ سرور منقض، كلّ جمع إلى شتات، كلّ متوقّع آت». والرّواية بهذه الصّورة تفيد أنّ الرّضيّ انتزع هذه الكلمة من جملة كلام له عليه السّلام، قاله السّيّد عبد الزّهراء. وعلى ثبوت النّسخة أنّ لازم النّقض الانقضاء وهو يلازم الفناء، والفاني: ما له آخر، وما له آخر له أوّل. وقد أشار الإمام عليه السّلام إلى هذه القاعدة: أي نفي الأزليّة والأبديّة عن المعدود.

في الحديث: «أنّ أعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال: يا أمير المؤمنين أتقول أنّ اللَّه واحد قال: فحمل النّاس عليه، وقالوا: يا أعرابيّ أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: دعوه فإنّ الّذي يريده الأعرابيّ هو الّذي نريده من القوم، ثمّ قال: يا أعرابيّ إنّ القول في أنّ اللَّه واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على اللَّه عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد، يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد...». اقتصرنا عليه، وهو واضح.

و قد أجاب عن الإشكال بعض الشّرّاح بقوله: ما طوّله نفخ في غير ضرام، فإنّ مراده عليه السّلام: أنّ سنيّ عيش الإنسان وشهوره وأيّامه وساعاته وآناته وأنفاسه في الدّنيا معدودة، فلا بدّ أن تنقضي.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 356

116-  كما تدين تدان

من خطبة له عليه السّلام، أوّلها: «و هو في مهلة من اللَّه يهوى مع الغافلين...... وضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك فإنّ عليه ممرّك، وكما تدين تدان، وكما تزرع تحصد......». عن الإمام الصّادق عليه السّلام قال: «كانت امرأة على عهد داود، يأتيها رجل يستكرهها على نفسها، فألقى اللَّه عزّ وجلّ في قلبها، فقالت له: إنّك لا تأتيني مرّة إلّا وعند أهلك من يأتيهم. قال: فذهب إلى أهله، فوجد عند أهله رجلا، فأتى به داود عليه السّلام، فقال: يا نبيّ اللَّه وجدت هذا الرّجل عند أهلي، فأوحى اللَّه إلى داود قل له: كما تدين تدان». وعنه عليه السّلام: «أنّ اللَّه أوحى إلى موسى عليه السّلام: لا تزنوا، فتزنى نساؤكم، ومن وطئ فراش امرى‏ء وطئ فراشه، كما تدين تدان».

    

-------------------------------------------------------------------صفحة 357

من هنا يعلم أنّه مثل سماويّ، أثبتناه في الأمثال النّبويّة. وأثبته الأدباء عن ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، قال: كان ملك من ملوك غسّان ينقدر النّساء، لا يبلغه عن امرأة جمال إلّا أخذها.

فأخذ ابنة يزيد بن الصّعق، وكان أبوها غائبا، فلمّا قدم أخبر، فوفد على الملك، فصادفه متبدّيا، وكان الملك إذا تبدّى لم يحجب عنه أحد. فوقف منذ تحيّته يسمع كلامه، فقال:

         يا أيّها الملك المقيت أما ترى            ليلا وصبحا كيف يختلفان‏

         هل تستطيع الشّمس أن تأتي بها        ليلا وهل لك بالمليك يدان‏

         فاعلم وأيقن أنّ ملكك زائل            واعلم بأنّ كما تدين تدان‏

 

فأجابه الملك:

 

         إنّ الّتي سلبت فؤادك خطّة            مرفوضة فاصبر لها ابن كلاب‏

         فارجع بحاجتك الّتي طالبتها          والحق بقومك في هضاب إراب‏

 

ثمّ نادى: إنّ هذه سنة مرفوضة. قال أبو عبيدة: ما أنشدت هذه الأبيات ملكا ظالما إلّا كفته عن غربه. ومعنى المثل: كما تفعل يفعل بك.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 358

117-  كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف

في كلام له عليه السّلام يصف أصحاب محمّد صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم: «كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم إذا ذكر اللَّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف، خوفا من العقاب، ورجاء للثّواب». اطلب المثل الأوّل من حروفه. الجيوب جمع الجيب: وهو القميص، ويروى: «حتّى تبلّ جباههم»: أي يبلّ موضع السّجود، فتبتلّ الجبهة بملاقاته، (و مادوا): تحرّكوا واضطربوا، إمّا خوفا من العقاب، كما يتحرّك الرّجل ويضطرب، أو رجاء للثّواب، كما يتحرّك النّشوان من الطّرب، وكما يتحرّك الجذل المسرور من الفرح. العين الباكية من خشية اللَّه عزّ وجلّ آمنة قريرة يوم الفزع الأكبر، وإنّها من الأعين الثّلاث، كما نصّ عليها الحديث النّبويّ: «كلّ عين‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 359

باكية إلّا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية اللَّه، وعين غضّت من محارم اللَّه، وعين باتت ساهرة في سبيل اللَّه». عند الصّلاة كان المعصومون عليهم السّلام إذا قاموا إليها تصفرّ وجوههم، وترتعد فرائصهم من خشية اللَّه عزّ وجلّ، بل من اشتداد الخوف في جوف اللّيل. كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يغشى عليه حتّى يصير كالخشبة اليابسة في حديقة بني النّجار، وإذا قام في المحراب تململ تململ السّليم، وبكى بكاء الواله الحزين. والحسن عليه السّلام يصفرّ وجهه إذا اتّجه القبلة وارتعد. وقد عدّ السّجّاد من البكّائين الخمسة، ولكثرة العبادة لقّب بزين العابدين. ولم يوجد في خلائق الأوّلين والآخرين كأهل البيت عليهم السّلام بعد الرّسول الأعظم صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم أحد يضاهيهم في العبادة والبكاء من خشية اللَّه عزّ وجلّ، وارتعاد فرائصهم من خوفه تعالى. ثمّ الأمثل فالأمثل منهم من وصفهم عليه السّلام في هذه الخطبة وفي غيرها قال: «و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر». وقوله عليه السّلام: «مادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف». الميدان: الحركة مع الاضطراب. والتّمثيل باضطراب الشّجر لعاصفة

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 360

الرّيح لعلّه ناظر إلى هيئة قيامهم للصّلاة، وانتصابهم كانتصاب الشّجر، أو يراد: الارتعاد والاضطراب نفسه دون التّمثيل بالهيئة، ويمكن إرادتهما معا، والشّجر إذا اضطرب سمع منه تصافق الغصون بعضها ببعض من شدّة الرّيح العاصف وكلمة: (يوم الرّيح العاصف) تحكي عن هول الحال.

118-  كم من أكلة تمنع أكلات

من كلمات الإمام عليه السّلام المعدودة من الأمثال قوله: «كم من أكلة تمنع أكلات». قال المفضّل: أوّل من قال ذلك عامر بن الظّرب العدوانيّ، وكان من حديثه أنّه كان يدفع النّاس في الحجّ، فرآه ملك من ملوك غسّان، فقال: لا أترك هذا العدوانيّ حتّى أذلّه، فلمّا رجع ذلك الملك إلى منزله أرسل إليه: أحبّ أنّ تزورني، فأحبوك وأكرمك وأتّخذك خليلا، فأتاه قومه، فقالوا: تفد ويفد معك قومك، فيصيبون في جنبك، ويتّجهون بجاهك، فخرج، وأخرج معه نفرا من قومه، فلمّا قدم بلاد الملك أكرمه، وأكرم قومه، ثمّ انكشف له رأي الملك، فجمع أصحابه، وقال: الرّأي نائم، والهوى يقظان، ومن أجل ذلك يغلب‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 361

الهوى الرّأي، عجلت حين عجلتم، ولن أعود بعدها، إنّا قد تورّطنا بلاد هذا الملك، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه ولا بعجلة رأي أخفّ معه فإنّ رأيي لكم. فقال قومه: قد أكرمنا كما ترى، وبعد هذا ما هو خير منه، فقال: لا تعجلوا، فإنّ لكلّ عام طعاما وربّ أكلة تمنع أكلات...... نعم بين اللّفظين: أي (كم من أكلة، وربّ أكلة) فرق غير مضرّ.

قال الميدانيّ: يضرب في ذمّ حرص الطّعام، وسرد القصّة.

 والعسكريّ: يضرب مثلا للخصلة من الخير، تنال على غير وجه الصّواب، فتكون سببا لمنع أمثالها، ثمّ أشار إلى ما تقدّم من المفضّل. من العلل المانعة للأكلات عدم مضغها كما ينبغي، والمضغ ممّا يمري الطّعام الّذي لا يجرّ مرضا معه، إذا أكل الطّاعم عند الجوع، ورفع اليد عنه وهو يشتهي، وأجاد المضغ لم يشتك وجعا. ومنها كبر اللّقمة.

و منها العجلة في الأكل وسرعة الابتلاع. ومنها عدم التّعهّد لما يأكل (ربّ أكلة هاضت الآكل، ومنعته مآكل).

         كم أكلة خامرت حشاشره            فأخرجت روحه من الجسد.

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 362

119-  كناقش الشّوكة بالشّوكة

من كلام له عليه السّلام، وقد قام إليه رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة، ثمّ أمر تنابها، فما ندري أيّ الأمرين أرشد. فصفق عليه السّلام إحدى يديه على الأخرى، ثمّ قال: «هذا جزاء من ترك العقدة، أما واللَّه لو أنّي حين أمرتكم بما أمرتكم، حملتكم على المكروه الّذي يجعل اللَّه فيه خيرا، فإن استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم قوّمتكم، وإن أبيتم تداركتكم لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من أريد أن أداوي بكم، وأنتم دائي، كناقش الشّوكة بالشّوكة، وهو يعلم أن ضلعها معها». أثبتنا صدر الكلام لربط التّمثيل.

قال المعتزليّ: وهذا مثل مشهور: (لا تنقش الشّوكة بالشّوكة فإنّ ضلعها معها). والضّلع: الميل، يقول: لا تستخرج الشّوكة النّاشبة في رجلك بشوكة مثلها فإنّ إحداهما في القوّة والضّعف كالأخرى، فكما أنّ الأولى انكسرت لمّا وطئتها، فدخلت في لحمك، فالثّانية إذا حاولت‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 363

استخراج الأولى بها تنكسر، وتلج في لحمك. قال الزّمخشريّ بعد المثل: ويروى: فإنّ (إلبها)، والمعنى: ميلها.

يضرب في النّهي عن الاستعانة بمن هو للمطلوب منه الحاجة أنصح منه للطّالب. أوردناه في الأمثال النّبويّة. والغرض من التّمثيل به هنا يعرف من قبله، حيث قال عليه السّلام: «أريد أداوي بكم، وأنتم دائي». فأصحابه يزيدون في علّته بدل أن يرفعوها لأنّ حادثة التّحكيم لم تحدث إلّا من قبلهم، فكيف يعمل في رفعها بسبب هؤلاء، وهم قد أوجدوها فحالهم وحال الإمام عليه السّلام كمعالجة إخراج الشّوكة بشوكة أخرى، لا تزيدها إلّا ولوجا.

120-  كناقل التّمر إلى هجر

من الأمثال السّائرة، تمثّل به عليه السّلام في كتاب له جوابا إلى معاوية، وهو من محاسن الكتب، أوّله: «أمّا بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء اللَّه محمّدا...-  إلى أن قال عليه السّلام:-  فلقد خبأ لنا الدّهر منك عجبا، إذ طفقت تخبرنا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 364

ببلاء اللَّه عندنا، ونعمته علينا في نبيّنا، فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر، أو داعي مسدّده إلى النّضال...». يعني عليه السّلام: ما قيمتك يا معاوية وما أنت وتعديد نعم اللَّه عزّ وجلّ علينا أهل البيت و(أهل البيت أدرى بما في البيت). وأنّ أهل مكّة أعرف من غيرهم بشعابها. وليس مثلك يا معاوية وتعديد نعمه تعالى علينا إلّا كمستبضع التّمر إلى بلدة هجر من بلدة أخرى الّتي ينقل منها إلى غيرها التّمر لا إليها، فحالك حاله.

و تناول ذكر المثل جمع من الكتّاب: قال ابن ميثم: وأصل هذا المثل، أنّ رجلا قدم من هجر إلى البصرة بمال اشترى به شيئا للرّبح، فلم يجد فيها أكسد من التّمر، فاشترى بماله تمرا، وحمله إلى هجر، وادّخره في البيوت منتظرا به السّعر، فلم يزدده إلّا رخصا حتّى أنّه ربّما يبلغ سعر خمسين جلّة بدينار، ووزن الجلّة مائة رطل، فذلك خمسة آلاف رطل. قال النّيسابوريّ بعد المثل: قال أبو عبيد: هذا من الأمثال المبتذلة ومن قديمها وذلك أنّ هجر معدن التّمر، والمستبضع إليه مخطئ. قال النّابغة الجعديّ:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 365

 

         وإنّ امرأ أهدى إليك قصيدة            كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا

 

قال المعتزليّ: مثل قديم. و(هجر): اسم مدينة لا ينصرف للتّعريف والتّأنيث، وقيل: هو اسم مذكّر مصروف، والنسبة إليه هاجريّ على غير قياس، وهي بلدة كثيرة النّخل، يحمل منها التّمر إلى غيرها، قال الشّاعر في هذا المعنى:

         أهدي له طرف الكلام كما            يهدى لوالي البصرة التّمر

 

قوله: «أو داعي مسدّده إلى النّضال»: أي معلّمه الرّمي، وهذا إشارة إلى قول القائل الأوّل:

         أعلّمه الرّماية كلّ يوم            فلمّا استدّ ساعده رماني

 

 

قوله: (استدّ) هو من السّديد بالمهملة، وفي نسخة: (فلمّا اشتدّ ساعده رماني) بالشّين المعجمة. ومآل اللّفظين واحد، فتدبّر.

و المثل كما تقدّم يجري في كلّ من ينقل الشّي‏ء إلى معدنه، ومنه نقل كلام أو علم إلى معلّمه وأستاذه، وهذا شأن كلّ مثل مطبّق على مواضعه الّتي بينها وبينه مناسبة وارتباط يدعو المتكلّم على التّمثّل به من أجلها.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 366

121-  كيت وكيت

في خطبة له عليه السّلام: يصف فيها النّاس: «أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصّمّ الصّلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء تقولون في المجالس: كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد...». وفي لفظ: «كلامكم يوهن الصّم الصّلاب، وتثاقلكم عن طاعتي يطمع فيكم عدوّكم، إذا أمرتكم، قلتم: كيت وكيت وعسا، أعاليل أباطيل...» انظر قوله عليه السّلام: «يوهى الصّمّ الصّلاب» و«حيدي حياد». قال ابن الأثير: في الحديث: «بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت» هي كناية عن الأمر، نحو: كذا وكذا. قال أهل العربيّة: إنّ أصلها (كيّة) بالتّشديد، والتّاء فيها بدل من إحدى‏

 

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 367

الياءين، والهاء الّتي في الأصل محذوفة، وقد تضمّ التّاء وتكسر. وقال في تفسير: (كذا): «نجي‏ء أنا وأمّتي يوم القيامة على كذا وكذا». كأنّ الرّاوي شكّ في اللّفظ، فكنّى عنه بكذا وكذا وهي من ألفاظ الكنايات مثل: كيت وكيت. ومعناه: مثل ذا. ويكنّى بها عن المجهول، وعمّا لا يراد التّصريح به.

قال أبو موسى المحفوظ في هذا الحديث: «نجي‏ء أنا وأمّتي على كوم». أو لفظ يؤدّي هذا المعنى. وقال ابن فارس: يقولون: التّكييت: تيسير الجهاز. قال:

         كيّت جهازك إمّا كنت مرتحلا            إنّي أخاف على إذوادك السّبعا

 

و هو معنى ثان لكيت لا يرتبط بما نحن فيه.

و المراد من قوله عليه السّلام: «تقولون في المجالس: كيت وكيت»: ذمّ لهم لأنّ قولا لا يعقبه عمل لغو ونفاق، فلو صدقوا لقاموا للعمل ومن ثمّ ذمّ العلم الفاقد للعمل، بل ليس العلم إلّا العمل. فانظر قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.

------------------------------------------------------------------- صفحة 368

كيف عقّب جلّ جلاله العلم، وطبّقه على القانت السّاجد القائم الحذر الرّاجي رحمته: أي الّذي هذه صفته: هو من العلماء، والفاقد لها: هو من غيرهم، ولا يتذكّر المقصود منه إلّا العاقل، فيا لها من آية لو عرفها من تلاها حقّ تلاوتها «و قليل ما هم».

122-  كيف يراعي النّبأة من أصمّته الصّيحة

مثل من أمثال جاء بها أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له: «كيف يراعي النّبأة من أصمّته الصّيحة». قال الشّارح المعتزليّ: هذا مثل آخر، يقول: كيف يلاحظ ويراعي العبر الضّعيفة من لم ينتفع بالعبر الجليّة الظّاهرة بل فسد عندها وشبّه ذلك بمن أصمّته الصّيحة القويّة فإنّه محال أن يراعي بعد ذلك الصّوت الضّعيف.

و النّبأة: هي الصّوت الخفيّ. قوله: (أصمّته الصّيحة)، ليس معناه: أنّ الصّيحة كانت علّة لصممه، بل معناه: صادفته أصمّ، وبهذا تأوّل أصحابنا قوله تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ.

------------------------------------------------------------------- صفحة 369

و هذا المثل يضاهيه على بعض التّقادير. قوله عليه السّلام: «هيهات إنّ من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز». ومنه قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى‏ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى‏ وَأَضَلُّ سَبِيلًا. من لم يرحم نفسه كيف يرحم غيره.

و السّرّ في عدم رعاية العظات ضعيفتها وجليّتها كدورة النّفس، وعدم صفائها لكثرة الذّنوب، والتّمرّد على المولى جلّ وعلا، وقسوة القلب المتولّدة عن مخالفة أوامره وارتكاب نواهيه، فلا تنجع المواعظ فيه، كما قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً. ولَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.

و كيف يسمع قول أمير المؤمنين عليه السّلام من ملك قلبه حبّ الرّئاسة على الأمّة مع المعرفة بخلوّه عن الفضائل المؤهّلة للمنصب الرّبّانيّ نعم الّذي يؤهّل غير الأهل له هم النّاس، لا يردّون عليه لما عرفوه من الحقّ. اللّهمّ إنّ خوف السّيف أسكتهم عن الرّدّ، وهذه سنّة جارية في كلّ الأعصار، إنّها السّياط تقرع رءوس الشّعوب.

يقول عليه السّلام: «فو اللَّه ما زلت مدفوعا عن حقّي مستأثرا عليّ،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 370

منذ قبض اللَّه نبيّه صلّى اللَّه عليه-  وآله وسلّم-  حتّى يوم النّاس، هذا». لو لا مداهنة النّاس لما أضيع حقّه، فهم شركاء في إحياء الباطل وإماتة الحقّ، وكذا المؤمنون في الأدوار بعد عصور الأئمّة الأطهار عليهم السّلام، وقال القائل فيهم صلوات اللَّه عليهم أجمعين:

         مشرّدون نفوا عن عقر دارهم            كأنّهم قد جنوا ما ليس يغتفر.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 371

123-  كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء

في كلام له عليه السّلام: في ذمّ أهل العراق: «...... ولقد بلغني أنّكم تقولون: عليّ يكذب، قاتلكم اللَّه فعلى من أكذب أعلى اللَّه فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيّه فأنا أوّل من صدّق به، كلّا واللَّه لكنّها لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها، ويل أمّه، كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء، «وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ». تكلّمنا حول المثل: «ويل أمّه». وذكرنا الآية المباركة في التّمهيد في الآي المعدودة من الأمثال القرآنيّة.

قال المعتزليّ يقول-  عليه السّلام- : أنا أكيل لكم العلم والحكمة كيلا، ولا أطلب لذلك ثمنا، لو وجدت وعاء: أي حاملا للعلم وهذا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 372

مثل قوله عليه السّلام: «ها إنّ بين جنبيّ علما جمّا لو أجد له حملة». نعم الأنبياء وأوصياؤهم عليهم السّلام يكيلون للنّاس العلوم والمعارف الرّبّانيّة للهداية، لا لأجر يؤخذ منهم وإنّما أجرهم على اللَّه عزّ وجلّ، وليس عليهم إلّا الموّدة في القربى الّتي لا يصحّ الإيمان إلّا بها، وإلّا الذّكرى، واتّخاذ سبيل الرّبّ من شاء منهم. نطق بذلك كلّه القرآن الكريم: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى‏ رَبِّ الْعالَمِينَ. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْعالَمِينَ. قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا. والمراد بالوعاء: القلب لأنّ القلوب أوعية، كما قال عليه السّلام: «يا كميل بن زياد إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها».

------------------------------------------------------------------- صفحة 373

و للإمام صلوات اللَّه عليه وآله بيان لطوائف النّاس في قبولهم العلم، واستعمالهم له لغايات ذكرها، قال عليه السّلام: «ها إنّ ها هنا لعلما جمّا-  وأشار إلى صدره-  لو أصبت له حملة بلى أصيب 1-  لقنا غير مأمون عليه، مستعملا آلة الدّين للدّنيا، ومستظهرا بنعم اللَّه على عباده، وبحججه على أوليائه، 2-  أو منقادا لحملة الحقّ، لا بصيرة له في أحنائه ينقدح الشّكّ في قلبه لأوّل عارض من شبهة. ألا لا ذا، ولا ذاك، 3-  أو منهوما باللّذّة، سلس القياد للشّهوة، 4-  أو مغرما بالجمع والادّخار، ليسا من رعاة الدّين في شي‏ء، أقرب شي‏ء شبها بهما الأنعام السّائمة كذلك يموت العلم بموت حامليه.

5-  اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجّة، إمّا ظاهرا مشهورا، وإمّا خائفا مغمورا، لئلّا تبطل حجج اللَّه وبيّناته». قال الشّارح: ثمّ قسّم-  عليه السّلام-  الذي يصيبهم خمسة أقسام: الأوّل: أهل الرّياء والسّمعة، الّذين يجعلون النّاموس الدّينيّ شبكة لاقتناص الدّنيا.

الثّاني: قوم من أهل الخير ليسوا بذوي بصيرة في الأمور الغامضة، تنقدح في قلوبهم الشّبهة بأدنى خاطر، وذلك لا يثبت تحت العلم إلّا المؤيّد بالتّوفيق.

الثالث: صاحب لذّات وطرب ليس من رجال الّدين.

الرّابع: الحريص على جمع المال لا ينفقه في الشّهوة، ولا في غيرها.

------------------------------------------------------------------- صفحة 374

الخامس: علماء الشّيعة الرّبّانيّون العاملون المخلصون للّه تعالى، وصفهم عليه السّلام بما لا يسع المقام لذكره. والمعتزليّ فسرّهم بالأبدال السّائحين في الأرض خشية التّطبيق على مذهب الإماميّة، انظر كلامه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 375

حرف اللّام

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 376

124-  لا أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السّماء نجما

من كلام له عليه السّلام لمّا عوتب على التّسوية في العطاء، وتصييره النّاس أسوة في العطاء، من غير تفضيل أولي السّابقات والشّرف: «أتأمرونّي أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولّيت عليه واللَّه لا أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السّماء نجما، ولو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنّما المال مال اللَّه». للكلام العلويّ بقيّة مرهونة بمقام يناسبها.

قال الشّارح المعتزليّ: (لا أطور به): لا أقربه، (و لا تطر حولنا): أي لا تقرب ما حولنا، وأصله من طوار الدّار وهو ما كان ممتدّا معها من الفناء. وقوله-  عليه السّلام- : (ما سمر سمير) يعني: الدّهر: أي ما أقام الدّهر وما بقي، والأشهر في المثل: (ما سمر ابنا سمير)، قالوا: السّمير: الدّهر، وابناه اللّيل والنّهار. وقيل: ابنا سمير: اللّيل والنّهار لأنّه يسمر فيهما، ويقولون: (لا أفعله السمر والقمر): أي ما دام النّاس يسمرون في ليلة قمراء، ولا أفعله سمير اللّيالي: أي أبدا. قال الشّنفريّ:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 377

 

         هنا لك لا أرجو حياة تسرّني            سمير اللّيالي مبسلا بالجرائر

 

قوله-  عليه السّلام- : «و ما أمّ نجم في السّماء نجما»: أي قصد وتقدّم لأنّ النّجوم يتبع بعضها بعضا، فلا بدّ من تقدّم وتأخّر فلا يزال النّجم يقصد نجما غيره، ولا يزال النّجم يتقدّم نجما غيره. وقال آخر في شرحه: (لا أفعله ما طلع النّجم في الخضراء، ونجم الطّلع في الغبراء). وقال زهير:

         ولو لا ظلمة ما زلت أبكي            سجيس الدّهر ما طلع النّجوم‏

 

و الجملتان في كلامه عليه السّلام: «ما سمر سمير، وما أمّ نجم نجما»، كنايتان عن الدّوام. ونظيرهما في الكناية عنه قولهم: (سجيس عجيس)، وقولهم: (ما غبا غبيس). أقول جاء في القرآن الكريم من السّمر بمعنى التّحدّث بالليّل قوله تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ.: أي بالقرآن أو البيت العتيق. كانوا يقصّون باللّيل في مجالسهم حول البيت. من المسامرة: وهي التّحادث ليلا. ولا يناسب المقام من معاني السّمر إلّا ما تقدّم بيانه.

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 378

و الكلام العلويّ مسوق لإحقاق الحقوق ما بقي الدّهر، لا يعدل عنه مهما كلّف الأمر، والقيام بالعدل والقسط في الأموال، كما جاء في حديث الصّادق عليه السّلام، قال: «العدل أحلى من الشّهد، وألين من الزّبد، وأطيب ريحا من المسك». وقد ذكرنا حول المثل المماثل للمقام: «ما سمر السّمير، وما رأيت في السّماء نجما» ممّا يرتبط به، فراجع.

125-  لا تجتمع عزيمة ووليمة

من كلام له عليه السّلام يحثّ فيه أصحابه على الجهاد: «و اللَّه مستأديكم شكره، ومورّثكم أمره، وممهلكم في مضمار ممدود، لتتنازعوا سبقه، فشدّوا عقد المآزر، واطووا فضول الخواصر، لا تجتمع عزيمة ووليمة. ما أنقض النّوم، لعزائم اليوم وأمحى الظّلم، لتذاكير الهمم».

------------------------------------------------------------------- صفحة 379

قال الشّارح: «مستأديكم شكره»: أي طالب منكم أداء ذلك والقيام به. وقوله: «مورّثكم أمره»: أي سيرجع أمر الدّولة إليكم، ويزول أمر بني أميّة. بقيّة الشّرح مرهونة بمحلّها، ونشير إلى الأمثال الثّلاثة الّتي يشرحها المعتزليّ: قال: ثمّ أتى عليه السّلام بثلاثة أمثال مخترعة له، لم يسبق بها، وإن كان قد سبق بمعناها، وهي قوله: «لا تجتمع عزيمة ووليمة»، وقوله: «ما أنقض النّوم لعزائم اليوم»، وقوله: «و أمحى الظّلم لتذاكير الهمم» أقول: نبحث هنا المثل الأوّل. أمّا الباقي ففي محلّ يخّصه. وإليك ما قال في الأوّل: فممّا جاء للمحدثين من ذلك ما كتبه بعض الكتّاب إلى ولده:

         خدمة السّلطان والكا            سات في أيدي الملاح‏

         ليس يلتامان فاطلب            رفعة أو شرب راح‏

 

و مثله قول آخر لولده:

         ما للمطيع هواه            من الملام ملاذ

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 380

         فاختر لنفسك هذا            مجد وهذا التذاذ

 

و قال آخر:

         وليس فتى الفتيان من راح واغتدى            لشرب صبوح أو لشرب غبوق‏

         ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى            لضرّ عدوّ أو لنفع صديق‏

 

 والغرض من الأبيات عدم اجتماع الأمرين، إمّا هذا أو ذاك ومن ثمّ عذاب المنافق أشدّ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ». إذ لا يجتمع الكفر والإيمان، إمّا الأوّل أو الثّاني، وفيه قال جلّ جلاله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ. يماثله: أي المثل المبحوث المثل السّائر من وجه: (لا يجمع سيفان في غمد). (جمع بين الأروى والنّعام)، يريد: أنّه جمع بين كلمتين متناقضتين لأنّ الأروى تسكن شعف الجبال، والنّعام تسكن الفيافي.

------------------------------------------------------------------- صفحة 381

و من أمثال الفرس: (هم خدا را مى‏خواهد، وهم خرما را).: أي يريد اللَّه جلّ جلاله والتّمر معا.

و أمّا المثل العلويّ، فالمراد: أنّ العزم على التّعالي لا يجتمع مع كثرة الأكل والرّاحة.

126-  لا تستح من إعطاء القليل فإنّ الحرمان أقلّ منه

قال عليه السّلام: «لا تستح من إعطاء القليل فإنّ الحرمان أقلّ منه». دلّ على صدر الحديث قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ. والنّبويّ: «كلّ معروف صدقة إلى غنيّ أو فقير، فتصدّقوا ولو بشقّ تمرة فإنّ اللَّه يربّيها لصاحبها، كما يربّي أحدكم فلوه أو فصيله، حتّى يوفّيه إيّاه يوم القيامة، وحتّى يكون أعظم من الجبل العظيم». والعلويّ: «ما لا يدرك كلّه لا يترك‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 382

كلّه» و: «الميسور لا يسقط بالمعسور». قال الميدانيّ: (من حقر حرم): أي من حقر يسيرا ما يقدر عليه ولم يقدر على الكثير، ضاعت لديه الحقوق. يضرب في الحثّ على المعروف، وإن كان يسيرا، إذا رأى المرء ما عنده حقيرا استحيا من الإفضال به، فيؤدّي ذلك إلى إطراح الحقوق وحرمان النّاس. في نبويّ: «لا تردّوا السّائل، ولو بظلف محرق».

         أورق بخير ترجّى للنّوال فما            ترجى الثّمار إذا لم يورق العود

         بثّ النّوال ولا تمنعك قلّته              فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود

 

و أهل البيت عليهم السّلام هم القدوة في البذل والعطاء، قد قاسم اللَّه الحسن عليه السّلام ماله مرّتين، وفي رواية ثلاث مرّات. «وفد أعرابيّ المدينة، فسأل عن أكرم النّاس، فدلّ على الحسين عليه السّلام.

فدخل المسجد فوجده مصلّيا، فوقف بإزائه وأنشأ:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 383

 

         لم يخب الآن من رجاك ومن          حرّك من دون بابك الحلقه‏

         أنت جواد وأنت معتمد                أبوك قد كان قاتل الفسقه‏

         لو لا الّذي كان من أوائلكم            كانت علينا الجحيم منطبقه‏

 

قال: فسلّم الحسين، وقال: يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شي‏ء قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فقال: هاتها قد جاء من هو أحقّ بها منّا، ثمّ نزع برديه، ولفّ الدّنا نير فيها، وأخرج يده من شقّ الباب حياء من الأعرابيّ وأنشأ:

         خذها فإنّي إليك معتذر            واعلم بأنّي عليك ذو شفقه‏

         لو كان في سيرنا الغداة عصا   أمست سمانا عليك مندفقه‏

         لكنّ ريب الزّمان ذو غير        والكفّ منّي قليلة النّفقه‏

 

قال: فأخذها الأعرابيّ وبكى، فقال له: لعلّك استقللت ما أعطيناك قال: لا ولكن كيف يأكل التّراب جودك» والإمام الرّضا عليه السّلام عند ما سأله السّائل، دخل الحجرة، ثمّ خرج وردّ الباب، وأخرج يده من أعلى الباب، وقال: «أين‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 384

الخراسانيّ فقال: ها أنا ذا، فقال: خذ هذه المائتي دينار... واخرج فلا أراك ولا تراني، فسئل، فقال: مخافة أن أرى ذلّ السّؤال في وجهه لقضائي حاجته...».

127-  لا حان حينك

و من خبر ضرار بن ضمرة الضّابيّ عند دخوله على معاوية، ومسألته له عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: فأشهد لقد رأيته في مواقفه، وقد أرخى اللّيل سدوله، وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السّليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: «يا دنيا، يا دنيا إليك عنّي، أبي تعرّضت، أم إليّ تشوّقت لا حان حينك، هيهات، غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير. آه من قلّة الزّاد، وطول الطّريق، وبعد السّفر، وعظيم المورد». (لا حان حينك)

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 385

دعاء عليها: أي لا حضر وقتك، كما تقول: لا كنت، وقيل: لا جاء وقت وصولك لقلبي، وتمكّن حبّك منه. الحين بكسر الحاء: الوقت، وبالفتح: الهلاك. ومنه الحديث: «البغي سائق إلى الحين»: أي أنّ الظّلم يسوق الظّالم إلى الهلاك. من الأوّل المثل:

         ما أحسن الموت إذا حان الأجل

 

و قالت بثينة:

         وإنّ سلوّي عن جميل لساعة            من الدّهر ما حانت ولا حان حينها

 

و من الثّاني المثل: (لا يملك الحائن حينه): أي من قدّر له الهلاك لا يملك دفعه عن نفسه. ومعنى الأوّل بل الثّاني دعاء على الدّنيا، وقد يكون على النّفس، ومنه ما عن العبّاس بن عليّ عليهما السّلام يوم عاشوراء في حادثة كربلاء المؤلمة للقلوب:

         يا نفس من بعد الحسين هوني            وبعده لا كنت أن تكوني‏

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 386

في حديث حسينيّ يقول «حدّ ثني أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: إنّي كنت بفدك في بعض حيطانها، وقد صارت لفاطمة عليها السّلام، قال: فإذا أنا بامرأة قد هجمت عليّ، وفي يدي مسحاة، وأنا أعمل بها... فشبّهتها ببثينة بنت عامر الجمحيّ، وكانت من أجمل نساء قريش، وقالت: يا ابن أبي طالب إن تزوجني أغنيك عن هذه المسحاة، وأدلّك على خزائن الأرض، ويكون لك الملك ما بقيت. قال لها: فمن أنت قالت: أنا الدّنيا، فقال عليه السّلام: ارجعي فاطلبي زوجا غيري، فلست من شأني، وأقبل على مسحاته، وأنشأ يقول:

         لقد خاب من غرّته دنيا دنيّة            وما هي إن غرّت قرونا بطائل‏

         أتتنا على زيّ العروس بثينة          وزينتها في مثل تلك الشّمائل‏

         فقلت لها غرّي سواي فإنّني           عزوف عن الدّنيا ولست بجاهل‏

         وما أنا والدّنيا وإنّ محمّدا           رهين بقفر بين تلك الجنادل‏

         وهبنا أتتنا بالكنوز ودرّها            وأموال قارون، وملك القبائل‏

         أليس جميعا للفناء مصيرنا            ويطلب من خزّانها بالطّوائل»

 

الأبيات. وكيف لا يكون كذلك وقد اقتدى بأخيه وابن عمّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم في هديه وهداه، ونسكه وتقواه، بل هو نفسه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 387

128-  لا رأي لمن لا يطاع

من خطبة له عليه السّلام في الجهاد، أوّلها: «أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة...... لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرّفت على السّتّين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع». أوّل من قاله عتبة بن ربيعة، حين اجتمعت قريش للمسير إلى بدر، وهو مأخوذ من قول الشّاعر:

         أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى            ولا أمر للمعصيّ إلّا مضيّعا

 

و المراد من نفي الرّأي عند عدم الطّاعة: الغرض المترتّب على اتّباعه لا نفيه رأسا، وكلمة (لا) النّافية للجنس تقتضي النّفي رأسا، ولكن لأجل القرينة العقليّة أو النّقليّة يصرف ظهورها عن اقتضائها في ذلك، كما

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 388

قال الفقهاء في «لا صلاة لمن جاره المسجد»: أنّ المنفيّ فيها الكمال لا الصّلاة رأسا، حتّى يحكم عليها بالبطلان إذا صلّاها المصلّي في غير المسجد.

 

 

فكأنّ الّذي لم يتّبع رأيه ولم يطع، فاقد له رأسا، وكان عليه السّلام في طوال خمس وعشرين سنة جليس بيته، لم يطع رأيه، وهو عليه السّلام واجد له بالذّات.

فالمثل جاء من باب المبالغة، في عدم تحقّق الأهداف السّامية عند تركهم طاعة الإمام عليه السّلام من أمرهم بجهاد العدوّ الألدّ كمعاوية ابن أبي سفيان، ومن يحذو حذوه.

و في جميع الأدوار والعصور، لم تحصل للأنبياء عليهم السّلام من أممهم الطّاعة على سبيل العموم، وهكذا، أوصياؤهم عليهم السّلام، وإلّا لازدهرت الأيّام، ولعمّت السّعادة، فقد جرى في هذه الأمّة ما جرى في السّلف القذّة بالقذّة، كما جاء الحديث في تفسير قوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ. فلا جرم أنّ صاحب الخلافة الكبرى أمير المؤمنين عليه السّلام قال هذه المقالة تحسّرا عليهم من قلب ملؤه حبّ وحنان، وعن يقين أنّ في الطّاعة نجاتهم، وفي الخلاف هلاكهم، ولا يقول قائل هذا الكلام إلّا تحسّرا على فوت الهدف الأفضل بالعصيان، وعلما منه بالعاقبة المحمودة بالطّاعة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 389

و ذكر المثل: أي «لا رأي لمن لا يطاع» الميدانيّ، ناسبا له إلى أمير المؤمنين عليه السّلام معاتبا لأصحابه.

129-  لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

قال عليه السّلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». ورواه الشّيخ الحرّ من كتاب المعتبر للمحقّق مضمرا، قال: قال عليه السّلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وقال السّيّد الخطيب: جاءت هذه الحكمة في كتاب أبي الجعد أحمد بن عامر الطّائيّ، ص: 20 بهذه الصّورة: «لا دين لمن دان المخلوق في معصية الخالق». وفي كتاب (عيون أخبار الرّضا) ج: 2، ص: 43، وفي (صحيفة الرّضا) ص: 34 بسندين إلى أمير المؤمنين عليه السّلام. وفي الحديث: «لا طاعة في معصية اللَّه»، قال الطّريحيّ: يريد: أنّ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 390

الطّاعة لا تسلم لصاحبها، ولا تخلص إذا كانت مشوبة بمعصية، وإنّما تصحّ مع اجتنابها، ومثله: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» كما لو أمر بقتل وقطع ونحوه غير مشروع.

و في الحديث: «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده»، قال بعض العارفين: لعلّك تظّن أنّ ما تضمّنه من أنّ الطّاعة عبادة لأهل المعاصي، على ضرب من التّجوّز لا الحقيقة، وليس كذلك، بل هو حقيقة، فإنّ العبادة ليست إلا الخضوع والتّذلّل والطّاعة والانقياد، ولهذا جعل سبحانه اتّباع الهوى والانقياد إليه عبادة للهوى، قال: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ. وجعل طاعة الشّيطان عبادة له، فقال: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ. قال ابن الأثير بعد قوله عليه السّلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»: يريد: طاعة ولاة الأمر إذا أمروا بما فيه معصية، كالقتل والقطع ونحوه. وجعله أشبه من معنى ذكره الطّريحيّ آنفا.

ثمّ هذا المثل العلويّ يضرب لردع المذنب عن ذنبه. وقد تمثّل به الإمام السّجّاد عليه السّلام في مجلس يزيد لعنه اللَّه، مع تبديل في اللّفظ، حيث دعا يزيد الخاطب وأمره أن يصعد المنبر، فيذمّ الحسين وأباه،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 391

صلوات اللَّه عليهما، والمدح لمعاوية ويزيد، فصعد وبالغ، فصاح به عليّ بن الحسين عليه السّلام: «ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النّار». ولقد أحسن ابن سنان الخفاجيّ في وصف أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله:

         أعلى المنابر تعلنون بسبّه            وبسيفه نصبت لكم أعوادها.

 

و لا يخفى أنّ قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما. وإن كان مورده الأبوان، إلّا أنّه يعتبر من المثل، كما أنّ الإشراك به تعالى كذلك، فلا يخصّ المنع الوالدين، كما لا يقصر على معصية بخصوصها.

130-  لا يرى الجاهل إلّا مفرطا أو مفرّطا

قال عليه السّلام: «لا يرى الجاهل إلّا مفرطا أو مفرّطا». وبلفظ: «الجاهل لا يلقى‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 392

أبدا إلّا مفرطا أو مفرّطا».: أي يسي‏ء عمدا، ويحسن غلطا. وهو بالتّخفيف: المسرف في العمل، وبالتّشديد: المقصّر فيه. ومن قوله تعالى: أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ. وما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ. مع قوله عزّ وجلّ: ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ. يعلم أنّ الجاهل في النّار، والتّفريط من صفته. كما يفهم من قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً. أنّه لا ينفكّ من الإفراط والتّفريط الغافل المتّبع للهوى، وهو الجاهل الأحمق.

و للعرب أمثال سائرة في الجهل والحمق: (الجهل موت الأحياء). (المشقّة كلّها في تأديب الجهّال). (الجهل في القلب، كالأكلة في الجسد). (لا مصيبة أعظم من الجهل). (خرّب أرضا جاهلها). (من جهل قدر نفسه، كان بقدر غيره أجهل). (لا صاحب أخذل من الجهل). (بئس شعار المرء جهله). (نعمة الجاهل كروضة على مزبلة). (كلّما حسنت نعمة الجاهل ازداد فيها قبحا).

(لسان الجاهل مفتاح حتفه). (الحمق داء لا دواء له). (النّظر إلى‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 393

الأحمق سخنة عين). (أحمق النّاس من اتّبع هواه، وتمنّى على اللَّه الأمانيّ). والعلويّ: «الجهل مضلّة». «الجهل وبال». «الجهل داء عياء». «الجاهل من اختدعته المطالب». «الجهل أصل كلّ شرّ». «الجاهل من انخدع لهواه». «الجاهل من استغشّ النّصيح». «الحمق من ثمار الجهل». «الحمق أضرّ الأصحاب». وفي أحاديث أهل البيت عليهم السّلام مقابلة بين العقل وجنوده، والجهل وجنوده. والمحدّثون منّا ساروا على هذا الضّوء في مجامع الحديث كالشّيخ الكلينيّ والمجلسيّ وغيرهما.

و يدلّ على ذلك السّؤال من أمير المؤمنين عليه السّلام عن صفة العاقل والجاهل: «قيل له عليه السّلام: صف لنا العاقل. فقال: هو الّذي يضع الشّي‏ء مواضعه. فقيل: فصف لنا الجاهل. قال: قد قلت». وعليه فمن لم يكن عاقلا بالمعنى المذكور فهو جاهل، وإن كان من العلماء. والسّرّ فيه أن العلم مقدّمة للعمل والسّلوك إلى الحقّ، وهو نور في الدّرب الموصل إلى ما دعا إليه العقل، وهي المعرفة المثمرة، لا الصّورة

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 394

الحاصلة عن الشّي‏ء، وإن لم يكن تطبيق عمليّ فيه. والجهل ضلال يفضي بصاحبه إلى الهلاك، والعقل عقال يمنع صاحبه عن أيّ انحراف، ويدعوه إلى الاعتدال المتوسّط أبدا.

فمثلا: الشّجاعة محفوفة بالتّهوّر والجبن، والذّكاء بالغباوة والجربزة، والجود بالشّحّ والتّبذير، والحلم بالجماديّة والاستشاطة. وعلى كلّ ضّدين من الأخلاق بينهما خلق متوّسط، وهو المسمّى بالعدالة، كما ذكره الشّارح، وعلماء الأخلاق في كتبهم الأخلاقيّة. فبقدر تخلّف الإنسان عمّا أمر به العقل السّليم الّذي يحكم به الشّرع دخل في الإفراط والتّفريط، وصاحبه جاهل وإن عدّ من العقلاء.

131-  لا يقاس بآل محمّد من هذه الأمّة أحد

من خطبة مطوّلة له عليه السّلام: «لا يقاس بآل محمّد من هذه الأمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا...». القياس: تمثيل شي‏ء بشي‏ء في قدر مشترك بينهما، وتنظيره به في‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 395

ذلك، ولا بدّ أن يكون بينهما مساواة، وإلّا لكان القياس باطلا. وعليه فكيف يقاس بآل محمّد وهم: فاطمة، وأمير المؤمنين، وأولادهما الأئمّة المعصومون الأحد عشر. أوّلهم الحسن وآخرهم الحجّة بن الحسن عليهم السّلام، أحد من هذه الأمّة، أو سائر الأمم. وبيمنهم رزق الورى، وبهم ثبتت الأرض والسّماء، ولا يقاس بالمنعم المنعم عليهم إنّ النّبيّ الأعظم صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم هو الغاية من خلق الخلق، وجاء فيه: «لولاك لما خلقت الأفلاك». وآل محمّد في العلم والطّاعة كمحمّد، كما جاء في دعاء فجر يوم الجمعة: «آمنت بسرّ آل محمّد عليهم السّلام وعلانيّتهم، وظاهرهم وباطنهم، وأشهد أنّهم في علم اللَّه وطاعته كمحمّد صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم- ». وهم أسماء اللَّه الحسنى والأمثال العليا وآية وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى‏ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مفسّرة بهم. ففي نبويّ مخاطبا لعليّ عليه السّلام: «و أنت المثل الأعلى». وفي الزّيارة الجواديّة: «السّلام على أئمّة الهدى-  إلى قوله:-  وورثة الأنبياء والمثل الأعلى». وقد صحّ عنه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم: «لتنتهنّ يا بني وليعة، أو

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 396

لأبعثنّ رجلا كنفسي...». و«فاطمة روحي الّتي بين جنبيّ». وقول أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السّلام: «يا بنيّ وجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي». وعنه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم: «حسين منّي، وأنا من حسين». والوحدة الكائنة بين أوّلهم وآخرهم، كما جاء: «أوّلنا محمّد، وأوسطنا محمّد، وآخرنا محمّد-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- ». وكما أنّ النّبيّ يضرب به المثل في المكارم والفضائل والخصال الرّفيعة، كذلك أهل بيته المعصومون هم المثل، وتضرب بهم الأمثال في المكارم كلّها، لا يسبقهم سابق سوى الرّسول صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، ولا يلحق بهم لا حق، فلا يقاس بهم أحد.

لمّا أتى بلال من الحبشة أنشد النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم:

         أربره كنگره            كراكرا مندره‏

 

فقال صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم لحسّان: اجعل معناه عربيّا، فقال:

------------------------------------------------------------------- صفحة 397

 

         إذ المكارم في آفاقنا ذكرت            فإنّما بك فينا يضرب المثل

 

و هم كذلك، بلى واللَّه هم المحسودون، ففي نبويّ: «و إذا ذكر آل محمّد فكأنّما يفقأ في وجوهكم حبّ الرّمّان...». «قال جابر: قلت لرسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : ما تقول في عليّ بن أبي طالب-  عليه السّلام-  فقال: ذاك نفسي، وفي الحسن والحسين قال: هما روحي» الحديث.

132-  لا يهلك على التّقوى سنخ أصل

من خطبة له عليه السّلام لمّا بويع بالمدينة، وهي مطوّلة، موزّعة على عدّة أمثال، منها: «لا يهلك على التّقوى سنخ أصل، ولا يظمأ عليها زرع قوم». السّنخ والأصل بمعنى، ومن قبيل إضافة سعيد كرز. قال ابن الأثير: وفي حديث عليّ-  عليه السّلام- : «و لا يظمأ على التّقوى سنخ‏

  

-------------------------------------------------------------------صفحة 398

أصل». السّنخ والأصل واحد، فلّما اختلف اللّفظان أضاف أحدهما إلى الآخر. وقد تقدّم لفظ النّهج المتغاير مع قوله.

قال المعتزليّ: قوله: «سنخ أصل» كقوله:

         إذا حاص عينيه كرى النّوم...           

 

و قال المعلّق:

         إذا خاط عينيه كرى النّوم لم يزل            له كالئ من قلب شيحان فاتك

 

يريد عليه السّلام: من كان قد بنى أمره على أصل التّقوى لا يهدم بناؤه، ولا يهلك صاحبه. ويقابله الّذي يبني أمره على الفجور المفضي به إلى النّار، وإليهما تنظر الآية: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ تَقْوى‏ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ. ومنه يظهر معنى الفقرة الثّانية: «و لا يظمأ عليها زرع قوم» إذ التّقوى تمنع من ظمائه، وهو مثل لإرغاد العيش مع التّقوى، والبوار مع الفجور، والتّمرّد على اللَّه تعالى، وشرائعه السّماويّة، وأنبيائه المرسلين، وأوصيائهم عليهم السّلام الّذين هو عليه السّلام أحدهم.

فيقصد بكلامه هذا إرشاد أصحابه وتحذيرهم أن يحيدوا عن التّقوى، وعن طاعة سيّدهم، ويا ليتهم دروا من هو وعرفوا مقامهم السّامي الّذي لا يرقى إليه الطّير في علوّ قدره،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 399

و ينحدر عنه السّبيل، وكيف وأنّى لهم الوصول إلى منبع علمه الزّخّار المنحدر كالسّيل. ولئن أمرهم بتقوى اللَّه، فهو إمام المتّقين، وليث الموحّدين، وسيّد الزّاهدين.

دخل عديّ بن حاتم على معاوية، فقال: يا عديّ أين الطّرفات يعني: بنيه طريفا وطارفا وطرفة. قال: قتلوا يوم صفّين بين يديّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب، إذ قدّم بنيك وأخّر بنيه. قال: بل ما انصفت أنا عليّا، إذ قتل وبقيت قال صف لي عليّا، فقال: إن رأيت أن تعفني، قال: لا أعفيك، قال: كان واللَّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول عدلا، ويحكم فصلا، تنفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه، يستوحش من الدّنيا وزهرتها، ويستأنس باللّيل ووحشته، وكان واللَّه غزير الدّمعة، طويل الفكر، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلّب كفّيه على ما مضى، يعجبه من اللّباس القصير، ومن المعاش الخشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويدنينا إذا أتيناه، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نكلّمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسّم فعن اللّؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدّين، يتحبّب إلى المساكين.-  إلى أن قال معاوية- : كيف صبرك عنه قال: كصبر من ذبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقى دمعها ولا تسكن عبرتها.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 400

133-  لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل

تمثّل عليه السّلام بالرّجز لكلام له في جواب معاوية من فقرة: «و ذكرت أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلّا السّيف، فلقد أضحكت بعد استعبار متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين، وبالسّيف مخوّفين

         ف لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل».

 

 والرّجز لحمل بن بدر القشيريّ صاحب الغبراء-  أغير على إبله في الجاهليّة فاستنقذها، وقال:

         لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل            لا بأس بالموت إذا الموت نزل

 

 

و في لفظ:

         ما أحسن الموت إذا حان الأجل‏

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 401

قالوا في (حمل): هو اسم رجل شجاع، كان يستظهر به في الحرب، ولا يبعد أن يراد به: حمل بن بدر، صاحب الغبراء، يضربه من ناصره وراءه. وعدّه العسكريّ من المثل السّائر بلفظ:

         لبّث رويدا يلحق الهيجا حمل

 

لم يرتب إثنان من البشر في شجاعة أمير المؤمنين عليه السّلام تشهد لها حروبه ومواقفه الجبّارة في حياة الرّسول الأعظم صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم وبعد مماته، وكيف لا وهو معلّم الشّجعان فنون الحرب.

و معاوية يقول هذه المقالة، وهو يعلم أن لا مقاومة له، ولا لجنوده وعشيرته المقتولين بيد الإمام عليه السّلام، بل ولا العرب كلّها عند ضربة عليّ عليه السّلام، وهو القائل: «و اللَّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها...» وإنّما قالها لتخدير أفكار أصحابه المغفّلين.

بل معاوية يدري أنّ صاحب أمير المؤمنين عليه السّلام مالك الأشتر مبيد له، وما يمتلك من حثالة أهل الشّام، وكان الأمر كذلك لو لا حادثة التّحكيم من جهلة الأصحاب من زهاء عشرين ألف نهروانيّ.

و قد شابهت محنته عليه السّلام محنة هارون حيث طلب أصحاب موسى عليه السّلام منه أن يجعل العجل لهم إلها كما لهم آلهة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 402

134-  لبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا

في خطبة له عليه السّلام أوصاف أهل الأزمنة المتأخّرة عنه منها: «فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطّاغية، وقلّت الدّاعية، وصال الدّهر صيال السّبع العقور، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم، وتواخى النّاس على الفجور، وتهاجروا على الدّين، وتحابّوا على الكذب، وتباغضوا على الصّدق، فإذا كان ذلك كان الولد غيظا والمطر قيظا، وتفيض اللّئام فيضا، وتغيض الكرام غيضا، وكان أهل ذلك الزّمان ذئابا، وسلاطينه سباعا، وأوساطه أكّالا، وفقراؤه أمواتا، وغار الصّدق، وفاض الكذب، واستعملت المودّة باللّسان، وتشاجر النّاس بالقلوب، وصار الفسوق نسبا، والعفاف عجبا، ولبس الإسلام لبس الفر ومقلوبا». اشتملت الخطبة المباركة على عدّة تمثيلات وأمثال: «ركب الجهل‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 403

مراكبه». و«صال الدّهر صيال السّبع العقور». و«هدر فنيق الباطل». و«أهل ذلك الزّمان ذئاب». وغيرها من تمثيلات صادقة، وفيها من الأخبار الغيبيّة المحقّقة، وهي مطوّلة، أخذنا منها ما يربط المثل المبحوث المصدّر به، وعلى الباحث النّظر إلى البقيّة، حتّى يتجلّى الغرض بوضوح.

قال المعتزليّ: الطّاغية: الطّغيان، كقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ.: أي تكذيب، والتّواخي على الفجور، والتّهاجر على الدّين، معناه: صاحب الدّين مهجور، وصاحب الفجور جار عندهم مجرى الأخ في الحنوّ عليه والحبّ له. و«كان الولد غيظا»: أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء. «و-  صار-  المطر قيضا» يقال: إنّه من علامات السّاعة وأشراطها. واطلب بقيّة معاني الخطبة من مظانّها، والعمدة بيان المثل الجاري: «لبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا». قال الشّارح المعتزليّ: وللعرب عادة بذلك، وهي: أن تجعل الخمل إلى الجسد وتظهر الجلد، والمراد: معاكسة الأحكام الإسلاميّة في ذلك الزّمان. قال ابن الأثير في حديث عليّ-  عليه السّلام- : «اللّهمّ إنّي قد

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 404

مللتهم وملّوني، وسئمتهم وسئموني، فسلّط عليهم فتى ثقيف، الذّيال المنّان، يلبس فروتها، ويأكل خضرتها»: أي يتمتّع بنعمتها، لبسا، وأكلا.

و قال الزّمخشريّ: معناه: يلبس الدّفئ اللّيّن من ثيابها، ويأكل الطّريّ النّاعم من طعامها، فضرب الفروة والخضرة لذلك مثلا، والضّمير للدّنيا، وأراد بالفتى الثّقفيّ: الحجّاج بن يوسف، قيل: إنّه ولد في السّنة الّتي دعا فيها عليّ-  عليه السّلام-  بهذه الدّعوة والفرو والفري بمعنى: القطع قال ابن فارس: وأفريته، إذا أنت قطعته، ومن الباب الفروة الّتي تلبس، وقال قوم: إنّما سمّيت فروة من قياس آخر، وهو التّغطية لذلك سمّيت فروة الرّأس، وهي: جلدته ومنه الفروة وهي: الغنى والثّروة، والفروة: كلّ نبات مجتمع إذا يبس.

و في الحديث: «إنّ الخضر جلس على فروة من الأرض فاخضرّت» فإن صحّ هذا، فالباب على قياسين: أحدهما القطع، والآخر التّغطية والسّتر بشي‏ء ثخين. إذا خرج المهديّ عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف، كما في الصّادقيّ: «... جاء بأمر غير الّذي كان...».، وفي الآخر: «إذا خرج القائم-  عليه السّلام-  جاء بأمر جديد، كما دعا رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  في بدء الإسلام إلى أمر جديد».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 405

135-  لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت

من تمثيلات الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، في كلام له يصف من ليس له أهليّة القضاء بين النّاس: «فإن نزلت به إحدى المبهمات، هيّألها حشوا رثّا من رأيه، ثمّ قطع به، فهو من لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب». وزّعنا كلامه عليه السّلام الّذي تقدّم بعضه على عدّة تمثيلات لفاقد أهليّة القضاء، وهي: «ارتوى من آجن». و«خبّاط جهالات». و«لم يعضّ بضرس قاطع» وغيرها.

اللّبس بالفتح من باب (ضرب): الخلط، ومنه وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ.: أي لا تخلطوه به. واللّبس بالضّم من باب (تعب)،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 406

مصدر قولك: لبست الثّوب.

و الشّبهات جمع الشّبهة. قال عليه السّلام: «و إنّما سمّيت الشّبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ، فأمّا أولياء اللَّه فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وأمّا أعداء اللَّه فدعاؤهم فيها الضّلال، ودليلهم العمى». وهذا هو محض ما يقوله المتكلّمون ولهذا يسمّون ما يحتجّ به أهل الحقّ دليلا، ويسمّون ما يحتجّ به أهل الباطل شبهة. نسج العنكبوت من باب (ضرب ونصر): حياكته المتكوّنة من لعابه. ونسج العنكبوت مثل يضرب في كلّ واه وضعيف، فيقال: (أوهى من نسج العنكبوت). و(أوهن من بيت العنكبوت): كلّ شي‏ء يخرقه حتّى مرور النّفس. ومنه قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وكلام الإمام عليه السّلام راح يجسّد الأوهام الباطلة، وما هيّأه فاقد الأهليّة للقضاء، منها برثّ رأيه، ومن حشو الزّوائد والتّافهات، بضرب المثل بنسج العنكبوت في الوهي والوهن وعدم الحقيقة وخلط الحقّ‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 407

بالباطل، عند ما يقضي لرفع الخصومات، فيحكم وهو لا يدري أبحقّ حكم أم بباطل، بخطأ أم بصواب، وهذا النّوع من القضاة في النّار، على ما في النّصوص، منها الصّادقيّ: «القضاة أربعة، ثلاثة في النّار، وواحد في الجنّة: رجل قضى بجور، وهو يعلم، فهو في النّار. ورجل قضى بجور، وهو لا يعلم، فهو في النّار.

و رجل قضى بالحقّ، وهو لا يعلم، فهو في النّار. ورجل قضى بالحقّ، وهو يعلم، فهو في الجنّة». فانظر من أيّ الرّجال أنت أيّها القاضي.

136-  لتبلبلنّ بلبلة ولتغربلنّ غربلة

مثل سائر على الألسن في خطبة الإمام عليه السّلام لمّا بويع بالمدينة: «... ألا وإنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللَّه نبيّه، والّذي بعثه بالحقّ، لتبلبلنّ بلبلة، ولتغربلنّ غربلة......». البليّة والبلوى والبلاء واحد والجمع البلايا. ولها معنيان: أحدهما: إخلاق الشّي‏ء. والثّاني: نوع من الاختبار، ويحمل عليه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 408

الإخبار أيضا. قال الخليل: بلي يبلي فهو بال والبلى مصدره، وإذا فتح فهو البلاء. وقال قوم: هو لغة، وأنشد:

         والمرء يبليه بلاء السّر بال            مرّ اللّيالي واختلاف الأحوال‏

 

 

و البليّة: الدّابّة الّتي كانت في الجاهليّة تشدّ عند قبر صاحبها، وتشدّ على رأسها وليّة، فلا تعلف ولا تسقى حتّى تموت. قال أبو زيد:

         كالبلايا رؤوسها في الولايا            ما نعات السّموم حرّ الخدود

 

الابتلاء والاختبار والامتحان وكذلك الإبلاء يكون في الشّرّ والخير، ومنه قوله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. البلبلة: شدّة الهمّ والحزن والوسواس، ومنه بلبلة الصّدر: وسوسته وكذلك البلابل: أي الهموم والأحزان. والتّغر بل من الغربال، ومنه الحديث: «لا بدّ للنّاس أن يمحّصوا ويغربلوا» قيل: يجوز أن يكون ذلك من الغربال: الّذي يغربل به الدّقيق، ويجوز أن يكون من غربلت اللّحم إذا قطعته، وكأنّه يريد بذلك الامتحان والاختبار، والحديث الآخر: «كيف بكم إذا كنتم في زمان يغربل فيه النّاس غربلة»: أي يذهب‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 409

خيارهم ويبقى أراذلهم. والمغربل: المنتقى. كأنّه نقّي بالغربال. يريد الإمام عليه السّلام بعود بليّة الأمّة كيوم البعثة النّبويّة عند تسلّمه الخلافة: أنّ موقفهم إيّاه موقف فجر الدّعوة من الإيمان والكفر، إذ هو نفس النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم دون الخلفاء الثّلاثة المتقدّمة، فإنّ الموقف يختلف معهم. وفي الكلام إشارة إلى أنّ دعوته كدعوة النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، أمّا دعوة غيره من الخلفاء فليست كذلك.

و يريد بالتّبلبل والتّغربل في خلافته عليه السّلام: أنّهم كانوا تحت ستار غير مكشوف عن المطيع والعاصي، أو المؤمن والكافر، وهو عليه السّلام ميزان الأعمال، كما في المأثور.

137-  لتساطنّ سوط القدر

كلمة تمثيليّة في خطبة له عليه السّلام. لمّا بويع بالمدينة، أوّلها: «ذمّتي بما أقول رهينة، وأنابه زعيم، إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات، حجزته التّقوى عن تقحّم الشّبهات، ألا وإنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللَّه نبيّه والّذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة، ولتغربلنّ غربلة، ولتساطنّ سوط القدر، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 410

و أعلاكم أسفلكم......». (السّوط) السّين والواو والطّاء فيه أصل يدلّ على مخالطة الشّي‏ء بالشّي‏ء، يقال: (سطتّ الشّي‏ء): خلطت بعضه ببعض، سوّط فلان أمره تسويطا، إذا خلطه. قال الشّاعر:

         فسطها ذميم الرّأي غير موفّق            فلست على تسويطها بمعان

 

و السّوط ما يضرب به من جلد مضفور، سمّي بذلك لأنّه يخلط الدّم باللّحم. قال الطّريحيّ: ساط القدر بالمسوط، والمسوط: خشبة يحرّك بها ما فيها ليختلط، ومنه حديث عليّ عليه السّلام: «لتساطنّ سوط القدر». قال بعض شرّاح الحديث: «لتشاطنّ» بالشّين المعجمة، بمعنى: غليان القدر أظهر. أقول: بل لعلّ السّين أظهر، وأقرب إلى الغرض من التّمثيل لأنّ المراد به: السّلطة الأمويّة والجبابرة التّي تقرع رؤوسهم بالسّوط الخالط لحومهم بدمائهم، لا غليانهم المعبّر عنه بالشّوط، وإن كان صيرورة ما في القدر أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، تارة بالغليان الحاصل من اشتداد

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 411

حرارة النّار وأخرى بمسوط يسوطه، فيصير كذلك. على أنّ السّين رواه الكثير من الشّيعة والسّنّة.

قال ابن الأثير في (سوط): ومنه حديث عليّ رضي اللَّه عنه-  عليه السّلام-  «لتساطنّ سوط القدر»، وحديثه مع فاطمة-  عليها السّلام- 

         مسوط لحمها بدمي ولحمي‏

 

أي ممزوج ومخلوط، ومنه قصيد كعب بن زهير:

         لكنّها خلّة قد سيط من دمها            فجع وولع وإخلاف وتبديل‏

 

أي كأنّ هذه الأخلاق قد خلطت بدمها. ثمّ صيرورة أعلا الشّي‏ء أسفله، وأسفله أعلاه أعمّ من ذلك، ومن الانهدام، كما في قصّة قوم لوط، قال تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها. يريد أمير المؤمنين عليه السّلام: الإخبار بما يلحق القوم جرّاء عصيانهم اللَّه عزّ وجلّ، وتمرّدهم على إمامهم المفترض الطّاعة من‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 412

العذاب بأيدي الجبّارين، والدّول الظّالمة الأمويّة والعبّاسيّة وغيرها، كما عذّب اللَّه الأمم السّالفة العصاة بتسلّط الجبابرة عليهم، أو بنزول عذاب سماويّ، كما في قوم لوط بقلب المؤتفكات الخائطة، فماتوا بأجمعهم، أو بريح صرصر عاتية، أبادت قوم عاد وثمود ويشهد لهذا التّفسير قوله عليه السّلام: «إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزته التّقوى...» وهي العقوبات الّتي حلّت بالأمم السّابقين لتمرّدهم على أنبياء اللَّه المبعوثين إليهم، وهي من أصرح العبر وأنجع المواعظ لمن يعتبر، ولكن كما قال عليه السّلام: «ما أكثر العبر وأقلّ الاعتبار».

138-  لجمل أهلك، وشسع نعلك خير منك

تمثّل الإمام عليه السّلام بهذا المثل في كتاب له إلى المنذر بن الجارود العبديّ، وقد كان استعمله على بعض النّواحي، فخان الأمانة في بعض ما ولّاه من أعماله: «... ولئن كان ما بلغني عنك حقّا، لجمل أهلك، وشسع نعلك خير منك...».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 413

 قال الشّريف الرّضيّ طاب ثراه: المنذر بن الجارود هذا هو الّذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّه لنظّار في عطفيه. مختال في برديه، تفّال في شراكه». وقد ترجمه جمع، وهم بين قادح له، وبين مادح، وكفى في قدحه كلام الإمام عليه السّلام، وكلّ من شاكله شمله القدح المذكور.

و نظير المثل الجاري المثل النّبويّ: «ربّ مركوب خير من راكبه» رواه السّيّد الرّضيّ. ولا ريب أنّ الخائن لشسع نعله وجمل أهله الّذي يركبه خير منه، لأنّه لم يخن ما خان. قال الشّارح المعتزليّ: العرب تضرب بالجمل المثل في الهوان، قال:

         لقد عظم البعير بغير لبّ            ولم يستغن بالعظم البعير

         يصرّفه الصّبيّ بكلّ وجه             ويحبسه على الخسف الجرير

         وتضربه الوليدة بالهراوى         فلا غير لديه ولا نكير

 

فأمّا شسع النّعل فضرب المثل بها في الاستهانة مشهور لابتذالها و

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 414

وطئها الأقدام في التّراب. ثمّ حرمة الخيانة ووجوب ردّ الأمانة مدلولة الأدلّة الأربعة: الكتاب والسّنّة والعقل وإجماع الأمّة. ولا فرق في ذلك بين القلّة والكثرة، ولو كمثل رأس إبرة، أو أقلّ منه، فالخائن مهما كان نوعه معاقب، كما عاقب ابن العبّاس لمّا بلغه منه، فقال عليه السّلام: «و واللَّه لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الّذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا منّي بإرادة حتّى آخذ الحقّ منهما».

139-  اللّسان سبع عقور إن خلّي عنه عقر

قال عليه السّلام: «اللّسان سبع عقور إن خلّي عنه عقر». قال السّيّد الخطيب: هذه الكلمة من وصيّته عليه السّلام لولده محمّد ابن الحنفيّة، رواها قبل الشّريف الشّيخ الصّدوق في نوادر (الفقيه)، وفيها: «و اعلم أنّ الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به، فإن تكلّمت به‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 415

صرت في وثاقه، فاخزن لسانك، كما تخزن ذهبك وورقك، فإنّ اللّسان كلب عقور، فان أنت خلّيته عقر...». ورواها أيضا الشّيخ المفيد في (الاختصاص) ص: 229... وقد أخذ معنى هذه الكلمة قيس بن السّكن، وكان كثير الصّمت، فقيل له: ألا تتكلّم فقال: لساني سبع من السّباع، أخاف أن أدعه فيعقرني. وفي حديث نبويّ: «إنّ كان في شي‏ء شؤم، ففي اللّسان».

         احفظ لسانك أيّها الإنسان            لا يلسعنّك إنّه ثعبان

 

و نبويّ آخر. «احفظ لسانك، ويحك وهل يكبّ النّاس على مناخرهم في النّار إلّا حصائد ألسنتهم». وقد تكلّمنا على المثل: «ما من شي‏ء أحقّ بطول السّجن من اللّسان.» هنا سؤال: هل الكلام أفضل أم السّكوت عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام، أنّه سئل عن الكلام والسّكوت، أيّهما أفضل فقال عليه السّلام:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 416

«لكلّ واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السّكوت، وقيل: وكيف ذاك يا ابن رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  فقال: لأنّ اللَّه عزّ وجلّ ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسّكوت، إنّما بعثهم بالكلام، ولا استحقّت الجنّة بالسّكوت، ولا استوجبت ولاية اللَّه بالسّكوت، ولا وقيت النّار بالسّكوت، ولا تجنّب سخط اللَّه بالسّكوت، إنّما ذلك كلّه بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشّمس، إنّك لتصف فضل السّكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسّكوت». قال ابن أبي الحديد: وكان يقال: إن كان في الكلام درك ففى الصّمت عافية. وقالت الحكماء: النّطق أشرف ما خصّ به الإنسان لأنّه صورته المعقولة الّتي باين بها سائر الحيوانات، ولذلك قال سبحانه: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ. ولم يقل: (و علّمه) بالواو لأنّه سبحانه جعل قوله: «عَلَّمَهُ الْبَيانَ» تفسيرا لقوله: «خُلِقَ الْإِنْسانُ» لا عطفا عليه، تنبيها على أنّ خلقه له وتخصيصه بالبيان الّذي لو توهّم مرتفعا لارتفعت إنسانيّته، ولذلك قيل: ما الإنسان لو لا اللّسان إلّا بهيمة مهملة، أو صورة ممثّلة، وقال الشّاعر:

         لسان الفتى نصف ونصف فؤاده            فلم يبق إلّا صورة اللّحم والدّم‏

 

و قالوا: والصّمت من حيث هو صمت مذموم، وهو من صفات‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 417

الجمادات، فضلا عن الحيوانات. وكلام أمير المؤمنين عليه السّلام وغيره في مدح الصّمت محمول على من يسي‏ء الكلام، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدّين والدّنيا. في حديث سجّاديّ: «إنّ لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه كلّ صباح، فيقول: كيف أصبحتم فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: اللَّه اللَّه فينا، ويناشدونه، ويقولون: إنّما نثاب ونعاقب بك». فلا بدّ من كلّ متكلّم أن يفكّر في كلامه، ويراقب اللَّه تعالى.

140-  لقلّما أدبر شي‏ء فأقبل

من بعض خطبة له عليه السّلام: «حقّ وباطل، ولكلّ أهل، فلئن أمر الباطل لقديما فعل، ولئن قلّ الحقّ لربّما ولعلّ ولقلّما أدبر شي‏ء فأقبل». قال البحرانيّ: «حقّ وباطل» فكأنّه قال: هما: حقّ وهو التّقوى،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 418

و باطل وهو الخطايا-  لسبق ذكرهما-  ثمّ قال: «و لكلّ أهل»: أي ولكلّ من طريقي الحقّ والباطل قوم، أعدّهم القدر لسلوكها بحسب ما جرى في اللّوح المحفوظ بقلم القضاء الإلهيّ، كما قال الرّسول-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : «كلّ ميسّر لما خلق له». قوله: «فلئن أمر الباطل لقديما فعل...» أردف لذلك بما يشبه الاعتذار لنفسه ولأهل الحقّ في قلّته، وذمّ وتوبيخ لأهل الباطل على كثرة الباطل، وقلّة الحقّ في ذلك الوقت ليس بديعا حتّى أجهد نفسي في الإنكار على أهله، ثمّ لا يسمعون ولا ينتهون.

و في قوله: «لرّبما ولعلّ» تنبيه على أن الحقّ وإن قلّ فربّما يعود يسيرا ثمّ أردف حرف التّقليل، وهو ربّما بحرف التّمنّي- : أي لعلّ-  وكان في هذه الأحرف الوجيزة إخبار بقلّة الحقّ، ووعد بقوّته، مع نوع تشكيك في ذلك، وتمنّ لكثرته.

قوله: «و لقلّما أدبر شي‏ء فأقبل» استبعاد لرجوع الحقّ إلى الكثرة والقوّة بعد قلّته وضعفه على وجه كلّي، فإنّ زوال الاستعداد للأمر مستلزم لزوال صورته وصورة الحقّ، إنّما أفيضت على قلوب صفت واستعدّت لقبوله، فإذا أخذ ذلك الاستعداد في النّقصان بموت أهله أو بموت قلوبهم، وتسوّد ألواح نفوسهم بشبه الباطل، فلا بدّ أن ينقص نور الحقّ وتكثر ظلمة الباطل، بسبب قوّة الاستعداد لها وظاهر أنّ عود الحقّ وإضاءة نوره بعد إدباره، وإقبال ظلمة الباطل أمر بعيد وقلّ ما يعود مثل ذلك الاستعداد لقبول مثل تلك الصّورة للحقّ، ولعلّه يعود بقوّة، فتصبح ألواح النّفوس وأرضها مشرقة بأنوار الحقّ، ويكرّ على‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 419

الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق، وما ذلك على اللَّه بعزيز، وفي ذلك تنبيه لهم على لزوم الحقّ، وبعث على القيام به، كي لا يضمحلّ بتخاذلهم عنه، فلا يمكنهم تداركه. أقول: نعم الشّرح شرحه لكلام الإمام عليه السّلام، إنّ القرآن الكريم قد تناول الحقّ بلفظه في 283 موضعا، وأمّا بغيره فكلّ القرآن، وفي كلمات أهل البيت عليهم السّلام ما لا يحصى، ونحن جئنا بنبذة منها في المناسبات، كما ذكرنا من أمثال سائرة بهذا الصّدد عند التّكلّم على المثل: «أخرج الحقّ من خاصرته». والمثل: «ليس بين الحقّ والباطل إلّا أربع أصابع». ومن الأمثال: «للحقّ دولة، وللباطل جولة». (الحقّ ظلّ ظليل). والمقام صالح للمثل.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 420

141-  لم يعضّ على العلم بضرس قاطع

قال عليه السّلام في صفة من لا أهليّة له للقضاء بين النّاس في كلام له: «لم يعضّ على العلم بضرس قاطع، يذري الرّوايات إذراء الرّيح الهشيم». انظر تفسير الجملة الثّانية إلى المثل: «يذري... إذراء الرّيح الهشيم». قوله عليه السّلام: «لم يعضّ» يريد: أنّه لم يتقن ولم يحكم الأمور، فيكون بمنزلة من يعضّ بالنّاجذ، وهو آخر الأضراس. وإنّما يطلع إذا استحكمت شبيبة الإنسان، واشتدّت مرّته ولذلك يدعوه العوام ضرس الحلم. كأنّ الحلم يأتي مع طلوعه ويذهب نزق الصّبا. ويقولون: رجل منجّذ، أي مجرّب محكم، كأنّه قد عضّ على ناجذه، وكمل عقله.

------------------------------------------------------------------- صفحة 421

و هو كناية عن عدم نفوذ بصيرته في العلوم وعدم إتقانه للقوانين الشّرعيّة، لينتفع بها انتفاعا تامّا. يقال: (فلان لم يعضّ على العلم بضرس قاطع) إذا لم يحكمه ولم يتقنه، وأصله أنّ الإنسان يمضغ الطّعام الّذي هو غذاؤه، ثمّ لا يجيد مضغه لينتفع به البدن انتفاعا تامّا. فمثّل به من لم يحكم ولم يتقن ما يدخل فيه من المعقولات الّتي هي غذاء الرّوح لينتفع به انتفاعا كاملا. قال ابن الأثير: ومنه الحديث في صفة عليّ عليه السّلام: «فإذا فزع فزع إلى ضرس حديد»: أي صعب العريكة قويّ.

و من رواه بكسر الضّاد وسكون الرّاء فهو أحد الضّروس، وهي الآكام الخشنة: أي إلى جبل من حديد.

و معنى قوله: «إذا فزع»: أي فزع إليه والتجئ، فحذف الجارّ، واستتر الضّمير. ومنه الحديث الآخر: «كان ما نشاء من ضرس قاطع»: أي ماض في الأمور، نافذ العزيمة، يقال: (فلان ضرس من الأضراس): أي داهية. وهو في الأصل أحد الأسنان، فاستعار لذلك. ومنه حديثه الآخر: «لا يعضّ في العلم بضرس قاطع»: أي لم يتقنه ولم يحكم الأمور.

------------------------------------------------------------------- صفحة 422

يريد من الحديث الأخير: حديثنا الجاري مع تغيير مّا في لفظه.

و حصيلة كلّ ما ذكر في معناه: هو أنّ هذا الرّجل الجاعل نفسه قاضيا شاكّ فيما يقضي، ومتحيّر في الحكم، والواجب على القاضي أن يكون قاطعا غير شاكّ في الواقعة الّتي يقضي فيها، وعاضّا عليها بضرس قاطع، لا يبقى للتّرديد فيها مساغ، ومنه يعلم اشتراط القطع واليقين عند ما يقضي وإلّا فليخلع نفسه عن هذا المنصب، وليذهب إلى غيره من المذاهب فلا يدخل النّاس فيما دخل.

و قال الزّمخشريّ الضّرس واحد الأضراس: وهي عشرون ضرسا تلي الأنياب من كلّ جانب من الفم، خمسة من أسفل، وخمسة من فوق، وهو مذكّر، وربّما أنّث، وهذا مثل لعدم إتقانه.

142-  لو كان يطاع لقصير أمر

من خطبة له عليه السّلام أوّلها: «الحمد للَّه وإن أتى الدّهر بالخطب الفادح-  إلى قوله عليه السّلام:-  وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر...». والمثل من أمثال سائرة ضربت في قصّة مشهورة ذكرها الأدباء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 423

بتفصيل، منهم صاحب رسالة الإسلام، قال: قاله قصير بن سعد اللّخميّ لجذيمة الأبرش، عند ما أشار عليه ألّا يستجيب إلى الزّباء ملكة الجزيرة، حينما كتبت إليه في أن يقبل إليها، لتضمّ ملكها إلى ملكه، وكانت تنوي من وراء ذلك الغدر به لأنّه كان قد وترها بقتله أباها، فلم يقبل جذيمة مشورة قصير، وذهب إليها، فقال قصير: (لا يطاع لقصير أمر). وكانت نهاية الأمر أن قتلت الزّباء جذيمة وأدركت ثأرها. والقصّة هذه من أحفل القصص في الأمثال الّتي قيلت خلال حوادثها، فقد بلغت واحدا وعشرين مثلا: رأي فاتر وغدر حاضر. رأيك في الكنّ لا في الضّحّ. لا يطاع لقصير أمر. ببقّة حلفت الرّأي. القول رادف. خطب يسير. لا يشقّ غباره. ويل أمّه.

خير ما جاءت به العصا...... واستشهد الإمام عليه السّلام بالمثل المذكور حيث نصح جماعته بعدم قبول التّحكيم في وقعة صفّين، وأبوا عليه ذلك. أثبت المثل المحدّث القمّيّ رحمه اللَّه، وما جاء في قصّته من نصح قصير مولى جذيمة وبعثة الزّباء ملكة الجزيرة إليه، ليتزّوج بها فخرج‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 424

جذيمة في ألف فارس، وخلّف باقي جنوده مع ابن أخيه... هذا مثل يضرب لمن خالف نصح النّاصح، ولقد شوهد حلول الويل على من خالف النّصح من ذوي الإشفاق، وهل أحد أشفق من أمير المؤمنين عليه السّلام على الرّعيّة، وأسدّ رأيا منه وإنّ حادثة التّحكيم المفروض على الإمام عليه السّلام لمن أمضّ الحوادث وأشدّها على الإسلام والمسلمين، من جرّاء المعصية والتّمرّد عليه عليه السّلام.

143-  ليس بين الحقّ والباطل إلّا أربع أصابع

من كلام له عليه السّلام: «أيّها النّاس من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال. أمّا إنّه قد يرمي الرّامي، وتخطئ السّهام، ويحيل الكلام، وباطل ذلك يبور، واللَّه سميع وشهيد. أما إنّه ليس بين الحقّ والباطل إلّا أربع أصابع. فسئل عليه السّلام عن معنى قوله هذا.

فجمع أصابعه، ووضعها بين أذنه وعينه، ثمّ قال: الباطل أن تقول: سمعت، والحقّ أن تقول: رأيت». ويفسّره ما رواه الشّيخ الصّدوق رحمه اللَّه تعالى بسنده إلى الباقر عليه السّلام «يقول: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام: كم بين الحقّ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 425

و الباطل فقال: أربع أصابع، ووضع أمير المؤمنين عليه السّلام يده على أذنه وعينيه، فقال: ما رأته عيناك فهو الحقّ، وما سمعته أذناك فأكثره باطل». وروى الأوّل الشّيخ الحرّ رحمه اللَّه، وغيره، وفي ظنّي أنّي رأيت حديثا عنهم عليهم السّلام، فيه: «و ما سمعته أذناك ففيه باطل». قال ابن أبي الحديد: هذا الكلام هو نهي عن التّسرّع إلى التّصديق بما يقال من العيب والقدح في حقّ الإنسان المستور الظّاهر المشتهر بالصّلاح والخير، وهو خلاصة قوله سبحانه: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ. والاصبع مؤنثة، ولذلك قال: أربع أصابع، فحذف الهاء. ويقرأ بفتح الهمزة، ومنه الحديث: «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع اللَّه، يقلّبه كيف يشاء». قال ابن الأثير بعد الحديث: الأصابع جمع أصبع: وهي الجارحة، وذلك من صفات الأجسام، تعالى اللَّه عزّ وجلّ عن ذلك وتقدّس، وإطلاقها عليه مجاز، كإطلاق اليد واليمين والعين والسّمع، وهو جار مجرى التّمثيل، والكناية عن سرعة تقلّب القلوب، وأنّ ذلك أمر معقود بمشيئة اللَّه تعالى. ولفظ الفائق: بكسر «إصبعين من أصابع الرّحمن».

------------------------------------------------------------------- صفحة 426

و قال الشّيخ الطّريحيّ بعد قوله تعالى: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ.

[71 7]: والأصابع جمع إصبع، يؤنّث ويذكّر، وبعضهم يقتصر على التّأنيث، وكذلك سائر أسمائها كالخنضر والبنصر. وفي الإصبع كما قيل: عشر لغات، والمشهور كسر الهمزة وفتح الباء، وهي الّتي ارتضاها الفصحاء، وهي تثليث الهمزة مع تثليث الباء والعاشرة أصبوع كعصفور. وإنّما اعتبرت في الحقّ الرّؤية لقلّة الخطأ فيها دون السّماع فإنّه يكثر فيه ومن ثمّ شبّه الحقّ بالصّبح، ومنه: (الحقّ أبلج، والباطل لجلج) يعني: أنّ الحقّ واضح. يقال: صبح أبلج: أي مشرق، ومنه قوله:

 

         حتّى بدت أعناق صبح أبلجا

 

و قوله: (لجلج): أي ملتبس يتردّد فيه صاحبه، ولا يصيب منه مخرجا. فإن قيل: أكثر العلوم من طريق السّماع، كالعلم بمعجزات النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  وغيرها، فالجواب: الكلام في غير المتواتر، والمعلوم تفصيلا لأنّ كلام الإمام عليه السّلام في الأقوال الشّاذّة الواردة من طريق الآحاد الّتي تتضمّن القدح فيمن قد غلبت نزاهته، فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك. وفي الشّهادة رؤية الحسّ معتبرة شرعا، كما فيما رواه المحقّق رحمه اللَّه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 427

عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، وقد سئل عن الشّهادة، قال: «هل ترى الشّمس على مثلها فاشهد أودع».

144-  ليصدق رائد أهله

من أمثال سائرة تمثّل به الإمام عليه السّلام في خطبة له: «... فاستمعوا من ربّانيّكم، وأحضروه قلوبكم، واستيقظوا إن هتف بكم وليصدق رائد أهله، وليجمع شمله، وليحضر ذهنه». المثل السّائر قولهم: (الرّائد لا يكذب أهله). والرّائد: الّذي يتقدّم القوم لطلب الماء والكلاء لهم، فإن كذبهم أفسد أمرهم وأمر نفسه معهم لأنّه واحد منهم. يضرب مثلا للنّصيح غير المتّهم على من ينصح له وأصله في العربيّة: راد، يرود: إذا جاء وذهب، وضرب يمينا وشمالا. ومن ثمّ قيل: (ارتاد الشّي‏ء) إذا طلبه لأنّ الطّالب يتردّد في حاجته حتّى ينالها. الغيث. ومنه الحديث: «إنّ الرّائد لا يكذب أهله». يريد: أنّهم ينتقلون‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 428

عن مواضعهم بخبره فهو لا يكذبهم. وبلغني أنهم كانوا يشمون البرق، فإذا لمعت سبعون برقة لم يرسلوا رائدا وانتقلوا كأنّهم يثقون بالغيث. وقد جاء عنه عليه السّلام مثله. ويريد ابن قتيبة من الحديث: الحديث المرويّ عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم المذكور في كتابنا: (الأمثال النّبويّة). هنا سؤال: وهو أنّ قول الإمام عليه السّلام: «ليصدق رائد أهله» تختلف صورته مع المثل السّائر: أي (الرّائد لا يكذب أهله). يجاب عنه: هو كذلك، إلّا أنّ المعنى واحد، ولا فرق بينهما سوى تبديل (لا يكذب) ب (ليصدق). وهو خبر أريد به النّهي: أي لا بدّ أن لا يكذب، أو الأمر، ومعناه: (ليصدق) فصرّح المعنى بهذا اللّفظ، فهما شي‏ء واحد، وإن أبيت فهو كالمثل السّائر لا نفسه.

ثمّ المراد بالرّائد: نفسه الشّريفة، وعليه فلا بدّ من عود الضّمير في (و ليجمع شمله، وليحضر ذهنه) إليها، فهو بيان وظيفة الوالي على الرّعيّة، وقد فعل وقام بهذه الوظيفة، وبقي على الرّعيّة إحضار قلوبهم له والتّلبية إن هتف بهم.

و من الشّرّاح من يرجع الضّمير إلى الرّائد، ويقصد به الرّعيّة لأنّ الأمر بجمع الشّمل وإحضار الذّهن لا يناسب الإمام عليه السّلام، ولا معنى لأمر الإنسان نفسه، بل لا بدّ أن يكون المخاطب بذلك غير الآمر، وهو هنا الأمّة. والشّارحون كلّ منهم ذهب إلى مذهب، فاختر لنفسك.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 429

حرف الميم

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 430

145-  ما أنقض النّوم لعزائم اليوم

في كلام له عليه السّلام يحثّ فيه أصحابه على الجهاد: «و اللَّه مستأديكم شكره، ومورّثكم أمره، وممهلكم في مضمار ممدود، لتتنازعوا سبقه. فشدّوا عقد المآزر، واطووا فضول الخواصر، لا تجتمع عزيمة ووليمة. ما أنقض النّوم لعزائم اليوم وأمحى الظّلم لتذاكير الهمم» قوله عليه السّلام: «ما أنقض النّوم لعزائم اليوم» أوّل من قاله مع أمثال أخر في نفس الكلام وتجد شرح «و اللَّه...-  إلى-  أمره» عند المثل: «لا تجتمع عزيمة ووليمة». وقال لما بعد ذلك المعتزليّ: ثمّ شبّه الآجال الّتي ضربت للمكلّفين ليقوموا فيها بالواجبات، ويتسابقون فيه إلى الخيرات بالمضمار الممدود لخيل تتنازع فيه السّبق. ثمّ قال-  عليه السّلام- : «فشدّوا عقد المآزر»: أي شمّروا عن ساق الاجتهاد ويقال لمن يوصى بالجدّ والتّشمير: (اشدد عقدة إزارك) لأنّه إذا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 431

شدّها كان أبعد عن العثار وأسرع للمشي. ونحن ذكرناه وما بعده عند المثل: «شدّوا عقد المآزر». وقال الشّارح في: «ما أنقض النّوم لعزائم اليوم»: قال الشّاعر:

         فتى لا ينام على عزمه            ومن صمّم العزم لم يرقد

 

من طلب العلى سهر اللّيالى. من ينكح الحسناء يعط مهرا. العازم على العمل من أقوى النّقض له نومه عنه، خاصّة عن مقدّماته البعيدة والقريبة حيث لا يساعده المجال لإتيانها إذا ضاق، فيفوت المعزوم عليه لا محالة ومن ثمّ جاء الأمر بالمسارعة والتّعجيل في الخير وكلّماكان ذلك أهمّ في نظر الشّرع والعقل شدّد النّهي عن النّواقض الّتي منها النّوم، ويكون محرّما إذا لزم منه فوت واجب، أو ركوب محرّم، وقد جاء: «عجّلوا بالصّلاة قبل الفوت، وبالتّوبة قبل الموت» وقيّد بذلك إطلاق النّبويّ: «الأناة من اللَّه والعجلة من الشيطان». لأنّه من مواطن «خير الخير ما كان عاجله». وإذا طبّق على شرع الهوى فلا نوم، فضلا عن النّقض.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 432

         عجبا للمحبّ كيف ينام            كلّ نوم على المحبّ حرام

         ما قضى الحاجات إلّا شملّ        نومه فوق فراش من نمال

 

146-  ما زنى غيور قطّ

قال عليه السّلام: «ما زنى غيور قطّ». قال الخطيب: ورواها في (مجمع الأمثال): ج 2، ص: 290 هكذا: (ما فجر غيور قطّ)، وعلّق عليه الميدانيّ بقوله: قاله بعض الحكماء من العرب، ثمّ قال: يعني: أنّ الغيور الّذي يغار على كلّ أنثى.

و عليّ عليه السّلام سيّد العرب، كما جاء ذلك في الحديث الشّريف، كما في كتاب معاني الأخبار: 103. وقد رواها أيضا الآمديّ في‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 433

(غرر الحكم) ص: 307 وبعدها: (ما أفحش كريم قطّ). قال الشّيخ الطّريحيّ: قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ [17 32] هو بالقصر والمدّ: وطء المرأة حراما من دون عقد، وعند فقهائنا هو إيلاج فرج البالغ العاقل في فرج امرأة محرّمة من غير عقد ولا ملك ولا شبهة قدر الحشفة عالما مختارا. والزّاني: فاعل الزّنا.

و في الحديث: «لا يزني الزّاني، حين يزني، وهو مؤمن». وفي معناه وجوه، والوجوه خمسة، فراجعها.

و الغيور فعول من الغيرة بالكسر: نفرة طبيعة، تكون عن بخل مشاركة الغير في أمر محبوب له. والغيرة: الدّية، وجمعها غير ككسرة وكسر، وجمع الغير أغيار، كضلع وأضلاع. قال ابن أبي الحديد: قد جاء في الأثر: «من زنى زني به، ولو في عقب عقبه». وهذا قد جرّب، فوجد حقّا، وقلّ من كان مقداما على الزّنا إلّا والقول في حرمه وأهله وذوي محارمه كثير فاش، والكلمة الّتي قالها عليه السّلام حقّ لأنّ من اعتاد الزّنا حتّى صار دربته وعادته، وألفته نفسه، لا بدّ أن يهون عليه، حتّى يظنّه مباحا أو كالمباح لأنّ من تدرّب بشي‏ء ومرن عليه زال قبحه من نفسه، وإذا زال قبح الزّنا من نفسه لم يعظم عليه ما يقال في أهله، وإذا لم يعظم عليه ما يقال في أهله فقد سقطت غيرته.

------------------------------------------------------------------- صفحة 434

و الغيرة من صفات اللَّه والأنبياء والمؤمنين، يمتازون بها عمّن سواهم. ففى حديث صادقيّ: «إنّ اللَّه غيور، يحبّ كلّ غيور، ومن غيرته حرّم الفواحش ظاهرها وباطنها». ونبويّ: «كان أبي إبراهيم غيورا، وأنا أغير منه، وأرغم اللَّه أنف من لا يغار من المؤمنين»، ونبويّ آخر: «إنّ الغيرة من الإيمان». وباقريّ: «إنّ اللَّه لم يجعل الغيرة للنّساء، وإنّما جعل الغيرة للرّجال لأنّ اللَّه عزّ وجلّ قد أحلّ للرّجل أربعة حرائر وما ملكت يمينه، ولم يجعل للمرأة إلّا زوجها وحده، فإن بغت مع زوجها غيره كانت عند اللَّه زانية، وإنّما تغار المنكرات منهنّ، فأمّا المؤمنات فلا». تقدّم ما كتبنا في جعفر بن أبي طالب عليهما السّلام حديث أبي جعفر عليه السّلام، قال: «أوحى اللَّه عزّ وجلّ إلى رسوله: إنّى شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  فأخبره.

فقال: لو لا أنّ اللَّه تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك: ما شربت خمرا قطّ لأنّي علمت أنّي إن شربتها زال عقلي، وما كذبت قطّ لأنّ الكذب ينقص المروءة، وما زنيت قطّ لأنّي خفت أنيّ إذا عملت عمل بي، وما عبدت صنما قطّ لأنّي علمت أنّه لا يضرّ ولا ينفع قال: فضرب النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  يده على عاتقه، وقال: حقّ على اللَّه عزّ وجلّ أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة».

------------------------------------------------------------------- صفحة 435

في صادقيّ: «أربع خصال لا تكون في مؤمن: لا يكون مجنونا، ولا يسأل عن أبواب النّاس، ولا يولد من الزّنا، ولا ينكح في دبره». ذكرناه لأدنى مناسبة البحث عن الزّنا. وعلويّ: «أربعة لا تدخل واحدة منهنّ بيتا إلّا خرب ولم يعمر: الخيانة، والسّرقة، وشرب الخمر، والزّنا». ونبويّ: «إذا كثر الزّنا من بعدي كثر موت الفجأة». عن أبي حمزة قال: «كنت عند عليّ بن الحسين عليهما السّلام، فجاءه رجل فقال: يا أبا محمّد إني مبتلى بالنّساء، فأزني يوما، وأصوم يوما، فيكون ذا كفّارة لذا. فقال له عليّ بن الحسين عليهما السّلام: إنّه ليس شي‏ء أحبّ إلى اللَّه عزّ وجلّ من أن يطاع فلا يعصى، فلا تزن ولا تصم، فاجتذبه أبو جعفر عليه السّلام إليه، فأخذه بيده، فقال: يا أبا زنّة. تعمل عمل أهل النّار وترجو أن تدخل الجنّة». وصحيح القدّاح عن الصّادق عليه السّلام، قال: «قال يعقوب لابنه: يا بنيّ لا تزن فإنّ الطّير لو زنا لتناثر ريشه». والنّبويّ: «في الزّنا خمس خصال: يذهب بماء الوجه، ويورث الفقر، وينقص العمر، ويسخط الرّحمن، ويخلد في النّار، نعوذ باللَّه من النّار». وأهمّ ما يورثه بعد سخط اللَّه والخلود في النّار خزي الدّنيا من الفعل‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 436

بأهله لفعله بحرم النّاس روى البرقي بسنده عن الصادق عليه السّلام: «إنّ اللَّه أوحى إلى موسى عليه السّلام: لا تزنوا فتزنى نساؤكم، ومن وطى‏ء فراش امرى‏ء مسلم وطى‏ء فراشه كما تدين تدان». وصادقيّ: «إنّ عيسى عليه السّلام قال للحواريين: إنّ موسى أمركم أن لا تحلفوا باللَّه كاذبين، أنا آمركم ان لا تحلفوا باللَّه كاذبين ولا صادقين، قالوا: زدنا، قال: إنّ موسى أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدّثوا أنفسكم بالزّنا فضلا عن أن تزنوا، فإنّ من حدّث نفسه بالزّنا كان كمن أوقد في بيت مزوّق، فأفسد التّزاويق الدّخان، وإن لم يحترق البيت». وصادقيّ آخر: «كانت امرأة على عهد داود، يأتيها رجل يستكرهها عن نفسها، فألقى اللَّه عزّ وجلّ في قلبها، فقالت له: إنّك لا تأتيني مرّة إلّا وعند أهلك من يأتيهم. قال: فذهب إلى أهله، فوجد عند أهله رجلا، فأتى به داود عليه السّلام، فقال: يا نبيّ اللَّه وجدت هذا الرّجل عند أهلي، فأوحى اللَّه إلى داود: قل له: كما تدين تدان». وعن الباقرين عليهما السّلام: «ما من أحد إلّا وهو يصيب حظّا من الزّنا، فزنا العينين النّظر، وزنا الفم القبلة، وزنا اليدين اللّمس، صدق الفرج ذلك أم كذب». ومن أجلى مظاهر الشّهوة البشريّة الفرج، والبطن، واللّسان، ومن‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 437

وقاها وقي الشّرّ كلّه كما جاء ذلك في أحاديث أهل البيت عليهم السّلام، منها: الصّادقيّ: «إنّما شيعة جعفر من عفّ بطنه، وفرجه، واشتدّ جهاده...». والنّبويّ: «من ضمن لي اثنتين ضمنت له على اللَّه الجنّة، من ضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، ضمنت له على اللَّه الجنّة، يعني: ضمن لي لسانه وفرجه». ومنها: «من وقى شرّ لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وجبت له الجنّة». اللّقلق: اللّسان، والقبقب: البطن، والذّبذب: الفرج. ومنه المثل: (من وقى شرّ لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي) يضرب لمن يكثر. وقد أخذ منه من قال شعرا:

         لقلقيّ قبقبيّ ذبذبيّ            عن التذاذ طرحت بجانب.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 438

147-  ما عدا ممّا بدا

جاء المثل في آخر كلام له عليه السّلام، لمّا أنفد عبد اللَّه بن عبّاس إلى الزّبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل، ليستفيئه إلى طاعته: «لا تلقينّ طلحة فإنّك إنّ تلقه تجده كالثّور عاقصا قرنه، يركب الصّعب، ويقول: هو الذّلول ولكن الق الزّبير فإنّه ألين عريكة، فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق فما عدا ممّا بدا». قال الرّضيّ رحمه اللَّه: وهو عليه السّلام أوّل من سمعت منه هذه الكلمة، أعني: «فما عدا ممّا بدا». كتبها كلّ من الميدانيّ. والمفضّل. وغيرهما، ناسبين بها إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، وهي صالحة للمثل، بل هي هو.

قال القطب الرّاونديّ: قوله: «فما عدا ممّا بدا» له معنيان:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 439

أحدهما: ما الذّي منعك ممّا كان قد بدا منك من البيعة، قبل هذه الحالة الثّاني: ما الّذي عاقك ويكون المفعول الثّاني ل (عدا) محذوفا، يدلّ عليه الكلام: أي ما عداك يريد: ما شغلك، وما منعك ممّا كان بدا لك من نصرتي وقيل: المعنى: ما الّذي صدّك عن طاعتي بعد إظهارك لها وحذف الضّمير المفعول المنصوب كثير جدّا، كقوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا. أي أرسلناه. من كلمات قصار صالحة للمثل كما تقدّم. قيل: أجاب الزّبير بعد إبلاغه- : أبلغه سلامي، وقل له: عهد خليفة، ودم خليفة، وإجماع ثلاثة، وانفراد واحد، وأمّ مبرورة، ومشاورة العشيرة- .

148-  ما قلّ منه خير ممّا كثر

من كلام له عليه السّلام في صفة من يتصدّى للحكم بين الأمّة وليس لذلك بأهل: «و رجل قمش جهلا، موضع في جهّال الأمّة، عاد في أغباش‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 440

الفتنة، عم بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالما، وليس به.

بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر». هذا بعض كلماته الحكميّة في صفة المتصدّي للحكم القسم الثّاني، وأمّا الأوّل منه فراجع: «حمّال خطايا غيره». قوله عليه السّلام: (قمش جهلا) من القمش بالفتح فالسّكون: وهو جمع الشّي‏ء من هنا وهنا، ومثله التّقمّش، وقماش البيت بالضّمّ: متاعه. «موضع في جهّال الأمّة» من أوضع البعير: أسرع. وأوضعه راكبه: أسرع به. ويحتمل كونه من الوضع بمعنى: الجعل: أي جاعل نفسه في الجهّال بعمله.

«عاد في أغباش الفتنة»، الأغباش: بقايا ظلمة اللّيل وهي بعد الفجر عادة: أي يصبح مغبشا في الفتنة: أي: مجدّ دائب، وفي لفظ (غارّ): أي يغرّ النّاس ببقائه في بقايا الفتنة، وآخر من يخرج منها. (عم) من العمى: أي لا يبصر مصالح الهدنة أو الحرب، فيخلط أحدهما بالآخر. (أشباه النّاس)، بالصّورة إنسان، وبالسّيرة حيوان، فيزعمونه من العلماء وليس منهم.

«بكّر فاستكثر من جمع»: أي يصبح وقد هيّأ من مزعبلاته و

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 441

تخيّلاته الباطلة ما يفرح بجمعها يزعم أنّها علوم ومعارف، وليست بها، بل أوهام فاسدة، قليلها خير من كثيرها، والخيريّة لتقليل ضررها، وإلّا فلا خير في الأوهام الباطلة، نظير قول يوسف عليه السّلام: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي. فالسّجن محبوب بالقياس إلى دعوة نساء مصر، وإلّا فلا حبّ في السّجن فضلا عن أحبّيته.

و المثل: «ما قلّ منه خير ممّا كثر» قياس مطّرد في الأخذ بأقلّ الشّرّين، وبه يمتاز العاقل عن غيره كما قال عليه السّلام: «و ليس العاقل من يعرف الخير من الشّرّ ولكن العاقل من يعرف خير الشّرّين». ولا ريب بأنّ الأقلّ من جهالات الجاهل خير من أكثرها عند الدّوران في الأخذ، هذا إذا تساويا في الكيفيّة.

و بين كمّيّة الشّرور وكيفيّتها عموم وخصوص من وجه، فربّ قليل منها شرّ من كثيرها، إذا انضمّت إليه حالة أوجبت ذلك، وربّما انعكس الأمر: أي القليل خير من الكثير، وهو الغالب فالكمّيّة والكيفيّة علّة الخيريّة والشّرّيّة للشّي‏ء، كما لا يخفى على المحاسب الفطن وهذه قاعدة عقليّة مطّردة في جميع الأشياء عند المقايسة بينها، ثمّ الأخذ بخيرها وشرّها، والمقام من موارد هذه القاعدة، فاعرفها حتّى تطبّقها تماما. ولعلّ قوله تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. من نظائر المقايسة العقليّة عند الدّوران.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 442

149-  ما كلّ مفتون يعاتب

قال عليه السّلام: «ما كلّ مفتون يعاتب». قال ابن ابي الحديد: هذه الكلمة قالها عليّ عليه السّلام لسعد بن أبي وقّاص، ومحمّد بن مسلمة، وعبد اللَّه بن عمر، لمّا امتنعوا من الخروج معه لحرب أصحاب الجمل. ونظيرها (: أي نظير الكلمة) أو قريب منها قول أبي الطّيّب:

         فما كلّ فعّال يجازى بفعله            ولا كلّ قوّال لديّ يجاب‏

         وربّ كلام مرّفوق مسامعي           كما طنّ في لفح الهجير ذباب

 

قال عبد الزّهراء: وروى المفيد في كتاب (الجمل) عن كتاب (الجمل) لأبي مخنف المتوفّى (175) قال: لمّا همّ عليّ عليه السّلام بالمسير إلى البصرة، بلغه عن سعد بن أبي وقّاص، وابن مسلمة،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 443

و أسامة بن زيد، وابن عمر تثاقلهم عنه، فبعث إليهم، فلمّا حضروا، قال لهم: بلغني عنكم هنات كرهتها، وأنا لا أكرهكم على المسير معي، ألستم على بيعتي قالوا: بلى، قال: فما الّذي يقعدكم عن صحبتي قال سعد: إني أكره الخروج في هذه الحرب فأصيب مؤمنا، فإن أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر، قاتلت معك.

و قال له أسامة: أنت أعزّ الخلق عليّ، ولكنّي عاهدت اللَّه أن لا أقاتل أهل لا إله إلّا اللَّه.

و كان أسامة قد أهوى برمحه في عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم إلى رجل في الحرب من المشركين، فخافه الرّجل، فقال: لا إله إلا اللَّه، فشجره بالرّمح فقتله، فبلغ النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  خبره، فقال: يا أسامة أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلّا اللَّه فقال: يا رسول اللَّه إنّما قالها تعوّذا. فقال: ألا أشفقت عن قتله فزعم أسامة أنّ النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  أمره أن يقاتل بسيفه لمشركين، فإذا قوتل المسلمون، ضرب بسيفه الحجر فكسره.

و قال عبد اللَّه بن عمر: لست أعرف في هذه الحرب شيئا، أسألك أن لا تحملني على ما لا أعرف.

فقال لهم أمير المؤمنين عليه السّلام: «ليس كلّ مفتون يعاتب، ألستم على بيعتي قالوا: بلى. قال: انصرفوا، فسيغني اللَّه عنكم». وروى هذه الكلمة أيضا أبو الحسين المعتزليّ في (غرر الأدلّة)، والقضاعيّ في (دستور معالم الحكم) ص 20، والآمديّ في (الغرر) ص:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 444

307 كرواية الشّريف الرّضيّ بنصّها. أقول: عذر هؤلاء غير مقبول بعد إعطاء البيعة الشّرعيّة له عليه السّلام، وليس معنى قوله: «ما كلّ مفتون يعاتب» على فرض التّطبيق عليهم: قبول عذرهم الشّرعيّ، فإنّ هذه الكلمة كما تقال في عدم توجّه العتاب على كلّ داخل في فتنة، تقال أيضا عند اليأس من صنع الموعظة، وتأثيرها في قلب المفتون، لا أنّه معذور شرعا وعقلا، بل يأسا من التّأثير، وإلّا فكيف يأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم عليّا عليه السّلام بقتال القاسطين والمارقين والنّاكثين، كما ثبت من صحاحهم، ثمّ يأمر ابن مسلمة وغيره بالقعود عن نصرته وهو الّذي قال صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم فيه: «عليّ مع الحق، والحقّ مع عليّ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة» والمعصوم المنصوص عليه بالنّصوص، ولا غرو أن يتخلّف من تخلّف عنه في هذه الحرب، وليس هي أوّل قارورة كسرت والخلافة من أهمّ الأمور، نوزعت حتّى قدّم من قدّم.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 445

150-  المال مادّة الشّهوات

قال عليه السّلام: «المال مادّة الشّهوات». رواه الشّيخ المجلسيّ رحمه اللَّه. وجمع من كتّاب الحديث ومن كتّاب الأدب. والمال في الأصل: ما يملك من الذّهب والفضّة، ثمّ أطلق على كلّ ما يقتنى، ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل لأنّها كانت أكثر أموالهم، وقد تكرّر ذكر المال على اختلاف مسمّياته في الحديث، ويفرق فيها بالقرائن. فكلّ ما يتمّول مال مادّ للشّهوات: والمادّة: الزيادة المتّصلة، ومنه مادّة الحمّام المتّصلة به. ومنه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 446

صحيح ابن بزيع عن الرّضا عليه السّلام قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شي‏ء، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الرّيح، ويطيب طعمه لأنّ له مادّة». والشّهوات واحدها الشّهوة، مصدر (شهي) بكسر الهاء (يشهى): الرّغبة والحبّ الشّديد بما يلائم النّفس، وتلتذّ به. وقيل: هي انفعال النّفس بالشّعور بالحاجة إلى ما تستلذّه. ومنها قوله تعالى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ.... ومن أحبّ شيئا ولم يزيّن له يوشك أن يرجع عن حبّه يوما، وأمّا من زيّن له حبّه لشي‏ء فلا يكاد يرجع عنه لأنّ ذلك منتهى الحبّ، وصاحبه لا يكاد يفطن لقبحه، ولا يحبّ أن يرجع وإن تأذّى به.

 

قال المجنون:

         وقالوا: لو تشاء سلوت عنها            فقلت لهم: وإنّي لا أشاء

 

و النّبويّ: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الرّياء والشّهوة الخفيّة». قيل: هي كلّ شي‏ء من المعاصي، يضمره صاحبه ويصرّ عليه وإن لم يعمله. وقيل: هو أن يرى جارية حسناء فيغضّ طرفه، ثمّ ينظر بقلبه كما كان ينظر بعينه.

------------------------------------------------------------------- صفحة 447

و المال أيسر شي‏ء للحصول على المشتهيات والملاذّ الدّنيويّة، يمدّ صاحبه حتّى يظفر بها، وقد تناول القرآن الكريم المال في أكثر من ثمانين موضعا، قدحا أو مدحا من جهة صرفه في الخير أو الشّرّ من الخير قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. ومن الثّاني: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. وكلّ ما جاء من ذمّ أو مدح في المال، في الكتاب والسّنّة، أو في نظم أو نثر، عن الحكماء والشّعراء وغيرهم إنّما هو عن هاتين الجهتين، وإلّا فالمال بنفسه لا قدح فيه ولا مدح، والأغلب صرفه فيما يضرّ بدين الإنسان من الشّهوات وغيرها، إذ أكثر النّاس إلّا من وفّقه اللَّه عزّ وجلّ تابع للنفس، والمخالف لها قليل جدّا.

و من هنا قال الإمام عليه السّلام: «المال مادّة الشّهوات» وإلّا فهو مادّة لغيرها من أمور الخير أيضا، ومع ذلك جاء في مدح الفقر: (حسبك من شرف الفقر أنّك لا ترى أحدا يعصي اللَّه ليفتقر، والعاصي لتحصيل الغنى كثير). وقال محمود الورّاق:

         يا عائب الفقر ألا تزدجر            عيب الغنى أكثر لو تعتبر

         من شرف الفقر ومن فضله          على الغنى إن صحّ منك النّظر

         إنّك تعصي اللَّه تبغي الغنى        ولست تعصي اللَّه كي تفتقر.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 448

151-  المتعلّق بها كالواغل المدفّع والنّوط المذبذب

من كتاب له عليه السّلام إلى زياد بن أبيه، وقد بلغه أنّ معاوية كتب إليه، يريد خديعته باستخلافه: «... وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطّاب فلتة من حديث النّفس، ونزعة من نزعات الشّيطان، لا يثبت بها نسب، ولا يستحقّ بها إرث، والمتعلّق بها كالواغل المدفّع، والنّوط المذبذب». قال الرّضيّ رحمه اللَّه: قوله عليه السّلام: (الواغل): هو الّذي يهجم على الشّرب ليشرب معهم، وليس منهم، فلا يزال مدفّعا محاجزا. (و النّوط المذبذب): هو ما يناط برحل الرّاكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك، فهو أبدا يتقلقل إذا حثّ ظهره، واستعجل سيره. وقيل: (الواغل): غير المدعوّ إلى وليمة، المعبّر عنه بالطّفيل، لا يزال يدفع بإخراجه عن ذلك.

------------------------------------------------------------------- صفحة 449

قوله عليه السّلام: (فلتة)، الفلتة: وقوع الأمر من غير تدبّر ولا رويّة، وكلّ شي‏ء يفعله الإنسان فجأة من غير تدبّر ولا رويّة، ومنه قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى اللَّه شرّها. ومراده عليه السّلام من فلتة أبي سفيان: قولته في تبنّي زياد وأنّه ولده، لا يثبت بهذا القول بنوّة في ظاهر الشّرع يتوارث عليها، فشبّه عليه السّلام المتعلّق بها بمن يهجم على ورد ماء ليس من أصحابه، فيدفع عنه، ويمنع عن ورود الورد أشدّ المنع، أو بمن علّق على دابّته قعبا أو قدحا متقلقلا أبدا. وكلا التّمثيلين لمدّعي بنوّة من لا يكون له.

152-  مثل آل محمّد كمثل نجوم السّماء

في آخر خطبة له عليه السّلام: «...... ألا إنّ مثل آل محمّد كمثل نجوم السّماء، إذا خوى نجم طلع نجم». تمثيلهم عليهم السّلام بالنّجوم متكرّر في أحاديثهم، كما جاء عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم ما يطابق ذلك. روى الشّيخ الصّدوق‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 450

بسنده إلى ابن عبّاس في حديث، قال: قال رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : «...... ومثلكم مثل النّجوم، كلّما غاب نجم طلع نجم إلى يوم القيامة». إذا جهل السّالكون الطّريق في اللّيل المظلم اهتدوا بنجوم السّماء، كما قال تعالى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. بإضاءتها وانتظام السّاكنة والسّائرة منها، حيث يستدلّ بوضعها على قطاع الأرض المتقسّمة إلى أقاليمها السّبعة، وعلى أبعاض اللّيل وساعاته.

و النّاس إذا جهلوا-  والجهل أصلهم، حيث أخرجوا من بطون أمّهاتهم لا يعلمون شيئا، كما في الآية: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً.-  افتقروا إلى الاضاءة في السّلوك إلى اللَّه تعالى إلى هداة يهدونهم سبل السّلام من هنا جاء تمثيلهم عليهم السّلام بالنّجوم، ووقع في محلّه والمشابهة بين أهل البيت عليهم السّلام والنّجوم من وجوه هي: الإضاءة، وامتدادها، بقيام إمام عند موت إمام، كطلوع نجم إذا خوى نجم، والرّفعة المختصّة بهم عليهم السّلام الّتي اختارها اللَّه تعالى لهم، لا يشاركهم غيرهم فيها، وسرور النّاظر إلى نجوم الولاية كما يسرّه إذا نظر

------------------------------------------------------------------- صفحة 451

إلى نجوم السّماء. وغيرها من وجوه لا تحصل بتمثيل الشّمس والقمر، وإن جاء في دعاء النّدبة: «أين الشّموس الطّالعة، والأقمار المنيرة». وغير الدّعاء لاختلاف وجهة الأهداف من التّمثيل.

و إن شئت الوصول إلى واقع التّمثيل فابحث عن لزوم الحجّة في الأرض واستحالة خلوّها عند العقول والفطرة السّليمة الّتي تؤيّدها صحاح الأخبار، أنّه لو خلت عن الحجّة لساخت بأهلها.

153-  مثل الدّنيا كمثل الحيّة

قال عليه السّلام: «مثل الدّنيا كمثل الحيّة، ليّن مسّها، والسّمّ النّاقع في جوفها، يهوي إليها الغرّ الجاهل، ويحذرها ذو اللّبّ العاقل». يشابه المثل المثل الآخر منه عليه السّلام، في كتاب له كتبه إلى سلمان الفارسيّ رحمه اللَّه قبل أيّام خلافته: «أما بعد، فإنّما مثل الدّنيا مثل الحيّة، ليّن مسّها، قاتل سمّها، فأعرض عمّا يعجبك فيها، لقلّة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها......».

------------------------------------------------------------------- صفحة 452

لا يفتقر المثلان إلى توضيح بعد القدر المشترك بين الحيّة والدّنيا في إهلاك مزاولهما، وأنّهما عدوّ الإنسان، والعاقل يكون على حذر دائما منهما.

يقول أبو العتاهية:

         إنّما الدّهر أرقم ليّن الم            سّ وفي نابه السّقام العقام

 

و تجد الإمام عليه السّلام يمثّل الدّنيا بما يحذّر النّاس من اعتناقها، إلّا بقدر الحاجة، والقرآن الكريم والسّنّة النّبويّة وتمام روايات أهل البيت عليهم السّلام تحذّرهم عنها غاية التّحذير، وقد جاء في الحديث: «حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة». وجاءت تمثيلات للدّنيا ببيت العنكبوت، والعجوز، والبحر العميق، وفصول السّنة، والماء النّازل من السّماء، والخضرة في الكتاب والسّنّة، وكلّ ذلك يشهد له الواقع، ولو لا الإطالة لأنجزنا الحوالة.

و كان عمل الإمام عليه السّلام وزهده في الدّنيا، بل وعمل أهل البيت عليهم السّلام وزهدهم فيها، يجسّد التّحذير عنها أكثر منه من القول لأنّ العمل يترك في النّفوس من الأثر غير الموصوف.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 453

154-  مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا

من خطبة له عليه السّلام: «نحمده على ما كان، ونستعينه من أمرنا على ما يكون، ونسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان.

أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم، وإن لم تحبّوا تركها، والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبّون تجديدها فإنّما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا، فكأنّهم قد قطعوه، وأمّوا علما، فكأنّهم قد بلغوه، وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتّى يبلغها وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه. وطالب حثيث من الموت يحدوه، ومزعج في الدّنيا عن الدّنيا حتّى يفارقها رغما». وهي مطوّلة، جئنا بقسم منها اشتمل على التّمثيل، وما يمتّ به من صلة.

قال الشّارح: لقد ظرف وأبدع عليه السّلام في قوله: «و نسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان» وذلك أنّ للأديان سقما وطبّا وشفاء، كما أن للأبدان سقما وطبّا وشفاء. قال محمود الورّاق:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 454

 

         وإذا مرضت من الذّنوب فداوها            بالذّكر إنّ الذّكر خير دواء

         والسّقم في الأبدان ليس بضائر           والسّقم في الأديان شرّ بلاء

 

تكلّمنا عليه على حدة، فراجع. قوم سفر: أي مسافرون. وأمّوا: قصدوا. والعلم: الجبل أو المنار في الطّريق يهتدى به. و-  كأنّ-  في هذه المواضع كهي في قوله-  عليه السّلام- : «كأنّك بالدّنيا لم تكن، وكأنّك بالآخرة لم تزل، ما أقرب ذلك وأسرعه». أقول: يشرح ذلك ما بعده: «و كم عسى المجري إلى الغاية» إلى آخره. والأمر أوضح من ذلك كلّه، وكلامه عليه السّلام هو غاية الإيضاح، خاصّة المثل الّذي ضربه لبيان انقضاء مدّة السّفر للمسافر إلى الاخرة بالموت، بمن سلك السّبيل إلى ما يقصده، هي بداية السّلوك كأنّه واصل قد قطع المسافة لأنّ كلّ ما هو آت كأنّه آت، كما أنّ كلّ ما مضى كأنّه لم يكن، هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. على بعض التّفاسير: بيان لمجيئه ومضيّه، كأنّه لم يجي‏ء ولم يمض. الماضى ميّت والغد لم يولد والآن محتضر.

         ما فات مضى وما سيأتيك فأين            قم فاغتنم الفرصة بين العدمين.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 455

155-  مثل من خبر الدّنيا كمثل قوم سفر

في وصيّته لابنه الحسن عليهما السّلام مثلان ضربهما لمن خبر الدّنيا، ولمن اغترّ بها. قال عليه السّلام: «إنّما مثل من خبر الدّنيا كمثل قوم سفر، نبا بهم منزل جديب، فأمّوا منزلا خصيبا، وجنابا مريعا، فاحتملوا وعثاء الطّريق، وفراق الصّديق، وخشونة السّفر، وجشوبة المطعم ليأتوا سعة دارهم، ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشي‏ء من ذلك ألما، ولا يرون نفقة فيه مغرما، ولا شي‏ء أحبّ إليهم ممّا قرّبهم من منزلهم، وأدناهم إلى محلّتهم.

و مثل من اغترّ بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب، فنبأ بهم إلى منزل جديب، فليس شي‏ء أكره إليهم، ولا أفظع عندهم، من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه، ويصيرون إليه». للمثلين شرح كاف. وقد كثر ضرب الأمثال للدّنيا وأهلها في الكتاب والسّنّة، تحذيرا عن سوء المغبّة، وترغيبا إلى رفضها، والإقبال‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 456

على اللَّه عزّ وجلّ. وفي ضرب المثل في التّحذير، أو التّرغيب بما يجسّد المحذّر منه، أو المرغّب فيه، ما لا يحصل بغيره، وهكذا سائر الدّواعي والأغراض.

قوله عليه السّلام: (نبا)، يقال: نبا عنه بصره ينبو: أي تجافى، ولم ينظر إليه. ونبا به منزله، إذا لم يوافقه. يقول: مثل من عرف الدّنيا، وعمل فيها للآخرة، كمن سافر من منزل جدب إلى منزل خصيب، فلقي في طريقه مشقّة فإنّه لا يكترث بذلك في جنب ما يطلب. وبالعكس من عمل للدّنيا، وأهمل أمر الآخرة، فإنّه كمن يسافر إلى منزل ضنك، ويهجر منزلا رحيبا طيّبا.

156-  محلّي منها محلّ القطب من الرّحى

من خطبة له عليه السّلام، وهي المعروفة بالشّقشقيّة، أوّلها: «أما واللَّه، لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا......». للمعتزليّ كلام مرموق، يشرح به الخطبة النّاصّة على اغتصاب‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 457

الخلافة منه عليه السّلام شرحا يخرجها عن مسيرها الواضح فيشرح أوّلا بعض لغاها، ويصدّر الشّرح بقوله: (في هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ).

ثمّ أخذ في بيان العشرة عن آخرها. وبعد ذلك قال: فأمّا قوله عليه السّلام: «أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا» فليس من هذا النّمط الّذي نحن فيه، ولكنّه تشبيه محض خارج من باب الاستعارة والتّوسّع.

يقول-  عليه السّلام- : كما أنّ الرّحا لا تدور إلّا على القطب، ودورانها بغير قطب لا ثمرة له، ولا فائدة فيه، كذلك نسبتي إلى الخلافة فإنّها لا تقوم إلّا بي، ولا يدور أمرها إلّا عليّ.-  ثمّ يعلّق عليه بقوله:-  هكذا فسّروه، وعندي، أنّه أراد أمرا آخر: وهو أنّي من الخلافة في الصّميم، وفي وسطها وبحبوحتها، كما أنّ القطب وسط دائرة الرّحا، قال الرّاجز:

         على قلاص مثل خيطان السّلم            إذا قطعن علما بدا علم‏

         في سرّة المجد وبحبوح الكرم‏

 

و قال أميّة بن أبي الصّلت لعبد اللَّه بن جدعان:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 458

 

         فحللت منها بالبطا            ح وحلّ غيرك بالظّواهر

 

و بعد ترجمة أبي بكر قال: (إن قيل: بيّنوا لنا ما عندكم في هذا الكلام أليس صريحه دالّا على تظليم القوم، ونسبتهم إلى اغتصاب الأمر فما قولكم في ذلك إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم، وإن لم تحكموا عليهم بذلك فقد طعنتم في المتظلّم المتكلّم عليهم قيل: أمّا الإماميّة من الشّيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها، وتذهب إلى أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  نصّ على أمير المؤمنين عليه السّلام، وأنّه غصب حقّه.

و أمّا أصحابنا رحمهم اللَّه فلهم أن يقولوا: إنّه لمّا كان أمير المؤمنين عليه السّلام هو الأفضل والأحقّ، وعدل عنه إلى من لا يساوية في فضل، ولا يوازيه في جهاد وعلم، ولا يماثله في سؤدد وشرف-  ساغ إطلاق هذه الألفاظ، وإن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيّا......). هنا سؤال: هل يوسم من قبله بالعدالة والتّقوى مع أنّ الإمام عليه السّلام-  على اعترافك-  هو الأحقّ بالخلافة من غيره لكونه الأفضل الأعلم الأسبق جهادا وسؤددا وشرفا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 459

و هل العدل إلّا وضع الشّي‏ء في موضعه وهل التّقوى إلّا الطّاعة وترك المعصية وأوّل الطّاعة والعدل نفي الهوى عن نفسه وأين هذا من صرف الخلافة عن الأحقّ بها إلى نفسه وحاصل الجواب: أنّ المصلحة في ترك الإمام عليه السّلام الخلافة لأبي بكر، والعدول عنه إليه، وتأويل ما جاء عنه عليه السّلام من تظلّم. بأنّه شي‏ء ربّما يصنعه الخليل بالخليل.

و العجب ممّن يتفوّه بذلك، ويعرف بالفهم والتّضلّع بمعرفة أساليب الكلام، والفرق بين مواضع الظّلامة والظّلم ونحن لا نقول: ما الّذي حمله على ذلك ولما ذا صدّر خطبة الكتاب أى (شرح نهج البلاغة) بقوله: (الحمد للَّه الواحد العدل...-  إلى أن قال:-  وقدّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التّكليف...). نعم المقدّم لأبي بكر إنّما هو عمر وتعالى اللَّه عن تقديم المفضول على الفاضل، فضلا عن الأفضل، علوّا كبيرا لأنّ ذلك ظلم قبيح لا يصدر عنه جلّ جلاله، إلّا على مذهب الجبر الباطل في العقول الّذي لا نقول به، وعليه بنى المعتزليّ تأويل الخطبة الصّريحة في الاغتصاب. وهل يجدي الجحود بعد نصّ الغدير الّذي رواه الجمهور، وقد صنع العلامة الأمينيّ طاب ثراه كتاب (الغدير) الّذي ليس فيه إلّا نصوص القوم، فراجع إذ لا يجوز للرّسول الإهمال والإرسال، فيختار كلّ من‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 460

أحبّ، وينتهى الأمر إلى شورى السّتّة المدبّرة لتعيين المختار لا سواه، والحاكم القاهر على التّعيين السّيف القائم بيد طلحة الأنصاريّ الشّاهر به على الرّؤوس يتجلّى ذلك بوضوح لمن درس الحوادث، منذ غمض عين الرّسول صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم إلى السّقيفة، ومنها إلى الشّورى وإلى اليوم فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ. والعقل من الحجّة البالغة إذا خرج عن أسر الهوى، واستنار بنور الهدى.

157-  مَخَضَتْه مخض السّقاء

من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها ابتداء خلق السّماء والأرض وغيرهما: «... ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء، وشقّ الأرجاء، وسكائك السّماء، فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره، متراكما زخّاره، حمله على متن الرّيح العاصفة، والزّعزع القاصفة، فأمرها بردّه، وسلّطها على شدّه، وقرنها إلى حدّه الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق.

ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها، وأدام مربّها، وأعصف مجراها،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 461

و أبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزّخّار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السّقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، تردّ أوّله على آخره، وساجيه على مائره، حتّى عبّ عبابه، ورمى بالزّبدر كامه، فرفعه في هواء منفتق، وجوّ منفهق، فسوّى منه سبع سموات......». المخض: تحريك السّقاء الّذي فيه اللّبن ليخرج زبده، ومنه الحديث: «بارك لهم في محضها ومخضها»: أي الخالص والممخوض. والمخض: هدر البعير، وهو على التّشبيه، كأنّه يمخض في شقشقته شيئا.

و الماخض: الحامل إذا ضربها الطّلق، وهذا أيضا على معنى التّشبيه، كأنّ الّذي في جوفها شي‏ء مائع يتمخّض. ومنه المثل: (مذقتي أحبّ إليّ من مخضة آخر).

------------------------------------------------------------------- صفحة 462

قال الشّارح: اعلم أنّ كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الفصل يشتمل على مباحث: منها: أنّ ظاهر لفظه أنّ الفضاء الّذي هو الفراغ الّذي يحصل فيه الأجسام خلقه اللَّه تعالى، ولم يكن من قبل وهذا يقتضي كون الفضاء شيئا لأنّ المخلوق لا يكون عدما محضا.

و منها: أن البارئ-  سبحانه-  خلق في الفضاء الّذي أوجده ماء جعله على متن الرّيح، فاستقلّ عليها وثبت وصارت مكانا له، ثمّ خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى، سلّطها عليه فموّجته تمويجا شديدا حتّى ارتفع، فخلق منه السّماوات. وهذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء، ومن جملتهم تاليس الإسكندرانيّ، وزعم أنّ الماء أصل كلّ العناصر لأنّه إذا انجمد صار أرضا، وإذا لطف صار هواء، والهواء يستحيل نارا لأنّ النّار صفوة الهواء.

و يقال: إنّ في التّوراة في أوّل السّفر الأوّل كلاما يناسب هذا وهو أنّ اللَّه تعالى خلق جوهرا، فنظر إليه نظر الهيبة، فذابت أجزاؤه، فصارت ماء، ثمّ ارتفع من ذلك الماء بخار كالدّخان، فخلق منه السّموات وظهر على وجه ذلك الماء زبد فخلق منه الأرض، ثمّ أرساها بالجبال. الأجواء جمع الجوّ: وهو الفضاء العالي بين السّماء والأرض.

و الأرجاء: الجوانب، واحدها رجا مثل عصا. والسّكائك جمع سكاكة:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 463

و هي أعلى الفضاء، والتّيّار: الموج. والمتراكم: الّذي بعضه فوق بعض.

و الزّخّار: الّذي يزخر: أي يمتدّ ويرتفع. والرّيح الزّعزع: الشّديدة الهبوب، وكذلك القاصفة كأنّها تهلك النّاس بشدّة هبوبها.

«فأمرها بردّه»: أي بمنعه عن الهبوب لأنّ الماء ثقيل، ومن شأن الثّقيل الهويّ. «و سلّطها على شدّه»: أي على وثاقه كأنّه سبحانه لمّا سلّط الرّيح على منعه من الهبوط فكأنّه قد شدّه بها وأوثقه، ومنعه من الحركة. «و قرنها إلى حدّه»: أي جعلها مكانا له: أي جعل حدّ الماء المذكور-  وهو سطحه الأسفل-  ممّا ساطح الرّيح الّتي تحمله وتقلّه.

و الفتيق: المفتوق المنبسط. والدّفيق: المدفوق. «و اعتقم مهبّها»: أي جعل هبوبها عقيما، والرّيح العقيم: الّتي لا تلقح سحابا ولا شجرا، إنّما خلقها اللَّه سبحانه لتمويج الماء فقط. «و أدام مربّها»: أي ملازمتها، أربّ بالمكان: أي لازمه. والسّاجي: السّاكن. والمائر: الّذي يذهب ويجي‏ء. «و عبّ عبابه»: أي ارتفع أعلاه. وركامه: ثبجه وهضبه.

158-  المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة

جاء المثل في وصيّته لابنه الحسن عليهما السّلام: «و لا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإنّ المرأة ريحانة،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 464

و ليست بقهرمانة، ولا تعد بكرامتها نفسها، ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها». ونظير المثل قول العرب المولّدين: (الخلم ريحانة، وليست بقهرمانة)، الخلم: الصّديق والصّاحب. ثمّ في الوصيّة عدّة أمور ترتبط بالمرأة: منها: المنع من إدخالها في الشّؤون المعاشيّة الّتي يقوم بها الرّجل، تبتني على الأغلب على صعوبة وخشونة لا تلائم نعومة المرأة وضعفها الذّاتيّ ولأجلها قال عليه السّلام: «فإنّ المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة». ومنها: المنع عمّا يمسّ كرامتها من ذهابها إلى اجتماعات رجاليّة، أو نسائيّة فإنّ المرأة تسعى غالبا فيما فيه زينتها وتسويل نفسها.

و منها: المنع عن الشّفاعة لغيرها إذ لا تكون فكرتها ترجع إلى دين المشفوعة.

و منها: ترك مشاركتها في المشورة.

و منها: التّشديد في حجابها.

و إلى الأخيرين أشار عليه السّلام في الوصيّة بقوله: «و إيّاك ومشاورة النّساء فإنّ رأيهنّ إلى أفن، وعزمهنّ إلى وهن، واكفف عليهنّ من أبصارهنّ لحجابك إيّاهنّ فإنّ شدّة الحجاب أبقى‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 465

عليهنّ، وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهنّ، وإن استطعت ألّا يعرفن غيرك فافعل». ثمّ التّمثيل بالرّيحانة يقصد منه: اللّذة والتّمتّع، وسكون الرّجل إليها، وضمان حياته الثّانية بالولد الّذي يبقى الوالد به، وإن كان ميّتا فلأمر أهمّ خلقت: من أجل تربية الأولاد، وإدارة شئون داخليّة، وهي: وسائل الثّقة، وفراغ البال لعبادة اللَّه تعالى الغاية من الخلق، كما قال عزّ وجلّ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ومن هنا وجبت النّفقة على الرّجل، حتّى لا تهتمّ بشي‏ء سوى ما تقدّم.

159-  المرأة عقرب حلوة اللّسبة

 

من الكلمات الحكميّة، وتمثيلاته عليه السّلام: «المرأة عقرب حلوة اللّسبة». اللّسبة: اللّسعة. لسبته العقرب، بالفتح: لسعته، ولسبت العسل: أي لعقته.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 466

جاءت عدّة تمثيلات في مدح المرأة وقدحها.

من الأوّل: «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة». «المرأة لعبة». «النّساء شقائق الرّجال». ومن الثّاني النّبويّ: «انّما مثل المرأة مثل الضّلع المعوجّ، إن تركته انتفعت به...».

         هي الضّلع العوجاء لست تقيمها            ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها

         أ يجمعن ضعفا واقتدارا على الفتى       أليس عجيبا ضعفها واقتدارها

 

«المرأة شرّ كلّها، وشرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها».

         إنّ النّساء كأشجار نبتن معا            هنّ المرار وبعض المرّ مأكول‏

         إنّ النّساء متى ينهين عن خلق        فإنّه واجب لا بدّ مفعول

 

قيل: إنّ كيد النّساء أعظم من كيد الشّيطان لأنّ اللَّه تعالى ذكر

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 467

الشّيطان، فقال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً. وذكر النّساء، فقال: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. والجواب: أنّ ضعف كيد الشّيطان إنّما هو في جنب اللَّه تعالى، وعظم كيد النّساء بالقياس إلى الرّجال.

و بعد ذلك كلّه أنّه لو لا النّساء لما كان الرّجال، وإن افترقن عنهم بفروق. بل في الصّادقيّ: «فربّ امرأة أفقه من رجل»، والآخر: «ربّ امرأة خير من رجل». وكفى شرفا أنّ من النّساء فاطمة الزّهراء بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، وخديجة بنت خويلد، وحوّاء أمّ البشر، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وغيرهنّ من الفضليات وأفضلهنّ أولاهنّ في الذّكر. على أنّ الأتقى سواء أ كان من الرّجال، أو من النّساء، هو الأكرم عند اللَّه عزّ وجلّ، كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 468

160-  مستقبلين رياح الصّيف تضربهم

تمثّل عليه السّلام به في كتابه إلى معاوية جوابا عن كتابه: «أمّا بعد، فإنّا كنّا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرّق بيننا وبينكم أمس أنّا آمنّا وكفرتم...... وذكرت أنّك زائري في جمع من المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك، فإن كان فيك عجل فاسترفه، فإنّي إن أزرك فذلك جدير أن يكون اللَّه إنّما بعثني إليك للنّقمة منك، وإن تزرني فكما قال أخو بني أسد:

         مستقبلين رياح الصّيف تضربهم            بحاصب بين أغوار وجلمود».

 

 الحاصب لقوم لوط: وهي ريح عاصف فيها حصباء، والحصباء: صغار الحصى. والأغوار جمع غور، والغور: ما بين ذات عرق إلى البحر غور تهامة، فتهامة أوّلها ذات عرق من قبل نجد إلى مرحلتين من وراء مكّة، وما وراء ذلك فهو الغور. والجلمد والجلمود كجعفر وعصفور:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 469

الصّخر، ميمه زائدة. وقيل: الغور: الغبار.

و حصيلة كلام الإمام عليه السّلام: تكذيب معاوية أن يكون معه مهاجر أو ناصر بانقطاع الهجرة بأسر أخيه يزيد بن أبي سفيان في باب الخندمة، بل الّذين معه هم أبناء الطّلقاء. فإن زرتك فأنا نقمة اللَّه عليك، وإن زرتني فأنت كأرياح الصّيف، لا فائدة فيها سوى ضرب الوجوه بصغار الحصى والغبار، أو بين الصّخور من أراضي تهامة: أي زيارتك شرّ كلّها. والخندمة: جبل بمكّة. قال المعتزليّ: (كنت أسمع قديما أنّ هذا البيت من شعر بشر بن أبي حازم الأسديّ، والآن قد تصفّحت شعره فلم أجده، ولا وقفت على قائله). وكيف كان فالمثل منطبق على كلّ من فيه من صفات معاوية، مهما كان نوعه، فزيارة المنافقين كلّها شرّ لا خير فيها إذ لم يرد بها وجه اللَّه عزّ وجلّ، وليست هي من روح اللَّه كزيارة المؤمنين ولقائهم، كما في الصّادقيّ: «إنّ من روح اللَّه ثلاثة: التّهجّد باللّيل، وإفطار الصّائم، ولقاء الإخوان».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 470

161-  مصادقة الكذّاب كالسّراب

من كلام له لابنه الحسن عليهما السّلام: «إيّاك ومصادقة الكذّاب فإنّه كالسّراب يقرّب عليك البعيد، ويبعّد عليك القريب». المصادقة: العشرة بين الاثنين وما فوق بصدق وصفاء على ما تقتضيه لفظة (المصادقة)، المشتقّة من الصّدق. والكذّاب: من يكذب كثيرا.

و السّراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشّمس وقت الظّهيرة، يسرب على وجه الأرض كأنّه ماء يجري. كما في قوله تعالى: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً. وما هو بماء في الحقيقة، وإنّما هو انعكاس شعاع الشّمس على أفق الأرض، يخيّل للنّاظر إليه من البعيد أنّه ماء يجري، كذلك الكذّاب بكذبه يخيّل للمصادق له أنّ ما يقوله أو يعمله أو أيّ شي‏ء هو فيه هو عين الحقّ واقعا، وأنّه يراه من قريب، بينما لا حقيقة له، وبعيد من الحقّ غايته.

و الكذب يعمّ القول والعمل والقصد وكلّ حركة وسكون من ظاهر

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 471

الإنسان وباطنه أمام الخالق تعالى أو الخلق، وكذلك الصّدق بلا قصر على هذا أو ذاك، فتتّصف بهما الجوارح والجوانح، كما لا قصر فيهما على كبير أو صغير، ولا الجدّ دون الهزل. ففي الحديث: «كان عليّ بن الحسين-  عليهما السّلام-  يقول لولده: اتّقوا الكذب، الصّغير منه والكبير، في جدّ وهزل فإنّ الرّجل إذا كذب في الصّغير اجترى على الكبير. أما علمتم أنّ رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  قال: ما يزال العبد يصدق حتّى يكتبه اللَّه صدّيقا. وما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه اللَّه كذّابا». وفي الآخر قال الباقر عليه السّلام: «إنّ أوّل من يكذّب الكذّاب اللَّه عزّ وجلّ، ثمّ الملكان اللّذان معه، ثمّ هو يعلم أنّه كاذب». والغرض من نهي مصادقة الكذّاب والتّحذير عنها الابتعاد عن سراية هذه الرّذيلة إلى نفس من يصادقه فإنّها تكتسب عن كلّ مصادق من حيث تعلم أو لا تعلم، والخطاب عامّ يشمل غير الإمام الحسن عليه السّلام أو على حدّ قول القائل: (إيّاك أعني واسمعي يا جاره).

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 472

162-  معلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال

قال عليه السّلام: «من نصب نفسه للنّاس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه، مؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم النّاس ومؤدّبهم.» قال ابن أبي الحديد: الفروع تابعة للأصول، فإذا كان الأصل معوجّا استحال أن يكون الفرع مستقيما، كما قال صاحب المثل: (و هل يستقيم الظّل والعود أعوج)، فمن نصب نفسه للنّاس إماما ولم يكن قد علّم نفسه ما انتصب ليعلّمه النّاس، كان مثل من نصب نفسه ليعلّم النّاس الصّياغة، والنّجارة، وهو لا يحسن أن يصوغ خاتما، ولا ينجر لوحا، وهذا نوع من السّفه بل هو السّفه كلّه.

ثمّ قال عليه السّلام: وينبغي أن يكون تأديبه لهم بفعله وسيرته قبل تأديبه لهم بلسانه وذلك لأنّ الفعل أدلّ على حال الإنسان من القول.

ثمّ قال: «و معلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم النّاس‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 473

و مؤدّبهم». وهذا حقّ لأنّ من علّم نفسه محاسن الأخلاق أعظم قدرا ممّن تعاطى تعليم النّاس ذلك، وهو غير عامل بشي‏ء منه، فأمّا من علّم نفسه وعلّم النّاس فهو أفضل وأجلّ ممّن اقتصر على تعليم نفسه فقط.

لا شبهة في ذلك. العالم: إمّا مؤدب لنفسه وغيره، وإمّا لا يؤدّ بهما، وثالثة مؤدّب لنفسه دون غيره، ورابعة مؤدّب غيره دون نفسه فالأقسام أربعة: والأخيران: أي المؤدّب نفسه، والمؤدّب غيره ينطبق عليهما قوله عليه السّلام: «و معلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ» إلى آخره. والقسمان الأوّلان مستفادان من أوّل كلامه عليه السّلام إلى قوله عليه السّلام: «قبل تأديبه بلسانه»، من مجموع منطوقه ومفهومه، فتدبّر تعرفه إن شاء اللَّه.

و في نبويّ: «مثل العالم الّذي ينسى نفسه كمثل السّراج يضي‏ء للنّاس ويحرق نفسه». وقبل كلّ شي‏ء قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ. ولا تخصّ الآية اليهود أو النّصارى، وإن نزلت فيهم، بل هي قياس كلّيّ مطبّق على كلّ مختصل بخصالهم المصرّحة في الآية، وقد تكلّمنا على النّبويّ والآية في كتابنا: (الأمثال النّبويّة). والنّاسي نفسه المؤدّب غيره:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 474

 

         طبيب يداوي النّاس وهو عليل

 

و الآمر بالمعروف التّارك له، والنّاهي عن المنكر العامل به، ملعون على لسان النّبيّ والأئمة صلوات اللَّه عليهم أجمعين بعد الخالق عزّ وجلّ، ولا يقدم على ذلك إلّا فاقد الإيمان المنافق، وفيه قال القائل:

         يقول لكم: غدوت بلا كساء            وفي لذّاتها رهن الكساء

         إذا فعل الفتى ما عنه ينهى          فمن جهتين لا جهة أساء

 

و كيف يرضي ضميره من ينصب نفسه لتأديب غيره بما يفقده، وكفى له ردعا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. وقال القائل، ونعم ما قال:

         لا تنه عن خلق وتأتي مثله            عار عليك إذا فعلت عظيم‏

          إذا عبت أمرا فلا تأته             فذو اللّبّ مجتنب ما يعيب‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 475

163-  من أبدى صفحته للحقّ هلك

من خطبة مطوّلة له عليه السّلام مشتملة على نبذة أمثال منها: «من أبدى صفحته للحقّ هلك عند جهلة النّاس». قال المعتزليّ: من كاشف الحقّ مخاصما له هلك-  على رواية ليست فيها فقرة «عند جهلة النّاس»-  وهي كلمة جارية مجرى المثل. ومراده على الرّواية الثّانية: «من أبدى صفحته لنصرة الحقّ غلبه أهل الجهل»-  لأنّهم العامّة وفيهم الكثرة-  فهلك. وقال السّيّد الخطيب: نقلا عن المعتزليّ على الرّواية الأولى: كأنّه يقول: هلك من ادّعى الإمامة، وردي من اقتحمها وولجها من غير استحقاق لأنّ كلامه عليه السّلام في هذه الخطبة كلّه كنايات عن الإمامة لا غيرها. أقول: الرّواية الثّانية نقلها السّيّد الخوئيّ في منهاج البراعة وغيره، فيشبه أنّها الصّحيحة لا الأولى الّتي صحّحها المعتزليّ، وعلى أيّ تقدير، له تفسيره الآنف الذّكر، ونزيد الثّانية بيانا.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 476

قوله عليه السّلام: «هلك عند جهلة النّاس» لعلّ المراد: ضياع جهاد المبدي صفحته للحقّ عند الجهّال لأنّ الّذي ينصر الدّين، ويقوم في ميدان الجهاد بقدمه وقلمه وبيانه، ويبذل كلّ طاقاته في سبيل نصرة الحقّ المعبّر عن ذلك كلّه، بإبداء صفحته له، لا يقدّر جهاده الجهّال لجهلهم بما للجهاد من مقام عند اللَّه تعالى، وما يمنح المجتمع من صلاح لدينهم ودنياهم، فيكون المجاهد كالهالك.

أو تفسيره الآخر من معاداة الجهّال مع من يجاهد في سبيل الحقّ، ومقاتلتهم إيّاه، فيهلك بسيف بغيهم، كما فعلت الأمم بأنبيائها وأوصيائها عليهم السّلام. أليس الإمام الحسين عليه السّلام خرج من المدينة المنوّرة إلى العراق، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويسير بسيرة جدّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم في إصلاح الأمّة، فاجتمعت عصابة منهم حتّى قتلوه، وقتلوا ولده وإخوته وأصحابه في حادثة كربلاء العظمى الّتي عمّت رزيّتها الإسلام والمسلمين إلى يوم القيامة.

و تجد كلّ من قام لنصرة الدّين حاربوه وقاتلوه بكلّ طاقاتهم في كلّ دور من الأدوار، خاصّة أرباب المناصب الدّنيويّة والسّلطة الجائرة، حيث تخشى استلاب كراسيّها وتيجانها، وتحسّ بالخطر، فتثور في وجوه الثّائرين ضدّهم، وليس ذلك إلّا لجهلهم بما يسعدهم ويشقيهم.

و هل دعوة الأنبياء عليهم السّلام والمجاهدين في سبيل اللَّه عزّ وجلّ إلّا لسعادة النّاس، لو عقلوها، بلى واللَّه عقلوها، ولكنّ الدّنيا حليت في أعينهم، وملكت قلوبهم شهواتها الفانية ولذائذها المزعومة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 477

164-  من استسلم لهلكة الدّنيا والآخرة هلك

من كلام له عليه السّلام في الشّكّ وشعبه الأربع: التّماري، والهول، والتّردّد، والاستسلام. قال عليه السّلام: «و من استسلم لهلكة الدّنيا والآخرة هلك فيهما». الاستسلام لشي‏ء: الانقياد له، فيعقبه الجري عليه عملا وقولا على الإطلاق، وهذا لم يسلم الإنسان معه من الهلاك، إذا لم تكن المقاييس العقليّة والشّرعيّة تعدّله ومن هنا نهي الإلقاء بالأيدي إلى التّهلكة بقوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وفيه إشارات: منها: ترتّب التّهلكة على منع الإنفاق المستفاد من الأمر به في دفعها، كما أنّ النّجاة منها مفهومة بنفس الإنفاق، ولم يكتف على مجرّده، حتّى أمر عزّ وجلّ بالإحسان المسبّب لحبّه، ومن أحبّه كان في كنفه وحصنه الحصين عن أن تناله يد السّوء.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 478

و منها: الإشارة إلى الكفّ عمّا يفضي إلى التّهلكة، فضلا عنها نفسها، حيث قال: «إلى التّهلكة» ولم يقل عزّ وجلّ: (في التّهلكة).

و كلمة (إلى) تقال: فيما ربّما يتحقّق معه مدخولها خارجا. فالأمر بالإنفاق تحذير عمّا يوجب الهلاك أحيانا. والمقصود هنا: الإشارة، لا بيان جميع ما في الآية من إشارة.

و هلكة الدّنيا: هي الاقتحام في الشّرور والأضرار، وما به فساد البدن، أو ما يمتّ به من داخل أو خارج ممّا لا يحصى من مهلكات.

و هلكة الآخرة: الكفر بأنواعه الخمسة، ومعاصي الجوارح والجوانح من فساد المعتقدات وغيرها الّتي بيّنها الوحي وشرائع السّماء المنزلة على الأنبياء عليهم السّلام، لا سيّما القرآن الكريم المنزل على الرّسول الأعظم صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، وروايات أهل البيت المعصومين عليهم السّلام، ومنها حديثنا الجاري تشمل الهلكة فيه لكلّ ما ذكر، وما لم يذكر.

ثمّ الهلكة قد حكم العقل باجتناب محتملها فضلا عن معلومها أو مظنونها، والشّرع أمر بالتّجنّب عن محتملها أمرا إرشاديّا، كما ذهب إليه الأصوليّ، أو مولويّا، وعليه الأخباريّ بروايات الاحتياط الّتي تناولها الفقهاء بالبحث عنها في علم الأصول، وبالطّريق الأولى في المظنون والمقطوع، ويتفرّع على ذلك فروع فقهيّة كثيرة، مذكورة في علم الفقه.

و من جعل الإمام عليه السّلام الاستسلام الموجب للهلاك من شعب الشّكّ الأربع الآنفة الذّكر، يتجلّى بوضوح حكم معلوم الهلاك‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 479

و مظنونه. إن أريد من الشّكّ متساوي الطّرفين، فالقسمة ثلاثيّة، وإن أريد منه ما قابل اليقين، كان الظّنّ داخلا في الشّكّ، والقسمة ثنائيّة لا محالة.

و المقصود من الاستسلام عدم المقاومة في اتّجاه المصاعب والحوادث التّي يختلف حكمها حسب المقامات والظّروف، وعدم الأخذ بالاحتياط فيها، بل ينقاد لأدنى شي‏ء لا يرتضيه العقل والشّرع، والإمام عليه السّلام في مقام الذّمّ لذلك.

و للعرب أمثال سائرة، منها قولهم: (برد غداة غرّ عبدا من ظماء)، سافر عبد بكرة، فلم يستصحب الماء لما رأى من البرد، فلمّا حميت الشّمس عليه هلك عطشا. فقيل: ذلك يضرب في الأمر بالاحتياط. (من حدّث نفسه بطول البقاء فليوطّن نفسه على المرازي). والمرازي، جمع مرزيّة. وفي نسخة: المصائب، جمع مصيبة. والعاقل أدرى بمواضع الهلاك والنّجاة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 480

165-  من أكثر أهجر

من وصاياه لابنه الحسن عليهما السّلام: «من أكثر أهجر». ورواها الشّيخ المجلسيّ رحمه اللَّه بلفظ: «من أكثر هجر»، ونسخة: (أهجر). ومن كتب الأدب مجمع الأمثال جاء فيه: (من أكثر أهجر) الإهجار: الإفحاش، وهو أن يأتي في كلامه بالفحش، الهجر: الاسم من الإهجار، كالفحش من الإفحاش، سمّي هجرا لهجر العقلاء إيّاه.

يضرب لمن يأتي في كلامه بما لا يعنيه. وكتاب المستقصى: (من أكثر أهجر): أي أتى بالهجر، وهو الفحش يضرب في ذمّ المهذار. قال ابن أبي الحديد: يقال: أهجر الرّجل، إذا أفحش في المنطق‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 481

السّوء والخنا، قال الشّمّاخ:

         كما جدة الأعراق قال ابن ضرّة            عليها كلاما جار فيه وأهجرا

 

و هذا مثل قولهم: (من كثر كلامه كثر سقطه)، وقالوا أيضا: (قلّما سلم مكثار، أو أمن من عثار). قال الزّمخشريّ: قال صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم في مرضه: «ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلّون بعده أبدا، فقالوا: ما شأنه، أهجر»: أي أهذى، يقال: هجر يهجر هجرا، إذا أهذى، وأهجر: أفحش. وقال ابن الأثير: أي اختلف كلامه بسبب المرض على سبيل الاستفهام: أي هل تغيّر كلامه واختلط لأجل ما به من المرض وهذا أحسن ما يقال فيه، ولا يجعل إخبارا، فيكون إمّا من الفحش، أو الهذيان، والقائل كان عمر ولا يظنّ به ذلك. نعم لا يظنّ به ذلك، بل يقطع، والحديث ذو شجون. والهجر بفتح الهاء: ضدّ الوصل، ومنه: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. والحديث: «لا هجرة فوق ثلاث»

------------------------------------------------------------------- صفحة 482

و الإكثار سبب الإهجار، وقلّ من يسلم منه إذا كان مكثرا (المكثار كحاطب ليل). «إذا تمّ العقل نقص الكلام». قيل: (ما شي‏ء أحقّ بطول سجن من لسان). قاله ابن مسعود رضي اللَّه عنه، جعل الفم سجنا للّسان يمنعه من الزّلل كما يحبس أهل الدّعارة في السّجون، يضرب في حفظ اللّسان. أقول: هو مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام لو لم يكن لحفظ اللّسان إلّا وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. ممّا وصف عزّ وجلّ به المؤمنين لكفى. واللّغو من لغا يلغو، ولغي يلغى: إذا تكلّم بالمطرح من القول وما لا يعنى. وكذا: «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». الرّقيب: المحافظ، والعتيد: المعدّ المهيّأ للزوم الأمر. والآية تذكر مراقبة الكتبة للإنسان فيما يتكلّم به من كلام. والإكثار داء دواؤه الصّمت، من هنا جاء في حسنيّ: «نعم العون الصّمت في مواطن كثيرة، وإن كنت فصيحا». ونبويّ: «فاصمت‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 483

لسانك إلّا من خير». وفي حديث باقريّ: «كان أبوذرّ يقول: يا مبتغي العلم إنّ هذا اللّسان مفتاح خير، ومفتاح شرّ، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهبك وورقك». وصادقيّ قال: «قال لقمان لابنه: يا بنيّ إن كنت زعمت أنّ الكلام من فضّة، فإنّ السّكوت من ذهب». ونبويّ: «نجاة المؤمن في حفظ لسانه».

166-  من تردّد في الرّيب وطئته سنابك الشّياطين

في كلام له عليه السّلام: «من تردّد في الرّيب وطئته سنابك الشّياطين». الفرق بين الشّكّ والرّيب، قال السّيّد الجزائريّ: (الشّكّ): هو تردّد الذّهن بين أمرين على حدّ سواء. وأمّا (الرّيب): فهو شكّ مع تهمة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 484

و يدلّ عليه قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ. فإنّ المشركين مع شكّهم في القرآن، كانوا يتّهمون النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  بأنّه هو الّذي افتراه، وأعانه عليه قوم آخرون، ويقرب منه المرية، أو هو بمعناه.

و أمّا قوله-  تعالى- : قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ. فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب أو غيرهم، ممّن كان يعرف النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  بالصّدق والأمانة، ولا ينسبه إلى الكذب والخيانة. والرّيب رابع شعب الشّكّ الأربع المذكورة قبله: «و الشّكّ على أربع شعب: على التّماري، والهول، والتّردّد، والاستسلام». وبيان نتاجها السّيّى‏ء يأتي مع كلّ فقرة فقرة في محلّها إن شاء اللَّه تعالى، فإنّه عليه السّلام قال: «فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله، ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه، ومن تردّد في الرّيب وطئته سنابك الشّياطين، ومن استسلم لهلكة الدّنيا والآخرة هلك فيهما». فاطلبها من مظانّها

                       

-------------------------------------------------------------------صفحة 485

و التّردد: انتقاض العزيمة وفسخها ثمّ عودها. قال الشّيخ الطّريحيّ: السّنبك كقنفذ: طرف مقدّم الحافر. وهو معرّب، والجمع سنابك، ومنه الحديث: «من امترى في الدّين وطئته سنابك الشّياطين»، وهو مبنيّ على الاستعارة. لعلّه يريد بالحديث: كلام الإمام عليه السّلام على نسخة رآها كذلك.

و كيف كان، فالشّكّ والرّيب يتعوّذ منه، في صادقيّ: «كان رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  يتعوّذ فى كلّ يوم من ستّ: من الشّكّ والشّرك والحميّة والغضب والبغي والحسد». قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ الشّكّ والمعصية في النّار، ليسا منّا ولا إلينا، وإنّ قلوب المؤمنين لمطويّة بالإيمان طيّا، فإذا أراد اللَّه إنارة ما فيها فتحها بالوحي، فزرع بالحكمة زارعها وحاصدها». ويقابل الشّكّ اليقين، في صادقيّ: «إنّ رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  صلّى بالنّاس الصّبح، فنظر إلى شابّ في المسجد، وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّا لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  كيف أصبحت يا فلان قال: أصبحت يا رسول اللَّه موقنا، فتعجّب رسول اللَّه من قوله وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك فقال: إنّ يقيني يا رسول اللَّه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 486

هو الّذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هو اجري، فعزفت نفسي عن الدّنيا وما فيها، وحتّى كأنيّ أنظر إلى عرش ربّي، وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة، يتنعّمون في الجنّة، ويتعارفون وعلى الأرائك متكّئون، وكأنيّ أنظر إلى أهل النّار، وهم فيها معذّبون مصطرخون وكأنّي الآن أسمع زفير النّار، يدور في مسامعي، فقال رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  لأصحابه: هذا عبد نوّر اللَّه قلبه بالإيمان، ثمّ قال له: ألزم ما أنت عليه» الحديث.

167-  من جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله

قال عليه السّلام: «الشّكّ على أربع شعب: على التّماري، والهول، والتّردّد، والاستسلام فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله...». راجع الفقرات التّالية غير المذكورة هنا. لعلّ المراد بقوله عليه السّلام: «لم يصبح ليله» عدم الخروج من ظلمة الخصومة النّاجمة من المراء، وفقد نور الإيمان الملازم للقلب، والنّفاق،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 487

و كسب الضّغائن، فكأنّ ليله لا صبح له، ولسلب الرّوح والرّاحة منه ليلا ونهارا.

ففي نبويّ: «قال جبرئيل للنّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : إيّاك وملاحاة الرّجال». ونبويّ آخر: «ما كاد جبرئيل يأتيني إلّا قال: يا محمّد اتّق شحناء الرّجال وعداوتهم». ونبويّ آخر: «ما أتاني جبرئيل قطّ إلّا وعظني، فآخر قوله لي: إيّاك ومشارّة النّاس فإنّها تكشف العورة، وتذهب بالعزّ». المشارّة: المخاصمة. ونبويّ آخر: «ما عهد إليّ جبرئيل في شي‏ء ما عهد إلىّ في معاداة الرّجال». وعلويّ: «إيّاكم والمراء والخصومة، فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان، وينبت عليهما النّفاق». ونبويّ: «ثلاث من لقي اللَّه عزّ وجلّ بهنّ دخل الجنّة، من أيّ باب شاء: من حسن خلقه، وخشي اللَّه في المغيب والمحضر، وترك المراء، وإن كان محقّا». وصادقيّ: «لا تمارينّ حليما ولا سفيها فإنّ الحليم يقليك، والسّفيه يؤذيك». (يقليك): أي يبغضك أو يتركك. وصادقيّ آخر: «من زرع العداوة حصد ما بذر». (ربّ كلمة تقول لصاحبها: دعني)، و(مقتل الرّجل بين فكّيه). وباقريّ: «إيّاك والخصومات فإنّها تورث الشّكّ، وتحبط العمل، وتردي صاحبها، وعسى أن يتكلّم بالشّي‏ء فلا يغفر له إنّه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكّلوا به،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 488

و طلبوا علم ما كفوه، حتّى انتهى كلامهم إلى اللَّه عزّ وجلّ فتحيّروا، فأن كان الرّجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه، ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه». وأمّا قوله تعالى فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً. الدّالّ على جواز المراء الظّاهر، فالمراد به: الحكاية بغير مجادلة متعمّقة. قال الفيض: فلا تجادل أهل الكتاب في شأن الفتية، إلّا جدلا ظاهرا غير متعمّق فيه، وهو أن تقصّ عليهم بما أوحى إليك، من غير تجهيل لهم والرّدّ عليهم. والضّابط الكلّيّ في الاستثناء هو ما لم يسبّب الشّحناء والعداوة وضيق الصّدر، بل كان في جوّ هادى‏ء، وتبادل بين الجانبين، حتّى إذا تبيّن الحقّ لهما أو أحدهما انتهى كلّ شي‏ء، وعاد كلّ إلى ما كان أوّلا، لا ما تقول ويقول، ولا ينتهى القول إلّا وقد حصل العداء أو الإعراض القلبي والنّزاع. وما تقدّم من الأحاديث إنّما هو النّهي عمّا يسبّب ذلك، فالواجب التّرك، وإن كان محقّا لأنّ ما يحصل من المراء من الشّحناء أضرّ من ترك الجدل، ولعلّ قوله تعالى: ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ. هو هذا المعنى بدليل ما تقدّمه: ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ثم قال: ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ.

و ما يتوهّم من جعل ذلك ديدنا ممنوعا لا أصل المراء من نفس كلام‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 489

الإمام عليه السّلام حيث قال: «من جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله»، جوابه: أنّه من باب المفهوم غير الحجّة فلا ينافي النّهي عن حالة الشّي‏ء النّهي عن ذلك الشّي‏ء، إلّا على ما تقدّم من استثناء المراء الظّاهر من الآية: إِلَّا مِراءً ظاهِراً المفسّر بغير التّعمّق كما عن الكاشاني.

168-  من سلك الطّريق الواضح ورد الماء

من كلام له عليه السّلام يجري مجرى الأمثال: «...... يا أيّها النّاس من سلك الطّريق الواضح ورد الماء، ومن خالف وقع في التّيه». والتّيه: المفازة لا يهتدي سالكها. ونظير المثل المثل: (من سلك الجدد أمن العثار). الجدد: الأرض المستوية: ويروى: (من تجنّب الخبار...) وهي أرض رخوة تتعتع فيها الدّوابّ. يضرب لطالب العافية. إرشاد منه عليه السّلام، يلمسه كلّ أحد، يرشد به أصحابه، ويحذّرهم عن سلوك ما يعطبون به، وأمره عليه السّلام أوضح من كلّ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 490

واضح، إن تمسّك متمسّك به نجا، ومن خالفه هلك. وقد جاء الحديث النّبويّ: «مثل أهل بيتي، كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق». والمراد بالتّمثيل ليس هو مجرّد الولاء لأهل البيت عليهم السّلام فقط، بل لا بدّ من العمل بما يقولون ويحبّون، والاتّباع المورث لحبّ اللَّه تعالى، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ. وعليه فالمثل واقع موقعه إذ أنّ سالك الطّريق الواضح يصل إلى ما يقصده من سلوكه، والمنحرف عنه يفوته، وليس له إلّا التّعب، وو قد أتمّ اللَّه الحجّة على النّاس، وبلّغها أنبياؤه، وبلّغ إيّاها الرّسول وأوصياؤه المعصومون صلّى اللَّه عليهم وسلّم، وبعد ذلك كلّه إمّا أن يشكروا أو يكفروا، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ هما طريق الشّرّ والخير. وقال تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ. الأنبياء والأوصياء والشّرائع السّماويّة هي الحجج الظّاهرة، والعقول الموهوبة للنّاس، وما فطروا عليه من المعرفة به تعالى ودينه الحجج الباطنة، فقد تمّت رسل اللَّه من خارج وداخل لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.

------------------------------------------------------------------- صفحة 491

169-  من صرّحت له العبر... حجزته التّقوى

مثل متّخذ من خطبة له عليه السّلام، صورة بعضها: «ذمّتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم: إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزته التّقوى عن تقحّم الشّبهات......». وقد تعرّضنا لهذه الخطبة المباركة عند المثل: «لتبلبلنّ بلبلة، ولتغربلنّ غربلة». وهي موزّعة على عدّة أمثال أخرى: «اليمين، والشّمال مضلّة». «الطّريق الوسطى هي الجادّة». لا يهلك على التّقوى سنخ أصل». شرح بعض مفردات المثل: معنى (صرّحت): كشفت. و(العبر) جمع عبرة: وهي كلّ ما اعتبر به الإنسان. وأمّا العبرة بفتح العين: فهي الدّمعة وجمعها العبرات. ومنه ما في زيارة الإمام الحسين الشّهيد أرواح من في الوجود فداه: «يا عبرة كلّ مؤمن». و(المثلات): العقوبات، ومنها آية: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 492

الْمَثُلاتُ. أي العقوبات الّتي حلّت بالأمم السّالفة لتمرّدهم على اللَّه تعالى وأنبيائه عليهم السّلام. وأمّا (التّقوى) فأجمع تعريف لها وجدته قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. ما أوجزها من كلمة جامعة لها، دلّل سبحانه بكلمة: «جاءَ بِالصِّدْقِ» على الشّمول من الصّدق في القول، والعمل، والنّيّة، وكلّ حركة وسكون يكون من الإنسان، وهي مرتبة لا ينالها إلّا ذو حظّ عظيم.

ثمّ المراد من المثل: التّحذير عمّا يسبّب العقوبة، ويحرمه من المثوبة.

و نظيره المثل العاميّ: (من لسعته الحيّة حذر الرّسن). قال الميدانيّ: (من نهشته الحيّة حذر الرّسن الأبلق). قال أبو عبيد: هذا من أمثال العامّة قال الشّاعر:

         إنّ اللّسيع لحاذر متوجّس            يخشى ويرهب كلّ حبل أبلق

 

170-  من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق

من كلام له عليه السّلام فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان: «و اللَّه لو وجدته قد تزوّج به النّساء، وملك به الإماء لرددته فإنّ‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 493

في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق». إنّ اللَّه جلّ جلاله أمر بالعدل والإحسان في القرآن الكريم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‏. خطاب للعموم، وخصّص النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم بقوله عزّ وجلّ حكاية عنه: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، تبجيلا. والعدل محبوب في كلّ شي‏ء ومن ثمّ لم ينصّ على متعلّقه في الآيتين الأوليين ولئن صرّح بذلك في آية: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً. وآية: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ. وغيرهما فإنّما هو بيان لموضع التّطبيق من موارده بدون قصر.

و حقيقة العدل: وضع كلّ شي‏ء موضعه بحسبه الشّرعيّ والعقليّ المؤزّر بالشّرع الأقدس المتجسّد في النّبيّ وآله الطّاهرين صلّى اللَّه عليهم وسلّم وفي صحيح صادقيّ: «العدل أحلى من الماء يصيبه الظّمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه، وإن قلّ». قال المعتزليّ: القطائع: ما يقطعه الإمام بعض الرّعية من أرض بيت المال ذات الخراج، ويسقط عنه خراجه، وقد كان عثمان أقطع كثيرا من بني أميّة وغيرهم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج،

 

             -------------------------------------------------------------------صفحة 494

و قد كان عمر أقطع قطائع... وعن ابن عبّاس: أنّ عليّا عليه السّلام خطب في اليوم الثّاني من بيعته بالمدينة، فقال: «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال اللَّه، فهو مردود في بيت المال فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شي‏ء، ولو وجدته قد تزوّج به النّساء، وفرّق في البلدان، لرددته إلى حاله فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحقّ، فالجور عليه أضيق». وتفسير هذا الكلام أنّ الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات أموره في العدل، فهي في الجور أضيق لأنّ الجائر في مظّنة أن يمنع ويصدّ عن جوره. قال الوليد بن عقبة، وهو أخو عثمان من أمّه، يذكر قبض عليّ عليه السّلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه:

         بني هاشم ردّوا سلاح ابن اختكم            ولا تنهبوه لا تحلّ مناهبه‏

 

-  إلى أن قال:- 

         قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه            كما غدرت يوما بكسرى مرازبه‏

 

-  أجيب بأبيات من بني عبد المطّلب:- 

         فلا تسألونا سيفكم إنّ سيفكم            أضيع وألقاه لدى الرّوع صاحبه‏

         وشبّهته كسرى وقد كان مثله            شبيها بكسرى هديه وضرائبه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 495

ثمّ لا يخفى أنّ المثل يماثله المثل المولّد: (من تعدّى الحقّ ضاق مذهبه).

171-  من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد

قال عليه السّلام: «من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد». قال ابن أبي الحديد: إنّ الإنسان قد ينصره من لا يرجو نصره، وإن أهمله أقربوه وخذلوه، فقد تقوم به الأجانب من النّاس، وقد وجدنا ذلك في حقّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  وضيّعه أهله ورهطه من قريش وخذلوه وتمالئوا عليه، فقام بنصره الأوس والخزرج، وهم أبعد النّاس نسبا منه لأنّه من عدنان، وهم من قحطان، وكلّ واحد من الفريقين لا يحبّ الآخر حتّى تحبّ الأرض الدّم. وقامت ربيعة بنصر عليّ عليه السّلام في صفّين، وهم أعداء مضر الّذين هم أهله ورهطه، وقامت اليمن بنصر معاوية في صفّين، وهم أعداء مضر، وقامت‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 496

الخراسانيّة وهم عجم بنصر الدّولة العباسيّة، وهي دولة العرب. وإذا تأمّلت السّير وجدت هذا كثيرا شائعا. ذكره الميدانيّ ناسبا إيّاه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام. والنّويريّ وغيرهما. ولا يخفى أنّ الميدانيّ ذكر ما ينطبق على المقام قال: (من ضاق عنه الأقرب أتاح اللَّه له الأبعد). (من ضيّعه)، من ضاع يضيع ضياعا بالفتح: ذهب وهلك. وأمّا بكسر الضّاد (ضياع) فهو جمع ضائع، كجياع في جائع، ومن الضّياع بالفتح شعر ابن الفارض:

         ذهب العمر ضياعا وانقضى            باطلا إذ لم أفز منكم بشي‏ء

         غير ما أوليت من عقدي ولا           عترة المبعوث حقّا من قصي

 

القرب والبعد جسميّ ومعنويّ، ويدخل في الأوّل المكانيّ والزّمانيّ وفي الثّاني النّسبيّ والسّببيّ والحسبيّ، كعلقة القرابة بجميع طبقاتها، والمصاهرة، والولاء من العتق وضامن الجريرة والإمامة في باب الإرث، ولها الجهة العليا تفوق الولاءين. وأمّا القرب الحسبيّ أو بعده‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 497

فهو الرّفعة أو الضّعة البيتيّة، فكلّما كان المنتمى إليه أشرف كالرسول وأهل بيته الطّاهرين صلّى اللَّه عليهم وسلّم كان المنتمي كالسّادة زادهم اللَّه شرفا أشرف من غيرهم، ويا حبّذا لو اجتمع مع التّقوى، كان هو الأكرم عند اللَّه، كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ. والمراد من الأقرب والأبعد في كلامه عليه السّلام: الجسمي: أي أقرباء الإنسان، كما عرفت من الشّرح، ولكنّ الأبعد يدخل فيه الأقرب المعنويّ المتاح له، والمتيح هو اللَّه عزّ وجلّ جبرا لما كسره أقرباؤه. وقد جاء الذّمّ فيهم والمدح، من الأوّل: المثل السّائر: (من ضاق عنه الأقرب أتاح اللَّه له الأبعد). وقول الشّاعر:

         لحومهم لحمي وهم يأكلونه            وما داهيات المرء إلّا أقاربه‏

 

الأب ربّ، والأخ فخّ، والعمّ غمّ، والخال وبال، والولد كمد، والأقارب عقارب العداوة في القرابة، كالنّار في الغابة.

         إنّي بلوت النّاس في حالاتهم            وخبرت ما وصلوا من الأسباب‏

         فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا               وإذا المودّة أقرب الأنساب

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 498

و من الثّاني: «و من يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة». و«و أكرم عشيرتك» فإنّهم جناحك الّذي به تطير، وأصلك الّذي إليه تصير، ويدك الّتي بها تصول».

172-  من لان عوده كثفت أغصانه

قوله صلوات اللَّه عليه: «من لان عوده كثفت أغصانه». هو من الكلمات القصار الحكميّة المعدودة من الأمثال الجارية على الألسن ذكروا: أنّ من حسن خلقه ولانت كلمته كثر محبّوه وأعوانه وأتباعه، ونحوه: (من لانت كلمته وجبت محبّته). وقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. وأصل هذه الكلمة مطابق للقواعد الحكميّة، أعني: الشّجرة ذات الأغصان حقيقة وذلك لأنّ النّبات كالحيوان في القوى النّفسانيّة،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 499

أعني: الغاذية والمنمية، وما يخدم الغاذية من القوى الأربع وهي: الجاذبة، والماسكة، والدّافعة، والهاضمة.

فإذا كان اليبس غالبا على شجرة كانت أغصانها أخفّ، وكان عودها أدقّ، وإذا كانت الرّطوبة غالبة كانت أغصانها أكثر، وعودها أغلظ وذلك لاقتضاء اليبس الذّبول، واقتضاء الرّطوبة الغلظ والعبالة والضّخامة ألا ترى أنّ الإنسان الّذي غلب اليبس على مزاجه لا يزال مهلوسا نحيفا، والّذي غلبت الرّطوبة عليه لا يزال ضخما عبلا. في الصّادقيّ: «يا شيعة آل محمّد اعلموا أنّه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه، ومجاورة من جاوره، وممالحة من مالحه. يا شيعة آل محمّد اتّقوا اللَّه ما استطعتم، ولا قوّة إلّا باللَّه». وعنه عليه السّلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قال: «كان يوسّع المجلس، ويستقرض للمحتاج، ويعين الضّعيف». والقرآن الكريم يأمر بحسن القول، ويرغّب إلى فضائل ومكارم الأخلاق، قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، وَإِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ، لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وكلام الإمام عليه السّلام ترغيب إلى ذلك مع بيان الوجه فيه، كما تقدّم بتفصيل لسرّ التّمثيل.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 500

173-  من ملك استأثر

من كلماته صلوات اللَّه عليه الحكميّة قوله: «من ملك استأثر». من أمثال سائرة جاء به الإمام عليه السّلام لإرشاد ذوي المناصب، أو من تصدّى أمرا من الأمور المخوّلة إليه.

قال الميدانيّ: (من ملك استأثر)، يضرب لمن يلي أمرا، فيفضّل على نفسه وأهله، فيعاب عليه فعله. قال الشّارح: المعنى: أنّ الأغلب في كلّ ملك يستأثر على الرّعيّة بالمال والعزّ والجاه، ونحو هذا المعنى قولهم: (من غلب سلب)، و(من عزّ بزّ)، ونحوه قول أبي الطّيّب:

         والظّلم من شيم النّفوس فإن تجد            ذاعفّة فلعلّة لا يظلم

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 501

و من ثمّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عند ما ولي الخلافة، ونصب ولاته على الأقطار والأمصار، كانت كتبه ورسائله تترى عليهم من حين لآخر، يحذّرهم عن الاستيثار أشدّ تحذير، ويحاسبهم على الذّرّة والدّرّة، وإذا بلغه عنهم أمر يخالف ما أراد، وما أمرهم به، عزل المخالف من ساعته، وعاقبه عقاب اللَّه عزّ وجلّ، وأجرى عليه حدوده، ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم. ومن طالع سيرته عليه السّلام مع الولاة المنصوبين من قبله، علم صدق ذلك كلّه، ويكفيك قضيّة واليه ابن عبّاس، وما بلغه من تصرّفه من بيت المال: «و واللَّه لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الّذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا منّي بإرادة، حتّى آخذ الحقّ منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما». ولينظر النّاظر إلى مالك الأشتر، حين ولّاه على مصر، ما شرح له من وظائف الولاة وطبقات الرّعيّة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 502

174-  من هاله ما بين يديه نكص على عقبيه

من كلام له عليه السّلام في شعب الشّكّ الأربع: التّماري، والهول، والتّردّد، والاستسلام قوله عليه السّلام: «من هاله ما بين يديه نكص على عقبيه». بيان لنتاج الهول، وقد تكلّمنا على البقيّة. وكلام الإمام عليه السّلام مصوغ للذّمّ لأنّ النّكوص جاء الذّمّ به في آيتين من القرآن الكريم: فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى‏ عَقِبَيْهِ، وفَكُنْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ. في باقريّ: «أنّهم لمّا التقوا كان إبليس في صفّ المشركين في (حرب بدر) آخذا بيد الحارث بن هشام، فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: يا سراقة أتخذ لنا على هذه الحال فقال: إنّي أرى ما لا ترون، فقال: ما ترى إلّا جواسيس يثرب، فدفع في صدر الحارث،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 503

و انطلق، وانهزم النّاس». وقبل الآية الثّانية: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ. قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ. تعرضون مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها. والنّكوص: الرّجوع القهقرى. كلمة تقال إذا أحجم عن الشّي‏ء خوفا وجبنا، قال ابن دريد: نكص على عقبيه: رجع عمّا كان عليه من خير. لا يقال ذلك إلّا في الرّجوع عن الخير.. ومنه: «قدّم للوثبة يدا، وأخّر للنّكوص رجلا». الرّجوع إلى وراء، وهو القهقرى. والمثل السّائر في منع النّكوص: (من لم يركب الأهوال لم ينل الآمال). إذا هال الإنسان ما بين يديه، ونكص خوفا على فوات أمر دنيويّ، فقد استخفّ بالدّين، إذا كان ممّا يمتّ به. فعليه الرّكوب وإن فاته النّفع الدّنيويّ لأنّ ما يظفر به من الآخرة أكثر، وهذا عند التّزاحم بين أمرين، أحدهما دنيا، والآخر آخرة. فلا يكون ممّن يبيع تلك بهذه فيخسرهما جميعا ويصبح مصداقا لقوله تعالى: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.

          

-------------------------------------------------------------------صفحة 504

و من صفات المؤمن أنّه صلب في أمر الدّين، لا يهوله شي‏ء، ولا يهتمّ بما فاته من الدّنيا إذ هي صغيرة في عينه، وإذا جاءه ما وافق الهوى خالفه. قال عليه السّلام: «كان لي فيما مضى أخ في اللَّه، وكان يعظّمه في عيني صغر الدّنيا في عينه، وكان خارجا من سلطان بطنه، فلا يتشهّى ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتا، فإن قال بذّ القائلين، ونقع غليل السّائلين، وكان ضعيفا مستضعفا، فإن جاء الجدّ فهو ليث عاد، وصلّ واد، لا يدلي بحجّة حتّى يأتي قاضيا، كان لا يلوم أحدا على ما لا يجد العذر في مثله حتّى يسمع اعتذاره، وكان لا يشكو وجعا إلّا عند برئه، وكان يفعل ما يقول، ولا يقول ما لا يفعل، وكان إن غلب على الكلام لم يغلب على السّكوت، وكان على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلّم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيّهما أقرب إلى الهوى فخالفه، فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خير من ترك الكثير». وإنّما ذكرنا هنا كلامه عليه السّلام عن آخره لأنّه بغية المؤمن الّتي لا ينفكّ عنها مهما كانت حالته، ولعمر الحقّ أنّها لبها الكفاية

         اللَّه ربّ النّاس فارفع همّكا            لا شي‏ء غير اللَّه أن يهمّكا.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 505

175-  من وثق بماء لم يظمأ

هذا المثل من خطبة نصّها: «بنا اهتديتم في الظّلماء، وتسنّمتم العلياء، وبنا انفجرتم عن السّرار.

وقر سمع لم يفقه الواعية، وكيف يراعي النّبأة من أصمّته الصّيحة ربط جنان لم يفارقه الخفقان. ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر، وأتوسّمكم بحلية المغترّين... اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان. عزب رأي امرى‏ء تخلّف عنّي، ما شككت في الحقّ مذ أريته. لم يوجس موسى عليه السّلام خيفة على نفسه أشفق من غلبة الجهّال ودول الضّلال. اليوم توافقنا على سبيل الحقّ والباطل. من وثق بماء لم يظمأ». اشتملت الخطبة الشّريفة على عدّة أمثال لا تخفى على الأريب، قيل: إنّ هذه الأمثال ملتقطة من خطبة طويلة منسوبة إليه عليه السّلام.

قوله عليه السّلام: «بنا انفجرتم عن السّرار». السّرار: اللّيلة واللّيلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشّهر فلا يظهر. «وقر سمع لم يفقه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 506

الواعية». دعاء على السّمع الذّي لا يسمع الصّرخة: أي العبر والمواعظ.

«كيف يراعي النّبأة من أصمّته الصّيحة»، مثل آخر. النّبأة الصّوت الضّعيف: أي من لم ينتفع بالمواعظ الجليّة كيف ينتفع بالخفيّة منها.

«ربط جنان لم يفارقه الخفقان»، مثل آخر. وهو دعاء لقلب لم يفارقه الخفقان من خشية اللَّه تعالى. «اليوم أُنطق لكم العجماء ذات البيان»، مثل آخر. يريد عليه السّلام: تمثيل الرّموز الخفيّة الغامضة في كلامه وهي مع غموضها جليّة لذوي النّهى بالبهم الصّامتة النّاطقة بدلائل الصّنع، ووجود بارئها جلّ جلاله.

نظيره الحديث: «سل الأرض: من شقّ أنهارك، وأخرج ثمارك فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا». قوله عليه السّلام: «لم يوجس موسى خيفة على نفسه» تمثّل بقوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى‏. يقول عليه السّلام: كما خاف موسى عليه السّلام على ضلال قومه، كذلك أنا خائف على تغلّب الجهالة على قومي، وإحاطة الضّلالة بهم، وهذا مثل قرآنيّ.

«اليوم تواقفنا على سبيل الحقّ والباطل» على قراءة تقديم القاف على الفاء: أي اتّضح الحقّ والباطل، ووافقنا عليهما نحن وأنتم، وعرفناهما حقّ المعرفة. قوله عليه السّلام: «من وثق بماء لم يظمأ» لم يرد عليه السّلام نفي الظّمأ إطلاقا لأنّ الواثق بالماء قد يظمأ، كالعطشان الواجد للماء، وقد تمثّل لهذا المعنى بقول أبي الطّيّب:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 507

 

         وما صبابة مشتاق على أمل            من اللّقاء كمشتاق بلا أمل‏

 

و الصّائم فى شهر اللَّه يصبح جائعا، تنازعه نفسه إلى الطّعام، وفي أيّام فطره لا يجد تلك المنازعة في نفسه ذلك بأنّ النّفس حريصة على ما منعت منه. وهذا المثل من الأمثال الرّفيعة السّائرة. يريد عليه السّلام بالماء الموثوق به نفسه الشّريفة المقدّسة بلى واللَّه إنّه الماء المعين الزّلال للواثقين به عليه السّلام السّالكين منهجه، والمعوّل في كلّ المعضلات، حتّى قال القائل عند ما دهمته معضلة: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن أعوذ باللَّه من معضلة ولا أبو حسن لها. وإنّه الهداية الّتي لا ضلالة معها، والنّصير الّذي لا يخذل مستنصره، والبحر الزّاخر عن أبي هريرة قال: كنت عند النّبي-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  إذ أقبل عليّ بن أبي طالب، فقال النّبيّ-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : «هذا البحر الزّاخر، هذا الشّمس الطّالعة، أسخى من الفرات كفّا، وأوسع من الدّنيا قلبا، ومن أبغضه فعليه لعنة اللَّه». والوسيلة إلى اللَّه عزّ وجلّ في نجح الطّلبات، والفوز بالمهمّات، والثّقة الكاملة في جميع أمور الدّين والدّنيا،

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 508

و كذا بقيّة الأئمّة الأحد عشر من نسله الطّاهر، والصّدّيقة الطّاهرة، والرّسول النّهر العظيم، صلّى اللَّه تعالى عليهم وسلّم.

روى الشّيخ الكلينيّ عن محمّد بن يحيى، عن عليّ بن النّعمان، رفعه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «يمصّون الثّماد، ويدعون النّهر العظيم، قيل له: وما النّهر العظيم قال: رسول اللَّه، والعلم الّذي أعطاه اللَّه. إنّ اللَّه عزّ وجلّ جمع لمحمّد سنن النّبيّين، من لدن آدم وهلمّ جرّا إلى محمّد. قيل له: وما تلك السّنن قال: علم النّبيّين بأسره، وأنّ رسول اللَّه صيّر ذلك كلّه عند أمير المؤمنين. فقال له رجل: يا ابن رسول اللَّه فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النّبيّين فقال أبو جعفر: اسمعوا ما يقول إنّ اللَّه يفتح مسامع من يشاء إنّي حدّثته أنّ اللَّه جمع لمحمّد علم النّبيّين، وأنّه جمع ذلك كلّه عند أمير المؤمنين، وهو يسألني: أهو أعلم أم بعض النّبيّين».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 509

176-  المنيّة ولا الدّنيّة

قال عليه السّلام: «المنيّة ولا الدّنيّة، والتّقلّل ولا التّوسّل». قال الشّاعر:

         أقسم باللَّه لمصّ النّوى             وشرب ماء القلب المالحه‏

         أحسن بالإنسان من ذلّه             ومن سؤال الأوجه الكالحه‏

         فاستغن باللَّه تكن ذا غنى          مغتبطا بالصّفقة الرّابحه‏

         فالزّهد عزّ والتّقى سؤدد            وذلّة النّفس لها فاضحه‏

         كم سالم صيح به بغتة              وقائل عهدي به البارحه‏

         أمسى وأمست عنده قينة           وأصبحت تندبه نائحه‏

         طوبى لمن كانت موازينه           يوم يلاقي ربّه راجحه‏

 

و قال أيضا:

         لمصّ الثّماد وخرط القتاد            وشرب الأجاج أوان الظّما

         على المرء أهون من أنّ يرى       ذليلا لخلق إذا أعدما

        

------------------------------------------------------------------- صفحة 510

         وخير لعينيك من منظر            إلى ما بأيدي اللّئام، العمى

 

ذكر المثل جمع، منهم الميدانيّ، قال: «المنيّة ولا الدّنيّة»: أي أختار المنيّة على العار، ويجوز الرّفع: أي المنيّة أحبّ إليّ. ولا الدّنيّة: أي وليست ممّا أحبّ وأختار. قيل: المثل لأوس بن حارثة. وممّن أصدقها قولا وفعلا الحسين بن عليّ كأبيه عليهما السّلام، قال عليه السّلام يوم كربلاء: «ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السّلّة والذّلّة، وهيهات منّا الذّلة، يأبى اللَّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام». وقال عليه السّلام أيضا: «لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظّالمين إلّا برما». وإنّ ذلك من شيم أصحابهم، فضلا عنهم عليهم السّلام، ولم تكن الدّنيّة توجد إلّا عند أهلها: أهل الأطماع محتملي الضّيم، وأمّا من لا يحتمل ضيما ففيه قال القائل:

         ويركب حدّ السّيف من لا يضيمه            إذا لم يكن عن شفرة السّيف مرحل.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 511

177-  موجودها كمفقودها

من خطبة له عليه السّلام في التّوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها، أوّلها: «ما وحّده من كيّفه، ولا حقيقته أصاب من مثّله». ثمّ يواصل عليه السّلام في الخطبة إلى هذه الفقرة: «خضعت الأشياء له، وذلّت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره، فتمتنع من نفعه وضرّه، ولا كف‏ء له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه هو المغني لها بعد وجودها، حتّى يصير موجودها كمفقودها.........». بما أنّ الأشياء محكومة بالفناء لإفناء اللَّه تعالى لها، صار وجودها كفقدها، وكأنّها لم تكن في عالم الوجود لأنّ واجب الوجود بالذّات هو اللَّه وحده لا سواه جلّ جلاله.

و هل خلقت من شي‏ء أو من لا شي‏ء سؤال أجاب عنه المعصوم عليه السّلام: بأنّها خلقت لا من شي‏ء، لا من لا شي‏ء، ولا من شي‏ء.

جاء ذلك في حديث جابر الجعفيّ قال:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 512

«جاء رجل من علماء أهل الشّام إلى أبي جعفر عليه السّلام، فقال: جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحدا يفسّرها، لي، وقد سألت ثلاثة أصناف من النّاس، فقال كلّ صنف غير ما قال الآخر، فقال أبو جعفر عليه السّلام: وما ذلك فقال: أسألك ما أوّل ما خلق اللَّه عزّ وجلّ من خلقه فإنّ بعض من سألته قال: القدرة. وقال بعضهم: الرّوح. فقال أبو جعفر عليه السّلام: ما قالوا شيئا، أخبرك أنّ اللَّه علا ذكره كان ولا شي‏ء غيره، وكان عزيزا ولا عزّ لأنّه كان قبل عزّه وذلك قوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وكان خالقا ولا مخلوق، فأوّل شي‏ء خلقه من خلقه الشّي‏ء الّذي جميع الأشياء منه: وهو الماء، فقال السّائل: فالشّي‏ء خلقه من شي‏ء أو من لا شي‏ء فقال: خلق الشّي‏ء لا من شي‏ء كان قبله، ولو خلق الشّي‏ء من شي‏ء إذا لم يكن له انقطاع أبدا، ولم يزل اللَّه إذا ومعه شي‏ء، ولكن كان اللَّه ولا شي‏ء معه، فخلق الشّي‏ء الّذي جميع الأشياء منه: وهو الماء». قوله عليه السّلام: «خلق الشّي‏ء لا من شي‏ء كان قبله» إبطال لشقّي السّؤال: أي من شي‏ء أو من لا شي‏ء. وإنّما ذكرنا الحديث الشّريف كلّه لبيان الارتباط.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 513

ثمّ المثل يماثله المثل السّائر: (وجوده كعدمه). ويضاهيه بعض المضاهاة المثل الحسنيّ: «مثلك مثل البعوضة، إذ قالت للنّخلة: استمسكي فإنّي طائرة عنك، فقالت النّخلة: وهل علمت بك واقعة عليّ، فأعلم بك طائرة عنّي».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 514

178-  المودّة قرابة مستفادة

من المثل السّائر قوله عليه السّلام: «المودّة قرابة مستفادة». ويماثله المثل الآخر العلويّ: «الموّدة أشبك الأنساب». وعن بعض: (النّفس بالصّديق آنس منها بالعشيق، وغزل المودّة أرقّ من غزل الصّبابة). والعتاب دليل المودّة.

         إذا ذهب العتاب فليس ود            ويبقى الودّ ما بقي العتاب

 

و العتاب خير من الفقد قال الميدانيّ: معاتبة الإخوان خير من فقدهم، هذا مثل قولهم: (و في العتاب حياة بين أقوام). هذا إذا لم‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 515

يكثر، وإلّا فكما قال القائل:

         ولا خير في قربى لغيرك نفعها            ولا في صديق لا تزال تعاتبه‏

         يخونك ذو القربى مرارا وربّما            وفى لك عند الجهل من لا تناسبه

 

و العتاب يجلب الرّضا، كما جاء في مناجاة التّائبين: «لك العتبى حتّى ترضى». والمودّة سلك خفيّ ثابت بين أرواح المتوادّين، بها يتقاربون، وإن كانت ديارهم بعيدة وأبدانهم.

قال الطّائيّ:

         ذو الودّ منّي وذو القربى بمنزلة           وإخوتى أسوة عندي وإخواني‏

         أرواحنا في مكان واحد وغدت             أبداننا بشآم أو خراسان‏

 

قال ابن عبّاس: القرابة تقطع، والمعروف يكفر، ولم ير كتقارب القلوب، كتب بعض لآخر: إن تكن الدّار من الدّار بعيدة، فإنّ الرّوح من الرّوح قريب، وطير السّماء على إلفه من الأرض يقع، وقال أبو العتاهية:

         وللقلب على القلب            دليل حين تلقاه‏

         وللشّكل على الشّكل            مقاييس وأشباه‏

         وفي العين غنى للعي          ن أن تنطق أفواه

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 516

و للمودّة آداب: خلوصها، ووضعها فيما تليق به، فيودّ اللَّه عزّ وجلّ ومن يريده من نبيّ ووصيّ، أو مؤمن ممّن أمر بمودّته، فلا يودّ من حادّ اللَّه أو أحدا من هؤلاء، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. وقد تناول القرآن الكريم المودّة في سبعة وعشرين موضعا، مقدوحة وممدوحة، لا مجال لذكرها في المقام.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 517

حرف النّون

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 518

179-  النّاس أعداء ما جهلوا

قال عليه السّلام: «النّاس أعداء ما جهلوا». ولما ذا ذكره السّيّد الرّضيّ طاب ثراه مرّتين لا أدري.

قال الشّارح المعتزليّ في الموضع الأوّل: والعلّة في أنّ الإنسان عدوّ ما يجهله أنّه يخاف من تقريعه بالنّقص، وبعدم العلم بذلك الشّي‏ء، خصوصا إذا ضمّه ناد أو جمع من النّاس، فإنّه تتصاغر نفسه عنده، إذا خاضوا فيما لا يعرفه، وينقص في أعين الحاضرين. وكلّ شي‏ء آذاك، ونال منك فهو عدوّك. وفي الموضع الثّاني قال: هذه من ألفاظه الشّريفة الّتي لا نظير لها، وقد تقدّم ذكر ما يناسبها. وكان يقال: من جهل شيئا عاداه. وقال الشّاعر:

         جهلت أمرا فأبديت النّكير له            والجاهلون لأهل العلم أعداء

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 519

و قيل لأفلاطون: لم يبغض الجاهل العالم، ولا يبغض العالم الجاهل فقال: لأنّ الجاهل يستشعر النّقص في نفسه، ويظنّ أنّ العالم يحتقره، ويزدريه فيبغضه، والعالم لا نقص عنده، ولا يظنّ أنّ الجاهل يحتقره، فليس عنده سبب لبغض الجاهل. أقول: المصرع الثّاني من الدّيوان المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام من قافية الألف، أبيات أوّلها:

         النّاس من جهة التّمثال أكفاء            أبوهم آدم والأمّ حوّاء

 

إلى قوله عليه السّلام:

         وقيمة المرء ما قد كان يحسنه            والجاهلون لأهل العلم أعداء

 

إنّ الجحود يأتي من قبل الجهل، ولا يخلو الجاحد من عداوة، وهما يلزمهما الكفر. من هنا جاء في الصّحيح الصّادقيّ: «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا». والكلام العلويّ صالح ليضرب به المّثل لردع الجاهل، ونفاسة العلم، وفيه الإشارة إلى أنّ طابع الإنسان الأوّليّ هو الجهل، إلّا من علّمه اللَّه عزّ وجلّ، فيسلم منه وإليه تنظر آية: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 520

180-  نحن النّمرقة الوسطى

قال سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «نحن النّمرقة الوسطى الّتي يلحق بها التّالي، وإليها يرجع الغالي». قال البحرانيّ: النّمرقة: الوسادة الصّغيرة، واستعار لفظها له ولأهل بيته بصفة الوسطى، باعتبار كونهم أئمّة الحقّ، ومستندا للخلق في تدبير معاشهم ومعادهم، على وجه العدل المتوسّط بين طرفي الإفراط والتّفريط، ومن حقّ الإمام الحقّ المتوسّط في الأمور، أن يلحق به التّالي: أي المفرّط والمقصّر، وأن يرجع إليه الغالي: أي المفرط المتجاوز لحدّ العدل. النّمرقة-  بضمّ فسكون ففتح- : الوسادة، وآل البيت-  عليهم السّلام-  أشبه بها للاستناد إليهم في أمور الدّين، كما يستند إلى الوسادة في راحة الظّهر واطمئنان الأعضاء، ووصفها بالوسطى لاتّصال سائر النّمارق بها، فكأنّ الكلّ يعتمد عليها، إمّا مباشرة أو بواسطة ما بجانبه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 521

و آل البيت-  عليهم السّلام-  على الصّراط الوسط العدل، يلحق بهم من قصّر، ويرجع إليهم من غلا وتجاوز. قال العسكريّ عند المثل: (خير الأمور أوسطها): ولا أعلم فيما روي في التّوسّط أحسن من قول عليّ عليه السّلام: «عليكم بالنّمرقة الوسطى، فإليها يرجع الغالي، وبها يلحق التّالي». قال السّيّد الخطيب: وهذه الكلمة من جملة حديث جرى بين أمير المؤمنين عليه السّلام وبين الحارث الهمدانيّ، ذكره بتمامه الطّبريّ في (بشارة المصطفى) ص: 5، فراجعه هناك. أقول: نقلنا الحديث المشار إليه عند المثل: «اعرف الحقّ، تعرف أهله»، و«قصيرة من طويلة». فراجعه.

قال المعتزليّ: النّمرق والنّمرقة بالضّمّ فيهما: وسادة صغيرة، ويجوز النّمرقة بالكسر فيهما ويقال للطّنفسة فوق الرّحل: نمرقة. والمعنى: أنّ كلّ فضيلة فإنّها مجنّحة بطرفين معدودين من الرّذائل، كما أوضحناه آنفا، والمراد: أنّ آل محمّد عليه وعليهم السّلام هم الأمر المتوسّط بين الطّرفين المذمومين، فكلّ من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم، وكلّ من قصّرّ عنهم فالواجب أن يلحق بهم.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 522

فإن قلت: فلم استعار لفظ النّمرقة لهذا المعنى قلت: لمّا كانوا يقولون: قد ركب فلان من الأمر منكرا، وكانت الطّنفسة فوق الرّحل ممّا يركب، استعار لفظ النّمرقة لما يراه الإنسان مذهبا يرجع إليه، ويكون كالرّاكب له، والجالس عليه، والمتورّك فوقه، ويجوز أيضا أنّ تكون لفظة (الوسطى) يراد بها: الفضلى، يقال: هذه الطّريقة الوسطى، والخليفة الوسطى، ومنه قوله تعالى: قالَ أَوْسَطُهُمْ: أي أفضلهم، ومنه: جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.. وعليه فالواجب على المعتزليّ الرّجوع إليهم عليهم السّلام.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 523

181-  نسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان

من خطبة له عليه السّلام أوّلها: «نحمده على ما كان، ونستعينه من أمرنا على ما يكون، ونسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان». تعرّضنا لبعض الأمثال فيها، وهو: «مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا» والبحث عنه، ووعدنا التّكلّم على قوله عليه السّلام: «نسأله المعافاة في الأديان»، وهذا محلّ إنجازه.

قال الشّارح المعتزليّ: لمّا كان الماضي معلوما جعل الحمد بإزائه لأنّ المجهول لا يحمد عليه، ولمّا كان المستقبل غير معلوم جعل الاستعانة بإزائه لأنّ الماضي لا يستعان عليه. إذا لوحظ الشّي‏ء في وقوعه ولا وقوعه إلى الزّمان، جاء التّقطيع، وصار محدودا، وأمّا لو كان النّظر إلى نفس الشّي‏ء لا بالقياس إلى‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 524

زمان مّا فلا وجه لما ذكره، فافهم.

ثمّ قال الشّارح: ولقد ظرف وأبدع عليه السّلام في قوله: «و نسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان» وذلك أنّ للأديان سقما وطبّا وشفاء كما أنّ للأبدان سقما، وطبّا وشفاء.

قال محمود الورّاق:

         وإذا مرضت من الذّنوب فداوها            بالذّكر إنّ الذّكر خير دواء

         والسّقم في الأبدان ليس بضائر           والسّقم في الأديان شرّ بلاء

 

و قيل لأعرابيّ: ما تشتكي قال: ذنوبي، قيل: ما تشتهي قال: الجنّة، قيل: أفلا ندعو لك طبيبا قال: الطّبيب أمرضني. قد ذكرنا البيتين وما قبلهما سابقا. في حديث «إنّ العمل السّيّئ أسرع في صاحبه من السّكّين في اللّحم». وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ. شاهد عليه: أي معاصي النّهار تجرح صاحبها.

و قد جاء: «عجبت ممّن يحتمي من الطّعام مخافة الدّاء، كيف لا يحتمي من الذّنوب مخافة النّار». ومن الحكم المنسوبة إليه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 525

عليه السّلام: «دع الذّنوب قبل أن تدعك». وقد جاء في دعاء ليلة النّصف من شعبان: «لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا». وعن الكاظم عليه السّلام: حقّ على اللَّه تعالى أن لا يعصى في دار إلّا أضحاها للشّمس حّتى تطهّرها».

182-  نفس المرء خطاه إلى أجله

قال عليه السّلام: «نفس المرء خطاه إلى أجله». النّفس بالتّحريك واحد الأنفاس، ومنه الحديث: «يجزى بين الأذان والإقامة نفس». ومنه الحديث النّبويّ: «إنّي لأجد نفس الرّحمن من قبل اليمن». وهو مستعار من نفس الهواء الّذي يردّه التّنفّس إلى الجوف، فيبرد من حرارته ويعدّلها، أو من نفس الرّيح الّذي يتنسّمه فيستروح إليه،

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 526

أو من نفس الرّوضة، وهو طيب روائحها، فيتفرّج عنه، يقال: أنت في نفس من أمرك، واعمل وأنت في نفس من عمرك: أي في سعة وفسحة قبل الهرم والمرض. كأنّما المرء في كلّ نفس يتنفّسه، قد خطا خطوة إلى موته، المعبّر عنه بأجله، إلى أن تنتهي أنفاسه الّتي هي دقائق حياته المصحوبة بدقّات قلبه، كما قال القائل:

         دقّات قلب المرء قائلة له            إنّ الحياة دقائق وثوان‏

 

إنّما المرء أيّام، إذا مضى يوم عليه مضى بعضه، وأطولها يوم ولد، وكلّما كبر قلّت وقصرت قال سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «فبينا هو يضحك إلى الدّنيا، وتضحك إليه في ظلّ عيش غفول، إذ وطى‏ء الدّهر به حسكه، ونقضت الأيّام قواه، ونظرت إليه الحتوف من كثب، فخالطه بثّ لا يعرفه، ونجيّ همّ ما كان يجده، وتولّدت فيه فترات علل آنس ما كان بصحّته، ففزع إلى ما كان عوّده الأطبّاء من تسكين الحارّ بالقارّ، وتحريك البارد بالحارّ، فلم يطفى‏ء ببارد إلّا ثوّر حرارة ولا حرّك بحارّ إلّا هيّج برودة حتّى فتر معلّله، وذهل ممرّضه... فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدّنيا، وترك الأحبّة، إذ عرض له عارض من غصصه، فتحيّرت نوافذ فطنته، ويبست رطوبة لسانه...

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 527

و إنّ للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدّنيا». «و حتّى متى أتعلّل بالأمانيّ وأسكن إلى الغرور وأعبّد نفسي للدّنيا على غضاضة سوء الاعتداد من ملكاتها-  إلى أن يقول الإمام السّجّاد عليه السّلام:-  وقوارع الموت تختلف حكمي في نفسي، ويعتدل حكم الدّنيا.

         وهنّ المنايا أيّ واد سلكته            عليها طريقي أو عليّ طريقها

         فقد آذنتني بانقطاع وفرقة          وأومض لي من كلّ أفق بروقها»

 

و قال القائل:

         بينا الفتى مرح الخطا فرحا بما            يسعى له إذ قيل: قد مرض الفتى‏

         إذ قيل: بات بليلة ما نامها                 إذ قيل: أصبح مثقلا ما يرتجى‏

         إذ قيل: أمسى شاخصا وموجّها            إذ قيل: فارقهم وحلّ به الرّدى‏

 

في حديث علويّ: «من عدّ غدا من أجله، فقد أساء صحبة الموت». قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: ما الاستعداد للموت قال: «أداء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 528

الفرائض، واجتناب المحارم، والاشتمال على المكارم، ثمّ لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه».

183-  نفور المعزى من وعوعة الأسد

من كلام له عليه السّلام: «أيّتها النّفوس المختلفة، والقلوب المتشّتتة الشّاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على الحقّ وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد هيهات أن أطلع بكم سرار العدل، أو أقيم اعوجاج الحقّ». قال المعتزليّ: (أظأركم): أعطفكم، ظأرت النّاقة ظأرا، وهي ناقة مظئورة إذا عطفتها على ولد غيرها. وفي المثل: (الظعن يظأر): أي يعطف على الصّلح. والوعوعة: الصّوت، والوعواع مثله.

و قوله-  عليه السّلام- : «هيهات أن أطلع بكم سرار العدل». يفسّره النّاس بمعنى: هيهات أن أطلعكم مضيئين ومنوّرين لسرار العدل.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 529

و السّرار: آخر ليلة في الشّهر وتكون مظلمة، ويمكن عندي أن يفسّر على وجه آخر وهو أن يكون السّرار بمعنى: السّرور وهي خطوط مضيئة في الجبهة، ويجمع سرار على أسرّة. قال عنترة:

         بزجاجة صفراء ذات أسرّة            قرنت بأزهر في الشّمال مقدّم

 

يصف عليه السّلام غير المحمودين من أصحابه، بأنّهم متفرقو القلوب، مختلفوا النّفوس، ذوو الانحراف، أبدانهم حاضرة في مجلسه عليه السّلام، وعقولهم غائبة، إمّا لعدمها باتّباع الشّهوات، أو أنّهم لا يستفيدون منها كما هي حقّها ونعمة العقل على الأغلب غير مشكورة إذ لم تستعمل فيما يرضي اللَّه عزّ وجلّ، بل أصبحت نكراء لأنّ «العقل ما عبد به الرّحمن واكتسب به الجنان، فقيل: وما عند معاوية فقال عليه السّلام: تلك النّكراء والشّيطنة». والإمام عليه السّلام لم يعرفه أصحابه، بل أكثر العالم كذلك، قال عبد الباقي:

         إنّ للَّه في معاليك سرّا            أكثر العالمين ما علموه‏

 

و قبله:

         يا أبا الأوصياء أنت لطه            صهره وابن عمّه وأخوه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 530

الابيات.

قوله عليه السّلام: «تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد» مثل يضرب لغاية النّفور والفرار، بمحض الصّوت، دون وقوع الواقعة، وربّما من شدّة خوف المعزى من الأسد، لجأ إلى الأسد بدل الفرار، وإن دلّ على شي‏ء فإنّما يدلّ على بيان حال أصحابه غير المحمودة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 531

حرف الهاء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 532

184-  هبلتك الهبول

«و أعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوقة في وعائها، ومعجونة شنئتها كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة فذلك محرّم علينا أهل البيت، فقال: لاذا، ولا ذاك، ولكنّها هديّة. فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين اللّه أتيتني لتخدعني، أ مختبط أم ذو جنّة أم تهجر...» هذا جزء من كلام له عليه السّلام أوّله: «و اللّه لأن أبيت على حسك السّعدان مسهّدا...». قال المعتزليّ: «هبلتك الهبول»: أي ثكلتك أمّك، والهبول: الّتي لها عادة بثكل الولد. وجاء الهبول في خطبة أخرى: «و من العجب بعثتهم إليّ أن أبرز للطّعان، وأن أصبر للجلاد. هبلتهم الهبول، لقد كنت وما أهدّد بالحرب ولا أرهّب بالضّرب...».

------------------------------------------------------------------- صفحة 533

و ما رواه الطّريحيّ، قال: في حديث عليّ عليه السّلام: «لأمّك الهبل» الهبل بالتّحريك مصدر قولك: (هبلته أمّه): أي ثكلته. هبل كصرد: اسم صنم رمى به عليّ عليه السّلام من ظهر الكعبة، فأمر به، فدفن من باب بني شيبة. وهو المثل السّائر.

قال الميدانيّ: (هبلته أمّه): أي أثكلته، هذا يتكلّم به عند الدّعاء على الإنسان. والهبل مثل الثّكل. وجاء: «ثكلتك الثّواكل يا عقيل» فى نفس الخطبة، وهو عين الدّعاء بلفظ مماثل له ومنه: «ثكلتك أمّك» فالهبل والثّكل يتبادلان في الدّعاء على الإنسان.

و قيل: يؤتى بالهبل للمدح. قال العسكريّ: ومنه قولهم: (هوت أمّه وهبلت أمّه) يقال: في موضع الحمد والمدح، قال كعب بن سعد الغنويّ:

         هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا            وما ذا يؤدّي اللّيل حين يئوب

 

ليس في البيت شاهد على الهبل.

ثمّ وعد الإمام عليه السّلام إعطاء عقيل من عطائه الخاصّ بعد الحصول، فأبى إلّا من بيت مال المسلمين زيادة على سهمه منه، فأحمى له الحديدة، بتفصيل في محلّه، فلا يرد عليه عليه السّلام، أنّه لم يعطه ما يكفيه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 534

و أمّا الطّارق-  وهو الآتي باللّيل-  الّذي هو أعجب عنده عليه السّلام من قصّة عقيل، فقد قال المعتزليّ: إنّه الأشعث بن قيس. وعليه فهو المستميح الآخر منه عليه السّلام استماحة مشفوعة بهديّة وصفها بملفوفة في وعائها، ومعجونه بقي‏ء حيّة أو ريقها. تعرّضنا لهذا التّمثيل في: «كأنّما عجنت بريق حيّة». فلا نطيل. وفيه عظة بالغة بأنّ الهديّة قد تذهب بالدّين.

185-  هدر فنيق الباطل بعد كظوم

أحد تمثيلات أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له: «... هدر فنيق الباطل بعد كظوم...». قال الشّارح: الفنيق: فحل الإبل. وهدر: ردّد صوته في حنجرته، وكذلك هدّر بالتّشديد تهديرا.

و في المثل: (هو كالمهدّر في العنّة). يضرب للرّجل يصيح ويجلب، وليس وراء ذلك شي‏ء، كالبعير الّذي يحبس في العنّة-  وهي‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 535

الحظيرة-  ويمنع من الضّراب، وهو يهدر. وقال الوليد بن عقبة لمعاوية:

         قطعت الدّهر كالسّدم المعنّى            تهدّر في دمشق ولا تريم‏

 

و الكظوم: الإمساك والسّكوت، كظم البعير يكظم كظوما: إذا أمسك الجرّة، وقوم كظم: ساكتون. السّدم: الّذي يرغب عن فحلته فيحال بينه وبين الأفه، ويقيّد إذا هاج، فيرعى حوالي الدّار. وجاء في خطبة الزّهراء عليها السّلام الّتي خطبتها في مسجد المدينة: «... ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فنيق المبطلين». قال ابن الأثير: والهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته، والفنيق: هو الفحل المكرم من الإبل الّذي لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم. ومنه حديث الحجّاج لمّا حاصر ابن الزّبير بمكّة ونصب المنجنيق عليها:

         خطّارة كالجمل الفنيق.

 

و المراد بالهادر الخامل في قولها عليها السّلام: هي الأصوات الّتي هدرت حول الخلافة، حتّى صفا لهم الجوّ. وهي من الخطب البليغة عزّ

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 536

قائلها من النّساء، وكيف لا وهي بنت النّبيّ المختار، وزوجة عليّ الكرّار أمير المؤمنين صلّى اللّه عليهم وسلّم.

كما أنّ المقصود من قوله عليه السّلام: «هدر فنيق الباطل بعد كظوم» في ذلك الزّمان: هو الهادر بعد السّكوت النّابغ بعد الخمول، ومن يردّد صوته لأمور باطلة، مهما كان نوعها، ومن أيّ الصّنوف كان الهادر، وهو فاش في الطّامعين في المناصب والرّئاسة الدّنيويّة الزّائلة.

و لم تثبت الخلافة عندنا إلّا بالتّنصيص من اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على من أراده، لا بالشّورى والانتخاب، بل كما سمعت بالانتصاب بنصب سماويّ، لخطورة أمر الخلافة في الأرض للنّاس بل للعالم كلّه، وإنّما الشّورى في الأمور العاديّة لا الدّينيّة، لقوله تعالى وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ. لإضافة الأمر إليهم: أي ما كان من خصائصهم العاديّة، كما هو المراد من آية: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. بعد الفراغ عن كونه نبيّا، لا أنّ منصب النّبوّة يثبت بها، وكذلك الإمامة، والدّليل عليه قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. والبحث مشبع في محلّه المتاح. وقد خرجنا عمّا نحن بصدده من شرح المثل العلويّ الّذي قد تحقّق محتواه بعد عصور الأئمّة عليهم السّلام، بل في عصورهم عليهم السّلام أيضا. وهو أحد الأمور الغيبيّة، حيث‏

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 537

تجد النّعرات المذاعة من وراء الأجهزة الإعلاميّة العالميّة إلى العالم كلّه.

و لعلّ ما أخبر به الإمام عليه السّلام في هذه الخطبة الشّريفة يأتي زمان يكون التّحقّق فيه أكثر، واللّه العالم.

و لم تذكر الخطبة حتّى يعلم ما أخبر به عليه السّلام من الأمور الّتي ستقع أو وقعت، فليراجع، إلى ما نقلنا عنه من المصدر.

186-  همج رعاع أتباع كلّ ناعق

من كلام له عليه السّلام لكميل بن زياد النّخعيّ: قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فأخرجني إلى الجبّان، فلمّا أصحر تنفّس الصّعداء، ثمّ قال: «يا كميل بن زياد إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عنّي ما أقول لك: النّاس ثلاثة: فعالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق...». قال الشّارح: الجبّان والجبّانة: الصّحراء. وتنفّس الصّعداء: أي‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 538

تنفّس تنفّسا ممدودا طويلا.

قوله عليه السّلام: (ثلاثة) قسمة صحيحة وذلك لأنّ البشر باعتبار الأمور الإلهية: إمّا عالم على الحقيقة يعرف اللّه تعالى، وإمّا شارع في ذلك فهو بعد في السّفر إلى اللّه يطلبه بالتّعلّم، والاستفادة من العالم، وإمّا لاذا ولا ذاك، وهو العامّيّ السّاقط الّذي لا يعبأ اللّه به.

و صدق عليه السّلام في أنّهم همج رعاع، أتباع كلّ ناعق، ألا تراهم ينتقلون من التّقليد لشخص إلى تقليد الآخر، لأدنى خيال وأضعف وهم. قال ابن الأثير: في حديث عليّ-  عليه السّلام- : «و سائر النّاس همج رعاع»، الهمج: رذالة النّاس. والهمج: ذباب صغير يسقط على وجوه الغنم والحمير. وقيل: هو البعوض. فشبّه به رعاع النّاس. يقال: هم همج هامج على التّأكيد. ومنه حديثه أيضا: «سبحان من أدمج قوائم الذّرّة والهمجة» هي واحدة الهمج. وقال الطّريحيّ: الهمج بالتّحريك جمع همجة: وهو ذباب صغير كالبعوضة يسقط على وجوه الغنم والحمير وأعينها، ويستعار للاسقاط من النّاس والجهلة، ويقال للرّعاع من النّاس: همج. والرّعاع بالمهملات وفتح الأوّل: العوام والسّفلة. وفي الحديث: «نحن العرب، وشيعتنا منّا، وسائر النّاس همج أو هيج، قال الرّاوي: قلت: وما الهمج قال: الذّباب، قلت: وما الهيج قال: البقّ». وفسّر رعاع النّاس بسقاطهم وأخلاطهم والواحد رعاعة. رجل‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 539

رعاعة وهجاجة: أي ليس له فؤاد ولا عقل، وهو من الرّعرعة، وهي اضطراب الماء على وجه الأرض لأنّ العاقل يوصف بالتثبّت والتّماسك، والأحمق بضدّ ذلك. بعد معرفة معنى الكلمتين: أي الهمج والرّعاع، يتّضح ما وصفهم أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: أتباع كل ناعق إلى آخره. وفي الحقيقة، هو تفسير لهم وبيان ما لا ينفكّ عنهم، فيثبت الوصف على كلّ من لم يكن داخلا في القسمين: العالم الرّبّانيّ، والمتعلّم على سبيل نجاة.

و التّطبيق قهريّ وعقليّ فمن شاء فليدخل إمّا في الصّنف الأوّل أو الثّاني الممدوح، أو يكون من الهمج الرّعاع. ولا يخفى أنّ الخطبة المشتملة على المثل المذكور رواها جمع، منهم المجلسيّ طاب ثراه، فراجع.

187-  هنا لك لو دعوت أتاك منهم

في آخر خطبة له عليه السّلام، وقد تواترت عليه الأخبار، باستيلاء معاوية على البلاد، حيث قال عليه السّلام: «اللّهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرّا منّي. اللّهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء، أما واللّه لوددت أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 540

 

         هنا لك لو دعوت أتاك منهم            فوارس مثل أرمية الحميم»

 

 قال بعض الشّرّاح: نسبه ابن منظور في لسان العرب إلى (الهذليّ)، مع مغايرة بسيطة قال: قال الهذليّ:

         هنا لك لو دعوت أتاك منهم            رجال مثل أرمية الحميم‏

 

و وجه استشهاد الإمام عليه السّلام به، أنّه كان يتمنّى لو أنّ لديه بدل أهل الكوفة من إذا دعوا أجابوا مسرعين، ومن إذا استغيث بهم أغاثوا، فقد جاء قبله: «أما واللّه...». وبنو فرس بن غنم أو فراس بن غنم: حيّ عربيّ مشهور بالشّجاعة.

و أرمية الحميم: سحب الصّيف. ويضرب بها المثل لأنّها أخفّ وأسرع في الانتقال ووجه الخّفة لأنّها لا ماء فيها، والّتي فيها لا تكون إلّا في الشّتاء، يريد-  عليه السّلام-  بذلك: أنّ فوارس بني غنم مسرعون إذا دعوا، وللإغاثة إذا استغيثوا. فلو كان مع الإمام عليه السّلام من يستنهض بهم ويستغاث، لما كان لمعاوية وأضرابه الجرأة لتسنّم عرش الرّئاسة، ولكن قد خلاله الجوّ فطفق يصفر ويجول، وتمنّي الإمام عليه السّلام فوارس بني غنم وهو أحد تمنّياته، وقد تمنّى استبدال كلّ عشر من أصحابه بواحد من أذناب معاوية، حيث أنّ أهل الشّام يثبتون إذا دعوا، وإن كانوا على أمر باطل، وأمّا أصحابه فهم على الحقّ، ولا ثبات لهم كما جاء في كلام له عليه السّلام.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 541

حرف الواو

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 542

188-  وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

تمثّل به الإمام عليه السّلام في جوابه لمعاوية: «و زعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك، فليست الجناية عليك، فيكون العذر إليك.

         وتلك شكاة ظاهر عنك عارها».

 

 من قصيدة لأبي ذؤيب الهذليّ يرثي بها نشيبة بن محرث الهذليّ، أوّلها:-  من الطّويل- 

         هل الدّهر إلّا ليلة ونهارها                وإلّا طلوع الشّمس ثمّ غيارها

         أبى القلب إلّا أمّ عمرو وأصبحت      تحرّق ناري بالشّكاة ونارها

         وعيّرها الواشون أنّي أحبّها              وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

 

أي إن كنت حاسدا لهم وباغيا كما زعمت، فليس ذنب ذلك عليك، وأنت على عذر منه. وفي نفي الجناية عن معاوية إن صدق في‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 543

رمي الحسد والبغي إليه عليه السّلام إبطال لاستمساكه بذلك لرئاسته، وأنّه ليس بكفيل لهم، ولا حقّ له، ولا ولاية عليهم، أو أنّ من يطلب حقّا ثابتا على الآخرين ليس بجناية، وإن أوهمها، وكم من مواطن فيها مطالبة الحقوق معدودة من الجناية عند قوم وليست كذلك.

و لا يرتاب المطّلع على حادثة السّقيفة والشّورى، وما نصّ الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على إقامة الإمام عليه السّلام مقامه من بعده يوم غدير خمّ، أنّ الخلافة من حقّه الثّابت، فمطالبة الحقّ ليست جناية، ولا حسدا، ولا بغيا منه عليهم. ومن هوان الدّنيا مخاطبة أمير المؤمنين من أمثال معاوية، كما نسب إليه عليه السّلام: «أنّ الدّهر أنزلني حتّى قيل: عليّ ومعاوية».

و لعلّ من أهمّ الغصص وأمضّها مواجهة الأنذال ومكالمتهم، ومن ذلك قول زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السّلام، مخاطبة ليزيد بن معاوية: «و لئن جرّت عليّ الدّواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك...». عند دخول حرم الحسين عليه السّلام في مجلس يزيد عليه لعنة اللّه.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 544

189-  وحسبك عارا أن تبيت ببطنة

في كتاب له عليه السّلام الى عثمان بن حنيف الأنصاريّ، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه انّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها، أوّله: «أمّا بعد يا ابن حنيف فقد بلغني-  إلى قوله عليه السّلام:-  أو أبيت مبطانا، وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

         وحسبك عارا أن تبيت ببطنة            وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

 

». وفي لفظ:

         وحسبك داء أن تبيت ببطنة

 

 قال المعتزليّ: وهذا البيت من أبيات منسوبة إلى حاتم بن عبد اللّه اطّائي الجواد. وأوّلها:

         أيا ابنة عبد اللّه، وابنة مالك            ويا ابنة ذي الجدّين، والفرس الورد

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 545

         إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له           أكيلا فإنّي لست آكله وحدي‏

         قصيّا بعيدا، أو قريبا فإنّني               أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي‏

         كفى بك عارا أن تبيت ببطنة             وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

         وإنّي لعبد الضّيف ما دام نازلا           وما من خلالي غيرها شمية العبد

 

أقول: قوله:

         كفى بك عارا أن تبيت ببطنة

 

يعطي ما نقله المعتزليّ. وما قدمناه المعنى دون اللّفظ.

و كيف كان، ليس أمير المؤمنين عليه السّلام ليحذّر النّاس عن أمر وهو يأتيه، ككثير من وعّاظ، وناهين عن المنكر، أو يأمر به فيتركه فإذا هو يندّد عن البطنة، فلم تكن صفته ذلك. وكيف، وهو القائل: «أو أبيت مبطانا، وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى» وكان عليه السّلام يقتات بما قالوا فيه: «إن كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضّعف...» في نفس الكتاب.

و القائل أيضا: «فإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه»: أي لا ثالث لهما. والطّمر: الثّوب الخلق البالي من إزار ورداء، يستر بهما جسده الشّريف.

و كان عليه السّلام يطوي اللّيالي بالبكاء والعبادة. وغشيته من‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 546

خشية اللّه جلّ جلاله في حديقة بني النّجّار معروفة يقول: «اه من قلّة الزّاد، وطول الطّريق، وبعد السّفر، وعظيم المورد». فيا من نصب نفسه رأسا: طأطئ أمام إمامك العظيم.

190-  ودع عنك نهبا صيح في حجراته

تمثّل به أمير المؤمنين عليه السّلام في كلام له لبعض أصحابه، وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام، وأنتم أحقّ به فقال عليه السّلام.

«يا أخا بني أسد إنّك لقلق الوضين ترسل في غير سدد، ولك بعد ذمامة الصّهر وحقّ المسألة، وقد استعلمت فاعلم: أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسبا، والأشدّون بالرّسول صلّى اللّه عليه-  وآله-  وسلّم نوطا فإنّها كانت أثرة، شحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم اللّه، والمعود إليه يوم القيامة.

         ودع عنك نهبا صيح في حجراته            ولكن حديثا ما حديث الرّواحل‏

        

-------------------------------------------------------------------صفحة 547

قال الميدانيّ بلفظ: «دع عنك نهبا صيح في حجراته»: النّهب: المال المنهوب، وكذلك النّهبى. والحجرات: النّواحي. يضرب لمن ذهب من ماله شي‏ء، ثمّ ذهب بعده ما هو أجلّ منه.

و هذا من بيت امرئ القيس، قاله حين نزل على خالد بن سدوس بن أصمع النّبهانيّ، فأغار عليه باعث بن حويص، وذهب بإبله، فقال له جاره خالد: أعطني صنائعك ورواحلك، حتّى أطلب عليها مالك، ففعل، فانطوى عليها، ويقال: بل لحق القوم فقال لهم: أغرتم على جاري يا بني جديلة فقالوا: واللّه ما هو لك بجار، قال: بلى واللّه ما هذه الإبل الّتي معكم إلّا كالرّواحل الّتي تحتي، قالوا: كذلك، فأنزلوه وذهبوا بها. فقال امرؤ القيس فيما هجاه به:

         ودع عنك نهبا صيح في حجراته            ولكن حديثا ما حديث الرّواحل‏

 

يقول: دع النّهب الّذي انتهبه باعث-  بن حويص-  ولكن حدّثني حديثا عن الرّواحل الّتي ذهبت أنت بها، ما فعلت ثمّ قال في هجائه:

         وأعجبني مشي الحُزُقّة خالد            كمشي أتان حلّئت عن مناهل

 

سردنا مورد ضرب المثل-  صدق أم لا-  لمعرفة موضع التّمثّل.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 548

يريد عليه السّلام: أنّ نهب هؤلاء القوم لحقوقنا الثّابته كنهب الأموال والرّواحل، بدل أن يردّوا الأولى لصاحبها، اغتصبوا الأخرى.

و كذلك معاملة القوم معنا قد غصبونا حقّنا الّذي خصّصنا اللّه عزّ وجلّ به، وهي الخلافة، وبعدها يرون أن لا حقّ لنا بها مذكورا في الدّهر.

و لا غرو في ذلك فإنّ الدّهر من عاداته المعاداة لأرباب الحقوق.

ثمّ إنّ السّائل من بني أسد، وكانت مصاهرة منه عليه السّلام معهم، فما أنكره المعتزليّ ردّا على القطب الرّوانديّ في غير محلّه، فراجع لظهور قوله عليه السّلام: «و لك بعد ذمامة الصّهر» فيما ذهب إليه من المصاهرة.

و أما البيت، فقال المعتزليّ: أنّه لامرئ القيس بن حجر الكنديّ، وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لم يستشهد إلّا بصدره فقط، وأتمّه الرّوّاة. وكيف كان، فقد بان الغرض من التّمثّل به، وأنّ الكلام من بدئه إلى ختمه صريح في اغتصاب الخلافة، وأنّه عليه السّلام الأولى بها لشدّة السّبب وعلوّ النّسب، وإنّما استبدّ عليه ظلما وزورا، وقد جاء في إحدى زياراته المأثورة: «أشهد أنّك أوّل مظلوم قد غصب حقّه».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 549

191-  وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح

تمثّل به عليه السّلام في أثناء جوابه لكتاب معاوية: «و ما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذّنب إليه إرشادي وهدايتي له، فربّ ملوم لا ذنب له.

         وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح».

 

 وهذه الفقرة ذكرناها عند المثل: «ربّ ملوم لا ذنب له» والإعادة لأجل ربط المثل الجاري وهو من الطّويل. قال بعض: صدره:

         وكم سقت في آثاركم من نصيحة

 

و الظّنّة: التّهمة والمتنصّح: المبالغ في النّصح لمن لا ينتصح، وربّما كان مأخوذا من قولهم: سقطت به النّصيحة على‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 550

الظّنّة ومعناها: أنّ المتنصّح قد تأتيه التّهمة بسبب إخلاصه النّصيحة إلى من لا ينتصح بها. أقول: لقد قضى النّاصح ما عليه من أداء رسالته، ويكون بعده السّامع مخاطبا بقوله تعالى: وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ. وقد جاء في أمثال نبوّية: «الدّين النّصيحة» بتمام معنى الكلمة من نصح قوليّ وعمليّ للخالق عزّ وجلّ والخلق، وأمير المؤمنين عليه السّلام نصح الخلائق سواء أ كانوا في زمانه، أو الأزمنة المتأخّرة إلى يوم القيامة، ببلوغ كتابه الّذي بعد كلام الخالق تعالى وفوق كلام المخلوق، وليس هو إلّا شرحا وتفسيرا له، ثمّ التّعبير باستفاده الظّنّة، وهي التّهمة لأجل حصولها في سبيل اللّه تعالى.

فكلّ ما أتى المؤمن في طريق أداء الرّسالة عدّ من الفوائد، وإن كان بظاهره من نوع الأذى والأمر المكروه، ويتحقّق فيه قوله تعالى: وَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وعليه فلا وجه لحمله على المجاز أو التّهكّم.

و قد شرحنا باقي الفقرة فيما تقدّم، فراجع

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 551

192-  وقر سمع لم يفقه الواعية

من خطبة له عليه السّلام: «بنا اهتديتم في الظّلماء، وتسنّمتم العلياء، وبنا انفجرتم عن السّرار، وقر سمع لم يفقه الواعية......». قوله عليه السّلام: (وقر سمع...) من الوقر بالفتح: الثّقل في الأذن، أو ذهاب السّمع كلّه، ومنه قوله تعالى: فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ. والثّبات، ومنه الحديث: «الإيمان ما وقر في القلوب».: أي ثبت. والتّعظيم، وفي الحديث: «من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام».: أي عظّمه. و«وقّروا كباركم» أي: عظّموهم، يشمل السّنّ والشّأن كالمعلّمين. والمناسب للمقام الأوّل، وهو دعاء على صاحبه، وأمّا المثل: (كانت وقرة في صخرة) يضرب للصّابر في المصيبة، فمن‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 552

الثّاني، أي الثّبات.

و المثل: (وقّر نفسك تهب) فمن الثّالث: أي تهاب وتعظّم. ومنه قول العلّامة الطّباطبائي في الدّرّة الباهرة:

         لا تجعلنّ مسجدا طريقا            وقّره إذا كان به حقيقا

 

و منه: كان عبد اللّه بن مسكان ممّن يوقّر الصّادق عليه السّلام، بحيث لا يدخل عليه شفقة أن لا يوفيه حقّ إجلاله، فكان يسمع من أصحابه. فلنعد إلى الموضوع.

قال المعتزليّ: (وقر سمع)، هذا دعاء على السّمع الّذي لم يفقه الواعية بالثّقل والصّمم. وقرت أذن زيد بضم الواو فهي موقورة، والوقر بالفتح: الثّقل في الأذن. والواعية: الصّارخة من الوعاء وهي الجلبة والأصوات، والمراد: العبر والمواعظ. وإنّما عددناه من الأمثال لتصريح المعتزليّ عند شرح الخطبة، قال: هذه الكلمات والأمثال ملتقطة من خطبة طويلة منسوبة إليه... يريد بالأمثال منها قوله عليه السّلام: «انفجرتم عن السّرار». و«وقر سمع لم يفقه الواعية»

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 553

و ما لم نذكره هنا من بقيّة الخطبة: «و كيف يراعي النبأة من أصمّته الصّيحة ربط جنان لم يفارقه الخفقان-  وآخرها-  من وثق بماء لم يظمأ». استخرجنا منه عدّة أمثال، ذكرنا كلّ واحد تحت عنوان خاصّ، أوّلها تحت: «انفجرتم عن السّرار»، وآخرها بعنوان: «من وثق بماء لم يظمأ». وهكذا البقيّة.

193-  ويل أمّه

هذه الكلمة استعملها الإمام عليه السّلام في كلام له، في ذمّ أهل العراق، أوّله: «أمّا بعد يا أهل العراق...... ولقد بلغني أنّكم تقولون: عليّ يكذب قاتلكم اللّه تعالى فعلى من أكذب أعلى اللّه فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيّه فأنا أوّل من صدّق به، كلّا واللّه لكنّها لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها، ويل أمّه، كيلا بغير ثمن، لو كان له وعاء: ولتعلمنّ نبأه بعد حين». إنّما أثبتنا أكثر كلامه عليه السّلام لربط الكلمة التّمثيليّة به. ونظيره قوله عليه السّلام عند مروره على قتلى حرب الجمل، وأجلس كعب ابن سور: «و يلمّك، لقد كان لك علم لو نفعك».

------------------------------------------------------------------- صفحة 554

قال المعتزليّ في شرحها: «و يلمّه» الضّمير راجع إلى ما دلّ عليه معنى الكلام من العلم لأنّه لمّا ذكر اللّهجة وشهوده إيّاها وغيبوبتهم عنها دلّ ذلك على علم له خصّه به الرّسول عليه السّلام فقال: (و يلمّه).

و هذه الكلمة تقال للتّعجّب والاستعظام يقال: (و يلمّه فارسا).

و تكتب موصولة كما هي بهذه الصّورة، وأصله: (ويل أمّه) مرادهم: التّعظيم والمدح، وإن كان اللّفظ موضوعا لضدّ ذلك، كقوله عليه الصّلاة والسّلام: «فاظفر بذات الدّين تربت يداك». وكقولهم للرّجل يصفونه ويقرّظونه: (لا أبا له). جاءت كلمة (ويل أمّه) في قصّة جذيمة مع الزّباء ومولاه قصير، أشرنا إلى إجمالها عند المثل: «لو كان يطاع لقصير أمر»-  وفيها: أن نصح قصير جذيمة-  فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا-  والعصا: فرس جذيمة- ، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة على متن العصا مولّيا فقال: (ويل أمّه حزما على متن العصا)، فذهبت مثلا... والقصّة طويلة اختصرناها لموضع المثل.

كما وجاء المثل المبحوث عنه في خبر له عليه السّلام أخبر بقاتل يقتله في غير ساحة حرب ولا معركة رجال: «و يلمّه أشقى البشر» انظر المصدر.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 555

حرف الياء

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 556

194-  يبيعك بالتّافه

في كلام له لابنه الحسن عليهما السّلام: «إيّاك ومصادقة الفاجر فإنّه يبيعك بالتّافه». وقد وصفه عليه السّلام بصفات، كما في حديث الصّادق عليه السّلام قال: «كان أمير المؤمنين-  عليه السّلام-  إذا صعد المنبر قال: «ينبغي للمسلم أن يتجنّب مؤاخاة ثلاثة: الماجن الفاجر، والأحمق، والكذّاب فأمّا الماجن الفاجر فيزيّن لك فعله، ويحبّ أن تكون مثله، ولا يعينك على أمر دينك ومعادك، ومقاربته جفاء وقسوة، ومدخله ومخرجه عار عليك...». الماجن: الّذي لا يبالي قولا ولا فعلا، يزيّن لك فعله، ويحبّ أن تكون مثله. والفاجر: المنبعث في المعاصي والمحارم، والزّاني، والكاذب: المائل عن الصّدق، ومنه الدّعاء: «لا تجعل لفاجر عليّ يدا ولا منّة». ولعلّ أكثر استعمال الفاجر في الكذب والزّنا، وجاء: «التّاجر

 

-------------------------------------------------------------------صفحة 557

فاجر ما لم يتفقّه». و«لا تسألوا الفاجرة: من فجر بك». وفي القرآن الكريم ما يقابل التّقوى أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ». فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. والأبرار: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. ثمّ الوجه في بيع الفاجر صديقه بالتّافه عدم مبالاته بالقيم الإنسانيّة والفضائل النّفسيّة، إمّا لسلب الفهم والفكر الصّائب منه إذ الفجور والتّمرّد على اللَّه تعالى يسلب الفهم الإنسانيّ، ويستبدل بنور الفكر الظّلام، فيفقد الميزة بين التّافه والثّمين.

و في القرآن العزيز ما يشير إليه بقوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها. وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ. وقد قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وليس الفاسق إلّا الفاجر، فافهم تعرف إن شاء اللَّه. والأكثر هو عدم المبالاة بالقيم الإسلاميّة، وإن كان له الميزة بينها، ومن أجل ذلك تمّت عليه الحجّة، واستحقّ من اللَّه عزّ وجلّ العقوبة والخزي في الدّارين، فعلى اللّبيب ترك مصادقة الفاجر حتّى لا يباع في سوق الفجرة، فيخسر رأس المال: وهو عمره الّذي لا ثمن له إلّا الجنّة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 558

195-  يد اللَّه على الجماعة

من كلام له عليه السّلام قال للخوارج أوّله: «فإن أبيتم إلّا أن تزعموا أنّي أخطأت وضللت...-  إلى قوله عليه السّلام:-  وخير النّاس فيّ حالا النّمط الأوسط، فالزموه والزموا السّواد الأعظم فإنّ يد اللَّه على الجماعة، وأيّاكم والفرقة فإنّ الشّاذّ من النّاس للشّيطان، كما أنّ الشّاذّ من الغنم للذّئب...». وقد رواه جمع من محدّثي الشّيعة والسّنّة عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم بهذا اللّفظ وبلفظ: «يد اللَّه مع الجماعة». ذكرنا ذلك في الأمثال النّبوية. ومعناه: الجماعة المتّفقة من أهل الإسلام في كنف اللَّه، ووقايته فوقهم، وهم بعيد من الأذى والخوف. واليد: القدرة والرّعاية الّتي تكون عن اقتدار، وتفوّق حيث استعملت بحرف (على)، كما أنّ كلمة (مع) يقصد بها عدم مفارقة الرّعاية.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 559

و الكلمة المذكورة تقال للتّرغيب إلى الاتّحاد، والتّحذير عن الفرقة، وقد حذّر الإمام عليه السّلام القوم عنها بضرب المثل بالشّاة المتخلّفة عن الشّياه فكما أنّها تكون للذّئب كذلك المتخلّف عن جماعة المسلمين تفترسه الذّئاب الإنسيّة والجنّيّة: وهي الشّياطين ولا يستطيع دفعها عن نفسه عند فقد الدّفاع الجماعيّ.

على أنّ الإسلام دين اللَّه، من أهمّ آدابه اجتماع القلوب والأبدان عليه بإظهار التّوحيد للَّه، والإخلاص له تعالى، وليس دين رهبان وانفراد، كما في الرّضويّ: «إنّما جعلت الجماعة لئلّا يكون الإخلاص والتّوحيد والإسلام والعبادة للَّه إلّا ظاهرا مكشوفا مشهورا...» وجاء الأمر بإحراق الدّار على تارك صلاة الجماعة في صدر الإسلام أو مطلقا «فإنّ رسول اللَّه-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  همّ بأن يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين...» ولأدنى علقة أقول: حديث إحراق بيت الإمام عليه السّلام أنكره الجمهور، وأثبته جمع منهم لعلّة ترك البيعة لا غيرها بأمر عمر، قيل له: فيها فاطمة، قال: وإن. وإليه يشير الشّاعر:

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 560

 

         وقولة لعليّ قالها عمر               أكرم بسامعها، أعظم بملقيها:

         أحرقت بابك، لا أبقي عليك بها      إن لم تبايع، وبنت المصطفى فيها

         من كان مثل أبي حفص يفوه بها     أمام فارس عدنان وحاميها

 

.196-  يذري الرّوايات إذراء الرّيح الهشيم

قال عليه السّلام في أوصاف الفاقد لأهليّة القضاء بين النّاس: «يذري الرّوايات إذراء الرّيح الهشيم». تعرّضنا للأوصاف بمناسبة الأمثال المذكورة في كلامه عليه السّلام بهذا الصّدد. وفي رواية ابن قتيبة: «يذرو الرّواية ذرو الرّيح الهشيم»: أي يسرد الرّواية كما تنسف الرّيح هشيم النّبت، وهو ما يبس منه وتفتّت، ومنه قول اللَّه جلّ وعزّ: فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ.. وعلى الرّواية الأولى نفس المادّة الاشتقاقيّة من باب الإفعال، وكلاهما بمعنى النّسف والإطارة. والرّيح أصله الرّوح، وجمعه الأرواح، وتجمع على‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 561

أرياح قليلا، وعلى رياح كثيرا. والرّوح: نسيم الرّيح، ومنه الحديث: «كان يقول إذا هاجت الرّيح: اللّهمّ اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا». العرب تقول: لا تلقح السّحاب إلّا من رياح مختلفة، يريد: اجعلها لقاحا للسّحاب ولا تجعلها عذابا. ويحقّق ذلك مجي‏ء الجمع في آيات الرّحمة، والواحد في قصص العذاب كالرّيح العقيم، وريحا صرصرا. والهشيم: اليابس من النّبت والهشيم: كسر الشّي‏ء اليابس والمجوّف.

و هو من باب (ضرب) والهاشم: الكاسر، سمّي به هاشم بن عبد مناف لأنّه أوّل من هشم الثّريد لقومه، واسمه عمرو. والمراد هنا من الهشيم: النّبت المنسوف، كما تقدّم.

قال ابن أبي الحديد: «يذري الرّوايات» هكذا أكثر النّسخ، وقد أوضحه. قوله-  عليه السّلام- : (إذراء الرّيح) يقال: طعنه فأذراه: أي ألقاه وأذريت الحبّ للزّرع: أي ألقيته. فكأنّه يقول: يلقي الرّوايات كما يلقي الإنسان الشّي‏ء على الأرض. وقال غيره: وفيه تشبيه تمثيليّ، ووجه الشّبه صدور فعل بلا رويّة، من غير أن يعود إلى الفاعل نفع وفائدة فإنّ هذا الرّجل المتصفّح للّروايات ليس له بصيرة بها، يمرّ على رواية بعد أخرى ويمشي عليها من غير فائدة. بل الظّاهر من إذراء الرّوايات هو لأجل الجهل بوجوه الأحكام‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 562

المختلفة باختلاف موضوعاتها، إذ لكل موضوع حكم يخصّه، والفقيه يستخرجه من الكتاب والسّنّة، إذا أحسن الاستخراج، وإلّا فراح يضرب الأدلّة الشّرعيّة بعضها ببعض، ويستخرج خلاف الحقّ، ثمّ يقضي على ما رأى، فيحسبه حكم اللَّه تعالى، وليس منه. فالإلقاء والمرور من لوازم هذا الاستخراج الباطل، وعلى الفقهاء اذا عرفوا ذلك منه منعوه بل خلعوه عن منصب القضاء لأنّه الشّقيّ بحكم النّصّ.

197-  يريد أن ينفعك فيضرّك

من كلام له لابنه الحسن عليهما السّلام: «يا بني إيّاك ومصادقة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك». قال الشّارح المعتزليّ بهذا الصّدد في أبيات له:

         حياتك لا تصحبنّ الجهول            فلا خير في صحبة الأخرق‏

         يظنّ أخو الجهل أنّ الضّلا           ل عين الرّشاد فلا يتّقي‏

         ويكسب صاحبه حمقه               فيسرق منه ولا يسرق‏

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 563

                     وأقسم أنّ العدوّ اللّبيب   خير من المشفق الأحمق

 

و حقيقة الحمق: وضع الشّي‏ء في غير موضعه مع العلم بقبحه. وقيل: الحمق: قلّة العقل وفساده، أو من يسبق كلامه فكره: وهو من لا يتأمّل عند النّطق، هل ذلك صواب أم لا فيتكلّم من غفلة.

و السّفيه: المبذّر الّذي يصرف أمواله في الأغراض غير الصّحيحة، أو من ينخدع في المعاملة. وكلّ لم ينفكّ عن الجهل الّذي يقابله وصف العاقل وهو من يضع الشّي‏ء في مواضعه، على ما وصفه الإمام عليه السّلام بذلك. وعلامة كلّ منهما كما قال عليه السّلام: (لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه). ثمّ إنّ الإضرار في موضع النّفع، والنّفع في موضع الإضرار من أظهر علائم الحمق، ومن أجلى مصاديق وضع الشّي‏ء في غير مواضعه وأجمعها.

و للحمق آثار وقصص أثبتها الكتّاب، منها: أنّ أحمقا ورث نصف دار أبيه، فقال: أريد أن أبيع حصّتي من الدّار، وأشتري بالثّمن النّصف الباقي، فتصير الدّار كلّها لي. وعن بعض: رأيت أعرابيّا يبكي وسألته عن بكائه، فقال: بلغني أنّ جالوت قتل مظلوما.

------------------------------------------------------------------- صفحة 564

أقول: لو فتّش حالنا لكان في قصص حمقنا الغنى عن النّظر إلى الحمقى الظّاهرييّن. أليس حدّ الحمق والجهل من يضع الشّي‏ء في غير مواضعه أو لم نكن نعصي اللَّه عزّ وجلّ، بدل أن نطيعه فلقد وضعنا الشّي‏ء في غير مواضعه، وهذا من أفظع الوضع الممقوت غير المحبوب عقلا فنحن حمقى، علمنا بذلك أم لم نعلم، سمّينا به أو لم نسمّ

198-  يغبقون كأس الحكمة بعد الصّبوح

من خطبة له عليه السّلام، ويومئ بها إلى الملاحم: «و أخذوا يمينا وشمالا ظعنا في مسالك الغيّ، وتركا لمذاهب الرّشد، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد، ولا تستبطئوا ما يجي‏ء به الغد فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه. وما أقرب اليوم من تباشير غد يا قوم هذا إبّان ورود كلّ موعود، ودنوّ من طلعة ما لا تعرفون. ألا وإنّ من أدركها منّا يسري بسراج منير، ويحذو فيها على مثال الصّالحين، ليحلّ فيها ربقا، ويعتق فيها رقّا، ويصدع شعبا، ويشعب صدعا في سترة عن النّاس لا يبصر القائف أثره ولو تابع نظره ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل، تجلى بالتّنزيل أبصارهم، ويرمى بالتّفسير في مسامعهم، ويغبقون كأس الحكمة بعد الصّبوح».

------------------------------------------------------------------- صفحة 565

اشتملت الخطبة على الإخبار بظهور الإمام المهديّ عجلّ اللَّه فرجه الشّريف، وأهوال ما قبل القيامة، والدّجّال وفتنته.

قال المعتزليّ: إبّان الشّي‏ء بالكسر والتّشديد: وقته وزمانه، وكنّى عن تلك الأهوال بقوله-  عليه السّلام- : «و دنوّ من طلعة ما لا تعرفون» لأنّ تلك الملاحم والأشراط الهائلة غير معهود مثلها، نحو: دابّة الأرض، والدّجّال وفتنته، وما يظهر على يده من المخاريق والأمور الموهمة، وواقعة السّفيانيّ، وما يقتل فيها من الخلائق الّذين لا يحصى عددهم.

ثمّ ذكر: أنّ مهديّ آل محمّد صلّى اللَّه عليه وآله-  وسلّم-  وهو الّذي عنى بقوله: «و إن من أدركها منّا يسري في ظلمات هذه الفتن بسراج منير»، وهو المهديّ وأتباع الكتاب والسّنّة. والمعتزليّ ممّن ينكر أن يكون المهديّ عليه السّلام موجودا حيّا الآن، قال: قوله عليه السّلام: «في سترة عن النّاس» هذا الكلام يدلّ على استتار هذا الإنسان المشار إليه، وليس ذلك بنافع للإماميّة في مذهبهم، وإن ظنّوا أنّه تصريح بقولهم وذلك لأنّه من الجائز أن يكون هذا الإمام يخلقه اللَّه تعالى في آخر الزّمان، ويكون مستترا مدّة، وله دعاة يدعون إليه، ويقرّرون أمره، ثمّ يظهر بعد ذلك الاستتار، ويملك الممالك، ويقهر الدّول، ويمهّد الأرض، كما ورد في قوله: «لا يبصر القائف»: أي هو في استتار شديد لا يدرك القائف: وهو الّذي يعرف الآثار، والجمع (قافة) ولا يعرف أثره ولو استقصى في الطّلب وتابع النّظر والتّأمّل.

                       

-------------------------------------------------------------------صفحة 566

قوله عليه السّلام: «ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل» اطلب تفسيره من محلّه المتاح. قوله عليه السّلام: «و يغبقون كأس الحكمة بعد الصّبوح». الغبوق: شرب العشيّ. والصّبوح: شرب الغداة.

قال البحرانيّ: عبّر عن أخذهم الحكمة ومواظبتهم على تلقّفها بعد استعدادهم لها بالغبوق والصّبوح، ولفظا الصّبوح والغبوق مستعاران لكونهما حقيقتين في الشّرب المخصوص المحسوس. قال الميدانيّ: (هريق صبوحهم على غبوقهم) يضرب للقوم ندموا على ما ظهر منهم. وقال بعضهم: أي ذهبا جميعا، فلا صبوح ولا غبوق. وقال أيضا: (عن صبوح ترقّق). الصّبوح: ما يشرب صباحا، والغبوق: ضدّه....

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 567

199-  يقعد عنك أحوج ما تكون إليه

كلمة حكميّة من كلمات الإمام الّتي قالها لابنه الحسن عليهما السّلام: «... وإيّاك ومصادقه البخيل فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه». قيل: يقابل البخل الجود، والشّحّ السّخاء. قال بعض الحكماء: السّخاء هيئة للإنسان داعية إلى بذل المقتنيات. حصل معه البذل أو لم يحصل، وذلك خلق، ويقابله الشّحّ. وأمّا الجود فهو بذل المقتني ويقابله البخل، هذا هو الأصل، وإن كان كلّ واحد منهما قد يستعمل في موضع الآخر.

و الّذي يدلّ على صحّة هذا الفرق، أنّهم جعلوا اسم الفاعل من السّخاء والشّحّ على بناء الأفعال الغريزيّة، فقالوا سخيّ وشحيح، فبنوه على (فعيل). كما قالوا: حليم وسفيه وعفيف، وقالوا: جائد وباخل، فبنوهما على فاعل كضارب وقاتل. فأمّا قولهم: بخيل فمصروف عن لفظ (فاعل) للمبالغة، كقولهم في راحم رحيم. ويدلّ أيضا على أنّ السّخاء غريزة وخلق، أنّهم لم يصفوا الباري سبحانه به، فيقولوا: سخيّ.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 568

فأمّا الشّحّ فقد عظم أمره، وخوّف منه، ولهذا قال عليه السّلام: «ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه». فخصّ المطاع تنبيها على أنّ وجود الشّحّ في النّفس فقط ليس ممّا يستحقّ به ذمّ لأنّه ليس من فعله، وإنّما يذمّ بالانقياد له. قال سبحانه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وقال: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. فأمّا الجود فإنّه محمود على جميع ألسنة العالم، ولهذا قيل: كفى بالجود مدحا أنّ اسمه مطلقا لا يقع إلّا في حمد. وكفى بالبخل ذمّا أنّ اسمه مطلقا لا يقع إلّا في ذمّ. أقول: استعمال (جائد وباخل) غير مألوف، والمألوف هو الجواد والبخيل. فكيف يجعل المألوف فرعا، وغير المألوف أصلا قوله عليه السّلام: «يقعد عنك أحوج ما تكون إليه» بإمساكه في بذل المال لك وإن كان من أمسّ الخلق إليك من أقربائك.

و البخل خلّة ممقوتة، توجب لصاحبها حرمان الجنّة، والبعد من رحمة اللَّه الواسعة، وتورده موارد السّخط والهلاك. وقد ضربت به الأمثال، فقالوا: (أبخل من صبيّ، ومن كسع). قالوا: هو رجل بلغ من بخله أنّه كوى است كلبه حتّى لا ينبح، فيدلّ عليه الضّيف. (بشّر مال الشّحيح بحادث أو وارث). وللبحث تتمّة.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 569

200-  ينحدر عنّي السّيل، ولا يرقى إليّ الطّير

من الخطبة الشّقشقيّة قوله عليه السّلام: «ينحدر عنّي السّيل، ولا يرقى إليّ الطّير». وعند المثل: «محلّي منها محلّ القطب من الرّحا» قلنا: قال المعتزليّ: في هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ: أوّلها: قوله: «لقد تقمّصها» أي جعلها كالقميص مشتملة عليه والضّمير للخلافة. الثّانية: قوله: «ينحدر عنّي السّيل»، يعني: رفعة منزلته عليه السّلام، كأنّه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ينحدر السّيل عنه إلى الوهاد والغيطان. قال الهذليّ:

         وعيطاء يكثر فيها الزّليل            وينحدر السّيل عنها انحدارا

 

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 570

الثّالثة: قوله عليه السّلام: «و لا يرقى إليّ الطّير»، هذه أعظم في الرّفعة والعلوّ من الّتي قبلها لأنّ السّيل ينحدر عن الرّابية والهضبة. وأمّا تعذّر رقيّ الطّير فربّما يكون للقلال الشّاهقة جدّا، بل ما هو أعلى من قلال الجبال، كأنّه يقول: إنّي لعلوّ منزلتي كمن في السّماء الّتي يستحيل أن يرقى الطّير إليها. قال أبو الطّيب:

         فوق السّماء، وفوق ما طلبوا            فإذا أرادوا غاية نزلوا

 

و قال حبيب:

         مكارم لجّت في علوّ كأنّما            تحاول ثأرا عند بعض الكواكب

 

لا يمتري اثنان أنّه عليه السّلام هو في القمّة من كلّ نواحي الكمال، من العلم والشّجاعة والفصاحة والصّباحة وما يستأهل به للخلافة دون غيره، وأنّه في الرّفعة ما لا يطمع فيه طامع، ولئن كان المثل المذكور يضرب به في الرّفعة لغيره مجازا وتوسّعا، ففيه عليه السّلام واقع موقعه الحقيقيّ، بل لا مساغ لسواه. ويريد عليه السّلام بذلك: التّفرّد بالمؤهّلات للخلافة، وأنّ من عداه مهما كان نوعه فاقد لها، غاصب للمنصب.

و العجب من المعتزليّ مع خبرته بأساليب الكلام، كيف أهمل هذه‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 571

النّاحية وما الّذي حمله على تأويل ما هو الصّريح في الاغتصاب للخلافة حكّم عقلك. ثم قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى‏ ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ. وقد نصّ على أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الغدير وما جاء عنه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم من تصريح بلفظ الخليفة فيه، وأنّه منجز عدّته، ووصيّه من بعده. والنّصوص على الأئمّة من ولده المعصومين عليهم السّلام.

201-  اليمين والشّمال مضلّة

في خطبة له عليه السّلام لمّا بويع بالمدينة: «شغل من الجنّة والنّار أمامه. ساع سريع نجا، وطالب بطي‏ء رجا، ومقصّر في النّار هوى.

اليمين والشّمال مضلّة، والطّريق الوسطى هي الجادّة، عليها باقي الكتاب وآثار النّبوّة، ومنها منفذ السّنّة، وإليها مصير العاقبة هلك من ادّعى. وخاب من افترى».

------------------------------------------------------------------- صفحة 572

و نقل المعتزليّ من كتاب (البيان والتّبيين) بلفظ: «ألا لا يرعينّ مرع إلّا على نفسه. شغل من الجنّة والنّار أمامه. ساع مجتهد ينجو، وطالب يرجو، ومقصّر في النّار ثلاثة. واثنان: ملك طار بجناحيه، ونبيّ أخذ اللَّه بيده لا سادس. هلك من ادّعى، وردي من اقتحم. اليمين والشمال مضلّة، والوسطى الجادّة منهج عليه باقي الكتاب والسّنّة وآثار النّبوّة...» إلى نهاية الخطبة. قوله عليه السّلام: «شغل من الجنّة والنّار أمامه» يفسّره ما في خطبة أخرى: «ألا إنّي لم أر كالجنّة نام طالبها، ولا كالنّار نام هاربها». قال الشّارح: يقول إنّ من أعجب العجائب من يؤمن بالجنّة، كيف يطلبها وينام ومن أعجب العجائب من يوقن بالنّار، كيف لا يهرب منها وينام: أي لا ينبغي أن ينام طالب هذه، ولا الهارب من هذه. والمراد من الشّغل: الطّلب لموجبات الدّخول في الجنّة، والهرب عمّا يستوجب به النّار، لمن أيقن بحشر ونشر، وجنّة ونار.

ثمّ الطّوائف الأربع في الخطبة الثّانية أو الثّلاث في الأولى بيان لموضع الموجبات والمستوجبات لدخول الجنّة أو النّار: السّاعي السّريع النّاجي، والطّالب البطي‏ء الرّاجي، والنّبيّ الآخذ بيده اللَّه عزّ وجلّ، والمقصّر الخاسر الهاوي في النّار وأمّا الملك الطائر بجناحيه لا إيجاب ولا

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 573

استيجاب فيه، لعدم التّكليف الشّرعيّ عليه، حتّى تكون له المثوبة بالطّاعة أو العقوبة بالعصيان.

و أمّا قوله عليه السّلام: «اليمين والشمال مضلّة»: أي محلّ الإضلال والضّلال، «ففي كلّ شي‏ء هما متصوّران من العقائد، والعبادات، والأخلاقيّات، والمعاملات، والسّياسات، والعادات المتداولة بين النّاس، وفي الأحكام العقليّة، وغيرها ممّا يتصوّر فيه الإفراط والتّفريط، والحدّ الوسط الّذي هو خير الأمور، كما جاء في النّبويّ: «خير الأمور أوساطها». وقد كتبت كتب حول هذه الأنواع لبيان المحبوب منها والمبغوض، ولم تنزل الكتب السّماويّة، ولا أرسلت الرّسل بها إلى النّاس، إلّا وقد جاءت بالبيان الكافي، ناهية عمّا فيه أيّة مفسدة، وآمرة بما فيه المصلحة على ما سلكه أهل العدل، وفي مقدّمتهم الإماميّة الإثنا عشريّة. فتجد الإمام عليه السّلام طبقا للكتاب الكريم والسّنّة الشّريفة يعبّر عمّا هو المطلوب والمرضيّ عند اللَّه عزّ وجلّ بالجادّة الوسطى، وعمّا هو المبغوض عند اللَّه تعالى باليمين والشّمال اللّذين هما موضع الضّلال والإضلال وإلى ما لهما من آثار سيّئة في الدّارين.

و طبّق جمع اليمين والشّمال على دولتي الشّرق والغرب، والوسط الوسطى، والعقل قاض بالتّطبيق بعد المعرفة الكافية بالشّرائع السّماويّة

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 574

على كلّ من انحرف عنها مهما كان قطره، من شرق أو غرب أو غيرهما، بعد ما كان سبيل الحقّ واحدا، كما قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. فسبيل الحقّ واحد، وما سواه كثير، وفي قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ بيان للطّريق الواحد المطلوب، وتحذير عن الطّرق الباطلة الكثيرة.

ففي نبويّ: «خطّ خطّا، ثمّ قال: هذا سبيل الرّشد. ثمّ خطّ عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال-  صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-  هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثمّ تلا: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ. وآخر: «ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحدة ناجية والباقية في النّار».

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 575

202-  يوهي الصّمّ الصّلاب

في خطبة له عليه السّلام: «كلامكم يوهي الصّمّ الصّلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء. تقولون في المجالس: كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد...». تكلّمنا عن المثلين: «كيت وكيت»، و«حيدي حياد». قوله عليه السّلام: (يوهي) من الوهي يدلّ على ضعف واسترخاء، وشقّ، ومنه المثل:

         خلّ سبيل من وهى سقاؤه            ومن هريق بالفلاة ماؤه‏

 

يضرب لمن لا يستقيم أمره. والنّبويّ: «المؤمن واه راقع»: أي مذنب تائب، شبّه بمن يهي ثوبه فيرقعه.

   

-------------------------------------------------------------------صفحة 576

قال ابن فارس: يدلّ على استرخاء في شي‏ء. يقال: وهت عزاليّ السّحاب بمائه. وكلّ شي‏ء استرخى رباطه فهو واه والشّقّ في الأديم وغيره. قوله تعالى: فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ. أي ضعيفة جدّا. والمعنى: أنّها واهية مسترخية، ساقطة القوّة بانتقاض بنيتها بعد إذ كانت مستمسكة محكمة. ذكره الشّيخ الطّريحيّ، وقد تناول الحديث النّبويّ أيضا، فراجع. و(الصّمّ) واحدة الأصّم، ومنه الحجر الأصمّ: الصّلب المصمت.

و يوصف به الجبل، وصمام كقطام: الدّاهية، ومنه المثل: (صمّي صمام): أي زيدي يا داهية. و(الصّلاب) جمع الصّلب: الشّدّة والقوّة. قال:

         وماؤكما العذب الّذي لو شربته            وبي صالب الحمّى إذا لشفاني

 

قال الشّارح المعتزليّ: يقول لهم الإمام عليه السّلام: أبدانكم‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 577

مجتمعة، وأهواؤكم مختلفة، متكلّمون بما هو في الشّدّة والقوّة، يوهي الجبال الصّمّ الصّلبة، وعند الحرب يظهر أنّ ذلك الكلام لم تكن له ثمرة. ذمّهم الإمام عليه السّلام على نفاقهم حيث يقولون بما لا يفعلون، والخطاب لا يخصّ أصحابه فحسب، بل كلّ من كان على صفتهم شمله الذّمّ وقد وبّخ اللَّه عزّ وجلّ المؤمنين غير العاملين بما يقولون في آي من القرآن الكريم منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. وطبعا إذا اطّلع العدوّ على أنّ خصمه لا يجاوز قوله فعله، طمع فيه، وأقدم على إبادته، فأصبح مقهورا، والعدوّ قاهرا فحذّرهم عليه السّلام أن يكونوا كذلك، وكم قال لهم مثل ذلك، فلم يتحذّروا، وأدّبهم بسوطه، فلم يتأدّبوا لو كانوا يعلمون من هو المحذّر هو الّذي شرّفت به مكّة ومنى، وزمزم والصّفا، صاحب الحوض وحامل اللّواء، البائت على فراش النّبيّ، ومفديه بنفسه من الأعداء، قالع باب خيبر والدّاحي به في الفضاء، مكلّم الفتية في كهفهم بلسان الأنبياء، قالع الصّخرة وقد عجز عنها الرّجال الأشدّاء، مظهر العجائب أسد اللَّه الغالب ذلك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 578

هذا ما أردناه من أوّل الغيث قبل الانسكاب من سماء نهج البلاغة نهج العلم والعمل كما قال القائل:

         نهج البلاغة نهج العلم والعمل            فاسلكه يا صاح تبلغ غاية الأمل‏

         كم فيه من حكم بالحقّ محكمة              تحيي القلوب ومن حكم ومن مثل‏

         ألفاظه درر أغنت بحليتها                  أهل الفضائل من حلي ومن حلل‏

         ومن معانيه أنوار الهدى سطعت          فانجاب عنها ظلام الزّيغ والزّلل‏

         وكيف لا وهو نهج طاب منهجه          أهدى إليه أمير المؤمنين علي‏

         وما قاله المرتضى مرتضى               كلام عليّ كلام علي

 

و اللَّه عزّ وجلّ نسأل أن ينهج بنا نهج محمّد وآل محمّد الكرام صلّى اللَّه تعالى عليهم وسلّم، وأن يفرّج عن الإمام المهديّ الموصوف في النّصوص، منها الرّضويّ: «... بأبي وأمّي سميّ جدّي، شبيهي وشبيه موسى بن عمران عليه السّلام‏

 

------------------------------------------------------------------- صفحة 579

عليه جيوب النّور تتوقّد بشعاع ضياء القدس...». وأن يجمعنا معهم في دار السّلام، وآخر دعوانا: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.