معارج ‏نهج ‏البلاغة

 

علي بن زيد البيهقي فريد خراسان‏

 

 

اسم‏الكتاب: معارج ‏نهج ‏البلاغة

المؤلف: علي بن زيد البيهقي فريد خراسان‏

الموضوع: شروح نهج البلاغة ‏وتعليقات‏

القطع: وزيري‏

عدد الصفحات: 539

الناشر: مكتبة آيةالله المرعشي ‏النجفي ‏العامة

سنة النشر: 1409

الطبعة: الأولى‏

مكان‏الطبع: قم‏

الناشر: علي بن زيد البيهقي فريد خراسان‏

عصرالمولف: السادس‏

المذهب: شيعي‏

المصحح: محمد تقي ‏دانش‏پژوه‏

إعداد نسخة الكتروني: متين الأنطاكي – موقع الغدير

www.elgadir.com

تنبيه: موافق للمطبوع

---

الفهرس الاجمالي

مقدمة المؤلف – 1

شرح خطبة الكتاب - 20

باب المختار من الخطب - 32

رسائل أمير المؤمنين عليه السلام - 367

باب المختار من حكمه  - 397

فصل في تتمة الكتاب - 467

 

---------------------------------------------------------------

صفحة 1

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ثقتى باللّه تعالى (1) الحمد للّه الّذى حمده يفيض شعاب العرفان ومسايله، ويجمع شعوب الاجر الجزيل وقبايله، ونعمه عمّت الامم، وكشفت الهموم ورفعت الهمم، ولطفه مشرق الجوّ مغدق النوّ، ومواهبه تردّ طرف الشكر حسيرا كليلا، وتكثر حتّى صار كلّ كثير بالنسبة اليها قليلا. وكفى به هاديا ووكيلا، ورحمته توالت كتوالى القطار، واتّسعت كاتّساع البحار.

(2) احمده حمدا يفيق اناه من جانبيه طفاحا، وينشل بلسان الحال للحامد: «الا انعم صباحا»: واذا كفحت وجوه الاحرار جمرات مكايد الاشرار، هبّ من مشارق الطافه نسيم يصحبه روح وريحان ونعيم مقيم. ومن استشاط حمام خاطره، وحمل على غبر إظهر بيان ما فى ضمايره، صيّر فضل اللّه تعالى عيون الصّروف عنده مخفوضة، وايدى النوايب عنه مقبوضة.

(3) ثم اشكر نعمه الظاهرة والباطنة شكرا تشاربت اشجاره من عصير غدران اليقين، وتبرّجت وهاده فى اثواب الدين المتين، لا بل شكرا يفترش الشاكر فى بيانه لسانا تهاميّا، ويقول قولا حذاميّا. واعالج بشكره وحمده اذا بدا في اراضى الأمانى زلزالها، خماشات ذحل لا يرجى اندامالها. واذا نوّر قلبى من مشارق توحيده شعاع الكسف، القيت دلوى في عليم من العيالم الخسف. واذا صرت علقة فى ارحام النجايع مضغة فى لهوات القطايع، سرت حميّا عرفانه فى عروقى واعصابى، وزالت عنّى بذكره قوارص آلامى واوصابى، وافتح فى رياض صنايعه طرفا هو بعود الاعتبار مكحول، واتلبّس بردا هو برشاش الاستكانة والتعبّد مبلول.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 2

(4) ثمّ اصلىّ على محمد المصطفى الّذى رهيأت سحائب نبوّته فى مشارق الارض (3 ر) ومغاربها، وتلألات انوار شريعته تلالو النجوم فى رحائب النجوم، الذى من تبعه فقد فاز قدحه، وحضر نجحه وساعته فى دينه ودنياه، وارتفع شأنه فى الدارين لعقر الهاجرىّ اذا بناه، مورد نبوّته للعالمين مصفوف، وله، عليه السلام، على حقايق الاشياء بالوحى الالهىّ وقوف، وصارت ظلال شريعته على قمم الايّام مبسوطة، وآمال طلّاب النجاة بساحته منوطة. فعليه من اللّه صلوة تتردّد تردّد خطرات الافكار، وتكرّر تكرّر لحظات الابصار، مدّ الازمان والاعصار.

(5) وعلى اصحابه الصّدّيق، والفاروق، وذى النّورين، والمرتضى، تحيّات لا تزجى على شرفها سجوف، ولا يعترض لشموسها وبدورها كسوف وخسوف، ما سافر مسافر فى السهول والجبال، مسافرة شوارد الامثال.

(6) قال الشّيخ الامام السيّد حجة الدين فريد خراسان ابو الحسن بن الامام ابى القاسم بن الامام محمد بن الامام ابى على بن الامام ابى سليمن بن الامام ايّوب بن الامام الحسن، والامام الحسن، كان مقيما بسيوارى فى ناحية بالشتان من نواحى بست، وهو الامام الحسن بن احمد بن عبد الرحمن بن عبيد اللّه بن عمر بن الحسن بن عثمان بن ايوب بن خزيمة بن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت ذى الشهادتين، صاحب رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، ويعرف بأبي الحسن بن بي القسم البيهقى المقيم بنيشابور، حماها اللّه، قرأت كتاب نهج البلاغة على الامام الزاهد الحسن بن يعقوب بن احمد القارى، وهو وابوه فى ملك الادب قمران، وفى حدايق الورع ثمران، فى شهور سنة ست عشرة وخمسمائة، وخطّه شاهد لى بذلك، والكتاب سماع له عن الشيخ جعفر الدّوريستّى المحدّث (3 پ) الفقيه، والكتاب باسره سماع لى عن والدى الامام ابى القاسم زيد بن محمد البيهقّى، وله اجازة عن الشيخ جعفر الدّوريستّى، وخطّ الشّيخ جعفر شاهد عدل بذلك، وبعض الكتاب ايضا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 3

سماع لى عن رجال لى، رحمة اللّه عليهم، والرّواية الصحيحة فى هذا الكتاب رواية الى الاغرّ محمد بن همام البغدادىّ تلميذ الرّضىّ، وكان عالما باخبار امير المؤمنين، عليه السّلم.

(7) فصل وها انا ذا اقول هذا الكتاب النّفيس مملوّ من الفاظ يتهذّب بها المتكلّم، ويتدرّب بها المتكلّم فيه من القول احسنه ومن المعانى ارصنه، كلام احلى من نغم القيان، وابهى من نعم الجنان، كلام مطلعه كسنة البدر، ومشرعه مورد اهل الفضل والقدر، وكلمات وشيها خبر، ومعانيها فقر، وخطب مقاطعها غرر، ومباديها درر، استعاراتها تحكى غمرات الالحاظ المراض، ومواعظها تعبّر عن زهرات الرّياض، جمع قايل هذا الكلام بين تصريع بديع، وتحنيس انيس، وتطبيق انيق.

(8) فلله درّ خاطر عن مخايل الرّشد ماطر، وعين اللّه على كلام امام ورث الفضايل كابرا عن كابر، ولا غر وللروض الناضر اذا انهلّت فيه عزالى الانواء ان يخضرّ رباه ويفوح ريّاه، ولا للسّارى فى مسالك نهج البلاغة ان يحمد عند الصبّاح سراه، ولا لجميل قداح الطهارة اذا صدّقه رايد التوفيق والالهام، ان يفوز بقدحى المعلّى والرّقيب، ويمتطى غوارب كلّ حظّ ونصيب.

(9) ولا شكّ انّ امير المؤمنين علىّ ابن ابى طالب، عليه السّلم، كان باب مدينة العلوم، فما نقول فى سقط انفضّ من زند خاطره الوادى، وغيض بدا من فيض نهره الجارى، لا بل فى شعلة من سراجه الوهّاج، وغرفة من بحره الموّاج، وقطرة من سحاب علمه الغزير، ولا نبّئك (4 ر) مثل خبير.

(10) والسيّد الامام الرّضىّ، رحمه اللّه، ناظم تلك العقود وقاطف هذا العنقود، خلف أقرّ اللّه بفضله عيون جدّه، عليه السّلام، ووالده، وفاز بطارف المجد وتالده، والعوان لا تعلّم الخمرة، ومن غذّاه لبان الامارة احسن الامرة، ومن اقتدى بجدّه وابيه مكدت ركايا معاليه، وما ضعفت‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 4

روايا مساعيه، وكان علم العلم به خافقا، ونهى النّهى دافقا، وقصّ اعناق الجهالة، وطمس ما تبّدى من آثار الضّلالة، واجتنى جنى النخل رطيبا، واستنشق من العنبر الشّحرىّ النيّة والمسك الدارىّ والعود القمارىّ طيبا، وكفى باللّه حسيبا. ومن كان النبىّ، صلّى اللّه عليه وآله، له جدّا، يظهر بحر فضايله مدّا، ويتّخذ عند الرحمن عهدا. وركب مركبا، الفضل عنانه، والورع ميدانه، والحسب سرجه، والشّرف لجامه، والمجد لببه، والكرم حزامه، وكان جنابه مشرق النّجم، مورق الغصن، ناضر النّجم. وكان فيما مضى ناجتنى السنة اللّيالى بالاعتذار من ذنوبها، وبيّضت سود خطوبها، فالان رزقي مثل رزق الاخانة، وسماء سوادى ترسل علّى صفيع الاهانة.

(11) وانا اقول اللّهمّ اجعل مانا بنى تهذيبا لا تعذيبا، وتمحيصا لا تنقيصا. فقد بلغ السيل الرّبى، وتابّى تحمّل تلك الاعباء بنات لببى.

و السلام على من اتّبع الهدى، ما هبّ نسيم الصبا، وذكر عهد الصبى.

(12) فصل. ولم يشرح قبلى من الفضلاء السابقين هذا الكتاب بسبب موانع منها: من كان متبحّرا فى علم الاصول، كان قاصرا فى علم اللغة والامثال، ومن كان كاملا فيهما، كان غافلا عن اصول الطّب والحكمة وعلوم الاخلاق، ومن كان كاملا فى جميع هذه العلوم والآداب، كان قاصرا فى التواريخ وايام (4 پ) العرب، ومن كان كاملا فى جميع ذلك، كان غير معتقد لنسبة هذا الكلام الى امير المؤمنين، عليه السّلام. ومن حصلت لديه هذه الاسباب، لم يفز بذخاير كنز[ه‏] الدقيق. فانّ التوفيق كنز من كنوز اللّه يختصّ به من يشاء من عباده.

(13) وانا المتقدّم فى شرح هذا الكتاب، فمن اراد الزيادة على ذلك، فليزد، ان استطاع، مثل مخرنبق لينباع.

(14) واعلم انّ المتقدّم يستخرج الخفىّ، والمتأخّر يستنهج‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 5

الجلىّ. ومستخرج الخفىّ لا يكون كمستنهج الجلىّ، بل المتقدّم كالبانى والمتأخّر كالجصّاص. والمتقدّم كما قال الشاعر:

         قد كنت خراجا ولوجا صيرفا   ***   لم تلتحصنى حيص بيص لحاص‏

 

(15) وقد دعائى بعض الافاضل من اصدقائى الى شرح الفاظ نهج البلاغة، فقلت: لى خاطر كليل، جلده لا يصلح للدّباغة، واين برة القنفذ من الرّبيط، والدّارى من الّذى القى ساعة بصحراء الغبيط، واين ابو تمرة من مالك الحزين، وسورة الاخلاص من سورة يس. وفى دهرى من هو اولى منّى بذلك التّصنيف. فقد انتهى فصل ربيعى الى منتهى الخريف، باىّ آلة احارب، وقد قسمت الغنايم، وباىّ عذر اتمكّن وقد اسبل من تحت العروش لدّعايم. امّا الشّيب فقد تفحّم واديه، وامّا الامل فله جواد يعتقد ارضه بسمائه هاديه، واسواق الحرص مغتّصّة بالهواجس، مختصّة بالوساوس، ودون عليّان خرط القتاد، واللّه تعالى لكلّ واحد منّا بالمرصاد. وما بيننا وبين انقضاء المدّة الا ثلث مآرب، وعن قريب يفارق الاديم الشّواطب، والمكّواة لا يرحم مفاصل كلّ غير، والصيداوّىّ لا يردابل زهير.

(16) ومن قبل التمس منّى الامام السعيد جمال المحقّقين ابو القسم على بن الحسن الحونقىّ النيسابورىّ، رحمه اللّه ان اشرح كتاب نهج البلاغة شرحا، واصرح اقداء الالتباس عن شربه صرحا، فصدّنى (5 ر) الزمان عن اتمامه صدّا، وبنى بينى وبين مقصودى سدّا. وانتقل ذلك الامام الزّاهد الورع من لجّة بحر الحياة الى الساحل، وطوى من الحسن جميع المراحل، وودّع افراس المقام فى دار الدنيا مع الرّواحل. وكلّ انسان، وان طال عمره فان، وكان ذلك الامام قارعا باب العفاف، قانعا من دنياه بالكفاف، رحمة اللّه عليه.

(17) وبعده فاضل من افاضل الزّمان، الّذى خيّم الالهام فى لبّه، والصّواب فى قلبه، وله فى الفضل والزّهد عرق، ومن الحسن والاحسان خلق و

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 6

خلق، يبتهج بالسّعى المشكور والعمل المبرور، وذلك من عزم الامور، فى اثناء المحاورة حرّك بسبب اتمام هذا الكتاب حوار خاطرى ليحنّ، وانا انشد لطبعى باكر واناصك فاكنان فتبرّكت بانفاسه، واقبلت على اتمام هذا الشرح اقبال الدّهقان على غراسه.

(18) واقول: لكلّ قوم رسوم، ولكلّ امّة كتاب مرقوم، وما منّا الا له مقام معلوم. وكيف اتحمّل اعباء هذا الشرح، وانتهى يومى الى وقت العصر، ووقعت لي كما للنّملة عقده على الخصر. ومع ذلك فانا اطلب من الزّاد الاعلاث، واقول قف بالطّلول الدّراسات علاث، وامعزت شاة الانصاف والسبب عيسى بالاسياف، وليس الرّىّ من التّشّاف.

(19) وبعض الافاضل من بيهق ظنّ بسبب اعراض الفضلاء عن شرح هذا الكلام [انّه‏]، غير مقدور لواحد من الانام، واذا تطرّق التفسير والتّأويل الى كلام اللّه تعالى، فما ظنّك بكلام مخلوق. قال اللّه تعالى فيه: وخلق الانسان ضعيفا. ومن لا يقدر على شى‏ء، ظنّ غيره مثله. والانصاف هو الحكم العدل.

(20) وانا الضّامن شرح كلّ مشكل فى هذا الكتاب من طريق المنقول والمعقول على المذهبين، ولا يخفى نور النّهار على ذى عينين، وجهد المقلّ خير من عذر المخلّ.

(21) وخدمت (5 پ) بهذا الكتاب خزانة كتب الصدّر الاجلّ السّيد العالم عماد الدولة والدّين جلال الاسلام والمسلمين، ملك النّقباء فى العالمين، ابى الحسن على بن محمّد بن يحيى بن هبة اللّه الحسينيّ، فانّه جمع فى الشّرق بين النّسب والحسب، وفى المجد بين الموروث والمكتسب، اذا اجتمعت السادة فهو نقيبهم وامامهم، واذا ذكرت الأئمّة والعلماء فهو سيّدهم وهمامهم. وإذا اشير الى اصحاب المناصب، فهو صدرهم، واذا عدّ ارباب المراتب، فهو فخرهم. فابقاه اللّه تعالى للسّادات والعلماء صدرا، ما

 

---------------------------------------------------------------

صفحة 7

صار الهلال بدرا. وهذا كأنّ المتنّبى عناه بقوله.

         اذا ما العالمون اتوك قالوا   ***   افدنا ايّها الصدر الامام‏

         اذا [ما] المعلمون راوك قالوا   ***   بهذا يهزم الجيش اللّهام‏

         لقد حسنت بك الاوقات حتّى   ***   كأنّك فى فم الزّمن ابتسام‏

         واعطيت الّذى لم يعط خلق‏   ***   عليك صلوة ربّك والسّلام‏

 

(22) فصل وانشدنى الامام الحسن بن يعقوب لوالده الاستاد الامام يعقوب فى وصف كتاب نهج البلاغة.

         نهج البلاغة نهج مهيع جدد   ***   لمن يريد علوما ماله امد

         يا عادلا عنه تبغى بالهوى رشدا   ***   اعدل اليه ففيه الخير والرّشد

         واللّه واللّه ان التّاركيه عموا   ***   عن شافيات عظات كلّها سدد

         كأنّها العقد منظوما جواهرها   ***   صلّى على ناظميها ربّنا الصّمد

         ما حالهم دونها ان كنت تنصفنى   ***   الّا العنود والّا البغى والحسد

 

 

(23) وانشدنى الامام الحسن بن يعقوب لنفسه مقتديا بوالده، رحمهما اللّه:

         نهج البلاغة درج ضمنه درر   ***   نهج البلاغة روض جاده درر

         نهج البلاغة وشى حاكه صنع‏   ***   من دون موشيّه الدّيباح والحبر

         وجونه ملئت عطرا اذا فتحت   ***   خيشومنا فغمت ريح لها ذفر

         صدقتكم سادتى والصّدق عادتنا   ***   وانّه خصلة ما عابها بشر

         صلّى اللاه (6 ر) على بحر غواربه   ***   رمت به نحونا ما لألأ القمر

 

(24) واقتدى بهما الشيخ الامام على بن احمد الفنجكردىّ شيخ الافاضل ومقدّمهم، وقال:

         نهج البلاغة من كلام المرتضى   ***   جمع الرضىّ الموسوىّ السيّد

         بهر العقود بحسنه وبهائه‏   ***   كالدّر فصّل نظمه بزبرجد

         الفاظه علوّية لكنّها   ***   علويّة حلّت محلّ الفرقد

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 8

         فيه لارباب البلاغة مقنع   ***   من يعن باستظهاره يستسعد

         نعم المعين على الخطابة للفتى‏   ***   فيه الى طرق الكتابة تهتدى‏

         واجلّ يعقوب بن احمد ذكره   ***   بعلوّ همّته وطيب المحتد

         ودعا اليه مخلصا اصحابه‏   ***   فعل الحنيفىّ الكريم المرشد

         ثم ابنه الحسن الموفّق بعده   ***   فيه لسنّته المرضيّة مقتدى‏

         كم نسخة مقروّة حصلت به‏   ***   مسموعة لاولى النّهى والسؤدد

         يا ربّ قرّبّه وبيّض وجهه   ***   واحشره فى رهط النبىّ محمّد

 

(25) وقال السيد الامام كمال الدين اوحد العترة ابو الحسن على بن محمد العلوّى الزيارة فى هذا الكتاب والمصنف.

         يا من تجاوز قمّة الجوزاء   ***   باب مجيد للعدى ابّاء

         زوج البتول اخ الرّسول منابذ   ***   الكفار دامغ صولة الاعداء

         متشبّث بعرى التّقى معروفة يمناه   ***   بالاعطاب والاعطآء

         ذى عزّة قمرّية وعزيمة رضو   ***   يّة وسجيّة ميثآء

         قد طلّق الدّنيا بلا كره   ***   ولم تغترّ بالصّفراء والبيضاء

         لو لم يكن فى صورة بشريّة   ***   ما كان يدعى من بنى حوّاء

         نهج البلاغة من مقالته الّتى   ***   فيها تضلّ قرايح البلغاء

         كم فيه من خطب تفوح عظاتها   ***   كالروض غبّ الديمة الوطفاء

         اهلا بشارحها الامام المرتجى   ***   صدر الافاضل كعبة العلماء

         فهو الفتى كلّ الفتى بل لا فتى‏   ***   الّاه اطباقا من الفضلاء

         هيهات لست اقيس ذا فضل به   ***   او هل يقاس النّهر بالداماء

         من هزّه لملمّة فكانّما هزّ   ***   الحسام العضب فى الهيجاء

         قد نال بالقصب [6 پ‏] المعلّف حدّه   ***   ما لم ينل بالصعدة السّمراء

         لم يبق فى قوس الفصاحة منزعا   ***   الّا وانبضه بلا ابطاء

         فاذا ترقّى المنبر اهتزّت به   ***   اعواده وكساه برد بهاء

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 9

         يجلوا كما تجلوا القنور سيوفها   ***   صدأ القلوب بحكمة غرّاء

         ويهزّ عذب لسانه كالحيّة   ***   النّضاض تشكوا حدّة البيداء

         حتى اذا حمى الوطيس ترقرقت   ***   عبراتنا وانعطّ كلّ رداء

         كم من فواد تستلين بوعظه‏   ***   ولو انّه كالصخرة الصّماء

         يا حجة الدين الّذى اوفى على قمم   ***   العلى والسنّ فى الفلواء

         يا نور وض بلاغة يا نور عين‏   ***   فصاحة يا جمر نار دهاء

         لولاك لم يشرح كلام المرتضى   ***   احد من البلغاء والفصحاء

         فسّرته ولنعم ما فسّرته‏   ***   فجزاك عند اللّه خير جزاء

         لمّا عثرت على فصوص فصوله   ***   ايقنت انّ المرء نار ذكاء

         كم فيه من نكت يسّر بهائنا   ***   وتسلّ عنّا بزّة الغمّاء

         فلتبق فى دست الامامة ساحبا   ***   بردين برد غنى وبرد غناء

         اقسمت بالبيت العتيق وبالصّفا   ***   والركن والاستار والبطحاء

         انى امرؤ رحب الذّراع علاة   ***   لا يرضى بان يدعى من الشعراء

         لكن دعاه نحو مدحك فضلك‏   ***   السّارى مسير الشمس فى الارجاء

         انت الذى شهد العداة بانّه   ***   فى الفضل منفرد عن الاكفاء

         او دعت قلبك حبّ آل المصطفى‏   ***   وعصمت ساحتهم من الآسواء

         انّى لاعضل عن سواك عقايلى   ***   والفضل والعلياء من شهداء

         خذها اليك نفاثة من مغرم بالفضل‏   ***   ازهر من بنى الزهراء

         وافخر به فلطال ما افتخرت به   ***   صيد الملوك وسادة النقباء

         وبقيت لى ما دام ينشد منشد   ***   رغم الغراب منبى الانباء

 

منشى‏ء هذه الابيات تلميذه ابو الحسن على بن محمد العلوى الزّبارة.

(26) فصل وقد حكى عن بعض الفضلاء انه قال: لا فرق فى الفصاحة والبلاغة بين خطبة الكتاب التى هى من انشاء الرضى وبين متن الكتاب الذى هو منسوب الى امير المؤمنين على بن [7 ر] ابى طالب،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 10

(27) وقال بعض الرواية: انا اصحّح بالاسانيد بعض هذه الخطب واقرّر انّها من كلام الصحابة لا من كلام امير المؤمنين، عليه السلام، ولا منازعة معه فى ذلك، بعد ما صحّح دعواه ببراهين الاسانيد الصحيحة.

(28) وقال بعض البلغاء ان الخطبة التى هى من انشاء الرضى نثر كالبحر او ادقّ، ولفظ اصفى بين المآء او ارقّ، فهى خطبة كالروضة الانيقة، والمجدّرة الرشيقة، لا بل كحديقة تفتّحت احداق وردها، وخريدة تورّدت اشجار خدّها واذا كان الامر كذلك، فلا وثوق بان الكلامات الفصيحة التى فى هذا الكتاب غير منسوبة الى نسايج خواطر الرضى، ونتايج ضمايره، والبليغ ربما يضيف كلامه الى غيره، ليفوز بالقبول والاقبال والاشتهار فى المدن والامصار، والنواحى والاقطار.

(29) وانا اقول ما ظنّك بكلام علىّ بن ابى طالب امير المؤمنين عليه السّلام، وهو كلام اذا لحظه الطّرف، رأى حقايق العلم المكنون، واذا تصفّحه الخاطر جنى ثمرات السرّ المخزون.

(30) حتّى قال عمر بن بحر الجاحظ: وددت انى اعطيت جميع مصنّفاتى، وقطعت انسابها عنّى، واخذت بدلها ثلث كلمات منسوبة الى على ابى طالب، عليه السّلم وصارت منسوبة الىّ.

(31) ومن عجب الجاحظ بتصانيفه انّه قيل له: هل لك ضيعة بالبصرة: فقال: وما حاجتى الى الضيّعة، وقد خرجت من البصرة ومعى غلام وحمار، فحسب. فاهديت كتاب البيان والتبيين الى ابن ابى داود، فاعطانى خمسة الف دينار، واهديت كتاب النخل والزرع الى محمّد بن عبد الملك الزيّات، فاعطانى خمسة الف دينار، واهديت كتاب طبايع الحيوان الى ابراهيم بن العباس الصولى، فاعطانى (7 پ) الف دينار، فانصرفت الى البصرة ومعى ضيعة لاخراج عليها ولا سروله.

فمن كان حظّه من تصانيفه هذا الحظّ اذا اعترف بانّ ثلث كلمات‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 11

لامير المؤمنين، عليه السلام، يزيد على جيع مصنفاته، فهل يعترض ريب لمن دونه فى الرّتبة فى كلماته وخطبه واشاراته.

(32) واقول: دلايل جودة الكلام المنثور عند العرب الترصيع، مثاله عاد تمريضك تصحيحا، وتعريضك تصريحا. والتضريس ضد الترصيع، وهو دليل ردّات الكلام وهو كلام لا يتشابه مقاطعه ومباديه لكلام العّامة.

(32) واوّل من راعى شرايط النثر فى كلامه من العرب ابن مروة الابيارىّ، وهو اوّل من استعمل الترصيع فى كلامه، ولم يوجد فى كلامه من الترصيع غير ما وجد فى كلام امير المؤمنين، عليه السّلام.

(33) ومن دلايل جودة الكلام الاشتقاق، وهو فى النثر كالمجانسة فى الشعر. مثال ذلك: طبع غير طبع وقريحة غير قريحة وجارحة غير جريحة.

(34) ومنها المضارعة مثال ذلك خصصتنى بل خسستنى.

(35) والتبديل وهو فى كلام امير المؤمنين، عليه السّلم، اكثر من ان يحصى. مثال ذلك اغنني بالفقر اليك، ولا تفقرنى بالاستغناء عنك.

(36) والمكافات وهو فى النثر شبه المطابقة فى النّظم.

(37) والاستعارة مثل قول العرب خمدت نار الفتنة، ووضعت الحرب اوزارها.

(38) والتتميم وهو ذكر جميع المعانى التى بها تتمّ جودة الكلام.

مثاله: شدّة فى غير عنف، لين من غير ضعف.

(39) والمقابلات وهى مراعاة الاضداد والاشكال، كالأب والابن، والابيض والاسود، والليل والنهار، والاعداد والجهات.

(40) والفساد [فى‏] المقابلات، خلط هذه الاشيآء بعضها ببعض.

(41) والتقسيم وهو استيفاء الاقسام كلّها. مثاله: اما حىّ فيوحى واما ميّت فينسى.

(42) وفساد التقسيم اما الاخلال بقسمة من الاقسام، (8 ر) كقول‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 12

القايل فلان امّا بصرى وامّا كوفى، وهذا تقسيم فاسد، لانه ربما كان بغداديّا غير كوفّي وبصرىّ.

و اما التكرار، كقول القائل فكّرت تارة فى صرفك، وتارة فى عزلك، وتارة فى تقليد غيرك.

(43) والارداف وهو ان يدلّ على معنى يلزمه معنى آخر. كقول القايل: فلان لا يخمد ناره، وفلان كثير الرّماد، لمطعم الناس، وفلان لا يطير الذّباب فى مطبخه، للبخيل الّذى لا يطعم احدا.

(44) ومن عيوب الكلام التكرار، وهو اعادة الكلام لفظا ومعنى، وذكر حروف الصلات والادوات من غير احتياج اليها.

(45) ومن عيوب الكلام الانتقال، وهو أن تذكر لفظا يقتضى جوابا فتعدل عن الجواب الى لفظ آخر. مثال ذلك: من اقترف ذنبا، لزمه ما جناه.

و الأولى ان يقول: لزمه ما اقترف.

(46) ومن دلايل البلاغة المساواة. وهى ان يكون الالفاظ كالقوالب للمعانى، لا يزيد عليها ولا ينقص عنها.

(47) ومن دلايل البلاغة الاشارة، وهى ان يدل بلفظ وجيز على معنى كثيرة، كما قال الشاعر فى مدح بليغ فيوجز، لكنه لا يخلّ، ويطنب لكنّه لا يملّ.

(48) ومن دلايل البلاغة الاشباع، وهو ان يدل على معنى واحد بالفاظ مترادفة.

(49) ومن دلايل البلاغة الموازنة، وهى ان يكون اواخر الالفاظ يوازن بعضها بعضا.

(50) وهذه الوجوه مذكورة فى كلام امير المؤمنين، عليه السلام.

(51) ومادّة البلاغة اللغة والاشعار والامثال والحكايات وآداب النفس، وصورتها القراين والالفاظ المفيدة للمطلوب.

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 13

(52) فكيف تقابل كلام الرضى، رحمه الله، الذى هو خليج من بحره، وشعاع من بدره، ومن اين للسّراب صفو الشّراب، وللضّباب قطار السحاب، وللسّراج نور البدر، وللنهر حباب البحر، وللعصافير طيران العنقاء، وللهدهد محاكاة الببّغآء. والّذين قالوا انّ (8 پ) البدر الّذي، يقتبس نوره من الشمس جاوز الشمس علوّا ونورا، فقد جاؤا ظلما وزورا.

(53) وما ذكره السيد الرضى ذو الحسبين محمد بن موسى، رحمه اللّه، من ملح كلام امير المؤمنين، عليه السلام، مذكور فى خطب امير المؤمنين فى نسخ قديمة، نسجت عليه العنكبوت بسبب طول الزمان، ورواها الفتيان عن الفتيان، اللهمّ الا الفاظا قلايل ورموزا ورسايل، لم يذكرها الا السيّد الرضى، رحمه اللّه. ومن سيرة السيد الرضى انّ جاريته [قالت‏] ما رايت ساقه مكشوفة الا بعد وفاته. فما ظنّك بعلوىّ زاهد ارتقى من الصيانة مرقاة لا يرقاها الا ذو حظّ عظيم، ونال من الزهد والعلم مزية لا ينالها الا ذو خيم كريم، هل يجوز مثله من ديانته ان يزيد فى كلام ابيه على حسب ما يشتهيه، وينسب اليه ما لم يكن اليه منسوبا ويحتقب بذلك اثما كبيرا وحوبا، هيهات هيهات. قال اللّه تعالى انّما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون، الا به. وحاشا لمثله ان يكون بالافتراء موصوفا منعوتا، وان يحشره الله تعالى يوم القيمة، ويكون عند جدّه وابيه بسبب الافتراء ممقوتا. هذا.

(54) وان وقعت الشبهة فى نقل بعض هذا الكتاب، فان صحّت كان الخلل عايدا الى من نقله الى السيّد، لا اليه. والغالب على السيّد الرضىّ الشعر والادب، مع بصيرته باسرار العلوم التى هى من علوم الاولياء والحكماء والاطبّاء. ومن علامة المؤمن ان لا يخون فى الامانة، ولا يكذب على الله والانبياء والاولياء متعمّدا، ولا خيانة وراء الخيانة فى الكلام والرواية. وفقنا الله لمرضاته، وهدانا الى جنانه، فانه ولىّ التوفيق والهداية.

(55) شرح اسم الكتاب.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 14

امّا معنى الكتاب، يقال كتبت كتبا وكتابة وكتابا، والكتب الجمع.

يقال كتبت البغلة اذا جمعت بين شفرتيها بحلقة (9 ر) اوسير، فسمّى الكتاب كتابا، لانه يجمع الفوايد. وقد يسمّى المكتوب كتابا، كما يسمى المخلوق خلقا، والمصيد صيدا. ويقال: كتبت الكتاب، اى جمعت الحروف بعضها الى بعض. قال الشاعر: بالف نكتب او مقنّب، اى: يجمع. ويقال للقدر: الكتاب.

قال الجعدى:

         يا ابنة عمّى كتاب اللّه اخرجني   ***   عنكم وهل امنعنّ اللّه ما فعلا

 

يعنى قدر اللّه. قال اللّه تعالى لن يصيبنا ما كتب اللّه لنا، اى قدّر. ويقال للفريضة الكتاب، ويقال: الصلوة المكتوبة، اى المفروضة. ويقال: الكتاب الامر، قال اللّه تعالى: ادخلوا الارض المقدّسة التى كتب اللّه لكم، اى: امركم ان تدخلوها.

(56) الشرح الكشف، يقال: شرحت الغامض، اذا فسّرته او اوّلته، ومنه التشريح للحم. النهج والنهيج والمنهاج الطريق الواضح، وجمع النهج نهوج. والنهج الطريق استبان وصار نهجا واضحا بيّنا. يقال: طريق نهج وناهجة اى واضحة بيّنة. ويقال ايضا: طريق نهجة.

(57) وسمّى الكتاب نهج البلاغة لوجهين، دون منهج البلاغة ومنهاج البلاغة.

(58) لان الاصل هو النهج، والنهج طريق واضح يسلكه سالك يؤدّى الى الخير، يقال: نهج الرّشاد ونهج النّجاة. والمنهج اعمّ من النهج.

(59) والوجه الثانى ان النهج ما لا ينقطع وضوحه، مأخوذ من النهج، وهو تتابع النفس. يقال: فلان ينهج فى النفس.

(60) البلاغة الوصول الى الشى‏ء، وسمّيت الفصاحة بلاغة، لأنّ بها يبلغ صاحبها الى ما يريد. ويجوز ان [يكون‏] البلاغة بمعنى ان هذا الكلام بلغ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 15

مبلغا فى الكلام كبلوغ الانسان وغيره. ويقال للداهية البلغين، لانّها بلغت كلّ مبلغ من الانسان. ومعنى الكتاب، اى نهج البلاغة، انّه طريق واضح، لا ينقطع وضوحه، ويبلغ سالكه به ما يريد من الفصاحة.

(61) قوله: من كلام امير المؤمنين، عليه السّلام، الكلام عند اللغويين نطق (9 پ) مفهوم. وفى اصول اللغة الكلم يدل على القوة والشدة. وفرق عند النحويين بين الكلام والقول. فيقول بعض الناس: القرآن كلام اللّه، ولا يقول: القرآن قول اللّه. و

الكلام عند اكثر النحاة اعمّ من القول. وحدّ الكلام كلّ لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه. كذا ذكره صاحب الخصايص.

و القول قد يكون اصواتا غير مفيدة وآراء معتقدة. يقال: قول الكوفيين، وما قولك فى مثله كذا، اى ما رأيك وما اعتقادك. الا انّ الناس يقولون: قول اللّه تعالى، وقال اللّه، لانّ كلّ واحد منهما يقع موقع صاحبه. وقول القائل: قال اللّه كذا، وقول اللّه كذا، يفصّل ويبيّن بعد القول ما هو مستقلّ بنفسه، مفيد لمعناه، فيفصّل من القول الموضع بالاصطلاح. (62) الامير ذو الامر، ويحتمل امرين: بمعنى الموامر، كالجليس بمعنى المجالس. والاخر الّذى يراد به ذو الرّعية. وجاء على لفظ فعيل دون فاعل، لان فعيلا يقع على الكثرة كفعول، ويدلّ على ارادة الكثرة فيه، قولهم فيه الامارة، وهذا البناء للكثرة. وكلّ من فرغت الى علمه ومشاورته فهو اميرك، وكل من يفرغ المؤمنون الى علمه ورأيه فهو امير المؤمنين. وامير المرأة.

بعلها، وامير الاعمى قايده.

(63) المؤمن اسم مشترك. يقال للّه تعالى: المؤمن، وللعبد: المؤمن.

فيقال للّه: المؤمن، لانّه آمن عباده ان يظلمهم. ويقال للعبد المصدّق باللّه المقرّ به: المؤمن: لانّ اعتقاده آمنه من استحلال دمه وماله فى الدنيا، وآمنه من المفزع الا كبر يوم القيمة. و

قيل: يسمّى العبد مؤمنا، لانّه يؤمن من شرّه من كان على مثل اعتقاده.

كما قال النّبى، عليه السلم: المؤمن من آمن جاره‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 16

بوايقه. و

قيل: يقال للّه تعالى: المؤمن، لانه يصدّق ما وعد واوعد، ويؤمن المؤمنين عذابه، ولا يعاقبهم.

(64) المؤمن والمصدّق الذى سكن قلبه بمعرفة (10 ر) اللّه تعالى.

و اختلف النّاس فى التصديق، ولا يحتمل الموضع بيانه.

(65) المختار من الاختيار والتخيّر والاصطفاء. يقال: اخترت الشى‏ء، واخترت من الشى‏ء. (66) قوله: علىّ، العلىّ الرفيع، وعالاه اللّه، واعلاه رفعه. و

قال ابن دريد: العلىّ الصّلب الشّديد يقال: فرس علىّ، ومنه سمّى الرجل عليّا.

يقال: على فى المكان يعلو علوّا وعلى فى المكارم يعلى عطاء، كذا ذكره ابن فارس.

و النسبة الى «على ابن ابى طالب» عليه السلام، علوىّ والى «علىّ، قبيلة من كنانة»، عليّون. (67) قوله: «ابن ابى طالب»، ابو طالب كنية الفرس، ووضعت هذه الكنية للفرس، كانّ بالفرس يطلب الطالب مطلوبه. كذا ذكره الاهوازىّ.

و الطلب محاولة ابتغاء الشى‏ء، يقال: طلبت الشى‏ء واطلبه، ومنه المطلب وطالب وطلب وطلّاب من الاسماء. (68) والعرب يتشرّفون بالكنى. وبسبب ذلك لا يكتب الكنى من دار الخلافة. لانّ العرب يعظّم الكنية تعظيما يزيد على تعظيم كتّابنا الالقاب.

و من رسوم العرب ان يكون لواحد اسم مشهور حتّى يرزقه اللّه تعالى ولدا، فيعظّمونه بعد ذلك بالكنية، ويقولون ابو فلان وابو فلانة. ويقال ايضا ذلك للتفأل ليعيش المكنّى حتى يرزقه اللّه، تعالى، ولدا. اجرى اللّه العادة بانّ اكثر الناس اذا ولد لهم يّبدّل اخلاقهم، ويحصل فيهم من التجربة والرّأفة والرحمة والحزم والاحتياط ما لم يكن فيهم قبل ذلك. وفى الاثار: من لا ولد له لا مرّوة له، ولا عقل. ولسبب ذلك يذمّون العقيم الابتر، لانّه يبقى على سيرته وقساوة قلبه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 17

(69) ولا ولد طالب، وهو اسنّ اولاد أبى طالب، قيل له «ابو طالب». ولما ولد الحسن لعلى، قيل لعلى: ابو الحسن «كما روى فى آلاثار»: هذه معضلة، ليس لها الا ابو الحسن». ولما ولد القسم للنّبى، صلّى اللّه عليه وآله، قيل له «ابو القسم» كما قال، عليه السلام: من صام يوم الشك فقد عصى (10 پ) ابا القسم». (70) وربما كانت الكنية فى العرب بسبب هيئة او فعل، كما قيل: «ابو لهب»، ولم يكن له ابن اسمه «لهب»، لكن كانت شية وجهه مثل اللّهب، فقيل له: «ابو لهب». وكذلك ابو هريرة، لان النّبى، صلّى اللّه عليه وآله، رآه وفى كمّه هرّة، فقال له رسول اللّه: «أنت أبو هريرة»، ومثل هذه الكنى لا يكون تعظيما وانما هى القاب وسمات.

(71) ويقال فى العرب الكنية، والكنية بضمّ الكاف وكسرها لواحدة الكنى. والكنى على ثلثة اوجه: (72) الاول ان يكنّى عن شى‏ء يستفحش ذكره، كقولهم «ابو دراس» لفرج المراة، و«امّ سويد» للدّبر.

(73) والثانى ان يكنّى عن الرجل من طريق التعظيم والتفأل كما ذكرناه.

(74) والثالث أن يقوم الكنية مقام اللقب كما ذكرناه.

(75) وربّما ذكر الشى‏ء بالكنية، وليس له اسم كابى رياح للتمثال الذى وضعه المشبّهة بفارس.

(76) وسميّت الكنية كنية لانّها تورية عن الاسم، يقال: فلان يكنّى بابى عبد اللّه، ولا يقال: يكنّى بعبد اللّه.

(77) قوله: السيّد الرضّى ذى الحسبين، يقال: ساد قومه سيادة وسؤددا وسيدودة فهو سائد، وفى المبالغة، سيّد ويسمّى السيّد سيّدا، لانّ النّاس يلتجئون الى سواده، اى الى شخصه. والسيّد من المعز المسّنّ. وسمى سيّدا،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 18

لانّ نوعه من المعزى يلتجى‏ء اليه عند الرّعى وظهور الذيب. والسيّد المالك لإن المملوك يلتجى‏ء اليه. والسيّد الرئيس لان المرؤوس يلتجى‏ء اليه والسيّد العليم، لانّ من لا رأى له ولا حلم يلتجى‏ء اليه. والسيّد السّخىّ، لان المستميح يلتجى اليه، والسيّد الزوج لانّ الزوجة تلتجى‏ء اليه. وسيّد فيعل من السودد، والاصل سيود. وعند قوم كان: سيدا، وقيل: سويدا. (78) يقال: رضيته وارتضيته، فهو مرضيّ او هو رضيّ، كما يقال: حميد ونعيم. والرّضىّ والمرضىّ فعيل بمعنى مفعول. والرضيّ منسوب (11 ر) الى الرضى وكثرت القاب الرضىّ والمرتضى فى السادة، لقول النّبى، عليه السلم. لفاطمة، عليه السّلم: افاطم ان اللّه ارتضى لك عليّا، فهل رضيت بعلا فقالت فاطمة، عليها السّلم: رضيت بما رضى اللّه ورسوله لى. فجرى لقب المرتضى على علىّ بن ابى طالب، عليه السّلم، بسبب ذلك. يقال: رضيت عليه، فى معنى رضيت به وعنه، رضيت منك بكذا، اى قنعت.

(79) وامّا ذو الحسبين، فالحسب ما يعدّه الانسان من مفاخر آبائه. و

قيل الحسب الخلق والدين. ويقال: رجل حسيب، وقوم حسباء.

قال ابن السّكيّت: الحسب والكرم يكونان فى الرّجل، وان لم يكن له آباء لهم شرف.

و الشرف والمجد لا يكونان الّا بالآباء.

و اما ذو الحسبين، فيحتمل ان يكون الحسب الاوّل مفاخر آبايه، والحسب الثانى دينه وخلقه. والحسب القدر يقال: ما حسب حديثك اى ما قدره. ويحتمل ان يكون الحسب الاول كرم آبائه وقدرهم، والثانى حسبه المكتسب.

(80) قوله: محمد بن الحسين بن موسى الموسوىّ النّقيب. ونسبه محمد بن الحسين بن على بن محمد بن المحسن بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم الاصغر بن موسى الكاظم بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن ابى طالب، عليهم السلام. ومولده ببغداد فى سنة تسع وخمسين وثلثمائة.

محمّد معناه من كثرت خصاله المحمود: والحسين مأخوذ من الحسن. و

قيل: الحسن‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 19

و الحسين جبلان فى بلاد طىّ.

و قيل الحسن من الذراع النصف الذى يلى الكوع. سمّى حسنا لكثرة لحمه، فسمّى كلّ من كثر لحمه من الناس حسنا.

و ابو الحسن كنية نهر بحلب، واسمه فريق. (81) الموس حلق الرأس. يقال: «اوسى رأسه» اى حلق.

و الموسى ما يحلق به، اسم صريح كالمطرف، وليس بصفة ولو كانت صفة، لكانت موساة كمعطاة، والاسم مفعول، وقيل: هى (11 پ) فعلى من الموس.

فعلى هذا لم يكن من الباب، ويؤنّث. وقيل هو مذكّر لا غير. وقيل هو مفعل من «اوسيت رأسه، حلقته بالموسى». والنسبة اليها موسىّ. وموسى اسم رجل. وهو مركب عبرىّ، ذكرته فى كتاب الازاهير من تصنيفى. وفى السريانيّة هو المستخرج من الماء و«مو» عند العبرّيين «الماء» و«شى» الشّجر، يعنى: وجد تابوت موسى حين القته امّه فى نيل مصر بين الماء والشجر. وقيل: اخذ من «ماس يميس» يتبختر، فقلّبت الياء واوا، لانضمام الميم. هذا قول من قال: وزنه فعلى. والنسبة الى موسى موسى. و

قال ابن فارس فى مجمل اللّغة: النسبة الى موسى موسىّ لانّ الياء فيه زايدة، وكذا قال الكسائى.

(82) ذو المناقب، المنقبة الفعلة الكريمة، وهى ضد المثلبة، لانها شى‏ء حسن، قد شهر حتّى كأنّه قد نقب عنه، والطريق الضيّق بين الدارين.

و النقيبة النّفس، ومنه قولهم هو ميمون النّقيبة. وقيل هو ميمون الامر ينجح فيما يحاول ويظفر، وقيل: ميمون المشورة. (83) والنقيب شاهد القوم وضمينهم. والجمع النقباء. يقال: نقب على قومه ينقب نقابة فهو نقيب ككتب يكتب كتابة.

قال الفرّاء: اذا اردت انّه لم يكن نقيبا، فصار، نقب بضمّ القاف نقابة.

قال سيبويه: النّقابة بالكسر الاسم، وبالفتح المصدر كالولاية والولاية. وسمىّ رئيس السّادة النّقيب، لانّه شاهدهم وضمينهم.

(84) واول من سنّ النقابة، وعيّن رئيسا للسادة والاشراف، وسمّاه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 20

النقيب، المعتضد باللّه بسبب رؤيا رآها.

(85) وقيل: النقيب الامين والنّقباء الأمناء والكفلاء.

قال اللّه تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي، اى امينا كافلا على سبطه. وقال ابو ذرّ حين حضرته الوفاة لمن حضر. اندشكم باللّه، ان يكفّنني منكم رجل كان اميرا او بريدا او نقيبا، كانه كره ان يكون كفنه من كسب من تولّى الامارة والنقابة.

(86) ويقال: رجل نقيب (12 ر) ونقّاب يدرك غاية الامور واسرارها بنظره وفكرته.

قال اوس: نقّاب يحدّث بالغائب. ويقال: النّقيب المفتّش.

و قيل ذلك مأخوذ من المقنب المنقّب، وهو الذى يخرج الفأر من الجحر، يعنى يخرج الامور الخفيّة من مكامنها فالنّكيب دون النّقيب، والرّقيب دون النّكيب.

(87) شرح خطبة الكتاب

قال: اما بعد حمد اللّه، بعد مقابل قبل، ويكون فى اضافته الى ما بعده خلاف كونه على الانفراد. وذلك انّك اذا اضفته وادخلت عليه حرف جر جررته، وان عريته منه نصبته، لانّه مفعول فيه، تقول جئت بعد زيد ومن بعده. فان افردته، ضممته فقلت: جئت من بعد وقمت قبلا وبعدا. واجاز بعضهم رفعها بتنوين. (88) «و اما بعد» فصل الخطاب تقديره: امّا بعد الكلام المتقدّم، وبعد ما بلغنى من الخبر. ثمّ حذفوا هذا، وضمّوا على اصل ما ذكرناه.

(89) وقيل: اوّل من قال ذلك قسّ بن ساعدة الايادّى، وقيل: اكثم بن الصّيفى.

و «بعد» بمعنى «مع» يقال فلان شاعر، وهو بعد ذلك فقيه، اى مع ذلك. قال اللّه تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، اى مع ذلك.

(90) و«امّا» المفتوحة الالف كقول اللّه، تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ. وقول العرب: امّا زيد: فقايم، وامّا عمر فقاعد فحرف التّخيير وهو الاخبار عن الشى‏ء. و«امّا»

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 21

بالكسر للتخيير، وهو الخيار كقول اللّه سبحانه: امّا العذاب وامّا الساعة. ويجب ان تعلم موضعها اوّلا، ثم استعمالها، ثم حكمها فى انّها هل تحتاج الى الجواب اولا، ثمّ حكم جوابها فى انّه كيف يجب ان يكون، ثمّ حكم ما يجي‏ء بعدها فيما يلزمه من الاعراب، ثم ما حالها فى نفسها، وهل تحتاج الى تكرار ام لا. والسّيد رحمه اللّه، يقول: اما بعد كنت فى عنفوان شبابى. فان قال قايل: قد حكم انّ جواب «أمّا» بالفاء. (12 پ) فما قولكم فى قول اللّه، تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قيل فيه اضمار، وهو «فيقال اكفرتم بعد ايمانكم.

(91) وقوله: جعل الحمد ثمنا لنعمائه، الثّمن عوض المبيع، هذه استعارة لطيفة. والحمد نقيض الذمّ، يقال حمدته حمدا، ونحمده، فهو حميد ومحمود. والحمد أعمّ من الشّكر، لانّه يقوم مقام المدح، وان لم يكن من المحمود فعل واختيار. وقيل: هما بمعنى واحد. فمن ذهب الى ان الحمد والشّكر بمعنى واحد، كان الحمد عنده بازآء النعماء. ومن ذهب الى انّ الحمد اعمّ من الشكر، فقد اخذ الاعمّ بمعنى الاخصّ. كما قال اللّه تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. والمراد به بعض بنى آدم، الّذى يقال له: الانسان.

و قال اللّه تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا، والمراد بعض الملائكة. (92) وحمد اللّه الثّنآء عليه بصفاته الحسنى، والشكر هو الثناء عليه باحسانه ونعمه. هذا هو الفرق بين الحمد والشكر. يقال: حمدت الرجل اذا اثينت عليه بصفاته الحميدة، وشكرت له اذا اثينت عليه بمعروف اسداه اليك. وقد يوضع الحمد موضع الشّكر، ولا يوضع الشّكر موضع الحمد.

قال الشاعر وانشده ابو زايد: يا عجبا مما يقول صعودة

         يريد ان يحرمنى واحمده   ***   الا ترى ما بيننا ما ابعده‏

 

صعودة اسم رجل.

قال الشاعر: وترتاد فيها العين منتجعا حمدا.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 22

(93) النعمة اليد والصّنعة والمنّة وما انعم عليك. وهى فى اصل اللّغة منفعة غرض النافع ايصالها الى من انعم عليه، وكذلك النّعمى وهى ضدّ البؤسى. فاذا فتحت النّون من النّعمى، مددت، قلت النّعماء ضدّ الباساء.

(94) قوله: ومعاذا من بلائه، عوذ اصل يدلّ على معنى واحد، وهو الالتجاء الى الشى‏ء ثم يحمل عليه كلّ شى‏ء لصق بشى‏ء او لزمه. يقال: عذت به عوذا وعياذا ومعاذا ومعاذة. ومعنى المعاذ من يعاذبه. (95) البلاء والبلوى الاختيار. وقال ابو الهيثم: (13 ر) البلاء قد يكون حسنا، وقد يكون سيّئا. واصله المحنة.

قال بعض المفسّرين فى قوله، تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ: اى نعمة. وقال اللّه تعالى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ.

وقال الخاردنجىّ: اللّه تعالى يبلو عبده بالصّنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى ليمتحن صبره. قال اللّه تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. فجعل الفتنة مصدرا من البلاء وهما متقاربان. الّا انّ الفتنة لا يكون الا فى الشرّ.

والبليّة هى الناقة الّتى يعقل فى الجاهليّة عند قبر صاحبها فلا تعلف ولا تسقى، حتّى تموت ويحفر لها ويترك فيها الى ان يتفرّق اجزاءها، لانّهم يقولون: انّ النّاس يحشرون ركبانا. واطلق لفظ البلاء على كلّ مشقّة وعناء وعذاب فى الدّنيا. فالمراد حمد اللّه قول يعاذبه من عذاب اللّه فى الدّنيا والآخرة. (96) وفى بعض النّسخ وسيلا الى جنانه، وفى البعض وسبيلا والوسيلة ما يتقرّب به الى الغير، والجمع الوسايل والوسيل. ويقال توسّل اليه بوسيلة، اى تقرّب اليه بعمل. (97) والجنّة البستان، ولا يسمّى جنّة حتى يجنّها الشجر، والجنّ الستر. ويقال جنّات عدن، لانّها مستورة عن الاعين. والعرب يسمى النخل جنّة. فسمّى اللّه دار الثواب جنّة.

(98) قيل لمحمد، عليه السّلام، نبىّ الرحمة، لقول اللّه تعالى: وَ

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 23

ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً. وقيل له نبىّ الرحمة لوجوه: (99) احدها انّ اللّه تعالى يرحم عصاة امّته بشفاعته. (100) وثانيها انّه رحم بعض اعدائه من اليهود والنصارى والمجوس ببذل الامان لهم، واخذ الجزية عنهم، ولم يأخذ احد من الانبياء الجزية سواه.

ثم قال، عليه السلم: من آذى ذمّيّا، فقد آذانى. (101) وثالثها انّه، عليه السلام، سأل اللّه تعالى ان يرفع عن عباده بعده عذاب الاستيصال. ودفع العذاب رحمة. (102) ورابعها انّ اللّه تعالى، وضع فى شرعه الرّخص تخفيفا (13 پ) لامّته.

(103) قوله: وامام الائمة ماخوذ من قول اللّه، تعالى، حيث قال: وَإِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ. رَبُّهُ: بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي: جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ. ولقوله، عليه السلام: آدم ومن دونه تحت لوائى يوم القيمة. وكل ما يجعله الانسان امامه، فيتبعه فى خيره او شرّه، فهو امامه. ومنه سمّى الامام الّذى يتولّى امر جميع الامّة لأنّهم يأتمّون به. والامام الخيط الذى يمدّ على البناء ليقوم عليه، سمّي بذلك لانّه يؤتم به، وسمّى اللّوح المحفوظ اماما. قال اللّه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى‏ وَنَكْتُبُ ما. وقوله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ، اى بما كانو يتّبعونه ويأتمّون به. والامام الطريق الواضح. قال اللّه، تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ، اى طريق واضح و

قيل: سمّى الامام اماما، لانّه الطريق الواضح، الى سدّ الثغور، واقامة الحدود، وحفظ البيضة، وحلّ المشكلات،

و الامام بمعنى الماموم، لانه مؤتمّ به، فعال بمعنى مفعول، كالالاه بمعنى مألوه، والاميم والماموم بمعنى، كالحميد والمحمود، والقتيل والمقتول. (104) قوله: سراج الامّة، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ. السّراج اصل يدلّ على الحسن والزينة والجمال. وسمّى السّرج سراجا لانّه يزيّن الدّوابّ. وسمىّ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 24

السراج سراجا لضيائه. وسمّيت الشّمس السّراج، لحسنها وضيائها، ثمّ اطلق لفظ السّراج على كلّ نور وجمال.

(105) والأمّة هاهنا الجماعة، واصلها الجماعة من الناس والدوّاب والطّير. والأمم القرن بعد القرن. قال اللّه تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ، اى الى سنين معدودة. و

قال مجاهد فى قوله: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، عنى به آدم وحده.

و الأمّة الدين. قال اللّه تعالى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا، اى على دين. قال الشاعر: وهل يأثمن ذو أمّة وهو طايع. أى ذودين. (106) والامّة (14 ر) الامام والقدوة. قال اللّه تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً، اى اماما وقدوة. ويقال: فلان امّة واحدة، اى ليس له ثان. ومنه قول رسول اللّه [صلّى اللّه‏] عليه وآله فى زيد بن عمرو بن نفيل: انّه يبعث امّة. والامّة من طريق الاصطلاح هى الّتى يتبع قيّما وواليا وصاحب دعوة الى دين.

و كانها جمع امة، نحو صاحب وصحبة والأمّة بالكسر النّعمة. قال عدىّ: ثمّ بعد الفلاح والملك والأمة وارتهم هناك القبور.

قال الاخفش: الامّة فى اللفظ واحد، وفى المعنى جمع. والأمة بكسر الالف لغة فى الأمة. كذا ذكر فى الصّحاح. قال الشاعر: وهل يستوى ذو أمة وكفور.

(107) الطّينة اخصّ من الطّين، وهى قطعة منه يختم به الصّكّ.

و الطّينة الخلقة والجبلّة. الكرم شرف الشى‏ء فى نفسه، او شرف فى خلق من الاخلاق. السليل الولد، لانّه خلق من السّلالة. ويقال: سلالة الرّجل وولده، وسلالة الشى‏ء خالصه.

قوله وعصم الامم. يقال للبدرقة العصمة، للاعتصام، بها. والجمع العصم والمراد ما ذكرته. والعصمة ايضا الحفظ. (108) قوله: تكون ازاءا لفضلهم. يقال: هو ازاؤه أي قيمته. وهو بازائه،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 25

اى بحذائه. وفى الحديث وفرقة آزت الملوك اى قاتلتهم وقابلتهم وقاومتهم فقوله ازاء لفضلهم، إى مقابلة لفضلهم. (109) وقوله: وكفاء لطيب فرعهم، يقال كافيته مكافاة وكفآء، اى جازيته، ويقال: لا كفاء له، اى لا نظير. (110) وقوله: واهل بيته،

قال ابو عبيدة: آل فرعون اهل بيته وقومه واهل دينه وملّته، كذلك آل يعقوب. والدليل على ذلك انّك اذا صغّرت الآل، قلت: اهيل.

قيل: آل الرّجل ولده ونسله.

قال النابغة:

         قعودا على آل الوجيه ولاحق   ***   يقيمون حوليّاتها بالمقارع‏

 

و قال الجعدىّ: نحل قياض من آل سيل. فهذا يدلّ على انّ الآل هو الولد والنسل.

قال اللّه، تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها، يعنى: اهل دينه. وسئل جعفر بن محمد  (14 پ) عليهما السّلام، عن الآل. فقال: آل محمّد اهل بيته خاصّة دون النّاس. واحتج بقول اللّه، تعالى: وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين. والآل الخشبة المنصوبة يحمل عليها من السعائف.

قال الشاعر:

         غير آل وعنّه وعريبش   ***   عبرتها الارواح والامطار

 

و آل ناقة قوايمها وسمّى اهل البيت آلا، لانّ الرّجل عليهم يعوّل فى اموره، فهم له بمنزلة اعواد الخيمة التى يبنى عليها البيت. و

قيل: آل الرّجل اتباعه.

قال الاعشى:

         فكذّبوها بما قالت، فصبحهم   ***   ذو آل حسّان يزجى السّم والسّلما

 

يعنى جديس تبع، وهو حسّان. والآل الشخص. وقيل: آل الرجل مأخوذ من ذلك، لانّ آله بمنزلة شخصه.

و قيل: الآل جمع الآلة، وهى الاداة، يعنى اهل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 26

الرجل أداته فى تحصيل مقاصده.

(111) وقوله: من طينة الكرم، كان رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، من اولاد ابراهيم واسمعيل، وكرمهما مشهور، وكرم الضيافة منسوب الى ابراهيم، عليه السّلم.

و كان عليه السلم، حافد قصىّ بن كلاب، الذى قال:

         انا ابن العاصمين بنى لؤىّ   ***   بمكة مولدى وبهار بيت‏

         الى البطحاء قد علمت معدّ   ***   ومروتها رضيت بها رضيت‏

         رزاح ناصرى وبه اسامى   ***   فلست اخاف ضيماما حييت‏

 

و سمّى قصىّ المجمّع. وفيه قال الشاعر:

         ابوهم قصىّ لعمرى كان يدعى مجمّعا   ***   به جمع اللّه القبائل من فهر

         هم نزولها والمناة قليلة   ***   وليس بها الا كهول بنى عمر

 

و امّا عبد مناف فكما قيل:

         ما ولدت والدة من ولد   ***   اكرم من عبد مناف حسبا

 

و امّا هاشم فكما قيل فيه:

         عمرو الّذى هشم الثريد لقومه   ***   ورجال مكّة مسنتون عجاف‏

 

و امّا عبد المطلّب فقيل له شيبة الحمد، ولقّب بمطعم الناس والوحوش.

و قال الشّاعر:

         انّما عبد مناف جوهر   ***   زين الجوهر عبد المطلب‏

 

(112) فهذا معنى قوله: مغرس الفخار المعرق، وفرع العلاء المثمر المورق. اقول المعرق رواية وهو الّذى له (15 ر) عرق فى الشرف والكرم.

و المعرق بفتح الراء، يعنى اعرق فى الشرف والكرم. وكفاء [مثل‏] قولهم: ازاء ويروى: وحوى نجم طالع. (113) قال: فى عنفوان شبابى، عنفوان الشباب والنبات اوّلهما، وهو من الابدال، ويجوز ان يكون النون زيادة من «عفا» اذا صفا وطاب.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 27

(114) قوله: خصايص الائمة، الخصّ يدلّ على الفرجة والثّلمة، يقال خصّص فلانا، افرده من بينهم، اى اوقع فرجه بينه وبين غيره، وخصاص النّاس الخواصّ منهم. محاجزات اى ممانعات. (115) وقوله: معجبين ببدايعه، من قولهم: «كل فتاة بابيها معجبة» وهاهنا ثلاث روايات: بنصب الجيم وكسرها وتشديد الجيم. (116) قوله متعجّبين من نواصعه، الناصع الخالص من كل شى‏ء، ويروى يواقيت الكلام بدل نواصع الكلام. رواية ابى الاغرّ: لا يساحل، بالحاء، الجمّ الّذى لا يحافل اى لا يدافع ولا يجامع. (117) قوله: أخذت قوانينها. القانون الاصل، وليس بلفظ عربى، بل هو لفظ سريانى، و

قيل: القانون من القّن، لانه ثابت لا يمكن ان يزاد فيه او ينقص منه، كالعبد القنّ، ثبت عبوديّته من جهتين.

(118) وقوله: مسحة من الكلام الالهيّ، يقال: على فلان مسحة من جمال. وعبقة اى علامة. ولا يقال ذلك، الّا فى المدح. يقال على وجه فلان مسحة من الجمال، اى اثر. قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، فى جدير بن عبد اللّه البجلّىّ: عليه مسحة ملك، اى اثر.

قال ذو الرّمة:

         على وجه مىّ مسحة من ملاحة   ***   وتحت الثّياب الشّين لو كان باديا

 

(119) وقوله: يدور على اقطاب ثلثة، يقال لقطب الرّحى قطب وقطب وقطب، باختلاف حركات القاف. والجمع اقطاب. وسمّى القطب قطبا، كانه مجمع الرّحى ودورها عليه. والقطب يدلّ على الجمع. يقال: قطب القوم سيّدهم، لانّه قد يجمع (15 پ) مقاصدهم، ويدور عليه امورهم. وقطب الفلك كوكب ابيض صغير بين الجدى والفرقدين لا يبرح مكانه ابدا،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 28

و يدور عليه الفلك وهو القطب السمائىّ.

(120) قال الازهرىّ: قول الليث: خطب على المنبر خطبة، انّ الخطبة مصدر الخطيب، ليس بصحيح، انّما الخطبة الرسالة التى لها اوّل وآخر.

و سمّيت الخطوب خطوبا، لان النّاس يتخاطب فيها لغظمها. وقيل: الخطب كلام بين اثنين، فسمّيت الخطبة خطبة لانّها كلمات يجرى عند المستمعين من قايلها. ثم خصّ هذا الاسم بكلمات فيها ذكر اللّه، تعالى، ورسوله، واعلام النّاس، وتارة يخبرهم بامر وتارة يجمع بينهما. (121) وقوله واشدّها ملامحة، الملامحة المشابهة، من قولهم: فيه ملامح من ابيه، اى مشابه.

و قيل الملامح جمع اللّمحة، جمعوا على غير اللفظ، وهو من النوادر

و يروى ملاحمة، والملاحمة المضامّة. والملامحة من لمح، اى رمق وابصر يروى منتظمة بنصب الظاء وكسرها و«انتظم» يكون لازما ومتعديا. (122) قوله اورد النّكت واللّمع، النّكت يدل على تأثير يسير فى الشى‏ء. والنكتة النقطة من ذلك. ونكت العلم من ذلك، كأنّها تلوح وتليق من غيرها.

يقال: اللمعة جماعة كرام من الناس، فسمّيت الكلمات الفصيحة لمعا بذلك.

و قيل: اللمعة قطعة من البيت، اذا اخذت فى البيتين عند الكمال، فسمّيت الكلمات الكاملة لمعا.

و قيل: اللمعة موضع لا يصيبه الماء فى الغسل والوضوء

و هذه استعارة بعيدة، كانّ المستعير يقول هذه كلمات لا يصيبها الاعراض والنّقصان والخطاء، كما لا يصيب الماء فى الغسل والوضوء ذلك الموضع. (123) قوله: قبع فى كسر بيت،... يقال: قبع القنفذ يقبع قبعا وقبوعا وقباعا، ادخل رأسه فى قميصه، وذلك من علامات الزّهاد المنقطعين (16 ر) عن الدنيا.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 29

ينطف يمطر. (124) قوله يقطّ الرّقاب، يقال: قططت الشى‏ء اقطّه، قطعته عرضا بسرعة، ومنه قطّ القلم. (125) قوله زاهد الزّهاد، وبدل الابدال، الابدال خيارهم، ابدال من خيار، وقيل هم العبّاد. الواحد بديل عن ابن دريد، وقيل: بدل وبدل ايضا.

و قيل: اذا مات منهم واحد، وهم سبعون رجلا، أبدل اللّه مكانه آخر. منهم اربعون فى الشام، وثلثون فى ساير الدنيا. فى حديث امير المؤمنين، عليه السلم: الأبدال بالشام، والنجباء بمصر، والعصائب بالعراق، تجتمعون فيكون بينهم حرب. والزاهد قليل الرغبة فى الدّنيا قليل الحظّ منها. وقيل الزّهادة فى الدنيا، والزهد في الدين. والزّهاد جمع الزاهد، وزاهد الزّهاد من هو زاهد بالنسبة الى الزهّاد، لا الى الفسّاق، كامام الأيمة، فانّه امام بالنسبة الى العلماء، لا بالنسبة الى الجهّال. (126) قوله: ومن عجائبه التى انفرد بها، الى آخر الفصل، اقول: ان الاخلاق توابع الامزجة. والشّجاعة والزهادة خلقان لا يجتمعان الا فى النادر، وفيمن كان مؤيّدا من عند اللّه. والسبب فى ذلك انّ الزاهد من وقف تفكّره على العواقب، والشّجاع من صرف عنان تفكّره عن العواقب. لذلك قال امير المؤمنين، عليه السّلام: من كثر تفكّره فى العواقب، لم يشجع. وانا اقول: شجاعته كانت من جملة زهادته، فانه كان قليل الرغبة فى الدّنيا والبقاء فيها. وذلك دأب اولياء اللّه. والعارف زاهد شجاع. ومن عرف اللّه حقّ معرفته لم يخل من شجاعة وزهد.

لذلك

قال بعض الحكماء: «العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت، وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبّة الباطل». و[هو] الزاهد لانّه ينزّه سرّه عمّا يشغله عن الحقّ، ويتكبّر على كل شى‏ء غير الحق.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 30

(127) واقول من الاخلاق الجميلة الّتى (16 پ) هى الفضايل العفة والقناعة والتصوّن والوقار ومحبّة اهل الخير والرحمة على اهلها والوفاء واداء الامانة وكتمان السّرّ والتواضع والبشر والبشاشة وصدق الحديث وسلامة النية والسخاوة والصّبر على الشدايد وعلوّ الهمة والعدل والانصاف والحلم.

(128) والشجاعة، وهى الاقدام على المكاره فى وقت الحاجة، واهانة الموت. وهذا الخلق محمود من جميع النّاس، وهو من الخلفاء والملوك احسن، لانّه لا صنف من اصناف النّاس اقرب الى المهالك والمكاره والمخاوف من الخلفاء والملوك. واذا لم يكن لهم قوّة الاقدام على دفع المخاوف والمكاره لم يكن لهم استعداد الخلافة والملك. وضدّ الشّجاعة الجبن لا الزهد والعفّة. فان الزّهد ضدّ الفجور لا ضدّ الشّجاعة، كما ذكر فى كتاب الاخلاق.

(129) وعلم الاخلاق علم قلّما يوجد من يخوض بحارها، فانّه علم عزيز مشكل، يحتاج الى معرفة مقدّمات.

(130) فلا يجب ان يتعجّب النّاس من انسان اجتمع فيه الشّجاعة والزهد، فانّهما ليسا من الاضداد. بل يجب لكلّ عارف موحدّ ان يكون شجاعا زاهدا، خصوصا اذا كان امير المؤمنين.

(131) ولكن قد جرت عادات النّاس بانّ من كمل فى فنّ من العلوم او الاخلاق، لم يكمل فيما سواه، والانسان الكامل فى العلوم الانسانيّة والاخلاق الجميلة نادر.

(132) وقد يتمثّل النّاس بصفات ابى الاسود الدّئلى، وهو ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان الدّئلىّ بن كنانة، وهو مذكور فى طبقات الشعراء، ثمّ فى طبقات التّابعين، ثمّ فى طبقات النحوّيين، ثمّ فى طبقات الولاة والامراء، ثم فى طبقات المعمّرين.

(133) واذا جاز هذا فى واحد من العرب، فكيف يقضى التعجّب‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 31

من كمال امير المؤمنين، عليه السّلام، فى الزهد والشّجاعة، وهما خلقان لازمان للعارف الموحّد، خصوصا (18 ر) للخليفة والملك.

(134) والعرب ينسب كلّ امر كل الى واحد قد كمل فيه، وان كان كاملا فى الاداب الاخر، فيقولون غزل ابن ابى ربيعة، وان كان شعره فيما دون الغزل امتن من شعره فى الغزل. وكذلك تشبيب العصامّى وعتاب حجظة، ونسيب ابى وجرة، ووعظ ابن جذاق، وغير ذلك. فكذلك نسبت العرب الشّجاعة والزهد [الى‏] امير المؤمنين، عليه السّلام، وان كان فى ساير الكمالات الانسانية من الفضائل اللايقة به حاز خصل الرّهان. (135) واما قوله: روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا، ربما كان الاختلاف بسبب انّه ذكر معنى واحدا غير مرّة بالفاظ مختلفة، كما يفعله البلغاء والفصحاء، او لانّ بعض من سمع كلامه على المنبر او فى المحاورة، لم يقدر على حفظ كلامه ومراعات ترتيبه.

(136) وحفظ كلام خطيب او محاور على الولاء صورة ومعنى من غير تكرار، امر متعذّر. وقد يوجد من اعطى اللّه له قوة حافظة يضبط ويحرز ما سمع.

(137) وكان فى زماننا الامير العالم على بن منتجب الملك محمد بن ارسلان، رحمه اللّه، يحفظ ما يسمع من الفضايل والحكايات المنثورة.

حتّى انّ الحكيم ابن التلميذ النصرانىّ قرأ عليه بين يدى الوزير محمد بن ابى توبة سفرا من الانجيل مرة، فحفظه الامير علىّ، وعاده.

(138) وكان فى الزمن الماضى واحد يحفظ ما يسمع مرة، وابنه يحفظ ما يسمع مرّتين، وغلامه يحفظ ما يسمع ثلث مرات. فانشد واحد قصيدة، فقال ذلك الحافظ للحاضرين: هذه القصيدة لى، وانا احفظها، وابنى وغلامى. فقرأها فسمع ابنه هذه القصيدة مرّتين، فانشدها. فسمع غلامه هذه القصيدة ثلث مرات، فانشدها.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 32

(139) وكنت فى عنفوان الشباب احفظ قطعة من اشعار (18 پ) الجاهلين اذا سمعتها مرّتين.

(140) وكان فى زماننا بنيسابور حكيم استعار كتابا فى اصفهان، وتأمّله عشر مرّات، وحفظه، وعاد الى نيسابور، وكتبه من املاء قوّته الحافظة.

ثم قوبلت النسختان، فما وجد بينهما كثير تفاوت.

(141) فمن ادّى كلام امير المؤمنين، عليه السلم، كما قاله بلا تفاوت من طريق اللفظ والمعنى، كان ممّن ايّده اللّه بهذه القوّة الّتى ذكرناها. (142) وقوله: على عقائل الكلام، سمّيت كريمة الحيّ عقيلة، لانّها عقلت فى خدرها، اى حبست، فكذلك عقائل الكلام، كما عقلت اخواتها من الكلمات ان يبلغن درجتها فى الفصاحة. (143) قوله لا يشذّ عنّى منه شادّ ولا يندّ نادّ، شذّ عنه يشذّ ويشذّ شذوذا، انفرد عن الجهود وندر، فهو شاذ. ويقال: ندّ البعير يندّ ندّا وندادا وندودا، نفر وذهب على وجهه شاردا. ومنه قراءة بعضهم يوم التّناد. (144) وقوله: بغية البليغ والزاهد، البغية والبغية بكسر الباء وضمها الحاجة، والزاهد الذى هو بازاء البليغ هاهنا قليل الكلام. (145) قوله: بلال كلّ غلّة، كلّ ما يبلّ به الحلق من الماء واللّبن، فهو بلال جمع بلل، كجبال وجبل، ومنه سمّى ملك عدن البلال. يقال: بلال عدن ملكها، لانّ ما يبلّ به الحلق من المآء او اللبن دفع لا ذى الظمأ، وكذلك الملك دفع و[ا]ذى الظلمة وسبب لبقاء العمارة وامن الشّرب. (146) قوله: واتنجّز السّديد، نجز كمل، وانجز اكمل، وتنجّز استوفى ويروى من زلّة العلم. (147) قوله من خطأ الجنان، الخطأ نقيض الصّواب، سواء كان فى الاقوال او العقايد او الاعمال، واللّه، تعالى، ولىّ التوفيق.

باب المختار من الخطب

الخطبة 1

شرح الخطبة الاولى من الكتاب.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 33

(148) قوله: المقامات المحصورة، المقام والمقامة بفتح الميم المجلس، والمقامات المجالس، والمقامة ايضا الجماعة من الناس، والمقام من قام يقوم مقاما وقياما، والمقام من اقام يقيم اقامة (19 ر) ومقاما. (149) قوله: لا يدركه غوص الفطن، الغوص اصل يدلّ على هجوم على امر مستقبل، فالفطنة كالفهم، وقد فطن بكسر الطّاء فطنة وفطانة، ومن ذلك قول الحكماء: «الجهالة ادنى الى الخلاص من الفطانة البتراء» معناه انّ من لا يعتقد الحقّ، وكان قلبه خاليا عن اعتقاد الحقّ والباطل، فهو اقرب الى النظر وتحصيل المعتقد الحقّ من الّذى اعتنق الباطل واكّده بشبهات، وذبّ عنه. وايضا الخالى من اعتقاد الحقّ والباطل اقرب الى النظر من المقلّد للحقّ الّذى له فطانة بتراء، فاعتقد من طريق التقليد مالا وثوق له به. (150) ومعنى قوله: لا يدركه غوص الفطن، اى لا يدركه هجوم الافهام على امر مستقبل، بل انّما يعرف، تبارك وتعالى، بالدلايل المحسوسة من افعاله، او بنفس الوجود واعتباره وانقسامه، كما قال اللّه، تعالى فى محكم كتابه.

(151) امّا التّوصل فى معرفته من الاشياء المحسوسة اعني الاجسام، فكما بيّنه المتكلّمون فى مقدّمات تصانيفهم.

(152) وامّا اعتبار نفس الوجود فكقول القايل: الوجود ينقسم الى واجب وممكن، ووجود البارى، تعالى، واجب، فليس بممكن، وتصحيح ذلك بالبراهين. وكذلك قال اللّه، تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، هذا طريق يسلكه المتكلّمون. ثم قال: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ، هو طريق اعتبار الوجود.

(153) قال بعض الحكماء: لك ان تلحظ عالم الخلق فترى فيه امارات الصنعة، ولك ان تلحظ عالم الوجود المحض، وتعلم انّه لا بدّ من وجوب بالذات. فان اعتبرت عالم الخلق، فانت صاعد، وان اعتبرت عالم‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 34

الوجود المحض، فانت نازل، تعرف بالنزول انّ ما ليس بممكن الوجود هو البارى، وتعرف بالصعود انّ هذا هذا.

(154) ويحتمل ان يكون معنى قوله لا يدركه غوص الفطن على عادة العرب، (19 پ) وهو انّهم يقولون: لو سقانا نوء كذا، لآمنّا باللّه وعرفنا وحدانيّته، ولو رزقنا اللّه انّنا نحيا، لعرفنا انّه اللّه الّذى لا آله الّا هو، ففى ذلك الطّريق يقال: لا يدركه هجوم الافهام على امر مستقبل متوقّع.

و الغوص الدخول تحت الماء، ومنه الغوّاص. والهاجم على شى‏ء غائص.

قيل: يعنى لا يدركه غوص الفطن فى الشبهات.

(155) قوله: لا يحصى نعماءه العادّون، يحصى اى يطبق قال اللّه، تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ اى لن تطيقوه. (156) وقال بعض المحققين معنى قوله: «لا يدركه غوص الفطن» انّ العقل عاجز عن ادراك عجزه، كما انّ الوهم بالضرورة عاجز عن ادراك المعقولات، وادراك العقل عاجز عن ادراك عجزه الحقيقّى. فكيف يتعجّب المتعجّبون انّه عاجز عن ادراك حقيقة الحق، وحقيقة علمه، وتفاصيل معلوماته ومقدوراته، والتقدير الالهىّ الّذى هو ينبوع الوجود الحادث.

(157) قوله: فقد قرنه، القرن ها هنا يدلّ على جمع شى‏ء الى شى‏ء. الصفة فى اللغة الامارة للشى‏ء، كالزّنة. وقد يكون بمعنى الوصف، والوصف، تحلية الشى‏ء، يقال: صف علىّ ما ذكرت، وصفه لى و

عند المتكلمين للصفة وضع آخر. فقال بعض المتقدّمين من المتكلّمين: حدّ الصفة قول يفيد الموصوف معنى او حالا. وصفة الذات صفة يطلق على الموصوف لتخصيصه، ويشارك فيها جنسه. وصفة العلّة صفة تحت الموصوف فى حال يجوز ان يكون ضدّ هاله.

(158) وفرق عند المتكلّمين بين الصّفات والاحكام. فصحّة احتمال الاعراض، حكم من احكام الجوهر، وليست بصفة. وصحة الفعل حكم من‏

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 35

احكام القادر. والحسن والقبح من أحكام الافعال. واختصاص العرض بالمحلّ من حكم العرض.

(159) لا يتصوّر من صفات اللّه، تبارك وتعالى، كثرة فى ذاته، ولذلك عند بعض القايلين مثال، وهو (20 ر) انّ العشرة لها فى ذاتها معنى مفهوم، وذلك المعنى واحد لا ينقسم، ويدلّ عليه لفظ العشرة فامّا اذا اعتبر منها نسبة الى الخمسة، دلّ عليها بلفظ الضّعف. واذا اعتبر نسبتها الى العشرين، دلّ عليها بلفظ النصف. واذا اعتبر نسبتها الى الثلثين، دلّ عليها بلفظ الثّلث. وهكذا يمكن ان يدلّ عليها بالفاظ آخر عند اختلاف، نسبتها الى اعداد اخر. واذا اعتبرت الوجه الّذى يلى بمعنى العشرة وذاتها، لم يوجد فيها تعدّد.

(160) فكذلك ذات اللّه، تعالى، يلزمها الوحدة والاحدّية الّتى اخصّ من الوحدة، ولكن لكثرة نسب الذات، الّتى وجب وجودها الى الموجودات الاخر، الّتى استحقّت الوجود من تلك الذّات عنها، حتى ينادى حقائق تلك النّسب بواسطتها الى افهام الضعفاء، فاذا نسبت تلك الذّات الى صدور الموجودات المرتّبة عنها، وعلم انّها ممكنات، وانّ الممكن لا بدّ له من واجب يوجده، سمّيت هذا الاعتبار قادرا والاوهام تظنّ هاهنا مغايرة، وليس الامر كذلك. هذا.

(161) وقد لقيت فى زمانى من المتكلّمين من له السّنان الاضخم والمقام الاكرم، يتصرّف فى الادّلة والحجج تصرّف الرّياح فى اللّجج، كالنّجم المضى‏ء للسّارى والثّواب القشيب للعارى.

(162) منهم والدى الامام ابو القسم، قدّس اللّه روحه. ومن تأمّل تصنيفه المعنون بلباب الالباب، وحدايق الحقائق، ومفتاح باب الاصول، عرف انّه فى هذا الفنّ سبّاق غايات، وصاحب آيات.

(163) ومنهم الامام الزّاهد ابراهيم بن محمد الخزّاز، الّذى فرغ باب‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 36

العفاف، وقنع من دنياه بالكفاف، وكان سريع الاجابة بديع الاصابة.

(164) ومنهم العالم الامام على بن الهيصم النيسابورىّ، وهو امام لسانه فصيح، بيانه صريح، وبرهانه صحيح، لفظه لؤلؤ منثور، ورسايله واشعاره ومحاوراته روض ممطور، امتطى غوارب (20 پ) كلّ ادب، وفاق سحبان وائل ويزيد بن جندب.

(165) فهولاء المتكلّمون الّذين اختلفت اليهم وحشوت استفادة بين يديهم.

(166) واما الّذين عاشرتهم، فمنهم الفقيه اسمعيل المقيم بمرو، وجدته وقد اناف على السبعين، وهو شرح كتاب المستوعب بلا نظر فى اصل كتاب او طريان شك وارتياب.

(167) ومنهم الامام رشيد الدّين عبد الجليل الرازىّ، الّذى هو متكلّم بيانه سحر حلال، وطبعه مآء زلال، ابو الكلام وابن بجدته، ومن نشأ فى حجره، ودبّ ودرج فى وكره. ومن اراد ان يعرف كماله فى صناعته، تأمّل تصانيفه. فان الشّعاع يدلّ على البدر المنير، والخليج يهدى الى البحر الغزير.

(168) وقد احيا رسمه، وخلّد اسمه، الامام الكامل سديد الدّين محمود بن ميرك الرازىّ. وهو وان كان فى ابتداء امره وعنفوان عمره، اختلف الى الرشيد، فقد جمع الآن بين الميرة والنشيد، وزاد الشرف على القصر المشيد. ولو انّه يكره هذا التعظيم، لقلت انّه استقل الرّزاذ، وفاق الاستاذ، لكنّ الفضل للمتقدّم. وقد قال بعض الحكاء: عظّم استاذك، وان جاوزت درجته، فانّه عرف اللّه قبلك. والامام سديد الدين عالم افعاله كاخلاقه واخلاقه كاعراقه. وبينى وبينه اخاء نسيمه رخا، حرّس اللّه قدره وشرح صدره. فان آدابه وشمايله تلألأت تلالؤ النجوم فى رحائب التّخوم.

(169) ومنهم الامام محمود الملاحمىّ الخوارزمىّ، وله خاطر يلفظ المشكلات كما يلفظ السمع حروف الكلمات.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 37

(170) وممن سمعت خبره وعاينت اثره ولم اره، الامام احمد بن محمد الوبرىّ الخوارزمى الملقّب بالشيخ الجليل، وقد شرح من طريق الكلام مشكلات نهج البلاغة شرحا انا اورده، وانسبه اليه، واثنى عليه، واللّه تعالى ولىّ التوفيق ومعين اهل التحقيق. (171) قال لا يبلغ مدحته القائلون. القائل اعمّ من المادح، فاخذ اللفظ اعمّ على (21 ر) معنى انّه لو كان كلّ قايل مادحا، لما بلغ كنه مدحه. وهذا اللفظ مقتبس من قول اللّه، تعالى: وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ.

و ممّا روى عن النبيّ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، انّه قال: انا لا احصى ثناء عليك، انت كما اثنيت على نفسك. وقد عبرّ المتنبىّ، عن هذا المعنى، وان كان مراده غير مرادنا، فى قوله:

         يفنى الكلام ولا يحيط بوصفكم   ***   ايحيط ما يفنى بما لا ينفد

 

و قيل المراد بذلك انّهم لا يأتونه بالبلاغة فى مدحته.

(172) قال الامام الجليل الوبرىّ، رحمه اللّه، هذا الكلام يحتمل وجهين: احدهما انّ من كانت له حالة رفيعة يستحقّ بها التعظيم، فلا وقت ينتهى اليه مدحه ويقف عليه، بل ما من وقت فى المستقبل الّا وحقّه ثابت فيه الى ما لا نهاية له. وهذا مستمرّ شاهدا وغايبا.

و الثانى انّ الممدوح يستحقّ التعظيم والمدح بكلّ خصلة من خصال الخير يفعلها. فلمّا كانت افعال اللّه تعالى كلّها مختصّة بالحسن والاحسان، ولا يمكن عدّها واحصاءها على التفصيل، كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، فلا يمكن للخلايق، وان بذلوا مجهودهم، ان يبلغوا تعظيمه ومدحه على التفصيل. وانّما يمدحونه جملة.

(173) وقال ايضا بعض المتكلّمين لا يبلغ المادحون مدحته على‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 38

التفصيل حتّى يمدحوه عالما قادرا على كلّ مقدور وبكل معلوم، وانما يمدح على الاجمال بكونه عالما قادرا.

(174) امّا الكلام فى المدح والمدحة، فالمدح والمديح والأمدوحة الثنآء الحسن، والمدحة اخصّ من المدح: قال الشاعر:

         لو كان مدحة حيّ منشرا احدا   ***   احيا ابا كنّ يا ليلى الاماديح‏

 

(175) وقال بعض المحققين: العقل انما خلق فى الاصل لادراك الاوّليّات التى لا يحتاج فيها الى المقدّمات. فامّا ادراكه بحقايق الاشياء، فكانّه خارج عن طبعه الاصليّ. كما انّ حاسة اللّمس خلقت فى الاصل لادراك (21 پ) الملموسات من حيث انّها ملموسات. فاذا استعملها الاكمه للاستدلال على وجود ما يدرك بالقوة الباصرة، كان ذلك خارجا عن طبعها.

فكذلك العقل خلق لادراك بعض المخلوقات، كما قال، عليه السّلام: تفكّروا فى المخلوق، ولا تتفكّروا فى الخالق. فكذلك قال: لا يبلغ مدحته القايلون، لان العقل لا يحيط بكنه معرفته.

(176) قوله: ولا يحصى نعماءه العادّون، ويروى «نُعماه»، وقد تقدم شرحه.

قال بعض المتكلّمين: يعنى لو قدّرنا اوقاتا مع اللّه، تعالى، لم يكن لها نهاية، فنفى الاحصاء واثباته كلاهما يرجع الى مقدّر محذوف. لانّ البقاء ليس باشياء فيعدّ، ولا يجوز ان يحصى الواحد. فلا بدّ من صرفه الى المحذوف، وهو الاوقات.

و قيل: الحصاة العقل، قال الشاعر:

         وانّ لسان المرء، ما لم يكن له   ***   حصاة، على عوراته لدليل‏

 

اى عقل، ويحصى يعقل.

و انشد ابو عمرو: قول سكران لا يحصى ولا يبين،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 39

اى لا يفهم ولا يفهم ولا يعقل. والمراد انّ بقاءه بقاء لا مثال له فى الشّاهد. فلا يعقل من طريق الاستدلال بالشاهد على الغايب.

العادّون، اى الّذين يعدّون الدلايل الشواهد. (177) واللّه، تعالى، ما لا نظير له فيك، فلا سبيل لك الى فهمه، وهو ذاته، تبارك وتعالى. فاذا قلت: كيف وجوده تعالى فلا يمكنك ان تضرب له مثالا من نفسك، فلا يمكنك فهم حقيقة ذات الاوّل وكماله. فاذن لا يعرف اللّه الّا اللّه. والعلم بأنّه موجود علم بامر عامّ. والعلم بانّه لا اله الّا هو، علم بنفى المماثلة، لا بالحقيقة المنزّهة عن المماثلة. كعلمك بانّ زيدا ليس بفرس ولا طاير. فانه علم بنفى شى‏ء عنه لا بحقيقته.

و السبيل الى معرفته ما عبرّ عنه الصّدّيق، رضى اللّه عنه، حيث قال: سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلا الى معرفته الا بالعجز عن معرفته.

و قال زين العابدين، عليه السّلام: غاية السبيل اليه، تعالى. ان يعرف ان لا سبيل اليه. والناس كلّهم عاجزون عن (22 ر) ادراكه. ولكنّ الذى يعلم بالبرهان المحقّق، استحالة ادراكه، فهو عارف بدركه بغاية ما يمكن للبشر ان يدركه.

فهذا معنى قوله: ولا يبلغ مدحته القايلون، ولا يحصى نعماءه العادّون. ويحتمل ان يكون معناه انّ بقاءه ليس ببقاء زمانّى، بل هو، تعالى، خالق الزمان. واذا لم يكن البقاء بقاء زمانيا فلا يحصيه العادّون بمرور الدّهور وكرور العصور، كما يحصى بقاء المحدثات بالسنين والشهور والايّام والسّاعات. فهذا ما عندى، واللّه اعلم.

(178) وقال الامام الجليل الوبرىّ، رحمه اللّه: العادّون الّذين يستفرعون وسعهم فى حصر الاعداد والاحاطة بالافراد، فليس فى وسعهم ان يعرفوا اعداد الاوقات المقدّرة فى حقّه تعالى. فالاحصاء يختصّ بالجنس، والعدّ يختصّ بالافراد. قال اللّه، تعالى: لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا.

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 40

(179) قوله ولا يؤدىّ حقّه المجتهدون،

قال بعض المتكلمين: شكر المنعم لا ينتهى الى حالة يقتصر عليها، حتّى لا يتعدّاها، بل هو ثابت ما لم يفسد الاحسان اساءة اعظم منه.

فحقّ اللّه تعالى لا ينتهى، حتّى لو دام البقاء بالخلق الى ما لا نهاية له، لكان حقّه لازما لهم. لهذا يمدحه اهل الآخرة ويشكرونه ويعظّمونه الى ما لا نهاية له من الاوقات، وان كان التكليف ينقطع. وقد جعل اللّه تعالى شواتهم فى مدائحه، تعالى، وتعظيمه والثناء عليه، كما قالوا: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي، وقال: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ.

(180) قوله: ولا يؤدّى حقّه المجتهدون، الحقّ نقيض الباطل والحقّ واحد الحقوق، والحقّ الواجب، قال اللّه تعالى: أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، اى وجبت.

و يقال للّه تعالى: الحقّ، لانّه واجب الوجود. قال اللّه تعالى ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ. ويقال: حقّ (22 پ) للقول المطابق للخبر ويقال: حقّ للمخبر عنه، اذا طابق قولا ويقال: حقّ للّذى لا سبيل للبطلان اليه. فاللّه تعالى حق من جهة صدق الخبر عن وجوده، وحقّ من طريق انّه لا سبيل للبطلان والزّوال اليه والى وجوده، وحقّ من جهة وجوب وجوده.

قال الشاعر: الا كلّ شى‏ء ما خلا اللّه باطل. والحقّ المال. قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا، اى المال. والحقّ التوحيد، قال اللّه، تعالى: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ، اى التوحيد. والحقّ الصدق، قال اللّه تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ اى الصّدق. والحقّ العدل، قال اللّه تعالى رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، اى بالعدل. والحقّ القرآن. قال اللّه تعالى: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ، وقال: بل كذّبوا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 41

بالحقّ. (181)

فقال قوم: معنى قوله: لا يؤدّى حقّه المجتهدون، اى لا يعرف بالضرورة توحيده المجتهدون، وضعوا الحقّ بمعنى التّوحيد.

(182) و

قال قوم: لا يؤدى حقّه، الحقّ بمعنى القرآن، اى لا يعارض قرآنه المجتهدون. كما قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ.

(183) و

قال قوم: كمال معرفة الحقايق امر مشكل. ومن اراد ان يعرف حقيقة النار المحسوسة، تعذّر ذلك عليه، ولا يخبر عن خواصّها وآثارها وجسميّتها، ولذلك يصعب بيان الحدود. فكيف يدرى المجتهد حقّ من ينال به كلّ حقيقة وجودها.

(184) قوله لا يدركه بعد الهمم. من اراد من المكلّفين ان يبلغ عند معرفة اللّه الى حيث لا مجال فى علمه به الشكّ والشبهة فيه فى دار التكليف، فقد رام امرا لا يحصل له، لانّ العلم باللّه تعالى مكتسب، ولا بدّ من جواز طريان الشّبهة عليه، ولا يدفع تلك الشبهة الّا بالمواظبة على النظر فى الادلة، ومراقبة طرق المعرفة.

(185) فالمراد بقوله: لا يدركه بعد الهمم اى لا يعرفه المكلّف مع بقاء التكليف بالضّرورة.

و قال قوم: العرب يقول فلان بعيد الهمّة بكسر الهاء وفتحها اذا كان بعيد القصد. (23 ر) والقصد اتيان الشى‏ء.

و

فى مجمل اللغة: الهمّ والهمّة ما هممت به، أى ما به قصدت.

فقوله: ولا يدركه بعد الهمم اى بعد ما قصدته وقصدت اليه. لانّ هذا الادراك لا يتناول الا الشى‏ء المكانيّ، واللّه، تعالى، منزّه عن المكان. (186) قوله: ليس لصفته حد محدود،

قال الامام الجليل الوبرىّ: معناه لا نهاية لكونه مختصّا بالوجود، لأنّه قديم، وليس لعالميّته حدّ، على معنى انّه لا ينتهى الى معلوم لا يعلمه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 42

و

قال قوم: ليس لصفته حدّ، يعنى حدّ، مركب من الجنس [و الفصل‏] يكون للموصوفات الّذى لا وحدة له.

(187) وقال قوم: لو كان للصفة حدّ، لكانت للصّفة حقيقة منفردة هى بحقيقتها المنفردة معلومة بنفسها بلا اعتبار الذات، ولا اعتبار لحقيقة الصّفة على الانفراد ولا وجود كما لا اعتبار للذات، الّا بكونها على صفة. فلذلك قال: ولا نعت موجود، يعنى ليس للصفة اعتبار على الانفراد مع وجوده، [و] كلّ محدود مركّب فى المعنى.

(188) وقال الامام الوبرىّ: يريد به ولا منعوت، لانّ النعت قولنا: «و هو موجود»، فلا بدّ من صرفه الى منعوت او ذى نعت على تقدير حذف المضاف. فمعناه «لا مثل له» فيما يختصّ به من القدم، فهو معنى قوله، تعالى: فاطِرُ السَّماواتِ وَ.

(189) قوله ولا وقت معدود، لان الاوقات توابع حركات الافلاك، والافلاك وحركاتها محدثة، والحوادث لا يصحب القديم.

(190) وقال بعض الحكماء المراد بقوله: ليس لصفته حدّ محدود، اى لصفة وجوده. فانّ الوجود لفظ لا حدّ له، وانّما يشرح اسمه. فانّ كلّ حدّ يقال للفظ الوجود، فلفظ الوجود ابين منه. فليس لوجوده حدّ محدود. ولوجود غيره وجود الجواهر والاعراض، وللجواهر والاعراض حدود ورسوم.

و لا نعت موجود، اى ليس لوجوده سبب موجود وموجد. (23 پ) والنعت الصفة، والنعت السبب.

و قال الرّاعى: لكل امور فى الزّمان نعوت، اى اسباب

و قال كلاب بن مرّة: يصف الكعبة فى قصيدة منها:

         بيت ابينا سيّد البيوت   ***   شرفّه مسبّب النّعوت‏

 

اى مسبّب الاسباب.

و من المعقولات ما لا حدود له كالاجناس العالية، فانّها متصوّرة، وليست‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 43

بمحدودة، اذ لا اجناس لها، بل هى اجناس الاجناس.

(191) وقال قوم: الحدّ قول دالّ على ماهيّة الشّى‏ء.

و قال قوم: الحدّ ما يدلّ على الشى‏ء دلالة مفصّلة متصلة بما به قوامه، وفيه احتراز من الرسم وشرح الاسم.

(192) وقال بعض المتكلمين: الحدّ قول وجيز يعرّف المحدود.

(193) قوله معدود، دلالة على استحالة القدم على الاوقات، واستحالة حدوث حادث قبل حادث لا الى اوّل، لانّ المعدود صفة الوقت، وكلّ وقت معدود. كما انّ كلّ جسم متحيّز وكاين. وكلّ معدود فله اوّل ومبدأ، وما لم يكن له مبدأ، يبتدأ منه فلا يعدّ ولا يمسح. (194) قوله ولا اجل ممدود، يتناول المستقبل، اى لا نهاية له فى الاستقبال ولا غاية ينتهى اليها فيعدم، او يجوز عليه الفناء والعدم. فكما لم يجز ان يقارنه فى المستقبل، استحال عدمه، ووجب وجوده. وهذا يفارق ساير الاشياء فى صفة الوجود. فما من موجود باق سواه، الّا ويجوز عليه الفناء والعدم فى كل وقت، وان دام بقاءه، ولانه يقارنه الاوقات. وليس كذلك القديم تعالى، لانّه لا يجوز مقارنة الاوقات له، فيجب وجوده فيما لا يزال، ولا يجوز عدمه.

(195) وسئل 1 جعفر بن محمد الصادق، عليهما السّلام، عن الاوّل والآخر، فقال: لم يزل قبل كلّ شى‏ء، فاحدث الاشياء بعد ان لم يكن، واذا كان قبلها لم يزل، فلمّا دلّ على انّه لم يزل، دلّ على انّه لا يزال، لانّ الّذى لا اوّل له لا آخر له، وان الّذى لم يزل ولا يزال، فهو الاوّل الذى كان الاشياء، ازليّا، والآخر الّذى يكون بعدها ابديّا. (196)

و قال قوم هو، تبارك وتعالى، (24 ر) اوّل من حيث انّه موجد كلّ موجود سواه ومحدثه، وهو اوّل من جهة انّه اولى بالوجود من غيره، لانّ وجوده واجب، ووجود غيره ممكن. قال اللّه، تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 44

اللَّهِ. وهو اوّل من جهة انّ كلّ محدث مخلوق اذا اعتبر، كان فيه اولا اثره، يعنى ايجاده واحداثه. وهو آخر، لانّه المنتهى، لقوله، تعالى، وَأَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏. وآخر بمعنى انّ الاشياء اذا نسبت الى اسبابها ومباديها، وقف عنده المنسوب. وهو الآخر، لانّه الغاية الحقيقيّة فى كلّ طلب.

(197) مثال ذلك اذا قلت للمريض: لم شربت الدواء، فقال لتغيّر المزاج، [فقلت لم تتغيّر المزاج‏] فقال: للصحّة، فقيل: ولم طلبت الصّحة، فقال للسعادة والخير. ثمّ لا تسال عنه بعد ذلك، لانّ السعادة والخير مطلوبان لذاتيهما لا لغيرهما.

و اللّه، تعالى، مطلوب كلّ طالب، ومعبود كلّ عابد، لا لغيره، بل لانّه يحقّ ان يعبد ويطلب رضاه، لعظمته وجلاله وكبريائه، وهو آخر تبارك وتعالى، من جهة انّه، تعالى ليس بزمانىّ، بل هو خالق الزمان. وكلّ زمانىّ فقد يمكن ان يوجد زمان وزمانىّ متأخّر عنه. واعتبر ذلك بنعيم اهل الجنة، واللّه، تعالى، منزّه عن ذلك. فهو آخر بذلك المعنى.

(198) وقيل: انّ الاول والآخر من الاسماء الّتى يتعلّق معانيها بالاضافات، فصلح ان يكون الاول نفسه آخرا، والآخر اوّلا، على اعتبار الاضافات المختلفة. واذا كان اللّه، تعالى، يفنى كلّ حىّ مخلوق، ولم يبق سواه موجود، فقد حصل معنى الاول والآخر. ولا يلزمنا انّا اذا قلنا: زيد ابو عمر ان يكون زيد ابا من كل وجوه الأبّوة. بل اذا حصلت الابوّة من وجه، فهو اب لا محالة.

(199) وقال قوم: معناه ولا اجل ممدود، اى لا ضد له، تعالى، به يفنى، لانّ الضدّ عند قوم ما هو مساو للشى‏ء فى قوة ممانع، والحدث لا يكون مساويا للقديم (24 پ) ممانعا ايّاه.

(200) وعند قوم: الضّد يقال لمشارك فى الموضوع معاقب غير مجامع، اذا كان فى غاية البعد طباعا. واللّه تعالى، ليس بعرض ولا بامر

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 45

جسمانىّ، فلا يفنى، وليس له اجل ممدود.

(201) قوله: فطر الخلايق بقدرته، اراد به المحدثات، والفطر الابتداء والاختراع.

قال ابن عباس، رضى اللّه عنه: لا ادرى ما فاطر السّموات والارض، حتّى اتانى اعرابيّان يختصمان فى بئر، فقال احدهما: انا فطرتها، اى انا ابتدأتها. والفطرة الخلقة. يقال: فطرناب البعير، طلع، وبعير فاطر. وتفاصيل المحدثات الملائكة والافلاك وما فيها والاثار العلويّة والعناصر والانسان والحيوانات العجم والنّبات والجماد. فتبارك اللّه، احسن الخالقين.

(202) وقال قوم: فطرو احدث، تبارك وتعالى، الاشرف فالاشرف نازلا الى الاخسّ، حتّى بلغ فى الايجاد والاحداث الى انقص الموجودات، وهو طينة الكائنات الفاسدات. ثمّ ابتدأ منها الى الاشرف فالاشرف، حتّى انتهى الى الانسان المكرّم فى هذا العالم. كما قال اللّه، تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ.

(203) واقول: اخطأ من تكلّم فى تفاصيل مخلوقات اللّه، تعالى، وكيفيّاتها، لانّ من ركّب معجونا من المفردات لا يدرى كيفيّة هذا التركيب واوزان المفردات سواء، وان كان المركّب صيد لانيّا هو اهله. لكنّ الحذّاق والحكماء يعجزون عن معرفة تفاصيل ذلك التركيب، فكيف يحيط علومنا الناقصة الّتى قال اللّه، تعالى، فيها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ بتفاصيل افعال اللّه، تعالى، وكيفيّاتها. وقد اخبر اللّه تعالى عن ذلك حيث قال: ما اشهدتّهم خلق السموات والارض ولا خلق انفسهم. ولم يبق هاهنا كلام للمهندس والحكيم الذى يتكلّم فى الافلاك وحركاتها واعدادها واوضاعها، ولا للطّبيب الّذى يتكلّم فى التشريح وغير ذلك الّا موجب الحسبان، والظنّ (25 ر) لا يغنى من الحقّ شيئا.

 

معارج‏نهج‏البلاغة، متن    ، صفحة 46

(204) قوله: ونشر الريّاح، برحمته، ووتّد بالصخور ميدان ارضه، من روى ميدان بجزم الياء فروايته ضعيفة، لانّ اللفظ من «ماد يميد» اذا تحرّك، ومصدره الميدان بفتح الياء كالنّزوان، وقول الشاعر وهو ابن احمر: وميدانا من العيش اخضرا. هو واحد الميادين. وريح نشر منتشرة، من نشرت الكتاب ونشر اللّه الميّت.

(205) وقال قوم انّ اسباب الرياح بتقدير اللّه، تعالى، دخان يصعد من الأشياء اليابسة. وليس الموضع موضع كشف ذلك.

(206) واما نشر الرياح، فيعرف من اصول الرياح، وهى الصّبا، والدبور، والشّمال، والجنوب، فالصباريح تهبّ من جانب القطب الشمالي، والجنوب ريح تهبّ من جانب القطب الجنوبى.

(207) وقال قوم فى حدّ الريح: انّها حركة الهواء. وقال قوم انّها الهواء المتحرّك. وهذا الحدّ الاخير غير مقبول عند ارباب هذه الصناعة.

(208) وينقسم الصّبا الى اقسام: فانّ اوّل الحمل مشرق الربيع، واوّل السرطان مشرق الصّيف، واوّل الميزان مشرق الخريف، واول الجدى مشرق الشّتاء. ولكلّ يوم مشرق. واذا كثرت المشارق والمغارب، كما قال اللّه تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ، فلا بّد من الطرفين والوسايط.

و كذلك من جانب الشّمال نقسط كلما هبّت الريح من نقطة، قيل لها ريح الشّمال. فينقسم الصّبا الى ثلثة اقسام، والشّمال ايضا الى ثلثة اقسام، والدّبور والجنوب كذلك. فيكون اقسام الرياح. [اثنى عشر].

(209) والعرب يقول للرياح التى يهبّ لا من نقطة الاعتدال ونقطة المغرب والشّمال والجنوب النّكباء. والريح الشمالى انفع الرياح وابردها، لانّ فى الجانب الشّمالى الثلوج الكبيرة. وريح الجنوب آخر الرياح. والصّبا والدّبور مملك لسان، لذلك يقال نسيم الصّبا. فهذا شرح نشر الرياح عند قوم، واللّه اعلم.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 47

(210) فائدة الرياح انّها تروّح الاجسام وتزجى السّحاب من موضع الى موضع، ليعمّ نفعه، وتلقح (25 پ) الاشجار وتنشر السّفن وتذرى الاطعمة وتبرّد الماء وتشبّ النار وتجفّف الاشياء النديّة. ولولا الريح لذوى النّبات وفسدت الاشياء ألا ترى انّ الريح اذا ركدت، كيف يحدث الكرب والمرض للاصحّاء، وينهك المرضى، ونقص الثّمار والبقول، ويحصل الوباء. (211) قوله: ووتّد بالصخور ميدان ارضه، مأخوذ من قول اللّه تعالى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً. وعند قوم اصحاب الحجارة.

و الجبال مذكورة فى الاثار العلويّة ولا حاجة الى ذكرها، ونحتاج الآن الى فوايد الجبال ومنافعها. اعلم انّ الجبال مأوى بعض الحيوانات، ومعاقل الانسان عند المخاوف والشّدايد، وخزائن الثّلوج. وفى سفاحها منابع العيون الّتى هى اسباب العمارة، وهى اسباب الاطلاع على السّهول والبرارى ومنابت الاودية الجبليّة والمعادن. (212) قول: عليه السّلام: اوّل الدين معرفته، معناه اوّل امور الدين المقصودة فى نفسها معرفة اللّه، تعالى. ولم يرد انّ المعرفة يبتدأ به فى الدين، ولكن هذه هى المقصودة، ولا يتوصّل اليها الا بالنّظر. فعدّه العلماء اوّل الواجبات، من حيث انّه لا طريق الى المقصود الا به. (213) قوله: وكمال معرفته التصديق به، الدّلالة الشرعيّة قامت على انّ الاقرار باللّه واجب كمعرفته اذا امكن، ولم يمنع منه. فلذلك عدّ الاقرار والتصديق كمال المعرفة.

(214) ويحتمل التصديق بالفعل، فانّه يقال فيمن عمل بعلمه انّه صدّق علمه بفعله ومن لم يعمل بموجب علمه، يقال فى عرف الدين: انّه كذّب علمه وما صدّقه. هذا قول بعض القائلين.

(215) وقال قوم: التصديق هو حكم الذهن بين معنيين متصوّرين بانّ احدهما الآخر او ليس، واعتقاده طابق ذلك الحكم وصدّقه. كقولنا:

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 48

الاثنان نصف الاربعة. وليس عند هؤلاء فى معرفة اللّه، تعالى معنيان يحكم باحدهما على الاخر او يسلب، لانّ اللّه، تعالى، واحد لا كثرة ولا تثنية فيه، تعالى عن (26 ر) ذلك. فالمراد عندهم بقوله: «التصديق به» انّ تصوّر هويّته وتصور معنى اسمه، تعالى، تصور بحسب الذات، فيتقدّمه التصديق. فكمال معرفته هذا، التصديق به على وجه لا يؤدّي الى الكثرة والانقسام.

(216) قوله: وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، لانّ العلم باللّه تعالى على صفاته لا يتمّ الّا بالعلم بانّه واحد فى هذه الصفات، فلا شى‏ء يستحقّ ما يستحقّه اللّه، تعالى، من صفات ذاته. فما من شى‏ء سواه، الا واللّه، تعالى، يخالفه ويفارقه فيها يختصّ به بما هو اصل لكونه الها. فلهذا هو فى الالهيّة واحد. ومعناه لا يجوز ان يستحقّ غيره من الصفات ما يستحقّه على وجه استحقاقه. فلهذا لم يكن اللّه، تعالى، الّا واحدا.

فهو واحد فى الاهيّته. فحقيقة هذه الصفة ترجع الى نفى هذه الصفات عن غيره، فاستحالتها عليه بعد استحقاقه، سبحانه وتعالى، لها. فلهذا قال: وكمال التصديق به توحيده. (217)

و قال قوم: كمال التصديق به توحيده كما ذكرناه من تصور بحسب الذات، ويتقدّمه تصديق لا يؤدّى الى كثرة وانقسام. وانّ واجب الوجود واحد بحسب تعيّن ذاته. وواجب الوجود لا يقال على كثرة بوجه، ولا ينقسم بأجزاء القوام مقداريّا او معنويّا. والا لكان كلّ جزء من اجزائه، امّا واجب الوجوب، فيكثر واجب الوجوب، وامّا غير واجب الوجوب، فهى اقدم بالذّات من الجملة. فيكون الجملة ابعد من الوجوب به فهو واحد لا ينقسم تقديرا ولا عدّا، واحد لا يقارن نظيرا ولا ضدا، واحد ذاتا ونعتا وكلمة وحدّا. فهذا معنى قوله: كمال التصديق به توحيده، عند هؤلاء.

(218) وامّا قوله كمال توحيده الاخلاص له، قال الامام الوبرىّ الملقّب بالجليل، رحمه اللّه: يدخل فى الاخلاص العلم والاقرار (26 پ)

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 49

باللسان والعمل بالاركان، كما ذكر، تعالى، فى قوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

(219) وقال قوم: الاخلاص له معناه انّه، يعنى المخلص، يغيب عن نفسه، فيلحظ جناب القدس فقط، وان لحظ نفسه، فمن حيث هى لاحظه.

(220) قوله: وكمال الاخلاص له نفى الصفات عنه. هذا الكلام لا يدلّ على نفى الصفات مطلقا، لانّه، رضى اللّه عنه، قال قبل ذلك: «ليس لصفته» فاثبت الصفّة. ولا تناقض فى كلامه. فمن وصف اللّه، فقد قرنه، فهذه الصفة المراد بها ما يكون غير اللّه، تعالى، وشيئا آخر، حتّى يكون قرينا له.

(221) وقال قوم: الصّفة ليست بشى‏ء سوى الموصوف، وانّما المعلوم هو الموصوف، والشّى‏ء هو الموصوف. وليس يصحّ ان تكون الصفة امرا زايدا على الموصوف.

(222) وقال قوم: المراد بذلك بالصفات المنفيّة هاهنا، ما هى غير اللّه، كما زعم قوم، لشهادة كلّ صفة انّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصّفة.

(223) وقال قوم: المراد بذلك انّ الجنس صفة للنوع، والفصل ايضا صفة له، وللجنس مفهوم غير مفهوم الفصل، وكذا للفصل، والنوع مركب من الجنس والفصل. فنفى الصّفات يجرى مجرى الجنس والفصل من اللّه، تعالى.

و الدليل على ذلك قوله: لشهادة كلّ صفة انّها غير الموصوف. انّ مفهوم الجنس ومفهوم الفصل غير مفهوم النّوع، ومفهوم النّوع الّذى يقّومه الجنس والفصل، [غير مفهوم كلّ واحد منهما على الانفراد، لانّ الجنس والفصل‏] هما الحدّ، والنوع هو المحدود. وفرق بين المحدود والحدّ. لذلك قال: وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصّفة.

(224) قوله: فمن وصف اللّه، فقد قرنه. القران هاهنا يدلّ على جمع شى‏ء الى شى‏ء. ومن وصف اللّه، تعالى، كما يوصف النوع بالجنس‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 50

و الفصل والخواصّ، فقد جمع شيئا الى شى‏ء. ومن قرنه فقد ثنّاه، غير مهموز.

فلا شكّ انّ من جمع بين الجنس وركّب منهما نوعا فى ذهنه، فقد ثنّى. قال (27 ر) ومن ثنّاه فقد جزّأه. الجنس جزء النوع، والفصل جزء آخر. وهما من اجزاء القوام. ومن جزّأه، فقد جهله وما عرفه. فواجب الوجود، تعالى، لا فصل له، ولا جنس له، ولا حدّ له، ولا نوع له، ولا ندّ له. فكمال الاخلاص نفى الصفات عنه. (225) «و من اشار اليه، فقد حدّه»، معناه انّ الاشارة لا يصحّ الّا بالآلة. فانّ اصل الاشارة الايماء باليد. والآلة لا يصحّ توجيهها الّا الى متحيّز. والمتحيّز لا يصحّ الّا أن يكون فى جهة. وما كان فى جهة لا بدّ من كونه محدودا. لانّ مالا حدّ له ولا نهاية وكان ذا اجزاء، استحال وجوده.

فالموجود فى جهة يجب كونه متناهى القدر والمساحة. والمتناهى فى المساحة والقدر هو المحدود. فقوله: من اشار اليه، فقد حدّه، ومن جوّز الاشارة الحسّيّة الى اللّه، تعالى، فقد اعتقد جسما ذا حدود واقطار.

و قال قوم: من اشار اليه، فقد حدّه، اراد به الاشارة الوهميّة. لانّ الوهم لا يثبت موجودا الّا وهو مشار الى جهته، والحدّ هاهنا حدّ الجهة والمكان.

(226) قوله: ومن حدّه فقد عدّه، لانّ الابعاد والاعداد واقعان تحت جنس. وقيل: اللفظ المفرد لا يكون حدّا. اذ القول هو المركّب. وكذلك يعلم انّ ما لا تركيب فى حقيقته وماهيّته فلا حدّ له. وقوله: عدّه، يعنى عدّ مقوّماته. (227) وقوله: من قال: فيم، فقد ضمّنه. وذلك لانّ التضمين والمداخلة فى الشى‏ء لا يصحّ حتّى يكون المداخل عرضا خاصّا يحلّ فى الجسم، او يكون جسما يحتوى عليه جسم آخر، كالسّاكن فى الدّار. وكلاهما لا يصحّان على القديم، تعالى. لانّه ليس بجسم، فيكون الجسم الآخر حاويا له، ويكون مضمّنا فيه، وليس بعرض، حتّى يحلّ فى جسم، فيكون الجسم محلا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 51

له فلا يصحّ تضمينه، تعالى، على هذين الوجهين، ولا يصحّ فى التضمين وجه ثالث حتّى (27 پ) ينفى عنه، تعالى. (228) وقوله: ومن قال: علام، فقد اخلى منه مكانا دون مكان، وذلك لانّ العلوّ والتمّكن يقتضيان ان يخلو عنه غير ذلك الشى‏ء من مكان خلا أو ملاء. فلو جاز تمكّنه على شى‏ء، وشغله له، لوجب خلوّ ساير الاماكن عنه. فكان يجب ان لا يقدر على اختراع الاجسام، بل اختراع الافعال الّا بحيث [يكون مباشرا له‏] او قريبا منه، لانّ الجسم لا يفعل الّا مباشرا او قريبا منه.

و قد علمنا صحّة وجود افعاله داخل العالم فى السّموات والارضين، فوجب ان لا يجوز تمكنّه على مكان، وشغله مكانا امّا بمجاورة او حلول.

و قال قوم: نفى عنه المقولات، وهى الجوهر، والكمّ المتّصل والكمّ المنفصل والوضع والاين ومتى والجدة والمضاف وان ينفعل.

(229) قوله: كائن لا عن حدث، لانّ وصفنا للشى‏ء بانّه كائن يستعمل على وجهين بالحدوث عن العدم، وتارة بمعنى انّه موجود على صفة.

و قال قوم: مطلب «هل» البسيط، اى هل كان الشى‏ء موجودا، ومطلب «هل» المركّب، اى هل [كان‏] الشى‏ء موجودا على صفة كذا، مطلبان فى هذا الباب واذا اريد بالكون الحدوث عن العدم، افرد عن القران، فيقال: كان كذا، واطلق اطلاقا من غير تقييد. واذا اريد التحيّز فى الموصوف، ذكر الاسم دون الفعل، فيقال: كائن، فيراد به متحيّز شاغل للجهة.

و لا يستعمل لفظة الكائن فى حقّ اللّه، تعالى، الّا بمعنى الوجود. فقوله: كائن لا عن حدث اى موجود لم يزل.

(230) وقال قوم: وجود البارى، تعالى، وجود لا يسبقه عدم، لانّ كلّ وجود سبقه عدم، حدث بعد ما لم يكن. وكلّ ما حدث بعد ما لم يكن، فله سبب فى الحدوث. وكلّ ماله سبب فى الوجود فهو ممكن الوجود، وقد فرضنا القديم، تعالى، واجب الوجود، تبارك وتعالى. وكلّ ما هو ممكن الوجود، فلا بدّ من ان ينتهى الى واجب الوجود. وذلك ما اردنا ان نبيّن.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 52

(231) وقوله: موجود لا عن عدم، هو تاكيد للمعنى الاوّل. و

قال قوم: (28 ر) قوله: كائن لا عن حدث، يعنى: موجود لا كوجود الانسان من النطفة المحدثة، والسيف من الحديد المحدث، والنبات من البذر المحدث، والمتولّدات عن الاسباب المحدثة، وموجود لا عن عدم، اى لم يسبقه عدم اصلا وراسا كالعالم المحدث. فانّ اللّه احدثه لا عن مادّة واصل ومثال.

(232) وقوله: مع كلّ شى‏ء لا بمقارنة، روى بالباء والنون. قيل: لمّا استحال الحلول والمجاورة عليه، لم يبق فى الجواز عليه الّا كونه عالما بكلّ شى‏ء، قادرا على انواع المقدورات على ابلغ ما يعقل من الوجود. ويقال: الامير معى، يعنى: انّ مثال الامير او تشريفه او نصرته معى. (233) وقوله: وغير كلّ شى‏ء لا بمزايلة، ويروى: ويباين عن كلّ شى‏ء، معناه: اذا كان غير كلّ شى‏ء، فلا بدّ من كونه مخالفا لكلّ شى‏ء، لانّ الغيريّة الّتى هى انفراد الذّات عن ذات اخرى هى صفة ثابتة لكلّ شى‏ء، فلا يجوز ان يقع لها المباينة بين القديم وبين كلّ محدث، فيجب ان يراد بها مباينة القديم لكلّ شى‏ء، ولذلك قيّده وقال: لا بمزايلة. والغيريّة بين الاشياء تعقل بالمزايله. فاذا كانت غيرية لا بمزايلة، فلم يعقل منها الا المخالفة والمباينة فى الصفات.

(234) وقال قوم: معنى قوله: غير كلّ شى‏ء لا بمزايلة انّ اللّه، لا يشارك شيئا من الاشياء فى ماهية ذلك الشى‏ء، لانّ كلّ ماهيّة لما سواه مقتضية لامكان الوجود، ولا يدخل الوجود فى مفهومها، بل تطرأ عليها من موجودها. فواجب الوجود لا يشارك شيئا من الاشياء فى معنى جنسى ولا نوعى، (28 پ) فلا يحتاج اذن ان ينفصل عنها بمعنى فصلىّ او عرضىّ، بل هو منفصل باين بذاته عن كلّ شى‏ء لا بمزايلة كمزايلة الانسان الفرس بالفصل الذاتىّ.

(235) قوله: فاعل لا بمعنى الحركات، والآلة، لانّ الجسم لا يعقل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 53

كونه فاعلا الّا باحداث فعل فيه او فى غيره بالمماسّة. وذلك لا يصحّ الا باحداث حركة فى نفسه فى الاكثر، او باستعمال آلة فى الاكثر، اذا اراد احداثه فى الغير. وانّما احترز بالاكثر عن الارادة والكراهة والنظر فى المباشر وعن الاعتقاد فى المتولّد، لانّ الارادة والكراهة تفعلان على وجه المباشرة لا بحركة، وكذلك النظر بفعل الاعتقاد متولدا لا بآلة سوى القلب.

(236) وقال قوم: البارى، سبحانه وتعالى، مبدع. ومعنى الابداع ان يكون للفعل وجود من المبدع متعلّق به فقط، دون متوسّط من مادة او آلة او زمان او غير ذلك. فذلك معنى قوله: فاعل لا بمعنى الحركات والآلات.

(237) قوله: بصير اذ لا منظور اليه من خلقه، المراد به انّه حىّ لا آفة به فى ما لم يزل. وقول العلماء: انّ اللّه تعالى، لم يزل سميعا بصيرا، انّه على حال لو كان مدرك لادركه. فاذا اوجد المدرك، وجب ان يدركه. ولذلك قيّده بكنيته، وقال: اذ لا منظور اليه من خلقه. والمنظور اليه هو المدرك. فكنّى عن المدرك بالمنظور اليه. فكانّه قال: هو، تعالى، على حال لو كان مدرك لادركه.

(238) وقال قوم معنى قوله: بصير اذ لا منظور اليه فى خلقه انّه بصير لا بالآلة والحاسّة والمقابلة والمحاذاة، لانّ النظر اذا قرن بالبصير يقتضى ذلك.

و اللّه، تعالى، منزّه عن الحاسّة والآلة.

(239) وقال قوم: انّ اللّه تعالى، وصف نفسه بصفات متعدّدة، فقال، انّ اللّه، تعالى، على كلّ شى‏ء قدير، واللّه بكلّ شى‏ء عليم، وهو السميع البصير. وهذه الصفات تتعدّد بسبب نسب المخلوقات الى (29 ر) ذاته، تعالى، فاتّحدت من الوجه، الذى يلى الذّات.

(240) قوله: متوحّد اذ لا سكن يستأنس به، اشارة الى انّ وحدانيّته ليست على معنى الانفراد عن الامثال والاشباه، لانّها فى الحقيقة وحدة غير حقيقيّة. فمن له مثل، يعتزل عنه مثله او جاره، فذلك ذلّ وعار ونقص.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 54

و معنى الوحدانيّة فى حقّ اللّه، تعالى، ما يخالف ذلك.

(241) وذلك ينقسم الى ثلثة اقسام: احدها انّه واحد فى الالهيّة، لقولنا: لا إله الّا اللّه.

و الثانى انّه واحد لا يجوز عليه الاجزاء والابعاض، فهو واحد فى ما لم يزل ولا يزال كذلك، فهذا معنى قوله: اذ لا سكن يستأنس به.

و الثالث انّ وحدانيّته نفى الكثرة والعدد عنه، ونفى التجزية والتبعيض، ونفى التنقيص والتقلّب، ونفى كونه علة وكونه معلولا، ونفى الشريك والنّظير والمثل. فهو، تعالى، واحد، لانّ احد وجوه الواحد ان يكون تامّا.

(242) والبارى، تعالى، تامّ الوجود، لانّ نوعه له، فليس من نوعه شى‏ء خارج عنه. والكثير والزايد غير واحدين، والبارى، تعالى واحد من جهة انّ حقيقته له، وواحد من جهة انّه لا ينقسم بالكمّ، ولا بالمبادى المقوّمة له، ولا باجزاء الحدّ، وواحد من جهة انّ لكلّ شى‏ء وحدة تخصّه، وبها كمال حقيقته الذاتيّة، وواحد من جهة انّ مرتبته من الوجود، وهو وجوب الوجود، ليس الّا له.

و قد اكّد السمع ذلك، حيث قال اللّه، تعالى، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.

(243) وفرق بين الواحد والاحد. والاحد وضع لنفى ما يذكر معه فى العدد، والواحد اسم مفتتح 1 العدد، فيقال: واحد، اثنان، ثلثة، وقد فرّق بينه فى الاثبات وبينه فى النفى، فقيل فى النفى ليس [احد. و] اصله الواو. ويجي‏ء الأحد بمعنى الواحد، فيقال: يوم الاحد، كانّه مبدأ ايّام الاسبوع. والواحد ذكر (29 پ) لانقطاع المثل والنظير. قال اللّه، تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.

(244) قول اللّه، تعالى: «واحِدٍ» نفى الكثرة والعدد. وقوله: «اللَّهُ الصَّمَدُ» نفى التنقيص والتقلّب. وقوله: «لَمْ يَلِدْ» نفى كونه علة، وقوله: «لَمْ يُولَدْ» نفى كونه معلولا. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ نفى الشريك والنظير عنه.

(245) وكانت بنت خالد بن سنان النبىّ، عليه السلام، حاضرة عند رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، فقال رسول اللّه: انّ اباها كان نبيّا شريفا ضيّعه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 55

قومه. فلمّا سمعت هذه المرأة سورة الاخلاص، قالت: يا رسول اللّه انزل اللّه على ابى، عليه السّلام، معانى هذه السّورة، وقال: هى التوحيد. فقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، لها: ما انزل اللّه على ابيك الهى واحد احد ليس له والد ولا ولد لا مثل له ولا نظير. فهو الغنىّ الحقّ القيّوم، لا اله الّا هو ربّ الدنيا والاخرة. (246) قوله: انشأ الخلق انشاء وابتدأه ابتداء بلا رويّة اجالها ولا تجربة استفادها، من فعل بالرويّة والفكر، فله قوة تخرج الى الفعل. واللّه، تعالى، منزّه عن ذلك. واجالة الرويّة واستفادة التجربة لازمتان للحواسّ، لانّ المحدثات قضايا واحكام تتبع مشاهدات منّا تكرّر فتفيد اذكارا بتكرّرها منّا، فيتاكّد عقد قوىّ لا يشكّ فيه، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا. (247) قوله: ولا حركة احدثها، اى اخذها فى ذاته، لانّه يحدث الحركات فى الاجسام، ولذلك يوصف بأنّه يحرّك الاشياء، ولا يوصف بانّه متحرّك. لانّ المتحرّك ما حلّته الحركة، سواء كانت باختياره او باختيار غيره.

و المحرّك فاعل الحركة، احدثها فيه او فى غيره. (248) قوله: ولا همامة نفس اضطرب فيها، ويروى: ولا همّة نفس اضطرب، ويروى، ولا هماهمة. ذلك آثار الانسان وخواصّه، تعالى اللّه عن ذلك. لانّ همامة النّفس هاهنا قواها، كالحسّ (30 ر) المشترك والخيال والوهم والقوّة المفكّرة بنسبة مّا والمتخيلة بنسبة اخرى والقوّة الذاكرة.

و الهماهمة ترديد الفكر، مأخوذ من الهمهمة. (249) قوله: اجال الاشياء لاوقاتها، اى غيّر، ويروى، اجلّ.

قيل: معناه انّ الصّلاح فى الفعل قد يقف على وقت مخصوص، فتقديمه وتأخيره يخرجه عن الصّلاح، فيجب ان يكون عالما بالاوقات المستقبلة، حتّى يجرى التدبير على قضيّة الحكمة.

(250) وقيل: معناه لو قدّرنا قبل خلق العالم اوقاتا، لكان الصّلاح‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 56

فى انشاء العالم فى ذلك الوقت، حتّى لو قدّم او اخرّ تحريك الشّمس وما فى الفلك، او قدّم عليه، لخرج ما يتعلّق من الصّلاح بحدوث العالم عن انتظامه، ولصار كلّ صلاح فسادا. فلذلك قدّره على الاوقات المعروفة، ليقع كلّ جزؤ من افعاله فى الوقت الّذى وقف صلاحه عليه.

(251) وقال قوم: المراد بقوله: اجال الاشياء لاوقاتها، انّ اللّه، تعالى، قد اعطى كلّ شى‏ء ما ينبغى له، ان كان منفعلا فعلا انفعاله الّذى ينبغى، وان كان مكانيّا، ففى مكانه الّذى ينبغى. وان كان الخبر فيه ان يكون منفعلا قابلا للاضداد، فمدّته مقسومة بين الضدّين على العدل، اذا كان احدهما بالفعل، فذلك الآخر، بالقوّة، والذى بالقوّة حقّ ان يصير بالفعل مرّة. ولذلك اسباب معدّة مقدّرة بتقدير اللّه، تعالى، وحكمة اللّه هيّأت لكلّ شى‏ء اسبابه.

لذلك قال اللّه، تعالى. احدث كلّ شى‏ء خلقه.

(252) وقال قوم من الموحدّين: انشأ الخلق انشاء، الى تمام الكلام، يعنى: اوجد العالم لا من شى‏ء. انّ البنّاء اذا بنى قايما، الّف تأليفا وركّب تركيبا. فقال قوم، التّاليف عرض يحلّ محلّين. وقال من نفى الاعراض: انّه صفة. وعندهما صفة، وعندهما لا مادّة للعرض يوجد منه العرض. ولو كان الحديد مادّة السيف والسكّين، لم يكن التّاليف مادّة، ولا ما يجرى مجرى المادّة. والاعراض مخترعة. واذا جاز اختراع الاعراض، (30 پ) فلا تتعجّب من ان يخترع اللّه، تعالى، العالم لا من شى‏ء.

(253) قوله: احال الاشياء لاوقاتها ولأم 1 بين مختلفاتها، من البيّن الواضح انّ الفعل اذا كان حكمة وحسنا، صحّ ان يفعله الحكيم لحسنه لا علة اخرى، مثل الاحسان الى الغير والانصاف والعدل.

(254) وقال قوم من البغداديين: انّ احداث العالم فى الوقت الّذى احدثه اللّه: تعالى، كان اصلح، لانّ وجود شى‏ء فى وقت دون غيره لا يمتنع ان يكون الاصلح، فيكون الحكمة مقتضية له. وعندهم انّ اللّه، تعالى، لا بدّ

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 57

ان يختار الاصلح.

(255) وروى انّ داود النّبىّ، عليه السّلام، قال: يا ربّ لم خلقت العالم والخلق فقال: يا داود كنت كنزا مخفيّا اردت ان اعرف. وهذا رمز لا يعلمه الّا العارفون.

(256) وقال واحد من العلماء لا لميّة هاهنا. فكما لا يجوز ان يقال: لم كان اللّه قديما واجب الوجود، فكذلك لا يجوز ان يقال: لم خلق العالم، والّا سيأتى وقت مقدّر دون وقت.

(257) وقوله: لأم بين مختلفاتها، انّ اللّه، تعالى، جعل العناصر قابلة للقسر، حتّى يمكن منها المزاج. وعلم، تعالى، انّ المخلوق فى دار الدّنيا لا يتمّ الا بجامع ومبدّد وذى انقياد واستقصاء فخلق، تعالى، الحرارة مبدّدّة بذاتها، والبرودة جمّاعة، والرطوبة لينقاد بها الاجسام للتخليق والتشكيل، واليبوسة ليتماسك بها على ما افيدت من التقويم. (258) وقوله: عارفا بقرائنها وأحنائها، القرينة الصّاحبة، الجمع القراين، ويقال: دور قرائن يستقبل بعضها بعضا. الاحناء الجوانب. يقال: حنو الحبل اى ناحيته، واحناء الامور ما فيها من الاشتباه والاعوعاج. ويروى: الزمها اسناخها، اى اصولها. وان روى: اشباحها، فاراد به المركّب. ويروى: واحنائها. ويروى واختانها، اى امثالها. (259) قوله: ثم انشأ، سبحانه، تعالى، فتق الاجواء وشقّ الارجاء. ويروى: ونتق الارجاء، الى قوله: والماء من فوقها (31 ر) دفيق. ماء متلاطم، اى مرتفع. التيّار موج البحر. الاجواء جمع الجوّ، والماء من فوقها دفيق، اى مدفوق، يقال جاؤا دفقة، اى مرّة واحدة. (260)

و قال قوم: اذا تصعّدت البخار، وكان قليلا، فكان الهواء حارّا، حلّل الهواء الحارّ البخار، كما تكون فى الصيف، فيصير البخار هواء.

و اذا كان البخار كثيرا، ويكون حرارة الهواء قليلا، يبقى البخار على حالته، و

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 58

يتصعّد الى ان يصل الى الطبقة الّتى فيها الهواء البارد، فيبرد بسبب ذلك الهواء البارد. فاذا كانت البرودة فى تلك الطّبقة معتدلة، كثّف ذلك الهواء البخار وجعدّه وقبضه وقطّره. فيكون البخار الكثيف المنجعد سحابا، والذى يقطر مطرا. فهذا معنى قوله: فاجرى 1 فيها ماء متلاطما تيّارة متراكما زخّارة (حمله) على متن الريح العاصفة. واذا قرب ذلك البخار من الارض، يقال له الضّباب، واذا بعد، يقال له السّحاب.

(261) وفائدة الهواء سبب بقاء الابدان البشريّة وفيه يطرّد الاصوات، فيدرك من البعد، وهو الحامل للروايح. وقال جعفر بن محمّد الصادق، عليه السلام، سبحان من جعل الهواء قرطاسا خفيّا يحمل كلامنا ريثما نبلغ حاجتنا ثم ينمحى فيعود جديدا نقيّا. (262) وفائدة السحاب والمطر الّتى يطبق الارض وبه يزرع البرارى الواسعة وسفوح الجبال وذراها، وبه يسقط فى كثير من البلاد مؤنة السقّى، وينحدر انحدارا ليعلو الاراضى المشرفة، ويأتى قطارا لانّه لو انسكب انسكابا، لكان يزل عن وجه الارض، فلا يفور فيها، ويحطم الزروع القائمة اذا ادفق عليها، فصار ينزل نزولا رقيقا، وينبت الحبّ المزروع. والمطر يجلو كدورة الهواء، ويزيل الوباء والعفونة وما يقلّ 2 على الاشجار. قال اللّه، تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، الآية. (263) وقوله: ثم انشأ سبحانه، ريحا اعتقم. اعتقم وأعقم واحد.

و هما روايتان. (31 پ) وادام مربّها، اربّت السّحابة دامت.

و قيل: مرّبها مجمعها. يقال: مكان مربّ، اى مجمع، ومربّ الابل حيث لزمته.

و الاعتقام اللّىّ. وعصفت الرّيح اشتدّت، واعصفت لغة فى بنى اسد، وسمّيت عاصفا، لانّها يستخفّ الاشياء، فيعصف بها، ريح قاصف ورعد قاصف شديد الصّوت، مأخوذ من القصف وهو الكسر. ويروى بالدّال. والتصفيق ضرب الشى‏ء بعضه على بعض. والزّخار المرتفع. فمخضته حركته. حتّى عبّ عبابه اى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 59

ماج. وجوّ منفهق اى واسع، بغير عمد يدعمها ويدّعمها روايتان. ولا دسار ينظمها، الدّسار واحد الدّسر وهى خيوط يشدّ بها الواح السفينة، ويقال هى المسامير. وقيل سمّيت لانّها يدسر الماء، ويروى: يطمّها، من قولهم: طمّ البئر الرّقيم لوح فيه كتابة، ومائر متردّد فى شى‏ء. (264)

قال الامام الوبرّى: معناه فى الفلك دائر. الصحيح فى الفلك انّه ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر، انما هو السّمت الّذى يتحرّك الشمس والقمر والنجوم، فهو كالجهة لسائر الاشياء، وهو خلا لانّ الجسم لا يصحّ الّا ان يكون فى الخلأ فى كلتى حاليه فى سكونه وحركته. فاراد بقوله فى فلك دائر، اى فى سمت يسار فيه ويدور فيه الدوائر، كما يقال: ليل قائم ونهار صائم.

و قال فى الرقيم: هو حقّة محيطة باذيال السّماء المحتوية على الارض.

(265) وقال قوم: الفلك جسم كرىّ شفّاف يتحرّك على الوسط مشتمل عليه. والكوكب جسم كرىّ مكانه نفس الفلك 1 من شأنه ان ينير، متحرّك على الوسط غير مشتمل عليه.

(266) وقالت الاوائل: الفلك ليس بكونه من اجسام اخرى على سبيل التركيب والمزاج، ولا ضدّ لصورته المختّصة بمادّته، فلا يجوز ان يكون من جسم آخر، كما يتكوّن الماء من الهواء. بل وجود جوهر الفلك من فعل البارى، تعالى، على سبيل الابداع والاحداث والاختراع. ويدلّ على (32 ر) بطلان هذا الكلام كلام امير المؤمنين، عليه السّلام.

(267) وذكروا انّ الاجرام السماويّة لم يكن كلّها مضيئة بجميع اجزائها، والّا لتشابه اثرها فى الامكنة والازمنة، ولا بجميع اجرامها مشفّة والّا لما نفذ عنها الشعاع. بل خلق اللّه، تعالى، الكواكب، ولم يتركها ساكنة، والّا لا فرط اثرها فى موضع بعينه، ففسد ذلك الموضع، ولم يؤثّر فى موضع آخر، ففسد ذلك الموضع ايضا بل جعلها واحدثها متحرّكة لينقل التّاثير

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 60

من موضع الى موضع.

(268) ولو كانت الحركة الّتى للفلك الاعلى غير سريعة، لفعل من الافراط والتقصير ما يفعله السكون. ولو كانت حركة الشمس الحقيّقية، تلك السريعة بعينها، للزمه دائرة واحدة، فافرط اثرها هناك، ولم يبلغ اثرها سائر النواحى. بل هذه 1 خلق هذه الحركة منها تابعة لحركة مشتملة على الكلّ. ولها فى نفسها حركة بطيئة يميل بها الى نواحى العالم جنوبا وشمالا.

(269) ولولا انّ للشمس مثل هذه الحركة، لم يكن ربيع ولا خريف ولا شتاء ولا صيف، فخولف بين منطقتى الحركتين السريعة والبطيئة، وجعلت الاولى سريعة والاخرى بطيئة. والشمس تميل [الى‏] الجنوب شتاء، ليستولى على الارض الشمالية البرد، ويحتقن الرطوبات فى باطن الارض، وتميل الى الشمال صيفا، ليستولى على ظواهر تلك الاراضى الحرارة، ويستعمل الرّطوبات فى تغذية الحيوان والنّبات. فاذا جفّ باطن الأرض، جاء البرد ومالت الشّمسّ، فتارة تمتلى الارض غذاء، وتارة تغذّوا.

(270) ولما كان القمر شبيها بالشّمس، جعل اللّه، تعالى، مجراه فى تبدّره مخالفا لمجرى الشّمس.

(271) والشّمس تكون فى الشّتاء جنوبية والبدر شماليا، لئلّا يعدم المسخّنان معا، وفى الصّيف يكون الشّمس شماليّة والبدر جنوبيّا، لئلّا يجتمع المسخّنان معا. ولما كانت فى الصّيف على رؤس سكّان الربع المعمور، جعل اللّه، تعالى، اوجها هنالك، لئلّا يجتمع قرب الميل وقرب المسافة. فانّهما وان قربت ميلا، فقد بعدت مسافة. ولو قربت (32 پ) من جهتها، لاشتدّ التاثير والتسخين. ولما كانت الشّمس فى [الشتاء] بعيدة من سمت الرؤس، جعل اللّه حضيضها هناك، لئلّا يجتمع بعد الميل وبعد المسافة، فينقطع التأثير.

و لو كانت الشّمس دون هذا القرب او فوق هذا البعد، لما استوى تأثيرها الّذى يكون عنها الآن.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 61

(272) وكذلك فى كلّ كوكب. فقالوا: هذا معنى قوله: ثمّ زيّنها بزينة الكواكب وضياء الثّواقب، واجرى فيها سراجا مستطيرا وقمرا منيرا فى فلك دائر وسقف سائر ورقيم مائر. (274) قوله فى وصف الملائكة، عليه وعليهم السّلام: اطوارا من ملائكته، اى اصنافا فى الوانهم ومراتبهم، كما قال اللّه، تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً: والناس اطوارا، اى اصنافا على حالات شتىّ. (275) قوله: ناكسة دونه ابصارهم، تقديره ابصارهم ناكسة، والهاآن فى قوله: دونه وتحته عائدتان الى العرش، ومتلفّعون، اى ملتحفون. رواية: «و لا يسيرون اليه بالمواطن». (276)

قال الامام الجليل الوبرىّ فى قوله: مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزّة واستار القدرة، اراد به افعاله، تعالى، وبدايعه التى يحدثها بمرأى العين من الملائكة الّتى تدلّهم على اللّه، تعالى، وحكمته، فيدلّهم على انّه لا يجوز عليه التمكّن فى الاماكن، يسمّى هذه الافعال حجب العزّة. وانّما صحّ منه، تعالى، احداثها لانّه عزيز، وهو القادر الّذى لا يمانع. فيستدلّ الملائكة هذه الدلايل على انّه لا يجوز عليه، تعالى، ما يجوز على الاجسام، والحوادث من علامات الصنعة. فلذلك اضاف الحجب الى العزّة، ولذلك عقّبه بقوله: لا يتوهّمون ربّهم بالتّصوير بعد استدلالهم بهذه الادلّة، فيعلمون انّه لا يجوز عليه التصوير والتوهّم.

(277) وقال بعض العلماء: حجب العزّة عبارة عن ان يعلم العاقل يقينا انّه لا يتصوّر له ادراك الحقيقة الالهيّة. وانما يدرك ذلك بعد اتقان مقدّمات (33 ر) كثيرة. ومن عرف اللّه، كلّ لسانه، اى لا يجد عبارة يؤدّى حقّ المعنى الّذى فهمه، وكذلك حقيقة الملئكة المقرّبين.

(278) قوله: ولا يشيرون اليه بالنظائر، معناه لا يعتقدون له مثلا، ولا يشيرون اليه، ولا يعرفونه بمثله، وانما يعرفونه بالادلّة انّه لا مثل له، وانّما

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 62

يعرف الشى‏ء بدليله لا بعديله. و

قيل: معناه لا يشيرون اليه بالنظائر، اى بالامثلة له، فانّه لا يوجد فى الشاهد مثال لذات الواجب وجودها، لم يزل ولا يزال، وانما يعرف ذلك بالدليل والبرهان.

(279) وقال واحد من الحكماء 1 في صفة الملائكة: «و هم حملة العرش والكرسى، لقد أبدّوا تابيدا، ويستنسقون جليّة الحقّ من وراء الكرّوبيّين، وانّهم لبين الواصلين. فمن الكرّوبيين وجه القدس ويمن القدس وملك القدس وشرف القدس وبأس 2 القدس وروح القدس وسناء القدس.

و لكل منهم حزب من الملائكة لا ينحصرون. اصطفاهم اللّه، تعالى، وانعم عليهم، فنعم العبادهم، لا يلتفتون عن عبادة اللّه وذكره الى وطر لهم. وانّهم له الركّع السّاجدون والخشّع الحامدون». وتمام الكلام فى رسالة الملائكة، كانّ ذلك الحكيم شرح ما قاله امير المؤمنين، عليه السلام.

(280) قوله فى صفة آدم، عليه السلام: سنّ صبّ ومرج، ويروى: حتّى خضلت، ويروى ناطها، ولاط الصق، حتّى لزبت، اى ثبتت. قال اللّه، تعالى: مِنْ طِينٍ لازِبٍ. يقال: صار الشى‏ء ضربة لأرب، وهو افصح من لازق.

قال النابغة:

         ولا تحسبون الخير لا شرّ بعده   ***   ولا تحسبون الشّرّ ضربة لازب‏

 

(281) قوله: فمثلت انسانا، «مثل» هاهنا «انتصب قائما». وفى موضع آخر: لزق بالارض. وهو من الاضداد. و

قيل فى قوله: جوارح يختدمها، يامرها بان يخدمه. معجونا، يعنى: طينة آدم.

(282) وقوله: من الحرّ والبرد (33 پ) والبلّة والجمود والمساءة والسّرور، معناه جسد ركّبه تركيبا يصلح للمساءة والسّرور مهيّئا لذلك معرضا له. خلق فيه القدرة والعقل والشّهوة والنّفار. فبها يتمكّن من ذلك، وبالشهوة والنّفار يبادر الى اللذة وينفر عن الالم وما يؤدّى اليه. وهو قريب من قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى‏.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 63

(283) و

قالت الاطبّاء: معنى قوله: اجمدها حتّى استمسكت، الى آخر الفصل، اشارة الى الاعضاء المشابهة الاخرى كالعظم، فقد خلقه اللّه، تعالى، صلبا، لانّه اساس البدن ودعامة الحركات. والغضروف فهو الين من العظم، فينعطف، واصلب من سائر الاعضاء، ثمّ العصب وهو جسم دماغىّ المنبت او نخاعىّ المنبت، لدن ليّن فى الانعطاف، صلب فى الانفصال، ثمّ الوتر، ثمّ الشّريان، ثم الاغشية، ثم الجسم.

(284) وقوله: ومعرفة يفرق بها بين الحقّ والباطل، يعنى هو ذو معرفة. وذلك لا يكون الّا بالعقل، ويفرق بها بين الاذواق والمشامّ والالوان.

فمعنى ذلك انّ القوّة المدركة الّتى فى الظاهر ويقال لها الحسّيّة كالجنس لقوى هى خمس عند قوم وثمان عند قوم. واذا اعتبرنا الخمسة كانت قوّة الابصار وقوّة السّمع وقوّة الشّمّ وقوّة الذوق. واذا اعتبرنا الثانية، فعند قوم انّ اللّمس ينقسم الى قوى كثيرة. ومفصّل ذلك فى كتب الطّب. (285) وقوله من الاضداد المتعادية والاخلاط المتباينة،

فقد قيل: انّ الاركان اجسام ما هى اجزاء اوّليّة لبدن الانسان وغيره، وهى اربعة. والمزاج كيفيّة تحدث من تفاعل كيفيّات متضادّة موجودة فى عناصر متصغّرة الاجزاء ليماسّ 1 اكثر كلّ واحد منها اكثر الآخر. اذا تفاعلت بقواها بعضها فى بعض، حدث عن جملتها كيفية متشابهة فى جميعها، هى المزاج. والخلط جسم سيّال يستحيل اليه (34 ر) الغذاء اوّلا، فمنه خلط محمود، ومنه خلط ردىّ.

(286) قوله: وجوارح، الجوارح الاعضاء. والاعضاء مفردة ومركبّة. ومن القوى قوى مخدومة وقوى خادمة. والمخدومة جنسان: جنس يتصرّف فى الغذاء لبقاء الشخص، وينقسم الى نوعين: الغاذية والنّامية، وجنس يتصرّف فى الغذاء لبقاء النّوع، وهى تنقسم الى نوعين: الى المولّدة والمصوّرة: وامّا الخادمة الصّرفة فهى خوادم القوّة الغاذية، وهى قوى اربع: الغاذية

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 64

و الماسكة والهاضمة والدافعة. وخلق اللّه المعدة تحت آلات النّفس، اعنى الحجاب والرئة والقلب، لئلّا يزحم آلات النّفس عند امتلائها وازدياد مقدارها، فتمنعها عن التنفّس على النّحو الواجب. وجعل اللّه، تعالى، شكل المعدة مستديرا، ليسع غذاء اكثر، وليكون ابعد عن قبول الآفات. وذلك أنّ الشكل المستدير اوسع استدارة من اعلاها، لانّ قامة بدن الانسان منتصبة، فقعر المعدة منه الى جهة السّفل. وجميع ما يتناوله من الطّعام والشّراب يقبل بحركة جملته الى جهة قعر المعدة، فوجب ان يكون اوسع لنفسه. (287) ثم نفخ فيها من روحه، الهاء عائدة الى الصورة. وهذه الاضافة اضافة تشريف، لا ما ذهب من يعتقد مذهب الاتّحاد. ومن الاشياء ما يضاف الى اللّه، تعالى، من طريق انّه فعله وملكه، كما يقال: ارض اللّه وسماء اللّه وخلق اللّه وبيت اللّه، فاضافة الارض والسّماء الى اللّه، تعالى، لا يدلّ على نوع الاتحاد، كذلك اضافة الروح. وقد يضاف الشى‏ء الى شى‏ء بمعنى الملك، كما يقال: غلام زيد، ولا يدلّ اضافة الغلام الى زيد على الاتّحاد. وقد يضاف الشى‏ء الى شى‏ء بمعنى التشريف، كما يقال: بيت اللّه. وقال اللّه، تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ، وانّه لمّا قال عبد اللّه ورسول اللّه، فاضافة الرّوح، يعنى روح آدم، عليه السلام، (34 پ) اضافة تشريف وملك وايجاد واحداث، لا اضافة اتّحاد. (288) و

قال قوم: المراد بقوله: نفخ فيها من روحه، عنى بالروح هاهنا القوة الّتى اذ حصلت فى الاعضاء هيّأتها لقبول قوّة الحسّ والحركة وافعال الحياة، ويضيفون اليها حركات الخوف والغضب، ثمّ يجدون فى ذلك من الانبساط والانقباض العارضين للروح المنسوب الى هذه القوّة، لذلك قال: فمثلت لى انسانا، الى قوله: والمساءة والسرور.

(289) قوله: واستادى اللّه، تعالى سبحانه، اعلم انّ النّاس اختلفوا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 65

فى تفضيل الانبياء عليهم السّلام، على الملائكة والملائكة على الانبياء.

و تمسّك من فضّل الانبياء على الملائكة بآيات من كتاب اللّه، احدها قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ. و«سجد» فى اصل اللّغة خضع. قال الشاعر: ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر. وقال: من فضلّ الملائكة على الانبياء، ذلك كرامة، كما يكرم الامير الوزير بالدخول.

و قال قوم: للانبياء فضل على بعض من الملائكة دون بعض.

(290) قال بعض المحققين: السجود ليس بسجود عبادة لآدم، بل هو عبادة اللّه وتعظيم لامر اللّه. وابليس مأمور 1 مع الملائكة بالسجود، فاستثنى اللّه، تعالى، ابليس على معنى الاستثناء من الساجدين.

(291) وقال قوم: يجوز ان ينقلب الملك شيطانا. وقال قوم: لا يجوز لانّ نوع الشياطين غير نوع الملك.

(292) والرواية الصحيحة: اعترته الحميّة بالعين غير معجمة. (293) وقبيله، ويروى قبله. وفى ذلك نظر، لان القبيل فى اللغة جماعة من قوم 1 شى‏ء مثل الروم والعرب والعجم، ولا يقال القبيل الّا لجماعة فيهم رهط من الروم والعرب والعجم، ولم يخلق اللّه، تعالى، مع آدم هؤلاء حتّى وافقوا ابليس فى ترك السجود، فالاولى «و قبله». (294) ابليس لفظ ليس بعربى. فمن قال: انّه من ابلس اى بلس، فقد ردّ كلاما سريانيّا الى كلام عربى.

(295) وها هنا أصل (35 ر) يجب أن يبحث عنه، وهو انّ الاستثناء امّا ان يكون متّصلا كقول القائل، قام القوم الا زيدا، او منقطعا كقول القائل: ما فى الدار احد الا حمارا. ومعنى المنقطع ان يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه. وقولهم: ما فى الدار احد الّا حمارا، فالحمار ليس من جنس احد. لانّ احدا لما يعقل. وقالوا: فى هذا الاستثناء الذى كلامنا فيه «ما فى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 66

الدار احد الّا حمار وحمارا.

(296) والبصريّون يقدّرون هذا الاستثناء بلكن، وقالوا انّ فيه معنى كقولك: ما فى الدار احد لكن فيها حمار. والفرّاء يقدّر بسوى. وعند البصريين لا يجوز ان يبدل الثّانى من الاوّل، فنقول: ما بها احد الاحمار، كما نقول ما بها احد الا زيد.

(297) وقد يجى‏ء الشى‏ء من ذلك مبدلا على ضرب من التأويل، كقول الشّاعر: وبلدة ليس بها انيس، الا اليعافير والّا العيس، وابدل «اليعافير» من «الانيس»، لانّها جعلها من انيس ذلك المكان. وقال آخر:

         حلفت يمينا غير ذى مسوبه   ***   ولا علم الّا حسن ظنّ بصاحب‏

 

ابدل حسن الظنّ من العلم، وان لم يكن من جنسه، لما كان الظّانّ يقول: هذا علمى فى فلان، يريد انّ ذلك تقديره فيه، فالذى يلوح له من امره، ويظهر ذلك فى المعنى «سلامك الخصومة وعتابك السيف»، يريدون انّه يضع الخصومة موضع السّلام والسيف موضع العتاب، ويستعملهما مكانهما. ويقال على هذه الطريقة: ليس فيه عيب الّا جوده، يريد انّه لا يمكن ان يعاب بشى‏ء. فان كنت ترى انّ الجود عيب، فليس فيه عيب سوى ما تراه.

(298) و«الّا» يكون ايجابا، كقولك: ما رأيت الا زيدا، وما قام الا زيد، الّا هاهنا ايجاب لا استثناء جنس. لانّه ليس قبل هذا الكلام ما يستثنى منه. وقد يكون بمعنى الواو عند ابى 1 عبيدة. وذلك فى قول اللّه، تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ. وردّ ذلك الزجّاج وغيره وقالوا: هو استثناء من غير (35 پ) الجنس.

(299) وذهب قوم ايضا انّ المراد من قوله: فسجد الملائكة كلّهم اجمعين الّا ابليس، استثناء من غير الجنس. والاستثناء من غير الجنس نوع من الاستثناء، ويقال له الاستثناء المنقطع. والدليل على انّ هذا الاستثناء من غير الجنس عند من يذهب الى هذا المذهب، قول امير المؤمنين، عليه السّلام،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 67

فسجدوا الّا ابليس وقبيله. اعترتهم الحميّة، وغلبت عليهم الشقوة، وتعزّزوا بخلقة النار. وقد تعزّز انّ الجانّ هو المخلوق من النار الّا الملائكة.

(300) واستدلّ قوم على انّ ابليس كان من الجنّ بقول اللّه حاكيا عنه: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ. وقال اللّه، تعالى: فى موضع آخر: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ.

(301) قال ابو عبيدة: «ابليس» اسم اعجمّى، لذلك لم يصرفه، وهو «افعيل» من «ابلس»، اى انقطع ولم يكن له حجة.

(302) ويقال: هو من «ابلس» اى يئس. قال اللّه، تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما، اى آيسون. ويقال: «ابليس» اذا سكت ولم يحر جوابا. قال الشاعر: قال: نعم أعرفه وابلسا، اى ولم يحر جوابا. وقيل: المبلس الحزين البائس النادم. قال الشاعر: وفى الوجوه صفرة وابلاس. والابلاس الفضيحة. وسمّى «ابليس» لانّه افتضح بعصيانه.

و قيل: ذلك مأخوذ من «ابلست الناقة» اذا لم ترغ من شدّة الضّبعة.

(303) قوله: اعطاه اللّه النظرة، بكسر الظاء، التأخير. قال اللّه تعالى: وَإِنْ كانَ، وقولهم: نظار، مثل «قطام» اى انتظر. اعلم انّ الشيطان لا يقدر الاعلى وسوسة خفيفة ودعاء ضعيف، والمكلّف يقدر على دفعه.

و اللّه، تعالى، يمدّه بخواطر الخير من عنده، ويكتب له الاجر العظيم على دفعه، فيصير مثله كمثل عبد لسلطان يلقاه عدوّ له، فوقف يجاهد ويقول: لا تطع صاحبك واستهن بامره. ويقول السيّد لعبده: انّ هذا عدوّ لى ولك، فلا تطعه، فانّه لا يتمكّن الا من دعاء، (36 ر) لو تصاممت عنه، لذهب هنا، واعطيك الف دينار اجرا لك على اعراضك عن دعائه. فصار هذا الفعل نعمة على هذا العبد. وهذا مهثل الشيطان مع بنى آدم، الّا من اساء الاختيار لنفسه. (304)

قال الامام الجليل الوبرىّ، رحمه اللّه فى قوله: فاعطاه اللّه النظرة استحقاقا للسّخطة: لمّا كان المعلوم من حاله ازدياد المعصية بازدياد

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 68

المهلة، جعل ابقاءه فى كلّ وقت لمكان زيادة عقابه. ومع العلم بوصل العقاب اليه، كان نفس الابقاء عقوبة، لمكان العافية. وهذا كقوله، تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً، ونظاير ذلك كثيرة.

(305) قوله: باع اليقين بشكّه،

قيل: انّ الواجب على آدم، عليه السّلام، ان يستدلّ بنهى اللّه، تعالى، فيعلم شمول النّهى لجنس الشجرة.

فلمّا لم يستدلّ هذا الاستدلال المخصوص، جعل كانّه باع اليقين الّذى كان واجبا عليه، بظنّه على اقتصار النّهى على الشجرة.

و

قيل: انّ اللّه، تعالى، اخبر بعد اوة ابليس له، كما قال: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ. فكان الواجب عليه ان يتذكّر عداوته فى كلّ حال، ولا يركن الى ظنّه عند المقاسمة، وهو قوله، تعالى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فلمّا لم يفعل ذلك، صاد كانّه ترك اليقين بعد اوة ابليس بسبب ظنّه.

(306) وقيل: معنى قوله: باع اليقين بشكّه، مثل قديم للعرب، وتمثّل به امير المؤمنين، عليه السلام، ولم يرد انّ آدم، عليه السلام، شكّ فى امر اللّه ودينه، كما تمثّل امير المؤمنين، عليه السّلام، يقول الشاعر: «اوردها سعد وسعد مشتمل» يضرب هذا المثل، اعنى: «باع اليقين بشكّه» لمن عمل عملا فى غير وقته، فلا يفيده ذلك العمل.

و الدليل على انّ هذا الكلام استعارة على طريق الامثال انّه لا بيع هاهنا ولا شراء. (307) قوله: (36 پ) ثمّ بسط اللّه له فى توبته، لمّا اوجب اللّه، تعالى، على آدم بعد تناول الشجرة، التوبة اصلاحا لما فاته، صار آدم محتاجا الى التوبة، وإن لم يصدر منه كبيرة موبقة. وتوبة الانبياء، عليهم السّلام، لا يجرى مجرى توبة اصحاب الجرائم والذّنوب، فانّ توبتهم انابة الى العزائم من الرخص.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 69

(308) وقال من لم يجز الصغيرة على الانبياء: الصغيرة مكفرة بشرط الاجتناب عن الكبائر، لقول اللّه، تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، من غير احتياج صاحب الصغيرة الى توبة مفردة.

(309) وقال قوم: هذه التوبة من زلّة اجترحها.

(310) وقال قوم: ذلك ترك الاجود والاولى. والتوبة طاعة يصلح بها تارك الاجود ما فاته.

و مثال ترك الاولى والاجود انّ انسانا له رأس مال لو سافر به الى الصّين.

لربح مائة دينار. فسافر الى خجند او كاجغر، وربح ستين دينارا، فاولى له ان يربح مائة دينار، لكن ذلك الرجل غير ملوم، بل هو تارك لما هو اولى له وانفع.

(311) وقال قوم: الكبائر الّتى لا ينفّر النّاس عن قبول قول النّبى، عليه السّلام، جائزة عليه. واجمعون على انّ الكذب لا يجوز على الانبياء عليه السلام.

(312) واقول: احوال الانبياء، عليهم السلام، لا يشابه احوالنا. اذ الايمان بالنّبوة ايمان بالغيب عند العقل. فان شبّه العقل هذا الغيب بشى‏ء ممّا هو حاضر لادراكه، فهو بعيد جدّا عمّا هو الحقّ. ومن لا ذوق له فى الشعر ربّما يصدّق بوجود هذه القوّة فى غيره. ولكن يصرّف فمن لا ذوق له فى الشعر فى بحور الشعر واركانه وزحافه واوتاده واسبابه وفواصله تصرّف فاسد.

(313) وقد يكون الامر والنّهى حقّا مقرونا بالوعد، وقد يكون كلّ واحد منهما محمولا على الترغيب والاستحباب على وجه خصّ فيه (37 ر) المأمور والمنهىّ بوجوه من التأويل. والنهى فى قوله، تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ. (314) قوله: واصطفى، سبحانه من ولده انبياء،

قال ابو عبيدة: اصل النّبىّ مهموز من نبات او نبّات. ولكن العرب تركت همزته. وكذلك‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 70

فى البريّة والرزيّة.

و يقال: انّ اصل النّبىّ الطريق، وسمّى الطريق نبيّا، لأنّه ظاهر مستنير.

و قيل: النّبيّ من النّبوة وهو المكان المرتفع. فالنّبىّ فوق الناس فى الرتبة كما انّ النّبوة فوق الارض.

و قال عدّى: ولا يحل نبى البشر فيه. البشر موضع.

و قيل: النبىّ اسم عام يعمّ من انبأ عن اللّه، تعالى: والرسول اسم خاص يخصّ صاحب الشرع، اشارة الى حكمة اللّه فى بعث الانبياء، عليهم السّلام.

(315) وفى العقل مجوّزات لا طريق اليها الّا السمع. ولا بدّ من نبىّ ينبّه الخلق على ما غفلوه عنه من طريق السّمع، ولا طريق للعقل اليه. وقد ثبت فى العقول انّ فى الافعال ما يدعوا الى الخيرات، فيكون مصالح، وفيها ما يدعوا الى السيّئات، فيكون مفاسد. واذا كان كذلك، وكان اللّه، تعالى، عالما بالخفيّات، لم يستحل ان يعلم اللّه من مصالح العباد ما يخفى على العباد، من اعداد ركعات الصّلوة والصّوم فى الوقت المفروض، والحجّ الى مكان معيّن.

لذلك قال اللّه، تعالى: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ. وقال عقيب كفّارة الظّهار: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.

(316) ونظير ذلك ما يتناوله من الادوية، فانّه يختصّ بقدر دون قدر وبوزن دون وزن، حتّى لو زيد عليه، او نقص منه صار مفسدة. واذا كان فى مصالح الابدان مثله، لم يمتنع ان يكون فى مصالح الاديان مثله. ولا يجب على الطّبيب اذا عالج مريضا بادوية مخصوصة موزونة ان يبيّن لهم وجه الحكمة فى (37 پ) القدر المعلوم والوزن المعلوم، كذلك لا يجب على صاحب الشّريعة ذلك. وكيف، وقد ثبت لنا بالدلائل والمعجزات صدق النّبى، عليه السّلام، وما ثبت لنا صدق الطّبيب.

(317) ومثال ما يتكلّم فيه، مثال مريض يعلم انّ اللّه، تعالى، خلق لدائه دواء، ولا يعلم كنه ذلك الدواء وكيفيّته وتفصيله ومقداره، فيحتاج الى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 71

الطّبيب يعيّن ذلك. كذلك يعلم العاقل انّ فى الافعال ما يكون في نجاة المكلّفين، فيحتاج الى نبىّ مبعوث يهديه ويرشده الى هذه الافعال.

(318) فان قال قائل: ذكر امير المؤمنين، عليه السّلام، فى هذه الخطبة اصول الطبّ وعلوم الهيئة والتشريح وغير ذلك، وليست هذه من علوم الدين، قيل له: نرى اقواما عقولهم ضعيفة وهممهم نحيفة يرون التعمّق فى التحقيق بدعة والعدول عن الظواهر ضلالة، فليس لأمثالهم النظر فى امثال هذا الكتاب: بل نقول لهم: قال اللّه، تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. والطبّ معرفة المرض وعلاماته ومعرفة الشفاء واسبابه. وقال اللّه، تعالى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ. ذلك علم التشريح الّذى اشار اليه امير المؤمنين، عليه السلام. وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً، اشار الى معرفة الآثار العلويّة، وقوله، تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وقوله، تعالى: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ، وقوله: وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وقوله، أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها، وذلك علم الهيئة. فما أشار امير المؤمنين، عليه السلام، فى هذه الخطبة الى ما هو خارج عن تفسير القرآن ومعرفة افعال اللّه، تعالى، الدّالة على انبائه، تعالى. وقد ذكرنا: انّ نظرك الى الانبياء والاولياء بالقياس الى نفسك نظر الاكمه الى الكواكب. (319) قوله: اجتالتهم (38 ر) الشياطين، اى اغريهم، و

قيل: استخفّهم حتّى جالوا معها.

(320) قوله: واوصاب تهرمهم، عنى بالاوصاب الامراض. ومن الامراض ما هو سبب الهموم. والامراض منها مفردة ومركبة. واجناس الامراض المفردة ثلثة: جنس الامراض المنسوبة الى الاعضاء المتشابهة الاجزاء، وجنس الامراض المنسوبة الى الاعضاء الآليّة، وجنس الامراض المشتركة الّتى تعرض للمتشابهة الاجزاء وتعرض للآليّة بما هى آليّة، ويقال له تفرّق الاتصال، وانحلال المفرد.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 72

و امراض التركيب ينقسم الى امراض الخلقة. وامراض المقدار وامراض العدد وامراض الموضع. والعوارض النفسانيّة كالغضب والرّوع والفرح والحزن اسباب للهرم.

و اشدّ العوارض النفسانيّة الهمّ، لانّ الروح عند الهمّ يتحرّك الى جهتين فى وقت واحد. فانّه قد يعرض من الهمّ غضب وحزن. لذلك قال النّبى، عليه السلام: الهمّ نصف الهرم. (321) قوله: ليستأدوهم ميثاق فطرته، يقال: استادوا، اى خطبوا لى ميثاق دعوته ودعوا. (322) قوله: رسل، تقديره رسله رسل، سمّى، يعنى اللّه، سبحانه، من بعده، من هاهنا مفعول. او غابر اى باق عرّفه من قبله. ما هاهنا فاعل من سابق من نبىّ سابق. خلفت الابناء، خلفت لازم ومتعد، وهاهنا لازم. (323) قوله: اهل الارض يومئذ ملل متفرّقة واهواء منتشرة، كان اهل الملل فى عهد رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلم، اليهود والنّصارى والمجوس وفرقة من الصابئين. والدهريّة وعبدة الاوثان والسمئيّة واهل مكة ومن حولهم لا يدينون بدين. كان قسّ بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وغيرهما، كما ذكر فى مجامع الامثال من الموحّدين المبشّرين (38 پ) بنبوّة محمّد، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. وقوم عبدوا الاوثان، وبقى فيهم آثار حسان من ملّة ابراهيم، عليه السلام. وقوم منهم سافروا وساروا فى البلاد وأخذوا مذهب الدهريّة. منهم عقبة بن ابى معيط، كما حكى اللّه، تعالى، عنه حيث قال: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا. (324) قوله: من مشبّه للّه بخلقه هم النّصارى والصابئون، او ملحد فى اسمه هم الدّهريّة، او مشير الى [غيره‏] عبدة الاوثان وعبدة الكواكب من الصابئين. (325) قوله: رخصه وعزائمه، الرّخصة فى الامر خلاف التشديد،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 73

و العزائم الفرائض المضيّقة لا الموسّعة. المرسل فى الاخبار ما يرويه احد التابعين، وفى القرآن ما يحتاج الى بيان صاحب الوحى، مأخوذ من قولهم: غنم مرسل الى المراعى. (326) قوله: بين مأخوذ ميثاق [فى‏] علمه وموسّع على العباد فى جهله، اشار الى فرض الكفايات وفرض الاعيان. لانّ فرض العين لا يسع جهله لكلّ عاقل، فهو الّذى اخذ على كلّ العباد ميثاق علمه. وفرض الكفاية ما يسع لبعضهم جهله. واراد بقوله: وموسّع على العباد، اى بعضهم، جهله، واراد ان لا يعلموه، وهو الجهل اللغوىّ، وليس بجهل اصطلاحىّ. (327) قوله: وبين مثبت فى الكتاب فرضه [و] معلوم فى السّنّة نسخه، وواجب فى السّنّة اخذه، ومرخّص فى الكتاب تركه، هاهنا مسائل فى اصول الفقه.

(328) المسالة الاولى جواز نسخ الكتاب بالسّنّة، فمن النّاس من رأى ذلك عقلا، ومنهم من جوّز ذلك من طريق العقل، وقال: انّ السّمع منع منه. وقال قوم: ليس فى القرآن ما نسخ بالسّنّة وما تعرّضوا لجواز ذلك فى العقل. وكلّ يتمسّك بحجّة او دليل.

و من نفى ذلك، احتجّ بقول اللّه، تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ، وقوله، تعالى: وَإِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ، قالَ: الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا، (39 ر) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ، الى قوله، تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها. ومن جوّز ذلك تمسّك بقول اللّه، تعالى: حتّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. فهذه الآية منسوخة بقول النّبى، صلّى اللّه عليه وآله: الآن جعل اللّه لهنّ سبيلا. وليس هذا من اخبار الآحاد، فانّ الكتاب لا ينسخ باخبار الآحاد.

فان قال: انما ينسخ الآية قوله، تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، قلنا: ظاهر الآية منسوخ ايضا بخبر الرجم. وتمسّك ايضا بقول اللّه، تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 74

حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ، ونسخ هذه الاية قوله، عليه السلام: انّ اللّه قد اعطى كلّ ذى حقّ حقّه، فلا وصية لوارث. (329) ثم اختلفوا فى جواز نسخ السنّة بالقرآن،

فقال قوم: لا يجوز، وتمسّكوا بقول اللّه، تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ، فبيّن انّ الاية لا يكون بدلا الّا عن آية. ومن جوّز ذلك، قال: انّ النّبى، صلّى اللّه عليه وآله، توجّه تلقاء بيت المقدّس من طريق السنّة، فنسخ اللّه ذلك بالكتاب، حيث قال: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وتأكيد ذلك «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ».

و

قال قوم: نسخ صوم عاشوراء، وهو سنّة، بالكتاب، وهو «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ».

و فى هاتين المسألتين كلام مذكور فى اصول الفقه، ولا نحتاج هاهنا الّا الى تلويح. ومن جوّز نسخ الكتاب بالسنّة ونسخ السنّة بالكتاب، احتّج بقول امير المؤمنين ايضا هذا. (340) قوله: واجب بوقته وزائل فى مستقبله، هذه مسائل فى الفقه واصوله. ويروى: واجب بوقته صوم رمضان، واجب بوقته يعنى فى رمضان، زائل فى مستقبله، اى فى العيد. وواجب فى نهار رمضان، زائل فى لياليه، وصلوة الفجر واجبة (39 پ) عند طلوع الشمس زائلة عند الضّحى. والحجّ فى العشر الاوّل من ذى الحجة زائل فى المحرّم وصفر. وامثال ذلك كثيرة. (341) قوله: من كبير اوعد عليه نيرانه: عنى به الكبائر الّتى اوعد اللّه عليه النار، مثل الزّنا، حيث قال اللّه، تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ، اى يضاعف له العذاب يوم القيامة. (342) قوله: او صغير ارصد له غفرانه، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ، إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ. (343) بين مقبول فى ادناه موسّع فى اقصاه، هذا نحو وجوب القراءة فى الصلوة، وانّ الصلوة جايزة عند قوم بثلث آيات قصار او آية طويلة. فاذا اتى بها على وجهها تلقّاه القبول من اللّه، تعالى، وعند قوم بسورة قصيرة تامّة. وان‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 75

اراد فى ذلك من الآيات عند قوم، او من السورة الطّويلة الى ما شاء، حتّى لو ختم القرآن فى ركعة، ما لم يخرج القارى عند وقت الصلوة، فله ذلك.

و كذلك فى التصدّق مقبول منه ان يتصدّق من عشرين بنصف دينار. وان تصدّق بدينارين وازيد من ذلك، فله ذلك، وهو الموسّع فى اقصاه. وكذلك الصّوم، ان صام بثلاثة ايّام من كلّ شهر، تلقّاه القبول من اللّه، تعالى، وان صام اكثر من ذلك، فهو الموسّع فى اقصاه. (344) قوله: وفرض اللّه عليكم حجّ بيته، ويروى «عليهم» الى آخر هذا الكلام. يألهون اليه، اى يفزعون. المطيف هاهنا بمعنى الطّائف، والمطيف ايضا الملمّ النّازل بقوم. اعلم انّ اللّه، تعالى، جعل اختلاف القبلة سمات اهل الاديان، واعلاما يوقف بها على انتحال المصلّى الى نحلة لزمها من النّحل الخمس، ولذلك قال: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها.

(345) وجعل اللّه قبلة المسلمين (40 ر) فى واد محدث لا نفع فيه ولا جدوى، فيعلم الفطن بامر النظر انّ المقصود بذلك البعد لا غير. والحجّ مستجمع لعبادة النفس وعبادة المال وعبادة البدن، وهو الطّهور الاكبر والنّسك الاعظم، وبه يفارق المسلم اهل الملل. ولذلك قال عليه السلام: من مات ولم يحجّ حجّة الاسلام، فليمت على اىّ حال ان شاء يهوديّا او نصرانيّا. (346) والفريضة اذا كانت موقّتة، دلّ اختصاصها بوقت لها على فضلها وشرفها ونباهة حالها، يستدعى من الموظّف عليها فضل جهد فى اقامتها.

و من لابس عملا لا يلائم صورة التكبّر، وينافى اعمال الجبابرة من الاقبال على حجر اصمّ بالتقبيل، وعلى مواطن خالية من حوادث الاطماع بالاجلال، صار ذلك الفعل اتمّ رياضة على طرح الأنفة. فانّ من اطاعته نفسه لوجه اللّه، تعالى، فى توقير شى‏ء لا ينفع ولا يوذى ولا يعلم ولا يشكر، فهو الى توقير من هو اعلى منه درجة من الانبياء والملائكة، اسرع، والى هجران ما يستشعره من‏

 

معارج‏نهج‏البلاغة، متن    ، صفحة 76

الخيريّة اقرب.

(347) والخلائق مهما تعوّدوا ذلك، ومرّنوا عليه، توفّر كلّ منهم على صاحبه بحسب ما يستأهله. ومتى فعلوا ذلك فى من جلّ وصغر من البشر، تولّدت بينهم المحبّة، وشمل دهماءهم الوداد والمصلحة. ولا يقف على حقيقة هذا الامر، الا من وفّق لتأمّل الحقائق، وسهّل سبيله الى تتبّع الحكم.

و لذلك قال اللّه، تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ، لا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ، وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ.

(348) وقد بيّن اللّه، تعالى، وجه الحكمة فى اكثر الطاعات، فقال فى الصلوة، اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ. اشار الى وجه الحكمة فى التعبّد بالصّلوة.

و قال فى الزّكوة: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها. (40 پ) اشار ايضا الى وجه الحكمة فى ايجاب الزّكوة.

و قال فى الصّوم: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. بيّن ان لا عمل أدلّ على التّقوى من الصّوم.

و قال فى الحجّ: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، اخبر انّها لزمت لمنفعة يدر عليهم فى العاجل والآجل. واخبر عن سوالف الامم بقوله: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ. وقال فى الجهاد: لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ. واخبر عن لزوم الجهاد [فى‏] سوالف الأمم بقوله، تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. (349) وقوله: وقفوا مواقف انبيائه، يحتمل ان يكون معناه ما اشار اللّه، تعالى، اليه فى قوله: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ. ويحتمل ان يكون معناه ما ذكر فى كتاب مكّة: انّ مصاص بن عمر والجرهمىّ جدّ ثابت‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 77

بن ابراهيم، عليهما السّلام من قبل أمّه ذكر انّى رأيت فى يوم واحد سبعين نبيّا من الشّام قد طافوا بالبيت، وسعوا بين الصّفا والمروة، وعادوا. وقد روى انّ موسى، عليه السّلام، كان يطوف بذلك البيت وعليه شملة، وداود ايضا فى عهده. ويحتمل ان يكون «معنا[ه‏] وقفوا مواقف انبيائه» فهى مواقف ابراهيم واسمعيل ومحمّد، صلّى اللّه عليهم، وقيل بالمازمين من منادوحة، قال ابن عمر: سرّ تحتها سبعون نبيّا، اى قطعت سررهم.

قال الشاعر:

         بين الحجون وبين السّرر

 

(350) وقوله: وتشبّهوا بالملائكة، التشبّه بالملائكة من طريق الافعال الّتى هى عبادة اللّه، تعالى، والتنزّه عن الرّفث والفسوق والجدال وقضاء الشهوات فى الاحرام. ومن اعرض عن قضاء الشّهوات وهو مقبل على عبادة اللّه، تشبّه بالملائكة. فانّ الملائكة يسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون ولا يقضون شهوة. ويحتمل ان يكون (41 ر) التشبّه بالملائكة من حيث قال: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، وكذلك الحجّاج حول الكعبة. ويحتمل ان يكون التشبّه بالملائكة انّهم يطوفون بالبيت المعمور، فتشبّه الحجّاج بهم، لانّهم يطوفون بالكعبة من طريق التعبّد والتعظيم.

(351) وسمّيت الكعبة قبلة، لانّ المصلّى يقابلها وتقابله. وقيل لانّ اللّه، تعالى، تقبل صلوة من توجّه اليها.

الخطبة 2

(352)شرح الخطبة الأخرى، هذه خطبة خطبها عند انصرافه من صفّين، وصفّين موضع على عشرين فرسخا من الكوفة.

اللغة:

(353) قوله: استسلاما، اى انقيادا. (354) قوله: فاقة الى كفايته، الفاقة الحاجة، لا فعل لها. والكفى اصل صحيح يدلّ على الحسب الذى لا يستزاد فيه. وكفاية اللّه لطفه، تبارك وتعالى.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 78

(355) لا يئل لا ينجو. وفى الحديث: فلا وألت اى لا نجوت. فانّه ارجح ما وزن، اى انّ حمده [...]. (356) قوله: معتقدا مصاصها، المصاص خالص كلّ شى‏ء. يقال: فلان مصاص قومه، اذا كان اخلصهم نسبا، يستوى فيه الواحد والجمع والاثنان والمؤنّث. (357) قوله: لأهاويل ما يلقانا، الهول المخافة والامر المخيف.

يقال: هول واهوال واهاويل كقول واقوال واقاويل. (358) ومدحرة الشيطان اى مبعده. (359) قوله: الامر الصّادع، يجوز ان يكون بمعنى القاطع من قولهم: صدعت الفلاة اى قطعتها. ويجوز ان يكون بمعنى الدّين الظّاهر من قولهم: صدعت الشى‏ء، اى بيّنته واظهرته. ويقال: صدع بالقول، تكلّم.

(360) المثلة بفتح الميم وضمّ الثّاء جميعا، والسّحالة الذى يسرى ليلا. (361) واختلف النجّر، النّجر والنّجار الاصل والحسب والطّبع، انهارت دعائمه انهدمت، وانهور اصل صحيح يدلّ على تسافط شى‏ء وزواله، يقال: هو ربّه فانهار وتهوّر، اى انهدم. (362) قوله: عفت شركه، الشّراك الطرايق الدّقاق تنشعب عن جادّة، (41 پ).

و يقال: الكلام فى بنى فلان شرك اى طرايق، وقيل: نعم الطّريق شراكه اى واضحه. والطريق يذكّر ويؤنّث، كالسبيل. (363) فى خير دار، يعنى فى دار الدّنيا، لانّها دار العمل، ويحتمل ان يكون المراد بها مكّة، يعنى انّها خير دار. (364) قوله: نومهم شهود وكحلهم دموع بلاغة بلغت مداها، يعنى كأنّهم لا ينامون، ويكون ان نام غيرهم، فهم شهود، وان اكتحل غيرهم‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 79

بالاثمد، فكحلهم الدّموع، يعنى انّ اعينهم لا يخلو من الدموع. (365) ولجأ أمره، التجأ امره، التجأ [الى‏] المكان يلتجأ اليه. (366) موئل حكمه، الحكم هاهنا الحكمة والولاية.

(367) قال ذلك فى آل النّبى واهل بيته. اقول: آل فرعون اهل بيته وقومه واهل دينه وملّته. ولا يقال: فلان من آل الكوفة وآل البصرة. و

قيل: الآل ولد الرجل ونسله. قال النابغة: يحل فياض من ال سيل 

و قيل آل الرجل اقاربه قال اللّه، تعالى: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ [مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏]

و

قيل: كلّ مسلم آل محمّد، لقول اللّه، تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا.

فالال عند المحققين والاهل واهل البيت بمعنى واحد. و

يقال: الاهل ليس بمعنى الآل، لقول النّبى، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: اهل القرآن اهل اللّه، واهل مكّة آل اللّه، وهما معنيين مختلفين. وآل الناقة قوائمها. الآل اعمدة الخيمة. كلّ من يكون قوام الرجل به فهو آله.

و

يقال: ذلك اللفظ فى الاشراف دون غيرهم.

(368) قوله: زرعوا الفجور، يعنى الخوارج. وهذا كلام جمع فيه من اقسام البلاغة التّتميم والمكافاة وقسم من المقابلة. ولا يساعد امثال هذه الفصاحة الّا لمثل امير المؤمنين، عليه السّلام. نقل الى منتقله، يعنى موضع الانتقال. (369) قوله: احمده استتماما لنعمته، معناه انّ الحمد والشّكر على نعمة اللّه فى دار التكليف يوجبان استحقاق الثواب على اللّه، تعالى، والجنّة هى تمام النعمة. وهكذا فى قوله، (42 ر) تعالى: ووَإِذْ تَأَذَّنَ، انّ هذه الزيادة هى الجنّة، لانّها مضمونة لا محالة مقطوعة عليها. وزيادة نعمة الدّنيا لا تجب لا محالة بعد الشكر، وانّما الواجب من الزّيادة على الاطلاق هو الثّواب. (370) قوله: اليهم يفى‏ء العالى، وبهم يلحق التّالى، معناه انّهم اصحاب الحقّ معهم الحقّ وهم مع الحقّ. والنّاس ثلث طبقات: متوسّط وغال ومقصّر فى الحقّ. والواجب على المقصّر ان يزيد فى الاجتهاد، حتّى يلحق‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 80

بصاحب الحقّ. ومن حقّ الغالى ان يقصر عن علوّه، حتّى يفى‏ء الى الحقّ، فانّ الحقّ بين المقصّر والغالى.

الخطبة 3

(371)شرح الخطبة المعروفة بالشّقشقيّة،

و فى هذا الخطبة، كما قال بعض الشعراء:

         كلام الامام امام الكلام   ***   كنشر الخزامى وصوب الغمام‏

 

و يقال لها المقمصة ايضا، من قول العرب: قمّصة تقميصا فتقمّصه، اى لبسه، كما يشتمل القميص على لابسه. والشقشقة لمنسوبة الى قوله: هذه شقشقة.

و الشقشقة بالكسر شى‏ء تخرجه البعير من فيه اذا هاج. ويقال للخطيب.

ذو شقشقة، يشبّه بالفحل. ثمّ اطلق لفظة الشّقشقة على الكلام الذى يتكلّم به، والفم آلته. وبالزّرّيتمّ القميص ويتزيّن، لذلك قال: مكان الزرّ من القميص. (372) قوله: محل القطب من الرّحى، قطب الرّحى فيه ثلاث لغات: بفتح القاف وكسرها وضمّها. وسمّى لانّ القطب مجمع امر الرّحى ودور الرّحى عليه. وقطب الرّحى مأخوذ من قطب الفلك، وهو جزء من اجزاء الفلك عند كوكب صغير ابيض بين الجدى والفرقدين، يدور عليه الفلك. ويقال هو قطبهم اى سيّدهم. ويقال لصاحب الجيش قطب رحى الحرب. والمعنى يدور علىّ كما يدور الرّحى على القطب. ولولا القطب لما انتظمت حركة الرّحى.

فالمعنى انّ (42 پ) امرها بى يقوم. ويروى ينحدر، يريد انّها ممتنعة على غيرى ولا يجارينى مجار، وهو كلام مستأنف غير موصول. المعنى: اراد انّه عالى المكان والمحلّ، لانّ السيّل لا ينحدر الّا عن الاماكن العالية. (373) قوله: ولا يرقى اليه الطّير، هذا وصف يقتضى بلوغ الغاية فى العلوّ والارتفاع، لانّه ليس كلّ مكان ينحدر عنه السّيل لا يرقى اليه الطير من العلوّ. سدلت، اى ارخيت بينى وبينها حجابا. ويقال: طويت عنها كشحا، اى اعرضت عنها، والكاشح الّذى يوليّك كشحه اى جنبه. ومن اعرض عن شى‏ء فقد طوى عنه كشحه، وطفقت، اخذت، واقبلت ارنأى على مثال‏

 

معارج‏نهج‏البلاغة، متن    ، صفحة 81

افتعل من الرأى اى ادبرّ وافكّر. بيد جذّاء بالجيم والحاء، اى مقطوعة. ويقال يد جذّاء، اذا لم توصل، والمراد ما وصلنى من استعين به. يشير الى قلّة النّاصر. وهى استعاره مليحة. (374) قوله: طخية عمياء، الطّخى يدلّ على ظلمة وغشاء. والطّخية بضمّ الطاء وفتحها الظلمة وشى‏ء من سحاب، وكلمة طخياء غير مفهومة. وذلك اللفظ ماخوذ من قولهم: وجدت على قلبى طخاء اى شبيه كرب. والطّخية السّحابة الرقيقة يشبّه بها ما يشمل الانسان من الهمّ والكرب. وهذه استعارة.

و يحتمل ان يكون الطّخية هاهنا مجمع الظّلمة والغيم والحزن. (375) قوله: عمياء، الاعمى والعمياء فى مثل ذلك استعارتان، يقال للسّيل والجمل الصّؤل الاعميان، لانّهما لا يميّزان، فيقال: للكروب الّتى لا يختصّ بوقت دون وقت عمياء. وربما اخذت العمياء هاهنا من العمى وهو رمى الامواج القذى، يعنى طخية يرمى النّاس الى الهلاك كما يرمى الموج القذاة. ومن ذلك قولهم: عمى البعير الزبد.

و قيل المراد بالطّخية العمياء يعنى الواقع فيها يعمى عن طريق النجاة منها لشدّتها وصعوبتها، كما قال اللّه، تعالى: «بَلَداً آمِناً» لمعنى بلدنا من الامان . (43 ر)

(376) قوله: يهرم فيها الكبير،

فى كتاب سر الادب: ما دام الرجل من الثلثين والاربعين فهو شابّ، ثم هو كحل الى ان يستوفى السّتين عند العرب بخلاف اقاويل الاطّبّاء، ثمّ بعد ذلك الوخط، ثمّ الشيب، ثم يقال بعد ذلك: شمط، ثم يقال بعد ذلك: شاخ، ثمّ يقال بعد ذلك: كبر، ثمّ يقال بعد ذلك هرم، ثم يقال: خرف، ثم يقال بعد ذلك: اهتر،

فقوله: يهرم الكبير، يعنى ينتهى من الكبر الى الهرم. (377) قوله: ويكدح فيها مؤمن، اى يسعى ويكسب لنفسه ويدأب ولا يعطى حقّه حتّى يلقى ربّه، اى يموت. وفى رواية: ويدرج مؤمن. ثمّ تمثّل بقول الاعشى.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 82

 

         شتّان ما يومى على كورها   ***   ويوم حيّان اخى جابر

 

قال واحد بين يدى الاصمعّى: شتّان ما بينهما. فقال الاصمعيّ: اخطأت، وتمثّل بقول الاعشى هذا. فقيل له: ما تقول فى قول الشاعر: لشتّان ما بين اليزيدين فى العلى قال: هذا الشعر مولّد لا يحتجّ به. والفرّاء يخفض النون من «شتّان» يعمل عمل الفعل، وان كان اسما. ومعناه «بعد». وفى البيت صلة، و«يومى» فاعل «شتّان» و«يوم حيّان» برفع الميم معطوف على «يومى».

(378) كانت بين علقمة بن علاثة بن عوف بن الاحوص وعامر بن الظّفيل منافرة. ووفد الاعشى ميمون بن جندل من بنى قيس على علقمة عند انصرافه من قيس بن معدى كرب، فقال لعلقمة اجرنى فقال له علقمة اجيرك من غير قومى. فغضب الاعشى، واتى عامر بن الطفيل، وقال له: آجرنى فقال له عامر: أجيرك من الجنّ والانس ومن طعامك وشرابك، وان قتلك انسان، قتلته بك، وان اصابك حقّك، حملت دينك الى اهلك.

فلما تنافر علقمة وعامر وقصد الحرب بن وعلة الكاهن يحكم بينهما، لقيهما الاعشى، وقال هذه القصيدة. وقيل: انّ هذه القصيدة اهجى (43 پ) قصايد العرب، واوّل القصيدة:

         شاقتك من قتلة اطلالها   ***   بالشطّ فالوتر الى حاجر

         دار لها غيّر آياتها   ***   كل ملثّ صوبه زاخر

         دعها فقد اعذرت فى ذكره   ***   واذكر خنا علقمة الفاجر

         اقول لما جاءنى فجره‏   ***   سبحان من علقمة الفاخر

         زيّافة كالفحل خطّارة   ***   تلوى بشرخى ميسة قاتر

         وقد اسلّى الهمّ اذ يعترى‏   ***   بحسرة دوسرة عاقر

         شتّان ما يومى على كورها   ***   ويوم حيّان اخى جابر

 

و حيّان وجابر ابناء السميرين عمرو. وكان حيّان صاحب الحضن باليمامة. وكان‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 83

حيّان سيّدا مطاعا مرفّها منعّما يصله كلّ سنة كسرى، فكان فى نعمة ورفاهية، ولا يسافر ابدا، وكان مصونا من وعثاء السّفر. فيقول الاعشى: حيّان فى حصن حصين ونعمة وانا فى سفر ومشقّة. وغضب حيّان على الاعشى بهذا البيت، وقال: جعلتنى اعرف باخى وانا اكبر منه واشرف. فاعتذر اليه الاعشى، وقال: ذلك للقافية، فلم يقبل عذره. ثمّ استولى علقمة على الاعشى، فقال للاعشى: وقد وهبت لك دينك ولك علىّ الخفارة حتّى تخرج من ارض بنى عامر، فاكفف عنّى لسانك بخيرك وشرّك. فانجز علقمة ما وعد الاعشى. فقال الاعشى يمدحه:

         علقم يا خير بنى عامر   ***   للضّيف والسّايل والزّاير

 

(379) فيشتمل بهذا البيت، يعنى: «شتّان ما يومى على كورها» كلّ من كان فى مشقة وعناء وتعب، وغيره فى راحة وخفض عيش. وقال ابن جنّى: معنى البيت: «ما ابعد ما بين يومين مرّا علىّ: احدهما يوم ركبت ناقتى وقاسيت مشاقّ الاسفار، ويوم استقرّنى المكان عند حيّان فى خفض ودعة وكرامة وجايزة، يمدحه ويشكر معروفه عنده. (380) قوله: لشدّ ما تشطّرا، ويروى: تشاطرا، يعنى: تناصفا ما فى ضرعها. الحوزة الناحية. قال الشّاعر: واحمى حوزة الغائب. (44 ر). (381) قوله: كواكب الصّعبة، اى كواكب الناقة الصّعبة، الصّعب نقيض الذّلول، والانثى صعبة. والمراد من ركب ناقة صعبة غير مروضة، فقد قرع باب المخاوف. هذا مثل للعرب، يضرب لمن خاض فى امر له خطر. (382) قوله: ان اشنق لها خرم،

قال السيد الرضىّ يريد بذلك انّه اذا شدّد عليها فى جذب الزّمام وهى تنازعه خرم انفها. وقال: انما قال: واشنق لها، لانّه جعلها فى مقابلة قوله: اسلس لها.

و اقول:

انّى وجدت فى اصول اللغة فى كتاب ينابيع اللغة وغيرها: شنق لها واشنق لها. يقال: اشنق البعير برأسه، وبنفسه، اى رفع راسه، يتعدّى ولا يتعدّى، وشنق لها واشنق لها،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 84

اى لناقته، اى عاجها

و خرم قطع، وخرم عدل عن الطّريق. اى ان ارخى لها الزّمام، توجّهت به حيث شاءت فعسف به، وان ضيّق عليها الشّناق خرق انفها، لانّ الزّمام متصل بالانف. قحم وتقحّم، رمى بنفسه فى امر من غير دربة. يقال: تقحمت به دابّته، اى مررت به وهو عليها، فلم يضبطها. (383) قوله: فمنى النّاس، لعمر اللّه، بخبط وشماس وتلوّن واعتراض، بالضاد والصاد معا. يقال: خبط عشواء وهى الناقة الّتى فى بصرها ضعف تخبط اذا مشت لا تتوقّى شيئا. وخبط الرّجل طرح نفسه حيث كان.

الاعتراض بالصاد الغير المعجمة النشاط. (384) الشّورى، القوم يتشاورون، مصدر سمّى به القوم كالنّجوى. فيا للّه وللشّورى، بفتح اللام فى يا للّه، لانّها لام الاستغاثة، وللشورى بكسر اللام، لانّها لام التعجّب. والشّورى اختيار شى‏ء من غير امر معيّن.

الاسفاف شدّة النّظر وحدّته ودنوّ الطائر فى الطّيران من الارض، والسحابة ايضا، اسففت اى قاربت. فصغى رجل منهم لضغنه، ويروى لضلعه، وهما قريبان، وهو ان يميل بهواه ونفسه الى رجل بعينه.

(385) اراد المائل الى صهره عبد الرحمن بن عوف الزهرىّ (44 پ) والذى مال بضغنه فهو سعد بن ابى وقّاص. فانّه كان بينه وبين علىّ بن ابى طالب، عليه السّلام، ادنى وحشة، وهو لم يبايع عليّا فى وقت خلافته، وانتقل الى البادية مع اغنام له، مع هن وهن. ويروى: هن وهنىّ. و«هنّى» تصغير «هن اى مع هذا او ذاك».

و قيل المراد مع انسان وانسان.

و هنى‏ء بكسر الهاء والهمز، العطاء. وهن‏ء بفتح الهاء والهمز، يعنى طايفة. فالمعنى عند هؤلاء مع عطاء وطائفة.

و فى رواية اخرى مع هن وهن، اى مع شى‏ء حقير وامر لا ثبات له، وقيل، امر عظيم شديد. وقيل «هن» على وزن «اخ» وقد تشدّد فى الشعر، وهى كلمة كناية ومعناه شى‏ء، واصله «هنو» ويقول العرب: هذا هنك، اى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 85

شيئك. ومنهم من يجريه مجرى «يد» و«دم» تقول: جاءنى هنك، ورايت هنك، ومررت بهنك، وتقول فى النداء: يا هن اقبل، ويا هنان اقبلا، ويا هنون اقبلوا. (386) قوله: نافجا حضنيه، النّفج اصل يدلّ على ثؤور شى‏ء وارتفاعه. يقال: نفج ثدى المرأة قميصها، اى رفعه، وانتفج جنب البعير ارتفع. يقال فى الطعام والشراب انتفج بطنه بالجيم، ويقال فى كلّ داء يعترى الانسان قد انتفج بطنه والحضن ما دون الابط الى الكشح. (387) قوله: بين نثيله ومعتلفه، اى بين مطعمه ومنكحه، رواية: بين ثلّة ومعتلفه، النثيل نصيب الحمار، والنثيل ضرب من النبات، وهو علف الدّواب ويأكله الانسان ايضا. والمعتلف الموضع الّتى يعتلف فيه، اى من الموضع الذى يروث ويأكل منه. والنثيل الرّوث، فعيلة بمعنى مفعول. يضرب ذلك المثل لمن يبدأ بامر لا يتمّ له. (388) قوله: يختضمون، ويروى: يخضمون، اى يكسرون وينقصون.

و الخضم اكل الرّطب، والقضم اكل اليابس، فاختاروا الحاء للرطّب لرخاوتها، والقاف لليابس لصلابتها. و

قيل: الخضم الاكل بجميع الفم.

(389) كبت به بطنته، وروى مطيّته، فما راعنى (35 ر) [........]

الخطبة 4

(390) الجأش وربط الجأش، اى شديد القلب، كانّه يربط نفسه عن الفرار. وهذا دعامته. عواقب القدر الخزى والفضيحة. سترنى عنكم جلباب الدّين، هو معنى قول اللّه، تعالى: أوليائى فى قبابى لا يعرفهم غيرى. وانطق العجماء ذات البيان، عنى به لسان الحال والقرائن الشاهدة. ويحتمل ان يكون المراد بالعجماء الادلة والبراهين. (391) قوله فى جوادّ المضلّة، بفتح الضاد وكسرها الفتّان، يقال: ارض مضلّة بفتح الضّاد، اى يضلّ فيها الطّريق. ومضلّة يضل فيها السالك‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 86

لكثرة الطّرق. العجماء البهيمة. وسمّيت عجماء لا يتكلّم. وفى الحديث: العجماء جبار، وروى: الرّجل جبار، اراد: جرح العجماء جبار، اى هدر.

(392) والبيان الفصل بين الحقّ والباطل فى قوله، تعالى، هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ، وقوله: عَلَّمَهُ الْبَيانَ. وذات البيان حقيقة البيان، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: ذاتَ بَيْنِكُمْ، يعنى حقيقة فصلكم. و

فى مجمل اللغة: البيان الكشف عن الشى‏ء.

فيحتمل ان يكون معناه: انطق العجماء ذات البيان، اى انطق لكم الّتى لا يتكلّم بحرف حقيقة البيان، يعنى الفصل بين الشّيئين والكشف عنه.

و قيل معناه: انطق لكم الّذى لا يتكلّم بالحرف، وهى ذات البيان [و هى لسان‏] الحال.

و قيل: البيان ما يبيّن به الشى‏ء من الدلالة غيرها. وصلوة النهار عجماء، لانّه لا يجهر فيها القراءة.

(393) قوله: اشفق، الالف الف التفضيل. غلبة الجهّال، قوم موسى حيث حكى اللّه عنهم ووَ: جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ. ودو[ل‏] الضّلال فرعون وقومه، حيث قال اللّه، تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى‏. اليوم توافقنا، بتقديم القاف. «من وثق بماء لم يظمأ» يجرى مجرى المثل، والمراد بذلك انّ من تخيّل وجود الماء عنده، ما حرّكه تخيّله على طلب الماء، وما خاف فقد ان الماء، فيكون ظمأه عند الحاجة فحسب، وما دعاه تخيّله (45 پ) وتوّهمه الى الحذر من فقدان الماء، فلا يكون ظمأه مضاعفا. ويحتمل ان يكون المراد بذلك انّه لا يظمأ، لانّه يشرب قبل الظمأ فلا يظمأ. وفى ذلك سرّ يعرفه المحقّقون. (394) قوله: ما شككت فى الحقّ مذ اريته، اخبر عن محافظته، على عمره ومواظبته على صيانة ظاهره وباطنه.

الخطبة 5

شرح الخطبة الاخرى،

(395) افلح من نهض بجناح، يعنى: خاض فى امر هو مستعدّ له، وان لم يكن مستعدّا، سلّم الامر الى غيره لينجو من تعب الطلب. ماء آجن، استعارة عن امر غير ملائم. ولقمة يغضّ بها آكلها، استعارة

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 87

عمّن يخوض فى امر لا ينتفع به. واشار فى باقى كلامه الى استعداد القائل وينهاز الفرصة. ومن زرع ارض، غيره، فلغيره ان يمنعه عن سقي زرعه وعن حصاده وعن التصرّف فيه. فلا بدّ من التفكّر فى العواقب فى كلّ الامور ونفى عن نفسه خوف الموت وحرص الدنيا، وهما من الاخلاق الذّميمة. (396) بعد اللتيّا والّتى، هو رجل من جديس تزوّج امرأة قصيرة فقاسى منها الشّدائد، وكان يعبّر عنها بالتصغير، فتزوّج امرأة طويلة، فقاسى منها ضعف ما قاسى من القصيرة، فطلّقها، فقال: بعد اللّتيّا والّتى لا اتزوّج ابدا.

فجرى هذان اللفظان على الدّواهى والشدائد.

و قيل: انّ العرب تصغّر الشى‏ء العظيم كالدّهيم واللّهيم، فاشاروا الى الداهية العظيمة باللتّيّا والى الداهية الّتى دونها بالّتى، وذلك منهم رمز وقال الشاعر من جديس، بيت:

         بعد اللّتيّا والّتى   ***   طلّقت جهلا طلّتى‏

 

(397) قوله: آنس بالموت من الطّفل بثدى أمّه، هذه علامة انّه من اولياء اللّه، تعالى. اوّله: واللّه انّ ابن ابى طالب، عليه السلام، صحابه، فانّ الموت للسعيد مفتاح باب السعادة، كما انّ الطفل لا يصل الى لذّته الّا بثدى امّه، فكذلك السعيد لا يصل الى السعادة الّا بالموت. (398) قوله: اندمجت، روى بالخاء والجيم، فمن رواه بالخاء فهو من الدّموخ وهو الارتفاع (46 ر) والاستيلاء، ومنه «دمخ» اسم جبل، وهو معرفة لا يدخله الالف واللام، يقال: اندمخت ودمخت، اى استولت. ومن قال بالجيم، يقال دمج الشّى‏ء دموجا، دخل فى الشى‏ء واستحكم فيه، وكذلك «اندمج وادّمج» بتشديد الدّال. كلّ هذا اذا دخل فى الشى واستتر فيه، فاندمجت يعنى انطويت. اى بئر مطوّية. الّا انّهم جمعوه على الاطواء، فاجرى مجرى شريف واشراف. وهذا اللفظ يدلّ على انّهم لو سمعوا منه هذه الاسرار الّتى اشار اليها، لانفعلت انفسهم عن سماعها انفعالا لايقا بهذه النار.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 88

يقال: باح بسرّه يبوح بوحا وبواحا، اظهر ما فى بوحه اى نفسه.

قال امير المؤمنين، عليه السلام: اندمجت على مكنون علم، رمز لا يعرفه الّا من بلغ فى معرفة اللّه غاية.

قوله: لالفيتم دنياكم هذه اهون عندى من عفطة عنز. كلام لا يقف على معناه من طريق الذوّق، الّا انّ هذا الزهاد، وهذين الكلامين، جمع بين العلم والزّهد، وهما من خواصّ العارفين.

امّا الاندماج فقد عبّروا عنه، و

قالوا: لا يفهمه الحديث، ولا يشرحه العبارة، ولا يكشف المقال منه، ولا شى‏ء الطف من المعرفة، فكيف يعبّر عنها.

و

قال آخر: لا يقع على العرفان عبارة، لانّ العرفان سوى اللّه عند المؤمنين الموحّدين.

و

قال آخر: الالفاظ وضعت على ما فى النّفس، ولم يوضع الفاظ يدّلّ على المعرفة.

الخطبة 6

(399)شرح الكلام الآخر:

لا يرصد لهما القتال، يقال: ارصد له كذا اى هيّأ له، ويقال: رصد به اى يرقبه، وارصدته اعددته. قال ابو عبيد فى حديث امير المؤمنين عليه السلام، حين اقبل يريد العراق، فاشار عليه الحسن بن على، عليه السلام، ان يرجع، فقال: واللّه لا اكون مثل الضّبع يسمع اللّدم فيخرج فيصاد. رواه طارق بن شهاب. اللّدم صوت الحجر او الشى‏ء يقع بالارض، وليس بالصّوت الشديد. يقال منه: لزمت الدم لدما.

قال الشاعر:

         وللفؤاد وجيب تحت أبهره (46 پ)   ***   لدم الغلام وراء الغيب بالحجر

 

و انما قيل للضبع: انّها يسمع اللّدم، لانّهم اذا ارادوا ان يصيدوها، رموا فى جحرها بحجر، او ضربوا بايديهم باب الجحر، فيحسبه شيئا قصده، فيخرج ليأخذه، فيصاد عند ذلك. وزعموا انّها من احمق الحيوانات العجم. ويبلغ من حمقها ان يدخل عليها، فيقال: ليست هذه امّ عامر، فيسكت حتّى يصاد.

فاراد امير المؤمنين، عليه السلام، انّى لا اخدع كما يخدع الضّبع باللّدم‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 89

و يقال: فى «التدام»، النّساء انّما هو مأخوذ من اللّدم، انما هو افتعال منه.

قال الاصمعىّ: ويقال فى غير هذا: لدمت الثوب وردمته، اذا رقعته. اضرب بالمقتل الى الحقّ المدبر عنه، اجازت  بمن تبعنى من خالفني، واراد بالحقّ متابعته وبيعة الناس عليه، حتّى يأتى علىّ يومى اى يوم موتى.

(400) قوله: منذ قبض رسول اللّه، منذ يكون اسما وحرفا. فاذا كان اسما، ارتفع ما بعدها على نحو ما ارتفع بعد مذ، واذا انجرّ، ما بعدها كانت حرفا، وحكمه حكم مذ، الّا انّ الاختيار ان يجرّ بهما على كلّ حال ما مضى وما انت فيه. يقول: ما رأيت منذ يومين، ومنذ يومنا ومنذ اليوم. وان جعلتها اسما، قلت: ما رأيته منذ يومان، اى بينى وبين لقائه يومان، او مدّة فراقه يومان.

و زعم بعض الكوفيّين انّها مركّب من «من» و«اذ»، وانّ اصلها «من اذ» الّا انّ الهمزة حذفت، ووصلت «من» بالذّال، وضمّت الميم للفرق بين «من» مفردة وبينهما مركبة. فاذا جررت ما بعدها، غلب حكم «من»، واذا رفعت ما بعدها، غلب حكم «اذ». وحركة الذّال من منذ لالتقاء الساكنين، وضمّت ليتبع الضمّ الضمّ. هذا مذهب البصريّين. وللفّراء قول آخر لا يحتمل الموضع بيانه.

(401) وفى حتّى ثلثة اوجه: احدهما ان يكون جارّة. والثانى ان يكون عاطفة. والثالث ان يكون حرفا يبتدأ ما بعده. وتجتمع هذه الوجوه كلّها فى قولهم: اكلت السّمكة حتّى رأسها.

(402) اليوم عبارة عن زمان طلوع الشمس الى زمان غروبها. وعند (47 ر) بعض الفقهاء من انفجار الصّبح الى غروب الشّمس. واليوم الكون الحادث، واليوم مراتب المخلوقات والمحدثات. وانّما عبّروا عن الشدّة باليوم، فيقال فى الامر العظيم: اليوم اليوم. ويقال للمتهجّد هو طويل اليوم، لانّه يصل سهر ليله بيومه، فيطول بذلك يومه. ويقال لمن جدّ فى العمل ايضا، هو طويل اليوم. ويوم ذو ايّام، اى شديد. وحتّى يوم النّاس، هذا مقتبس من قول‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 90

اللّه، تعالى: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. ويروى «يوم» بفتح الميم.

الخطبة 7

(403)شرح الخطبة الاخرى،

ملاك الامر، الامر بفتح الميم وكسرها ما يقوم به ويعتمد عليه، ويقال: ما له ملاك بفتح الميم اى تماسك. (404) قوله: دبّ ودرج، استعارة عن الحىّ والميّت. ويقال: كلّ من دبّ ودرج، اى الاحياء والاموات. وهاهنا «دبّ ودرج» بمعنى آخر، وهو انّ قولنا: «دبّ» يدل على حركة على الارض اخفّ من المشى. ويقال لكلّ ماش على الارض «دابة».

و فى بعض الكتب: يدبّ الصّبى ويدرج الشابّ. وقيل: الصبىّ يدرج والعقرب يدبّ

و يقال: «درج» مضى لسبيله. ودرج الرّجل، اذا لم يخلف نسلا.

و قد ذكرت فى مجامع الامثال من تصنيفى قول العرب «اكذب من دبّ ودرج»

الخطل المنطق الفاسد. يقال: خطل فى كلامه واخطل، اى اتى بفساد. وباض وفرّخ، استعارتان عن التمكّن.

الخطبة 8

(405)شرح الكلام الاخرى،

قوله: ادّعى الوليجة، الوليجة الرّجل يكون فى القوم وليس منهم بقلبه، يعنى انّه اقرّ بالبيعة وادّعى انّه ليس من الّذين بايعوا بالقلوب.

هذا كلام فى غاية الكمال، لانّ من قال قولا، واقرّ بشى‏ء، اخذ بقوله واقراره.

و ان ادّعى بعد ذلك انّه ما اقرّ عن نيّة صادقة، فلا طريق لنا الى صدقه فى القول الثانى، فلا بدّ من ان يحكم عليه بالقول الاوّل. (406) وقوله: فليدخل فيما خرج منه، يعنى عقد البيعة. و

قيل: ادّعى الوليجة، اى امرا خفيّا. وهو الخوف. قال: بايعت نكرها خائفا.

فيقول (47 پ) امير المؤمنين، عليه السّلام: نحن نأخذ بظاهر حاله، فانّ العبد يحكم بالظواهر، ونطالبه باثبات ما ادّعى بالخفيّ. فان اثبته، والّا، اخذناه بظاهر فعله. والوليجة البطانة والدخيلة، وهم خواصه الذين يلحّون معه. قال الله، تعالى: وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً.

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 91

الخطبة 9

(407)شرح كلام آخر،

قوله: قد ارعدوا وابرقوا، رعدت المرأة، وبرقت، تحسّنت وتزيّنت، ورعد الرّجل وبرق تهدّد واوعد، قال ابن احمر:

         يا جلّ ما بعدت عليك بلادنا   ***   وطلابنا، فابرق بارضك وارعد

 

و ارعد الرّجل وابرق، اذا تهدّد واوعد. وانكره الاصمعىّ فاحتجّ عليه بقول الكميت.

         ابرق وابرق يايز   ***   يدفما وعيدك لى بضائر

 

فقال: ليس قول الكميت بحجة، فاحتجّ عليه بقول امير المؤمنين، عليه السلام، فقبل وسلّم. الفشل الجبن، يعنى تهدّدوا وارعدوا واجبنوا، ونحن ممّن لا يقول ما لا يفعل، بل نحن ممّن يوافق فعله قوله وقوله فعله. وهذا فى غاية الوفاء والصدق.

الخطبة 10

(408)شرح الخطبة الاخرى،

قوله: ما لبّست على نفسى، دلالة على نقاء سريرته وصفاء باطنه وخلوص طويّته وطهارة ذاته. (409) قوله: ولا لبّس علىّ، يدلّ على كمال عقله وعلمه وكثرة تجاربه. وهذان اللفظان مجامع مكارم الاخلاق. وقال بعض السّلف. العاقل ان لا يخدعه احد، والمسلم ان لا يخدع احدا. (410) قوله: ايم اللّه، اسم وضع للقسم.

قيل: انّه جمع يمين القسم، وقيل: انّه ليس بجمع.

هكذا بضمّ الميم والنون، والفه الف وصل عند اكثر النحويّين، ولم يجى‏ء فى الاسماء الف الوصل مفتوحة غيرها. وقد تدخل عليه لتأكيد الابتداء اللّام تقول ليمن اللّه، فتذهب الف الوصل وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، والتقدير ليمن [اللّه‏] قسمى. واذا خاطبت قلت: ليمنك وانّما حذفوا منه النّون، فقالوا: ايم اللّه وبكسر الهمزة ايضا. وربما حذفوا منه الياء ايضا، فقالوا: ام اللّه: وربما ابقوا الميم وحدها مضمومة ومكسورة، وروى مفتوحة. وربما قالوا: من اللّه (48 ر) بضمّ الميم والنّون وفتحهما وكسرهما. كانوا يحلفون باليمين. ثم يجمع اليمين على ايمن، ثم‏

 

   ***      ***   ارج‏نهج‏البلاغة، متن    ، صفحة 92

حلفوا به، فقالوا: ايمن اللّه لافعلنّ كذا. هذا هو الاصل فى ايمن اللّه، ثم كثر فى كلامهم وخفّ على السنتهم حتّى حذفوا منه النون، كما حذفوا من «لم يكن». فعلى هذا الفه الف قطع، وهو جمع يمين، وخفّفت همزتها وطرحت فى الوصل لكثرة استعمالهم لها. (411) قوله: لا افرطنّ، فرطتهم وافرطهم فرطا وفروطا، سبقتهم الى الماء، فانا فارط، والجمع فرّاط. ولافرطنّ لاسبقنّ ولافرطنّ لاملأنّ، وكلاهما يحتمل هاهنا. وسمّى الحوض حوضا، لانّه من حضت الماء، اى جمعته. الماتح والمتوح المستقى. لا يصدرون عنه ولا يعودون اليه اى يهلكون.

قيل: كانّه يومى الى من عرف شجاعتى ومقامى للقتال وثباتى عند المبارزة لا يبارزنى حتّى ييأس من الحيوة. وذلك ليتمكّن هيبته فى قلوب الناس، وانّ من يعاديه يخاف لا محالة سوء العاقبة.

و أمير المؤمنين، عليه السّلام، لا يهاب النّاس. والعارف شجاع كما تقدّم. و

قيل: انّه كان واثقا بحسن عاقبته فى الاخرة عند اللّه، تعالى.

و المراد به حوض الكوثر، اى انا مستقيه.

الخطبة 11

(412)شرح كلام له خاطب به ابنه محمد بن علىّ،

جمع فى هذه الكلمات جميع آداب الحروب، اوّلها الاعراض عن الادبار تشبيها بالجبال، فانّها لا يزول عن مكانها. والعضّ عن الناجذ يدفع ضرر كلّ ضرب يوافي الرأس، وثبات القدم سبب لانهزام العدوّ. وقال الشاعر:

         لا تزكين احد الى احجام   ***    يوم الوغى متخوّفا لحمام‏

         فلقد ارانى للرّماح دربه‏   ***   من غير يمينى مرة وامامى

         حتى خضبت بما تحدّر من دمى   ***   اكناف سرجى او غبار لجامى‏

 

و قال آخر:

         واقدامى على المكروه نفسى   ***   وضربى هامة البطل المشيح‏

         وقولى كلّما جشأت وجاشت‏   ***   مكانك تحمدى او تستريحى‏

 

و غضّ البصر يزيل الجبن، ورمى البصر اقصى القوم يشجّع الفوأد.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 93

(413) ومع ذلك (48 پ) الحقّ ما قال اللّه، تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى‏ لَكُمْ. وتتّبع هذا الكلام كلام مقدّم الاطباء، وهو لا بدّ فى المعالجة من طبيب عالم حاذق امين، ومريض صادق مطيع، وخادم يخدم المريض مشفق مستبصر، ومع ذلك كلّه الشافى هو اللّه، تعالى.

الخطبة 12

(414) قوله: اهوى اخيك معنا، الهوى مقصورة هوى النفس اخذ من المعنيين، وهما الخلوّ والسّقوط. اما الخلوّ، فلخلّو الهوى من كل خير، واما السقوط، فلانّه يهوى بصاحبه فيما لا ينبغى. و«هوى» بكسر الواو، هوى «احبّ». وهاهنا المراد بالهوى الحبّ والولاء قال من كانت محبّته ونيّته معنا، كانت غيبته تنوب عن حضوره. لانّ النّبيّ، صلّى اللّه عليه وآله، قال: الاعمال بالنيّات. (415) وقوله: ولقد شهدنا فى عسكرنا، دليل على انّ اللاحق، اذا كان موافقا للسابق فى النيّة والاعتقاد، كان شريكا له، وكان حكمه كحكمه.

الا ترى انّ اللّه، تعالى خاطب يهود يثرب وقال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً، وانّهم ما قتلوه، لكن حكمهم كحكم اسلافهم فى هذا الفعل بسبب ان عقائدهم ونيّاتهم موافقة ومطابقة لبيانهم وعقائدهم. وكذلك قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏، وامثال ذلك. ومن عادة العرب ان يذكروا القبيلة الواحدة، فنسبوا الى جميعها ما فعله بعضها، ويمدح ويذمّ الاولاد بما فعل الاسلاف. قال جرير:

         فيا حوض الحجيج وساقياه   ***   ومن ورث النبوة والكتابا

 

و قال ايضا:

         تطولكم جبال بنى نمير   ***   ويحمى زأرها اجما وغابا

 

اى تطول اسلافكم. (416) قوله: سيرعف بهم الزّمان، يقال: رعف الفرس، اذا سبق وتقدّم. اى تقدّمهم الزّمان. ويقال رفع به الباب، اى دخل، وسيرعف بهم الزّمان. ومن ذلك يعنى يدخل فى الوجود، وينخرط فى سلك الزمان. وهذا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 94

المعنى اقتباس عن قول النّبى، عليه السّلام: المرء مع من احبّه.

الخطبة 13

(417) امّا قوله: كنتم اتباع البهيمة، البهيمة معناها البهيمة عن العقل. (49 ر) وجمعها البهائم، وهى كلّ ذى اربع من دوّابّ البرّ والبحر. والبصرة بصرة لانّ ارضها حجارة رخوة الى البياض ما هى، وبها سميت البصرة بصرة، لانّ ارضها التى بين العقيق والمربد كذلك. وقد بناها عتبة بن عزوان، رضى اللّه عنه. واكثر سكّانها رعاة الدوابّ. وفى هذا الكلام فائدة عظيمة، وهى انّ الوحشىّ من الناس الذى يرعى الدوابّ دون سكّان البلدان فى الرويّة. (418) قوله: رغا، يعنى الجمل، والرّغّاء صوت ذوات الخفّ، ولذلك قيل فى المثل: كفى رغائها مناديا، اى رغاء بعيره يقوم مقام ندائه فى التعرّض للضيافة والقرى. ثمّ وصفهم بسوء الاخلاق، وقال: اخلاقكم دقاق.

ماخوذ من قولهم: رجل دقيق اى قليل. وقيل: الدقّ اصل واحد يدلّ على الصغر والحقارة، ومعناه: اخلاقكم رذائل، لا فضائل. واصناف الرّذائل من الاخلاق الفجور والشّره والهتك والخرق والفسق والفساد والغدر والجناية وافشاء السّرّ والكبر والعبوس والكذب والخبث والتّيه والبخل والجبن والحسد والجزع وخساسة الهمّة والظّلم والسّفه. (419) قوله: وعهدكم شقاق، العهد الامان واليمين والموثق والضّمان فى الذمة والحفاظ والوصيّة. ومنه يقال: ولىّ العهد، اى ولىّ الميثاق، وعلىّ عهد اللّه لافعلنّ كذا. والشقاق الخلاف والعداوة. (420) قوله: ودينكم نفاق، والنّفاق بكسر النّون فعل المنافق، وجمع النّفقة. والمنافق هو الّذى يخفى اعتقاده الردىّ، و

قيل: المنافق من قولهم: فرس نفق الجرى، اى سريع انقطاع الجرى. يعنى انّ المنافق سريع انقطاع الا[تصال‏] والوفاق.

ويقال هو مأخوذ من قولهم: نفق الزّاد ينفق نفقا، اى نفد، يعنى نفد خيره وفضله.

و قيل: مأخوذ من النّفقة والنافقاء وهما جحر اليربوع يكتمه ويظهر فى غيره. فالمنافق يكتم معتقده ويظهر خلاف معتقده.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 95

ويقال: ذلك مأخوذ من قولهم: نفق اليربوع، اى خرج من نافقاءه واخرج رأسه دون سائر جسده، لانّ المنافق يخرج من الكفر باللسان دون القلب.

ماءكم زعاق، ماء زعاق ملح، وطعام مزعوق أكثر ملحه، والماء الزّعاق فعل اللّه، تعالى. (421) الّا انّ فيما ذكره امير المؤمنين فائدة عظيمة. وهى انّ الماء جسم يتناوله اكثر الحيوانات خصوصا الانسان. و

قيل: انّ بعض الحيوانات كالضّأن والارانب وغيرها لا يحتاج الى تناوله.

امّا لا شكّ انّ الانسان محتاج الى تناوله. و

قال بعض الاطبّاء: انّه لا يغذو، بل ينفذ الغذاء.

و المياه مختلفة لا بسبب المائية، لكن بحسب ما يخالطها. وافضل المياه مياه العيون الّتى لا يغلب على تربتها شى‏ء من الكيفيات الغريبة. ويجب ان تكون جارية مكشوفة للشّمس والرّياح. وما كان اخفّ فى الوزن كان افضل. وكلّ ما بعد منبعه، وطاب مسلكه، وكان جريه عن الجنوب الى الشمال، وهو ملطّف لما يدخله من المياه، وكان غمرا، فانّه ماء صالح ملائم. ومن المياه الفاضلة مياه المطر خصوصا اذا كان المطر صيفيّا وعن سحاب يرعد. والماء الزّعاق وهو المالح مهزل ويقشف ويفسد الدّم. فيتولّد معه الحكّة والجرب. وان كان هذا الماء راكدا مكشوفا كماء البصرة، فيغلب على من شربه شهوة الاكل والعطش واحتباس بطنه، وربما وقع فى الاستسقاء، وربما وقع فى ذات الرّيّة وزلق الامعاء، ويضمر رجله بسبب الطحال، ويعروه الجنون والبواسير والدّوالى والاورام الرّخوة، ويعسر على النساء الولادة والحبل، ويلدن اجنّة متورّمين، ويكثر فيهن الرّجاء وهو الحبل الكاذب، ويكثر للصبيّان الا دره  وللكبار الدّوالى وقروح السّاق ولا يبرأ (50 ر) قروحهم، ويكثر فيم الرّبع.

و من اختار هذا الموضع مسكنا ومواطنا مع انّ ارض اللّه واسعة، فهذا الاخبار يدلّ على دناة همته وقلّة تمييزه.

(422) فقول امير المؤمنين ماءكم زعاق، [هو] للارداف الذى ذكرته‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 96

فى اوّل الكتاب فى فصل اقسام البلاغة. والارداف ان يدلّ لفظ على معنى يلزمه معنى آخر، كقول القائل للمضياف المطعام: فلان لا يخمد ناهر، اى ناره ابدا موقودة بسبب طبخ اطعمة الضيافة. فلذلك قول امير المؤمنين: ماءكم زعاق، ارداف لطيف يدلّ على سوء اختيارهم. و

قيل: قوله: ماءكم زعاق استعارة، لانّ بعض الناس يقول ذهب ماءه، اى زال جاهه. فالمراد جاهكم كدر ناقص.

(423) وقوله. المقيم بين اظهركم، الى تمام الكلام، يدلّ على انّ الاحتراز من قرناء السّوء مفيد، والاخلاق الرديّة ضارّة لجلساء اربابها. (424) وقوله: كانّى بمسجدكم، هذه اشارة الى ما اخبره النّبىّ، صلى اللّه عليه وآله وسلّم، من الغيب فى سبب هلاك سكّان البصرة وخرابها، فصار ذلك صلاحا عند عصيان اهلها.

الخطبة 14

(425) قوله: خفّت عقولكم وسفهت حلومكم، ويروى: احلامكم، يدلّ على ما ذكرته من البرق والطّيش والحرص والاخلاق الردّية. (426) قوله: فانتم غرض لنابل، وأكلة لآكل، [و فريسة] لصائل، كلمات تجرى مجرى الامثال فى من هو سلس الانقياد فى الشرّ عسر الانقياد فى الخير، ويطمع فى الاستيلاء عليه كلّ طامع. الاكلة هاهنا بضمّ الالف اللّقمة والطّعمة ايضا، يقال: هذا اكلة لك.

الخطبة 15

شرح الخطبة الاخرى

(427)، قوله: ذمّتى، الذّمامة بفتح الذّال المذمّة، والذمّة الامان فى قول النّبى، صلّى اللّه عليه وآله، يسعى بذمّتهم لاناهم.

و اهل الذّمّة اهل العقد. رهينة اى مرهونة وانابه زعيم، اى بما اقول. والزّعيم هاهنا الكفيل، اى ليس فى قولى كذب ولا فى وعدى خلف. صرح يقع [على‏] اللازم (50 پ) والمتعدّى جميعا. المثلات العقوبات، حجزه منعه. قحم وتقحّم واقتحم فى المكروه وقع فيه، يعنى: عرفان الامور الدّنياويّة يمنع عن الوقوع فى الشبهات.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 97

(428) وقوله: انّ بليّتكم قد عادت، يجرى مجرى قول النّبى، عليه السّلام: انّ الزّمان قد استدار كهيئته. يعنى اقاسى من بليّتكم مثل ما قاسى النّبىّ، عليه السّلام، فى ابتداء بيعة من قومه. البلبلة الاختلاف والتفرّق، من ذلك بلبلة الالسن، اى اختلافها وتفرّقها. والبلبلة وسواس الصّدر. الغربلة التقطيع، وغربله قطّعه، المغربل المقتول المنتفخ. السّوط اصل يدلّ على مخالطة الشى‏ء للشى‏ء. ويقال للّذى يضرب به السوط، لانّه يخالط الجلد او يسوط اللّحم بالدّم. وقد سمّى المسواط لما يحرّك به ما فى القدر، ليخلط بسبب انّه مأخوذ من السّوط وهو خلط الشى‏ء بعضه ببعض. (429) وقوله: سوط القدر، يعنى تغيّر اموركم حتّى يعود الوضيع رفيعا والتّبع متبوعا. الوسمة الكلمة، والوشمة القطر. يقال: ما غضبته واسمة، اى كلمة. وايضا ما كتمته وسمة. وما اصابتنا العام وشمة اى قطرة من مطر.

و الوشيمة العداوة والشّرّ. (430) قوله: فلئن امر الباطل، اى كثروا اشتدّ قديما، من قولهم: امر مّا، اى كثر. وامر امره اشتدّ. «ربّ» فى التقليل نظير «كم» فى التكثير، وقد غلب على «ربّ» الاستعمال بمعنى الكثرة، تقول: ربّ بلد قطر. وعلّ ولعلّ معناهما الترجّى، ويختصّان ما يجوز ان يكون وفيهما لغتان: «لعلّ ولعنّ» و«علّ وعنّ». ومن العرب من يكسر اللام الاخيرة، فيقول: «لعلّ»، ومن العرب من يجرّ بها، فيقول: لعلّ زيد. (431) وقوله: «لقلّ ما ادبر شى‏ء فاقبل» كلام رصين فيه من الفوائد حصن حصين، لانّ الشريعة المنسوخة لا يصير ناسخة، والدولة المدبرة لا يصير مقبلة، الّا فى الأقلّ، وكذلك المنهزم لا يهزم العدوّ الّا فى الاقلّ، والغايب لا يستدرك. (432) قوله: ساع سريع نجا، عبارة عن (51 ر) معنى قول اللّه، تعالى: جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَقَولُه: تعالى: وَسارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 98

رَبِّكُمْ. وطالب بطى‏ء رجا، عبارة عن قول اللّه، تعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً، وقوله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ. والبطى‏ء والسريع فى الطلب، امّا السّريع فهو سابق بالخيرات باذن اللّه، واما الطالب البطى‏ء فهو المقتصد، وامّا المقصّر فهو ظالم لنفسه. (433) شرح الخطبة الاخرى، قوله: اليمين والشّمال مضلّة، شرحنا معنى المضلّة، ومعنى ذلك الكلام انّ [ا]لانحاء نحو اليمين والشمال عدول عن النهج المسلوك. وشرح ذلك انّ التّعطيل والتشبيه ضلالتان، والتوحيد هو الجادّة، والغلوّ والتقصير ضلالتان، والانصاف والوسط هما الجادّة. وكذلك فى الاخلاق من كان خامد الشهوة، فهو عنّين. ومن استولى عليه الشهوة، فهو بهيمة، ومن سلك فى استعمالها الطريق المستقيم، كان اصلح له. وكذلك الغضب، من استولى عليه الغضب، فهو شيطان، ومن كان غضبه ضعيفا، كان ممّن لا حميّة له، ومن لا حميّة له لا دين له، ومن سلك الطريق الاوسط كان ممّن يجاهدون فى سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم.

الطريق السبيل يذكّر ويونّث، سمّى لانّه شى‏ء يعلو الارض فكأنّها قد طورقت به وحصفت. و

قيل سمّى لانّ الاقدام لبنته بالطروق فيه، فيقال: الطريق الاوسط والطريق الوسطى، والجمع «اطرقة» اذا ذكّر و«طرق» اذا أنّث.

و الطريق الوسطى الصراط المستقيم، وهو صراط اللّه.

(434) قوله: باقى الكتاب، اى الكتاب الباقى الذى لا ينسخ. هذا عند الكوفيّين. والعرب تقول مثل ذلك. وعند البصريين «باقى من الكتاب»، كقولهم: زلال المآء. لبنته (435) قوله: واصلحوا ذات (51 پ) بينكم، اى حقيقة وصلكم،

كذا ذكر فى كتاب الغريبين.

(436) قوله: لا يهلك على التّقوى سنخ اصل، التقوى ها هنا التوحيد فى قول اللّه، فى سورة النساء: وَلِلَّهِ ما، اى وحّدوا اللّه، وَلِلَّهِ ما فِي‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 99

السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا. وكقوله فى الحجرات: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ، للتّوحيد. والتقوى الاخلاص فى قول اللّه، تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ، اى من اخلاص القلوب. هلك من ادّعى، اى ادّعى ما ليس له. و

قيل: ادّعى مطلقا، لانّ الدّعوى عجيب.

(437) وقوله: كفى بالمرء جهلا ان لا يعرف قدره، يعنى اذا عرف قدره، لا ينكر فضل من هو فوق قدره. وهلك، ليس المراد به مات، بل المراد به سقط قدره عند جهلة الناس، والهلاك السقوط، من قولهم: اهتلكت القطاة خوف البازى، اى رمت بنفسها. و

يقال: هلك خاف، كذا ذكر فى مجمل اللغة.

و لذلك فسّر بعض العلماء قوله، تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ، اى خائف، وذاته، تعالى، منزّهة عن الخوف. (437) سنخ اصل، اى رسوخ اصل، من قولهم: سنخ فى العلم سنوخا، رسخ فيه. والتوبة من ورائكم، ورائكم اى امامكم. قال اللّه، تعالى: وكان وراءهم ملك. (438) وقوله: لا يظمأ عليها زرع قوم، اى على التّقوى، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.

و من اتّقى اللّه حقّ تقاته، كان فى حفظ اللّه. (439) قوله: ولا يحمد حامد الّا ربّه، ولا يلم لائم الّا نفسه، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ، فَمِنَ اللَّهِ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. واقول فى وصف هذا الكلام: هذا كلام يجرى مجرى السّحر الحلال ويرتفع درجته عن نعوت الكمال، كانّه اليواقيت فى النظام، او مواقيت الاعياد فى الايّام. لفظ احسن من عطفة الاصداغ، وبلاغة (52 ر) كالامل اذن بالبلاغ، وامثال كانّها حديقة الاحداق، وبضاعة الحذّاق. يضحك معانى تلك الالفاظ شعور الاداب ضحك الازاهير غبّ بكاء السّحاب. كانّها لئالى السّمط، او اشعّة السّقط، وكانّ الصّبح يتنفّس عن نسيمها، والدّر يبسم عن نظمها.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 100

و لا غرو، فانّ قائلها استقى من منابع المصطفى، عليه السّلام، وجذب العلم بضبعه، وشقّ الالهام عن بصره وسمعه، وختمت آداب الدين فى عراص طبعه، بذكره ينشرح الصدور، وفلك الفصاحة [على‏] قطب قلبه وخاطره يدور.

الخطبة 16

شرح الخطبة الأخرى،

(440) قوله: جائر عن قصد السّبيل، الجور الميل، ويقال: جار عن الطّريق، اى مال. البدعة الحدث فى الدين بعد الكمال، والجمع بدع. وبدّعه نسبه الى البدعة، وبدع جاء ببدعة. و

قيل: البدعة مأخوذ من قول العرب: ابدعت الرّاحلة، كلّت. وسمّيت البدعة بدعة لكلالة مركب صاحبها عند المحاجّة والمباحثة.

(441) قوله: حمّال خطايا غيره، مأخوذ من قول النّبى، صلّى اللّه عليه وآله: من سنّ سنّة [سيّئة] فله وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة، ومن قول العرب: اذا زلّ العالم، زلّت بزلّته العالم. قمش اى جمع. عاد فى اغطاش الفتنة، ويروى: فى اغباش الفتنة، اى ظلم الفتنة. قال اللّه، تعالى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها. ويروى: عاد فى اغباش الفتنة. المهادنة المصالحة، والاسم منه الهدنة. وعقد الهدنة من قولهم هدن يهدن هدونا، سكن. وفى الامثال هدنة على دخن، اى سكون على غلّ. من آجن، اى من ماء آجن. اشباه النّاس اقوام صورهم صور الانسان واخلاقهم اخلاق البهائم والسّباع. وهذه استعارة عن الّذى افتخر بما فيه من العار. بكّر يعنى ابتدأ وحصل شيئا قليلا، مأخوذ من البكر وهو اوّل الشى‏ء وبدأه. من غير طائل، اى من غير فضل. (442) قوله: مثل نسج العنكبوت، العنكبوت وزنها فعللوت، و(52 پ) الغالب عليها التّأنيث. ومن الناس من يجعله ثلاثىّ الاصل، وقال: اصله من العكوب وهو الغبار، لانّ نسجها شبه الغبار. ومن الناس من قال: اصله من العكبّ وهو القصير الضّخيم على مثال هجفّ. ونسج العنكبوت مثل لكلّ شى‏ء واه. كما قال اللّه، تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياء

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 101

كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ. (443) قوله: خبّاط جهلات، اصل الخبط يدلّ على وطأ وضرب.

و هذا الفصل مأخوذ من قول النّبى، صلّى اللّه عليه وآله: انّ من العلم جهلا، والمراد بذلك ان يتعلّم مالا يحتاج اليه، ويذر ما يحتاج اليه لدينه وسعادة عاقبته. (444) وقوله: ركّاب عشوات. العشوة ان تركب امرا على غير بيان.

يقال: اوطأتنى عشوة وعشوة، عشوة اى امرا ملتبسا، وذلك اذا اخبرته بما اوقعته به فى حيرة او بليّة. وهو من قولهم: مضى من اللّيل عشوة بالفتح، وهو ما بين اوّله الى ربعه. ومنه الحديث: فاخذ عليهم بالعشوة اى بالسّواد من الليل. (445) قوله: لم يعضّ على العلم بضرس قاطع، استعارة مليحة عن نفى الاستعداد والآلة. الهشيم من النّبات اليابس المنكسر والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف شاء. ومنه يقال: رجل هشيم، اذا كان ضعيف البدن. ذرت الريح التّراب سفتّه. وقال ابن الاعرابّى: و«اذرت» لغة فيه، واذريته القيته. (446) وقوله: يذرى الرّوايات، اى يفترى الاكاذيب ويروى بلا رويّة وتفكّر فى العواقب. لاملى‏ء، اى هو ملى‏ء لا يحسب العلم، من الحساب. تعجّ منه المواريث، العجّ رفع الصّوت بالتّلبية، ثمّ استعير فى شكاية. يعجّ اليه، اى يرفع صوته بالشكاية، يعنى يقضى فى الدماء والمواريث بخلاف حكم اللّه.

و فى رواية اخرى رواها السلامىّ صاحب التاريخ: الا وانّ ابغض خلق اللّه (53 ر) الى اللّه رجل قمش علما، عاد باغباش الفتنة، عم بما فى عقد الهدنة، سمّاه اشباهه من النّاس عالما، ولم يغن فى العلم يوما سالما، بكّر واستكبر، ما قلّ منه خير ممّا كثر، حتّى بلغ ما ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل.

قعد بين الناس قاضيا لتلخيص ما اشتبه على غيره. ان نزلت به احدى المهمّات، تهيّأ حشوا رثّا من رأيه. فهو من قطع الشّبهات فى مثل نسج‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 102

العنكبوت، لا يعلم انّه اذا اخطأ، لانّه لا يعلم انّه اخطأ أم اصاب. خبّاط عشوات ركّاب جهلات، لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلّم، ولا يعضّ على العلم بضرس قاطع، يذرو الرواية ذرو الهشيم. يبكى منه الدماء ويصرخ منه المواريث. ويستحلّ بقضائه الفرج الحرام. لا ملى‏ء واللّه باصدار ما ورد عليه، ولا أهل لما فرّط به. (447) شرح الكلمات الّتى فى هذه الرواية، اغباش اللّيل بقايا ظلمته، وفى الحديث: متلفّعات بمروطهنّ ما يعرفن من الغلس. والهدنة السّكون، يقال: هدن اذا سكن، والمهادنة الاصطلاح، سمّى بذلك، لانّ السكون يكون به، واراد انّه لا يعرف فى الفتنة الا الخير من الشرّ.

(449) وقوله: ولم يغن فى العلم يوما سالما، يريد انّ الجهّال يسمّونه عالما، ولم يلبث فى العلم يوما تامّا. وهو من قولك: غنيت بالمكان اذا اقمت به، ومنه قيل للمنزل مغنى وللمنازل مغانى، لانّها يقام بها.

(450) وقوله: حتّى بلغ ما ارتوى من آجن. الآجن الماء المتغيّر، والآسن نحوه، شبّه علمه به.

(451) قوله: قعد لتلخيص ما التبس على غيره، يريد لبسه، وهو والتلخيص متقاربان، ولعلّهما شى‏ء واحد من المقلوب. وصاحب والخصب .

(452) قوله: وان نزلت به احدى المبهمات، يريد مسالة معضلة مشكلة. وانّما قيل لها مبهمة لانّها ابهمت عن البيان. ومن هذا قيل لما لا ينطق من الحيوان: البهائم.

(453) وقوله: خبّاط عشوات، اى تخبّط ظلمات، وخابط العشوة، وواطى‏ء العشوة هو الذى يمشى (53 پ) فى الليل بلا مصباح، فيتحيّر ويضلّ وربّما تردّى فى بئر او يسقط على مبلع. ويقال فى المثل: سقط العشاء به على سرحان.

(454) قوله: ولا يعضّ على العلم بضرس قاطع، يريد انه لم يتقن‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 103

و لم يحكم، فيكون من يعضّ بناجذ، والناجذ آخر الاضراس، وانما يقطع اذا استحكم ناب الرّجل. ومن هذا المعنى قول الشاعر:

         اخو خمسين مجتمع اشدّى   ***   ونجّذنى مداورة الشّؤون‏

 

(455) وقوله: يذرو الرّواية ذرو الريح الهشيم، اى نسف الرواية، كما ينسف الريح هشيم النّبت، وهو ما يبس منه وبقيت، ومنه قوله، تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ.

(456) وقوله: لاملى‏ء بأصدار ما ورد، يقول: ليس هو بكامل الردّ عمّا سئل عنه، ولا هو اهل لما فرّط به. والتفريط المدح. (457) قوله: من معشر، تقديره الى اللّه اشكوه من معشر.

الخطبة 17

(458) ذكرت فى كتاب الازاهير من تصنيفى معنى الفتوى والفتيا ومأخذهما. الفتيا والفتوى يحتملان الواو والياء كالبقيا والتّقوى. والفتوى الحكم بالشى‏ء فكانّ المفتى يقوّى ببيانه ما اشكل، وهو كالشيخ الضعيف فيشّب ويصير فتيّا قوّيا.

(459) قوله: ظاهره انيق، شى‏ء انيق اى حسن معجب. وآنقنى الشّى‏ء اى اعجبنى. وباطنه عميق اى لا يعرف تاويله الا اللّه والراسخون فى العلم.

الخطبة 18

شرح الخطبة الاخرى،

(460) قوله: اعترضه الاشعث، يعنى حال دونه ودون كلامه ووقع فيه. وهو الاشعث بن قيس الكندىّ، من كندة وهم ملوك. ونسبه الاشعث بن قيس بن معدى كرب بن معوية بن جبلة بن عدىّ بن ربيعة بن معوية بن الحرث بن معوية بن ثور بن مرتّع بن معوية بن كندة. يقال: اعترض الشى‏ء دون الشى‏ء اى حال دونه، واعترض الفرس فى رسنه اى لم يستقم لقائده، واعترض البعير ركبه وهو صعب، واعترض الشّهر ابتدأه من غير اوّله، واعترض فلانا وقع فيه. (461) قوله: فخفض اليه بصره، يعنى مدّ من قولهم: خفض، اى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 104

مدّ راس البعير الى الارض، (54 ر) ويقال: خفض بصره ضدّ رفع البصر. (462) قوله: والاسلام اخرى، يعنى ارتدّ الاشعث بعد الاسلام، حتى اسره خالد بن الوليد وبعثه الى المدينة، فاطلق. وارتدّ مرّة اخرى ونحر كلّ ابل رآه. فقيل: او لم من الاشعث. وسبب ذلك انّ الاشعث تزوّج بامّ فروة بنت ابى قحافة، فخرج الاشعث من مجلس العقد، ودخل سوق [المدينة] واخترط السّيف، ونحو كلّ ابل رآه، وذبح كلّ غنم استقبله، ودخل دارا من دور الانصار. فصاح الناس وقالوا: ارتدّ الاشعث ثالثا. فاشرف الاشعث على السطح، وقال: يا اهل المدينة انّى غريب ببلدكم، واو لمت بما نحر[ت‏] وذبحت، فليأكل كلّ انسان ما وجد. وليعد الىّ من كان له علىّ حق، حتّى ارضيه. وفعل ذلك، فلم يبق دار من دور المدينة الا واوقد فيها بسبب تلك اللحوم. فضرب اهل المدينة به المثل، وقالوا: او لم من الاشعث.

و قال فيه الشاعر:

         لقد اولم الكندىّ يوم ملاكه   ***   وليمة حمّال لنقل العظائم‏

 

(463) قوله: حائك بن حائك، ويروى حائكُ بن حائك، اى يا حائك بن حائك. وما يدريك «ما» استفهام، «ما علىّ» بمعنى الّذى علىّ، و«ما» الثانية موضعها نصب، لانّها مفعول يدريك. يقال: حاك يحيك حياكا وحيكا وحياكة، حرّك منكبيه وفحج بين رجليه فى المشى، يقال منه: رجل حائك وامرأة حائكة. والحيّاك المتبختر، والحياكة المتبخترة. وقال القمقام الاسدىّ:

         جارية من شعب ذى رعين   ***   حيّاكة تمشى بعلطتين‏

 

(464) وقيل: كان الاشعث من ابناء ملوك كندة، ولم يكن حائكا بمعنى ناسج الثوب، بل انّما وصفه امير المؤمنين، عليه السّلام، بهذا المشى والهيئة، وهذا مشى المخانيث.

و يدلّ على حسبه ووجاهته فى قومه قول امير المؤمنين: فما فداك فى واحدة منهما مالك ولا حسبك. وامير المؤمنين‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 105

انّما عيّره بالتخنث، فعبّر عن هذا الفعل الشنيع باستعارة مليحة دالة على هيئة المخانيث. وقيل: لا بل كان الاشعث ينسج برد اليمن، (54 پ) وابوه كان ناسجا.

(465) ولو صحّ ما ذكروه، لكان امير المؤمنين انّما عيّره باخلاق خسيسة تتبع هذه الحرفة، لا هذه الحرفة التى يجوّزها الشرع والدين، وكانت منسوبة الى شيث بن آدم، عليهما السّلام، ويحتاج الحىّ والميّت الى المنسوج.

(466) ومن ذهب الى هذا المعنى، قال: هو مأخوذ من «الحوك» وهو ضمّ الشى‏ء، يقال: حاك الثوب حوكا وحياكة، نسجه، فهو حائك وقوم حاكة وحوكة جائت على الاصل. ومن اخلاق الحوكة الكذب.

(467) وقد روى فى كتاب شمائل النّبى، عليه السّلام، دفع غزلا الى حائك من بنى النّجّار لينسج له صوفا. وكان رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، يطلبه ويأتيه متقاضيا ويقف على بابه، ويقول: ردّوا علينا ثوبنا حتّى نتجمّل به فى النّاس. والحائك يكذب ويعده مواعيد عرقوب، حتّى توفّى رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولم يتمّ له هذا النسج.

(468) وقيل: الحائك هاهنا مأخوذ من حاك الشّعر، فالحائك الشّاعر الّذى يكتسب بالشعر مالا، وهذا كسب خبيث.

(469) وقال بعض المحققين: الحياكة حرفة خسيسة. والحائك والغزّال والقطّان والمعلّم ضعفاء العقول. لان معا ملتهم ومخالطتهم مع النساء والصّبيان. وعقول النساء ضعيفة، والصبيان لا عقول لهم. ومن كان اختلاطه مع ضعفاء العقول، كان ضعيف العقل.

(470) وقال الامام الجليل الوبرىّ: هذه اشارة الى دناءة حرفته وحرفة ابيه. وانّما يعيّر الانسان بدناءه الحرفة وذمامة الخلقة وخسّة الهمّة. ولكن هذه المذمّة تبع لكفره ونفاقه. فامّا فى حقّ المؤمن النقىّ ومن لا يستحقّ الذمّ فلا يجوز تعييره بهذه الامور. وعلى هذا قال اللّه، تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ،

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 106

الى قوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ

(471) وقوله: وان امرأ دلّ على قومه السّيف، وساق اليهم الحتف، لحرىّ ان يمقته الاقرب، ولا يأمنه الابعد.

قال السيّد: اراد به حديثا كان للاشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غرّ فيه قومه (55 ر) ومكر بهم، حتّى اوقع بهم خالد، وكان قومه بعد ذلك يسمّونه «عرف النّار».

و هذه القصّة لم يوجد في التواريخ وايّام العرب. وقد تصفّحت اكثر التواريخ، وذكرت مشاهير ايّام العرب فى كتابى المعنون بمجامع الامثال. ولم اقرء فى تاريخ انّ الاشعث كان مع خالد فى محاربة مسيلمة باليمامة. (472) امّا حديث الاشعث واسره فى الكفر مرّة وفى الاسلام مرّة اخرى وغدره ودلالته على قومه السيف ما اذكره منقولا عن التواريخ ومشاهير ايّام العرب.

(473) كان الاشعث بن قيس ملك حضرموت، وقد منع اهل حضرموت الصدقات، فاتاهم مهاجرين ابى اميّة، وحارب الاشعث، واظهر الارتداد، فطرد مهاجر الاشعث وبنى كندة من حضرموت، فالتجأ الاشعث مع قومه الى حصن حصين فى البادية. فقصد مهاجرين ابى اميّة وعكرمة بن ابى جهل الاشعث، وقتلا من وجدا من قوم الاشعث. فطلب الاشعث الامان فى نفر من قومه، وكتب اساميهم، وما كتب اسمه. وآمنه المهاجرين الوليد فخرج الاشعث من الحصن. وسلّم قومه الى المهاجر، حتّى قتلهم جميعا، وما ابقى منهم نافح ضرام، ولا قائد زمام. وقال المهاجر للاشعث: هات كتاب الامان، فعرض عليه الاشعث كتاب الامان. فقال المهاجر: ليس فيه اسمك وانّك مقتول. فتكلّم فى حقّه عكرمة بن ابى جهل حتّى حمله المهاجر مقيّدا الى المدينة. فهذا معنى قوله: دلّ على قومه السّيف. فانّه سلّم قومه الى المهاجر وما طلب الامان الّا لثلّة من قومه.

(474) واما اسره فى الاسلام، فهو الّذى بعثه المهاجر بن [ابى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 107

اميّة] والوليد بعد فتح حضرموت مقيّدا الى المدينة.

(475) هذا ما وجدته فى التواريخ ومشاهير ايّام العرب. وربما كان عند غيرى ما اشار اليه السيّد، فانّه لم (45 پ) يخبر الّا عن دراية واتقان. (476) وقوله: عرف النّار،

قيل: هو مأخوذ من عرف الفرس، لانّ عرف الفرس يستر عنق الفرس، كذلك الغادر يستر نار مكره.

و

قيل: العرف والعرفة الرّمل المرتفع شبه الجبل، والجمع اعرف واعراف. قال الشاعر: اابكاك بالعرف المنزل.

فكما انّ الرّمل المرتفع يستر ما وراءه، كذلك الغادر يستر ما وراءه من نار المكر، والعرف يدلّ على تتابع المشى متّصلا بعضه ببعض، ومنه عرف الفرس.

(477) قوله: لحرىّ ان يمقته الاقرب ولا يامنه الابعد، من غدر بقومه يمقته اقاربه ولا يأمنه اباعده، لانّ الغدر بالاقرب اهون من الغدر بالابعد. ومن لا يامن قريبه غدره مع الرّحم الماسّة والنسب المشتبكة، كيف يامن غدره الابعد. وامير المؤمنين علىّ، عليه السّلام، اشار فى هذا الكلام الى مجامع عيوبه: اوّلا لعنه وقال: عليك لعنة اللّه، ويستحقّ اللّعنة من استكبر وابى. واللعن يدلّ على ابعاد واطراد من الخير. ثمّ استعمل بمعنى الدعاء على الملعون. واللعنة الاسم، والرجل لعين وملعون. والمراة ايضا لعين. وقوله ولعنة اللاعنين يدلّ على جواز اللّعن، وهو الدعاء على من بعّده اللّه من رحمته.

و اللعين فعيل بمعنى مفعول كمطرود وطريد. وانّما سمّى ملعونا، لانّ اللّه، تعالى، طرده عن الجنّة وابعده عنها، ولعنهم اللّه بكفرهم (و) طردهم وابعدهم. وقيل: الملعون المتروك. قال الشاعر:

         عورته يحدثه بصعيده   ***   بصونيه مسانه ملعون‏

 

 

يصف الطريق بانّه متروك لا يسلك. فالشيطان ملعون، لانّه طرد وابعد وترك، فصار بمنزلة الطريق الّذى عمى هداه فلا يهتدى له.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 108

ثم وصفه امير المؤمنين بدناءة الهمّة وركاكة الرّأى وخبث الكسب والنّفاق والانتساب الى كافر. وهذا دليل على انّ الاصل مؤثّر فى الخير والشر.

ثم وصفه بالشكّ والتقليد، لانّ الارتداد (56 ر) من الدلائل [على‏] الشّك والتقليد. ثم وصفه بالعجز والفشل. فانّ من اسر يكون عاجزا احيانا. ثمّ وصفه بالبخل وترك الحزم، حيث قال: فما فداك مالك ولا حسبك. ثم وصفه بالغدر والطمع الّذى يدنى الى الطبع. ووصفه بانّه لا يثق به بعيد ولا يحبّه قريب. وهذه مجامع الرذائل.

الخطبة 19

شرح الكلام الآخر،

(479) تكلّم امير المؤمنين فى الامور التى بعد الموت، قوله: ووهلتم، الوهل بالتحريك الفزع. يقال: وهل بالكسر فهو مستوهل، ووهل فى الشى‏ء وعن الشى‏ء غلط فيه وسها. وسمعتم قول الواعظ: وقريب ما يطرح الحجاب، هو مأخوذ من قول اللّه، عزّ وجلّ، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. وما يبلّغ عن اللّه بعد رسل السّماء، يعنى الملائكة، الّا البشر، اى الرّسل والانبياء. (480) وقوله: وزجرتم بما فيه مزدجر، القلب الصافى يحرّكه ادنى مخافة، والقلب الجامد القاسى ينبوعه كلّ المواعظ.

الخطبة 20

(481) ثم قال: تخفّفوا تلحقوا، هذه اشارة الى سلوك السّبل الغبيطة العليا والانقطاع عن علائق الدنيا والانفكاك والتخلّص عنها والانغماس فى اللّذة العليا والخروج الى عالم السعادة والانتقاش بالكمال.

ثمّ مدح السيّدّ هذا الكلام بالفاظ يشفى القرايح القريحة والجوارح الجريحة. وانا اقول: هذه الفاظ علويّة يحكى، تورّد الاشجار، وتنفّس الاسحار، ودرر السّحاب ودرر السّخاب. فيها ملح كيواقيت السّحر، وفقر كالغنى بعد الفقر، ومواعظ يقود المستعمين الى الطاعة والانقياد والاذعان، يجرى فى القلوب جرى المياه فى عروق الاغصان. لو تليت على الحجارة لانفجرت منها عيون الماء، او على الكواكب لانتشرت من آفاق السماء.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 109

(482) وقوله: تخفّفوا تلحقوا. من وقعت سفينته فى لجّة البحر، وهبّت الرّياح العواصف، (56 پ) واضطربت الامواج، فلا بدّ له من التخفيف، والقاء الا متعة فى الماء، حتّى ينجوا، لانّ النجاة فى تلك الحال ابعد من الهلاك. وقلب المؤمن اشدّ اضطرابا من السفينة. وامواج التخيّلات والتوهّمات اعظم التطاما من امواج البحر. والتخفيف الحقيقىّ خلوّ القلب من حبّ الدّنيا والاهل والمال والولد وجميع الشهوات. وضدّ هذا التخفيف، ما قال اللّه، تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

الخطبة 21

شرح الخطبة الاخرى،

(483) قوله: انّ الشيطان ذمر حزبه، «ذمر» من قولهم: ذمر به واذ مره اذا حثّه. الجلب والاجلاب الذين يجلبون الابل والاغنام للبيع. النّصف اصله الاعتدال، مأخوذ من النّصف بتحريك الصّاد، والمرأة التى بين الشّابة والمسنّة. (484) قوله: فان كنت شريكهم فيه، فانّ لهم لنصيبهم منه. كلام يفيد انّ من شارك انسانا فى امر مّا، لا يجوز له الانكار عليه. (485) وقوله: يرتضعون أمّا قد فطمت، يعنى قد فطمتهم، ومثله قول العرب كدمت غير مكدم، وتسألنى برامتين شلجما. (486) قوله: يحيون بدعة قد اميتت، ابان به عن عادة الجاهليّة فى اخذ البرىّ بجرم المذنب واخذ الشريف بجناية الوضيع وقتل الحرّ بقصاص العبد. هذه كانت عادتهم. (487) قوله: يا خيبة الداعى من دعا والام اجيب ويروى: يجيب. «من دعا» استفهام. هذا تعجّب من دعاء اهل الشام الى محاربته ونسبتهم اليه دم عثمان، وهو برى‏ء الساحة عنه. (488) قوله: هبلتهم الهبول، «الهبل» بالتحريك مصدر «هبلته‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 110

امّه»، اى ثكلته. ويذكّر، والمراد به المدح او التحريص. وهذا مصدر قياسه الثّكول، لانّه متعد، ومثله الزّكن. و

قيل: اصله اذا مات الولد فى المهبل، اى فى اقصى (57 ر) الرّحم. والاصل محبل. والهبول من النساء الثّكول.

(489) قوله: لقد كنت وما اهدّد بالحرب ولا اهدّد بالضّرب، نظير قول العرب: لقد كنت وما يقادنى البعير، وقولهم: لقد كنت وما اخشّى بالذئب. وانّى على يقين من ربّى وغير شبهة من دينى، دليل على انّ العزّ فى طاعة اللّه، ومن يثق باللّه، فانّه لا يخاف احدا من المخلوقين، والقتل الم ساعة، وبعده للشهداء ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال اللّه تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا، الآية.

الخطبة 22

شرح الخطبة الأخرى،

(490) قوله: ان الامر ينزل من السّماء الى الارض، مأخوذ من قول اللّه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ. وقد تكلّم قوم فى تفصيل عالم الخلق والامر، وقالوا: ينحطّ عن افق عالم الربوبيّة عالم الامر ويجرى به العلم على اللوح، فيتكثّر حيث يغشى السّدرة ما يغشى ويلقى الروح والكلم، وهناك افق عالم الامر يليه العرش والكرسىّ والسموات وما فيها، كلّ يسبّح بحمده، ثمّ يدور على المبتدأ. وهناك عالم الخلق، يلتفت منه الى عالم الامر، ويأتونه كلّ فردا. (491) غفيرة، الغفيرة الشى‏ء الهيّن الّذى يعتفر فى جنب غيره، اى يحتقر وليست فيهم غفيرة، اى لا يغفرون ذنبا.

قال السيّد: الغفيرة هاهنا الكثرة والزيادة، من قولهم الجمّ الغفير

و كلاهما يحتملان. الفالج الفائز والياسر المقامر.

قال ابو عبيد: من يعترف تفصيل الميسر عند العرب ولا يدرى انّهم كيف ييسرون، قال ابو عبيد الياسرون هم الّذين يتقامرون على الجزور.

و انّما كان هذا فى اهل الشرف منهم، وكانوا يفتخرون به، قال الاعشى:

         المطعموا الضّيف اذا ما شتوا   ***   والجاعلوا القوت على الياسر

 

اى يجعلون اقوات الفقراء على المقامر، يصفهم بالسّخاء والكرم. فانّ القمار

 

---------------------------------------------------------------

صفحة 111

عند العرب شعار الاغنياء، فمعنى قول أمير المؤمنين كالمياسر الفالج ينتظر فوزه من قداحه، يقول هو بين خيرتين امّا المصير (57 پ) الى ما يحبّ (من) الدّنيا، فهو بمنزلة المعلّى وغيرها من القداح الّتى لها حظوظ، او بمنزلة الّتى لا حظوظ لها، يعنى الموت، فيحرم ذلك فى الدّنيا، وما عند اللّه خير له. والفالج المقامر. يقال: فلجهم وفلج عليهم. قال الراجز: لمّا رايت فالجا قد فلجا.

و ممّا يبيّن انّه اراد بالحرمان فى الدّنيا المنيح ما يروى عن جابر بن عبد اللّه انّه قال: كنت منيح اصحابى يوم بدر، يعنى لم اجد من الغنيمة شيئا لصغر سنّى.

التّعذير التقصير. يقال:

         عذّر فى الار اذا لم يبالغ فيه   ***   والمعنى خشية ليس فيها تقصير

 

(492) قوله: رياء وسمعة، اى يراه النّاس ويسمّعوا به. والاصل فى السّمعة ان يسمّع الرّجل عمله النّاس تسميعا، وهو منها عنه . من يعمل، «من» شرط. الحيطة الحياطة. يقال: حاطه حوطا وحيطة وحياطة، والاسم الحيطة، ولا تقل الحيطة. ومع فلان حيطة لك، ولا تقل: عليك، اى تحنّن وتعطّف وشفقة، يجعله اللّه اى يخلفه. هذا اشارة الى انّ الانسان لعجز البشريّة يحتاج الى انصار واعوان، سواء كان محقّا او مبطلا. (493) قوله: ولسان الصّدق، لسان الصّدق الثناء والذّكر الجميل، وهو خير من المال، لانّ الذكر الجميل الّذى يبقى بعد الانسان يلزمه ويبقى بعده ويورثه دعاء ورحمة. والمال ينتقل الى غيره بسبب الارث. و

قيل فى التفسير: لسان صدق اى قبول فى الامم.

و

قال القتيبىّ: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة. لانّ القول يكون بها. والعرب يسمّى اللغة لسانا. قال الاعشى:

         انّى اتتنى لسان لا. اسرّبها   ***   من علو لا عجب فيها ولا سخر

 

و لين الحاشية، استعارة عن حسن المواساة.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 112

الخطبة 23

شرح الكلام الآخر،

(494) قوله: خابط الغىّ، وطئه ولازمه من غير معرفة منه. وما علىّ، ما لنا فية . (495) قوله: من اذهان و[لا] ايهان، الكريم يهادن ولا يداهن. (496) قوله: ضامن لفلجكم اى لظفركم وفوزكم (58 ر)، الآجل والآجلة ضدّ العاجلة، لانّها الى اجل. وهذا الكلام صادر عن يقين كامل. قوله: عصبه بكم، اى ربطه. (497) قوله: ضامن، ضمنت الشى‏ء ضمانا كفلت به، فانا ضامن وضمين. ومعنى الضّمان فى كلام العرب الرعاية للشى‏ء والمحافظة عليه. وجمع الضّمين ضمناء.

الخطبة 24

شرح الكلام الآخر،

(498) قوله: نمران ونمارة ونمر ونمير من الاسماء. البسر الماء الحديث العهد بالمطر، ومن كلّ شى‏ء الغضّ، وبه سمّى الرجل بسرا. الارطى شجر من اشجار الرّمل، وهو فعلى، والفه للالحاق لانّ الواحدة ارطاة. (499) قوله: ما هى، يجوز ان يكون ضمير الخلافة والولاية، ويجوز ان يكون ضمير الكوفة. (500) قوله: اعاصيرك، الاعصار ريح يثير الغبار ويرتفع الى السّماء كانّه عمود، و

قيل: هى ريح يثير سحابا ذات رعد وبرق.

و من الامثال «ان كنت ريحا فقد لاقيت اعصارا».

قال الامام الزمخشرىّ: الاعصار السّحاب، كانّها بمعنى ذات الاعصار، من اعصرت السحاب، اذا كانت تعتصر بالمطر.

و لو كان هذا المعنى كما ذهب اليه هاهنا، لكان منافيا لقول امير المؤمنين.

لانّه لا يقال: تهبّ الاعاصير، اى السّحب، ومعنى قول الشاعر: على وضر من ذا الاناء قليل. اى على وضر قليل من هذا. الألاء شجر. قال الشاعر: «كما امتدح الآلاء» والوضر ما يشمّه الانسان من ريح يجده من طعام. ويقال لبقيّة الهناء» الوضر، اى انا على بقيّة قليلة من هذا الشجر. ويحتمل ان يكون: انا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 113

على عرق فاسد قليل من ذا الألاء. ويحتمل الكلام انّه ان لم يبق لى من الولاية فى زمن الخلافة الا الكوفة، فلم يبق لى الا عرق من شجر الألاء قليل، او بقيّة قليلة من هذه الشجرة التى يقال لها الألاء. (501) قوله: لا ظنّ انّ هولاء القوم، موضع هؤلاء نصب والقوم عطف البيان. سيد الون منكم، اى يكسبون الدّولة منكم بسبب اجتماعهم (58 پ) على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم. (502) قوله: القعب قدح من الخشب مقعر يكون غليظا، علاقة القوس والقزح والسّوط بكسر العين، وعلاقة الخصومة والحسب بفتح العين.

(503) قوله: ابدلهم بى شرّا منّى،

قيل: لمّا دعا امير المؤمنين عليه السّلام، بهذا الدعاء، فعل الحجّاج باهل الكوفة ما يليق بجزائهم، وكان الحجّاج عقوبة لهم

و فى قوله: «شرّا منّى» دقيقة، فانّ العامّ يفهم من قول القائل: زيد شر من عمر وانّ الشرّ اكثر فى زيد من شرّ عمرو. ولم يكن فى امير المؤمنين شرّ قليل حتّى يفهم من كلامه هذا المعنى. فان المفهوم نسبة الشّر الى المخاطب، يعنى: ابدلهم فى من هو عندهم وعلى زعمهم ورأيهم شرّ منّى. وقول الشاعر: «و فى الشرّ منجاة حين لا ينجيه احسان» هو الشرّ بالنسبة الى الهالك لا الى من نجا (504) قوله: اللّهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح فى الماء، يقال: مثت الشى‏ء اميثه اذا اذبته فى الماء. وانماث الشّى‏ء اذا ذاب. وقيل لاعرابى من بنى عذرة: ما قال قلوبكم كانّها قلوب الطير ينماث، اى يذوب. قال الشاعر:

         ولقد نصحت ببلبلتى فتميّثت   ***   عن آل عتّاب بماء بارد

 

يعنى سكت عطشى فسكن بماء بارد وعنى بالعطش الشّوق والنّزاع. وقد روى انّ امير المؤمنين قال فى هذه الخطبة: اللّهم سلّط عليهم غلام ثقيف. (505) قوله: من بنى فراس بن غنم، بنصب الغين وجزم النّون. وغنم ابو حىّ من تغلب وهو غنم بن تغلب بن بكر بن وائل بن فاسط بن هيت بن اقصى بن دعىّ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 114

بن خويلد بن اسد بن ربيعة بن نزار، وهم رماة شجعان نصارى. ولا نصارى فى العرب الّا بنو تغلب وبنو نمر، وهم قد نصروا المسلمين فى عهد سعد بن وقّاص وفتح العجم، ويوم بوئب مع المثنّى الحارثة. وكان نصرة المثنّى يوم بؤيب من نصارى بنى تغلب، كما ذكره محمد بن جرير، رحمه اللّه، فى تاريخه، وذكر انّ شابّا من بنى تغلب رمى مهران صاحب جيوش العجم بسهم وقتله وانهزم العجم (59 ر) بسبب رمية هذا الغلام. وصاح الغلام، وقال:

         انا الغلام الهبرزىّ التغلبىّ   ***   قاتل مهران عظيم المنصب‏

 

و ان نصارى بنى غنم ما طمعوا فى درهم من الغنائم مع انّهم هزموا جيش العجم.

فكذلك قال امير المؤمنين لودد[ت انّ‏] لى بكم، اى يبدلكم. وهذا القضية مذكورة فى تاريخ محمد بن جرير.

الخطبة 25

(506) قوله من فاز بكم فقد فاز بالسّهم الاخيب، ويروى بالقدح الاخيب.

اعظم القداح عندهم المعلىّ وفيه سبعة فروض، ثمّ المسبل وفيه ستّة فروض. ثم الحلس وفيه خمسة، ثم النافس وفيه اربعة، ثم الضّريب وفيه ثلثة، ثم التّوأم، وفيه، فرضان، ثم الفذّ، وفيه فرض، وهو ادناها. قال عروة بن الورد، وذكر القداح:

         هو السيد المعلوم لايمه جوت   ***   محير المنايا والمجير على الحرم‏

         ثابت بالمعلىّ وهو اوّل فوزه‏   ***   وبالمسيل الثانى وبالحلس والتوأم‏

         وجاءت بفذّ والضريب ثلثة   ***   وفى النافس المعلوم بالكفّ والقدم‏

 

و قد يسمّى الضريب الرقيب ايضا. وهذا مثل ضربه علىّ عليه السلام، لاصحابه لمّا رأى من استعصائهم عليه وقلة مواتاتهم له، فيقول: لا حظّ لى فى صحبتكم، كما لا حظّ لصاحب الميسر فى القدح الخائب من القداح.

الخطبة 26

(507) قوله: مثل ارمية الحميم، الرّمىّ السحابة العظيمة القطر الشّديد الوقع من سحائب الصيّف والخريف، والجمع ارمية. والحميم المطر فى الصيف. يضرب المثل بذلك لسرعة اجابة قومه الى الحقّ والباطل وقلّة ثباتهم، فان العرب يقول مثل ذلك.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 115

 

الخطبة 27

شرح الكلام الآخر،

(508) انتم فى شرّ دين وفى شرّ دار، ما عنى بالدار هاهنا مكّة والمدينة. و

قال قوم: اى انتم فى دار يعنى فى بلاد لانبات فيها ولا فاكهة ولا طعام ولا لباس.

و قال قوم: الدار القبيلة فى قول النّبى، عليه السّلام: الا اخبركم بخير دور الانصار ودارات العرب ستّ عشر دارة.

(509) وقوله: معشر العرب، اى يا معشر العرب،

قيل: اراد به اهل الكوفة وهم من خثعم وطىّ. وخثعم وطى كانوا لا يعظّمون فى الجاهلية الكعبة والحرم والاشهر الحرم.

و قوله: وشرّ دين، يعنى عبادة الاصنام، فانّ كلّ دين فيه كتاب ونبىّ، احسن من عبادة الاوثان. (510) قوله: تاكلون الجشب، هذا تفصيل قلّة منافع بلادهم، وكونهم فى مفاوز بلا ماء جار ولا نبات ولا زرع.

يقال: طعام جشب ومجشوب غليظ خشن لا ادم معه.

(511) قوله وتسفكون دماءكم وتقطّعون ارحامكم، يعنى تغير بعضكم على بعض، وان كانوا اقارب. وفى حرب داحس والغبرآء، ووقايع البسوس الّتى ذكرتها فى مجامع الامثال من تصنيفى دلائل على ذلك. قوله: فضننت بهم عن الموت، هاهنا سرّ لطيف، وهو انّه لو ساعده قوم لهم اهبة وعدّة، لما طمع فيه وفى اقاربه واهل بيته خصمه، واذا قصدهم قاصد، يهول عليهم دفعه. واذا قلّ انصاره، ولم يبق عنده الا اهل بيته، طمع فيه كلّ من عاداه، فهو لا يخاصم احدا عند ذلة انصاره، حتّى لا يكون اهل بيته على خطر عظيم. (512) قوله: على اخذ الكظم، الكظم مخرج النفس، ومنه «اخذت بكظمه» اى منعت نفسه ان يخرج. (513) قوله: علىّ امرّ من طعم العلقم، فى اصول اللغة اصول الحنظل، ومن الحنظل ما هو ذكر وما هو انثى. و

فى القرابادين الكبير: العلقم قثّاء الحمار، وله مرارة لذاّعة. وانّما خصّصه من بين ساير المرارات، لانّه مفجّر، للجراحات ويقىّ‏ء

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 116

و يسهّل ويهلك الجنين.

(514) شرح الكلام الاخر.

قوله: ولم يبايع حتّى شرط ان يؤتيه على البيعة، المراد بذلك انّ عمر بن العاص شرط على معوية ان يفوّض اليه ولاية مصر حتّى يبايعه، وقال له: اقطعنى المصر، فوقع بينهما تدافع حتّى ضمن له ذلك.

الخطبة 28

(515) قوله: الجهاد باب من ابواب الجنة، لانّه لا مجاهد الّا (60 ر) من انقطعت علايقه من الدّنيا، وسلّم نفسه الى اللّه. فتحه لخاصّة اوليائه، اشارة الى قول اللّه، تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا، الآية. (516) قوله: البسه اللّه ثوب الذلّ لانّه مال الى الدّنيا واطمأنّ بها، فسلّمه [الى‏] بلاء الدّنيا. قوله وديّث بالصّغار والقمآء، يقال للبعير اذا ذلّلته الرياضة: بعير مديّث، اى مذلّل بالرياضة. ومنه الدّيّوث الّذى لا غيرة له وذلّلته محارمه، حتّى يتغافل عن فجورهنّ. القماء الصّغار والذلّ. ويروى: والعماء. (517) قوله: على قلبه بالاسهاب، ويروى بالاسداد. الاسهاب ذهاب العقل، يقال: رجل مسهب، اى ذاهب العقل. السدّ الحاجز، والاسداد الجمع. (518) قوله: وسيم الخسف، ويروى وسيماء الخسف، و

قيل: تأويله علامة الخسف.

قال اللّه، تعالى: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، اى معلّمين والسيماء يمدّ ويقصر. ومعنى كلامه علامة الخسف، يقال سمته خسفا اوليته ايّاه. والنّصف الانصاف. و

قيل: وسيم الخسف، اى كلّف الذلّ.

(519) قوله: فى عقر دارهم، عقر الدار اصلها، وهو محلّة القوم واهل المدينة، يضمّونها. (520) شنّت عليكم الغارات صبّت. تواكلتم مشتق من «وكلت الامر اليك ووكلته الىّ، اذا لم يبق له احد دون صاحبه، ولكن احال به كل واحد على الاخر. قال الحطيئة: امور اذا واكلتها

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 117

لا تواكل. (521) قوله: هذا اخو غامد، رجل من اليمن من بنى غامد بن نصر من الازد، وسمّى غامدا لا[نّه‏] تعمّد امرا كان بينه وبين عشيرته. و

قيل: سمّى غامدا من قولهم: غمدت البئراى كثر مآؤها وقلّ ايضا.

(522) قوله: قد وردت خيله الانبار، الانبار على فراسخ من الكوفة، وهى بلدة ينسب اليها الذرّبات، قال الشاعر:

         كانّها من بدن وايقار   ***   دبّت عليها ذربات الانبار

 

و ازال خيلكم عن مسالحها، اى مواضع الاسلحة. والمسلحة قوم ذوو سلاح وهى كالثّغر والمرقّب. وفى الحديث كان ادنى مسالح فارس الى العرب، العذيب. (60 پ) ثمّ اطلق المسالح على مواضع الخوف. وقوله: المعاهدة والمعاهدة الّتى لها مع المسلمين عهد. و

فى الكامل المعاهدة (الذمّية).

قوله: حجلها اى خلخالها.

(523) قوله: الرّعاث، القرطة واحدتها رعثة. يقال: قبحا وقبحا، اى بعدا وترحا، اى حزنا. وقد يكون الاسف الغضب، قال اللّه تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا حمارّة الغيظ، بتشديد الراء، شدّة حرّه وربما خفّف الرّاء للضرورة فى الشعر. والجمع حمارّ. (524) يسبخّ عنّا الحرّ، يروى بفتح الباء وكسرها، يقال سبّخ الحرّ خفّ وفتر. ومنه: «اللّهم سبّخ عنا الحمّى، اى خفّف. (525) وقوله: صبّارة القرّ، بتشديد الراء شدة البرد، ويروى قرّ بفتح القاف. (526) يا اشباه الرجال ولا رجال، يعنى صوركم صور الرجال واخلاقكم اخلاق النساء، يا عقول ربّات الحجال، اى عقول النساء. قال الشاعر: ورائد ربّات الحجال يريحنى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 118

يعنى: ربّات الخلاخيل. فان الحجل والخلخال بمعنى واحد. وعقول النساء عقول استولى عليها الحرص والشّهوة والخوف. (527) السّدم تغيّر يحصل من النّدم. (528) و«قاتلكم اللّه» لفظ ذمّ ودعاء عليهم، كما قال اللّه تعالى: وَ، إِذا رَأَيْتَهُمْ، تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ. وقد يكون غير ذمّ. النّغبة الجرعة، والجمع النغب، والنغبة فى غير هذا الموضع الفعلة القبيحة. (529) التّهمام تفعال من الهمّ، انفاسا نصب على الحال اى متوالية نفسا نفسا. (530) قوله: للّه ابوك وللّه درّك وللّه انت، كلمات يراد به مدح المخاطب وتفضيله وتخصيصه بالاضافة الى اللّه بفضله، كما قيل بيت اللّه وناقة اللّه. ابوهم، يعنى: اسمعيل الّذى هو اب قريش. وللّه درّك، قيل هو خطاب ناقة فى الاصل، ثم اطلق على الناس. و

قيل معناه ما يدرّ منك من الخير كان للّه خاصّة لا يشوبه رياء ولا سمعة.

الخطبة 29

(531) قوله: الا وانّ اليوم المضمار، وغدا السّباق، بنصب الرّاء من المضمار والقاف من السّباق، و

سئل عن ذلك استاذنا الامام ابو جعفر (61 ر) المقرى، رحمه اللّه، وقال: اليوم والغد يعتبران للظّرف ويعتبران لغير الظرف بمعنى آخر. فان اعتبرا بالظّرف، فالمضمار والسباق، منصوبتان باسم انّ، وان اعتبرا بغير الظرف، فالمضمار الخبر فكذا السباق.

و بيان ذلك، انّ المضمار عبارة عن مدة زمان التضمير، فيكون خبرا لانّ، وقيل تقديره المضمار اليوم والسباق غدا. ويروى: الا انّ. المضمار اليوم والسباق غدا. ويروى السّبقة والغاية برفع التائين ونصبهما. وفى تقييد السّبقة بالجنّة والغاية بالنار سرّ لطيف، لانّ السّبق يكون باختيار ورغبة صادقة، والغاية قد يكون على غفلة وكره. وذلك سرّ.

(532) يجرّ به، من قولهم جارّ عن الطّريق، اى عدل عنه، وكذلك‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 119

عن الحقّ وبعد منه بالباء. (533) قوله: تزوّدوا فى الدّنيا من الدّنيا، اى الاسباب الّتى يحصل للمكلف بها النّجاة بدنيّة دنياوية .

الخطبة 30

(534) قوله: كلامكم يوهى الصّمّ الصّلاب، اى يضعف.

(535) كيت وكيت بفتح التاء وكسرها، والتاء فيهما هاء فى الاصل، فصارت تاء فى الوصل. (536) قوله حيدى حياد، كقول العرب فى الامثال: فيحى فياح.

و فياح كقطام اسم للغارة. كان اهل الجاهليّة يقولون: فيحى فياح. فيكون تكريرا كقولهم وادن دونك فاصطل. ويجوز ان يكون فياح مرفوعة بفحيى، على قول عيسى بن عمر. نحو قولهم: ادخلوا الاوّل فالاوّل.

قال الاقصرىّ: معنى فيحى، اى انتشرى ايّتها الخيل المغيرة. وسمّاها فياح، لانّها جماعة مؤنّثة كقطام وحذام. حيدى ايّتها الخيل. وامر الخيل بالحيدودة. وحياد مثل فياح.

(537) اعاليل جمع اعلولة، وهى التعلّل اى التسلّى. واضاليل جمع اضلولة من الضلال، دفاع يعنى تدافعون.

(538) قوله من فاز بكم، فقد فاز بالقدح الاخيب، تقدّم ذكره. قوله: ومن رمى بكم فقد رمى بافوق ناصل، اى بسهم منكسر لا نصل فيه.

و تقديره: بسهم افوق ناصل. وغفلة من غير ورع، اصحّ الرّوايتين: القوم امثالكم، كما قال الشاعر:

         «القوم امثالكم هم شعر   ***   فى الرأس (61 پ) لا ينشرون ان قتلوا»

 

الخطبة 31

(539) قوله: غير انّ من نصره لا يستطيع ان يقول خذله من انا خير منه، ومن خذله لا يستطيع ان يقول نصره من هو خير منّى، اى ليس لمن خذله ان يتلّهّف على خذلانه، ولا لمن نصره فخر بنصرته، يعنى بقوله: من انا خير منه. والمراد بذلك انّ من نصره مثل مروان ليس له ان يقول خذله طلحة والزّبير، وانا خير منهما. لان النّبيّ، عليه السّلام، قال لطلحة: وجبت لك‏

--------------------------------------------------------------- صفحة 120

الجنّة، وقد طرد مروان بن الحكم. فما حصلت فضيلة لمروان بسبب نصرته، وليس لطلحة ان يفضّل مروان على نفسه بسبب انّه نصر عثمان وانّ طلحة خذله.

(540) قال الامام الجليل الوبرىّ، رحمه اللّه: معناه من انتصب لانتصار عثمان بعد قتله، لا يمكنه ان يقول ان عليا خذل عثمان، فلم ينصره ونحن نصرناه، فنحن خير من على. وذلك انّ عليّا ما خذل عثمان، ورمى الى داره منديله، ونادى بصوته، قال ذلك ليعلم: انّى لم اخنه بالغيب، وعرض علىّ على عثمان نصرته ودفاعه، فابى عثمان القتال بسبب الدفاع عنه. وقال عثمان: لان اقتل قبل سفك الدماء احبّ الىّ من ان اقتل بعد سفك الدماء، وقال لغلمانه: من وضع سلاحه منكم، ولم يقاتل، فهو حرّ لوجه اللّه.

(541) و«من خذله» معناه عند الامام الوبرىّ انّ من يخذل عثمان، ولم يهتمّ بشأنه، لا يمكنه ان يقول نصره علىّ، فلكونه ناصرا هو خير من خاذله، لان عليّا لم يسلّ السيف بسبب الدّفاع، لانّ عثمان لم يستنصره، ولم يقبل نصرته. (542) قوله: استأثر فأساء الأثرة،

قال الامام الوبرىّ، يعني فوّض الاعمال الى بعض قرابته صلة للرّحم، وانّ بعض اقاربه ما دعى حقّ هذا العمل، ولم ينصف.

(543) وقوله: وجزعتم فاسأتم الجزع، لان الغاغة استدركوا ذلك وغيره من الامور، وخاطبوا بها عثمان، واعتذر عثمان بعذر ظاهر، فقتلوه بسبب ذلك. وهذا جزع اخبر عنه بقوله: وجزعتم فأسأتم الجزع. وقد اجتمعت الامّة بأسرها على انّه ليس للرّعية قتل من هو امام وخليفة (62 ر) عندهم.

الخطبة 32

(544) قوله: عاقصا قرنه، العقص يدلّ على لتواء فى شى‏ء، يقال لمن له اضطراب وعقد وتردّد فى رأيه: هو عاقص قرنه.

 

معارج‏نهج‏البلاغة، متن    ، صفحة 121

(545) قوله: الين عريكة، اى طبيعة. (546) قوله فما عدا ممّا بدا،

قيل معناه ما عداك ممّا بداك.

وقيل معناه ما بدا لك منّى، فصرفك، عنّى.

وقيل: معناه ما صرفك عمّا كان بعدا لنا من نصرتك.

و قيل: ما الّذى ظهر منك من التّخلف بعد ما ظهر منك فى الطاعة.

الخطبة 33

(547) قوله: ونضيض وفره، اى قلّة ماله. مأخوذ من النضيض، وهو الماء القليل، و

قيل: النضيض الرايج الحاضر.

(547) قوله: قد اشرط نفسه، يقال: اشرط فلان نفسه لامر كذا، اى اعدّها له. وسمّى الشّرط لأنّهم جعلوا لانفسهم عدّة وعلامة يعرفون‏بها] وليس المتجر ان ترى الدّنيا لنفسك ثمنا، لانّ اللّه قد اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بانّ لهم الجنّة. فمن باعها بالدّنيا، فذلك البيع غبن. (548) قوله: يطلب الدنيا بعمل الاخرة، يعنى بالعلم والعادات الظاهرة يطلب الدنيا، ولا يطلب الآخرة بعمل الدّنيا. وهو كلّ عمل يعمل فى الدّنيا ممّا يحسّنه العقل والشرع. والغرض منه ابتغاء وجه اللّه لا طلب الدنيا. (549) قوله: قد طامن من ظهره، ويروى: من شخصه، قول العرب. طمأن وطأ من ظهره، يعنى على القلب، بدلالة «اطمأنّ»، لانّه لم يعمل فيه «اطمأنّ» ، والصحيح

انّ «طأمن» هو الاصل، ووزنه فعلل، و«اطمأنّ» مقلوب عنه، ووزنه «افلعلّ». هذا قول سيبويه.

وقال الحرمىّ: طأمن على وزن فعلل، واطمأنّ افعللّ على الظاهر.

و هذا قول ضعيف، لانّ المتجرّد من الزيادة اولى ان يكون اصلا. (550) قوله: واتّخذ ستر اللّه ذريعة الى المعصية، فى كتاب المضاف والمنسوب: ستر اللّه الاسلام والشيب والكعبة وضماير صدور النّاس، يعنى جعل ظاهر الاسلام وما يكنّه صدره بحيث لا يطّلع عليه مخلوق وسيلة وطريقا الى معصية اللّه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 122

(551) قوله: ضؤولة نفسه، اى ضعف نفسه (62 پ) وانقطاع سببه وماله وعونه، فقصرته اى حبسته. (552) قوله: فى مراح ولا مغدى، المراح بفتح الميم الموضع الّذى يروح فيه النّاس. والمغدى على عكسه من الغداة. اى ليس له من ذلك نصيب. قوله: فهم بين شريد نادّ، اى نافر. (553) قوله: بحر اجاج، يعنى لا يتلذّون بالدنيا، كما لا تلتذّ الصدف الذى هو ساكن البحر الاجاج بمائه. (554) قوله: افواههم ضامرة اى ساترة خليّة من الضمير ويروى صافزة بالزاء، اى مشدودة بالسّكوت. (555) قوله: وعظوا النّاس حتى ملوّهم، وقهروا حتّى ذلّوا، يعنى لا ينتقمون. وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ، يَمْشُونَ: عَلَى. حتى صاروا فريسة لكلّ لبئه. (556) قوله من حثالة القرظ: الحثارة والحثالة الردىّ من كل شى‏ء وحثالة القرظ ما يسقط من القرظ، وهو نبات يدبغ به الاديم. (557) قوله: وقراضة الجلم، جلمة الجزور لحمها وجلمة الشاة مسلوختها بلا حشو ولا قوايم. والقراضة ما سقط بالقرض، والجلم واحد الجلمين. وجميع ذلك يفيد المعنى فى كلامه. (558) وارفضوها دميمة، غير معجمة من دممت الثوب اى طليته اىّ صبغ كان، يعنى فار فضولها واتركوها على ايّة طريقة مرّت من النعمة والبؤس.

و الخرّيت الدليل الهادى العظيم.

الخطبة 34

شرح الكلام الآخر.

(559) ذى قار موضع فيه بئر يقال: لمائه ذو قار، لأنّه اسود شبه القير، وكانت فيه محاربة مع بنى شيبان بسبب بودايع النّعمن‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 123

بن المنذر ملك العرب وبين اياس بن قبيصة نايب كسرى ابرويز. وقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، حين انهزمت الفرس وغلب العرب: هنا اوّل يوم فيه انتصف العرب من العجم، وباسمى نصروا. (560) وقوله: ليس احد من العرب يقرأ كتابا ولا يدّعى نبوّة. كان اكثر العرب لا دين لهم، الا انّهم كانوا يتمسّكون باشيآء بعضها شرايع اسمعيل، وبعضها رسوم لهم. قوله: بحذافيرها، حذافير الشى‏ء اعاليه ونواحيه، يقال (63 ر) اعطاه الدّنيا بحذافيرها، اى باسرها. الواحد حذفار.

الخطبة 35

(561) قوله: فى استنفار النّاس اى فى استنصارهم. (562) قوله: افّ لكم يقال أفا له، وافة له واف له، اى قذرا له، قال اللّه تعالى: وَقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا. قوله: كانّكم من الموت فى غمرة، ومن الذّهول فى سكرة، دلايل على من يرغب فى الدّنيا ويخاف من الموت، لانّ دوران الاعين على تلك الهيئة من امارات الرّعب والحيرة. (563) قوله: حوارى، اى كلامى فى محاورتى، ويقال: حوارى من قولهم: كلّمته فما ردّ على حوارى أى جوابا. (564) قوله: كانّ قلوبكم مالوسة، الالس الخيانة، والالس ايضا اختلاط العقل، وقد الس الرجل فهو مألوس، اى مجنون. قال الراجز:

         يتبعن مثل العلّج الملسوس   ***   اهوج يمشى مشية المألوس‏

 

(565) قوله: سجيس اللّيالى، يقول العرب لا آتيك سجيس عجيس وسجيس الّا وجس وسجيس الليالى ابدا: قال الشنفرىّ من قصيدة اوّلها، فلا تقبرونى انّ قبرى محرّم:

         عليكم، ولكنّ ابشرى امّ عامر   ***   هنالك لا ارجو حيوة تسّرنى‏

         سجيس الليّالى مبسلا بالجرائر

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 124

(566) قوله: الزافرة اعوان الرجل، والجمع الزوافر. لا تمتعضون اى لا تغضبون. حمس الوغا، اشتدّ الحرب واستحرّ اشتدّ. (567) قوله: انفرجتم عن ابن ابى طالب انفراج الرأس، ذلك مثل مذكور فى امثال بن دريد.

قال ابن دريد: معناه انّ الرأس اذا انفرج عن البدن لا يعود اليه، وصار البدن جيفة لا يتهيّأ لامر مّا، ولا يكون بين الرأس والبدن بعد ذلك اتّصال. يعنى: انفرجتم عنّى انفراجا لا اتّصال بعده.

و قال المفضّل: معناه انّ الرأس اسم لرجل ينسب اليه قرية من قرى الشام يقال لها: بيت الرأس وفيها يباع الخمور. قال حسّان.

         كانّه سبيئة من بيت راس   ***   يكون مزاجها عسل ومآء

 

و نصب مزاجها على انّه خبر كان، فيجعل الاسم. نكرة والخبر معرفة. وانما حاز ذلك من حيث كان اسم جنس. ولو كان الخبر معرفة مختصة، لقدّم.

(568) ومن حيث هذا الرجل انّه انفرج عن قومه ومكانه، فلم يعد، وخلّى قومه.

و الرأس القوم الاعزّاء والرّجل العزيز، قال عمرو بن كلثوم: برأس من بنى جشم بن بكر. ويحتمل ان يكون معناه انفرجتم عنّى انفراج الاعزّ الّذين لا يبالون بمفارقة احد. واوّل من قال ذلك اكثم بن صيفىّ فى وصية له: يا بنىّ لا تنفرجوا عند الشدائد انفراج الرأس، فانّكم بعد ذلك تجتمعون على عزّ.

و

الرأس اسم مكة، ذكر ذلك فى حواشى كتاب الصّحاح.

(569) قوله: تطيح السواعد، طاح يطوح ويطيح، هلك وسقط. (570) قوله: تطير منه فراش الهام.

قال الجوهرىّ: فراش الرأس عظام رقاق يلى القحف. والفراشة الّتى تطير وتتهافت فى السّراج، وفى المثل: اطيش من فراشة، والجمع فراش.

و زعم العرب انّ القتيل الّذى لا يدرك بثاره يصير هامّة فتزقو فتقول: اسقونى اسقونى. فيعبّر عن ذلك بفراش الهام. و

قال‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 125

قوم: آلة العقل الدماغ، وفيها من القوى الحسّ المشترك والخيال والوهم والمفكّرة والحافظة وغيرها. يعبّر عن تلك القوى بالفراش.

الخطبة 36

شرح الخطبة الاخرى.

(571) قوله: واتى الدّهر بالخطب الفادح، اى الامر الصّعب، يعنى به امر التحكيم. وفحوى الكلام انا احمد اللّه مع انّى مبتلى شدة وكآبة ومصائب ولا اجزع ولا اغفل من ذكر اللّه. (572) قوله لو كان يطاع لقصير امر، هذا مثل قديم للعرب،

ذكرت تفاصيله فى الكتاب المعنون بمجامع الامثال من تصنيفى. (573) منها انّ جذيمة الابرش ملك العرب خطب الزبّاء، وهى ملكة الجزيرة، فامر به الزبّاء بالقدوم عليها، فزيّن فصحآء جذيمة له ذلك الامر، تابعوه. فخرج جذيمة فى الف فارس، وخلّف سائر جنوده مع ابن اخته عمرو بن عدىّ. وكان لجذيمة مولى يقال له قصير بن سعد اللخمىّ، وكان مخالفا لراى جذيمة فى الاقدام على الزبّاء. فلمّا وصل جذيمة الملك الى منزل قريب (64 ر) الى الجزيرة استقبلته جنود الزّباء مع الاسلحة والعدّة، وما ترجّلوا لجذيمة، وما عظّموه. فقال قصير لجذيمة انصرف، فانّها امرأة، ومن عادة النّساء الغدر والمكر. فما قبل جذيمة قوله، فقال قصير: لا يطاع لقصير امر. فصار مثلا. واخذت الزّباء جذيمة وقتله.

و هذه القصّة مشهورة، يضرب فيمن رايه صايب، ولكن لا يقبل قوله.

(574) قوله: وضنّ الزّند بقدحه، ويروى. وظنّ بالظاء اى اتّهم.

و ضنّ الزّند بقدحه استعارة عمن يضنّ بفوايده، اذا لم يجد لها قابلا عارفا بحقّها. 575) امّا الشعر فى قوله: امرتهم امرى بمنعرج الّلوى، البيت. يوم منعرج الّلوى، غزا ابو عبد اللّه بن الصّمة اخو دريد بن الصّمة بن بكر بن هوازن غطفان فلم يصدّه عن وجهه شى‏ء، حتّى غنم وساق الابل. فلما كان بمنعرج اللّوى، اقام وقال: لا واللّه، لا ارجع حتّى أنتقع واجيل السهام. فقال له دريد

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 126

اخوه وكان معه: لا تفعل، فان القوم فى طلبك. فابى ولجّ واقام، ونح النّقيعة، وقد اقعد له رجلا ربيأ، فقال عبد اللّه لربيئته انظرى ما ترى قال: ارى خيلا عليها رجال كانّهم صبيان رماحهم بين آذان خيولهم. فقال: هذه فزارة.

فالتقى القوم. وكان دريد نهاه ان يقيم، وقال: انّ القوم سيطلبونك، ويتّبعونك ولن يفوتك النقيعة. فطعن عبد اللّه بن الصّمة، فاستغاث باخيه، فاقبل عليه اخوه دريد، فنهيه عنه القوم، حتى طعن دريد، وصرع وقتل عبد اللّه، واذا كان آخر النّهار مرّ بدريد الزهرمان العبسيّان، فعرفه احدهما، فطعنه. قال دريد: وقد اصابتنى جراحة فاحتقن الدم. فلما طعننى زهرم، خرج الدم واسترحت. فاذا جنّ اللّيل، مشيت وانا ضعيف، قد نزفنى الدّم، فوقعت بين عرقوبى جمل الظعينة، فنفر الجمل، فعرفتنى الظعينة، واعلمت الحىّ بمكانى، فغسل عنى الدّم، وزوّدت سقاء وزادا، فنجوت. وكانت الظعينة (64 پ) فى سيّارة من هوازن. فقال دريد فى ذلك:

         امرتهم امرى بمنعرج اللّوى   ***   فلم يستبينوا الرّشد الّا ضحى الغد

         فلمّا عصونى كنت منهم وقد ارى   ***   غوايتهم وانّنى غير مهتدى‏

         وهل انا الّا من غزيّة ان غوت   ***   غويت وان يرشد غزيّة ارشد

         فان يك عند اللّه خلّى مكانه‏   ***   فما كان وقافا ولا طائش اليد

 

(576) ويقال فى المثل: اعصى من ابى ذفافة. وهو عبد اللّه بن الصّمّة، لانه عصا اخاه دريد بن الصّمّة. فشبّه امير المؤمنين، عليه السلام نصيحته بنصيحة دريد، وغفلة قومه، وعصيانهم بغفلة عبد اللّه بن الصمّة وعصيانه. (577) وقال: اخو هوازن، لانّ دريد بن الصّمّة من نى جشم بن معوية بن بكر بن هوازن، ونسبه دريد بن الصمة بن عمر بن علقمة بن خداعة بن عديّة بن جشم بن معوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وقال اللّه تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ. وهود كان بالنسبة الى عاد كما كان دريد بالنسبة الى هوازن. يقال فلان اخو فلان اى منسوب اليه. (578) قوله: فابيتم اباء المخالفين، كان من دأب على، عليه السّلام،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 127

مقاتلة اهل الشام. فاطّلع الخوارح على رايه، فابوا عليه، وكان ذلك ميلا منهم الى الحكومة. ثم انّه لما حكم من رآه اهلا لذلك، وهو عبد اللّه بن عباس: اعتزل الخوارج، وانكروا ذلك، فكانوا مخالفين لعلى بن ابى طالب فى كلى الامرين.

الخطبة 37

شرح الكلام الآخر.

(579) قوله: فانا نذير لكم ان تصبحوا صرعى، يعنى: باصباحكم. وان مع الفعل المستقبل فى تقدير المصدر. اهضام جمع هضم. وفى المثل: اللّيل واهضام الوادى 1. الاهضام بطون الاودية، وهى ما انخفض عنه، واحدها هضم. الغائط المطمئنّ من الارض. (580) على غير بيّنة من ربّكم، اى على التقليد لا على التحقيق. قال صرفت رأيى الى هويكم، سمّى ما عنده رأيا، لانّه صادر عن الدّين والعقل، وما عندهم هوى، لانّه نتيجة الجهل والشهوة. (581) طوّحت اى رمت بكم الدّار (65 ر) وبعدت، احتبلكم، اى صادكم بالحبالة. اخفّاء الهام، يقال فى الكنايات خفيف الهامة اذا كان نزقا طيّاشا. وسفهاء الاحلام، يعنى سفهاء [العقول‏]. والسّفه ضدّ الحلم. والعرب يضيف الشى‏ء الى ضدّه اثباتا للمضاف ونفيا للمضاف اليه. والسّفه القلّة والحقارة. يقال تسفّهته اى استحقرته. (582) قوله لا ابا لكم، يذكر فى المدح والذم: امّا الذم، فلا امّ لك معروفة، يعنى: انّك لقيط، لا يعرف لك ام ولا اب بهذين المعنيين. او انّك من سفاح لا من نكاح. وقد يورد استدفاعا للمعاتبة، كقولهم: قاتلك اللّه.

و اما فى المدح، فلا امّ لك، يعنى: انّك منفرد فى هذا الامر، لا نظير لك، كانّك لم تلدك امّ، وهذا لا يكون.

و من قبيل المدح لا امّ لك ينسبك، ولا اب لك يورثك خزيا وعارا.

و يقال: لا اب لك ولا ابا لك، اى لا اب يكفيك ولا كافى لك، الا انت.

و يقال ايضا: لا اباك.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 128

(583) قوله: البجر، الامر العظيم والشرّ. قال الراجز: ارقى عليها وهى شى‏ء بجر اى داهية. ويروى نكرا وهجرا وعرى، اى عيبا.

و معنى الكلام اى رايت فى الابتداء القتال معهم بشرط موافقتكم ايّاى. فلما كلّفتمونى الحكومة، وقلتم لا نرضى الّا بذلك: سكنت. ولا عجب ان يفعل العاقل فى كل وقت ما يقتضيه الوقت. كما قال الشاعر:

         البس لكلّ حالة لبوسها   ***   امّا نعيمها وامّا بوسها

 

و لا اردت بكم ضرّا، لانّ مرادى فى الدّنيا ظفركم وفوزكم، وفى الاخرة شهادتكم.

الخطبة 38

شرح الكلام الآخر،

(584) قوله: تقبّعته، يقال تقبّع اى ردّد. ويقال تقبّع، اى عجز عن الكلام. (585) قوله طاعتى سبقت بيعتى، يعنى: طاعتى للّه ولرسوله سبقت بيعتى.

و قال الامام الجليل الوبرىّ، اى طاعتى للخلفآء الّذين كانوا قبلى سبقت بيعتى، وقيل طاعتى لرعيّتى بسبب حقوقهم وما يجب لهم علىّ سبقت بيعتى.

(586) قوله واذا الميثاق فى عنقى لغيرى،

قيل: اى ميثاق [اللّه‏]، حيث قال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.

و تقدّم (65 پ) معنى الميثاق،

و قيل: الميثاق العهد والامر، يعنى صرت تحت امر غيرى، قيل اذا [....] 1.

الخطبة 39

شرح الخطبة الاخرى،

(587) قوله: الشّبهة ما يشبه الحقّ من وجه، والباطل من وجه آخر. (588) قوله عليه السلام: امّا اولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين، لان العالم بالحقّ اذا وردت عليه شبهة يصرفه علمه بالحقّ عن حسن ظنّه بالشبهة، فيقف عندها، ولا يعتقد فيها الحقّ. فان كان من اهل الجملة، كفاه ذلك ان لم يعلم حلّها، وان كان من اهل التفصيل فانّه يهتدى الى حلّها عن قريب‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 129

لشكه فيها. واوّل مراتب العلم الشكّ. فامّا الضالّ المبطل، فجهله يدعوه الى حسن الظنّ بالشبهة. فاوّل ما يتخيّل له الشبهة يعتقدها دلالة وحقا، ويزداد بعدا عن الحق، كلّما ازداد نظرا فى الشبهة لجهله فى ابتداء الحقّ.

(589) وقال قوم ضيائهم فيها اليقين، اى يعنّ لاولياء اللّه خلسات من اطلاع نور اليقين عليهم، لذيذة كانّها بروق تتّفق.

(590) قوله: ما ينجو من الموت من خافه، يعنى الامور لست بتمنّى الانسان ولا بتشهيّه ولا بنفاره، [و] الموت نازل، ولا يخاف العاقل من امر لا بدّ من نزوله، والبقآء فى الدنيا مستحيل والعاقل لا يعتقد المحال ممكنا.

الخطبة 40

شرح الكلام الآخر،

(591) قوله: منيت، اى ابتليت. (592) قوله: لا حميّة تحمشكم اى تغضبكم وتحمشكم اى تعرّضكم. (593) قوله: تكشّف الامور عن عواقب المساءة، بلاغة فيها حكم. (594) قوله: جرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ. الجرجرة ما يردّده البعير فى حنجرته. قال الاغلب: جرجر فى حنجرة كالحبّ، فهو بعير جرجار، كما تقول ثرثر الرجل، فهو ثرثار. وفى المثل: جرجر لمّا عضّه الكلّوب.

و الاسرّ جمل بكركرته دبرة بين السّرر. قال الشاعر:

         انّ جنبى عن الفراش لنابى   ***   كتجا فى الاسرّ فوق الظّراب‏

 

2 قال ذلك الكلام حين دعا قوما الى القتال، فلم يات منهم الّا ثلثة. (595) قوله: (66 ر) متذايب، اى مختلف فى القول والرأى. يقال تذايبت الرّيح اى اختلفت وجاءت مرّة كذا ومرّة كذا. اخذه من فعل الذئب لانّه يأتى كذلك.

الخطبة 41

(596) قوله لا بد من امير برّ او فاجر.

قال الامام الجليل الوبرىّ: الامير لا يحسن نصبه حتّى يكون برّا، وامّا لفاجر فلا يحسن. فامّا انتصابه بنفسه وتولية الامور واستيلاءه كلّه محظور. ولكنّ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 130

الناس فى ولايته قد يكفّون عن المظالم وتعادى بعضهم لبعض، واستيلاء بعضهم على بعض، ففى ذلك سدّ لابواب الفساد عن الرعيّة. وهذا كقول النبىّ، عليه السلام: انّ اللّه تعالى يؤيّد هذا الدّين بقوم لا خلاق لهم فى الاخرة.

و قال قوم: لا تمتّع بالوجود للانسان الا عند المشاركة. فالواحد لا يكفى صنعة ماكوله ومشروبه وملبوسه، بل يحتاج ان يعمل كلّ لكلّ يتكافؤون فيه. وذلك بتمدّن واجتماع على اخذ واعطاء، يفترض لاجله العدل الذى لا ينفكّ عن الاصطلاح والتواطوء. فان كلّا يرى ماله على غيره عدلا وما لغيره عليه غير عدل، بل يحتاج الى متميّز عن النّاس والاتباع كلّهم بخواصّ يذعنون له بها.

فذلك معنى قول امير المؤمنين، عليه السّلام: لا بدّ للنّاس من امير برّ او فاجر. وهذا من مقتضى طبيعة الانسان.

الخطبة 42

(597) وقال لجرير: صن نفسك عن خداعه. فان سلّم اليك الامر وتوجه بلقائى فاقم انت بالشام، وان تعلل ومنّى، فارجع. فلما عرض جرير الكتاب على معوية، قال معوية: حتّى اشاور اهل الشام، وافعل كذا وكذا وتعلّل، واراد مخادعة جرير، فانصرف عنه. فكتب معوية بعد انصراف جرير، على ظهر كتاب علىّ: من ولّاك حتّى تعزلنى والسلم. وبعث الكتاب الى علّى، عليه السلام.

(598) قوله: فلم ار لى الّا القتال او الكفر

قال الامام الجليل الوبرىّ: يجوز ان يكون المراد بذلك انّ النبىّ، صلّى اللّه عليه وآله، امرنى بقتال هؤلاء واضطررت الان (66 پ) الى ذلك. فان قاتلت، فهو الواجب، وان لم اقاتل، اكون كالرّاد على رسول اللّه مع التمكين.

(599) وقيل: انّ المراد بذلك انّ النّبىّ، صلّى اللّه عليه وآله، عن الغيب اخبر معجزة له.

فقال: انّ عليّا يقاتل الناكثين. فان لم يقاتل علىّ، او اراد ان لا يقاتل، كان، حاشاه، قاصدا الى تكذيب رسول اللّه، والقصد والميل الى تكذيب رسول اللّه‏

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 131

كفر.

(600) وقيل: الكفر جحود النعمة، والخلافة عند قوم نعمة. يقول علىّ: الّا القتال او جحود النعمة، يعنى: تضييع شرايط الخلافة وجحود نعمتها.

الخطبة 43

شرح كلامه،

(601) قيل: ان مصقلة بن هبيرة اشترى سبيا من بنى ناجية بالف الف درهم، وبنو ناجية النّصارى. وقد ارتدّوا، ثمّ اعتق النّبّى.

فطالبه امير المؤمنين بالثّمن، فلم يف مال مصقلة بذلك. وكان مصقلة يدّعى الحرّية والكرم، وظنّ انّ امير المؤمنين لا يطالبه بالمال، فطالبه امير المؤمنين بالمال. فهرب مصقلة الى الشّام. (602) قوله: خاس به، يعنى: غدر به، يقال: فلان خاس بالعهد اذ نكث، فقال: فعل فعل السّادة، يعنى اعتق السّبى، وفرّ فرار العبيد، قبح اللّه، اى ابعد، وبالتشديد سمّج. قال: ولو اقام، لقبلنا ما قال اللّه، تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ. وهو مصقلة بن هبيرة بن شبل بن يثربّى بن امرء القيس بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة بن شيبان، وكان عاملا عن جهة امير المؤمنين على المداين ثمّ على الانبار، وكان صاحب النّبىّ معقل بن قيس عن جهة امير المؤمنين، فدخل مصقلة على امير المؤمنين، وقال: ما ضرّك لو كانت هذه التكرمة عنك. وانّ مالى لا يفى بذلك. وانّ عثمان بن عفّان كان يهب الاشعث بن قيس كلّ سنة من مال اذربيجان مائة الف درهم، وانا اشرف من الاشعث، واجود منه. فقال امير المؤمنين، عليه السّلام: لا حظّ لى فى هذا المال، والمال للمسلمين، فلا بدّ من ادائه. فقال مصقلة امهلنى فامهله امير المؤمنين عشرة ايّام. ففرّ مصقلة الى الشام. فامر (67 ر) امير المؤمنين، عليه السّلام، بتخريب داره. بالمدينة، فبنا له معوية له دارا بدمشق، واكرمه، وانعم عليه.

الخطبة 44

شرح الخطبة الاخرى،

(603) قوله: غير مقنوط من رحمته، مأخوذ من قول اللّه تعالى لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 132

قوله: ولا يخلو من نعمة. مأخوذ من قول اللّه تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها. قوله: ولا مأيوس من مغفرته، مأخوذ من قول اللّه تعالى لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ. (604) قوله: ولا مستنكف عن عبادته، مأخوذ من قول اللّه: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ، وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. (605) قوله: لا تبرح منه، ويروى: له منه رحمة، يبرح بالضمّ والفتح، والضمّ اولى. يقال برح الرّجل اذا جاء بالبرح، وهو العجب فهو مبرح.

و هو الّذى يأتى بالعجب. قال الاعشى:

         اقول لها حين جدّ الرحيل   ***   ابرحت ربّا وابرحت جارا

 

اى اعجبت وبالغت. منى لها الفضاء، اى قدّر. حلوة خضرة. الحلاوة طعم ملايم للذّوق، والخضرة لون ملائم للنّظر. يعنى فيها متمتّع من طريق الظاهر والباطن. وقوله عجلت للطالب. والتبست بقلب الناظر، اشارتان الى معايب الدّنيا.

الخطبة 45

(606) قوله: المستخلف لا يكون مستصحبا، اشارة الى انّ اللّه، تعالى، منزّه عن المكان ويحيطه [حفظه‏] وكلاءته لعباده فى السّفر والحضر اذا توكّلوا عليه.

الخطبة 46

شرح الكلام الآخر،

(607) قوله: كانّى بك بالكوفة، اخبار عن الغيب، وقد سمعه عن رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، عند قوم. وعند من جوّز كرامات الاولياء عدّ ذلك من [ا] فضل الكرامات. (608) قوله: اديم عكاظ، عكاظ سوق للعرب بناحية مكّة، كانوا يجتمعون بها فى كلّ سنة، فيقيمون شهرا، ويتبايعون ويتناشدون شعرا، ويتفاخرون. قال ابو ذؤيب:

         اذا بنى القباب على عكاظ   ***   وقام البيع واجتمع الالوف‏

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 133

اى بعكاظ، فلما جاء الاسلام هدم ذلك. ومنه يومى عكاظ. وقد ذكرتهما فى مجامع الامثال. واديم عكاظىّ، منسوب اليها. (609) قوله: مدّ الاديم العكاظىّ، يعنى تجزّز الكوفة ثمّ تخرب، كما يمدّ الاديم للجزّ والقدّ والقطع. وتعركين بالنوازل. اكثر البلاء الّذى وقع فى الاسلام كان مبداه من الكوفة. (610) قوله ما اراد بك جبّار سواء الّا ابتلاه اللّه بشاغل ورماه بقاتل. هذا من جملة الغيوب الّتى اخبر النّبىّ امير المؤمنين بذلك. وعند قوم ذلك اعجاز النبّى، عليه السّلام. وعند من جوّز كرامات الاولياء من كرامات امير المؤمنين.

(611) امّا الجبّار الاوّل الّذى ابتلاه اللّه بشاغل فهو زياد. وقد جمع الناس فى المسجد ليلعن عليّا، عليه السّلام، فخرج الحاجب، وقال انصرفوا، فان الامير مشغول. وقد اصابه الفلج فى هذه الساعة. وابنه عبيد اللّه بن زياد، وقد اصابه الجذام، وعبد اللّه بن مطيع، وقد اهتر، والحجّاج بن يوسف وقد تولّدت الحيّات فى بطنه، حتّى هلك. واما عمر بن هبيرة وابنه يوسف، فقد اصابهما البرص. وخالد القسرىّ، وقد حبس وطولب، حتّى مات جوعا. واما الجبار الاوّل الذى رماه اللّه بقاتل فعبيد اللّه بن زياد قتل، ومصعب بن الزّبير قتل، والمختار الثّقفى قتل، ويزيد بن المهلّب قتل على اسؤحال، وابو السّرايا، وغيرهم.

الخطبة 47

شرح الكلام الاخر،

(612) قوله: وقب ليل وغسق، وقب اللّيل دخل على النّاس، والغسق اوّل ظلمة اللّيل بعد غروب الشّفق. كلّما لاح نجم وخفق، خفقت النّجوم خفوقا غابت، واخفقت اذا توّلت للمغيب. (613) قوله: اقطع هذه النّطفة، النطفة الماء الصّافى قلّ او كثر، والجمع النّطاف وجمع النّطفة للرّجل النّطف.

الحكمة 48

شرح الكلام الآخر،

(614) قوله: [بطن‏] يروى فطن خفّيّات الامور،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 134

اى علم، والمعنى علم سرايرها وحقايقها. (615) قوله: ودلّت عليه اعلام الظّهور، يعنى دلّت عليه الدلالات الظاهرة. قوله: فلا عين من لم يره، يعنى لا يحصل معرفة اللّه ضرورة،

قال قوم: لا يخيّله ولا يمثّله (68 ر).

(616) قوله: سبق فى العلوّ فلا شى‏ء اعلى منه.

قال قوم: هو واحد لا مثل له.

و قال قوم سبق فى الوجود، فليس له جنس عال اعلى منه.

(617) قوله وقرب فى الدنوّ فلا شى‏ء اقرب منه.

قال قوم: اى قربت باحسانه وانعامه والطافه وافعاله، وكونه عالما بكل شى‏ء.

(618) قوله: استعلاؤه باعده عن خلقه، اى انّه ليس بعال من جهة المكان والجهة، لانّه ليس بجسم ولا فى جسم، فلم يكن علوّه بعدا من جهة المكان. (619) قوله: ولا قربه ساواهم فى المكان به، لانّ قربه ليس بقرب مكانىّ. (620) قوله: لم يطلع العقول على تحديد صفته،

قيل: على تحديد صفة وجوده، فانّه لا حدّ من طريق الجنس والفصل للوجود.

و

قيل لا حدّ لوجوده من طريق الابتداء والانتهاء.

(621) قوله: ولم يحجبها عن واجب معرفته، معناه ما من عاقل الّا ويعرف انّ ممكن الوجود يحتاج الى موجد هو واجب الوجود يوجده، ومحدث يحدثه. (622) قوله: فهو الّذى يشهد له اعلام الوجود على اقرار قلب ذى الجحود.

قال الامام الوبرىّ: يحتمل انّ الادلة تدلّ على انّ اللّه، تعالى، موجود، وتقرّر فى عقل كل عاقل انّه لا بدّ للصّنع من صانع. فهذا القدر من العلم عند

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 135

كلّ عاقل انّ هذا العالم لا بدّ له من محدث. لظهور اعلام الحدث. فهذا علم جملة عند كلّ عاقل. ويحتمل انّ الكافر وان كان منكرا بلسانه الصانع، فقلبه يشهد على الصّانع، لانّه فعل محكم متقن، والدلالة تشبه بالمقرّ النّاطق مجازا.

(623) وقال قوم: شهادة اعلام الوجود ما ذكرناه من انّ ثبوت البارى تعالى وبراءته عن الصّمات لم يحتج الى تأمّل لغير نفس الوجود. وقد سبق ذلك.

الخطبة 49

شرح الكلام الآخر،

(624) امّا قوله: لو خلص الحقّ من الباطل،

قال الامام الوبرىّ: لو انّ الحقّ كان يعلم ضرورة، لخلص الحقّ من مزاج الباطل، لكن ما دام العلم نظريا، فلا بدّ من جواز الشّبهة فى ثانى الحال من العلم. فان دفعها العالم بتجديد النظر الصايب فى الادلة، استمرّ كونه عالما.

(68 پ) وان لم يفعل ذلك، زال علمه. فهذا هو لبس الباطل بالحق، وكذا لبس الحقّ بالباطل من هذا الوجه. فانّ المبطل الجاهل وان جهل الحقّ، واعتقد فى الباطل انّه حقّ، فانّه لا يجد بدّا من الدّواعى الى الحقّ لانّ اصول الحقّ مقرّرة فى العقل، فما دام عاقلا يعترض له نوازع الحقّ ودواعيه، فلا يستمرّ فى كلّ احواله خلوّا عن الحقّ، حتّى يخلص عنده الباطل والخطاء عن كلّ حق وصواب. فهذا لبس الحقّ بالباطل.

(625) وقال قوم: ما يكسب معرفته انّما يكسب بان يكون معلومات متّفقة معلومة، وان يسلك من هذا المتقدّم الى هذا المتأخّر طريق موصل اليه، فربّما يسلك طريق لا يوصل اليه، وربّما يسلك طريق موصل، فما خلص الحقّ من لبس الباطل.

و

قيل القوة الوهميّة لا يمكنها ان تتوهّم شيئا الّا بان يغيّرها الى صورة محسوسة بالمعقول الّذى ليس بمحسوس بوجه من الوجوه. فاحكام القوة الوهميّة فيه كاذبة، واحكام بديهة الوهم فى المحسوسات صحيحة، لانّ الوهم آلة العقل الى المحسوسات.

و قيل: القوة التعارفيّة الّتى احكامها الامور

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 136

المشهورة تبلغ من الانسان مبلغا يمنعه عن التشكّك فيها فيقوم مقام العقائد الضّروريّة. وان لم يكن كذلك، بل كان بعضها كذبا، وبعضها صدقا، فهذا معنى قوله: لو خلص الحقّ من ليس الباطل، ومعنى قوله: لو خلص الباطل من الحقّ ما بيّنّا من القوة الوهميّة فى انّ حكمها فى المحسوسات صحيحة، وفى المعقولات غير صحيحة. فبداية الوهم بعضها مقبولة.

الخطبة 50

شرح الكلام الآخر،

(626) قوله: فالموت فى حيوتكم مقهورين، يعنى: ان كنتم مقهورين، فانتم بالمعنى اموات غير احياء، كما قال اللّه تعالى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ، وان كنتم فى الصورة احياء، والحيوة فى موتكم قاهرين، يعنى حياتكم الطبيعيّة فى موتكم، حين انتم قاهرون. كما قال اللّه، تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ. (627) قاد لمّة، جماعة. وعمس عليهم الخبر، اى لبس بمعنى علم انّى على الحقّ، لكنّه يلبس على اتباعه. والخبر بجزم الباء، الروايه الصحيحة.

و بنصب الباء (69 ر)، الرواية الضعيفة. والخبر ليس فى الرّوايات.

(628) وقيل لعمرو بن العاص: لم قتلتم عمّارا، وقال النّبى، عليه السلام: يقتل عمّارا الفئة الباغية. فقال عمرو قتله علىّ حين امره بقتالنا.

فقال [له‏] معوية: لو كان الامر كذلك، لكان قاتل حمزة وجعفر هو النبىّ، عليه السّلام، حين امرهما بالقتال. ولكن يلتبس على اهل الشام. فلمّا قرع سمع امير المؤمنين هذا الكلام، قال عمس عليهم الخبر.

الخطبة 51

(629) قوله: لم يبق منها الاسملة كسملة الادواة، السّملة الماء القليل يبقى فى اسفل الاناء وغيره مثل السّميلة، والجمع سمل. قال ابن احمرّ: مثل الوقايع فى انصافها السّمل، ويقال سمول. قال الشاعر:

         [على‏] حميريّات كانّ عيونها   ***   قلات الصّفا لم يبق الاسمولها

 

و يقال: اسمال.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 137

قال الشاعر:

         يترك اسمال الحياض يبّسا

 

و السّملة بالضمّ مثل السّملة امر يكون لازما ويكون متعديا، وهاهنا لازم. (630) قوله: او جرعة [كجرعة] المقلة، المقلة حصاة القسم التى تلقى فى الماء، ليعرف قدر ما يسقى كلّ واحد منهم، وذلك عند قلّة الماء فى المفاوز. قال الشاعر:

         قذفوا سيّدهم فى ورطة   ***   قذفك المقلة وسط المعترك‏

 

(631) قوله: لو تمزّزها الصّديان، اى لو ذاقها. (632) قوله: حنين الولّه العجال، العجول من الابل الواله الّتى فقدت ولدها. (632) قوله ودعوتهم بهديل الحمام، الهديل الذّكر من الحمام. قال جران العود:

         كانّ الهديل الظّالع الرّجل وسطها   ***   من البغى شرّيب يغرّد منزف‏

 

و الهديل صوت الحمام قال ذو الرّمة:

         اذا اناقتى عند المحصّب ساقها   ***   رواح اليمانى، والهديل المرجّع‏

 

و هديل الحمام مشوّق لذلك. قال: ودعوتم بهديل الحمام. والهديل فرخ كان على عهد نوح، عليه السلام فصاد جارح من جوارح الطير. قالوا: فليس من حمامة الا يبكى عليه. قال الشاعر:

         وما من تهتفين به لنصر   ***   باسرع جابة لك من هديل‏

 

(633) قوله: جأرتم جوأر متبتّل الرّهبان، جأرتم فزعتم وتضرّعتم. وللرهبان (69 پ) قيام يقرأون فيه الزّبور، وكذلك سجود مع خشية وخضوع. (634) قوله: خرجتم الى اللّه من الاموال والاولاد، اى من احبّ الاموال والاولاد. لو انماثت، اى لو ذابت. (635) قوله: ما الدنيا باقية ما جزت، نافية، و«انعمه» مفعول‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 138

جزت، وهذا تفسير قول اللّه، تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها. والنعمة يقتضى فى كل وقت مجدّد شكرا ابدا. فلهذا لا يقضى حق المنعم ابدا، وكلما تجدّد وقت، فللّه فيه نعم مجددة يجب عليها شكر مجدّد. فان شكرت نعمه فى وقت، تجدّد وقت آخر له، تعالى، فيه نعمة، ويجب عليها شكر.

الخطبة 52

شرح الكلام الاخر،

(636) قوله: فتداكّوا، اى اجتمعوا. خلعت مثانيها، المثناة الحبل، وجمعها المثانى. (637) قوله. قلّبت هذا الامر ظهره وبطنه، هذا مثل للعرب يقول: قلّبت الا [مر] ظهرا لبطن.

قال الهروىّ: معناه رجع اليه الامر مرّة بعد اخرى واللّام فى «لبطن» بمعنى «على»، ومعناه قلّب ظهر الامر على بطنه حتّى علم حقايقه.

الخطبة 53

(638) قوله: على اللّقم، لقم الطريق سواء السّبيل. (639) قوله: ملقيا جرانه، جران البعير مقدّم عنقه من مذبحه الى منحره، وكذلك من الفرس. والقاء الجران كناية عن النزول والمقام. يقال القى جرانه.

الخطبة 54

شرح الكلام الآخر،

(640) قوله: سيظهر عليكم بعدى رجل رحب البلعوم، يخاطب اهل الكوفة. وهذا الخبر من الاخبار الّتى تدلّ على معجزة النّبى، عليه السّلام، كما تقدّم. البلعوم مجرى الطّعام والشّراب. مندحق البطن، اى عظيم البطن. عنى به زيادا، وكان عامل امير المؤمنين حتّى قتل امير المؤمنين، وفى يديه مال الاهواز، فالتجأ الى الشّام. فلما استولى على الكوفة، جمع النّاس فى المسجد، ليأمرهم بلعن علّى، عليه السلام، فخرج حاجبه: وقال: انصرفوا فانصرف النّاس، وقد اصابه الفلج حين خرج الحاجب وامر النّاس بالانصراف. (641) قوله: امّا السبّ فسبّونى، انما رخّص فى سبّه من (70 ر) طريق التأويل والتعريض دفعا للضّرر عن المسلمين، وقد رخّص النبىّ،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 139

عليه السّلام، مثل ذلك لسليك واصحابه، حين بعثهم الى كعب بن الاشرف اليهودىّ، ليقتلوه. فقال سليك: يا اخى يا كعب انزل فقد اصابنا الضرّ والقحط بسبب هذا الرّجل. وهذه صورة الشكاية، وليست فيها شكاية وذمّ على التحقيق.

فرخّص امير المؤمنين مثل ذلك. وامّا التّبّرى فهو توطين النفس على المعادات والانسلاخ من الموالات. وذلك حرام لا يجوز، لانّ معاداة من هو من اولياء اللّه معاداة اللّه ورسوله. (642) قوله: فانّى ولدت على الفطرة، اى من اوّل حال تكليفى الى يومنا، هذا، انا على الدّين والهدى. فلا مدخل للتاويل فى التبرّى منّى، ولا سبيل اليه بحال.

و قيل: معنى قوله: انّى ولدت على الفطرة، اى كان نشوى وولادتى عند رسول اللّه مع رسول اللّه. فان رسول اللّه ربّاه والعباس بن عبد المطلب ربّى اخاه، بسبب كثرة عيال ابى طالب.

و

فى الحديث كلّ مولود يولد على الفطرة، قيل اى على التوحيد. وقال محمد بن الحسن الشيبانىّ هى الخلوّ من العقائد فى حال الصّبى. وقال قوم هى الميثاق الاول.

الخطبة 55

شرح الكلام الآخر،

(643) قوله: اصابكم حاصب، دعا عليهم، ولا بقى منكم آبر. الكوفيون يكثرون عمارة النّخيل. يقال ابر فلان النخل، اى لقّحه واصلحه. قال طرفة.

         ولى الاصل الّذى فى مثله   ***   يصلح الآبر زرع المؤتبر

 

(644) قوله: اشهد على نفسى بالكفر،

قيل: يحتمل ان يكون معناه انّ الخوارج قدحوه بالكذب على رسول اللّه فى حروبه واجراء احكامه فى الطوايف المختلفة

و كان يقول امير المؤمنين لا احدث امرا فى الدين، الا بامر رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. فقال: لو افتريت على رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، فى حكم من الاحكام، ونسبت اليه قولا لم يقله، لكان ذلك تلبيسا فى الاسلام. والمعنى الثانى ظاهر. وذلك انّ الخوارج زعموا انّ عليّا،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 140

حاشاه، كفر بسبب التحكيم، وقيل له: اشهد على نفسك بالكفر واسلم، حتى نبايعك ونوافقك ونتحوّط فى سلك حشمك وجنودك. فقال مجيبا لهم. وذلك مذكور فى التواريخ.

الخطبة 56

(645) قوله: خوّف من الغيلة، الغيلة بالكسر الاغتيال يقال قتله غيلة، وهو ان يخدعه فيذهب به الى موضع، فاذا وصل اليه قتله.

الخطبة 57

(646) قوله: دار لا يسلم منها الا فيها،

قيل معناه من استحقّ العقاب لا يمكنه تخلّص نفسه منه، اذا خرج عن دار التكليف. انّما الخلاص موقوف على دار التكليف، فعبّر عن زمان التكليف بالدّنيا.

(647) قوله: ولا ينجى بشى‏ء كان لها،

قيل معناه كل فعل مقدور للعبد منتفع به فى الدنيا يتعجّل نفعه، اذا قصد فاعله ان ينتفع به عاجلا، فبذلك الفعل لا يجوز ان يستحق ثوابا او يدفع به عقابا. ويستوى فى هذا القسم الفعل الراجع الى الدّنيا والراجع الى الدّين. لانّ الفعل الدّينىّ اذا قصد فاعله نفعه العاجل، صار ذلك الفعل كالّذى يرجع الى الدّنيا. فهذا معنى قوله: ولا ينجى بشى‏ء كان لها.

و قال قوم النفوس المغموسة فى عالم الشهوات المنحوسة الّتى لا مفاصل لرقابها المنكوسة لا يسلم من تلك الهيئات الا بالرياضة فى دار الدّنيا. فإنّها اذا فارقت الدّنيا، بقيت تلك الهيئات الانقياديّة معها، ويكون تلك الهيئات اسبابا لعقوبتها فى دار الاخرة.

الخطبة 58

(648) قوله: جدّ بكم، اى اخذتم بالجدّ، ويروى جدّ بكم السير. (649) قوله: وتهدمها الساعة، يعنى ساعة الموت. سمّيت القيامة ساعة، لانّه تفجأ الناس فى ساعة، فيموت الخلق بصيحة واحدة.

و قيل هى من ساع الماء والشراب يسيع سيعا وسيوعا، اى اضطربت على وجه الارض، والناس يضطربون عند الحشر والخروج من الاجداث.

و

قيل اخذت من قولهم ناقة مسياع يذهب فى المرعى، فسمّيت القيامة ساعة، لانّ النّاس يذهبون الى مأويهم: امّا الى الجنّة و(71 ر) وامّا الى النار.

و اصل الساعة الوقت [الحاضر]

---------------------------------------------------------------

 صفحة 141

فى الدّنيا، والجمع السّاعات والسّاع. فسمّى كلّ وقت حاضر ساعة. الوقت الحاضر فى الدّنيا لقوم احيآء دون قوم اموات، وفى القيامة يحشر الخلايق كلّهم، فيكون الوقت الحاضر. (650) قوله: فتزوّدوا فى الدّنيا من الدّنيا. صرف المال والجسد فى سبيل اللّه من الدّنيا، فالمال من زينة الحيوة الدّنيا. (651) قوله ويمنّيه التوبة ليسوّفها.

فى بعض الكتب: انّ الشيطان يوسوس فى صدور الرّجل، ويقول: ان تبت ثمّ رجعت الى الذّنوب، كانت توبتك مردودة، فاخّر توبتك، حتّى تتوب توبة نصوحا، لا تعود بعدها الى ذنب.

فيموت الرّجل على غير توبة، نعوذ باللّه من تلك الحالة.

(652) قوله: ان يكون عمره عليه حجة، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ، وحاكم التّدبير.

الخطبة 59

شرح الخطبة الاخرى،

(653) قوله: الّذى لم يسبق له حال حالا، الى آخر الخطبة،

قال الامام الوبرىّ: المراد بقولنا: اوّلا، اى قديم لا اوّل لوجوده، وكونه آخرا، معناه انّه موجود حين يعدم ساير الاشياء. وانما يكون موجودا حينئذ لكونه قديما. فكونه اوّلا وآخرا فايدته واحدة، وهو انّه قديم يجب وجوده فى كل حال. ووجوده فى كل حال وجود واحد، الّا انّ اللّفظ يتغيّر بالاوّل والاخر. واللفظ منسوب الى غيره، والتّبدّل مضاف الى غيره، لا الى ذاته. وهو انّه موجود قبل وجود الاشيآء، وموجود فى حال عدمها بعد وجودها، ولذلك لم يتغيّر له حالة فى حالتى وصفنا ايّاه بالاوّل والاخر. فلم يكن كونه اوّلا، قبل كونه اخرا، لانّ ما هو عليه فى كونه اوّلا هو بعينه فى كونه آخرا.

(654) قوله: ويكون ظاهرا قبل ان يكون باطنا،

قال الامام الوبرىّ: الظاهر له معنيان، احدهما معلوم بكثرة الادلّة كالمعلوم مشاهدة، فشبّه بالظاهر للحواسّ.

(71 پ).

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 142

و الثانى انّه قادر على كل شى‏ء، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا.

و امّا الباطن فى صفاته فيفيد فايدتين: احدهما انّه لا يعرف بالحواسّ، وانما يعرف بالعقل.

و الثانّى انّه عالم بخفيّات الامور وسرايرها.

فعلى كلى القولين كونه ظاهرا وباطنا فى حالة واحدة، لانّه فى حال كونه عالما ببواطن الامور، قادر على كل شى‏ء قاهر له.

(655) قوله كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل، لانّ معنى الوحدة فى المخلوقات انّه منفرد عن جنسه، كالجوهر الواحد، والرجل الواحد. ومعنى الوحدة فى صفات اللّه، تعالى، انّه يستحيل ان يكون غيره الها، وتوحّده بالقدم. (656) قوله: وكلّ عزيز غيره ذليل. لانّ العزيز هو الّذى لا يمنع عن مراده، والعبد ممنوع عن اكثر مطالبه ومراده. ويستحيل المنع على اللّه، تعالى، والذلّة المنع عن المراد. (657) قوله: وكلّ قوىّ غيره ضعيف، كلّ قوىّ فى المخلوقات يلحقه العجز والضّعف عن قريب. (658) قوله: كلّ مالك غيره مملوك، لانّ المالك هو القادر على التصرّف الحسّىّ. وقدرة العباد واستطاعتهم من اللّه، تعالى، فيكون كلّ مالك من العباد مملوكا. (659) قوله: كلّ عالم غيره متعلّم، لانّ غيره يستفيد علمه بعد ما لم يكن. واللّه، تعالى، فيما لم يزل ولا يزال. (660) قوله: كلّ سميع، لانّ الموانع والآفات مقصور جوازها على الحواسّ، وكلّ من ادرك بحاسة، جاز ان يلحقه النقايص، فيؤثّر فيه المدرك اذا كثر وغلب، ولا يقصر عنه اذا قلّ. واللّه، تعالى، منزّه عن الحاسّة، فيستوى فى ادراكه القليل والكثير، فلا يفوته القليل ويضرّه الكثير.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 143

(661) قوله: وكلّ ظاهر غيره غير باطن، لانّ المحسوس اذا لم يكن دونه مانع، والحىّ المدرك على السلامة، فهو ظاهر، ومع ظهوره لا يصحّ ان لا يدرك فى هذه الحالة. (662) وهكذا قوله: وكلّ باطن غيره غير ظاهر. (663) قوله: لم يحلل فى الاشيآء،

قيل (72 ر) الحلول فى الاشياء من امارات الاعراض، ويقال ذلك بالمجاز فى حق الاجسام. واذا كان اللّه تعالى قديما، استحال حدوثه، والحلول تبع الحدوث، فيستحيل حلوله. ويستحيل عليه المجاورة، لانّ المجاورة من لوازم الاجسام. وما استحال عليه القرب، استحال عليه البعد، لانّهما موقوفان على الجسم والعرض توسّعا. فاذا كان كذلك، فكما لم يجز ان يكون اللّه، تعالى، فى الاشياء من طريق الحلول، ولا مع الاشياء من طريق المجاورة والمصاحبة، لم يجز ان يكون خارج الآشياء باينا عنها، لانّه يقتضى كونه شاغلا للجهات. فاذا استحالت الجسميّة عليه، استحال مقتضاها.

(664) قوله: لم يؤدّه خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما ذرأ، لانّ احداثه للافعال من غير احتياج الى آلة. والتعب والاعياء من حكم الآلات والجوارح. (665) قوله: ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر، لانّه عالم بكل معلوم، وعامل ما هو كاين وما يكون وما لا يكون. وانّما يتردّد فى الفعل من لا علم له به قبل ايجاده. (666) قوله: المامول مع النّقم المرهوب مع النعم، لانّ اليأس انّما يقع من المنتقم اذا كان ينتقم عن حقد وضغن، لا عن حكمة وعدل، فلا يجوز ان يطمع فى غيره ما دام منتقما. فكذا انعامه واحسانه، اذا فعله لشهوة ولذة فى ذلك وطلب كمال. فامّا اللّه، تعالى، فانّ عقابه يصدر عن علم وحكمة وصلاح يعلمه للعباد. والمصالح تختلف فى الدّنيا بحسب الاوقات. فقد يقتضى الحكمة والعدل تشديدا على عبده فى هذا الوقت، و

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 144

يقتضى تسهيلا عليه فى الثّانى، ويقتضى تسهيلا عليه وترفيها له فى هذا الوقت، وتشديدا عليه فى الثانى. واذا كانت افعاله مقصورة على الحكمة والعدل والرحمة، وجب ان يكون مامولا مع النّقم مرهوبا مع النعم.

(667) وقال قوم فى معانى (72 پ) هذه الالفاظ: هو باطن باعتبارنا لا من جهته، وظاهر باعتباره ومن جهته. واذا تامّلت صفة قطعك ذلك عن صفات البشريّة، وقلع عرقك عن مغرس الامور الجسمانيّة، فوصلت الى معرفة الذات من حيث لا يدرك، فالتذذت بان تعرف ما لا يدرك، فذلك الظاهر فى الافق الاعلى وعالم الرّببيّة، الباطن عن الافق الاسفل وعالم البشريّة. فهو اوّل من جهة انّه يصدر عنه كلّ وجود لغيره اما بواسطة او بغير واسطة، وهو اوّل من جهة انّه اولى بالوجود، وهو اوّل من جهة انّ كلّ زمانى ينسب اليه، والزمان وما فى الزمان منسوبان الى ايجاده واحداثه. وهو آخر، لانّ الاشياء اذا نسبت الى اسبابها ومباديها، وقف عليه المنسوب، وهو آخر لانّه الغاية الحقيقيّة فى كلّ طلب، وكلّ طالب حقيقى يطلبه.

الخطبة 60

(668) قوله: اكملوا الّلأمة، الّلأمة الدّرع. وهذا كلام بلغ من آداب الحروب كلّ مبلغ. (669) قوله: نافحوا بالظّبا، يعنى كافحوا، ويقال نفحه بالسيف اى تناوله من بعيد. (670) قوله: انتم بعين اللّه، اى فى حفظ اللّه ودفاع المكاره عنكم.

قال اللّه، تعالى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، اى فى حفظى. (671) قوله: مشيا سجحا، يقال: مشية سجح اى سهلة، وكلّ شى‏ء مستقيم، فهو سجح. (672) قوله: بالسواد الاعظم، السّواد الاعظم كلّ عدد كثير، مأخوذ من قولهم: لفلان سواد، اى مال كثير. و

قيل: سواد الناس عوامّهم. اى اتّبعوا ما اجتمع عليه العدد الكثير، يعنى اجماع الامّة. وقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 145

و آله: لا يجتمع امّتى على الضّلالة. ولذلك يقال للبلدة التى فيها عدد كثير: السّواد الاعظم.

قوله: اضربوا ثبجه، اى اعلاه. (673) قوله: ولا [استعانة على‏] ندّ مثاور، المثاورة الملاطمة والمراكلة والمراكلة والمخاصمة. قوله: فملكت عليه اى شدّدت وضيّقت البلدة عليه. قال الشاعر:

         ملكت بها كفّى فانهزت فتقها   ***   يرى قائم من دونها ما ورآءها

 

و

قيل: ملكت عليه (73 ر) اى اخذت المملكة منه.

(674) قول: صمدا صمدا، اى قصدا قصدا. لن يتركم اعمالكم اى لن ينقصكم فى اعمالكم، كما تقول: دخلت البيت، والمراد دخلت فى البيت. والاصل وتره حقّه اى نقصه.

الخطبة 61

شرح الكلام الآخر،

(675) قوله: الثّقيفة، صفّة بنى ساعدة كانوا يجلسون فيها.

الخطبة 62

قوله: هاشم بن عتبة يلقّب بالمرقال لسرعته فى الحرب.

الخطبة 63

شرح الكلام الآخر،

(676) قوله: البكار، الابل التى فسد سنامها. يقال عمد البعير اذا انفضح داخل سنامه من الركوب، فظاهره صحيح، فهو بعير عمد.

قال لبيد: يصف مطرا اسال الادوية:

         فبات السّيل يركب جانبه   ***   من البقار كالعمد الثقال‏

 

يعنى: انّ السيل يركب جانبيه سحاب، اى احاط به سحاب من نواحيه بالمطر. (677) قوله: اطلّ بالطّاء، والظاء يروى، والمنسر الخيل، انجحر دخل الجحر. (678) لا ارى اصلاحكم بافساد نفسى، فيه اشارات للحكماء، و

قال واحد من الحكماء: هذا الكلام فهرس فصول مكارم الاخلاق، فانّ من الناس‏

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 146

فئة لا يقبلون التأديب والتهذيب، فيحتاج مقوّمهم ومؤدبهم الى استعمال القوّة الغضبيّة على وجه يخرج عن حدّ الاعتدال. فالاعراض عن هؤلاء اولى من الاشتغال بتهذيبهم فانّهم لا يقبلون التهذيب.

الخطبة 64

املصت اى ازلقت. ورشاء ملص، اذا كانت الكفّ تزلق عنه. قال الشاعر:

         فرّ واعطانى رشاء ملصا   ***   كذنب الذّئب يعدّى هبصا

 

و املصت المرأة بولدها اسقطت، يعنى مات ولدها، ثمّ مات قيّمها اى زوجها، ثمّ طال تأيّمها، وورثها ابعدها اى ذوو ارحامها، فانّهم ابعد الورثة، وهم بعد اصحاب الفروض والعصبات، فهم الدرجة الثالثة فهم ابعد الورثة. (679) شرح الكلام الاخر، قوله ما اتيتكم اختيارا، ولكن جئت اليكم سوقا،

قيل معناه: ساقونى اليكم سوقا. اخبر عن كراهية مجاورتهم.

و انما خرج امير المؤمنين، عليه (73 پ) السلام، بالمدينة بسبب انّ اهل المدينة يذمّونه، ويصيحون خلفه بابيات فيها ذمّه، كما ذكره ابن جرير فى تاريخه.

و قيل خرج امير المؤمنين من المدينة ومحمد بن الحنفيّة بين يديه، واهل المدينة يصيحون خلفه، ويقولون:

         يا رب اعقر لعلىّ جمله   ***   ولا تبارك فى بعير حمله‏

 

فلما سمع امير المؤمنين، عليه السّلام، ذلك قال تعوّد المدنيون سوء الادب، ولا اعود اليهم ما عشت.

و اللهجة اللّسان، وعنى بها نفسه، يريد انّهم يجهلون حاله وصدقه ومنبته. وقد يعبّر عن الجهل بالغيبة. قال الشاعر:

         شهدت جسيمات العلى وهو غائب   ***   ولو كان ايضا حاضرا كان غايبا

 

(680) قوله: ولم يكونوا من اهلها، اى من اهل المتابعة، من هو من اهل الدّين والتّقوى. و

قيل: معناه انها لهجة اى كلمة، يعنى تصديقى كلمة غبتم عنها، يا اهل الكوفة، اى ما حضرتم فى ابتداء مبعث النّبى، عليه السّلام، وما كنتم من المهاجرين والانصار.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 147

(681) قوله: كيلا، اى اكيله كيلا، يعبّر لمن لو كان له قابل ومحل ووعاء. ولكن لا تعرفون قدرى وقدر كلامى وقدر ما ادعوكم اليه. وروى عن عيسى انّه قال: عليه السلام: لا تضعوا الحكمة عند غير اهلها، فيظلموها، ولا تمنعوها اهلها فتظلموهم. و

قال واحد من الحكماء: القمتك قفىّ الحكم فى لطايف اللّقم، فصنه عن الجاهلين، ومن لم يرزق الفطنة الوقّادة.

الخطبة 65

شرح الخطبة الاخرى،

(682) قوله: الجبل، الخلق على الاستعداد، لذلك قال: شقيّها وسعيدها. قوله: المعلن الحقّ بالحقّ

قال الامام الوبرىّ: اعلن الشّرع الحقّ بسبب تحصيل رضوان اللّه الحقّ

و

قيل اعلن الشّرع بالمعجزات،

و

قيل اعلن الدّين الحقّ باللسان الحقّ والبرهان الحقّ.

(683) (قوله:) مقبول الشّهادة، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَجِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً، مرضىّ المقابلة، يعنى الشفاعة، خطّة فصل، اى امر فصل. (74 ر).

الخطبة 66

شرح الكلام الآخر،

(684) قوله: انّها كفّ يهوديّة، اى لا يوثق بقوله وبيعته، فعبّر عن نكثه للعهد باليهوديّة، لان الغدر فى اليهود امر مشهور و[لهم‏] عرق نزاع. (685) قوله: لغدر باسته او بسبته، اى لو انسدّت عليه ابواب الخيانة، وامكنه من حيث لا يتوقّع، لما قصر، ويروى لغدر بقلبه، وهو الاصحّ. (686) قوله: اما انّ له بذلك امرة كلعقة الكلب انفه، يعنى قليل المدّة لا انتفاع له بذلك الامارة.

و بيان ذلك انّ مروان لما مات ابو ليلى معوية بن يزيد بن معوية، واضطربت الشّام، ومال بعض الناس الى خالد بن يزيد، وبعضهم الى عبد اللّه بن الزّبير، همّ مروان بالمسير الى عبد اللّه بن الزبير، والمبايعة له، فمنعه عن ذلك عبيد اللّه بن زياد خوفا من ان يقتل عبد اللّه بن الزبير عبد اللّه بن الزياد،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 148

بسبب قصاص الحسين بن على، عليه السلام. فدعا النّاس الى بيعة مروان، فاجتمعوا عليه، وبايعوه. وقد هرم مروان، وتزوّج امّ خالد بن يزيد، وعد خالدا ان يفوّض الامارة اليه بعد بلوغه، وخالفه الضّحاك بن قيس، وكان مايلا الى ابن الزبير، وجرت محاربة بين مروان والضّحّاك بمرج راهط، وقتل الضّحاك.

ثم جعل مروان ولىّ عهده ابنه عبد الملك، وكانت امارته من مروان فى بعض بلاد الشام. لانّ الامارة كانت فى هذا الا وان لعبد اللّه الزبير فى الحجاز واليمن والعراقين وخراسان والمغرب وبعض بلاد الشّام، ولم يكن فى ولاية مروان الا دمشق ونواحيها. فلما قتل الضحّاك، تخلّص له الشّام. وكانت مدة امارة مروان كما ذكرها ابو جعفر محمد بن الحسن الخازن فى جداول تاريخه اربعة اشهر، وكانت كما قال امير المؤمنين فى قصر المدّة كلعقة الكلب انفه. قال: وهو ابو الاكبش الاربعة. اولاد مروان: عبد الملك وعبد العزيز (74 پ) والد عمر بن عبد العزيز ومحمد والد مروان الحمار، وبشر. والكبش سيّد القوم واميرهم، الاكبش الامراء. ولمروان ابناء اخر، لكن الاكبش يعنى الامراء هؤلاء. ولعبد الملك اولاد. الاكبش الاربعة الامراء، الوليد بن عبد الملك [و سليمان ويزيد وهشام‏]. (687) يوما احمر، اى بلاء، كما يقال: موت احمر، يقال: سنة حمراء شديدة.

الخطبة 67

(688) قوله: انا حجيج المارقين، يقال حججته حجّا، فهو حجيج، اذا سبرت شجّته بالميل لتعالجها. قال الشاعر: يحجّ مامومة فى قعرها لجف. والمارقون الخوارج، سمّيت لانّهم مرقوا من الدين كما مرق السّهم من الرّمية. (689) قوله: ولما وعظهم اللّه، اى الّذى [على كتاب اللّه‏]. (690) قوله: تعرض الامثال،

قال الامام الوبرىّ: اى صفات‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 149

المؤمنين، معناه انّ احكام المؤمنين توخذ من كتاب اللّه. فمن شهد الكتاب له باحكام المؤمنين فى الدّنيا والجزاء عند اللّه فى الآخرة يظهره اللّه يوم القيامة.

فهذا معنى قوله: وبما فى الصّدور، يجازى العباد.

و

قيل: معناه انّ الاصل فى الثّواب والعقاب واستحقاقهما التّصديق والتّكذيب، ومهما يستحقّ العبد الثّواب الدائم والعقاب.

الخطبة 68

(691) قوله: رمى غرضا، واحرز عوضا، التّكليف ينقسم الى عقلىّ وسمعىّ. فالعقلىّ منها ما ينبغى ان يفعل على وجهه الّذى وجب وحسن. واما الشرعىّ فللثّواب مدخل فى وجه حسنه. ولهذا يجب علينا ان ننوى الثّواب فى اقامة الصّلوة والصيّام وساير العبادات الشرعيّة، كما يجب علينا به العبادة والصّلاح. فقوله: رمى غرضا واحرز عوضا، يجوز ان يكون اشارة الى كون الثّواب غرضا فى الشرعيّات وداعيا الى العقليّات. و

قال قوم: الغرض هاهنا ليس بمعنى الهدف، وانّما هى استعارة، فالغرض الاوّل تنحية ما دون الحقّ عن مستنّ الايثار، والثّانى تطويع النفس الامّارة للنفس المطمئنّة. والثالث تلطيف السرّ للتنبيه. والغرض الاوّل يعين عليه الزّهد الحقيقىّ. والغرض (75 ر) الثانى يعين عليه العبادة المشفوعة بالفكرة، ثمّ الالحان المستخدمة، ثمّ نفس كلام الواعظ من قايل زكى بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد. واما الغرض الثّالث فيعين عليه الفكر اللّطيف. فهذا معنى قوله: عندهم رمى غرضا واحرز عوضا.

و العوض خلسات من اطلاع نور اليقين يتبع هذه الاغراض.

الخطبة 69

شرح الكلام الآخر،

(692) قوله: لانفضنّهم نفض اللّجام الوذام التّربة، ويروى نفض القصّاب.

قال ابو عبيد: الوذام واحدها وذمة، وهى الحزّة من الكبد والكرش. ومن هذا قيل لسيور الدّلاء الوذم، لانّها مقدودة طوال.

قال: والتّربة الّتى قد سقطت فى التّراب فتترّبت، فالقصّاب ينفضها.

و

قيل واحدة الوذام وذمة، وهى الكرش، لانّها معلّقة، قال: والوذم ايضا لحمات يكون فى رحم النّاقة يمنعها عن الولد. فاذا عولج ذلك منها، قيل وذمّتها

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 150

توذيما. يقول: ان وليتها ازلت بالتّاديب والتّهذيب الانجاس والادناس.

و القصّاب القطّاع، ويقال سمّى قصّابا لتفريقه الاقصاب، وهى الامعاء.

الخطبة 70

(693) قوله: ما رأيت من نفسى، اى ما وعدت.

الخطبة 71

شرح الكلام الآخر،

(694) قوله فى تهجين احكام النجوم، فنقول: صادر عن اليقين والبرهان، فانّه لا طريق للمنجّم الى معرفة السعادة والنّحوسة المتعلّقان بالزّمان. وانا اذكر فى هذا النوع فصولا يتضمّن شروح هذه الكلمات، ان شاء اللّه تعالى.

(695) اقول: كيف يمكن ان يكون انسان يعرف الحوادث واسبابها فى الحال، حتّى يعرف المسبّبات فى المستقبل، كما فى الجزر والمدّ. ومن ادّعى انّه يعرف اسباب الكاينات، فمقدّماته ليست برهانية. وانما هى تجربية او شعريّة او خطابيّة مؤلفة من المشهورات فى الظاهر او المقبولات او المظنونات.

(696) ومع ذلك فلا يمكن ان يتعرّض الا لجنس من اجناس الاسباب، وهو تعرّض بعض الاسباب (75 پ) العلوية. ولا يمكنه ان يتعرّض جميع الاسباب السّماويّة والقوابل. واذا تغيّرت القوابل عن احوالها، تغيّر اثر الفاعل فيها. فانّ النّار فى الحطب باليابس تؤثّر تأثيرا لا تؤثّر فى الرماد.

(697) ولو سلّمنا انّه عرف تفاصيل الاسباب، فحصول المسبّبات لا يعرف بهذا العلم الاوّل، كحصول الاحتراق من النّار فى هذه الحالة، لا يعرف [الّا] بمعرفة ملاقاة القوّة الفاعلة المحرقة المسخّنة الّتى للنّار، والقوّة القابلة التى للحطب.

(698) فكما ان معرفة الاسباب الفاعليّة شرط، فكذلك معرفة القوابل، وبقائها على استعداد القبول شرط. ويمكن ان يكون للقابل عوايق، فلا يعلم تلك الاسباب والمسبّبات الا اللّه، تعالى.

(699) واقول: فالحركات من المقادير المتّصلة وقد قام البرهان‏

 

---------------------------------------------------------------

صفحة 151

الهندسىّ على انّ التشكّلات الفلكيّة لا يقع على نسق واحد، فيكون فى كلّ زمان تشكّل آخر. واذا كان كذلك، لا يكون التشكّلات مجرّبة، فلا يحكم بالتجربة فى احكام النّجوم.

(700) واقول: المنجّم يحكم على مفردات الكواكب، ولا يحكم على جميعها ممتزجة. وكما انّ احكام مفردات التّرياق وساير المعاجين غير احكام المركّب الّذى حصلت له صورة نوعيّة، كذلك حكم الكواكب الموجودة المذكورة فى الافلاك غير افرادها. واذا لم يمكن للمنجّم الحكم الا على المفردات، كان الحكم ناقصا غير موثوق به.

(701) فسل المنجّم وقل: فى هذه الساعة الشمس فى الاسد يقتضى كذا، والزّهرة فيه ايضا يقتضى كذا، وعطارد مع زحل فى السنبلة يقتضى كذا، والقمر فى السّرطان يقتضى كذا، والمرّيخ فى السنبلة يقتضى كذا، والمشترى فى الجدى يقتضى كذا، وجميع هذه التشكّلات اىّ شى‏ء يقتضى، وكما انّ الترياق، وهو مجموع الادوية، يقتضى كذا وكذا، وكلّ مفرد من عقاقيره يقتضى شيئا خاصّا.

(702) وقد ذكرت فى رسالة نار الحطاحب  من انشائى انّه قد اتّفق علماء الاسلام (76 ر) والحكماء القد مآء على انّ بيان احكام النجوم ضعيف البنيان قليل الرّجحان بيّن النقصان عديم البرهان. ان حرّكته بالبحث والامتحان، طار، وان ربطته بالتجربة، فرّ وسار، فهو يفرّ كالسّراب ويمرّ مرّ السّحاب. صاحبه اخفّ ومن ريشة منتوفة. ولو بدّل اللّه قمّله اغناما، لما طمع جاره منها فى صوفة.

(703) وبيان ذلك انّه ربّما يحصل التّوأمان معا فى غشاء، فيكشف عنهما، فاذا فيه صبيّان حيّان. وعلى قوانين الاحكاميين يجب ان يكون مثلين فى الصورة والعمر والحركات، حتّى لا يجوز ان يختلفا فى شى‏ء من الاشياء، ولا يجوز ان يسكت احدهما فى وقت كلام الآخر، ولا يقوم فى وقت‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 152

قعود الاخر ولا ينام فى وقت لا ينام فيه الآخر. واذا ادخلا بيتا له باب ضيّق فلا يمكنهما الدخول، لانّه لا بدّ هاهنا من التقدّم والتأخّر. ولا يجوز ان يمسّ انسان احدهما دون الآخر. ولا يجوز ان يكون فى التزويج امرأة احدهما غير امراة الآخر، ولا يجوز ان يكون مكان احدهما غير مكان الآخر من الارض. وهذا ممّا لا يخفى فساده.

(704) وايضا فانّ الحكم الكلّىّ عند اكثرهم يغلب الجزئىّ.

الا ترى انّ طالع ناحية او بلد اذا كان فاسدا، فانّه لا يفيد عطيّة الكد خذاه لانسان، فكيف يعتمد على الطوالع والاختيارات مع نفى العلم بالكلّيّات.

(705) ومن شنيع قولهم انّهم يقولون: اذا ولد لملك فى حال ولد لسوقىّ ولد، فان الكواكب يدلّ لابن الملك بخلاف ما يدلّ لابن السوقى مع اتّفاقهما فى كمّيّة العمر، لانّ هيلاجهما وكد خذاهما لا يختلفان. فاذا جاز ان يكون دلالة النّجوم مختلفة، واختلفوا [فى سعادة هذين الولدين، فما انكروا ان يكون مقادير اعمارهما ايضا مختلفة. واختلفوا] فى الحدود ومرجع التسيير الى الحدود، ولا برهان لهم على تعيين الحدود. واختلفوا فى مقوّم الكواكب فى اختلاف الزيجات، فلا برهان على فساد بعضها وصواب بعضها. فربّما يوجد فى مقوّم الشمس من التفاوت خمس درج (76 پ)، ويختلف درج الطّوالع، وبروج التحاويل، بسبب ذلك فيفسد الاحكام. واختلفوا فى مطارح الشّعاعات، ولا برهان على صحّة بعضها، وعليها مبانى الاحكام. واختلفوا فى التسيير المستقيم والمعكوس وتسيير الكواكب الّذى فى السابع بمطالع النظير ومطالع برجه. ولا حجة لهم على استقامة بعض الاقوال دون بعض، وبذلك يفسد ثلث الاحكام.

(706) ويرعمون انّ الكواكب المتحيّرة فى الميلاد ربّما لا يدلّ على سعادة المولود، لسقوطها ولرجوعها ولنحوسها. فاذا كان مع ذلك ثابت سعد فى العظم الاوّل فى درجة الطالع، او درجة وسط السّماء، بلغ المولود غاية

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 153

فى السعادة.

(707) وبذلك يبطلون دلايل الكواكب المتحيّرة والبروج. وذلك نوع تعسّف ايضا. لانّهم يقولون من شرايط ذلك ان يكون الثابت على درجة الطالع او درجة وسط السماء او درجة النيّرين، ولا طريق لهم الى معرفة درجة الطالع ومقّوم النيّرين بحسب اختلاف الزيجات.

(708) ونقول لهم: الكواكب الثابتة هل يدلّ على طول العمر، وهل له سنون، كما يدلّ على السعادة والجاه. فان قالوا: يدلّ على الاعمار، نطالبهم باعداد اعوام ثابت. وان قالوا: لا يدلّ، قلنا: كيف ينال السعادة والشّرف مع فقدان البقآء، ويلزمهم ان يقع الثابت على درجة الطالع او وسط السماء والنيّرين، ولا ينال المولود العمر، فلا ينال الشرف والسعادة، فيبطل حكم الثابت ايضا بالمتحيّرة وحكم المتحيّرة بالثابتة. ولا فساد وراء ذلك.

(709) نقول لهم ما تقولون فى الملكين يحاربان، كل واحد منهما سأل منجّمه فى حالة واحدة عن خصمه، فاتّفقت درجة الطالع فى سئوالهما.

فالبرج السّابع دليل الخصم، وهو فى الطالعين واحد، والبرج الثانى دليل العسكر والاعوان، وهو فى الطالعين واحد. والبرج الثامن دليل اعوان الخصم، وهو فى الطالعين واحد. فكيف يصحّ الحكم لهذين المنجّمين على سؤال (77 ر) هذين الملكين، ويعرض هذا السّؤال فى ملكين لا يعرف طالع ولادتهما.

و من هذا يعرف انّ الكواكب فى زمان هذين السّؤالين لا يدلّ على شى‏ء من المقصود. وهذا التعطيل لا يجوز على مذهب الاحكاميين.

(710) ولو سالهم انسان عما فى يده، وقال القيه من يدى فى ساعتى ام لا، فعلى اىّ الطّرفين حكموا. فلا يعجز السايل ان يخالفهم ويبطل احكامهم. فان قالوا: ذلك يبقى فى يديه ساعة مستوية بعد المسالة، فللسّايل ان يلقيه من يده قبل مرور الساعة. وان قالوا: لا يبقى، فللسايل ان يحفظه ويبطل احكامهم.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 154

(711) فاحكام الكواكب ترّهات رثّت حبلها وسافت طلالها، والمغترّ بها يؤول الى شرّ مآل، ويحصل من ظنّه على تخيّل آل. فمن اين ارحل هموم ومحن جرت مسايلها، وسالت جداؤلها، واظلّت سحابتها، وثارت عجاجتها، وما ينسب اليه من منافع الناس خارج عن القياس. (712) قال: فانّها تدعوا الى الكهانة، والمنجم كالكاهن، والكاهن كالسّاحر.

(713) قيل: الغرايب التى فى العالم امّا من هيئة نفسانيّة، والسحر من قبيلها، وامّا من خواصّ اجسام عنصريّة بتقدير اللّه، تعالى، والنيرنجات من قبيلها، وامّا من تأثير سماويّة يكون بينها وبين اجسام ارضية مخصوصة، والطلسمات من قبيلها.

و الكاف كاف التشبيه.

الخطبة 72

شرح الكلام الآخر،

(714) قوله: لا تطيعوه هنّ فى المعروف حتّى لا تطمعن فى المنكر القوة الشهوانيّة غالبة فى النساء، فلذلك كانت ولاية العقل فيهن ناقصة بسبب استيلاء القوّة الشهوانيّة على العقل. ومن عادة الجاهل اذا دعا الى خير فاجيب اليه، اجترأ على الدّعاء الى الشرّ، لانّه امّا ان يعلم انّه خير، فيصير اجابته مفسدة له فى الدعاء الى الشرّ، او يجهل انّه خير، فالشرّ والخير عنده سواء، فيظنّ فى الشرّ انّه خير، فيدعو اليها على حالة واحدة.

فالعقل يقتضى ان لا يجاب الجاهل الى امر من الامور (77 پ).

الخطبة 73

شرح الخطبة الأخرى،

(715) قوله: فلا تغلب الحرام صبركم، معناه المحافظة على العلم بالمحارم، وسوء عاقبتها، فانّ هذين هما الصّارفان عن ارتكابها ويسهّلان السبيل الى الصّبر عنها.

الخطبة 74

(716) قوله: ومن ابصر بها بصّرته، اى [من‏] تفكّر فى الدّنيا، ونظر اليها نظر اعتبار واستدلال، بصّرته، زادته بصيرة وعلما الى العلم، لانّ النظر فى الدليل على وجهه يجب ان يولّد العلم بالمعلوم. فلهذا قال: من ابصر بها بصّرته.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 155

(717) قوله: ومن ابصر اليها اعمته، لانّ الناظر فى الشى‏ء، اذا لم يرد الاستدلال، كان نظره بحدها يعمه نحوه، فاقتضى عمى، ولا يثمر نظره الا ادراكا. واذا كان ادراكا، لم يولّد علما بمعلوم آخر، لا يقتضى علما بغير هذا.

فهذا هو الفرق بين النظرين، اذا كان نظر استدلال، فهو المؤدى الى العلم. وان لم يكن كذلك، اقتصر على المنظور اليه، فلم يثمر علما. ولهذا ينظر الناظران فى دليل واحد، فيعلم احدهما دون الاخر. فهذا معنى قوله: ابصر اليها وابصر بها. و

قيل: بصرت بالشى‏ء علمته. قال اللّه، تعالى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ

من «ابصر بها» اى علم حالها وزوالها، بصّرته، ومن ابصر اليها، اى نظر اليها نظر مايل الى زخارفها، اعمته. يعنى اعمت بصيرته عن الوقوف على الحقائق. ويمكن. ان يكون المعنى: من ابصر بها، اى جعلها آلة وواسطة لادراك السعادة الكبرى. بصر به لانّها الواسطة. كما قال النبىّ، عليه السلام، الدنيا مزرعة الاخرة. ومن ابصر اليها، اى جعلها مقصودة مطلوبة، اعمته. يعنى منعته عن النظر الى ما وراءها من الباقيات الصالحات.

الخطبة 75

شرح الخطبة الغرّاء،

(718) الاغرّ الرجل الشريف. ويقال لملوك العرب ابو الاغرّ، ابو الشريف. والغّراء الشّريفة. ويقال لهذه الخطبة الغرّاء، اى الشريفة.

قوله: علا بحوله، اى بكونه قادرا على اجناس المقدورات، اذ لا سواه من يقدر على كل شى‏ء.

(719) قوله (78 ر) دنا بطوله: اى قرب نعمته واحسانه ورحمته، كما قال وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ. (720) قوله: على عواطف كرمه اى النعم الداعية للعباد الى العبادة والشكر وميل القلوب الى الانقياد لمن اولاها. ولا يؤخذ العواطف هاهنا من قول العرب ما ينثنى عليك عاطفة من رحم ولا قرابة. (721) قوله: الازل، الضّيق والشدّة.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 156

(722) قوله: وأومن به اوّلا باديا، اى انّ الايمان باللّه اوّل ما ادين به من طاعة اللّه وعبادته، وايمانى به ابتدآء دينى ومفتاحه. (723) قوله واحاطكم الاحصاء، اى بيّن واظهر فى اللوح المحفوظ اعداد حمدكم. و

قيل هو مأخوذ من قول اللّه تعالى: لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، ومن قوله: تعالى وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ. وقيل: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ، وهى اعمالهم، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ، اى علم جميع المعلومات.

(724) قوله ارفغ لكم المعاش. الرفغ السعة والخصب. يقال رفغ عيشه، بالضمّ، رفاغة، اتّسع فهو عيش رافغ ورفيغ اى واسع طيّب. ومن ذلك الرّفد الروافغ. الرّفد العطاء والصّلة، والرّفد الصلات، رنق مشربها ردغ مشرعها، الرّدغ الوحل الشديد، وكذلك الردغة بتسكين الدال. (725) قوله: مقبوضون احتضارا، اى كثرت آفاتهم، من قولهم: لبن محتضر، اى كثير الآفات، وانّ الجنّ يحضره، قال اللّه، تعالى: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ان يصيبنى الشّياطين بسوء: (726) قوله مددا، جمع مدّة. (727) قنصت، اى صادت، اقصدت باسهمها، يقال: اقصد السهم، اى اصاب. فقيل: قال الاخطل:

         فان كنت قد اقصدتنى اذ رميتنى   ***   بسهميك، فالرامى يصيب ولا يدرى‏

 

(728) قوله يمضون ادسالا، اى سمع بعضهم بعضا. قوله: صيّور الفناء، صيّور الامر آخره، وما يؤول اليه وهو فيعول. قوله: ومعاينة المحل بتخفيف اللّام اى الشدّة. (729) قوله: (78 پ) الرّعيل، القطعة من الخيل. وضرع الاستسلام، اى الخضوع والذّلّ. (730) قوله: مهينمة، الهينمة الصّوت الخفىّ، والزّبر الزّجر والمنع،

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 157

يقال: زبره، اذا انتهره. (731) قوله الجم العرق ويروى «الفرق». فمن قال: الفرق، يعنى اسكنهم الفرق والرّعب. ومن قال العرق، قال: بلغ العرق افواههم. فشبّه ذلك باللّجام، كانّهم ملجمون على ما ورد الاثر به. مدينون اى مجزيّون محاسبون، ومنه الدّيّان. المستعتب الّذى يطلب الرّضى. سدف اللّيل ظلماته.

فيا لها امثالا اى فيا للامثال. افاد اى ولى الفايدة، وافاد اى تولّى الفايدة. (732) قوله: خلوّ المضمار الجياد، تضمير الفرس ان تعلفه حتّى يسمن، تردّه الى القوّة، وذلك فى اربعين يوما، وهذه المدّة يسمىّ المضمار. (733) قوله: لدار مقامه، المقام بالفتح من الميم، من «قام يقوم» قياما ومقاما، المقام بضمّ الميم من «اقام يقيم اقامة» ومقاما. (734) قوله: حمل لكم اسماعا لتعى ما عناها،

قيل معنى ذلك، انّ الغرض فى خلق السّماع ان يسمع ما ينفعها فى الدين. هذا هو الغرض فى خلق جميع الجوارح للمكلّفين.

(735) قوله وابصارا لتجلو عن عشاها،

المراد بالعشى عمى القلب، وهو الذّهاب عن الحقّ، وانما يتوصّل الى الاستدلال بالاشياء اذا ادركها بعينه.

فاضاف العشى الى الابصار، والمراد ما ذكرنا. كذا ذكره الامام الوبرىّ.

(736) قوله: اشلاء، الشّلو العضو من اعضاء اللّحم، واشلاء الانسان اعضاءه بعد البلى والتفرّق، والاحباء [الجوانب‏]. بارفاقها، اى بسهولة مطالبها، من قولهم: ارفقته، اى نفعته. (737) قوله: مجلّلات نعمه، اى ما عمّ من نعمه. من قولهم جلّل الشّى‏ء تجليلا، اى عمّ. والمجلّل السحاب الّتى يجلّل الارض بالمطر، اى يعمّ.

و اما التشريح وتركيب الانسان والحكمة فى وضع اعضائه، فذكر فى كتاب الطّبّ. وقد سبق التلويح الى طرف منه. (738) قوله: حوانى الهرم، ويروى جوافى الهرم، حنو كلّ شى‏ء

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 158

اعوجاجه والحنوة (79 ر) طأطأة الرّاس وتقويس الظّهر. (739) قوله: حواجز عافية: الحجزة هم الّذين يمنعون بعض الناس عن بعض، ويفصلون فيهم بالحقّ، الواحد حاجز والفئة حاجزة وحواجز. وحواجز عافية هى التى يفصل بين العافية والبلاء. وفى حديث النبىّ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: وينتصر من وراء الحجز. (740) قوله: فى انف الاوان، يقال: كاس انف، ابتدى الشرب بها، ولم يشرب بها ومنها قبل ذلك. الاوان الحين. والجمع آونة مثل زمان وازمنة. وفى الحديث انّما الامر انف، اى يستانف استينافا. (741) قوله: وعلز القلق، القلق خفّة وهلع يصيب الانسان. وقد علز بالكسر يعلز علزا، او بات فلان علزا اى وجعا لا ينام، واذا له علز الوجع من القلق. المضض وجع المصيبة. وقد مضضت بالرجل بالكسر يمضّ مضضا. (742) قوله غصص الجرض، الجرض ان يبتلع ريقه على همّ وحزن، يقال: مات فلان جريصا، اى مغموما. (743) قوله: النواهك، نهكه المرض ضعّفه، ونهكة السّلطان مبالغته فى عقوبة غيره، ونهكت الثوب، اذا لبسته حتّى خلق. ومنه قوله: ابلت النواهك جدّته. (744) قوله: الاجساد شحبة، اى متغيّرة، من قولهم: شحب جسمه اذا تغيّر. قال النّمر بن: تولب: وفى جسم راعيها شحوب. (745) كانّه اوجف الذكر، بلسانه، اى اعمل من قول اللّه، تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما.

و الايجاف حمل البعير على السّير. (746) قوله: الارواح مرتهنة بثقل اعبائها.

قال قوم: هذه اشارة الى العذاب الرّوحانّى.

(747) قوله: تركبون قدّتهم اى طريقتهم. قال اللّه، تعالى: وَ

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 159

أَنَّا. (748) قوله: تارات اهواله، اى اوقات اهواله. (749) قوله: شغل التفكّر قلبه، اشرنا الى الفكر الحقيقىّ فيما تقدّم. ظلف، اى دفع.

تنكّب المخالج، تنكّب تجنّب الشّوك

و قيل: المخالج الشّوك

و

قيل: المخالج ذوات اليمين وذوات اليسار، وكذلك يقال: طعنة مخلوجة، (79 پ) قال امرؤ القيس:

         نطعنهم سلكى ومخلوجة   ***   كرّك لأمين على نابل‏

 

(750) قوله: اعذر بما انذر، مثل للعرب، قد اعرض، من انذر، الاعذار الاتيان بعذر صحيح. والتعذير التفريط: قال اللّه، تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ، اى الذين يؤمنون انّ لهم عذرا فى التخلّف عنكم، ولا عذر لهم. انذر خوّف. ومعنى المثل: من خوّف اتى بالعذر الصّحيح التامّ، وبلغ العذر الى كلّ غاية. (751) قوله لم تفتله فاتلات الغرور، اى لم تصرفه صوارف الغرور، من قولهم: فتله عن وجهه، اذا صرفه، وهو قلب «لفت». (752) قوله: اكمش فى مهل، الكمش، الرجل السّريع الماضى. (753) قوله: نظر قدما امامه، روى ذلك بكسر القاف، اى دايما.

جعل العرب «قدما» اسما من اسماء الدوام. ومعنى «قدما» بضم القاف والدال، اى تقدّم ولم ينثن. (754) قوله حذركم عدوّا، عنى به ابليس. النجىّ المناجى. نفذ فى القلوب خفيّا، يعنى: يوسوس فى صدور الناس. (755) قوله فاضلّ واردى، ماخوذ من قول اللّه، تعالى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ. (756) قوله: وعد فمنّى، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: يَعِدُهُمْ‏

--------------------------------------------------------------- صفحة 160

 يَعِدُهُمْ وَ، يُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا. (757) قوله زيّن سيّئات الجرائم، ماخوذ من قول اللّه، تعالى: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ، لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ، والثانى مأخوذ من قول اللّه تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ، الى آخر الاية... (758) و

قال الامام الوبرىّ فى قوله: ومدد عمرها: أى انّ الاعضاء فى الاكثر تتعادل وتتقارب قواها، فلذلك قال فى تركيب صورها ومدد عمرها.

(759) قوله: بابدان قائمة بارفاقها، قال اى يقوم الابدان بالمنافع. قوله: وقلوب رايدة لارزاقها:

(760) قال الامام الوبرىّ: بالقلوب يعرف مطالب الارزاق. وقال غيره ارزاق القلوب اطمينانها.

قوله: (80 ر) فى مجلّلات نعمها.

(761) قال الامام الوبرىّ: اى انّ هذه الابدان وما فيها من المنافع معدودة فى مجلّلات نعم اللّه، تعالى، وهى السواتر للعباد عمّا يهلكها ويوفقها بلحوق النقائص بها

(762) قوله: من موجبات مننه. اى من نعمه الموجبة لشكره عليكم ويحتمل موجبات زوايد نعمه. لان السّابق من آلاء اللّه، وان كان فضلا، فانّه يفضى الى وجوب نعمته بواسطة الشكر. فيجوز ان يضاف موجب الشكر الى النعمة الاولى. فيقال: انّ الفعل يوجب نعما فى الثانى. (763) قوله: وحواجز عافية، [يعنى الامور المتصلة بالعافية الّتى تحول بين الانسان وبين ما يفسده ويفضحه. فما دام معافا، فانّه يحال بينه وبين ما ينافى العافية]، ولذلك قال: وحواجز عافية. (764) فصل فى خلق الانسان. اعلم انّ اللّه سبحانه، خلق الانسان وجعل طول قامته مناسبا لعرض جبينه، وعرض جبينه مناسبا لعمق تجويفه، وطول ذراعيه مناسبا لطول عنقه وظهره، وكبر راسه مناسبا لكبر جثّته، واستدارة وجهه مناسبا لعرض جبينه وقدر صدره وشكل عنقه مناسبا لشكل فمه، وطول‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 161

انفه مناسبا لعرض جبينه، وقدر اذله مناسبا لمقدار خدّيه، وطول اصابعه مناسبا لاصابع رجله، وكبر راسه مناسبا لكبر كبده ومقدار قلبه مناسبا لكبر راسه، وطول معاءه مناسبا لكبر كبده، وشقّ حلقومه مناسبا لكبر رأسه، وغلظ اعضائه مناسبا لكبر عظامه، وطول اضلاعه مناسبا لصندوق صدره، وطول عروقه مناسبا لأظفاره، يعرف ذلك من معرفة علم النسبة، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً. (765) قوله: شغف الاستار، والشغف الغلاف، محاقا اى مرشوشا. (766) هاهنا نذكر مراتب الانسان من طريق اللغة والمعنى.

اقول: ما دام الانسان فى الرّحم، فهو جنين: فاذا ولد فهو وليد، فما دام يرضع فهو رضيع. فاذا قطع عنه اللّبن فهو قطيع وفطيم. ثم اذا دبّ ونمى، فهو دارج. فاذا بلغ طوله خمسة اشبار فهو (80 پ) خماسىّ. فاذا سقطت رواضعه، فهو مثغور. فاذا بلغ الحلم، فهو يافع ومراهق.

و لم يذكر امير المؤمنين سوى ذلك.

(767) وعند الاطبّاء 1 «الاسنان اربعة فى الجملة: سنّ النّموّ، ويسمّى سنّ الحداثة، وهو الى قريب من ثلثين سنة، ثم سنّ الوقوف وهو من الشباب، وهو الى نحو من خمس وثلثين سنة او اربعين. وسنّ الانحطاط مع بقاء من القوة، وهو سن المكتهلين، وهو الى نحو من ستّين سنة. وسنّ الانحطاط مع ظهور الضّعف في القوة، ومن سنّ الشيوخ وآخر العمر. لكن سنّ الحداثة ينقسم الى سنّ الطفولة، وهو ان يكون المولود بعد غير مستعدّ الاعضاء للحركات والنهّوض. والى سنّ الصبى، وهو بعد النهوض وقبل الشدّة، وهو أن لا يكون الاسنان قد استوفت السّقوط والنبات. ثم سنّ الترعرع، وهو بعد الشدّة ونبات الاسنان قبل المراهقة. ثم سنّ الغلاميّة والرهاق، الى ان يبقل وجهه.

ثم سنّ الفتى الى ان يقف النّمو».

(768) وقيل: «انّ النطفة فى القرار المكين يصير علقة بعد خمسة

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 162

عشر يوما، ثم يصير العلقة مضغة بعد ثلثين يوما. واذا كان الجنين ذكرا، صار خلقه تاما بين الثلثين والاربعين. واذا كان انثى، كان بين الاربعين والخمسين. وهذا معنى قوله: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، واذا تمّ خلق الجنين فى احد وثلثين يوما يتحرّك فى البطن فى اثنى وستّين يوما، فيكون ايام الحركة ضعف ايّام تمام الخلق، ويكون مدة الحمل. ثلثة اضعاف مدّة الحركة. الا انّ المولود الذى تولّد فى الشهر الثامن لا يعيش بتقدير اللّه، تعالى. لكن الاصل فى عام الحمل سبعة اشهر».

(769) وخلق اللّه، تعالى، الانسان من الاعضاء المفردة والاعضاء المركّبة كما سبق بيانها. وخلق الانسان مثال مدينة 1 فيها عيون: احديها مأوها حلو، والاخرى ماؤها مالح، والاخرى (81 ر) ماؤها منتن، والاخرى مرّة.

و للجسد حيطان خمسة: الحائط الاول الشعر، والثان الجلد، والثالث اللّحم، والرابع العظم، والخامس المخّ. وفيه من العروق ثلثمائة وستون يشبه الانهار.

و لهذه المدينة ابواب: العينان والاذنان والمنخران، وغير ذلك. والشهوة فى جسد الانسان مثل عامل الخراج. والغضب مثل الشّحنة، والعقل مثال الملك العادل، والحواسّ كالجواسيس. والعظام كالجبال، والشعور كالنبات، والدماغ شبه الأثير. والقوة الّتى فى المعدة التى يطبخ الطّعام يشبه الطّباخ. والتى يوصل الصّافى الى الكبد ويخرج الاثفال كالعصّار. والّتى تصبغ الصافى من الطّعام فى الكبد ويجعله على لون الدم كالصّباغ. والتى يبيّض الدم ويجعله فى الثّدى لبنا خالصا، وفى اوعية المنى منيّا ابيض كالقصّار. والتى تجذب الغذاء من الكبد فى كل جزء كالجّلاب والمسافر. والّتى تسقى من الكبد كالسّقّاء، والّتى يخرج الاثفال كالكنّاس. والتى يهيّج الصفراء والسودآء كالعيّار المنقّد.

و التى يدفع الصفراء والسوداء يشبه الرئيس العادل. فهذه تفاصيل قوله: فى تفاصيل، خلق الانسان، فى هذه الخطبة وفى ما سبقها من الخطبة. (770) قوله: خبط سادرا ماتحا فى غرب هواه، خبط البعير بيده خبطا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 163

ضربها، وخبط الرّجل، اذا طرح نفسه حيث كان لينام. قال الشاعر: يشدخن بالليل الشجاع الخابطا. السادر المتحيّر. والسادر الّذى لا يهتمّ ولا يبالى ما صنع. والماتح المستقى. الغرب الدلو العظيمة. (771) قولى فى لذّات طربه وبدوات اربه. معناه ما قال الحكيم لا مطمح لبصره فى اولاه واخريه، الّا فى لذات قبقبه وذبذبه. غرّ وغرير اى غير مجرّب، الغيّر البقيّة من كلّ شى‏ء. قال الشاعر:

         ومبرّا من كلّ غيّر حيضة   ***   وفساد مرضعة ودآء مغيل‏

 

(772) السّنن الطريقة. (81 پ) يقال امض على سننك اى على وجهك، ويقال تنحّ عن سنن الخيل، اى عن وجه الخيل.

(773) يقال هذا شقيق هذا، اذا انشقّ الشّى‏ء بنصفين، فكلّ واحد منهما شقيق الآخر، ومنه قيل: فلان شقيق فلان، اى اخوه.

قال الشاعر وقد صغّره:

         يا ابن امّى ويا شقيق نفسى   ***   انت خلّيتنى لامر شديد

 

فهذا معنى قوله بين اخ شقيق. (774) قوله غمرة كارثة، يقال كرثه الغمّ يكرثه بالضم اى اشتدّ عليه وبلغ منه المشقّة، واكرثه مثله. قال الاصمعىّ لا يقال: كرثه، وانّما يقال: اكرته.

قال الاغرّ: وقد تجلّى الكرب الكوارث. فالكارثة هاهنا الّتى تأتى الحزن. ويروى: كاربة، رجيع فعيل بمعنى مفعول. البهتة التحيّر. نزول الحميم، اى نزول العذاب بعضه على بعض، و

قيل النّزول ها هنا الماء النازل من الحميم.

(775) قوله لا قوّة حاجزة ولا موتة ناجزة. مأخوذ من قول اللّه، تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا. (776) اولى الابصار، تقديره يا اولى الابصار. المتاع السّلعة،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 164

و المتاع المنفعة، وما تمتّعت به.

قال اللّه، تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ. المحار المرجع.

قال الشاعر:

         نحن بنو عامر بن ذبيان   ***   والناس كهام محارهم للقبور

 

(777) قوله: قيد قدّه، اى قبره، الآن عباد اللّه، اى اعملوا الآن. فى فينة الارشاد، اى فى ساعة الارشاد. (778) قوله انف المشيّة، يقال: روضة انف، اى لم يرعها احد، وكاس انف لم يشرب بها قبل ذلك، كانّه استونف شربها ويقال آتيك من ذى انف، كما يقول: من ذى قبل، اى فيما يستقبل.

الخطبة 76

شرح كلامه فى عمرو بن العاص.

(779) روى انّ امير المؤمنين.

عليه السلام، فى صفّين دعا الى البراز، فبرز اليه عمرو بن العاص، فتجاولا فلما تامّله عمرو، عرف انّه علىّ، ولا طاقة له به. ثمّ حمل عليه علىّ، ليقتله، فلما رأى ذلك عمرو، علم انّه يضربه، فالقى نفسه عن فرسه، وكشف (82 ر) عورته مواجها لعلىّ. فلما رأى علىّ ذلك، غضّ بصره. فانصرف عمرو مكشوف العورة، حتّى نجا بسبب ذلك. (780) قوله عجبا لابن النابغة. هو عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعد بن كعب بن لؤىّ. وامّه النابغة. يقال نبغ الرجل اذا لم يكن له ارث الشعر، ثم قال، فاجاد، ويقال: للملوك النوابغ، [اذا] لم يكن فى نسبهم ملك، ثم ملكوا، فاجادوا. والنابغة فى اسامى الرجال، والهاء للمبالغة، وفى اسامى النسآء علامة التانيث. التلعابة الكثير اللعب. والمعافسة المغالبة. وعفسه ضربه على عجزه. واعتفس القوم، اى اضطرعوا. ويقال: المعافسة الممارسة. والتّلعابة بكسر التاء كثير اللعب، والتّلعاب بالفتح المصدر.

فى صحاح اللغة: المعافسة المعالجة

و فى الحديث: وعافسنا النسآء. ويؤتيه اتيّة، يعنى يفوّض اليه ولاية المصرين.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 165

الرّضخ العطاء، ليس بالكسر، وفى الحديث امرت له يرضخ.

الخطبة 77

شرح الكلام الآخر،

(781) قوله: لا تقع الاوهام له على صفة،

قيل: معناه لا مثل له فيشاهد، فذكر الصفة، واراد الموصوف، كانّه قال: لا يتوهّم موصوف مثله، ولا يتصور، لانّه لا مثل له. والثانى انّه ليس بجسم، فيدرك بالحواسّ. والادراك يتعلّق بالمدرك على اخصّ صفاته. وقيل معناه ما تقدّم انّ القوة المتوهّمة من شانها ان تحكم فى كل شى‏ء، ولكن لا تحكم البتّة الّا على ما يجعل الشى‏ء به داخلا فى المحسوسات، لا غير. فلذلك لا تصدّق بما لا يمكن ان يشار اليه اين هو. وبالجملة لا يمكنها ان تعرف ذاتها او يتصوّرها الا بان تغيّر وجودها الى صورة محسوسة. ولما كان الامر على هذا، فانّ الامور الّتى هم اعمّ من المحسوسات او ليست محسوسة بوجه من الوجوه، فانّ احكام القوة المتوهّمة فيها كاذبة لا محالة ان يصدّق بها ولا يتصوّرها الا على نحو محسوس

(782) قوله: ولا يقعد القلوب منه على كيفيّة. الكيفيّة كل صفة متقرّرة فى الموصوف (82 پ) لا يحوج تصورها الى نسبة الى خارج، ولا تجزية. وقد تضادّ وتشتدّ وتضعف. ومثاله بياض وشكل، تعالى اللّه عن ذلك.

الخطبة 78

(783) قوله: قبل ان يؤخذ بكظمه، اى يخرج نفسه كما تقدّم. وسمّى آثاركم،

قيل: اى خصّ، من قولهم سمّى النقمة، اى خصّها.

قال العجّاج:

         هو الّذى انعم نعمى عمّت   ***   على الذين اسلموا وسمّت‏

 

اى بلغت الكلّ باس الرّجل يبأس بأسا، اذا اشتدت حاجته

(784) قوله: بما استحفظكم من كتابه، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ. ولما استودعكم من حقوقه من قوله: عَلَّمَهُ الْبَيانَ. (785) قوله: يسير الرّياء شرك، مأخوذ من قول النّبىّ، صلّى اللّه عليه وآله‏

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 166

و سلّم: الشرك اخفى فى امّتى من دبيب النملة السّوداء على الصّخرة الصّماء فى الليلة الظلماء، الّا وهو الرّياء،

قيل: اراد بالشرك العصيان، فشبّه العصيان بالشّرك، كانّ العاصى والمراءى يراءى النّاس، ويحترس منهم كمراقبته للّه.

و قيل انه يضمر من تعظيم الخلق ما يضمره الموحّد من تعظيم اللّه، ويبنى عليه فعلا موافقا لذلك التعظيم.

(786) جانبوا الكذب، فانّه مجانب للايمان، لا يفهم منه انّ كلّ كذب مناف للايمان، وكلّ كذب كفر، بل المراد ان الكذب ليس من الايمان ولا من شرائطه. و

قال قوم: هاهنا اضمار، وهو انّ الكذب على اللّه وعلى رسوله كفر، فانّ المؤمن لا يكذب على اللّه قطّ.

(787) قوله: انّ الحسد يأكل الايمان كما تأكل النّار الحطب، هذه اشارة الى فسق الحاسد، فانّه لا يجوز تشبيهه باكل النار الحطب الّا على هذا المعنى. و

قيل من الحسد ما يكون كفرا وما يكون فسقا.

و

قال قوم: الحسد ضدّ المنافسة، والمنافسة طلب الترقّى والتشبّه بارباب الفضائل، والمنافسة من آداب الموحّدين، والحسد من اخلاق الجهّال.

(788) قوله: فانها الحالقة، الحالقة من اسماء الدّاهية. احدث ذلك من المرأة التى يحلق شعرها عند المصائب، (83 ر) فهى حالقة، ومنها احدث ذلك. حلّاق، وهى مثل قطام، للمنيّة. بنيت على الكسر، لانّها حصل فيها العدول والتأنيث والصّفة الغالبة، وهى معدولة من حالقة. (789) فأكذبوا الامل، معناه ما قال لبيد الشاعر:

         اكذب النفس اذا حدّثتها   ***   انّ صدق النّفس يزرى بالامل‏

 

الخطبة 79

(790) قوله: فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، عبارة من اعلى مقامات الموحّدين. (791) قوله: وتصيير كلّ فرع الى اصله، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ، و

قيل مأخوذ من قول اللّه، تعالى:

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 167

 ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً

(792) قوله: ولا مظنّة الّا قصدها، مظنة الشى‏ء موضعه ومألفه الذى، يظنّ كونه فيه، والجمع المظانّ. يقال: موضع كذا وكذا مظنّة من فلان، اى معلم فيه. قال النابعة.

         فان يك عامر قد قال جهلا   ***   فانّ مظنّة الجهل الشّباب‏

 

و يروى «مطيّة»، و«السّباب» ايضا رواية. (793) قوله الصورة صورة انسان، والقلب قلب حيوان، يعنى استولت القوّة الشّهوانيّة عليه، كما استولت على البهايم والانعام، والقوة الغضبيّة كما استولت على السّباع. (794) قوله ميّت الاحياء، اى عقله اسير هواه، فصير كانّه ميّت لا ينفعه عقله. (795) قوله خذوها، الهاء عايدة الى هذه الكلمات والحكم التى هو يحكيها. (796) قوله: يموت من مات منّا، وليس بميّت، ويبلى من بلى منّا وليس ببال.

قيل: معناه ما قال اللّه تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وقوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ: اللَّهِ، أَمْواتٌ بَلْ.

و

قيل: معناه انّ ذكرهم يبقى وتعظيمهم يثبت مدى الدهر الى يوم القيامة. يقال للميّت العالم فلان حىّ، ويراد بذلك اثره وفوائد علمه وتصانيفه.

(797) قوله: فانّ اكثر الحقّ فيما تنكرون، معناه ما قال الحكيم: ايّاك ان يكون تكسّبك وتبرّؤك من العامّة هو ان تنبرى منكرا لكل شى‏ء، (83 پ) فذلك طيش وعجز وليس الخرق فى تكذيبك ما لم يستبن لك جليّته دون الخرق فى تصديقك بما لم تقم بين يديك بيّنة. المنار علم الطريق. والهاء عايدة فى قوله: منصوبة، الى البقعة التى فيها علم الطّريق.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 168

(798) قوله الثّقل الاكبر والثقل الاصغر.

قيل الاكبر، كتاب الله، والاصغر عترة النّبى، عليه السّلام.

قال النّبىّ، عليه السّلام: انّى تارك فيكم [الثقلين‏]. الثقلان الجنّ والانس، سميّا ثقلين لانّهما ثقلا بالتّمييز الّذى فيهما على ساير الحيوانات. وكلّ شى‏ء له قدر ووزن يتنافس، فهو ثقل، ومنه قيل لبيض النّعام: ثقل، لانّ آخذه يفرح به وهو قوت وقال ثعلب سمّاها رسول اللّه الثّقلين، لانّ الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل. والعرب يقول: كلّ نفس ثقل.

فجعلهما ثقلين اعظاما لقدرهما وتفخيما لشأنهما. (799) قوله: ركوت، اى دخلت فى الارض. قوله لا تستعملوا الرأى فيما لا يدرك قعره البصر، هو النهى عن تكليف طلب ما لا دليل عليه، ولا سبيل للانسان فى هذا العالم الى معرفته من طريق التفصيل، سواء كان عقليّا او سمعيّا. (800) قوله ولا تتغلغل اليه، اى لا يصل. (801) قوله بل هى مجّة، اى قطعة، برهة، اى زمانا.

الخطبة 80

شرح الكلام الآخر

(802)، ما كل ذى قلب بلبيب، اى يستعمل عقله وبصره غالبا على القوى البدنيّة. (803) قوله: فيما ترى، اى فيما تظنّ.

الخطبة 81

شرح الكلام الآخر،

(804) قوله: وطول هجعة من الامم. هذه اشارة الى عموم الجهالة فى اهل الارض قبل مبعث رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وانّ تلك الحالة قد طالت عليهم، وانّهم اشتركوا فيها على اختلاف فرقهم.

فلما بعث اللّه محمدا، جمعهم على شرع واحد. وهجعة اى نومة خفيفة من اوّل الليل. (805) واذكروا تيك، اى الحالة.

الخطبة 82

شرح الكلام الآخر.

(806) قوله: الخالق من غير رويّة، معناه انّ الفاعل انّما يحتاج فى افعاله المحكمة الى التفكّر والتامّل اذا لم يعلم (84 ر)

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 169

ما يريد فعله، او يهمّ بفعله. وانما يصحّ ان يعلم اذا علم بعد ما لم يعلم. واللّه تعالى عالم فيا لم يزل ولا يزال، فلا يحتاج الى التفكّر والتروّى. فيعلم المعدوم كما يعلم الموجود. ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة فى السموات ولا فى الارض. عازّه اى غالبه.

الخطبة 83

شرح الخطبة الّتى يقال لها خطبة الاشباح،

(807) قيل: سمّيت هذه خطبة الاشباح لانّ امير المؤمنين ذكر فيها الاشباح اى الاشخاص.

و قيل: المراد بالاشباح انّها خطبة طويلة، لها امتداد من قولهم: الحرباء تشبّح على العود، اى تمتدّ. ومن قولهم: شبحان اى طويل. فاصل الشبح الطّول والامتداد والعرض. ومن ذلك رجل شبح الذّراعين.

(808) قوله: فغضب امير المؤمنين،

قيل: غضب احمرّ، من قولهم: احمرّ، غضب.

و قيل معناه فى قوله: غضب: انّه عرف انّ السايل متعنّت لا مستفيد، وقد نهى اللّه، تعالى، عن سؤال التعنّت، فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.

(809) قوله لا يفره المنع، «وفر» لازم ومتعدّ، وهاهنا متعدّ. ويروى «لا يعرّه» اى لا يعيبه. و

قيل: لا يدخل عليه المكروه. وقيل: معناه لا يزداد ما عنده، اذا لم يفعله ولم يعطه احدا من خلقه، فلا يزداد غنى يمنعه.

و تحقيق ذلك انّ الزيادة والنقصان انّما يتناهى فى المحدود. فاذا كانت مقدورات اللّه، تعالى، لا حدّ لها ولا نهاية، لم يجز الزيادة عليها، لانّه يستحيل ان يكون وراء ما لا يتناهى شى‏ء، فينضمّ اليه. واذا استحالت الزيادة فيه، استحال النقصان منه. ويستحيل ان ينقص مقدوراته لو لم يفعل منها شيأ، فيستحيل ايضا ان ينتقص، وان فعل منها، واوجد منها ما لا يحصى كثرة. فذلك معنى قوله: لا يفره المنع، ولا يكديه الاعطاء. وكلّ معط منتقص سواه. الاكداء قلة الخير. يقال: اكدى الرّجل، اذا قلّ خيره. واكدى الحافر اذا ابلغ الكدية، ولا يمكنه ان يحفر.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 170

(810) قوله عياله الخلق، يعنى: يستطعمونه. (811) قوله: (پ 84) وكلّ مانع مذموم ما خلاه،

قيل: لانّ المانع اذا منع رفده، لحاجته اليه، وان كان غيره محتاجا اليه، فانّما يذمّ لا [لانّه‏] ينفع نفسه، بل منعه حقّ غيره. فمنعه لحاجته لا ينفع به دون غيره، وانما تدعوه الى المنع حاجته. واما القديم، تعالى، فانّما يدعوه الى المنع صلاح عباده.

فكما انّ اعطاءه صلاح، فكذلك منعه صلاح، وكذلك يمدح، تعالى، بمنعه كما يمدح باعطائه.

(812) قوله: وليس بما سئل باجود منه بما لم يسئل

قيل: انّما يستوى المسئول وغير المسئول عند اللّه، تعالى، اذا استويا فى الصّلاح. فاذا كان غير المسئول صلاحا، جادبه، واذا لم يكن المسؤول صلاحا، لم يعطه.

و اذا استويا فى الصلاح، أعطاهما. واذا استويا فى الفساد، ما اعطاهما

(813) قوله: الاوّل الّذى ليس له قبل فيكون شى‏ء قبله.

قيل: معناه، ليس له اوّل وابتدآء، فيكون شى‏ء قبله حينئذ، لانّ كلّ حادث يجوز ان يحدث قبله غيره.

(814) قوله: والاخر الّذى ليس له بعد، فيكون شى‏ء بعده،

قيل: لانّه ليس لوجوده انتهاء، فيجوز ان يوجد شى‏ء بعده، او يبقى غيره بعده. وكل ذلك انما استحال عليه، لكونه قديما، لانّه يجب وجوده، فيما لم يزل ولا يزال، فانّما استحال وجود شى‏ء قبله ولا معه، واستحال وجود غيره معه وبعده، لانّه واجب الوجود فى نفسه وهو معنى القديم.

(815) وقال بعض المفسّرين: انّ الاوّل والآخر من الاسماء الّتى يتعلّق معانيها بالاضافات، وليسا باسمين مقصورين على مسمّيين باعيانهما. واذا تعلّقا بالاضافات، صلح ان يكون الاوّل نفسه آخرا، والآخر [اوّلا]، من جهته على اعتبار الاضافات المختلفة. والّذى يراعى من معنى اضافة الآخر اليه فى هذا المكان هو الذى تضمّن ذكره قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى‏ وَجْهُ‏

 

---------------------------------------------------------------

صفحة 171

رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ. واللّه، تعالى، يفنى كلّ حىّ، فلا يبقى احد حيّا.

و اذا وقع الافناء عليهم قبل حشرهم، فقد حصل معنى الاوّل والآخر. لانّ الاسم المضاف اذا حصل له (85 ر) اضافة مّا، فقد استوفى حقّه. الا ترى انّا اذا قلنا: فلان اب، لا يلزمنا ان يكون اب كلّ من يقال له الابن والبنت. بل اذا حصلت الابوّة بوجه من الوجوه، فهو اب لا محالة. وهذا القول متين مقبول.

(816) قوله: الصلوة جامعة، يعنى بذلك اضمار [فعل‏] الصلوة. ايضا بيت يصلّى فيه، وكذلك المصلّى، لذلك يقال حين ارادوا حضور النّاس فى المسجد: الصلوة جامعة، بنصب التّائين ورفعهما. اما الرفع يعنى: نفعه الصلوة جامعة لكم. وقد يذكر العرب المضاف اليه من دون المضاف. وقد يذكر الصلوة والمراد به موضع الصلوة، قال اللّه، تعالى: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ. وامّا الصلوة بنصب التاء فمنصوبة باضمار فعل، والمراد: لازموا الصلوة، اى احضروا الصلوة، والمراد موضع الصلوة، جامعة. من ضمّ التاء من جامعة، يعنى: الصلوة جامعة، كما يقال للغّل: جامعة، لانّه يجمع اليد الى العنق. ومن قال: جامعة، يعنى احضروا الصلوة، واجعلوها جامعة لكم. (817) قوله ما اختلف عليه [....] الانتقال، معناه مصاحبة الاوقات الاشياء بناء على مصاحبة الحوادث لها. فما جاز ان يصحبه حادث، جازان يختلف عليه الوقت. وما لم يجز ان يصحبه الحادث، استحال تعاقب الاوقات عليه. فاذا كان اللّه قديما، استحال عليه الحوادث، فاستحال اختلاف الاوقات عليه، لانّ الاوقات حوادث كساير الحوادث. واذا لم يجز اختلاف الاوقات عليه، لم يجز عليه تغيّر الاحوال من صغر الى كبر، ومن نقصان الى زيادة، ومن قوة الى ضعف. و

قال قوم: الدهر هو المعنى المعقول من اضافة الثّبات الى النفس فى الزمان كلّه، والزمان فهو مقدار الحركة من جهة المتقدّم والمتأخّر.

(818) امّا معنى «لا كان فى مكان» لانّ الكاين فى المكان ليس‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 172

الّا الجسم. والعرض بواسطة يوصف بالمكان. فاذا استحالت الامكان على القديم استحال عليه الانتقال. (85 پ) لانّ التحرّك يتّبع التحيّز، فاستحالة التحيّز يؤذن باستحالة التحرّك والانتقال.

قال بعض المفسرين: خاينة الاعين اى مسارقة الاعين

و

قيل: النظرة بعد النظرة. وقيل: خيانة الاعين.

(819) وقال بعض المفسرين: فيه تقديم وتأخير، اى الاعين الخاينة.

قال ابن عباس: هو الرجل يكون جالسا مع القوم فمنّ بهم امراة فسارقهم النظر اليها.

و قال مجاهد: هى النظر بالاعين الى ما نهى اللّه عنه.

(820) قوله: من فلزّ اللّجين والعقيان،

قيل الفلزّ اصل كلّ شى‏ء من الفضة والذهب والنحاس والآنك والرّصاص والزّرنيخ والكبريت والملح والزّاج والنوشادور.

و

فى كتاب صحاح اللغة الفلزّ بكسر الفاء وتشديد الزاء ما يبقيه الكير ممّا يذاب من جوهر الارض.

(821) قوله: وحصيد المرجان، المرجان ينبت فى بحر افرنجة، والابيض منه فى بحر الروم، وصنف منه يقال له: الهاسجا، ينبت فى بحر المغرب. وينبت المرجان فى قرار البحر، وهو شبه شجرة ذات اغصان واصول ينشعب بعضها من بعض ويبلغ ستّين مثقالا. ويقال: انّ المرجان يخرج ويحصد بكلاليب من حديد، وله غاصة يغوصون عليه فيجدونه، وقد يقطع بالحديد الّذى له شعبتان على خطّين متوازيين ويحكّ على حجر اصمّ، يؤتابه من وادى الضّمرة، فلذلك قال امير المؤمنين عليه السّلام: وحصيد المرجان، لانّه شبه شجرة ينبت فى قعر البحر. (822) قوله: فما دلّك القرآن عليه من صفته، معناه انّ ما وجب من المعارف على العاقل فى حقّ اللّه، تعالى، الراجعة الى التوحيد والعدل قد ضمّنه اللّه، تعالى، القرآن والسنّة والجماعة، فليس فى تكليفنا معرفة باللّه، تعالى، الّا وهى مذكورة فى هذه الطّرق الثلث او فى احديها، وهى الجمل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 173

الواجبة على كل مكلّف يشترط فى صحة الايمان، وما وراء ذلك ممّا لم يذكر فى هذه الحجج الثّلث لا يجوز ان يجب علينا، ويكون اصلا فى الدين. وليس معنى الكلام المذكور انّ (86 ر) الطريق الى معرفة اللّه تعالى القرآن، بل المراد بذلك انّ العقليّات الواجبة الراجعة الى العلم قد ورد بجميعها السمع.

فكلّ قول واعتقاد عدّ اصلا فى الدين، فالسمع نطق به. وما لم ينطق به السمع فخارج عن التكليف. ونعنى بذلك الاصول المشروطة فى الايمان دون تفاصيلها وفروعها. (823) قوله: فكل علمه الى اللّه، تعالى، فانّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك.

(824) قال قوم: معناه انّ قوى البشر قاصرة عن ادراك حقايق اكثر الاشياء. وبالعقل الانسانىّ لا يدرك ولا يعرف جميع المعقولات والمعلومات، كما قال اللّه، تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ، وقال اللّه، تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ. فلذلك قال: فكل علمه الى اللّه.

(825) قوله واعلم انّ الراسخين فى العلم هم الّذين اغناهم اللّه، تعالى، عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب، السّدد جمع السّدّة، وهو ما وجد مصنوعا، وما لم يوجد مصنوعا فهو سدّ.

(826) قال بعض اللغوّيين: السّدّ بضمّ السّين من فعل اللّه، تعالى، والسّدّ بالفتح من فعل الآدميّين، قال الكسائى: هما بمعنى واحد.

(827) قال الامام الوبرى 1: معنى ذلك انّ العلم بالمعلوم يكفى للعالم، فلا يحتاج الى العلم المجمل ان كان باقيا فى بقائه الى العلم المفصّل.

و كذلك العلم بمعلوم آخر اذا لم يقتض العلم الاول لثانى. ولهذا لا يضرّ العوامّ والنساء اصحاب الجهالة ورود الشبهة والا سئولة عليهم، اذا لم يعرفوا حلّها وجواباتها. واذا لم يضرّ الجهل بالمعلوم، وان كان الطريق الى علمه واضحا، فلان لا يضرّ الجهل بما لا طريق اليه اولى.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 174

و هذا معنى قوله: من الغيب المحجوب، لان الغيب المحجوب هو الّذى يختصّ اللّه، تعالى، بعلمه، ولا طريق للعباد اليه. (828) قوله: سمّى تركهم التعمّق [رسوخا] من قوله، تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، الى آخر الاية. تولهت اى تحيّرت، (86 پ) والوله ذهاب العقل، ويروى تواهقت من الايهاق. غمضت اى صارت غامضة، ردعها، جواب اذ، «ردع»، «وجبه» و«زجر» واحد. معنى ذلك انّ اللّه، تعالى، فاطِرُ السَّماواتِ وَ. ثمّ اذا خطر بقلب العاقل التماس المثل والنظير له، فقد هلك. ومن عادة العاقل طلب المثل والنظير لكل غايب يعتقده، وهذا كما ذكرنا من قضايا الوهم. فاذا جرى على هذه العادة، فقد هلك. ولا يعرف منتهى مقدوراته، لانّه لا نهاية لها، وكان حصول النهاية لها محالا. (829) ومعنى قوله: وحاول الفكر المبرّأ، الى قوله: «ردعها»، انّه اذا اراد العاقل معرفة تفاصيل افعاله واعدادها وكيفيّتها، ولم يكلّفه اللّه، تعالى، ذلك، ولم يجعل له سبيلا اليه، منعه اللّه. والمنع انّه لم يجعل له سبيلا، وربّما يصرفه اللّه، تعالى، من ذلك بنوع من الصوارف ظاهرا وباطنا. المساك بفتح الميم المكان الذى يمسك الماء، عن ابى زيد.

(830) قوله وتولّهت القلوب اليه، المعنى انّ طلب الغاية فى ثبوت صفاته محال. لانّه، تعالى، قديم، فانتهاؤه اوّلا وآخرا محال. و

قيل: انّ العلماء اختلفوا فى ثبوت الصفات للقديم، تعالى بعدد المقدرات والمعلومات. فعلى هذا القول. لا نهاية لصفاته فى كونه قادرا وعالما، وان كان القول الآخر هو الصحيح انّ له صفة واحده بكونه قادرا على ما لا نهاية له، كذا فى كونه عالما.

(831) قوله: غمضت مداخل العقول: يراد بذلك انّ من اراد ان يكون علمه باللّه، تعالى، بالجلاء والظهور كالضرورة، فلا سبيل له الى ذلك لامتناع التكليف معه.

و قال قوم قوى البشر قاصرة عن الوقوف على كنه غاية معرفة اللّه، وانما يعرف انّه موجود واحد لم يزل ولا يزال لا مثل له ولا شبه له‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 175

و لا علة له ولا تغيّر فى ذاته، وامثال ذلك. اما معرفة انّ وجوده مخالف لوجودنا فمعرفة غير مفصّلة عندنا (87 ر) بل هى مجملة، لانّه لا يجوز ان يقال: انّ وجوده، تعالى، يخالف وجودنا بفصل او خاصّة. فانّ اللّه تعالى عن ذلك.

و كيف يتصوّر انّ وجوده انيّته او داخلة فى انيّته. هذا معنى قوله: لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته. وهؤلاء الّذين زعموا ذلك تمسّكوا بقول النّبىّ، عليه السلام: لو عرفتم اللّه حقّ معرفته، لزالت بدعاءكم الجبال الرّاسيات، ولا يبلغ احد كنه معرفته. فقيل: ولا أنت يا رسول اللّه، قال ولا انا، اللّه اجلّ واعلى من ان يطلع على كنه معرفته بشر.

(832) قوله هو القادر الّذى اذا ارتمت الاوهام ليدرك منقطع قدرته، الى قوله: ردعها، وهى تجوب مهاوى سدف الغيوب متخلّصة اليه، سبحانه وتعالى، فرجعت اذ جبهت معترفة بانّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته. (833) قوله: تجوب مهاوى سدف الغيوب متخلّصة اليه، سبحانه وتعالى، نظير ذلك ما ينظمه الشاعر من الالفاظ ويؤلّفه من المعانى فى الغزل او النّسيب متخلّصا الى مدح الممدوح، لانّ المدح هو المقصود دون النسيب والغزل. فكذلك هاهنا.

(834) واما المعنى لهذا الكلام فمعنى ذوقى، وهو ما نقل عن عالم ربّانىّ وحكيم الهىّ انه قال: انّى ربما خلوت بنفسى كثيرا وخلعت بدنى، وصرت كانّى عقل بلا جسد، اعنى من كثرة ما تفكّرت فى المعقولات المجرّدة عن الموادّ، فاكون داخلا فى ذاتى، وراجعا اليها، وخارجا عن ساير الاشياء سواى، فارى فى ذاتى من الحسن والبهاء ما ابهت معجبا، فايقنت انّى ترقّيت من ذلك العالم الجسد انّى الى العالم الالهىّ، فصرت كانّى هناك.

فهذا معنى قوله، عليه السّلام: متخلّصة اليه، سبحانه. ثم قال ذلك الحكيم: فعند ذلك يلمع فىّ من النّور والبهاء ما تكلّ‏

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 176

الالسن عن وصفه، والآذان عن سمعه. فاذا استغرقنى ذلك النور، ولم اقو على احتماله، هبطت الى عالم الفكرة عن ذلك النور والبهاء.

فهذا معنى قوله، عليه السلام: معترفة بانّه لا ينال بجور الاعتساف (78 پ) كنه معرفته.

(835) قوله: وارانا من ملكوت قدرته، الى قوله: ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة على معرفته. موضع «ما» نصب لانّه مفعول «ارانا»، اى الدلالة المقدّرة فى العقل شاهدة على حاجة المحدث الى المحدث. فبهذه الدّلالة يدلّ كلّ الخلق على الحاجة الى الصانع، والى ممسك يمسك كلّ حىّ. وجاد بكفاية حاجة الحىّ وامساك الجماد عن الهوى والعناد، حتّى يقوم صلاح بعض الخلق بالبعض. (836) قوله: باضطرار قيام الحجّة، اشار بذلك الى نصب الادلة.

كأنّ الدليل لا يكون دليلا الا باحداثه على وجه مخصوص، والاضطرار هو الاحداث على وجه مخصوص. (837) قوله: فحجّته بالتّدبير ناطقة، التدبير من اللّه هى احداث الفعل على وجه ينتفى عنه وجوه الفساد فى العاقبة، فيختصّ بوجه من الصلاح.

و لهذا ورد الخبر عن رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، انّه قال: تفكّروا فى الخلق، ولا تتفكّروا فى الخلايق. فانّكم لن تدركوا الّا بتدبيره، اى بتدبيره الّذى دبّره لمعرفته.

(838) وقال قوم: القدر ايجاد الاسباب واقسامها على ترتيبها ونظامها، حتّى ينتهى الى المسبّبات، والقضاء تابع له، وانّه سابق علم اللّه الّذى ينشعب منه احكام المقدورات المقدّرات واتقانها. والتدبير المضاف الى البارى، تعالى، صدور فعله عنه لا لغرض مكمّل ايّاه، فانّه تعالى عن ذلك.

و وقوع افعاله، تعالى، غير تابع لتخيّل، وفعله كما قال: كُنْ فَيَكُونُ.

(839) قوله: المحتجبة لتدبير حكمتك، اى المفاصل والصنعة

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 177

المحكمة الّتى فى بطن الانسان وغيره، فالصنعة الباطنة هى المحتجبة بالصّنعة الظّاهرة هى تدبير الحكمة، لان الحكمة اوجبتها واقتضتها. التلاحك التضامّ، والحقاق جمع حقّة. (840) قوله: على الخلقة المختلفة القوى بقرايح قلوبهم، ويروى، بقرائح عقولهم، قد ذكرنا اختلاف القوى فى المخلوقات وكيفية الاخلاط والاركان والاعشاء. القريحة اوّل (88 ر) ما يستنبط من البئر، يقال: لفلان قريحة جيّدة، يراد استنباط العلم بجودة الطّبع. (841) قوله وانت اللّه الّذى لم تتناه فى العقول، فتكون فى مهبّ فكرها مكيّفا. وفى رويّات خواطرها، فتكون محدودا مصرّفا. وفى رواية: ولا فى روايات.

قيل: لمّا لم يجز عليه، تبارك وتعالى، النهاية، لانّه ليس بجسم فيكون له مساحة، وليس بمحدث فيكون له ابتدآء وغاية، واذا لم يكن ذا نهاية ذاتا ووجودا، لكونه قديما، لم يجز ان يكون له مثل ونظير. ولو كان ذا نهاية، لوجب ان يكون داخلا تحت التدبير والرسم مقدورا لقادر مّا، لانّ المتناهى وجودا وذاتا يقتضى حدوثه من جهة قادر. واذا كان هذا الحادث حيّا، وجب ان يكون مصرّفا من جهة قادره فى احوال وجوده. فاذا استحال عليه النهاية، لكونه قديما، استحال عليه التصريف، لانّ تصريف الذات من حال الى حال فى وجوده يتبع حدوثه. فما جاز حدوثه، جازه تصريفه فى حال بقائه. وما استحال حدوثه، استحال تصريفه فى حال بقائه.

(842) وقال قوم: معناه انّه تعالى منزّه عن ان يعمّه المقولات كالجوهر والكمّ والكيف والاين والوضع وغير ذلك.

(843) قوله: فرّقها اجناسا مختلفات فى الحدود،

قيل انّ كلّ مقول على كثير مختلفى الطباع والحقايق فى جواب ما هو بالشركة، فهو جنس لها، والحدّ مؤلف من اقرب الاجناس حتّى لا يبقى مشترك ذاتى. وقد يكون ما هو جنس لشى‏ء هو نوع الآخر. فحدّ الحيوان الّذى هو جنس الانسان مخالف لحدّ

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 178

النّبات الّذى هو جنس النّخلة.

الرواية الصحيحة: «فبرأ خلايق». (844) قوله: احكم صنعها وفطرها على ما اراد، يعنى احدث النّظام الكلّىّ. (845) قوله: رهوات فرجها، الرّهوة المكان المرتفع والمنخفض ايضا، وهو من الاضداد.

قال الشاعر:

         نصبنا مثل رهوة ذات حدّ   ***   محافظة وكنّا المسنفينا

 

و يروى «السابقينا». قيل معناه الاوج والحضيض.

(846) قال (88 پ) الامام الوبرىّ: نظم الاشياء الثقيلة وعقد بعضها ببعض انّما يتأتّى للعباد، اذا علقت من فوق او أمسكت من تحت. فاذا كان العالم على ثقله السّموات والارضون لا اعتماد لها على ما تحتها لتناهى الاشياء الى آخر، وليس لها متعلّق من فوقها، فقطع السّموات على ثقلها لا يصحّ عقد بعضها ببعض الا للقادر الحكيم.

(847) وقال قوم: الفلك جوهر جسمانىّ مستدير الشّكل والحركة بالطباع، لا يتزحزح عن موضعه، ولا ايضا يسكن على وضع واحد فى موضعه.

و حدّ الجوهر عند هؤلاء غير حدّ الجسم. والجوهر جنس الاجناس واعمّ من الجسم. وقالوا: انّ الحركة المستديرة الّتى للفلك على سبيل التسخير لامر اللّه، ولا يتحرّك بالاستقامة. والاجسام العنصريّة غير متحرّكة فى امكنتها وغير متحرّكة بالطبع الا فى امكنة غريبة، وغير متحرّكة بالطبع الا مستقيمة. والفلك لا حارّ ولا بارد، ولا خفيف ولا ثقيل عندهم.

(848) وقالوا آمنّا وصدّقنا بقول اللّه، تعالى، وما جاء فى الخطب: انّ الفلك كان كالدخان. لانّ هذا يدلّ على انّ جوهرا كان على حال اخرى افتراقيّة، لا انّه كان على صورة اخرى طبيعية. وهؤلاء زعموا ان فى الاجسام البسيطة والمركّبة الغير الحيوانية تسعة آلاف دليل على اثبات الصانع الحكيم‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 179

الحىّ العالم القادر القيّوم المتقدّم بوجوده على افعاله المحدثة الّتى كانت معدومة، ثم اوجدها اللّه، تعالى بحكمته على مراتبها. ولنا اربعة آلاف دليل على حكمة اللّه، تعالى، فى خلق الحيوان والانسان، يشتمل على كثير من ذلك كتاب منافع الاعضاء.

(849) وقالوا انّ ما يعرف فى خلق السموات والارض وما بينهما: [الاوّل‏] الفاعل، تعالى، وحكمته وعدله، واعطاء كل شى‏ء ما يوجب الحكمة على التقسيم والتقسيط على حسب ما يقتضيه عدل تقديره.

و الثانى القابل، وهو ان القابل كان مستعدّا لهذا الضرب من التخليق والتصوير، فكان استعداد ما (89 ر) يحصل له قبل التركيب وفى حال البساطة، واستعداد آخر يحصل له بعد التركيب، وبحسب كلّ نوع من التركيب يحدث استعداد آخر.

و الثّالث الغاية، وهو الغرض الحكمىّ الذى صنع الصانع، تعالى وتقدّس، ما صنع لاجله، وله الخلق والامر.

كذا ذكر فى كتاب جواهر الاجسام السماوية

1. (850) قوله: فتق بعد الارتتاق صوامت ابوابها، معناه ما احدث اللّه، تعالى، من رفع انطباق فلك معدّل النهار وفلك البروج وازالة هذا الانطباق.

و الدليل على ذلك انّ الميل الذى كان بينهما، كان فى الزّمن الاوّل قليلا، والآن قد ازداد على ما دلّت عليه الارصاد. (851) قوله وجعل شمسها آية مبصرة، الى قوله: ونحوسها وسعودها،

قال قوم: هذه اشارة تامة الى علم الهيئة وما يتعلّق بالنجوم من الحساب وطرف من الاحكام. اما حدّ الشمس عندهم، فانّها اعظم الكواكب جرما واشدّها ضوا، ومكانها فى الكرة الرابعة

اقول: وقد اختلفوا فى ذلك، ولا برهان لهم على انّ الشمس فى الفلك الرابع او فى فلك آخر.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 180

(852) والقمر كوكب مكانه فى الفلك الاسفل ما شأنه ان يقبل النّور من الشمس الى اشكال مختلفة، ولونه الاصلىّ اسود.

اما زحل، فقيل: انّه بتقدير اللّه، تعالى، يدلّ على انّ البرد والجمود واليبس وادعان التغير  وفى الانفس على الاستعداد، لقبول التغيّر والتذكّر التفكّر والتوهّم.

و المشترى يدلّ على قوة تحفّظ كمال كلّ جسم، وفى الانفس يدلّ على قبول قوة الحسّ.

و اما المرّيخ فانه يدلّ على الحرارة الغريزية، والقوّة الغضبيّة.

و الشمس يدلّ على النشوء والنّماء وقوّة التسلّط.

و الزهرة تدلّ على القوّة على المولّدة والفرح واللّذة.

و عطارد يدلّ على [اليبس وقوة الذّهن وحركة التخيّل.

و امّا القمر فانه يدلّ على‏] الرطوبة، وعلى استعداد للقوّة الغاذية وعلى سرعة التبدّل والتحوّل. (853) قوله: على اذلالها، اى على مجاريها وطرقها، قالت الخنساء:

         لتجر المنيّة بعد الفتى   ***   المغادر بالمحو اذلالها

 

اى لست آسى على (89 پ) شى‏ء بعده.

و فى المثل: اجر الامور على اذلالها، اى على وجهها واستقامتها.

الاذلال الطرايق المذلّلة بالوطء، ومنه قول النّاس: امور اللّه جائية على اذلالها، ويروى جارية. (854) قوله: من ثبات ثابتها ومسير سايرها، الثوابت منها سعود كآخر الشهر والكفّ الخضيب والشّعريين والنسرين والعيّوق والصرفة والردف، وغير ذلك، ونحوس كجنب برساوس والرجلين والمنكبيين والرأسين والصدرين والقلبين والمتنين والطرفين والعينين. ومنها صور شماليّة وصور جنوبيّة، ويقال‏

 

---------------------------------------------------------------

صفحة 181

لها الثوابت بالنسبة الى السيّارات. وللثوابت ايضا حركة فى فلكها فى كلّ مئة سنة درجة ونصف ومسير سائرها: زحل يقطع الفلك فى كل ثلثين سنة، والمشترى فى اثنتى عشرة سنة، والمريخ فى سنة وعشرة اشهر وعشرين يوما، والشمس فى ثلثمائة وخمسة وستّين يوما وشى‏ء مّا، والزهرة فى سبعة اشهر وثمانية عشر يوما، والقمر فى سبعة وعشرين يوما وثلث يوم، وعطارد قريب من ثلثة عشر شهرا. الشمس مثل الارض مائة وستّة وستين مرّة. والثوابت الّتى فى العظم الاوّل اربع وتسعون مرّة. زحل تسع وسبعون مرّة، المشترى اثنى وثمانون مرّة، المريخ مرّة ونصف، الزهرة جزء من سبعة وثلثين جزا، عطارد جزء من تسعة آلاف وثلثة وثمانين جزا، القمر جزء من اربعين جزا. (855) قوله: وهبوطها وصعودها،

الكواكب فى النّطاق الاوّل من فلك الاوج صاعد من فلك اوجه، ينحدر فيه من ذروته، ذاهب من سيره الاصغر الى سيره الاوسط. وفى النطاق الثانى هابط فيه الى حضيضه، ذاهب من سيره الاوسط الى سيره الاكبر الى سيره الاوسط. وفى النطاق الثالث هابط يصير صاعدا، ذاهب من سيره الاكبر الى سيره الاوسط. وفى النطاق الثالث هابط يصير صاعدا، ذاهب من سيره الاكبر الى سيره الاوسط. وفى نطاقه الرّابع صاعد فيه الى ذروته، ناقص فى العدد والتعديل، زايد فى الحساب، بطى‏ء السير، (90 ر) ذاهب من سيره الاوسط الى سيره الاصغر. وهكذا فى فلك التدوير فى النطاق الاوّل صاعد ومنحدر، وفى النطاق الثانى هابط الى اسفله، وفى النطاق الثّالث هابط فيه، وفى النطاق الرابع صاعد كما ذكرنا فى فلك الاوج. فهذا معنى قوله، عليه السلام: وهبوطها وصعودها. واما معنى قوله: ونحوسها وسعودها، فالمشترى والزهرة من السيّادة سعدان، والزحل والمريخ نحسان، والشمس والقمر سعدان من التثليث والتسديس، نحسان من التربيعين والمقارنة والمقابلة. وعطارد سعد مع السعود نحس مع النحوس، ومن العقدتين الراس سعد والذنب نحس. وكوكب آخر يقال له: الكيد، وهو نحس.

هذا ما ذكره اصحاب صناعة النجوم.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 182

(856) و

قال الامام الجليل الوبرىّ، رحمه اللّه: فى سعادة الكواكب ونحوستها، من الجايز فى حكمة اللّه، تعالى، احداث امور فى الارض على وفق حركة النجوم فى السماء، فيكون حركة نجم مخصوص علامة لحدوث فعل مخصوص [فى الارض، حتّى يكون حركة المرّيخ او الزهرة اذا بلغت جهة مخصوصة] من السماء علامة ان يحدث اللّه، تعالى، زيادة فى الاقوات والماء والسعة فى الاسعار والصحة فى الابدان ونحو ذلك. وحركة زحل يكون علامة لاحداث جدب فى الارض والوباء فى النّاس على ما يعلمه من المصالح. فمن علم ذلك من تقدير اللّه واجراء العادة، جازان يصيب.

(857) ويتفاوت النّاس فى اصابة الاحكام على حسب اختلافهم فى العلم بعادة اجراها اللّه فى السّماء والارض. هذا كلّه من الجايز الّذى لا يدفعه العقل. فاما ثبوته على هذا الوجه فموقوف على السمع. فان اثبت السمع القاطع اطّرادها بين العادتين، فذلك طريق العلم. وان لم يثبت السمع، لم يبق الا الشكّ. وان ثبتت امارة، فقصارى حال المنجّم الظّنّ. ثم اضافة السعادة والنحوسة الى النجم محال. فهذا مثل اضافة يد زيد اليه، ويده فعل اللّه، تعالى. واجراء السّفينة (90 پ) الى الريح، واللّه، تعالى، مجريها، لا الريح.

و اضافة الرّىّ والشبع الى الطّعام والشّراب، واللّه، تعالى، المروّى والمشبع.

و اضافة الولد الى الوالد، والولد فعل اللّه، تعالى، المروّى والمشبع.

و اضافة الولد الى الوالد، والولد فعل اللّه، تعالى، واحداثه وعبده.

و قد ذكرت بطلان الاعتماد على احكام النجوم فيما تقدّم. (858) قوله: فى صفة الملائكة، وعمارة الصفيح الاعلى، وجه كل شى‏ء عرائص صفحته، وصفيحة [كل شى‏ء عريضة وصفيحة وجهه‏].

الزّجل الصّوت. (859) قوله: فى حظاير القدس وسترات الحجب وسرادقات المجد،

قيل: هذه اسماء منازل الملائكة واماكنهم عند قوم. وقالوا: انّها اماكن معيّنة لطوايف مخصوصة يلازمونها بامر اللّه، تعالى، ويقيمون عبادته فيها.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 183

(860) قوله ووراء ذلك الرجيج، الصّوت بالهيبة. وسبحات نور، السبحات الجلالة والعظمة و

التقدير. لهم سبحات نور عند قوم.

(861) و

قال قوم: معناه قوله: اللّه، تعالى، اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ، وقوله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ.

و يروى يسبّح فى بحار عزّته. (862)

قال الامام الوبرىّ: يجوز ان يكون اقصى ما ينتهى اليه الملائكة انوارا خالصة يقصر عنها نهضات الملائكة، فلا ينتهى الى اقصاها، فيعتبروا بها ويستدلّوا بها على اللّه، تعالى، ويكون لطفهم فى ذلك.

(863) قوله: لا ينتحلون ما ظهر فى الخلق من صنعه ولا يدّعون انّهم يخلقون شيأ ممّا انفرد به

قيل انّما حسن وصف الملائكة بذلك، تنزيها لهم، عليهم السّلام، لانّه لو جاز وصحّ فى المقدور، وامكن فى العقل، احداث الاجسام وتدبير الاحياء وتصريفهم من حال الى حال، لكان اولى الاجسام بالاحياء بذلك، هم الملائكة، من وجوه كثيرة: لكثرة قواهم وتقدّمهم فى العلوم وتبرّئههم عن الشهوات. ثمّ مع ذلك فيستحيل منهم ان يخلقوا ادنى الاجسام من ذرّة الى ما فوقها. فدلّ ذلك على انّ غيرهم من الخلق اعجزو احداث ما ينفرد اللّه باحداثه اعوز.

فجاز من هذا الوجه تنزيه الملائكة عن ادّعاء الشركة مع اللّه من الوجه الذى (91 ر) ذكرناه وتضمّن ذلك تقدّمهم وسابقتهم فى الدّين.

(864) وقال من فضّل الملائكة على الانبياء، عليهم السلام: هذا كلام دال على فضيلة الملائكة على الانبياء، لانّ انقياد الصادق المتقدّم فى خصال المتمكّن والفضل السابق العظيم فى انواع الاقتدار، اذا انقاد مع ذلك الخالق واطاعه وشكر نعمه واستغرق اوقاته فى عبادته، يكون موقعه اعظم، ويكون عند اللّه اعلى واكرم.

(865) وقال بعض العلماء: قد ذكر اللّه فى حقّ بعض الملائكة ومن نقل منهم وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ، إِنِّي إِلهٌ مِنْ، وذكر فى حقّ النبىّ،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 184

عليه السّلام: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ، وقال فى حقّ المسلمين: ان يحبط اعمالكم، فذكر اختلاف المراتب فى المعاصى، واورد كلّ طايفة خطأ على وفق ما يليق بهم. فكما لا يعقل فى المعاصى فوق ادّعاء الالهيّة، فليس المكلّفين عندهم فوق الملائكة. ورفع الصّوت عند الرسول من غير قصد الاهانة فسق، وهو دون الشّرك، كما انّ المؤمن دون النّبىّ، وادعاء الالهيّة فوق الشّرك.

(866) وقال قوم: للملائكة افعال دون افعال اللّه فى الرتبة، وكيف يساوى فعل المخلوق فعل الخالق الّذى خلقه.

(867) ومعنى قول اللّه، تعالى: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، اى لا يقول احد من الملائكة قولا قبل اذن اللّه، تعالى، له فى ذلك. وانما خصّ القول، لانّه اسرع وجودا. و

قيل: معنى القول ما قال اللّه، تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ، وقوله، تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ.

(868) قوله: اهل الامانة على وحيه وحمّلهم الى المرسلين، هذا خصوص فى صيغة العموم، لان الرسل الى بنى آدم من الملائكة انّما هو بعضهم لا كلّهم، وان كان كلّهم رسلا بعضهم الى بعض. (869) قوله: فما منهم زايغ عن سبيل مرضاته، دليل على نفى الخطأ والمعصية عنهم. و[الابواب‏] فى «و فتح لهم ابوابا ذللا» هى الادلة الممهّدة المودّية الى المعارف. (870) قوله: ونصب لهم منارا، هذا كالاشارة الى كلمات اللّه المنبّهة على التوحيد. فالمنار الواضحة (91 پ) كلمات اللّه ووحيه، والأعلام هى الادلة العقليّة.

و قال قوم: اى مراتب الوجود والوسايط.

(871) قوله: ولم ترتحلهم عقب الليالى والايّام، العقب جمع عقبة، وهى النّوبة، يقال: تمّت عقبتك اى نوبتك. هذه اشارة عند قوم الى انّه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 185

لا ليل فى السماء، فان النهار عبارة عن زمان ظهور الشمس، والليل عبارة عن زمان غروبها. وانما الطلوع والغروب بالنسبة الى الارض واهلها.

(871) وقال قوم: الملائكة ليسوا على طبايع الحيوانات الّتى فى دار الدّنيا، فلا تغيّرهم الاوقات والازمان.

و ساير الفصل دليل على ان ليست فيهم اخلاق رديّة وقوى شهوانية وغضبيّة، ولا القوى التى للحيوانات من النّامية والغاذية والموّلدة والجاذبة والهاضمة والدافعة والماسكة وغيرها. (872) قوله: ما لاق من معرفته، يقال: لاق الدواة يليق، اى لصقت، ولقتها انا، يتعدّى ولا يتعدّى، فهى مليقة، اذا اصلحت مدادها. ويقال للمرأة اذا لم تحظ عند زوجها: ما عاقت عن زوجها وما لاقت، اى ما لصقت بقلبه.

و لاق به فلان، اى لاذبه، ولاق به الثّوب، اى ليق به، وهذا امر لا يليق بك اى لا يعلق. الدّلحّ الثّقال بالماء. (873) قوله: قتره الظّلام الايهم، الايهمان عند اهل البادية السيل والجمل الهائج. وعند اهل الامصار السّيل والحريق. وقال ابو عبيد: وانما سمّى «ايهم»، لانّه ليس مما يستطاع دفعه.

و لا ينطق فيكلّم او يستعتب. ولهذا قيل للفلاة الّتى لا يهتدى فيها الطريق: يهماء، والبرّ ايهم. قال الاعشى:

         ويهماء بالليل عطشى الفلاة   ***   يؤنسنى صوت فيّارها

 

(874) التّخم منتهى كل قرية وارض، والجمع تخوم، مثل فلس وفلوس، قال الفرّاء التّخوم الحدود قال الشاعر:

         يا بنى التّخوم لا تظلموها   ***   انّ ظلم التّخوم ذو عقال‏

 

استفرغتهم، يقال استفرغت مجهودى فى كذا، اى بذلته. (875) قوله: ريح هفّافة اى سريعة خفيفة. (876) قوله ووصلت حقايق الايمان بينهم وبين معرفته،

قيل هذا من‏

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 186

(92 ر) احسن التنبيه على ان الدّين والايمان ليس بنوع واحد من الافعال، لانّه جعل حقايق الايمان غير المعرفة باللّه. فحقايق الايمان هى الافعال الواجبة واجتناب القبايح. فمعرفة اللّه تدعوا الى التقوى، ثم التّقوى تدعو المتّقى الى المحافظة على المعرفة. لانّه متى ازداد التّقوى، ازداد المعرفة عنده قدرا ومنزلة.

فمعرفة اللّه عند المتّقى اعظم خطرا من غير المتقى، وهذا عند قوم دون قوم.

(877) قوله: وشيجة خيفته، الوشيجة عرق الشجرة. ووشجت العروق والاغصان اشتبكت. وقد وشجت بك قرابة فلان، والوشيجة ليف يفتل ثمّ يشدّ بين حشيشتين ينقل بها البرّ المحصود وغيره. الربّق الحبل. (878) قوله: ولم تأسرهم الاطماع فيؤثروا وشيك السّعى على اجتهادهم، المعنى انّ الدّاعى الى ايثار الدنيا على الآخرة هو الانتفاع العاجل.

فكلّ من لم يكن له شهوة، او استولى علّة العقل على الشّهوة، آثرا الاخرة على الدّنيا. فوشيك السّعى عبارة عن النفع العاجل الّذى توصل اليه بالسعى فى الدّنيا. الاخياف الاصناف. (879) قوله: كبس، اى بسط، يقال: كبست النهر كبسا، طممتها بالتّراب، واسم ذلك التّراب كبس. وكبس الرجل رأسه، اى ادخله فى خبائه.

الهاء فى حبلها عايدة الى الارض. مستفحلة، يقال: استفحل الامر، اى تفاقم. الاواذىّ من الامواج يتأذّى منها الملّاحون، واحديها آذية. يقال: الريح تصفق الاشجار فتصطفق، اى تضطرب.

ثبج الشى‏ء وسطه. وثبج الرمل معظمه، عن ابى عبيد.

استخذى بالخاء والذال، من قولهم خذت الناقة، اى اسرعت، واستخديت بالخاء والذال المعجمتان اى خضعت. وقد تمعّكت تمرّغت. الاصطخاب الاضطراب. همد سكن. بحر ساج اى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 187

ساكن.

قال الاعشى:

         فما ذنبنا ان جاش بحر ابن عمّكم   ***   وبحرك ساج لا يوارى الدّعامصا

 

و طرف ساج، اى ساكن. تغلغل الماء فى الشجر (92 پ) اذا تخلّلها. (880) قوله: بعد زيفان، برواية. زاف البعير يزيف اى تبختر فى مشيته، والزيّافة من النوق المختالة. ومنه قول عنتره: زيّافة مثل الفنيق المكرم. قوله: فجرّ ينابيع العيون من عرانين انوفها. فى غاية الفصاحة والبلاغة، كما ذكرنا [فى‏] اقسام البلاغة. شناخب الجبل رؤوسها. وصخرة سيخود، اى شديدة. يقال: تسرّب الثوب العرق، اى ينشفه. الحوبة الغائط من الارض. جراثيمهما اصولها. (881) قوله: اعدّا الهواء متنسّما لساكنها. احتياج الحيوان البرّىّ الى الهواء اكثر من حاجته الى الغذاء، لانّ الحيوان يعيش مع عدم الغذاء اكثر ممّا يعيش مختنقا مع عدم التنفّس. ارض جرز لا نبات بها، كانّه انقطع عنها، او انقطع عنها المطر. وفيه اربع لغات جرز وجرز كعسر وعسر وجرز وجرز كنهر ونهر. قزعه اى قطعه. تمخّضت تحرّكت. الكفف جمع الكفّة. الكنّهور السحاب المتراكم. الرّباب بالفتح السّحاب الابيض، ويقال: انّه السّحاب الّذى تراه كانّه دون السحاب قد يكون ابيض وقد يكون اسود. الواحدة ربابة، وبه سميّت المرأة الرّباب. سجّا متداركا، اى صبّا متتابعا. هيدب السّحاب ما تهدّب منه، اذا اراد الودق كانّه خيوط.

قال الشاعر: دان مسفّ فويق الارض هيدبه.

قال ابو زيد: الا هاضيب واحدها اهضاب، وواحد الاهضاب هضب، وهى جلبات القطر بعد القطر.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 188

البوانى ما يلى الزور من الاضلاع، والبرك الصدر، البعاع الثّقل. قيل: هوامد الارض من مواتها. جبل ازعر، اى لانبات عليه. سمط، اى حلّى. (882) قوله واوعز اليه فيما نهاه عنه، اى قدّم اليه الانباء والوعيد.

فيما له وعليه. (883) قوله: فاقدم على [ما] نهاه عنه، موافاة لسابق علمه.

قيل: انّ المعلوم ياتى على وفق ما علم. فلمّا كان اللّه، تعالى، لم يزل عالما بما سيقع من آدم فى وقت مخصوص فى مكان مخصوص، ثمّ جاء على وفق ما علمه (93 ر) من جميع وجوهه، كان ذلك دليلا لها ظاهرا فى حق الملائكة على انّ اللّه تعالى عالم بكل معلوم فى حال عدمه، وعالم بانّه سيوجد على ما يوجد عليه من الكيفيّات. وعلى هذا ما يقول اللّه تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ، وقال: قد علمنا ما تنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ، وقال وكلّ شى‏ء فصّلناه تفصيلا. مع انّه سبق دليل العقل على ذلك. فدلّ هذا على انّ المعدوم معلوم على التفصيل فى حال عدمه. فلهذا يقع كلّ امر موافقا لما يعلمه اللّه، تعالى، من حاله. ولذلك قال: فاقدم على ما نهاه عنه موافاة لسابق علمه. وقد عرف ان النهى يصحّ ان يقع عن شى‏ء الاجتناب عنه اولى، كما ينهى الطّبيب المريض عن طعام حلال طيّب يتخيّل انّه ربما يكون معينا للمرض او دافعا للصحة.

(884) (قوله:) فاهبطه بعد التوبة، [التوبة] اوّل قدم المريدين ومبادى طريق السالكين ولا غنى عن هذا التوبة لاحد من الناس. فانّ عقل الانسان مبتلى بالقوّة الغضبيّة والشّهوانيّة، ولا بدّ من الرجوع عن ولاية القوّة الدنيّة الى العقل. وهذا هى التوبة والرجوع عن المعاصى الى الطّاعات.

و الانبياء والاولياء يرجعون من الرخصة الى العزيمة. وقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله: انا استغفر اللّه كلّ يوم، سبعين مرّة. والتوبة فى اللغة الرّجوع من الذّنب. قال اللّه، تعالى: وَإِذْ قالَ، اى ارجعوا. قوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 189

اى رجع بكم من التشديد الى التخفيف، ومن الحظر الى الاباحة. قال اللّه، تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى‏، نِسائِكُمْ هُنَّ، اى اباح لكم ما كان حظر عليكم. (885) قوله: ولم يخلهم بعد ان قبضه، يعنى: قبض اللّه آدم، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته.

(886) قال الامام الوبرىّ هذا بيان انّ اللّه، تعالى، لم يخل عباده، من آدم الى رسولنا هذا، من دلالات السمع والشرايع الظّاهرة (93 پ) والسمع المؤكد لادلّة القبول امّا فى حيوة رسوله او بعده بشريعة محفوظة وسمع صحيح متداول بين امّة كلّ رسول الى ان يأتى رسول آخر. ولم يقتصر اللّه بامّة من الامم على مجرّد العقل.

(887) قوله بلغ المقطع عذره [و نذر]، مثل. عدل فيها، اى انصف. الميسور اليسر، والمعسور العسر. (887) قوله بلغ المقطع عذره [و نذر]، مثل. عدل فيها، اى على التمثيل مائة سنة، ولبعضهم دون ذلك، الى ان ينتهى الاجل الى وقت واحد، فهى الاطالة والتقصير. (888) وقوله وقدّمها واخّرها، فمن خلقه اللّه فى ايام آدم، عليه السلام، فهو الذى قدّم اجله، ومن عاقبته الى آخر ايام الدنيا، فهو الذى اخّر اجله. (890) قوله: غذرا ونذرا، يعنى الاعذار، والانذار وليس بجمع فيثقلا، وثقلهما الحسن، وهى رواية الاعمش. وقراءة الباقين بتثقيل النذر وتخفيف العذر، وقراءة ابراهيم التميمىّ، «عذر ونذر» بلا الف بينهما. قال اللّه، تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، اى انذارى. والانذار الابلاغ، ولا يكون الّا فى التخويف. و

قيل: عذر او نذر-  اى امر ونهى. وقيل اعذار بالحلال وانذار بالحرام.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 190

ناشئة الليل اوّل ساعة من ساعته. وناشئة السّحاب اوّل ما يبدوا منه. جعله خالجا، اى جاذبا. غيابات، مستورات. مصائف، من الصّيف. المشاتى، من الشّتاء. رجع الحنين من المولهات، والوله ذهاب العقل. منقمع الوحوش، اى مدخل الوحوش. بين سوق الاشجار، السّوق جمع السّاق، قال اللّه، تعالى: فَاسْتَوى‏ عَلى‏ سُوقِهِ. المسالب الطريق. ومحطّ الامشاج، الامشاج نطفة الرجل والمرأة. المتلاحم المتراكم المجمع. (891) قوله: تسفى الاعاصير. سفت الرّيح التّراب تسفيه سفيا، اذا اذرّته. قوله: وعوم نبات الارض، ويروى: عموم النبات. العوم السياحة، وسير الابل وجرى السفينة. قوله: دياجير، الديجور (94 ر) الظّلام. (892) قوله ذرّ عليه، ذرّت الشّمس، طلعت. السبحات جمع السّبحة، وهى خزرات يسبّح بها، والسّبحة التّطوع. وسبحات النور اصوله، وسبحات وجهها بضمّ السين والباء جلاله وعظمته. (893) قوله وهماهم كلّ نفس، الهمهمة ترديد الصوت فى الصدور، والفكر فى القلب. والهامّة واحدة الهوامّ، ولا يقع هذا الاسم الا على المخوف من الاخشاش. ويقال للدّابة: نعم الهامّة هذا. (894) قوله: حوازب الخطوب، يقال حزبه امر، اى اصابه، يقال: بلية حازبة، وبلايا حوازب، والحزب الورد والطايفة، والحوازب الطوايف والاوراد. والحازب ما نابك من الشّغل. النّقاعة هاهنا الدّم الطرىّ يقال: ناقع اى طرىّ، ودم جامد اى قديم. ولا اعتورته اى اصابته. التّعداد تفعال من العدّ. (895) قوله: ولا ينعش من خلّتها، الخلّة الحاجة والفقر. ويقال للميّت: اللّهمّ اسدد خلّته اى الثّلمة الّتى ترك. وفى المثل الخلّة تدعوا الى‏

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 191

السّلة. الخلّة الخصاصة، والسلّة السرقة. ويقال: المراد بالسلّة سلّ السّيف.

الخطبة 84

شرح الكلام الآخر،

(896) قوله: انا لكم وزيرا، نصب على الحال.

قال الامام الوبرىّ: يحتمل ان استعفى عن الامامة على وجه التّواضع.

و قال غيره لمّا عرف علامات الخلاف واستنكار بعض القوم له، جاز ان يعدل الأمّة الى غيره، ويكون معذورا فى استعفائه.

و قال قوم: قال ذلك على معنى التهديد.

الخطبة 85

(897) (قوله:) ولا عن فتنة، ولم يكن ليجرؤ عليها احد غيرى، اراد به مقابلة اهل الصلوة، وكان علىّ، عليه السّلام، اوّل من قاتل اهل البغى، فصار قدوة فى هذا الباب. (898) قوله: سلونى قبل ان تفقدونى، هذا من جملة الغيب الذى سمعه امير المؤمنين، عليه السلام، عن رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وكانت معجزات (94 پ) النّبى، صلّى اللّه عليه وآله، من هذا الباب كثيرة. فانّه قال لعمّار، رحمه اللّه: تقتلك الفئة الباغية، وآخر زادك من الدّنيا ضياح من لبن.

و قال عليه السلام، لابى ذرّ، رحمه اللّه: هو يمشى وحده ويعيش وحده ويموت وحده. وقال لمقداد بن الاسود، رحمه اللّه: انّك تتسوّر بسور كسرى. وقال زويت لى الارض فاريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك امّتى ما زوى لى منها. وبيان مفصّلات ما فى هذه الخطبة ما ذكره امير المؤمنين، عليه السلام، فى الخطبة الموسومة بالقاصعة. (899) قوله: لا طرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسئولين،

قيل: معناه ما اختصّ من الحوادث فى حقّه اختصّ بالجواب عنه والعلم به.

و لامير المؤمنين، عليه السلام، خطبة منسوبة اليه فيها ذكر الملاحم. (900) قوله ينكرن مقبلات ويعرفن مدبرات،

قيل: معناه انّه الفتنة، عند ظهورها يشتبه على الناس سببها، وقد يشتبه على النّاس حكمة اللّه، تعالى، فى اظهارها، حتى اذا اشرفت على الانقضاء يتبيّن ما سببها، ويظهر عند

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 192

العقلاء حكمة اللّه، تعالى، فيها. وربّما يتأخّر ذلك الى وقت انقضائها. فمعرفة اللّه احوالها بعد انقضائها اسهل واقرب من حال اقبالها وقيامها.

(901) ووجه اشتباهها انّ الفتنة اسم واقع على افعال العباد، ومباديها افعال اللّه، تعالى. فيشتدّ التكليف ويتفاقم الامر على العقلاء ويعسر عليهم تمييز افعال اللّه، تعالى، من افعال العباد، ولا يلوذون الا بالصّبر الجميل فيما يتعلّق بافعال اللّه، تعالى، وبالشكاية ومقاساة المدافعة، واظهار الجزع فى حقّ افعال العباد، اذا كانت قبيحة. فبسبب تعذّر التمييز بين النّوعين من الافعال، وايفاء كلّ واحد من النوعين حقّه بالعدل والانصاف بناء على المعرفة، تسمّى هذه الحالة حالة فتنة: ولذلك يكثر الاشتباه فى اوّلها وفى حال قيامها، حتى اذا خرج (95 ر) المكلّف عنها، تجلّى له حقيقة حالها، لانّ المفتون مسلوب الرأى مغبون.

(902) واختلف اهل اللّغة فى مأخذ الفتنة،

فقال قوم: الفتنة الامتحان والاختبار، فسمّيت هذه الافعال فتنة، لانّ فيها يختبر الشّجاع والجبان والخادع والصابر. يقال فتشت الذهب، اذا ادخلته النار لينظر ما جوّدته، وسمّى الصايغ الفتّان، ويقال للشيطن، الفتّان، لانّه بوسوسته يدخل من اطاعه النّار.

و قيل: مأخذها من قولهم فتنته المرأة، اذا دلّهته، والفتنة مدلّهة.

(903) النّاب المسنّة من النوق، والجمع النّيب.

و فى المثل لا افعل ذلك ما حنّت النّيب. قال الراجز.

حرّقها حمض بلا دفلّ

         وغتم نجم غير مستقلّ   ***   فما تكاد نيبها تولّى‏

 

اى يرجع من الضّعف. وهو فعل مثل اسد. وانما كسر النّون ليسلم الياء، والتصغير نيّيب. يقال سمّيت لطول نابها وهو كالصّفة، فلذلك لم يلحقه الهاء، لان الهاء

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 193

لا يلحق تصغير الصفات. يقول: منه نيبت الناقة، اى صارت هرمة، ولا يقال للجمل: ناب. و

قال سيبويه: من العرب من يقول فى «ناب»: نويب، فيجى‏ء بالواو. ولانّ هذه الالف يكثر انقلابها من الواوات.

(904) العذم العضّ والاكل بجفاء، يقال: فرس عذم للذى يعذم باسنانه، اى يعضّ. وتفصيل ضروب الاكل: الخضم الاكل بجميع الاسنان، القضم الاكل باطرافها، العذم الاكل بجفاء وشدة، القشم شدة الاكل، المشع اكل ماله جرس عند الاكل.

فتنة عمياء، يقال: معناها لا تمييز فيها، مأخوذ من قول العرب للسيل والجمل الصّؤل الاعميان، لانّهما لا يميّزان. و

قيل: معناها انّ العاقل لا يبصر طريق النجاة منها. وقيل: معناها انّها تعمى من طريق الاستعارة.

و العرب يقول اذا وصف صوتا منكرا صوته يصمّ، فيقولون: اصمّ. الناعى ينعى، فلان يعمى، اذا كانت له صورة قبيحة. (905) قوله: عمّت خطّتها وخصّت بليّتها (95 پ) اى تعمّ ملكها وتشمل الناس كافّة. (906) قوله: خصّت بليّتها، لانّ الشدائد يختصّ الاخيار فيها. فتنتهم شوهاء اى قبيحة منكرة. كاس مصبّرة، من الصّبر الذى هو دوآء مرّ. قطعا جاهليّة، اى امورا جاهليّة، قيل معناه [....] كتفريج الاديم، يعنى الجلد، عنى منه جلد الشاة المسلوخة. (907) قوله: لا يحلسهم،

قيل: معناه لا يلبسهم، من قول العرب: احلست البعير اى لبسته وقيل: هو من قولهم: احلست فلانا يمينا إذ امررتها عليه، وقيل: هو من قولهم احلست السمآء، اى مطرت مطرا دقيقا دايما.

قدر جزر جزور، عبارة عن قصر المدة.

الخطبة 86

شرح الخطبة الاخرى.

(908) قوله: [بعد الهمم....] تقدّم معنى بعد الهمم وحدث الفتن 1 ومعنى بالاوّل والآخر. تناسختهم، ويروى سلبتهم.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 194

(910) قوله: من الشجرة الّتى صدع منها انبياءه، الصدع الشّقّ، يقال: صدعته فانصدع. وعنى بالشجرة، ابراهيم النّبىّ، عليه السلام، فانّه كان اب الانبياء، عليهم السلام، واعترف بنبوّته اليهود والنصارى والمجوس والمسلمون. وكلّ من كان من الانبياء عليهم السلام، من آدم وابراهيم، عليهم السلام، فهم من اجداد نبيّنا، عليهم السلام، مثل سام ونوح وهود وشيث.

و اقول فى مواعظه: هى مواعظ يستنزل العضم الى سهل الاباطح، ويليّن الصخور، ويشفى الصدور لو قرئت هذه المواعظ على الجبل لذاب، او على الشيطن الرجيم لتاب.

الخطبة 87

(911) الجاهليّة الجهلاء، هو توكيد للاوّل يشتقّ من اسمه ما يؤكّد به، كما يقال: وتد واتد، وهمج هامج، وليلة ليلاء ويوم ايوم. (912) قوله: ودعا الى الحكمة والموعظة، مأخوذ من قول اللّه: ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.

الخطبة 88

(913) قوله: دفن به الضغائن واطفأ به الثّوائر، يعنى ازال الحروب الّتى كانت بين العرب، مثل حروب داحس والغبراء وحرب البسوس وحرب الفجار (96 ر) والحروب التى كانت بين خزاعة وكنانة. (914) قوله: كلامه بيان وصمته لسان، يعنى: ما قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، قولا، الّا وهو كاف فى الابانة عن ارادته، فهو اشارة الى تنزيهه عن التعمية والتلبيس والالغاز فى كلامه. وهو ردّ على من زعم انّ مراد رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، لا يعرف من قوله، وانّ فيه شرطا خفيا. (915) قوله: وصمته لسان. اراد به انّ سكوت رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، عن القول فى بعض المواضع، كالنّص على حكم الحادثة، كما لو شاهد حادثة، فلم ينكرها، ولم يسبق منه انكار لها قبل ذلك، كان سكوته دليلا على حسن الحادثة، سواء كان ذلك قولا او فعلا. وبهذا استدلّ العلماء فى مواضع: انّ سكوت النّبىّ عن فعل مّا كالنصّ منه على [التجويز]. يذكرونه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 195

فى البيوع والانكحة وكثير من المعاملات وغير ذلك. حتّى ذكروا فى عهود الجاهليّة مثله. فلذلك قال: وصمته لسان. و

قيل: صمته لسان، يعنى يبلغ عنه، اذا صمت، عليه السّلام، علماء اصحابه وعلماء امّته. وقيل: معناه صمته لسان، اى من آذاه من المشركين، ولم يتمكّن النبىّ، عليه السلام، من اجابته، أجاب اللّه، تعالى، عنه، وذمّ من ذمّه، حسبه، قال اللّه، تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ

الخطبة 89

(916) قوله: ايادى سبا، سبا اسم رجل ولد عامّة قبائل اليمن، وهو سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ومن امثال العرب: «ذهبوا ايادى سبا وايدى سبا»، اى تفرّقوا تفرّقا لا اجتماع لهم بعده، مأخوذ من قول اللّه تعالى، وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ. وقصة سبا مذكورة فى القرآن.

ثلث، اى صمّ بكم وعمى، واثنين، اى الاحرار عند اللّقاء واخوان ثقة. (917) قوله: تربت ايديكم، هاهنا على الدعاء، اى اصابكم خير ونعيم. وقد يذكر ولا يراد به وقوع الامر، كما يقول العرب: قاتله اللّه. وقال امرؤ القيس: ماله لا عدّ من نفره. (96 پ) و

قيل فى «قاتله اللّه» يعنى: مات بالاجل المسمّى، لا بعمل انسان. وهذا دعاء.

و تربت بذلك، يعنى اصبت عقارا وضياعا.

قال ابن دريد: يقال ذلك لصاحب الضّياع والعقار، ولا يقال ذلك: لصاحب المواشى.

و ذكرت تمام ذلك فى كتاب الازاهير من تصنيفى. (918) قوله: اعضل، يقال اعضلنى فلان، اى اعيانى امره. وقد اعضل الامر، اى اشتدّ واستغلق، وامر معضل لا يهتدى لوجهه. (919) قوله: انفراج المرأة عن قبلها، يجوز تشبيههم بحال المراة لافتضاحهم وانكشاف مساويهم الخفيّة لمخالفتهم ايّاه، كافتضاح المرأة فى تلك الحالة. ويروى عن قبلها بفتح القاف، القبل جمع قبلة، وهى خرز شبيهة بالفلكة، وهى ايضا ضرب من الخرز يؤخذ بها، وتقول الساحرة يا قبلة ابتليه 196 يعنى انفراج المرأة، الساحرة عن قبلها اى خرزتها عن الخوف. (920) قوله: القطه لقطا اى آخذه اخذا. ان لبدوا، يقال لبد بالمكان، اى اقام به، ولبد الشى‏ء بالارض يلبد لبودا التصق. (921) قوله: مادوا، اى مالوا. (922) قوله: كما يميد الشّجر، روى انّ اباذرّ الغفارىّ كان يميله الريح من ضعفه.

الخطبة 90

(923) قوله اعظمكم فيهما عناء احسنكم باللّه ظنّا،

قيل: معناه انّ الفتن لا تدفع بالسيّوف، وان النّجاة من شرّها العلم بحكمة اللّه فى جميع الامور، فانّه لا يخلّى بين العبد وبين الفتنة الا لصلاح يعلمه فى مقاساتها والصّبر عليها. فحسن الظنّ باللّه هذا معناه. وهو فى هذا الموضع احسن موقعا من سلّ السّيوف وفى مجاهدة الكفار.

و

قيل: معناه انّ الفتنة اذا قامت على ساقها، ربّما ينجوا منها بعض الناس، فيحسن العبد الظنّ بانّ اللّه، تعالى، اذا التجأ اليه العبد ينجيه منها. فهذا الظنّ الحسن منه عبادة ورياضة، لها آثار وبركات.

الخطبة 91

(924) قوله: نسأله المعافاة،

ذكرت فى كتاب ازاهير الرّياض المونقة: انّ (97 ر) العفو معروف، والعافية دفاع اللّه الآفات عن العبد، ووضع موضع المصدر، يقال: عافاه اللّه عافية والمعافاة ان يعافيك اللّه، تعالى، من الناس ويعافيهم منك.

(925) قوله: ما يمضى الباقى، ما هاهنا صلة وزيادة، وهادم اللّذات الموت، المساورة المواثبة.

الخطبة 92

قوله: فى خطبة اخرى:

(926) الناشر فى الخلق فضله، يعنى لا يخلو احد من المكلّفين من فضله فى الدنيا والاخرة. (927) بامره صادعا، اى متكلّما به جهارا ومظهرا، كما قال اللّه، تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ، اراد فاصدع بالامر، اى اظهر دينك.

---------------------------------------------------------------

صفحة 197

(928) قوله: خلّف فينا راية الحقّ، اراد بالراية هاهنا القرآن. وقد سمّى الرسول دليلا على القرآن، مع انّ القرآن دلالة على نبوّته، لانّه دليل على النبوّة، لكونه معجزا، ثمّ صدوره من اللّه، تعالى، عرفناه من كلام الرسول بعد دلالة المعجز على النبوّة، فكان الرسول دليلا على القرآن من هذا الوجه. فالقرآن باعجازه دلالة على نبوّة رسول اللّه، وقول الرسول، عليه السلام، دلالة على انّ هذا القرآن من اللّه، تعالى، وكلام اللّه ووحيه وتنزيله، وليس من كلام الجنّ والانس. (929) قوله: مكيث الكلام، يقال رجل مكيث اى رزين.

قال صخر: فانى عن تقفّركم مكيث. ومن عادة النبىّ، عليه السلام، الاقتصاد فى الكلام ومجانبة الاكثار فيه، كما قال، عليه السلام: نحن معاشر الانبياء بكاء، اى كلامنا قليل. من قول العرب «ركيّة بكيّة» اى قليلة الماء.

فالنبىّ قليل الكلام، الا فيما يعنيه. ثم اذا قام، كان اسرع الناس خفوقا وحركة. (930) قوله ولا تطمعوا فى غير مقبل ولا تيأسوا من مدبر، يشير بذلك الى حال اهل البيت يعنى اذا رايت منهم من يتحلّى بالعلم والورع، فعظّمه، وادّ حقّه، واذا رايت منهم من يشتغل بالفسق وارتكاب المعاصى، فلا تيأس منه.

فانّه عن قريب يتوب ويرجع (97 پ) الى اللّه، ولا يصرّ على عصيانه.

الخطبة 93

(931) قوله الاوّل قبل كلّ اوّل، قد سبق معناه، والمعنى انّ وجوده قبل كلّ حادث، ويقتضى وجوده بعد فناء كلّ حادث. (932) قوله: فلق الحبّة وبرأ النّسمة، من روى بفتح الحاء، فهو من قول اللّه، تعالى، فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى‏، ومن روى بكسر الحاء فهو بزور الصّحر[اء] ممّا ليس بقوت. وفى الحديث «فينبتون كما تنبت الحبّة فى حميل السيّل». ولكن نصب الحاء اولى، اقتداء بقول اللّه، تعالى. (933) قوله: باوّليّته وجب ان لا اوّل له، يعنى لقدمه استحال عليه الحدوث، ولقدمه استحال عليه العدم، وهذا معنى قوله وبآخريّته عرف ان لا آخر له.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 198

(934) قوله: لا تتراموا بالابصار عند ما تسمعونه منّى، لان الخصم لا سبيل الى ارضاءه وكذا الجاهل. وكانوا يستنكرون كثيرا من اقواله، لجهلهم او عداوتهم. واكثر ما ينكرونه ما كان يخبرهم به عن العيوب. فلذلك قال: انّ الذى انبّئكم به عن النّبى، واللّه ما كذب المبلّغ وما جهل السّامع. (935) قوله: تلتفّ القرون بالقرون، استعارة عن التعادي الّذي يقع بين النّاس حتّى يؤدّى الى سلّ السيوف بينهم ويغلب القوىّ الضعيف (936) قوله: ضواحى كوفان، اى ظواهر الكوفة.

الفاغرة اصل النيلوفر الهندىّ، اى فاحت فاغرته، والفاغرة نوع من الطيب، و

قيل: انفتحت وانشقّت فاغرته، كناية عن شى‏ء ينفتح قليلا كما ينفتح الفاغرة.

الخطبة 94

و فى خطبة اخرى

(937) يجرى هذا المجرى: لنقاش الحساب، اى لمناقشة الحساب. (938) قوله من جيش من نقم اللّه لا رهج له ولا حسّ، هذا الكلام اشارة الى عذاب اللّه ونزول الملائكة لتخريب البصرة. الاحمر الشّديد.

و قيل: الموت الاحمر موت يحصل بسبب سفك الدّم، سمّى بسبب لون الدم.

و قال ابو عبيد: قال الاصمعىّ: هو الموت الاحمر والموت الاسود، قال: ومعناه الشديد.

و قيل: اصله مأخوذ من (98 ر) الوان السّباع الضوارى. قال ابو زيد يصف الاسد:

         اذا علقت قرنا خطاطيف كفّه   ***   راى الموت بالعينين اسود احمرا

 

اراد اجتماع انواع الشدائد فيه.

قال الاصمعىّ: يقال: وطاة حمرآء جديدة، ووطاة دهمآء دارسة، فقال ذو الرمة:

         سوى وطأة دهمآء من غير جعدة   ***   ثنى اختها فى غرز كبدآء ضامر

 

و الجوع الاغبر كناية كما تقدّم عن الوان السبع الضارى المهلك.

الخطبة 95

(939) قوله: العالم من عرف قدره، لانّ اقرب الاشياء اليه نفسه.

فمن جهل الاقرب، كان بالبعيد اجهل، سيّما اذا كان القريب طريقا الى‏

--------------------------------------------------------------- صفحة 199

البعيد. وقد اوّل بعض الماوّلين بهذا المعنى قول اللّه، تعالى، حيث قال: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى‏، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى‏. اى من كان جاهلا بالدّنيا، فهو بالاخرة اجهل، لانه لا طريق الى الاخرة الا الدنيا. و

قيل: انّ الانسان انّما يصير عالما بالعلوم النظريّة، بعد وقوع الشّك فى معلوماتها، وبعد ان عرف شكّه فيها. فمن عرف شكّه، فقد عرف حاجته الى العلم، ويوشك ان يعلم، لانّ اوّل مراتب العلم الشكّ. ومن عرف من نفسه انّه محتاج الى العلم، فهو الذى عرف قدر نفسه.

فلذلك قال: العالم من عرف قدره. ولذلك قال: كفى بالمرء جهلا ان لا يعرف قدره. لان من لم يعرف جهل نفسه، لم يعرف حاجته الى العلم، فيبقى جاهلا.

و قال قوم: المعروف بالمعرفة الثانية تكون اوّلا مجهولا لنا، ثمّ نكتسب معرفته. وانما يكتسب معرفتنا بان يكون عندنا معلومات متقدّمة معلومة، وان نسلك من ذلك المتقدّم الى هذا المتأخّر سلوكا موصلا اليه، فهذا فهو معرفة الانسان قدره.

(940) قوله: كل مؤمن نومة،

قال السّيّد اراد به الخامل الذّكر.

و فى كتاب الصحاح رجل نومه بسكون الواو ونصبها ممّا لا يؤبه به.

الخطبة 96

(941) قوله: ليسوا بالمساييح (98 پ) ولا المذاييع البذر،

و قال ابو عبيد: كلّ مؤمن نومة، اى خامل الذّكر غامض فى الناس، الّذى لا يعرف الشّر ولا اهله.

و اما المذاييع فانّ واحدها مذياع، وهو الّذى اذا سمع عن احد بفاحشة او رآها منه، افشاها عليه واذاعها. والمساييح الذين يسيحون فى الارض بالشرّ والنميمة والافساد بين النّاس. والبذر ايضا نحو ذلك، وانما هو مأخوذ من البذر، يقال: بذرت الحبّ وغيره، اذا فرّقته فى الارض، فكذلك هاهنا يبذر الكلام بالنميمة والفساد. والواحد منهم بذور. فالبذور الّذى يفشى السّرّ ولا يحصل منه كمال الاسرار. (942) قوله يحسر الحسير ويقف الكسير، فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته،

قيل: معنى ذلك انّ رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، عامل الناس معاملة

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 200

الشفيق الرحيم اللطيف المتحمّل لما كان منهم، الحليم عنهم، حتى اطاعه من اطاعه، وهلك من هلك، بعد ازاحة كلّ العلل.

(943) قوله: لقد كنت من ساقتها حتّى تولّى بحذافيرها،

قيل: معناه ما قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: الخلافة بعدى ثلثون سنة. وبخلافة امير المؤمنين علىّ، عليه السّلام، تمّت الثلثون، وقيل: بخلافة الحسن تمت هذه الخلافة. وقيل معناه انّه آخر من سمع حديث رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وروى عنه ورآه فى الجسد.

(944) قوله: واستوثقت فى قيادها، اى كنت مطيعا لمن تقدّمنى. قوله: خرج الحقّ من خاصرته، الخاصرة الشاكلة.

الخطبة 97

قوله: فى خطبة اخرى:

(945) الوضين للهودج بمنزلة البطان للقتب.

قال الشاعر:

         اليك يدعو   ***   1 قلقا وضينها

         مخالفا دين النصارى دينها

 

يستعمل اكثر ذلك فى السرعة والاضطراب والامر المخوف. الارض لكم شاغرة. يقال: بلدة شاغرة برحلها، اذا لم تمتنع من غارة احد. الثائر الذى لا يبقى على شى‏ء يدرك ثاره. (946) قوله: السّهمان على اهلها، (99 ر) السّهم ما يرمى، وجمعه السّهام، والسّهم النصيب، وجمعه السّهمان. صوّح يكون لازما ومتعدّيا اى يبس وايبس.

الخطبة 98

(947) قوله: سهّل شرايعه لمن وردها، يعنى: انّ التكليف فى هذا الشرع اسهل واخفّ، والانكار على من خالفه اشدّ واصعب. الولجة بالتحريك موضع او كهف يستتر فيه المارّة من مطر او غيره. (948) قوله: الموت غايته،

قال قوم: يعنى: لا ينقطع هذا التكليف الشّرعىّ الا بالموت، او ما يجرى مجراه كزوال العقل.

و قيل: انّ هذا الكلام مستأنف ما ذكر مقدّماته، وقيل: فيه اضمار، كما كان فى شعر حاتم حيث‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 201

قال:

         اماوىّ ما يغنى البرايا عن الغير   ***   اذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر

 

يعنى اذا حشرجت النّفس.

و كما قال دعبل:

         ان كان ابراهيم مضطلعا بها   ***   فلتصلحنّ من بعده لمخارق‏

 

يعنى الخلافة. وعند هؤلاء معناه: وكلّ انسان متمسّك بهذا الشرع، او كلّ انسان مكلّف، الموت غايته. مثال ذلك قول اللّه تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، وفى ضمنه فيقال لهم: يَوْمَ تَبْيَضُّ، لان امّا لا بدّ لها فى الخبر من الفاء. وقال: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ، اى يقولون: هذا يومكم. وقال اللّه، تعالى: فَقُلْنا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها، كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى‏، وتقديره فضربوا. و

قيل: الهاء فى قوله: غايته، عايدة الى من ورده، والى من غالبه، ومن علقه، ومن تكلّم به، ومن خاصم به.

(949) قوله: انتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون، كانت للعرب فى الجاهليّة ذمم انفوا من نقضها، كما كانت عند خزاعة وبنى‏هاشم وبنى بكر وكنانة وبنى اميّة وبنى مخزوم وبنى سعد وبنى عبس. (950) قوله: تحت كلّ كوكب، استعارة عن غاية التفرقة.

الخطبة 99

(951) قوله: فى بعض ايّام صفّين: الطّغام، الّذين لا عقول لهم ولا افهام. (952) قوله: لهاميم العرب، اللّهموم الجواد من النّاس والخيل، قال الشاعر:

         لا تحسبن بياضا فىّ منقصة (99 پ)   ***   انّ اللّهاميم فى اقرابها بلق‏

 

(953) قوله: وحاوح صدرى، الوحوحة صوت فيه شكاية، وقيل: فيه اذى من البحوحة. (954) قوله: باخرة اى باخير، وفى المثل: عثرت على المغزل فى اوّل الامر، وحرصت عليه فى آخر الامر، حتّى لم يدع يتّخذ صوفا فاسدا يتلبّدا.

 

---------------------------------------------------------------صفحة 202

(955) قوله: حسّا بالنّضال،

قيل: اى استيصالا، قال اللّه، تعالى: وَلَقَدْ

وقيل: حسّا، اى قتلا، من قولهم حسّ البرد الجراد، اى قتله.

و الحسيس القتيل. قال الشاعر وهو الافوه الاودىّ: وقد تردّى كلّ قرن حسيس.

(956) تركب اولاهم، موضع «اولاهم» رفع.

و الهيم الابل العطاش.

الخطبة 100

و من خطبة الملاحم

(957) قوله: المتجلّى لخلقه بخلقه، اى له الخلق والامر، فتجلّى لخلقه بخلقه، اى بدلالة الخلقيّة على الخالقيّة. (958) قوله: الروّيات لا تليق الا بذوى الضمائر، وليس بذى ضمير، يعنى يحتاج الى الرويّة من يستفيد علما، وهو، تعالى وتقدّس، عالم بجميع المعلومات من غير علم محدث مستفاد. (959) قوله طبيب دوّار بطبّه، معناه انه يكلّم كلّ مخاطب بكلام يليق به، كما قال كلّموا الناس على قدر عقولهم. (960) قوله: اسفرت السّاعة عن وجهها، معناه ما احتاج العباد اليه ان يعلموا من احوال القيامة، فقد اطلعهم اللّه عليه بالاخبار الصادقة، فكأنّه متنقّب اسفر عن وجهه. (961) قوله ما لى اراكم اشباحا بلا ارواح، يعنى عند الخوف تصيرون كالاموات، كما قال اللّه، تعالى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ، يَقُولُوا تَسْمَعْ. (962) قوله وارواحا بلا اشباح، يعنى عند الامن، فلا تتفكّرون فى عواقب الامور ومصالح الدنيا، كانّكم ارواح لا مشاغل لها، ولا تعلّق لها بالابدان. (963) قوله: نسّاكا بلا صلاح، يعنى يتزهّدون بلا علم، فيحفظون ركنا من اركان الشرع، ويضيّعون اركانا. وقد روى انّ النبيّ، عليه السلام، قال: الزاهد الجاهل مسخرة (100 ر) الشيطان.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 203

(964) قوله: قائدها خارج من الملّة قائم على الضّلّة اى على المضلّة. و

قيل: الملّة هاهنا الجماعة.

(965) ثفالة كثفالة القدر، اى ما سفل من القدر. العكم الجهل. (966) قوله من ربانيّكم، اى العالم باللّه، تعالى. (967) قوله: وليصدق رائد اهله، مثل للعرب: لا يكذب الرّائد اهله. الرّائد الذى يرود لاهله الكلاء، والجمع روّاد. وهذا خرج مخرج الخبر، والمراد به النهى، اى لا يحبّ ان يفعل ذلك، يعنى من يكذب اهله لا يكون رايدا، لانّ الرائد هو طالب الخبر لهم، واذا كذبهم، كان غير رايد. وروى الهروىّ: لا يكذب بخفض الباء. وتمام المعنى والسبب مذكور فى كتابى المعنون بمجامع الامثال. (968) قوله: [قرفه‏] يقال قرفت القرحة اقرفها قرفا اذا قشرتها. ومنه قول عنترة: والجرح لم يتقّرف. ومنه المثل «تركبهم على مثل مقرف الصّمغة»، وهو موضع القرف، اى القشر. (969) قوله: الفنيق العجل. (970) قوله: بعد كظوم، كظم البعير يكظم كظوما، اذا امسكه عن الجرّة. (971) قوله: المطر قيظا، اى يغيّر اللّه العادة فى انزال المطر، فينزله فى غير وقته المعتاد. ويروى قيضا اى سيولا مضرّة باهل الارض. وقد ذكرت فى الآثار العلويّة فى الخطب المتقدمة: انّ الشمس اذا دخلت السرطان والاسد لا يهتن المطر فى تلك البلاد. فاذا هتن المطر فى هذه الايام، كان دليلا على تغيّر الاسباب الفلكيّة، وهناك يقدّر اللّه، تعالى الفناء للعالم. (972) قوله لبس الاسلام لبس الفرو مقلوبا، هو كناية عن كثرة البدع فى الدين، وهو استعارة عن التموية، فيعدّ منه ما ليس منه، وينكر ما هو فيه، فيكون المعروف منكرا، والمنكر معروفا.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 204

الخطبة 101

شرح خطبة اخرى:

(973) كل شى‏ء خاشع له، وكل شى‏ء قائم به، كل شى‏ء خلقه لانتفاع العباد به، فكيف ما شاء يصرفه على ما يقتضيه الحكم والصلاح، ومنه يقوم كلّ شى‏ء، ويبقى (100 پ) ما هو عليه. و

قيل: قوله كلّ شى‏ء قائم [به‏]، يعنى لا وجود للموجودات المحدثة الا باحداثه وايجاده، خصوصا للاجسام واكثر الاعراض عند قوم.

(974) قوله بل كنت قبل الواصفين من خلقك، يعنى: ما ادركك العيون فى الدنيا، حتّى عرفك عبادك مشاهدة ومعاينة، فان الادراك معلّق عند قوم باخصّ الاوصاف. واخصّ اوصافك العدم. فالمحدث، يعنى الجواهر واكثر الاعراض هى المدركة رؤية وشمّا وذوقا وسمعا ولمسا، وانت القديم.

نقص، يكون لازما ومتعدّيا، وافلت مثله. (975) انت المنتهى لا محيص عندك، هذا كما يقال لا مهرب به الى غيره، وانما كان كذلك لكونه عالما بكلّ معلوم، ومدركا لكلّ مدرك وقادرا على [ما] لا نهاية له، فيقدر على ان يعذّب المستحقّ كيف ما كان، واين ما كان، ومتى ما كان. واقصى ما ينتهى اليه العقل فى البعد والتعذّر ان يكون المستحقّ معدوما. ومتى كان معدوما، فتأثير القادر ابلغ فى المعدوم. لان القادر انّما يقدر على ايجاد المعدوم. فلذلك كان اللّه قادرا على تعذيب السمتحقّ، اذا كان فانيا معدوما، بان يعيده ثم يعذّبه، كما هو قادر على تعذيب المخلوق. وقال اللّه، تعالى: وَأَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ، فقد ذكرت ما قيل فيه، واقول الان مستأنفا: ينتهى العقول لسليمة بوسائط النظر الى انّه اللّه المعبود والمدلول. فان معرفة الدليل ينتهى الى معرفة المدلول. (976) قوله فى وصف الملائكة: لو عاينوا كنه ما خفى عليهم منك،

قيل: معناه يرجع الى نعم اللّه المفصّلة، اى لو ازداد عليهم بتفاصيل نعم اللّه، تعالى، لصغّرن اعمالهم فى اعينهم، فكان يوجب زيادة العلم زيادة العمل.

و قيل: لو علموا من تفاصيل الجزاء ما لا يعلمونه الآن، لازدادوا جهادا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 205

فى العبادة والطاعة.

و قيل: معناه كنه معرفة اللّه. فعند قوم لا يبلغ مخلوق كنه معرفة اللّه سواء كان من الملائكة (101 ر) او الانس او الجنّ، فانّه لا مثال له فى الشاهد حتّى يستدلّ بالشاهد على الغائب. وانما يثبت قدمه وذاته المنزّهة بوسائط افعاله. والفعل لا يدلّ على كنه معرفة الفاعل. هذا عند قوم. وقد فسّر قوم هذا الكلام على قوانين معتقدهم، وهى انّ اللّه، تعالى، مائيّة لا يعلمها الا اللّه.

اقول: وكلّ يعمل على شاكلته، وينفق على مقدار بضاعته، ويفسّر ويأوّل ما سمع على مقتضى عقيدته. (977) قوله من عشق شيئا، اعشى بصره وامرض قلبه. هذا مثاله يربى على الامثال، لان من عشق شيئا، اعتقد فيه الكمال، فان كلّ كمال معشوق. ومن اعتقد فى شى‏ء انّه كامل لا عيب فيه، لا يبحث عن عيوبه، ولا يسمع قول من ينبّهه على عيوبه، فانه لو عرف عيوبه، لا اعتقد فيه انّه كامل، واذا لم يعتقد فيه انّه كامل، ما عشقه. (978) قوله سكرة الموت وحسرة الفوت، سكرة الموت الم جسدانى، حسرة الفوت الم روحانىّ، كالهمّ والحزن وغيرهما. فترت اى ضعفت. ومن مصرّحاتها، اى من وجوهها المعلومة. (979) قوله غلق الرّهن بما فيه، مثل للعرب يضرب لمن وقع فى امر لا يرجوا منه خلاصا. وغلق الرّهن غلقا، اى استحّقه المرتهن. وذلك اذا لم يفكك فى الوقت المشروط. وفى الحديث لا يغلق الرّهن. قال زهير:

         وفارقتك برهن لا فكاك له   ***   يوم الوداع فامسى الرهن قد غلقا

 

(980) قوله التياطا بالطّاء غير المعجمة اى لصوقا. وفى المثل لا يلتاط هذا بصفرى، اى لا يلصق بقلبى.

لا يسعد باكيا، اى لا يعين. (981) قوله: اماد السماء وارّج الارض، ويروى: امار السماء، مار الشّى‏ء يمور مورا تبرهيا وتحرّك وجاء وذهب. وقوله، تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 206

مَوْراً،

قال الضّحاك: اى تموج موجا.

و قال ابو عبيدة: تكفّأ، والاخفش مثله.

قال الاعشى:

         كان مشيتها من بيت جارتها   ***   مور السحابة لا ريث ولا عجل‏

 

يقال: (101 پ) مار الدم على وجه الارض وماره غيره، ومار يمور، دار يدور، وامار دار، من قول العرب: لا ادرى اغارام صار، اى اتى غورا ام دار، فرجع الى نجد. ماد يميد ميدا تحرّك. وامار حرّك الرّجّ تحريك الشى‏ء، يقال رججت الحائط وارّج اى حرّك. اخلق، يكون لازما ومتعدّيا. (982) وقوله: اخرج من فيها، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، الى آخر السورة. (983) قوله فاثابهم بجواره، من روى بضم الجيم، اراد برحمته. ومن رواه بكسر الجيم، فمعناه من قول اللّه، تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. (984) قوله: ومقطّعات النيران، ذكرت معنى هذا اللفظ فى كتابى المعنون بالازاهير، واما فى هذا الموضع فاقول: المراد بذلك النيران المقطّعات. ويجوز المقطّعات من قوله، تعالى: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ.

الخطبة 102

شرح الخطبة الاخرى:

(985) مثراة فى المال ومنسأة فى الاجل، الزيادة فى المال والاجل يجوز ان يصير صلاحا عند صلة او غيرها من الطاعات، وعلى هذا ورد الخبر ونطق به الكتاب، فقال اللّه، تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ. وهكذا فى قصة نوح، عليه السلام: فقلت: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ، غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ الى [آخر ال]آية. (986) قوله: انقطع القصص، بالفتح وضع موضع المصدر، حتى صار اغلب عليه. والقصص بكسر القاف جمع القصة التى يكتب.

الخطبة 103

شرح خطبة اخرى،

(987) يقال هتن الدّمع قطر، وكذلك: هتن المطر.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 207

(988) قوله: من اقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه، معناه من قنع من الدنيا باليسير، فقد حظى من التقوى بالكثير. ومن سعى فى ان يدرك من الدنيا معناه، وجعل همّته وغرضه بحبل دنياه، فقد استكثر ممّا اهلكه وارداه. لانّه جعل نفسه مقصورة (102 ر) على طلب الدنيا. ومن قصّر نفسه على ذلك، فقد هلك، وان لم ينل من الدنيا الّا قوتا. (989) قوله: جاره محروب، يقال حرب ماله، اى سلبه فهو محروب وحريب، والاصل حربه يحربه، اذا اخذ ما له وتركه بلا شى‏ء. (990) قوله: واتّعظوا بالّذين قالوا: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي، يعنى قوم عاد بن ارم بن سام بن نوح. وروى ان ولد نوح، عليه السلام، كثروا. وكان كلام جميع الامم السّر [يا] نيّة، وهى لغة نوح، عليه السلام، فاصبح ذرّيّة نوح ذات يوم فى زمن جمشيد الملك، وقد تبلبلت السنتهم، وتغيّرت الفاظهم، وهاج بعضهم فى بعض، ولم يفهم فرقة كلام الاخرى، فخرجوا من ارض بابل [و] ازمعوا على مفارقة قومهم. واوّل من ظعن من لدارم عاديمنة، فاخذ نحو اليمن، فسمّيت اليمن بذلك، فنزل ارض اليمن، وفرّق فيها اولاده، وهو يقول: يا عاد عمرّ يمنة البلاد

         بالمال والسّوام والاولاد   ***   نحو سهيل المستنير الباد

 

(991) قوله الصفح الحجر، والجنن القبر، والجمع الاجنان. قوله: فجاؤها كما فارقوها:

(992) قال الامام الوبرىّ: فراقهم من الدنيا أن خلقوا منها، ومجيئهم اليها ان دفنوا فيها. وقد نطق القرآن بذلك، فقال اللّه، تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، اى خَلَقَ ايّاكم، فكانَّكم قد خُلِقْتُمْ من ترابٍ

الخطبة 104

شرح خطبة فيها ذكر ملك الموت:

(993) ام الروح اجابته باذن ربّها، كلام نقبله، بل يتمسّك به المتكلّم على قانونه والطبيب على اصوله‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 208

و الحكيم على قواعده. كيف يصف الهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله.

قيل: معناه كيف يعلم افعال اللّه على كيفيّة احداثها من لا يعلم كيفيّة احداث الملك افعاله، والملك مخلوق مثله، اى مثل البشر.

و قيل المراد بذلك ما قال بعض الناس: انت عاجز من معرفة حقيقة نفسك وعن حقيقة الملك المخلوق ومعرفة افعاله، فكيف (102 پ) لا تعجز عن كمال معرفة اللّه، تعالى.

الخطبة 105

شرح خطبة اخرى:

(994) منزل قلعة وليست بدار نجعة، يقال هذا منزل قلعة، بضمّ القاف، اى ليس بمستوطن، ومجلس قلعة، اذا كان صاحبها يحتاج ان يقوم مرّة بعد مرة. ويقال: ايضا هم على قلعة، اى على رحلة. والنّجعة، بضم النون طلب الكلاء فى موضعه، نقول: منه انتجعت. (995) قوله: دار هانت على ربّها، فخلط حلالها بحرامها، اراد بذلك انّ اللّه، تعالى، جعلها دار تكليف، فخلّى بين العباد وبين افعالهم، ولم يمنعهم قهرا عن القبيح، ولم يلجئهم الى الحسن، فاستوت القبايح والمحسّنات فى الوجود، بل الغلبة للقبايح. فهو ان الدّنيا على اللّه، انّ اللّه، تعالى، جعلها دار فنآء. و

قيل: هو عبارة عن هوان المسى‏ء لا سائته.

و

قال قوم: الامور الممكنة فى الوجود منها امور يجوز ان يخلو عن الشرّ، وامور لا يمكن ان يكون فاضلة فضلها، الا ويكون بحيث يعرض منها شرّ ما. وفى القسمة العقلية امور شرّيّة امّا على الاطلاق، وامّا بحسب الغلبة. ولا ينافى الحكمة الالهيّة وجود القسم الثانى، فانّ الخير الكثير الّذى يشوبه ادنى شر غير مدفوع عقلا، مثل النّار. فانّ النّار لا يفيد فوايدها، الا وهى بحيث يؤدّى ويولم ما يتفق لها مصادمته من اجسام حيوانيّة.

(996) قوله: واسألوه من اداء حقّه ما سالكم، اى استعينوه على اداء حقّه، ولن تطيقوا اداءه الا بتوفيقه ومعونته. وهذا كما روى فى الاثر: اللّهم انّك سالتنى من نفسى مالا املك الّا بك، فاعطنى منها ما يرضيك عنّى.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 209

(997) اللّعقة بضم اللّام ما تأخذه بالملعقة، واللّعقة بالفتح المرّة الواحدة.

الخطبة 106

شرح خطبة اخرى:

(998) الحمد للّه الواصل الحمد بالنّعم والنّعم بالشّكر، وصل الحمد بالنّعم ايجابه على النّعم، ووصله النّعم بالحمد ايجابه الثّواب على الحمد. (103 ر). (999) قوله: كتاب غير مغادر، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا. قوله: ايمان من عاين الغيوب، اى علم وتصوّر وعرف المعقولات بطرايفها وشواهدها. (1000) قوله: تصعدان القول وترفعان العمل، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ. (1001) قوله: اسمع داع، من الاسماع. قوله: وغيرها، اى من غير الدّنيا، انّك ترى من هو مرحوم اليوم مغبوط غدا، ومن هو مغبوط غدا مرحوم بعد غد. ليس ذلك الا من نعيم عنه زال، فصار مرحوما، او من بؤس نزل، فصاد المغبوط مرحوما. (1002) قوله ليس شى‏ء بشرّ من الشرّ الا عقابه، وليس شى‏ء بخير من الخير الا ثوابه، المراد بذلك انّه لا ضرر اعظم من العقاب، ولا نفع اجزل من الثواب. (1003) قوله: انّ الذى امرتم به اوسع من الذى نهيتم عنه، معناه ما من محظور مشته الّا وفى الحلال ما ينوب عنه فى الشهوة، وفى الحلال ما لا ينوب عنه المحظور، وكذلك المأمور به والمنهىّ عنه، لانّ كلّ قبيح دعا اليه الداعى، ففى الحلال ما ينوب عنه. ولذلك قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: ان اللّه، تعالى، لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم، اى لم يقصر الشفاء على الحرام. فما من حرام يصلح للتداوى به لعلّة مّا، الّا وفى الحلال ما

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 210

يقع الشفاء به لذلك العلة.

و قد ذكرت فى كتاب عرائس النفائس: انّ الخمر حرام، ينوب عنها فى التداوى من الاودية المفردة والمركبة ما لا يحصى.

(1004) قوله: دخل اليقين اى اصابه الدّخل. والدّخل العيب الباطن. وفى الامثال: ترى الفتيان كالنّخل وما يدريك ما الدّخل، يقال: هذا الامر فيه دخل ودخل بالسكون والفتح. قال اللّه، تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ. (103 پ) اى مكراً وخَديعَةً. (1005) قوله: ما فات من الرزق فى اليوم، رجى غدا زيادته، وما فات امس من العمر، لم يرج اليوم رجعته. الكلام ينشف، معناه صميم الفؤاد قبل نشف الهواء ماء المداد.

الخطبة 107

شرح خطبة اخرى فى الاستسقاء:

(1006) انصاحت جبالنا. انصاح الثّوب، اى انشقّ، وانصاح القمر، اى استنار. اعتكر الظّلام، اختلط، كانما كرّ بعضه على بعض. ويقال: ناقة حدبار وحدبير، ونوق حدابير، والحدبار من النّوق الضّامر الّتى قد يبس لحمها من الهزال وبدت حراقفها. سقيا منك غير منون، على وزن الدّنيا، اى يطلب سقيا منك، يقال: سقاه اللّه واسقاه، والاسم السّقيا بالضّم. يستغنى بها ضواحينا، ويروى: يستعين، اى يبلغ عيون الماء ظواهرنا.

يقال حفرت حتّى عنت اى بلغت العيون والماء، يقال: عان يعين ويستعين، من ذلك هاهنا.

مخضلة، اى التى يأتى بالخضل وهو النّدىّ. (1007) قوله: غير خلّب برقها، البرق الخلّب الذى لا غيث معها.

و الخلّب ايضا السحاب الذى لا مطر فيها. وفى الامثال انّما هو كبرق [خلّب‏]، يقال: برق خلّب وبرق خلّب بالاضافة. والخلّب فعّل من الخلابة، وهو الخداع. والفعل منها خلب يخلب. و

زعم قوم: انّ اصل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 211

قولهم: خلبت، اى اصبت خلبه بفرح او خديعة او حزن. والخلب حجاب القلب عندهم.

و البرق الخلّب كانّه يخلب الشاتمين اذا اقلّهم المطر ولم يأتهم. ويجوزان تقول: برق الخلّب، فتضيف البرق الى الخلّب. وهو عند الكوفيّين من باب اضافة الموصوف الى الصفة، كقولهم مسجد الجامع ودار الآخرة وغيرها. والبصريّون لا يجيزون اضافة الموصوف الى الصفة ويأوّلون هذا الباب على ما يصحّ حمله عليه. مسجد الجامع تقديره مسجد اليوم الجامع، ودار الآخرة تقديره دار الساعة (104 ر) الآخرة، وتقدير [برق‏] الخلّب برق السّحاب الخلّب. وذكرت تمام الكلام فى هذا الباب فى كتابى المعون بمجامع الامثال. يحفز اى يعلق ويحرّض. (1008) الجهام السحاب الّذى اراق ماءها. والسماء هاهنا المطر.

و العرب يسمّى الشى‏ء باسم غيره اذا كان مجاورا له، او كان منه بسبب كمال، يقا[ل‏]: عفيف الازار، اى عفيف الفرج. قال اللّه، تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ اى عِنَباً. وقال اللّه، تعالى: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، اى المطر.

القزع قطع من السحاب رقيقة، الواحدة قزعة. قال الشاعر: كانّ رعاله قزع الجهام. وفى الحديث كانّهم قزع الخريف. الذّهبه مطر جود، والجمع ذهاب. الشّفّان ريح فى ندوة وندوه مع ريح. قال الشاعر:

         الهاه شفّان لها شفيف   ***   هذه غداة، ذات شفّان‏

 

قال الشاعر:

         فى كناس ظاهر يستره   ***   من عل الشفّان هدّاب الفنن‏

 

اى من الشفّان وتقد[ير] الكلام: ولا ذات شفّان ذهابها، فحذف ذات لعلم السامع به.

الخطبة 108

شرح خطبة اخرى،

(1009) لخرجتم الى الصّعدات، الصعيد التّراب. وقال ثعلب هو وجه الارض، لقوله، تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 212

و الجمع صعد وصعدات. مثل طريق وطرق وطرقات. (1010) قوله تلتدمون على انفسكم: التدام النساء ضربهنّ انفسهنّ وصدورهن فى النّياحة. (1011) قوله مضوا قدما على الطريقة، قدما بضمّ القاف والدال، اى تقدّم ولم ينثن. قال الشاعر: يصف امرأة فاجرة:

         تمضى اذا زجرت عن سواة قدما   ***   كانها هدم فى الجفر منقاض‏

 

(1012) قوله، عليه السّلام، اوجفوا على المحجّة، الوجيف ضرب من سير الابل والخيل. يقال: اوجف فاعجف. قال اللّه، تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما. قال العجّاج: ناج طواه الاين ممّا وجفا. قوله: عليه السلام، (104 پ) اشارة الى استيلاء الحجّاج على الكوفة. والحجّاج كان من بنى ثقيف. (1013) ايه ابا وذحة، ايه اسم سمّى به الفعل، ومعناه الامر، يقول للرجل اذا استزدته من حديث او عمل: ايه، بكسر الهاء.

قال ابن السكيت: فان وصلت نوّنت وقلت: ايه حديثا. اما قول ذى الرّمّة:

         وقعنا فقلنا ايه عن امّ سالم   ***   وما بال تكليم الديار البلاقع‏

 

فلم ينون وقد وصل، لانّه نوى الوقف.

قال ابن السّرى: اذا قلت ايه يا رجل، فانّما تأمره بان يزيدك من الحديث المعهود بينكما، كانّك قلت: هات الحديث. وان قلت: ايه، بالتنوين كانّك قلت: هات حديثا، لانّ التنوين تنكير، وذو الرّمة اراد التنوين، فتركه للضرورة. فاذا اسكتّه وكففته، قلت: ايها عنّا واذا اردت البعيد، قلت: ايها بفتح الهمزة، بمعنى هيهات.

ابو وذحة، قيل للحجّاج: ابو وذحة، اى السفّاك الذى يقطع الاوداج. و

قيل هى كنية الخنفساء.

و فى رواية اخرى: وذحة، الوذح ما يتعلّق فى اذناب الشاة وارفاغها من ابعارها وابوالها، فيجفّ عليه، الواحدة وذحة.

الخطبة 109

(1014) فاذا فارقته، استحار مدارها، المستحير

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 213

سحاب ثقيل متردّد ليست لها ريح يسوقها. واستحار مدارها، يعنى عمل، ولم يكن له مدبّر. واستحار امتلاء. والاوّل اليق. (1015) قوله لولا رجائى الشهادة عند لقائى العدوّ، ولو قدحمّ لى لقاؤه، انّما كان يرجو الشهادة باخبار الرّسول، عليه السّلام، ايّاه بذلك. وقد اخبر بخلافته ايضا. وانما جاز له الاعراض عن القوم اذا لم يكن اماما لهم، يعنى: انّى لو لم اكن اماما، لاعرضت عنكم، والّا فلا يجوز للامام ان يخلع عن الامامة والخلافة. وميله، عليه السّلام، الى الشهادة تجريد نفسه عن علايق الدّنيا والتفاته الى رضوان اللّه والدّار الآخرة، فاخبرانى لاقدّمكم ولا اقيم بينكم طلبا لرياسة ارباب الدّنيا، وانّما اقيم بينكم رجاء للشهادة وطلبا لمرضى اللّه. (105 ر) وهذا مقام لا يعرفه الا الاولياء الراسخون فى العلم.

الخطبة 110

(1016) [قوله‏]: اللسان الصالح، الذكر الجميل الّذى يبقى فى الناس، كما قال اللّه، تعالى، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. ومن سنّ سنّة حسنة يبقى ذكرها، فله اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة. ومن ورث ما لا فلا يتبعه بسببه ثنآء ولا جزاء. وانظر ايّها العاقل، هل بقى فى الاخبار والاسمار والقصص اخبار المتموّلين، وهل يحسّ منهم من احد او سمع لهم ذكرا. وانّما بقى ذكر الاولياء والعلماء والصلحاء والزّهاد والحكماء والاسخياء ومن استحق ثناء فائحا واجرا حسنا عند اللّه.

الخطبة 111

(1017) قوله: هذا جزاء من ترك العقدة، العقدة بالضمّ موضع العقد، وهو ما عقد عليه، يقال جبرت يده على عقدة اى على عثم. يعنى من ترك موضع العقد الذى يجب ان يعقد، [عقد] على عثم.

الرواية الصحيحة ان استتمعتم هديّتّكم. (1018) قوله، ناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم انّ ضلعها معها، هذا مثل، والعرب يقول لا تنقّش الشوكة بالشوكة. فان ضلعها معها، يضرب للرجل يخاصم آخر، فيقول اجعل بينى وبينك فلانا، لرجل يهوى هواه.

 

---------------------------------------------------------------

 صفحة 214

(1019) قوله: وله اللّقاح الى اولادها، التّوليه ان يفرّق بين المرأة وولدها. وفى الحديث: لا تولّه والدة بولدها، اى لا تجعل والهة، وذلك فى السّباء، ويروى على ولدها. (1020) قوله مرهت العيون من البكاء، يقال: مرهت العين اذا فسدت لترك الكحل، وهى عين مرهاء وامرأة مرهاء والرجل امره. (1021) قوله: بعض هلك وبعض نجا، المراد بذلك انّ همّتهم مقصورة على الجهاد، لا تعتدّ بما سوى ذلك عندهم، فلا يؤثر فى قلوبهم حيوة فيفرحوا، ولا موت بعضهم فيحزنوا به، وقد مضى اولئك، فوا حسرتا عليهم، فلذلك قال: اولئك اخوانى الذاهبون.

الخطبة 112

قوله نشدناه شهادة، اى ذكرناه. ونشدت فلانا انشده نشدا، اذا قلته (105 پ) نشدتك اللّه، اى سالتك باللّه، كانّك ذكرته ايّاه، فنشد، اى تذكّره. (1022) قوله: فاذا طمعنا فى خصلة، اى اذا رجونا طاعة الانسان لنا فى خصلة، رجونا ايضا طاعته فى سائر الخصال.

الخطبة 113

(1023) قوله: لالف ضربة بالسيف اهون من ميتة على الفراش. من قتل بالسيف، سلم من مرض الموت وسكراته والنزع والخوف. ومن مات على الفراش، فجميع ذلك له بمرصد. ومن قتل بالسيف، كان مجرّدا قليل الالتفات الى الدنيا وعلايقها، فتلقّاه اجله عند انقطاع علايقه من الدنيا الدنيّة. (1024) قوله كانّى انظر اليكم تكشّون كشيش الضّباب، يشير الى استقبال فتنة يضطرب بها النّاس ويفترون عن الجهاد فذلّ عند اللّه من عقل عن الجهاد، وعزّ من قام به. (1025) قوله: النجاة للمقتحم، يقال اقتحم النهر، اى دخله. وفى الحديث اقحم يابن سيف اللّه، قاله عمرو ابن العباس لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد يوم صفّين. ويقتحم النفس فى الشى‏ء ادخالها فيه من غير روية.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 215

(1026) والتّلّوم الانتظار والتمكّث، وقيل فى معنى قول الشاعر: لاقضى حاجة المتلوّم، اى المنتظر.

الخطبة 114

(1027) قوله عضّوا على الاضراس، فانّه انبى للسيوف عن الهام، شرح هذا الكلام يتعلّق بفصل طويل من التشريح الطّبّىّ نذكره فى موضعه.

و السكوت اقوى للقلب. ومن لوازم ضعف القلب والخوف الصّياح والجلبة.

و لم يذكر احد فى آداب الحرب ما ذكر امير المؤمنين، عليه السلام. (1028) قوله: انتم لهاميم العرب، اللّهموم الجواد من الناس والخيل. قال الشاعر:

         لا تحسبنّ بياضا فىّ منقصة   ***   انّ اللهاميم فى اقرابها بلق‏

 

الفضّ الكسر بالتفرقة. ابسلهم، يقال: ابسلت فلانا للهلكة، اذا اسلمته للهلكة.

و قوله، تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ، ان تسلم. قال النابغة الجعدىّ:

         ونحن رهّنا بالافاقة عامرا (106 ر)   ***   بما كان فى الدرداء رهنا فابسلا

 

الافاقة موضع، والدرداء كنيته. (1029) قوله: دون طعن دراك يخرج منه النسيم، روى يخرج منه القشم، اى الشّحم واللّحم، من قول العرب ارى صبيّكم محلا قد ذهب قشمه، اى لحمه وشحمه. ويروى يخرج منه النّسم، النّسم جمع نسمة وهى النفس والرّبو 1 وفى الحديث: تنكّبوا الغبار فانّ منه النسمة. الحلبة بالتسكين خيل يجمع للسّباق من كلّ اوب لا يخرج من اصطبل واحد، كما يقال للقوم اذا جاؤا من كل اوب للنّصرة قد احلبوا.

يقال: دعقت الخيول والابل الحوض دعقا، اذا حبطته حتى ثلمته من جوانبه. وخيل مداعيق يدوس القوم فى الغارات.

(1030) قوله فى نواحر ارضهم، النحيرة آخر يوم من الشهر. قال الكميت يصف فعل الامطار بالديار: هو الغيث بالمتألّقات من الاهلّة فى النواحر. و

قيل النحيرة آخر ليلة من الشهر مع يومها، فهى ناحرة، والجمع‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 216

النواحر.

اعنان السماء صفائحها وما اعترض من اقطارها، كانّها جمع عنن.

الخطبة 115

(1031) قوله: انّا لم نحكّم الرجال، وانما حكّمنا القرآن، اراد بذلك انّا اخذنا على الحكمين ان يحكما بحكم القرآن، فمن يشهد له القرآن انّه يستحقّ الامامة شهادة مجملة غير مفصّلة، فعليهما ان ينصباه اماما. فلما لم يفعلا ذلك، لم يكن حكمهما نافذا جائزا. (1032) قوله: ولا يؤخذ باكظامها، يقال اخذت بكظمه اى بمخرج نفسه، الجمع اكظام. وكرثه [الغمّ‏] مثله، قال الاصمعىّ: لا يقال: كرثه، وانما يقال: اكرثه. وقول امير المؤمنين دليل على انّ الافصح كرثه. (1033) قوله: موزعين بالجور، يقال اوزعته بالشى‏ء اعزيته به واوزع به، فهو موزع به، اى مغرى به، ومنه قول النابغة: فهاب ضمران منه حيث يوزعه.

اى يغريه. والاسم والمصدر جميعا الوزوع بالفتح. (1034) قوله: ولا زوافر عز يعتصم اليها، زافرة الرجل انصاره وعشيرته، ويقال هم زافرتهم عند السلطان، اى الّذين يقومون بامرهم. (1035) قوله: (106 پ) حشّاش نار الحرب، الحشّاش الذين يحتشّون. (1036) قوله: افّ لكم، يقال لكل ما يضجر منه ويستشعر: افّ له، وقرأ بعض القرّاء فى كلام اللّه تعالى: «افّ» بنون مخفوض، كما يخفض الاصوات، وبنون [منقول مثل‏] صه ومه. وفيه عشر لغات 1 افّ وافّ وافّ وافا واف وافّ وافه، وافّ لك بكسر الهمزة واف بضم الهمزة وتسكين الفاء وافّى. وفى الحديث: فالقى طرف ثوبه على انفه، ثم قال: افّ افّ.

قال ابوبكر: معناه الاستقذار لما شمّ.

و قال: بعضهم معنى «اف» الاستقلال والاحتقار، اخذ من الافف وهو القليل.

و فى حديث ابى الدرداء: نعم الفارس‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 217

عويمر غير افّه، وفى الحديث غير الجبان. (1037) قوله: لقد لقيت منكم برحا، يقال لقيت منه برحا بارحا، اى شدة واذى، قال الشاعر:

         اجدّك هذا عمرك اللّه كلّما   ***   دعاك الهوى برح لعينيك بارح‏

 

و بنات برح وبنى برح والبرحين من اسماء الداهية. واصل ذلك البارح الذى يتطيّر به العرب، يقال من لى بالسايح بعد البارح. والبارح الريح الحارّة. (1038) وقوله: عند النّجآء اى عند السرعة والسبق. ومن كلامه لمّا عوتب على السّويّة فى العطاء، قوله اتامرونّى ان اطلب النّصر بالجور، يعنى: النّصر من عند اللّه، ولا ينصر اللّه من يظلم عباده، لقوله، تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا. وقوله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ.

الخطبة 116

(1039) قوله: لا اطور به، اى لا اقربه. يقال: لا افعله ما سمر سمير وما سمر ابنا سمير، اى ابدأ.

و يقال: السمير الدهر وابناه الليل والنهار. ولا افعله سمير الليالى. قال الشنفرىّ الازدىّ:

         هنالك لا ارجو حياة تسرّنى   ***   سمير الليالى مبسلا بالجراير

 

(1040) قوله: ما امّ نجم فى السمآء نجما، اى قصد نجم نجما، عنى به السيارة. ويقال النجوم للسيارة، والكواكب للثوابت. وهذا هو الفرق بين النجم (107 ر) والكوكب. وامّ نجم نجما، هو اصناف الاتصالات من المقارنة والمقابلة والتسديس والتثليث والاتصال الزمانىّ والاتصال المطالعىّ والجبر والاقبال والادبار والاتصال والانصراف والنقل والجمع وردّ النّور والمنع ودفع الطبيعة ودفع القوّة ودفع الطبيعتين ودفع التدبير والردّ والانتكاث والاعراض والفوت وقطع النور والنعمة والمكافات والقبول. (1041) قوله: لم يضع امرؤ ما له فى غير حقّه وعند غير اهله الا حرمه اللّه شكرهم، هذا كلام ليس ورآءه فى التأديب بآداب اللّه حدّ، وهو

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 218

انّ من عصى اللّه، ما اطاعه احد، واتته الرزايا من مكان الفوائد.

الخطبة 117

و من كلامه للخوارج

(1042) سيهلك فىّ صنفان: محبّ مفرط، يعنى الغالى الّذى غلا فى محبّته والمقصور  وهم الخوارج. وقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله لعلى، عليه السلام: يا على مثلك مثل المسيح هلك فيه النّصارى لغلوّهم فيه، واليهود لبغضهم ايّاه. وقد احسن الشاعر حيث قال:

         لا خير فى الافراط والتفريط   ***   كلاهما عندى من التخليط

 

(1043) قوله: انتم شرار النّاس، يعنى: الخوارج المقصّرون فى حقّى. وقال: خير الناس فىّ حالا النمط الاوسط. الجماعة من الناس امرهم واحد. وفى الحديث: خير هذه الامة النمط الاوسط يلحق بهم التالى ويرجع اليهم الغالى، يعنى من توسّط بين الغلوّ والتقصير. (1044) قوله: الزموا السّواد الاعظم، السواد الاعظم كلّ عدد كثير، اى اتّبعوا لاجماع، والذى اجمع عليه العدد الكثير. وسمّى الخلق الكثير السّواد، والكروم والاشجار سواد البلد، لانّ كلّ ذلك يرى اسود من بعيد. (1045) قوله: يد اللّه على الجماعة، اليد هاهنا الستر، والجماعة نعت لقوم مجتمعين على امام وامير واحد. والامام للقوم بمنزلة النّظام (107 پ) للجماعة. وقد وصف اللّه الجماعة بقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ.

و اهل الجماعة اهل علىّ بن ابى طالب، عليه السلام، حين بايعوه بعد قتل عثمان، فلم يزل هذا الاسم، لانّ ما لمن  اجتمع على امام عادل. ثم ادّعت بنو مروان فى ايّام خلافتهم: انّا اهل السنة والجماعة. وفى الاصل اهل السنّة والجماعة الصحابة الّذين بايعوا عليها 1 بعد قتل عثمان. (1046) قوله: الشاذّ من الناس للشيطان، لانّه لا مانع لذلك الواحد من ظاهره، فلا بدّ له من واعظ يمنع باطنه عن قبول الوسوسة بالمواعظ وذكر اللّه.

و قيل: فى الامثال الذئب خاليا اشدّ.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 219

(1047) لا ابا لكم، يذكر فى موضع المدح وفى الذّم. اما الذّم «لا امّ لك يقرّ عينها بك» او «لا امّ لك» على سبيل الدعاء، اى فقدت امّك، «و لا امّ لك، ولا اب لك» اى انت لقيط لا يعرف لك امّ ولا اب من طريق الشّرع. وقد يورد استدفاعا للمعاينة كقولهم: قاتلك اللّه. وفى المدح: لا امّ لك، اى انت فى هذا الامر منفرد لا نظير لك، كانّك ولم يلدك امّ. ومن قبيل المدح لا اب لك يشينك ويورثك عارا، ولا امّ لك تشينك. ويقال: لا اب لك ولا ابا لك، اى لا اب يكفيك، ولا كافى لك الّا اللّه وانت.

و يقال: لا ابا لك، لان اللّام كالمفخّمة.

(1048) البجر بالضمّ الشرّ والامر العظيم. قال الراجز: ارمى عليها وهى شى‏ء بجر، اى داهية.

الخطبة 118

و من كلامه فيما يخبر به عن الملاحم:

(1049) يا احنف كانّى به، اى بصاحب الزنج وهو البرقعىّ الّذى اجتمع عليه الزنج وحرب البصرة.

شبّه جدران القصور بنسور الاجنحة لبياضها، والابراج المدوّرة المبيّنة فى السكك بخراطيم الفيلة. (1050) قوله: انا كابّ الدنيا لوجهها، اى عالم باحوالها وانّها فانية. (1051) قوله: لا يندب قتيلهم ولا يفتقد غائبهم، معناه وصف هؤلاء بشدة البأس والحرص على الحرب والقتال، لانّ مثلهم لا يبالى بالميّت (108 ر) والقتيل، انما همّه ووهمه مقصوران على الحرب، هذا كما تقدّم من قوله: لا يبشّرون بالاحياء ولا يعزّون عن الموتى. (1052) قوله ناظرها بعينها، يقال: نظر فلان، اذا اراد مراده وعرف مقصوده منه، وهو يؤمى الى وصف الاتراك. (1053) قوله: المجانّ المطرقة، المجانّ بفتح الميم وتشديد النون جمع المجنّ. والمجانّ المطرقة الّتى يطرق بعضها على بعض، كالنعل المطرقة المخصوفة. و

قيل: اطرقت بالجلد والقصب، اى الصقت، يعنى بذلك صلابة

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 220

وجوههم وتشنّجها. والسّرق شفق الحرير، قال ابو عبيدة: الّا انّها البيض. قال الراجز: بناتنا كسرق الحرير. الواحدة منها سرقة. قال واصلها بالفارسيّة «سره» اى جيّدة، فعرّبوه. كما قالوا «برق» للحمل، ويلمق للقباء

و استحرّ القتل وحرّ، اى اشتدّ. وفى الحديث: انّ القتل قد استحرّ باهل اليمامة، اى كثر واشتدّ. يخبر امير المؤمنين علىّ، عليه السلام، عن ما جرى بين العرب والترك من المحاربات، اوّلها يوم بيشكنذ، مصافّ كان بين الترك والعرب فى ايام عبد اللّه ابن زبير، ومصافّ بين الترك والعرب فى ايام قتيبة بن مسلم، وغير ذلك من الملاحم والمغازى.

(1054) قوله: يا اخا كلب، يقال فى العرب فلان اخو فلان، اى صاحبه. ويقال لمن يلزم شيئا هو اخوه، اى ملازمه. قال الاعشى: اليس اخو الموت مستوثقا آخر الموت، هاهنا القدر. ويقال: اخو فلان اذا كان من اولاده، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَإِلى‏ ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، وصالح كان من اولاد ثمود. (1055) قوله: وتضطمّ عليه جوانحى، يقال اضطمّت عليه الضّلوع، اى اشتملت.

الخطبة 119

و من خطبة له فى المكائيل،

(1056) اثوياء، الثّوىّ على وزن فعيل الضعيف، والجمع اثوياء، مثل قوىّ واقوياء. وفى حديث ابى هريرة ان رجلا قال تثّويته (108 پ) اى تضيّفته. (1057) قوله: مدينون، مدينين فى قوله، تعالى: غَيْرَ مَدِينِينَ، اى مملوكين. وانّا لمدينون، اى محاسبون مجازون، ومدينون هاهنا من قول العرب: دنت الرّجل، فهو مدين ومديون. (1058) قوله: اضرب بطرفك، الى تمام الكلام، عنى به انّ الفقير بسوء حاله مشغول، والغنىّ بالجمع مشغول، والبخيل بالمنع مشغول، والمتمرّد بالتمرّد والاستنصار مشغول، وجميع ذلك حجب العباد عن تحصيل رضوان اللّه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 221

و المتورّع فى مكاسبه لا يكسب الّا ما يسدّ خلل جوعه، فيستفرغ لتحصيل مرضاة اللّه فى ساير اوقاته. (1059) قوله: الّا فى حثالة، الحثالة ما سقط من قشر الشعير والارزّ والتّمر، فكانّه الردىّ من كلّ شى‏ء. (1060) قوله لا منكر متغبّر، يعنى لا ينكره الا ضعيف لا يقدر على التغييّر. (1061) قوله: تجاور واللّه فى دار قدسه، المجاورة الجسميّة لا يجوز على اللّه، تعالى، وانما هو عبارة عن مقامات اولياء اللّه فى دار الجزاء والدرجات العلى.

الخطبة 120

و من كلامه فى ابى ذرّ حين اخرج من المدينة،

(1062) يعنى حوجّهم الى الدّين واغناك عن الدّنيا: كانتا رتقا، الرّتق ضدّ الفتق، وقد رتقته الفتق فارتفق، اى التأم.

فى كتاب الغريبين: كانتا رتقا، اى كانتا منضمّتين لا فرج بينهما، ففتقناهما بالمطر والنّبات.

و قال الازهرىّ: اراد كانت سماء مرتتقة وارضا مرتتّقة، ففتق اللّه السماء فجعلها سبعا ومن الارض مثلهنّ

الخطبة 121

يقال ظأرت الناقة ظارا وهى ناقة مظئورة، اذا عطفتها على ولد غيرها.

و فى المثل الطعن يظاهر، اى يعطفه على الصّلح. وقد يوصف بالظّؤار الا ثافى، لتعطّفها على الرّماد.

سرار العدل، السرر احد اسرار الكف والجبهة، والجمع سرار، ويقال: سارّه فى اذنه مسّارة وسرارا. والسّرر [من‏] الشهر آخر ليله منه، وكذلك سراره وهو مشتقّ من قولهم: استسرّ القمر، اى خفى، ليلة السرار. [قوله:] ولا المرتشى (109 ر) فى الحكم [فيذهب بالحقوق‏] يقف بها دون المقاطع، الوقف بالحكم دون القطع وتعجيل الفصل قبل اوانه، مثال ذلك ان يسمع شهادة من احد الشاهدين، فيحكم قبل شهادة الثانى، او يحكم بشهادة الاثنين قبل التزكية والتعديل.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 222

الخطبة 122

(1063) قوله: تخون العيون، اصل الخيانة ان ينقض المؤتمن لك، وخيانة العبد ربّه ان لا يؤدّى الامانات الّتى، ائتمنه عليها. (1064) قوله: ولا يغرّنك سواد الناس، تقدّم القول فى السواد.

و السواد هاهنا الكثرة، لانّ الناظر بذلك من بعيد عند اجتماع الناس الكثير سوادا، اى لا يقولنّ فىّ الناس كثرة، فلعلى اعفى عن الموت، فلا يصل الىّ نوبته، فانّ هذا اغترار. (1065) قوله: برّز مهله، اى ظهر تؤدته 1، من قول اللّه، تعالى: وبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ اى اظهرت. و

قيل معنى قوله «برّز مهله» اى كان عمره سابقا غيره من الاعمار، كاالشّجاع المبرّز سبق اقرانه وفاق اهل زمانه.

اهتبلوا اغتنموا. قال الكميت:

         وعاث فى غابر منها بعثعثة   ***   نحر المكافى والمكثور يهتبل‏

 

(1066) قوله: كانوا على اوفاز، اى على عجلة، جمع الوفز. و

قيل: على اوفاز، اى على سفر قد اشخصنا، وانّا على او فاز، قال الراجز:

         اسوق غيرا مائل الجهاز   ***   صعبا ينزّينى على اوفاز

 

و لا تقل على وفاز.

و الزيال المفارق. قد يقال زايلته مزايلة وزيالا، اذا فارقته.

و الظّهر الركاب.

الخطبة 123

(1067) قوله: فالبصير منها شاخص والاعمى شاخص، اذا فتح عينيه، وجعل لا يطرف. شخص بالفتح شخوصا، ارتفع. وشخص بصره فهو شاخص، اذا فتح عينيه وجعل لا يطرف. وسهم شاخص اذا جاوز الغرض. فقوله فيها شاخص، يحتمل معنيين: اى مرتفع ومجاوز، والثانى اى ناظر.

(1068) وهاهنا بحث، وهو ان الاعمى كيف يكون ناظرا. والمراد بالاعمى اعمى القلب، كما قال اللّه، تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي، الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ. والمعنى ان من علم انّ الدنيا دار فناء لا دار اقامة وثواء، علق: (109 پ) قلبه بالآخرة وتحصيل رضوان اللّه، وجاوز الدّنيا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 223

كما جاوز السّهم الهدف، وما اطمأنّ بالدّنيا. ويدلّ عليه ما تقدّم من قوله: «و البصير ينفذها بصره». ومن خدعته زخارف الدنيا، [مال‏] الى زينتها واعرض عن الآخرة لجهله بها. فالبصر كناية عن العالم، والاعمى عن الجاهل. والبصير منها متزوّد لانّها مزرعة الاخرة، منزل التّكليف. قال اللّه، تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ، مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ. والتزوّد، لا يكون الا من دار التكليف. (1069) قوله: والاعمى لها متزوّد، اى جعل جميل سعيه لمنافع الدّنيا ولذّاتها لانها غرضه ومطلبه فلا يسعى الّا لها، كما انّ العالم جعل كلّ سعيه وكلّ غرضه الاخرة لمعرفته بها، قال البصير منها متزوّد، لانه انما يسعى للآخرة ما دام فى الدنيا. (1070) قوله ليس من شى‏ء الا ويكاد صاحبه يشبع منه، ويملّه، الا الحياة. المعنى انّ من قال سئمت تكاليف الحيوة فهو متمنّ يتمنّى امّا شبابه وامّا عافيته واما صحّة بدنه. ولا يتمنّى الموت، فانّه اذا قيل لمريض او منكوب او هرم: اتختار الصحة والشباب والعافية او الموت، لما اختار الموت، وانما يتمنّى الموت سآمة من التعب والنّصب لا من الحياة، فلا يكاد صاحب الحيوة يشبع من الحيوة، كما قال عليه السلام. (1071) قوله لا يجد له فى الموت راحة، اراد به الهالك فى الآخرة، لانّه لا ترى لنفسه خيرا فى الموت، وانما الرّاحة للمؤمن التقىّ، فانه يرجو الخير كلّه فى الموت. قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، ليس للمؤمن راحة دون لقاء اللّه، تعالى. (1072) قوله: الحكمة التى هى حيوة القلب، اعلم انّ الحكمة اصله الحقّ ووضع الشى‏ء فى موضعه، حتى لا يشوبه زلل ولا خلل. والحكمة الاسم.

و قيل اللفظ من الاحكام وهو المنع، ومنه: احكموا سفهاءكم، اى امنعوهم من التعرّض لى، ومنه حكمة اللجام لانّها تمنع الدّابة من الاعوجاج. (110 ر) فالحكمة تمنع من الباطل، وتقوّم الانسان، وهى معشوقة للحقيقة الانسانية.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 224

و

قيل سمّيت الحكمة حكمة، لانها ممنوعة الا عمّن يستحقّها ويعرف قدرها.

و سمّى الحاكم حاكما، لانه يمنع الظالم.

و الحكمة عند العرب ما منع به من الجهل. قال اللّه تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ. و

فى قوله: ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ، فى كتاب الغريبين، اى بالنّبوة، والموعظه الحسنة القرآن، وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، اى الحكمة. مثل نعم ونعمة.

(1073) قوله: ولا يختلف فى اللّه، ولا يخالف بصاحبه عن اللّه، هذا فى وصف القرآن بانه يتّفق، فلا تناقض فيه. وكل معلوم دلّك عليه القرآن على حالة وصفة مخصوصة، فقد ابان عن حقيقته، وليس فى القرآن ما يدلّ على خلافه. فلما دلّ القرآن على انّ اللّه، تعالى، قادر عالم حكيم مع ساير الصفات، لم يجز ان يكون فى القرآن كلام على انّه ليس بقدير ولا عليم. فهذا معنى قوله: لا يختلف فى اللّه. (1074) وقوله ولا يخالف بصاحبه عن اللّه، اى ليس فى القرآن ان يلتبس، ولا تعمية ولا اشتباه يتعذّر حله حتّى يضلّ عنده صاحبه عن الحقّ، بل القرآن منزّه عن ذلك، يؤدّى بالمؤمن الى ادراك الحقّ وصميم الهدى. فمن يضلّ عن الحقّ فانما يضلّ عن القرآن لا بالقرآن. (1075) قوله: نبت المرعى على دمنكم، مأخوذ من قول النّبى، عليه السلام، ايّاكم وخضراء الدّمن. والدّمنة آثار الناس وما سوّدوا، والجمع الدّمن. وما ينبت على الدّمن، لا اصل له، ولا يبقى الا ايّاما قلايل. والدّمنة الحقد. والجمع الدّمن.

قيل: هذه اشارة الى الاستمرار على الاحقاد والغلّ والحسد، وبناء المعاشرة بينهم على هذه الحالة. فانّما ينبت المرعى على بقعة اذا استمرّت على واحدة برهة من الزمان.

الخطبة 124

و من كلام له حين شاوره عمر فى الخروج (110 پ) الى الروم.

(1076) وذلك حين خرج قيصر الروم مع جماهير الروم، وانزوى خالد بن الوليد، ولازم بيته، وصعب الامر على ابى عبيدة الجرّاح وشرحبيل بن حسنة وغيرهما

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 225

من امراء السّرايا. قوله: قد توكّل اللّه لاهل هذا الدّين، اى ضمن. الحوزة الناحية، وحوزة الملك بيضته. المحرب الذى يشتاق الى الحرب. (1077) قوله: واحفر معه، اى سق، من قولهم الليل يحفز النهار، اى يسوقه. (1078) قوله اهل البلاء، البلاء الاختبار، يكون بالخير والشرّ: يقال ابلاه اللّه بلاء حسنا. (1079) قوله: مثابة اى معادا يصدرون عنه، ويعوّلون اليه، اى يرجعون. والمثابة والمثاب مثل مقامة والمقام. ويقال ان فلانا لمثابة اى يأتيه الناس للرغبة، ويرجعون اليه مرة بعد اخرى، وسمّيت الثيّب ثيّبا. لانها يوطأ وطا بعد وطى‏ء.

الخطبة 125

قوله للمغيرة بن اخنس:

(1080) ابعد اللّه نواك. اى من صحبك، من قول العرب نواك اللّه فى السفر، اى صحبك فى السّفر والحضر. والاصحّ ان يقال: ابعد اللّه نواك اى سفرك. ويدلّ عليه قوله، عليه السّلام، اخرج عنّا. والنّوى الوجه الّذى ينويه المسافر من قرب او بعد، وهى مؤنثة لا غير. قوله لا ابقى اللّه عليك ان ابقيت، يقال: ابقيت على فلان اذا رعيت عليه ورحمته. يقال لا ابقى اللّه عليك، ان ابقيت علىّ والاسم البقيا.

الخطبة 126

و من كلام له، عليه السلام:

(1081) لم كن بيعتكم ايّاى فلتة، اى فجأة، لم يكن عن تدبّر وتفكّر وتردّد. (1082) قوله: انّى اريدكم للّه، يعنى لا اطلب تقدّمى عليكم بسبب رياسة وطلب منفعة، وانّما اريدكم لاهديكم واؤدّبكم واهذّبكم واقيم بينكم حدود اللّه طلبا لمرضاته، لا اكتسابا للمنافع الدنياويّة التى غايتها الحسرة والنّدامة. اعينونى على انفسكم، اى على شهواتكم ونتايج هواكم بمتابعة عقولكم،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 226

فأنتم اذا تابعتم عقولكم، كان ذلك اعانة لى على هويكم.

و تقدّم القول فى «ايم اللّه».

الخطبة 127

و من (111 ر) كلام له فى معنى طلحة والزبير،

(1083) لا جعلوا بينى وبينهم نصفا، النّصف النّصفة وهو الإسم من الانصاف. قال الفرزدق:

         ولكنّ نصفا لو سببت وسبّنى   ***   بنو عبد شمس من مناف وهامش‏

 

(1084) قوله: انّهم ليطلبون حقا هم تركوه، ودما هم سفكوه، اراد بذلك جماعة من الصحابة الذين قصروا فى نصرة عثمان. وخصّص بذلك طلحة بن عبد اللّه والزبير وعمرو بن العاص بعض ما توهّم فى امر عثمان امّا بكلام او بامساك عن بعض الامور، فاضاف سفك دم عثمان اليهم. (1085) وقوله: حقّا هم تركوه، لانّه من اعان على سفك دم، ثمّ طالب غيره بذلك، يكون فعله متناقضا وتلبيسا على العامّة. و

قيل: انّ الدليل على توبة طلحة والزبير انّ اللّه، تعالى، عدّهما فى العشرة المبشّرين بالجنّة.

و البشارة يكون خبرا عن عواقب امورهم، فكانت خواتيم اعمارهم بالتوبة والانابة الى اللّه، تعالى، ليتحقّق فيهم هذه البشارة.

(1086) قوله: فان كنت شريكهم، يعنى: ان كان الامر مشتركا، وهو ترك نصرة عثمان بيننا، فليس لبعضنا ان يطالب بعضا، وان كنت بريئا عن ذلك، فلى ان طالبهم بذلك، وليس لهم مطالبتى بذلك، والحكم على انفسهم، واقرارهم بما صدر منهم، والاعتراف ببراءة ساحتى من ذلك. (1087) قوله ان معى لبصيرتى،

فى كتاب الغريبين معنى البصيرة ظهور الشى‏ء وبيانه.

قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ اى عليها شاهد بعملها. وقال جوارحه بصيرة عليه، اى شهوده عليه.

قال الازهرىّ: بصيرة عالمة بما جنى عليها. يقول: بل للانسان يوم القيامة على نفسه جوارح بصيرة بما جنى عليها، وهو قوله، تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ، وقوله عليه السلام: انّ معى لبصيرتى، اى بيانى وشهودى على ما جنى خصمى علىّ.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 227

قوله ما لبّست ولا لبّس علىّ، اى ما خدعت احدا، وما خدعنى احد.

(111 پ) وهذا مأخوذ من قول النّبى، عليه السّلام: العاقل المسلم، من لا يخدع احدا، ولا يخدعه احد. (1088) قوله: انّها للفئة الباغية، البغى الحسد، لقوله، تعالى، بَغْياً بَيْنَهُمْ اى حسدا. وقال اللّحيانىّ اصل البغى الحسد، ثم سمّى الظلم بغيا، لان الحاسد ظالم. قوله، تعالى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ.

قال الازهرىّ: غير باغ اى غير ظالم بتحليل ما حرّم اللّه.

و

قيل: باغ، اى خارج على السلطان او قاطع للطريق. والبغى الفساد، ومنه قوله، تعالى: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ، اى فسادكم راجع اليكم. وقوله: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ، اى يفسدون. فالفئة الباغية الفئة الظالمة الحاسدة الخارجة على السلطان المفسدة.

(1089) وقوله، عليه السلام: فيها الحما، والحمة والشّبهة المغدقة، حمة العقرب سمّها وضربها مخفّفة. والاصل حموا، وحمى، والهاء، عوض.

و حمة الحرّ بالتشديد معظمه. ومغدقه كثيرة، من قولهم غدقت عين الماء بالكسر اى غزرت. قال اللّه، تعالى: ماءً غَدَقاً. (1090) قوله: زاح الباطل عن نصابه، زاح الشى‏ء يزيح زيحا، اى بعد وذهب، وهذه اشارة الى ما شاهد من امارات الادبار والانخزال من اصحاب الجمل، فقوى رجاءه فى انطفاء نايرتهم امّا بمراجعة واما بقتل، وكان كما قال، واظفره اللّه بهم، وظهر للناس براءة ساحة امير المؤمنين علىّ، عليه السلام، عن دم عثمان، حيث قال امير المؤمنين لاصحاب الجمل: قاتل اللّه منّا من سعى فى قتل عثمان. (1091) قوله لا يعبّون بعده فى حسى، العبّ شرب الماء من غير مصّ. وفى الحديث: الكباد من العبّ. والحمام يشرب الماء عبّا كما تعبّ الدوابّ. والحسى الماء ينشفه الارض من الرمل. فاذا صار الى صلابة امسكته‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 228

فتحفز عنها الرّمل فتستخرجه وهو الاحتساء وجمع الحسى الاحساء. (1092) قوله: فاقبلتم الىّ اقبال العوذ المطافيل الى اولادها. المطفل (112 ر) الظّبية معها طفلها، وهى قريبة عهد بالنتاج. وكذلك النّاقم، والجمع مطافل والمطافيل.

قال ابو ذؤيب:

         وانّ جديثا منك لو تبذلينه   ***   جنى النحل فى البان عوذ مطافل‏

         مطافيل ابكار حديث نتاجها   ***   تشاب بماء مثل ماء المفاصل‏

 

(1093) قوله الّبا علّى النّاس، اى جمعا. (1094) قوله استأنيتهما امام الوقاع، يقال: استأنى به اى انتظر به، يقال: استأنى به حولا، وآناه يؤنيه ايناء اى اخّره وحبسه وابطأه. وذاك فى شعر الكميت. ومنه استأنيتهما امام الوقاع، اى اخّرتهما وحبستهما. يقال: او قعودهم فى القتال مواقعة ووقاعا. (1095) قوله: غمط النعمة، غمط النعمة بكسر الميم اى حقّرها. وفى الحديث انما ذلك من سفه الحقّ وغمط الناس، يعنى ان يرى الحقّ سفها وجهلا ويحتقر الناس.

الخطبة 128

قوله من خطبة [له‏] فى الملاحم:

(1096) يعطف الهوى على الهدى، اذا عطفوا الهدى على الهوى، عطف عليه، اذا اشفق، وعطف عليه، اذا كرّ.

قال ابو وجزة:

         العاطفون تحين ما من عاطف   ***   والمطعمون زمان اين المطعم‏

 

و هذه استعارة مليحة عن اخلاق ابناء آخر الزمان، فانّهم لا يدخلون بيت المطلب من بابه، ويغرهم الشيطن. فاذا همّوا بنصرة الهدى، فقد نصروا الهوى، واتّبعوا اهواءهم، لا يميّزون بين اتباع الهدى والهوى، وكذا فى الرأى والقرآن فهم فى اختلاط.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 229

(1097) قوله: الا وفى غد وسيأتى غد، الى آخر الفصل، مقتبس من قول اللّه، تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ، ومن قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، ومن قوله، تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا، الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ، الَّذِينَ. (1098) وقوله يأخذ الوالى من غيرها عمّا لها، الهاء عايدة (112 پ) الى قريش، اى يكون العمّال من غير قريش، وان كانوا ولاة عمالا على قريش. ويجوز ان يكون المراد بقوله: من غيرها عمّا لها، اى من غير بلدة مخصوصة كالكوفة والبصرة، فيكون الامام العادل من غيرها، فيقهر عمّال تلك البلدة كما يقهر سائر الولاة. وهذا اشارة الى وصف اهل بلدة مخصوصة. (1099) قوله: فيريكم كيف عدل السيرة ويحيى ميّت الكتاب والسنّة، هذا وصف لعدل ذلك الوالى، وانّه يردّ الامور الى اصولها، وينفى البدع والضلالات، ويكون قبل قيام الساعة للاسلام قوة وارية الزّناد شامخة الاطواد. (1100) قوله: كانّى به قد نعق بالشام، عنى به المختار بن ابى عبيد، وقيل عنى به الحجّاج بن يوسف، لانه كان بالشام ملازما حضرة عبد الملك بن مروان وما انتقل المختار قطّ الى الشام، والحجّاج هو الذى انتقل من الشام الى مكة، وقيل عبد اللّه ابن الزبير، ثم عاد الى الشام ثم فوّض اليه عبد الملك امارة الكوفة. (1101) قوله: نعق بالشام، نعق الراعى بغنمه ينعق بالكسر نعيقا ونعاقا، اى صاح بها وزجرها. (1102) قوله: فحص براياته، اى قلبها، من قولهم فحص المطر التراب. (1103) قوله: ضواحى كوفان، ضاحية كلّ شى‏ء ناحيته البارزة.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 230

و يقال لهم ينزلون الضواحى. الكوفة الرملة الحمرا، وبها سمّيت الكوفة. وكوفان ايضا اسم الكوفة. مأخوذ من قول العرب تركهم فى كوفان، اى فى غناء ومشقة ودورات، امر مستدير، والكوفة منبع الخلاف، والعنآء والمشقة، لذلك يقال لها كوفان. (1104) قوله: عطف الضرّوس، ناقة ضروس يعضّ حالبها. واذا كانت كذلك، حامت على ولدها. قال بشر [بن ابى حازم‏] 1:

         عطفنا لهم. عطف الضّروس من الملا   ***   بشهباء لا يمشى الضراء رقيبها

 

(1105) قوله: قد فغرت (113 ر) فاغرته اى علت كلمته، من قولهم: افغر النجم اى الثريا، اذا بلغ وسط السماء، ومن نظر اليه فغرفاه. و

قيل: فغرت فاغرته، الفاغرة نوع من الطيب، اى تفتّحت زهراته.

(1106) قوله: وثقلت وطأته، الوطأة موضع القدم، وهى ايضا كالضغطة. وفى الحديث: اللهم اشدد وطأتك على مضر. و«ثقلت وطأته كناية عمّن يكون الناس منه فى تعب ومشقّة وعناء. هذا اخبار عن كثرة القتل وسفك الدماء. فمن قتل منهم، فحسابه على اللّه، تعالى، ومن نفى، ذهب وسار فى الارض. وتلك نوع من العقوبة الدنياوية لاهل الكوفة. لانّهم آذوا على امير المؤمنين وخالفوه فى امر الحكمين وضيّعوا بعده اولاده. فسلّط اللّه عليهم اوّلا المختار بن ابى عبيدة الثقفىّ، حتّى قتل منهم من كان فى عسكر شمر بن ذى الجوشن، ومن حضر محاربة الحسين، عليه السلام. ثم بعد ذلك سلّط اللّه عليهم مصعب بن زبير، حتّى قتل المختار الثقفىّ، وقتل منهم فى يوم واحد سبعين الفا، ثم سلّط اللّه عليهم بعد ذلك الحجّاج بن يوسف، حتّى اهلك وافنى اكثرهم، وخرّب الكوفة. (1107) قوله: حتّى يؤوب الى العرب عوازب احلامهم، اى الى اهل الكوفة ومن حولها من الاعراب ما غاب عنهم من الرأى، الصائب فى باب الاحتياط والتقوى واتّباع الائمة والعلماء.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 231

(1108) قوله: اعلموا انّ الشيطان انّما يسّنى لكم طرقه، لتتّبعوا عقبه، ومعناه اى فتحه، وسهّله، قال الشاعر: اذ اللّه سنّى عقد شى‏ء تيسّرا، اى سهّل.

يسنّى يفتح ويسهّل.

و فى ذلك سرّ من اسرار الاحتراز عن الشيطن. وهو مأخوذ من قول اللّه، تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما.

الخطبة 129

و من كلام له فى وقت الشورى:

(1109) لن يسرع احد قبلى الى دعوة حقّ وصلة رحم، هذه كرامة من كرامات امير المؤمنين واخبار عن الغيب، اى ما دمت حيّا، فانّى سابق الى هذه الخصال دون غيرى. واخبار عن القطع على استقامة (113 پ) احواله فى العصمة والطهارة على وفق ما اخبره به رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، واخبار عن عزمه انّه يكون سبّاقا، وما عرضت فى عهده مكرمة وفضيلة فى الحال والاستقبال الا هو سابق اليها عليه. (1110) قوله: حتّى يكون بعضكم ائمة اهل الضلالة وشيعة لاهل الجهالة. منهم المختار بن ابى عبيدة، الذى تنبّى فى آخر عهده، فصار اماما للكيسانيّة، وهم اهل الضلالة. ومنهم القطرىّ بن الفجاءة الذى كان اماما للخوارج، وفيهم صالح الخارجىّ، وغيرهم ممّن ادّعى الامامة واعتقد مذهب الخوارج.

الخطبة 130

قوله: من كلام له فى النهى عن غيبة الناس:

(1111) ليس لمسلم ان ينظر الى المذنبين والمجرمين الّا بعين الرأفة والرحمة. والرحمة ليست ها هنا مدحهم وتحسينهم واعانتهم، وانما هى نصيحتهم وموعظتهم والجزع ممّا هم فيه من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة. فان لم يقبلوا النصيحة، فالانابة الى اللّه، تعالى، والدعاء لهم بالتوبة والهداية.

(1112) واعلم ان المسلم العاصى كالعضو المريض، فانّه اذا مرض عضو من الاعضاء، فليس لساير الاعضاء الّا اعانته وطلب راحته وازالة مرضه والمه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 232

كما قال النّبى، عليه السلام، المؤمنون كنفس واحدة. وقال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا. فمن راى صاحب معصية غرّه الشيطان وادركه الخذلان، فليس له الا موعظته وشكر اللّه، تعالى، على انّه محروس مصون عن امثال هذا الخذلان.

و الوقيعة فى الناس دأب الجاهلين، فاشتغل بعيوب نفسك واصلاحها ولا تكن من الغافلين.

و قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: من قال: هلك النّاس ونجوت، فقد هلك. وقال عليه السلام: كفى للمؤمن، ذنبا ان يرى غيره مذنبا حقيرا. (1113) وكان فى بنى اسرائيل من العباد رجل صالح متعبّد ومعتكف فى صومعته، ورجل فاسق زحّى امّه فى الفسق والمعاصى. فراى ذلك الفاسق هذا العابد، فقال مع نفسه: ان جلست (114 ر) ساعة فى صومعته متقرّبا الى اللّه، تعالى، بجواره، ومتبرّكا به، لعفا اللّه عنّى. فدخل صومعة الزّاهد متقرّبا الى اللّه، تعالى، فقال له الزاهد: تنحّ عنّى، فانّا اخاف شؤمك، وانت اخسر خلق اللّه.

فاوحى اللّه الى اشعياء، نبىّ ذلك الزمان، عليه السلام، وقال قل: لهما: استأنفا العمل، فانّى غفرت الفاسق بحسن نيّته، فاحبطت عمل الزاهد بعجبه. وكان فى عهد عيسى، عليه السلام، فاسق فمرّ به رجل من العبّاد، وقال: لا غفر اللّه لك ايّها الفاسق، و[قال اللّه له: بل انا] لا اغفر لك لذلك. (1114) قال امير المؤمنين: لا تعجل فيه غيبة احد بذنبه، فلعلّه مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية، فلعلّك معذّب عليه. وقد اثنى الصحابة، رضى اللّه عنهم، يوما على رجل بين يدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله. فلما دخل المسجد ذلك الرجل، قالوا: يا رسول اللّه هذا الرجل الذى كنّا نثنى عليه فقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: ارى سيماء النفاق‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 233

فيه. ثم سأل النبىّ ذلك الرجل، وقال صدّقنى هل تفكّرت وظننت انّك خير من فلان وفلان وهما من جيرانه، فقال: نعم يا رسول اللّه. فقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله: ذلك من امارات النفاق. (1115) لذلك [قال‏] امير المؤمنين، عليه السلام: فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلا له على معافاته مما ابتلى به غيره.

الخطبة 131

(1116) قوله: ايّها الناس من عرف من اخيه وثيقة دين، قد ثبت فى الشريعة ان التمسّك بظاهر الاسلام هو الواجب فى معاملة الناس، وهو اولى من قبول قول الواحد فيه، بخلاف ظاهره. امّا بالاخبار الكثيرة او بمشاهدة الناس الحال، او باقراره على نفسه، فالامر بخلاف ذلك. وما لم يكن التواتر والمشاهدة والاخبار، فالحكم بحسن الظاهر هو الواجب فى الموالاة والثناء والذبّ عنه شاهدا وغائبا. (1117) قوله: (114 پ) أما انّه قد يرمى الرّامى وتخطى‏ء السّهام ويحيل الكلام، فالمعنى انّ الرّامى السّهام قد يخطى‏ء ويصيب، ورامى الكلام لا يخطى‏ء، بل يؤثّر فى السامع، وان كان كذبا، كما قال الشاعر 1:

         قد قيل ذلك انّ حقّا وان كذبا   ***   فما اعتذارك من شى‏ء اذا قيلا

 

(1118) قوله: وباطل ذلك يبور، يعنى انّ الكاذب يفتضح فى الانتهاء فيضرّه الافتضاح، ولا يضرّ المقذوف والمذكور شيئا سوى ما يثبت له من الاعواض، واللّه سميع شهيد، يسمع ما يقال ويشهد يوم القيامة على الانسان بما صدر منه. (1119) قوله: الباطل ان تقول: سمعت، والحقّ ان تقول: رايت، المراد بذلك الامور المشاهدة المحسوسة خصوصا فى القبايح والحدود. فعند اكثر الفقهاء لا يجوز اقامة الشهادة على الشهادة فى الحدود. فمن اخبر عن مشاهدة ومعه غيره من الشهود، كما قال اللّه تعالى وَالَّذِينَ، فقد صدق‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 234

و اصاب. ومن اخبر عن مشاهدة ولم يكن معه غيره، فقد صدق واخطأ. لانه يقبل ابدا بعده شهادته ويجلّد. وفى غير الحدود من اخبر بقول واحد واثنين دون المشاهدة او التّواتر، فاما ان يكون كاذبا او مخطئا او آثما.

الخطبة 132

(1120) قوله: فليصل به القرابة، يعنى ينفق على اقاربه الفقراء او يهدى الى الاغنياء منهم. (1121) قوله: وليحسن منهم الضّيافة، الضيافة مروّة يستحسنها العقل والدين.

و اوّل من سنّ الضيافة ابراهيم النبىّ، عليه السلام، حيث قال اللّه تعالى: هل اتيك حديث ضيف ابراهيم المكرمين. فمن اتّبع ملة ابراهيم، احسن الضيافة. وقد بقيت سنة ضيافة ابراهيم، عليه السلام، عند قبره الى يومنا هذا.

(1122) ومن شرايط الضيافة ان لا يدعو المضيف الا اهل الصلاح والورع والفقراء، لقول النبىّ، عليه السلام، شرّ الولائم ما يكون فيها الفقير محروما. ولا ينوى فى الضيافة التفاخر والصّلف.

(1123) ومن آداب الضّيف ان (115 ر) لا يترفّع عن ضيافة الفقرآء، لقول النبىّ، عليه السلام، لو دعيت الى كراع، لاجبت. (1124) ومرّ الحسن بن علىّ، عليهما السّلام، بفقرآء يأكلون خبزا متكرّجا، فقالوا له: يا بن رسول اللّه هل لك ا[ن‏] توافقنا، فنزل الحسن، عليه السلام، عن دابّته ورافقهم. فلما فرغ الحسن، قال لهم اجيبونى غدا واحضروا دارى، فاجابوه وحضروا داره. فهيّأ لهم اطعمة لذيذة واحسن ضيافتهم. (1125) ومن شرايط الضيف ان يفطر طلبا لرضى المضيف، فان رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، امر بذلك. وجميع ذلك مقتبس من قول اللّه، تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ، الى آخر الاية. (1126) قوله وليصبر نفسه على الحقوق، يعنى من كان له عندك حقّ من الحقوق، فادّ حقّه بمالك، وادفع النوائب عنك وعن اصدقائك‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 235

و اخوانك فى الدين بمالك ابتغاء الثواب ورضى اللّه، تعالى، كما قال اللّه، تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى‏ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى‏، وَلَسَوْفَ يَرْضى‏.

الخطبة 133

قوله فى الاستسقاء:

(1127) الا وانّ الارض التى تحملكم والسماء الّتى تظلّكم، المراد بذلك انّ الفلك لا تدور طبعا واختيارا وقصدا الى مصالح السّفليات، ولا طلبا لمنفعة من الحيوانات، ولكن الفلك مسخّر لتقدير اللّه، تعالى، كما قال اللّه، تعالى: ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ، وَهِيَ دُخانٌ. (1128) قوله: انّ اللّه يبتلى عباده، المعنى انّ الانسان اذا ساعدته السعادة الدنياوية، اعرض عن ذكر اللّه، ونسى ما قدّمت يداه. واذا مسّه الضّرّ من نقص الثمرات وحبس البركات، لم يجد ملجأ سوى اللّه، فيتوب اليه ويدعوه ويتقرّب الى اللّه بخضوع وخشوع، فيكون ذلك الخشوع والانابة من اسباب هدايته ونجاته. (1129) قوله: بعد عجيج البهائم، العجّ رفع الصوت، وقد عجّ (115 پ) يعجّ عجيبا. وفى الحديث افضل الحجّ العجّ والشّجّ، ومنه نهر عجاج، اى لما به صوت.

الخطبة 134

قوله: فى خطبّه اخرى:

(1130) الا وانّ اللّه قد كشف الحقّ كشفة، لا انّه جهل ما اخفوه،

قيل هذا بيان لحقيقة التكليف

و قد سمّى اللّه التكليف فى القرآن اختيارا وامتحانا وابتلاء وفتنة، كما قال اللّه تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ. وقال: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ وقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. والظّاهر من هذه الآيات على [ما] ظنّه الجّهال انّ التكليف انّما صدر عن اللّه تعالى، ليعلم اللّه ما لم يكن عالما قبل التكليف بكلّ معلوم. الا ترى انّ التكليف امر ونهى وكلاهما يتعلّقان بافعال مخصوصة ومقدارات متميّزة، لانه لا يامر بفعل مطلق ولا ينهى عن فعل مطلق، انّما يامر بما اختصّ بوجه وينهى عمّا اختصّ بوجه مخصوص. فدل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 236

على انّه، تعالى، عالم بافراد المقدورات، حتّى يامر منها ببعضها الّذى اختصّ بصفة وتميّز بوجه. وانما التكليف كاشف عمّا علمه اللّه، تعالى، من احوال العباد، وانّهم يفعلون كذا، فيستحقّون كذا. فكما يعلم انّ زيدا يؤمن اذا كلّف، وعمروا يكفر اذا كلّف، فكذلك يعلم نفس افعالهم على صفاته، فيأمر ببعضها وينهى عن بعضها، ويعلم ما يوجد من افعالهم، وما يبقى على العدم.

و انما يظهر لنا احوالنا فى الطاعة والمعصية وافعال بعضنا لبعض بالتكليف. فاذا ورد التكليف، ظهر لنا احوالنا المستورة بتكليف اللّه، تعالى، فصارا التكليف كاشفا عنّا وعن احوالنا. لذلك قال، عليه السلام: الا وانّ اللّه قد كشف الخلق كشفة لا انّه جهل ما اخفوه، بل اللّه، تعالى، هو الكاشف لنا من انفسنا فالتكليف كشف، والمكشوف له هو الخلق كلّهم. فامّا اللّه، تعالى، فمنزّه عن ان يخفى عليه معدوم او موجود، تعالى عن ذلك علوّا كثيرا. (1131) قوله: بواء،

فى كتاب الغريبين البواء (116 ر) اللّزوم، يقال اباء الامام فلانا بفلان، اى الزمه دمه، وقتله به، وفلان بواء لفلان، اذا قتل به.

و فى الصحاح كلّمناهم فاجابونا عن بواء واحد، اى اجابونا جوابا واحدا.

و هو كقوله تعالى: وَبَوَّأهُ اللّهُ منزلا، اى الزمه ايّاه واسكنه ايّاه والبواء المنزل الملزوم. وفى الحديث الجراحات بواء، يعنى انّها متساوية فى القصاص، وانه لا يقتصّ للمجروح الا من جارحه الجانى عليه، ولا يؤخذ الا بمثل جراحته سوآء، فكذلك البواء. (1132) قوله: وبسأ به، يقال بسأت بالرجل وبسيت به بسآء وبسؤا، اذا استأنست به.

الخطبة 135

(1133) قوله: قد مضت لنا اصول نحن فروعها، منقول عن منوچهر الملك فى الكتب القديمة، والتوارد يتّفق فى الاشعار والحكم والمواعظ. (1134) قوله: ان عوازم الامور افضلها، يعنى الامور القديمة. والعوزم الناقة المسّنة والعوزم العجوز. قال الشاعر: لعوزم وصبية سغاب.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 237

الخطبة 136

قوله: واعلموا انّكم لن تعرفوا الرشد حتّى تعرفوا الّذى تركه،

قيل: يحتمل معناه انّ الحقّ لا يمكن معرفته بتفاصيله واحكامه، حتى يعرف من خالف الحقّ. فامّا نفس الحقّ على الجملة، فانّه يعرف قبل معرفته بالمبطل.

(1136) ويحتمل انّ المراد بقوله حتّى تعرفوا الّذى تركه، نفس الباطل. فذكر تارك الحقّ وهو المبطل، واراد نفس الباطل. وهذا صحيح، لانّ من اراد ان يعرف اللّه، تعالى، لا يمكنه ان يعرفه حتّى يعرف ان ساير الاشياء الّتى شاهدها ويتوهّمها ليس فيها ما يعبد ويكون الها. وهذا تفصيل قول القائل: «لا اله الا هو»، وفرق بينهما. فانّ احدهما توحيد الخواصّ والآخر توحيد العوامّ.

(1137) واشار الى هذا المعنى سيّد المرسلين ايضا، عليه الصلوة والسلام، قال: من كفر بالجبت والطاغوت، فقد آمن باللّه. وتصديق ذلك فى كتاب اللّه، تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ (116 پ) وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لَا انْفِصامَ لَها. والعرب يسمّى الكاهن والكاهنة الجبت والطّاغوت.

قال جابر بن عبد اللّه: الجبت فى حبشة والطاغوت فى اسلم.

وقال: بعض اللغويين: الجبت السّحر، والطاغوت الكاهن.

قيل: الجبت ليس من محض العربيّة، لاجتماع الباء والتّاء فى كلمة واحدة من غير صرف.

(1138) قوله: والطاغوت فاعول من الطغيان.

وقيل الجبت والطاغوت الشياطين.

(1139) فالتمسوا ذلك من عند اهله، اشارة الى انّ من لم يقف على اهل مطلبه لم يفز بمطلبه، كما انّ من لم يقف على معدن الذّهب والفضّة، لم يفز بهما، فان الذهب لا يوجد من معادن الملح والنفط والكبريت. (1140) وقوله: عليه السلام: وصمتهم عن منطقهم، فالمراد بذلك انّ طاعتهم طاعتان: طاعة بالظاهر، وطاعة بالباطن. وطاعة الباطن اقرب الى القبول من طاعة الظّاهر، فانّ المقصود من عمل البدن تغيير صفة القلب. وليس‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 238

المراد من عمل القلب تغيير صفة البدن. فان المسافر من منزل الدنيا الى الملكوت هو القلب. فصمتهم يخبر عن منطقهم، لانّهم اقبلوا بالكليّة على اعمال القلوب. وقال النبىّ، عليه السّلام: نيّة المؤمن خير من عمله. (1141) قوله: شاهد صادق، فالصّدق على ستة اوجه: فالاول الصّدق فى اللسان، فى المحاورات والمخاطبات، والثانى الصّدق فى المناجات، والثالث الصّدق فى النيّة والعزم، والرابع الصّدق فى الوفاء والعهد، والخامس الصّدق فى الاحوال، وهو ان لا يظهر خلاف ما فى قلبه، والسادس الصّدق فى المجاهدة، وهو انّه لا يقنع بظواهر الفضايل، كما قال اللّه، تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (117 ر).

الخطبة 137

(1142) قوله: صامت ناطق، اى ينطق بالقلب ولسان الحال، واللّه اعلم. (1142 م) قوله: فى ذكر اهل البصرة لا يمتّان الى اللّه، تعالى، بحبل، عنى به الزّبير بن العوّام وطلحة بن عبيد اللّه، وانّهما لا يستحقّان الامامة بعد ما بايعا طوعا امير المؤمنين علىّ بن ابى طالب، عليه السلام، ولم يكن الصلاح فى امامتها. (1143) قوله: وقدّم لهم الخبر، اى بلغهم عن رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، انّ طائفة من الامة تبغى، فيجب على غيرها قتالها. وقد نطق القرآن به حيث قال: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما. فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللَّهِ.

الخطبة 138

فى كلام له قبل موته،

(1144) قوله: وخلاكم ذمّ، هذا مثل العرب، يقال: خلاك ذمّ، اى عداك وجاوزك، فجعل «خلا يخلوا» فى التعدية بمنزلة «خلا يخلى». ومنه قول عبد اللّه بن رواحة الانصارىّ:

         فشأنك وانعمى وخلاك ذمّ   ***   ولا ارجع الى اهلى ورايى‏

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 239

و اوّل من قال هذا المثل قصير بن سعد غلام جذيمة الملك حين حثّ عمرو بن عدىّ ابن اخت الملك على طلب ثار جذيمة. فقال عمرو: كيف لى بذلك والزباء امنع من عقاب الجوّ فقال قصير: اطلب وخلاك ذمّ. (1145) قوله: ما لم تشردوا، شرد البعير يشرد شرودا وشرادا، نفر، فهو شارد وشرود والشريد الطريد. (1146) قوله: حمل كلّ امرء مجهوده، مقتبس من قول اللّه، تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. (1147) قوله: انّما كنت جارا جاوركم بدنى، يعنى: انّ قلبى لم يجاوركم، بل كان مجاورا لاهل السماء فى النّية وطلب رضوان اللّه. (1148) قوله: وداع أمر مرصد للتلاقى، يريد به سآمته عن الدنيا ورغبته فى الاخرة.

الخطبة 139

قوله: من خطبة له فى الملاحم،

(1149) يسرى فيها بسراج منير، عنى به انّ فى زمان الفتنة لا ينجوا الا العالم بالدين، واولى العلماء بالاستقامة (117 پ) فى زمان امير المؤمنين علىّ، عليه السلام هو ومن تابعه. (1150) قوله: ليحلّ فيها ربقا ويعتق رقّا، اذا قامت الفتنة يقوم فيها هاديا الى الحقّ قايلا بلسان الصّدق، يكشف الشّبه عن اصحابها، ويوضح الحجّة لاربابها. (1151) قوله: لا يبصر القائف اثره، القائف الذى يزجر بالاعضاء، والعائف الذى يزجر بالطير، والّذى يعرف الماء تحت الارض هو الشام ، والذى يضرب بالحصى الطارق، والذى ينظر فى الحلال  الحار . (1152) قوله: حتّى اذا اخلولق الاجل واستراح قوم الى الفتن، اى طال زمان الفتنة على الناس فاعتادوها ودانوا بها، فيقوم فيهم من سلم من الفتنة فينا صحهم ويعظهم ويزجرهم. فاذا احتيج الى القتال، جاهدهم باليد والسيف، كما جاهدهم باللسان.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 240

(1153) قوله: على سنّة من آل فرعون، يعنى انّهم استضعفوا بنى اسرائيل وظلموهم، وغفلوا عن عواقب امورهم.

و مالوا الى زخارف الدّنيا، ورضوا بالحيوة الدنيا، واطمأنّوا بها. فتنة رجوف مضطربة من الرجفان وهو الاضطراب.

الخطبة 140

القاصمة الداهية. الزّحوف من النوق التى تجرّ رجلها اذا مشت، ويقال: سهم زاحف وزحوف يقع دون الغرض. ثم يزحف اليه. واصل الزحف المشى، فاطلق على كلّ ما يمشى الى الانسان، ويقصده ويأتيه. واكثر استعماله فى المكاره. (1154) قوله: تدقّ اهل البدو بمسحلها وترضّهم بكلكلها، المسحل المبرد واللسان [و] الخطيب، والحمار الوحشىّ، والمسحلان حلقتان فى طرفى شكيم اللّجام احديهما مدخله فى الاخرى، ومسحل اسم تابعة الاعشى، حيث قال:

         دعوت خليلى مسحلا ودعوا له   ***   جهنّام جدعا للهجين المذمّم‏

 

(1155) قوله: وحدان، يقال: فلان اوحد اهل زمانه، والجمع احدان مثل اسود وسودان، واصله وحدان. (1156) قوله: بريّها سقيم (118 ر) وظاعتها مقيم، يعنى: انّ كلّ من هم ببراءة ساحته منها لا يساعده مقصوده، ومن همّ بالانفصال عنها، نشب فيها. (1157) قوله: يختلفون بعقد الايمان، عبارة عمّا ترى فى زماننا انّ الناس يحلفون باللّه ويواكدون امورهم بالعهود والمواثيق، حتّى يعتمد عليهم خصمهم ويجنح لسلمهم. فاذا ظفروا بخصمهم، واخلوهم بايمانهم، نقضوا عهودهم، ونكثوا ايمانهم، وفعلوا ما ارادوا.

الخطبة 141

قوله فى خطبة اخرى له:

(1158) الحمد للّه الدّال على وجوده بخلقه،

قال الامام الوبّرىّ المتكلّم: معناه انّ الفعل لا يصحّ الا من قادر، فالفعل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 241

يدلّ بواسطة الصحّة على القادر، والقادر لا يصحّ كونه قادرا حتّى يكون موجودا، لاستحالة كون المعدوم قادرا، ولقيام الدلالة على ذلك. فصحّ انّه، تعالى، دلّ على وجوده بخلقه. فكلّما وجد مقدور من مقدوراته، دلّ على وجوده من هذا الوجه. فاذا ترادف وجود الافعال منه، توالت دلالتها، واستمرّت على انه، تعالى، موجود.

قال: وبمحدث [خلقه‏] على ازليّته،

قال و: لانّ الحوادث لا بدّ من نهاية ينتهى اليها. فلو كان فاعلها محدثا، لم يكن للحوادث نهاية، او يصحّ وجود محدث لا محدث له، وهما محالان. فلا بدّ من الحوادث من نهاية وغاية ينتهى عندها. ولا يصحّ التناهى فيها حتّى يكون مضافة الى فاعل قديم. فمن هذا الوجه يدلّ على ازليّته لا بمجرّد حدوثها. فانّها لو دلّت بمجرّد الحدوث على ازليّة فاعلها، لاستحال الفعل منّا، او دلّ على قدمها، وهما محالان.

(1159) قوله: وباشتباههم على ان لا شبه له،

قال و: معناه لو كان له شبه ومثل، لم يجز الّا ان يكون معقولا. لان ما لا يعقل، محال اعتقاده واثباته، وليس شى‏ء معقول من الاجناس، الا وهو موجود. فما خرج عن هذه الاجناس، فغير معقول. والمعقول جوهر وعرض، والاعراض اجناس، محصورة. وليس فى هذه الاجناس (118 پ) ما يصحّ كونه قديما، اذ الدلالة قد دلّت على حدوث كلّ جنس منها. والمقدور من كلّ جنس مثل الموجود منه. واما الجنس الّذى لم يوجد، فالفنآء وحدوثه ظاهر. ولا يجوز ان يكون فى الاجناس المعقولة ما يكون مثالا للقديم. اذ المحدث يستحيل ان يكون بصفة القديم. فاذا لم يكن غير المعقول جايزا صحيحا، والصحيح الجايز المعقول لا يصحّ الا ان يكون محدثا، لم يجز ان يكون فى الاشياء الموجودة ما هو مثل له، تعالى. وقد دلّت هذه الاشياء على اللّه، تعالى، من هذا الوجه الّذى ذكرناه. واشتباهها فى الحدوث يدلّ على انّه تعالى لا شبه له.

(1160) ووجه آخر وهو انّ كلّ واحد منها محدث، وفاعلها قديم،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 242

و القديم يستحيل ان يشبه كلّ محدث، فمعناه باشتباهها يدلّ على انّه لا شبه له منها.

(1161) ووجه آخر وهو انّ الآشياء المتماثلة فى الصورة والخلقة، يدل على انّ فاعل كلّ واحد منها علم بحقيقته كلّ شى‏ء حتّى يمكنه ان يأتى بالثانى كانّه غير الاوّل فى الصورة فى غاية التماثل والاشتباه والموافقة.

و كلّ فاعل سواه لا يتأتّى منه ولا يصحّ الموافقة بين افعاله حتّى لا يميّز بعضها من بعض. فغاية التشابه فى افعال اللّه، تعالى، دلالة على مخالفته لساير الاشياء، من حيث انّ افعاله يتشابه تشابها لا مزيد عليه فى العقل، ومخالفته لساير العالمين لا يصحّ حتّى يستغنى عن العالم، ولن يستغنى عنه حتى يكون قديما، وهذا مما يحتمله، قوله: وباشتباههم على ان لا شبه له.

(1162) وقال ايضا واحد من العلماء: كلّ ما وجد بعد العدم فهو صنع اللّه، وفيه من العجائب والغرايب ما لا يحصى. وصنع اللّه ينقسم قسمين: قسم لنا به علم وشعور، وقسم ليس لنا به علم وشعور. وهذان القسمان فى قوله، تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ. واما القسم الّذى لنا به علم، (119 ر) فينقسم قسمين: قسم يدركه حاسّة البصر، وقسم لا يدركه البصر، مثل العرش والكرسىّ والملائكة والشياطين والجنّ. والذى يدركه البصر السماء والارض والكواكب والآثار العلويّة والجمادات والحيوانات والنّبات. فالتفكّر فى هذا القسم المدرك المرئىّ المخلوق يدلّ على وجود الصّانع القديم، تبارك وتعالى. كما قال اللّه، تعالى: أَ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ.

(1163) فاوّل ما يجب على الانسان، كما قال اللّه، تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ، فاوّله نطفة ومنبعها الصّلب والتّرائب. فصيّرها اللّه شبيهة ببذر، وصيّر القرار المكين مزرعها وسقاها دم الحيض كما يسقى الدهقان زرعه. كما قال: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 243

عِظاماً، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً فيصير النطفة علقة فى عشرة ايّام، ويصير العلقة مضغة فى شهر. واذا كان الجنين ذكرا، يتمّ خلقه بين الثلثين والاربعين، وان كان انثى، يتمّ خلقها بين الاربعين والخمسين. وكلّ من اكمل اللّه، تعالى، خلقه، وميّز اعضاءه من الاجنّة فى احد وثلثين يوما، فانّه يتحرّك فى ضعف ذلك، يعنى فى اثنى وستّين يوما، وعلى هذا القياس. واذا اتى على الجنين سبعة اشهر، تحرّك واضطرب، فطلب المخرج. فان كان قويّا، ارتفع الحجاب، وولد بسبعة اشهر. وان لم يكن قويا، مرض بسبب هذه الحركة، وضعف، فيبقى فى الشهر الثامن ضعيفا. فان ولد، لا يعيش، وان اتى عليه تسعة اشهر، تحرّك.

و ان كان صحيحا، فانتقل بتقدير اللّه، تعالى، من القرار المكين الى فضاء الدنيا. والتشريح يدلّ على عجائب خلقة الانسان.

(1164) ثمّ انظر فى انواع النبات، بعضها مفرّح، وبعضها مقوّ، وبعضها مرّ، وبعضها حلو، (119 پ) وبعضها مبذّر، وبعضها غير مبذّر. وبعضها غذاء الانسان، وبعضها غذاء ساير الحيوانات. وفى كل نبات منفعة بل منافع، يدلّ عليه الكتب الطّبيّة والكتب المصنّفة فى خواصّ الاشيآء، حتى يتحقّق عندك قول امير المؤمنين، عليه السلام، حيث قال: الدّالّ على وجوده، بخلقه. (1165) ثمّ انظر الى الودايع التى فى المعادن كالذهب والفضّة والفصوص والنّحاس والحديد والملح والقار. وانفس المعدنيّات الذهب، واخسّ المعدنيّات الملح. فانظر فى فايدة الملح ومنافعه وحاجة الناس اليه، حتّى يتحقّق عندك معنى قول امير المؤمنين علىّ، عليه السلام، الدالّ على وجوده بخلقه. (1166) ثمّ انظر الى الحيوانات الّتى يمشى بعضها على قوائمه وبعضها على بطنه، وبعضها على رجلين، وبعضها يطير، وبعضها ينساب، وبعضها يدبّ، لكلّ واحد شكل خاصّ وصورة خاصّة. والهم كلّ واحد من تلك الحيوانات كيفيّة طلب الاغذية الملايمة له، وكيفيّة تربية اولادها

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 244

و اجرائها واشبالها وفراخها.

(1167) ثمّ انظر فى عجايب النّحل خاصّة وخواصّ خلايا النحل واشكالها.

(1168) وانظر فى النملة التى خلقها اللّه، تعالى، وسوّى خلقها، واودع فى باطنها الوهم والخيال والقوة الغاذية والهاضمة والجاذبة والماسكة والدافعة، والهمها كيفيّة اذّخار قوتها، فانها يقطع الحنطة والشعير حتّى لا ينشأ، ويبقى الجلجلان على حاله، الهاما منها. فانه لا ينبت الّا اذا دقّت وكسرت.

و اذا برزت اغذيتها من مكامنها، حتّى يجففّها، الهمها قبل نزول المطر، حتّى يردّها الى مكامنها.

ذلك تقدير العزيز العليم الّذى دلّ على وجوده. بخلقه. (1169) قوله لا تسلمه المشاعر، المناسك والمشاعر هاهنا الحواسّ.

قال بلعاء بن قيس قوله:

         والراس مرتفع فيه مشاعره   ***   يهدى السبيل له سمع وعينان‏

 

قال الامام الوبرىّ: معناه لا يجوز (120 ر) عليه الحواسّ ولا يحيط [به‏] الحواسّ. فانّ المشاعر انّما يتصوّر اذا كان الحىّ جسما، فيصير اطرافه مشاعر، لانّه يصحّ ان يدرك بكلّ جزو وقدر، فتشتمله آلات الادراك، لانّ اجزاءه او اكثرها محلّ الحياة.

(1170) قوله: ولا يحجبه السواتر، لانّه ليس فى جهة [و لا محلّ‏]، لاستحالة كونه جوهرا وجسما. ولانّه ليس بعرض حالّ فى جسم، فلا يجوز عليه السواتر لاستحالة كونه فى محل واستحالة كونه فى جهة. (1171) قوله لافتراق الصّانع والمصنوع،

قال و: انما جعل افتراق الصانع للمصنوع وجها فى مباينته للاشياء، وذلك لانّ الصانع هو القادر، والمصنوع هو المقدور. والقادر انّما يصحّ كونه قادرا، لصفة يختصّ به، وكذا المقدور انّما صحّ كونه مقدورا. فالصفة المصحّحة لكونه قادرا يصحّح‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 245

كونه مقدورا. والمصحّحة لكونه مقدورا لا يصحّح كونه قادرا. فمن حيث هو قادر هو مباين لكونه مقدورا. الا ترى ان الجسم انّما صحّ قادرا لكونه حيّا، وصحّ كونه مقدورا لصفة ذاته، وهو كونه جوهرا. فكونه حيّا لا ينوب عن كونه جوهرا، ولا كونه جوهرا ينوب عن كونه حيّا. فالصّفتان من طريق حكميهما كالمختلفين. فاذا ثبت هذا، فالقادر يجب ان يخالف المقدور من حيث كونه قادرا، والمقدور يخالف القادر لكونه مقدورا. فلا يلزم عليه كونه جسما وقادرا، لما اوضحنا من الفصل ان يكون قادرا بناء على كونه حيّا، وكونه فعلا مّا على كونه جوهرا. فلم يكن قادرا لكونه جوهرا، ولم يكن جوهرا لكونه قادرا، حتّى يستحيل كونه قادرا فعلا، بل الوجهان والصّفتان متباينان. والمؤثّر فى المفارقة اذا رجع الى ذات واحدة كالراجع الى ذاتين. وهذا معنى قوله: والحادّ والمحدود والرّب والمربوب.

(1172) قوله: الاحد بلا تاويل عدد،

قال الامام الوبرىّ: قد بيّنا معنى الواحد فى صفات اللّه، تعالى، وانّها على ثلثة اوجه على ما بينّا.

(120 پ) والعدد انما يدخل فى الاجناس، وفى كل جنس فى الامثال. فاذا لم يكن، تعالى، من الاجناس، ولم يكن له مثل، فيعدّ واحدا من الجنس، ولم يجزان يكون واحدا من العدد، فانّ تقدّم الواحد على الاثنين تقدّم بالماهية لا بالوجود، تعالى اللّه عن ذلك، فان اللّه، تعالى، يتقدّم على المخلوقات بالوجود الازلىّ.

(1173) قوله: والخالق لا بمعنى حركة ونصب،

قال و: انما يصحّ الحركات على الاجسام، فالفاعل اذا كان جسما، فانّما يقع البداية فى افعاله بتحريك نفسه. فاذا توالت الحركات افضت الى الفناء والنّصب. وذلك مقصور على الجسميّة. والفاعل اذا كان غير جسم، فانّما يفعل الافعال فى البداية والنهاية فى غيره، لانّه يستحيل كونه محلّا للافعال. واذا لم يكن محلّا للافعال، استحال عليه النّصب.

 

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 246

(1174) قوله البصير لا بتفريق آلة،

قال بعض الآطبّاء: السواد لون جامع للبصر، والبياض لون مفرّق للبصر. فمعناه بصير لا بواسطة الالوان والحواسّ.

وقال قوم: البصير انما يدرك بانفصال الشّعاع عنه، واتّصاله بالمدرك. فلذلك قال: لا بتفريق آلة.

(1175) قوله: الشاهد لا بمماسّة، لانّ معنى الشّاهد فيه، تعالى، هو العالم، وصفة العالم لا يقتضى مجاورة ولا مماسّة مع المعلوم. (1176) قوله الباين لا بتراخى مسافة.

قال و: لانّ مباينته، تعالى، للاشياء هو مخالفته لها فى صفاته. وهذا لا يوجب تراخى المسافة.

وقال قوم: حدّ الواحد انّه موجود لا ينقسم من حيث هو ذلك الواحد، وهو الّذى به يقال فى كلّ موجود انّه واحد. والفرق بين الواحد والوحدة، انّ الوحدة مبدأ العدد، والواحد مبدأ المحدود. وحدّ الكيفيّة صورة موجودة فى الشى‏ء اذا سئل عن الشى‏ء بكيف هو، اجيب بها.

(1177) قوله: الخالق لا بمعنى حركة ونصب،

قال قوم: فرق [بين‏] الخالق والفاعل، فالفاعل اعمّ من الخالق، فانّ الفاعل هو الّذى يفعل، وهو منقسم الى من يفعل شيئا من شى‏ء، (121 ر) كالبنّاء الذى يفعل من الطين والآجرّ والخشب البنآء. والخالق هو الّذى يفعل من لا شى‏ء شيئا، كما قال اللّه، تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ.

(1178) قوله: لا بمعنى حركة، الحركة انتقال من حال الى حال، امّا من نقص الى كمال، او من كمال الى نقص، ذلك عند قوم. وهو ينقسم الى حركة طبيعيّة وقسريّة واراديّة. (1179) قوله: وقادر اذ لا مقدور،

قال قوم: القادر الذى لا يعوزه شى‏ء.

و الخلق فى القرآن بمعنى الدين فى قوله: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ، ولا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. والخلق التخليق فى قوله: إِنْ هذا إِلَّا. والخلق التصوير فى قوله: تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ، اى يصوّر. والخلق بمعنى الفعل فى قوله: وَتَذَرُونَ ما

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 247

خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ. والخلق البعث والحشر فى قوله: فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ، يعنى بعثا فى الآخرة، وفى قوله: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ. (1180) قوله: الظاهر لا برؤية والباطن لا بلطافة، لان الظاهر هاهنا هو الّذى يدلّ العقول على وجوده الازلىّ، ومعنى الباطن انّه عليم بسراير الامور.

و اللطافة عند المتكلّمين عبارة عن قلّة الاجزآء. وذلك يباين معنى العالم. (1181) قوله: بان من الاشياء بالقهر لها، قال وهو معنى مفارقته فى صفات الذّوات، وهو يقهر الوجود الجايز بالعدم، والعدم الجايز بالايجاد والاحداث. فبان منها، وبانت الاشياء منه بالخضوع له والرجوع اليه، معناه انّها عرضة لانفاذ قضائه وتدبيره فيها.

(1182) قوله: من وصفه، فقد حدّه، القول فيه ما تقدّم. (1183) قوله: من عدّه، فقد ابطل ازله، لان الاعداد والابعاد محدثة، والمحدث لا يلايم القديم.

وقال الامام الوبرىّ: العدّ انّما يدخل فى الاشياء المثليّة. فمن اعتقد العدّ فيه، تعالى، فقد قضى باثبات امثال له. والقدم يحيل المثل، وينبو عن المماثلة.

(1184) قوله: من قال: كيف، فقد (121 پ) استوصفه، ومن قال: اين، فقد حيّزه، مقولة «كيف واين» داخلتان فى الاعراض عند اكثر الحكماء، واللّه، تعالى، منزّه عن ذلك.

وعند المتكلّمين من قال: كيف زيد، سئوال عن الاحوال الجسميّة من الصّحّة والسّقم والتموّل والفقر وغير ذلك. [و] اللّه تعالى منزّه عن الاحوال الجسميّة:

قال الجوهرىّ فى كتاب الصحاح: «كيف» استفهام عن الاحوال.

و قد يقع بمعنى التعجّب كقوله، تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ.

(1185) [قوله:] عالم اذ لا معلوم، يعنى لا معلوم سواه فى الوجود كما قال: قادر اذ لا مقدور، يعنى: فى الوجود.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 248

(1186) قوله: وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر،

قال ابو عبيدة: يقال غارنى الرّجل يغيرنى ويغّورنى، اذا وداك، من الديّة، والاسم الغيرة ايضا بالكسرة، وجمعها غير.

قال الشاعر:

         لنجدعنّ بايدينا انوفكم   ***   بنى اميّة ان لم يقبلوا الغيرا

 

و قال بعضهم: انه واحد وجمع اغيار، والغير ايضا الاسم من قولهم: غيّرت الشى‏ء فتغيّر

معناه انه لمّا اشتدّ عليهم البلاء من اعداء اللّه، التجأوا الى اللّه وانتظروا الفرج من عنده كعادة المؤمنين عند نزول البلاء فى التضرّع الى اللّه، تعالى. (1187) قوله: فى الائمة، لا يدخل الجنة الا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النّار الا من انكرهم وانكروه،

قال قوم: معنى ذلك انّ المعرفة بنصب الامام لبيضة الاسلام واجبة على المسلمين، وان نصبه واجب، ولا يصحّ نصبه الا بمعرفة من يستحقّها عند قوم، معرفة بالاوصاف، فذلك ركن من اركان الاسلام. والتعريف بالوصف ابلغ من التعريف بالاسم، كما قال اللّه، تعالى: وَحَمَلْناهُ عَلى‏ ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. فكما انّ معرفة الامام ونصبه لا زمان، فكذلك الطاعة له واجبة على المسلمين، وتوطين النفس على الانفاذ له اذا انتصب.

و قد عبّر امير المؤمنين علىّ، عليه السلام، (122 ر) عن هذا المعنى فى زمن الخلافة، كما قال النبىّ، عليه السّلام: الخلافة بعدى ثلثون سنة، ثم ليصير ملكا. (1188) قوله وجماع كرامة، الجماع لفظ معروف من المجامعة، يقال جماع لبنى فلان، اذا كانوا يجتمعون اليه. والجماع القدر الّذى يجمع الحضور 1 كلّها. ثم اطلق هذا اللفظ على كلّ ما يشتمل ويعمّ، كما قال النبىّ، عليه السلام: الخمر جماع الاثم، اى الخمر هى التى تجمع صنوف الاثم، كما يجمع القدر اعضاء الجزور. فكذلك هاهنا. (1189) قوله: فيه مرابيع النّعم، المرابيع الامطار التى تجى‏ء فى اول‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 249

الربيع. قال لبيد فى صفة الديار:

         رزقت مرابيع النّجوم وصابها   ***   ودق الروّاعد جودها فرهامها

 

و عنى بالنجوم الانواء. والمرباع ياخذه الرئيس، وهو ربع الغنم. وناقة مرباع تنتج فى الربيع. (1190) قوله: حتى اذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم، ظاهر الكلام يقتضى انّه عائد الى الكفّار بدليل قوله: وهو فى مهلة من اللّه. وقال اللّه، تعالى، مخاطبا لنبيّه، عليه السلام: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً. وقد اتاهم الرّسول، عليه السّلام: فردّوا عليه واقبلوا على الطواغيت والاوثان وطاعة الشيطان، وان كانوا من قبل ذلك كافرين. فقد ازدادوا كفرا الى كفرهم بعصيانهم الرسول. فلمّا استمروا على ذلك، اذن اللّه فى قتالهم لعلمه بصلاح الفريقين فى ذلك. فكان جهاد المسلمين كشفا عن جزاء معصيتهم. لانّه لولا كفرهم، لم يكن جهادهم واجبا. فهذا معنى استقبال المدبر. لانّ طاعة من لا يستحقّها، كانّه استقبال لما يرجع القهقرى، وعصيانهم الرسول، وهو اصل ان يطاع، ويقبل امره، استدبار ونكوص على الاعقاب عمّن يقبل اليهم مسارعا الى خيرهم وفلاحهم.

و قيل يرجع معناه الى الغافلين العاصين.

فاذا «كشف لهم عن جزاء معصيتهم» عبارة عمّا يعرض لهم من كشف الغطاء عند الموت، (122 پ) فكانوا نياما. فاذا ماتوا، انتبهوا. فاستقبلوا مدبرا، يعنى هذا العالم المملوّ من الآفات، واستدبروا مقبلا يعنى عالم الجزاء، ولم ينتفعوا بما ادركوا من طلبتهم. لان اللّه، تعالى، قال: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، ولا بما ادركوا من طلبتهم من نعيم الدّنيا، ولا بما قضوا من وطرهم من اللّذات المخدجة. وقال: «و انى احذّركم، ونفسى هذا المنزلة» لانّها منزلة الحسرة والنّدامة، حين لا ينفع الحسرة والندامة. (1191) قوله: ثم سلك جددا واضحا يتجنّب فيه الصّرعة فى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 250

المهاوى، مأخوذ من المثل السائر: من سلك الجدد، امن العثار. ومعنى الجدد الارض المطمئنّة المستوية.

قال الهروىّ: جعل العرب سلوك الجدد مثلا لترك التصدّى للمهالك والتعرّض للمتالف، لانّ الانسان، اذا لم يسلك الا الجدد، امن العثار. ويضرب هذا المثل فى طلب العافية.

الخطبة 142

(1192) قوله: والضلال فى المغاوى، المغاوى الدّواهى، والمغواة حفرة كالزّبية. وفى الامثال من حضر مغواة وقع فيها. ومنها المغاوى المذكورة هاهنا. (1193) قوله النبيّ الاميّ،

فى كتاب الغريبين: قوله، تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، وهو مشركو العرب، نسبوا الى ما عليه أمّة العرب، وكانوا لا يكتبون. ومنهم النبىّ الامىّ، وهو الذى على جبلّته الاميّة.

و منه الحديث: بعثت الى الأمّة الأمّيّة.

و قيل: هى التى على اصل ولادات أمّهاتها لم يتعلّم الكتاب. فالنّبىّ الأمىّ هو الّذى على جبلّته الّتى ولد عليها، نسب الى ما ولدته عليه امّه من الفطرة الطّيّبة معجزة له.

(1194) قوله: دعه وما رضى لنفسه، هو معنى المثل الساير للعرب: دع امرا وما اختار، اى دع امرا مع ما اختار. وقد عبّر الشاعر (123 ر) عن معنى هذين الكلامين فى قوله:

         اذا المرؤ لم يدر ما امكنه   ***   ولم يأت من امره ازينه‏

         فدعه فقد ساء تدبيره‏

   ***   سيضحك يوما ويبكى سنة

 

(1195) قوله: كما تدين تدان، هذا مثل للعرب، اى كما تجازى تجازى. والكاف فى محلّ النصب نعتا للمصدر، اى تدان مثل دينك. وقال واحد من البلغاء فى موعظته: كما تدين تدان. (1196) قوله انّ من عزائم اللّه فى الذكر الحكيم، اى الواجبات المعلومة والاوامر المحتومة بالادلّة القاطعة. والذكر الحكيم القرآن، و

قيل اللّوح المحفوظ.

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 251

(1197) قوله: اجهد نفسه، يقال جهد دابّته واجهدها اذا حمل عليها فى السّير فوق طاقتها، واجتهد نفسه، حمل عليها وكلّفها ما هو خارج عن استطاعتها. استطاعتها. (1198) قوله: أو يلقى الناس بوجهين، قال هو التصنّع لكلّ احد بما يشبهه فعلا. والمرائى هو الّذى يرى من نفسه خصلة حميدة ليس منها فى شى‏ء. (1199) قوله: أو يمشى فيهم بلسانين، هو الذى يكلّم كلّ احد بما يهواه، فهذا يصنع بلسانه ما يصنع الاوّل بفعله. (1200) قوله: المثل دليل على شبهه 1

يريد بذلك ذكر البعض عن الكلّ.

كذا قال الامام الوبرىّ.

(1201) و

قال المبرّد المثل المثال.

وقيل المثل الصّفة فى قوله، تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ، لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، اى الوصف. ومُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاى صفتهم. والمثل بمعنى المثل كشبه وشبه. والمثل العبرة فى قوله، تعالى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا اى عبرا.

و الشّبهة الاشتباه. والشبه معروف، فمن روى الشبه، قال: المثل بمعنى المثال، يعنى المثال يدل على شبهه يعنى من طريق المقايسة. ومن قال: المثل بمعنى الوصف والصفة، فكذلك. ومن قال: المثل بمعنى العبرة، فمعناه اى العبرة يدلّ على اشتباه او المثال يدل على اشتباه.

لان بالمثال يرتفع الشبهة ويتّضح المقصود. هذا ما قيل فى كلامه، عليه السّلام. (1202) قوله: (123 پ) انّ البهائم همّتها بطونها، اضاف القوّة الشهوانيّة الى البهايم. فمن ضيّع ايّامه فى قضاء تلك الشهوة، فهو فى دركات البهايم. واضاف القوّة الغضبيّة الى السباع الضّوارى. فمن اطاع تلك القوّة، فهو فى دركات السّباع. واضاف حبّ الزينة والتجمّل وقلّة التفكّر فى العواقب والفساد فى الارض الى النّساء، لانّ اكثر الخصومات فى الدنيا بسبب النّساء.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 252

وقال واحد من الحكماء: اذا رايت فى الدنيا خصومة ليست بسبب امرأة، فاحمد اللّه، تعالى، فانّها امر عجيب.

و قد ظهر فى ابتداء العالم الفساد فى البرّ والبحر بقتل هابيل، وانما قتل هابيل بسبب امرأة. (1203) قوله: ان المؤمنين مستكينون، انّ المؤمنين مشفقون، ان المؤمنين خائفون، هذا الكلام مقتبس من قول النبىّ، عليه السلام: رأس الحكمة مخافة اللّه. وقال اللّه، تعالى: هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ. وقال اللّه، تعالى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي، مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ. وللخائف درجتان فى قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. وقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: قال اللّه، تعالى: وعزّتى وجلالى انّى لا اجمع خوفين فى قلب امرء، ويروى: فى قلب عبد، فمن خافنى فى الدنيا لا يخافنى فى الآخرة، وكان من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وقال واحد من العارفين: ما استولى الخوف على قلبى يوما، الا وفتح اللّه على قلبى فى ذلك اليوم بابا من ابواب الحكمة.

و قال الحسن البصرىّ: خوف فى الدنيا يثمر امنا فى الآخرة خير من امن فى الدنيا يورث خوفا فى الآخرة.

الخطبة 143

(1204) قوله ارز المؤمنون، يقال: ارز فلان يأرز ارزا واروزا، اذا تضّامّ وتقبّض.

قال ابو الاسود الدّئلىّ: انّ فلانا اذا سئل ارز، واذا دّعى اهتزّ، اى تقبّض من البخل.

(1204 م) قوله: نحن الشّعار والاصحاب (124 ر) والخزنة والابواب، يحتمل رجوعه الى كلّ الصحابة، لانّهم السّفراء بين الرّسول، عليه السّلام، وبين الأمّة. ويحتمل رجوعه الى اهل البيت، عليهم السّلام، لان الوحى الاكثر كان ينزل على رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، فى بيته، وكان يقرأ، عليه السّلام، الوحى اوّلا على اهل بيته ثمّ على غيرهم. (1205) قوله ان صمتوا لم يسبقوا، اى انّهم اعلم النّاس بمواضع السّكوت، فلا يسبقهم احد.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 253

(1206) قوله: فليصدق رائد اهله، مثل للعرب، وهو «لا يكذب الرّائد اهله» الرّائد الذى يرود لاهله الكلأ، والجمع روّد، والرّائد والمرتاد واحد. وقوله: ولا يكذب الرّائد اهله، خرج مخرج الخبر، والمراد به النّهى، اى لا يجب ان يفعل ذلك، بمعنى من يكذب اهله لا يكون رائدا، لان المراد هو طالب الخير لهم. واذا كذبهم كان غير رائد.

و له سبب وقصّة ذكرتهما فى مجامع الامثال فى تصنيفى. (1207) قوله، عليه السلام، فانّه منها قدم واليها ينقلب، وقد تعلّق قوم من ارباب التناسخ بظاهر هذا الكلام، وقوم من الذين يقولون بقدم الارواح، وليس لهم بذلك متمسّك، لانّ المراد بذلك انّه من العدم قدم، واليه ينقلب.

انما يصير بها راجعة الى الآخرة، لانّ الآخرة وهى القيامة معدومة. (1208) و

قال قوم: منها قدم، يعنى خلق لفرض راجع الى الآخرة، ثم يعود الى الآخرة اتماما للفرض، لان داعى اللّه، تعالى، الى خلق العباد وتكليفهم المنافع الراجعة الى العقبى ذلك [لا] يدرك الا بالاستحقاق.

(1209) قوله: اعلم انّ لكلّ ظاهر باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره، طاب باطنه، المراد بذلك انّ تطهير الظّاهر عن الفواحش والمنكرات على طريق الاستقامة والاستمرار على الايّام، فاستقامة العلانية على هذا الوجه دلالة ظاهرة على موافقة السّرّ العلانية. وامّا فساد الظّاهر فانّه دلالة على فساد الباطن. و

قال قوم: لكلّ ظاهر باطن، اى لكلّ جسد (124 پ) ظاهر حياة باطنة او روح باطنة. فمن طاب ظاهره بالاخلاق الجميلة الّتى هى الفضايل، طاب باطنه، يعنى طاب عقله من الهيآت الانقيادّية. ومن خبث ظاهره بالرذائل والاخلاق المذمومة، خبث باطنه بالهيآت الانقيادّية البدنيّة. فالظاهر من الانسان هو الجسد، والباطن هو الروح.

(1210) قوله: على مثاله، يعنى: انّ باطن كلّ انسان على مثاله وعلى وفق استعداده، وفى هذا كلام طويل لا يحتمل الموضع بيانه. وما رواه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 254

عن رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله: انّ اللّه يحبّ العبد ويبغض عمله، ويحبّ العمل ويبغض بدنه.

(1211) قال الامام الوبرىّ: انّ الحسن من كلّ فاعل اذا وقع على وجهه فهو حسن، والقبيح من كلّ فاعل قبيح لوقوعه على وجه مخصوص.

و المعتبر بوجوه الافعال فى حسنها وقبحها دون افعال فاعلها. ولهذا قال: يحبّ العبد ويبغض عمله، لانّ المؤمن حبيب اللّه، لقوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. فاذا صدرت عنه صغيرة، فاللّه، تعالى يحبّ ذاته، ويبغض عمله. وكذلك الكافر اذا احسن الى المسلمين، فان اللّه، تعالى يبغض جسده ويحبّ عمله. وهذا الخبر ردّ على من قال: انّ رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، لم يذكر شيأ من العقليّات، فانّ هذه المسألة من لطيف الكلام فى العقل.

(1212) وقال قوم: العارف ربما كانت له [اخلاق غير مرضيّة، فاللّه، تعالى، يحبّه من جهة عرفانه ويبغض اخلاقه‏]، والجاهل ربما كانت له اخلاق جميلة حصّلها من طريق التقليد، فاللّه، تعالى، يحبّ اخلاقه ويبغضه.

(1213) [قوله:] اعلم انّ لكلّ عمل نباتا. هذا بيان المعنى الاوّل من الظاهر والباطن، فانّ الباطن كالاصل، والظاهر كالثمرة له. وهذا مقتبس من قول اللّه، تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً.

الخطبة 144

و من خطبة يذكر فيها بديع خلق الخفّاش:

(1214) الحمد للّه الّذى انحسرت الاوصاف عن كنه معرفته، معناه انّ السنة الواصفين لا يبلغ نهاية ما يعرفه العباد (125 ر) من اللّه، تعالى. فان العلم بالشى‏ء على حقيقته، قد يقصر لسانه عن علمه، فانّ الالفاظ متخيّلة، والمعقول المحض مقدّس عن التخيّل والتوّهم. والعلم ابلغ فى ادراك الحقايق من وصف اللسان.

وقال الامام الوبريّ: معلومات اللّه، تعالى، ومقدوراته الّتى لا يتناهى يقصر وصف العباد عن بلوغ غايتها على التفصيل. فانّ غير المتناهى، لا يصحّ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 255

وصفه باسام واقوال متناهية.

(1215) [قوله:] وردعت عظمته العقول، فلم تجد مساغا الى بلوغ غاية ملكوته،

قال قوم معناه لا يجوز ان يعرف العباد اعداد ما خلق اللّه مفصّلة، لانّ علمهم بذلك، وان كان جايزا فى مقدور اللّه، امّا بالاضطرار او بالدلالة، الّا انّ صلاحهم مقصور على علم الجملة، والممتنع فى الصّلاح ينزل منزلة الممتنع فى المقدور، من حيث انّ كلّ واحد منهما لا حظّ له فى الوجود.

(1216) قوله: الحقّ المبين، فالحقّ المبين الدائم الوجود الذى هو اولى بالوجود من كل موجود، وانّه قائم واجب الوجود. (1217) قوله احقّ وابين مما تراه العيون، لانّ الحسّ لا يدرك الا ما ظهر، ولا يدرك حقايق الاشياء. فمن نال به كلّ ذى حقيقة ممكنة وجوده، فهو احقّ وابين.

(1218) وقال الامام الوبرىّ: جميع ما ترى العيون هو الاجسام ونوع من الاعراض. فهو، تعالى، اولى بالوجود من الاجسام والاعراض والجواهر.

 

و هذه مسئلة فيها اختلاف بين المتكلّمين: انّ صفة الوجود هل يدخلها التفاضل والتزايد ام لا. والحقّ ان يقال: انّ الجوهر اولى من العرض، وواجب الوجود اولى بالوجود من جايز الوجود. ولفظ الحقّ ابلغ فى افادة صفة البيان من لفظ الوجود، لانّ الحقّ هو الّذى لزم ثبوته لزوما لا يقبل الانفصال، تشبيها بحقايق المفاصل الّتى يلزم اتّصال بعضها ببعض لزوما ظاهرا مستمرّا على الاوقات.

و لهذا يقال: حقّ الورك، لبلوغه النهاية فى اللزوم والاتّصال. وكذلك فى البعير، اذا بلغ استحقاق (125 پ) الحمل عليه والركوب، فيقال: حقّ. فان كان يجوز ان يقال: انّه اولى بالوجود من غيره، فينبغى ان لا يقال: انّه احقّ من غيره. وقد قال امير المؤمنين، عليه السّلام: احقّ وابين ممّا ترى العيون.

(1219) ووجه آخر انّ قوله: احقّ انّ المدلول عليه لا يدخله الاحتمال، لان الدلالة لا يخطى‏ء، بل هى كاشفة عن حقيقة المعلوم قطعا ويقينا.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 256

و ليس كذلك المشاهدة، فانّه قد يدخلها اللّبس. الا ترى ان الناظر يرى من نزول المطر خطّا مستقيما، ويرى النقطة الجوّالة دائرة، ويرى راكب السفينة ساحل البحر متحرّكا والسفينة ساكنة. فلا يكتشف المشاهدة عن حقيقة المدرك، كما ذكرناه. فلما دلّت الادلة على اللّه، تعالى، لم يجز ان يكون بخلاف ما دلّت عليه قطعا ويقينا، فكان لذلك احقّ من المشاهدة. وكذلك كلّ معلوم بالدليل، فهذا سبيله. وكذلك قال فى بعض كلامه: قد يكذب العيون اهلها، ولا يغشّ العقل من استنصحه. وهذا بعينه هو الّذى ذكرناه. (1220) قوله: لم تبلغه العقول بتحديد، فيكون مشبّها،

قال الامام الوبرىّ: لانّه، تعالى، انّما علم قادرا عالما حيّا سميعا بصيرا قديما. وهذه الصفات لا يوجب التحديد. واذا لم يكن محدودا، لم يشبه شيئا، لانّ التحديد هو الّذى يقتضى التشبيه، وانّ المحدود لا يكون الا جسما مماثلة فى الجنس، فاذا لم يجز عليه الحدود، لم يجز عليه حكمها، وهو التحيّز. واذا لم يجز عليه التحيّز، لم يجز ان يكون مماثلا للمتحيّز.

(1221) وقال قوم: المحدود مثلا الانسان، وحدّه انّه حيوان ناطق، والحيوان هو الجنس، والناطق هى الفصل، والحيوان لفظ واقع على الانسان والفرس والطائر وغير ذلك. فيكون بين الانسان والفرس مشابهة فى الجنسيّة، وهى انّ لفظ الحيوان واقع عليهما. فكلّ ما علم بالتحديد يعلم بالجنس اوّلا، والجنس يقع عليه وعلى غيره. فلذلك قال امير المؤمنين، (126 ر) عليه السلام: لم يبلغه العقول بتحديد.

(1222) قوله: ولم يقع عليه الاوهام بتقدير، فيكون ممثّلا، يعنى لا يدركه الوهم والمقادير، فانّه، تبارك وتعالى، منزّه عن المقادير.

(1223) وقال الامام الوبرىّ: لانّ الوهم والتقدير انّما يتعلّقان بما له هيئة وشكل، والهيئة مقصورة على الجسم. فاذا لم يصحّ كونه جسما، لم يصحّ عليه الهيئة، ولم يجز ان يكون ممثّلا.

و

قال قوم: الوهم قوة جسمانيّة تدرك من‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 257

المحسوس ما ليس بمحسوس، كادراك الشّاة معنى العداوة من الذئب.

و لا يصدّق الوهم بموجود منزّه عن المكان والاجزاء والابعاض والجهات.

(1224) قوله خلق الخلق من غير تمثيل، انّما خلق اللّه، تعالى، الخلق بلا مثال، لانّه عالم بكل معلوم مفصّلا، ولا يستحيل ان يحدث العالم الازلىّ فعلا محكما بلا مثال. وليس يجوز ان يكون للحقّ امثلة متقدّمة، لانّه لا يخلو امّا ان يكون للمثال نهاية، حتّى يصحّ من اللّه، تعالى احكام الفعل اقتداء بالمثال، فيكون المثال قديما، او يحدث مبادى افعاله غير محكمة، ثم يصير مثالا فى لواحق افعاله. فيكون الاوايل خارجة على الاحكام جارية على التّبخيت، وهذا يناقض الحكمة. وامّا ان يتعذّر عليه احكام الافعال اصلا، وذلك يقتضى ابطال كونه عالما. فلذلك قال امير المؤمنين، عليه السّلام: خلق الخلق على غير تمثيل ولا مشورة مشير. وهذا ردّ على من زعم من المتكلّمين انّ اللّه، تعالى، متصوّر للاشياء. فان اللّه، تعالى، منزّه. [عن التصوّر، فانّ التصوّر من اقسام العلم البشرىّ، واللّه، تعالى، منزّه‏] عن العلم البشرىّ. (1225) قوله: فتمّ خلقه بامره، تكلّمناه قبل فى حقيقة الخلق والامر، على قانون الحكمة.

فان الخلق عندهم مشترك. يقال: حلق لافادة وجود كيف كان، ويقال: خلق لافادة وجود حاصل عن مادّة وصورة كيف كان. ويقال: خلق لهذا المعنى الثانى بعد ان يكون لم يتقدّمه وجود ما بالقوة، لتلازم المادة والصورة فى الوجود.

(1226) وقال بعض (126 پ) المتكلّمين: اى تمّ ما اراد من خلق السموات والارض وما اسكنهما من الجماد والحيوان، حتّى قام الخلق الّذى هو اصول لما يأتى من بعد، فاراد بالخلق هذه الاصول والقواعد من كل جنس ونوع.

(1227) وقال الامام الوبرىّ: تمّ خلقه، اى كلّ شى‏ء خلقه على‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 258

تمام ما يصلح له منقاد غير ممتنع من امضاء امره فيه. والامر القضاء فى قوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ. والامر القيامة فى قوله، تعالى: أَتى‏ أَمْرُ اللَّهِ. والامر الذى فى قوله: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ، اى دين اللّه. والامر العذاب فى قوله: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ. ومصير جميع هذه الامور الى اللّه فى قوله: صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما.

(1228) فسبحن البارى‏ء لكل شى‏ء على غير مثال خلا من غيره.

قال الامام الوبرىّ: هذا بيان واضح انّ ما احكمه واتقنه من افعاله لا يجوز اختراعه من غير علم به فى حال عدمه، ولا يصحّ الاحتذاء فيه بمثال من جهته لحاجة المثال الى كونه عالما. ولو لم يكن عالما بالمعدوم مفصّلا، فيجب ان تكون ذلك المثال من فعل غيره حتى يحتذى هو به، فيكون فعله علما، وذلك الغير لا بدّ من ان يكون عالما لنفسه. فان كان يكفى فى احكام الافعال، وجب ان يستغنى هو، تعالى، عن ذلك الغير. وان لم يكف فى احكام الافعال، انسدّ باب الاحكام. ولا يقال فى جميع الافعال، وذلك بخلاف المعقول، فلا بدّ من امثلة لا نهاية لها، واثبات فاعلين لا نهاية لهم، لكل فاعل مثال من جهة غيره. وقد نبّه على هذا بقوله حيث قال: على غير مثال خلا من غيره. لانّ اثبات المثال من جهته متعذّر، فلا بدّ من فاعل سواه يفعل المثال. وليس الواحد باولى مما لا نهاية له، وذلك محال لا يخفى.

و «خلا» بمعنى «مضى» فى قول اللّه، تعالى، إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ، اى مضى.

(1229) امّا وصف الخفّاش فى كتاب الخصائص انّ من شدّ على مرفقه رأس الخفّاش سهر. ولو علّق الخفّاش، (127 ر) وهو حىّ من شجرة، طرد الجراد عن تلك القرية. وخلقة الخفّاش خلقة عجيبة من خلقة الطير وذوات الاربع. وهو الى ذوات الاربع اقرب، وذلك انّه ذو اذنين ناشرين واسنان ووبر. وهو يلد اولادا يرضع ويبول ويمشى اذا مشى على اربع. وفى الخفّاش‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 259

منافع مذكورة فى كتب الطبّ. وذبلها مستعمل فى الاكحال. سمّى امير المؤمنين، عليه السّلام، خلقة عجيبة. و

قال بعض الحكماء كونوا خفافيش لا تبرز[وا] نهارا، فخير الطيور خفافيشها.

و قيل فى ذلك: انّ الخفّاش يطلب المنزل المتوسّط بين النور والظلمة. وكذلك الموحّد يطلب المنزل المتوسّط بين التعطيل والتشبيه. فالنّهار يشبه التّشبيه. وشبّه الليل بالتعطيل: وليس للخفّاش صورة الطيور، ويحصل منه الطيران. فكذلك يجب للانسان، وان لم يكن له صورة الملائكة، ان يتخلّق باخلاق الملائكة، فى قوله، تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا، أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً.

الخطبة 145

و من كلام له خاطب به اهل البصرة،

(1230) كمرجل القين، يسمّى كلّ محترف قينا. قال الشاعر:

         ولى كبد مجروحة قد بدا بها   ***   صدوع الهوى لو كان قين يقينها

 

و

فى كتاب الصحاح: قنت الشى‏ء اقينه قينا لممته، واستشهد بهذا البيت.

فمن ذهب الى انّ القين هو المحترف، اراد به بوطقة الصانع ومرجل الصّنّاع. ومن ذهب الى انّ القين هو الحدّاد فحسب، اراد به الحفرة التى يذاب فيها الحديد. (1231) قوله فبالايمان يستدلّ على الصّالحات، وبالصّالحات يستدلّ على الايمان، يعنى اذا عرف انّه مصدّق باللّه والرسول معترف باركان الاسلام، وجب حسن الظّن به، وانّه يقوم بما يقتضيه الايمان. واذا عرف منه سداد الطّريقة من الاعمال الصالحة، وجب حسن الظّن به انّه مؤمن باللّه والرسول، لانّ كلّ واحد من الطّرفين موجب للطّرف الآخر. (1232) قوله: وبالايمان يعمر العلم،

قيل: انّما يقوم (127 پ) بتفصيل العلوم فى الدين، من كان عالما بالجمل. ومن جهل الجملة، فهو من التفصيل ابعد.

و بيان ذلك ان العبادة سبب للسعادة الكبرى. ومرجع العبادة الى المعرفة والايمان. فانّ محبة اللّه لا يغلب على القلب الا بعد المعرفة والايمان. فالمعرفة سبب المحبّة، والمحبّة سبب كثرة الذّكر، كما قال‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 260

النبىّ، عليه السّلام: من احبّ شيأ اكثر ذكره، والذّكر الكثير سبب للعبادة الظاهرة. فان الالتذاذ بذكر اللّه لا يحصل الا بانقطاع علايق الشّهوات. وذلك الانقطاع لا يتيسّر الا بالاجتناب عن المعاصى. لذلك قال امير المؤمنين: بالايمان يستدلّ على الصالحات، وبالصالحات يستدل على الايمان، وبالايمان يعمر العلم. قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله: طلب العلم فريضة على كل مسلم. (1233) فقال المتكلّم: هو علم الاصول ومعرفة اللّه تعالى. وقال الفقيه: هو علم الشريعة. وقال المحدّث: هو علم الكتاب والسنّة. وقالت المتصوّفة هو علم احوال القلب. وكلّ واحد منهم يعظّم علمه وصناعته. اما بعض الخواص، فذكر انّ هذا العلم علمان: علم يتعلّق بالاحوال، اى باحوال القلب، وعلم يتعلّق بالاعتقاد، فالذى يتعلّق باحوال القلب معرفة المنجيات والمهلكات، مثل الكبر والحسد والرياء والعجب وغير ذلك. وذلك فرض الاعيان. فالعلم بذلك والعلم بما ينفى ذلك واجب على كافة العقلاء. فان هذا مرض عامّ، ولا يعالج صاحبه الا بالعلم. اما العلم بصحّة البيع وعقد السّلم والرّهن وغير ذلك ففرض على الكفاية، الّا على من كان مشغولا بواحد من هذه العقود، وربما لا يحتاج اكثر الناس الى ذلك، ولكن لا يستغنى الناس عن احوال القلب. والذى يتعلّق بالاعتقاد فهو ازالة الشّك الطارى على الاعتقاد.

فقول النبيّ، عليه السّلام: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، وقول امير المؤمنين، عليه السّلام: بالإيمان (128 ر) يعمر العلم، يدلّان على انّ طلب العلم واجب على كلّ مؤمن، ولا يستغنى عنه واحد من المؤمنين. ولكن مع تفاوت الطلّاب وتفاوت العلوم، فيحتاج كلّ مؤمن الى علم، لا يتمّ ولا يقبل منه عمله الا بذلك العلم. (1234) قوله: مرقلين فى مضمارها، الارقال ضرب من الخبب. وقد ارقل البعير وناقة مرقل، ويقال: مرقال: اذا كانت كثير الارقال. والمرقال لقب‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 261

هاشم بن عتبة الزّهرى، لانّ امير المؤمنين علىّ بن ابى طالب، عليه السّلام، دفع اليه الرّاية يوم صفّين، وكان يرقل بها ارقالا. (1235) قوله: ان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر لخلقان من خلق اللّه، سبحانه وتعالى. الخلق هاهنا السّنة، والمعنى ان الدّعاء الى المحاسن بالتعريف والهداية والتحسين، والصرف عن القبايح بالتعريف وسوء العاقبة سنّة اللّه، فانّه، تعالى، خلق الخلق ليهديهم الى المحاسن، ويمنعهم عن القبايح، حتى يستحقّ كلّ واحد منهم الثّواب فى العقبى. فهذه سنّة اللّه فى العباد. فمن احيا هذه السّنّة بين العباد، فدعا الى المعروف، وامر به، ونهى عن المنكر، وما رضى به، وكرّهه الى الناس، فبقدر ما قام به، كان آخذا بسنّة اللّه، تعالى، حيث قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ، مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ. (1236) قوله: وانّهما لا يقرّبان من اجل ولا ينقصان من رزق، يعنى الامر بالمعروف لا ينقص العمر والرّزق، وكذلك النهى عن المنكر، فلا يجب ان يخاف المسلم من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر. (1236) قوله الفتنة، الفتنة فى القرآن على وجوه: فالفتنة الشّرك فى قوله، تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وفى قوله: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.

و الفتنة الشبهة فى قوله: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ، وفى قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ.

و الفتنة البلاء فى قوله، تعالى: (128 پ) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا، وفى قوله: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً، اى ابتليناك بلاء على اثر بلاء.

و الفتنة العذاب فى قوله، تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ. ونزلت هذه الآية فى عيّاش بن ابى ربيعة. وفى قوله، تعالى: لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا، اى من بعد ما عذّبوا.

و الفتنة القتل فى قوله، تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ، اى يقتلكم الذين كفروا.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 262

و الفتنة الضلالة فى قوله، تعالى: ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ اى بمُضلِّينَ.

و الفتنة الجنون، والمفتون المجنون فى قوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ.

(1237) قال الجوهرىّ: اصل الفتنة الامتحان والابتلاء والاختبار.

تقول فتتت الذّهب اذا ادخلته النار، لتنظر ما جوّدته. ودينار مفتون. وسمّى الصايغ الفتّان. والفتّان الشيطن فى قول النبىّ، عليه السلام: المؤمن [اخو المؤمن‏] يسعهما الماء والشجر ويتعاونان، الى تمام الخبر.

قوله: فتّان يروى بفتح الفاء وضمّها. فمن رواه بالفتح، فهو واحد، ومن رواه بالضمّ، فهو جمع.

و ورق فتين اى فضة محرقة.

الخطبة 146

قوله من خطبة له:

(1238) الحمد للّه الّذى جعل الحمد مفتاحا لذكره، وسببا للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه، المعنى ان ذلك لا يليق الا بعد سوابق النّعم. فانّ شكر من لم ينعم، غير ملائم، وهو دليل على سوابق النّعم، وهو سبب يوجب استّحقاق الثواب. وقد يصير النعم العاجلة صلاحا عنده، فسمّى سببا من هذا الوجه. (1239) قوله: دليل على الآية وعظمته، حتّى يصحّ منه الانعام، ويثبت من التعظيم لما كان الانعام ما لم يكن ثابتا . وليس يراد انّه يزداد صفة وحالا لمكان الفعل. انما يراد به انّه يجب على العبد نوعان من التعظيم: احدهما يرجع الى ذاته، لكونه قادرا عالما حيّا مع سائر الصّفات.

و الثانى يرجع الى انعامه واحسانه، اى لمكان انعامه واحسانه يجب تعظيمه، تعالى.

و كلاهما واجبان (129 ر) على العبد: تعظيم ذاته بصفاته الذاتيّة، وتعظيمه لافعاله الحسنة النافعة.

(1240) وقال قوم. لو تفكّر العقلاء باسرهم فى صور تلك المملكة الالهية لما وجدوا هيئة احسن من تلك الهيئة، ونظاما اليق بالحكمة من هذا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 263

النظام. ولو كان وراء ذلك كمال ممكن، ولم يخلقه اللّه، تعالى، لكان ذلك اما عجزا واما بخلا. والعجز والبخل يستحيلان عليه. وكلّ ما خلق اللّه، تعالى، من الآلام والاسقام والقحط والمهالك عدل، لانّ الظالم هو الّذى يتصرّف فى ملك غيره، ولا ملك سوى ملكه، ولا مالك سواه. فلذلك قال، عليه السلام: دليلا على آلائه وعظمته.

(1241) قوله: حدو الزّاجر بشوله، الزّاجر هاهنا السائق، من قولهم زجرا البعير، اى ساقه. الشّول النّوق التى جفّ لبنها وارتفع ضرعها واتى عليها من نتاجها سبعة اشهر او ثمانية. الواحدة شائلة، وهو جمع على غير قياس. ومنه شوّلت الناقة بالتشديد، اى صارت شولا. والشّوّل بالتشديد جمع الشّائل، مثل راكع وركع. قال ابو النجم: كانّ فى اذنابهنّ الشّوّل. (1242) قول: ارتبك فى الهلكات، ارتبك الرجل فى الامر اى يشبّ فيه، ولم يكد يتخلّص منه. الصيحة العذاب. فى كتاب الصحاح: وفى قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا، يعنى صيحة جبريل. والصيحة النفحة الاولى لاسرافيل فى قوله، تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، وفى قوله: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً. والصيحة النفحة الثانية فى قوله: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. وفى قوله تعالى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ، يعنى النفحة الثانية من اسرافيل. والمراد بالصيحة هاهنا النفحة الاولى.

(1243) قوله استحقّت بكم الحقايق، اى ظهرت حقايقها فى انفسكم، لان الخبر ما دام خبرا عن المخبر عنه، فكانه لا حقيقة له. (129 پ) فاذا وجد المخبر عنه، وعلم مشاهدة، يقال فى العرف: ظهر حقيقة الخبر بحقايق الاخبار ظهورا مخبراتها مشاهدة وعيانها .

و لهذا قال بعض المفسرين فى قوله: الْحَاقَّةُ، اى حقيقة كاشفة عن حقايق الامور، لا ريب فيها، ولا مرية دونها.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 264

(1244) واقول: من عرف انّه لا بدّ من الموت، يزوّد لما بعد الموت. كما قال النبىّ، عليه السّلام، الكيّس من دان نفسه وعمله لما بعد الموت. وقال، عليه السّلام: اكثروا ذكر هادم اللّذات. وقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: من تذكّر الموت فى كلّ يوم عشرين مرّة، فله اجر الشّهداء. (1245) وذكر الموت على ثلثة اوجه: احدها انّ الغافل المشغول بالدنيا يذكر الموت كراهة له وحرمانا ويأسا من الدنيا، ويتاسّف على ما يفوته من لذّات الدّنيا. وهذا ذكر يبعّده عن السّعادة.

و الثانى انّ التائب يذكر الموت، ليزيد خوفه ونفوره وبعده عن الدنيا.

و لهذا الذكر فايدة من الفوائد، ولكنّ التائب مع ذلك كاره للموت وتعجيله خوفا من معاصيه وتضييع ايّامه.

[ثا]لثها ذكر العارف الموت، والموت عنده مفتاح باب السعادة، كما قال حذيفة بن اليمان، رضى اللّه عنه، عند موته جاء الحبيب عند الحاجة اليه.

(1246) واعلى الدّرجات فى هذا المقام انّه لا يحبّ الموت ولا يكرهه ويختار لنفسه ما اختاره اللّه له، كما قال ابو الدردآء، رضى اللّه عنه، للحسن بن علىّ بن ابى طالب، عليهم السّلام: نعم الشى الفقر والمرض والموت. فالفقر يخفّف الحساب، والمرض يكفّر السّيّئات، والموت باب الاخرة. فقال له الحسن بن علىّ، عليه السّلام: من حسن توكّله على اختيار ربّه، ما تمنّى غير ما اختاره اللّه له. ومن يتخيّل انّ عمره طويل، ما يتزوّد فى الآخرة. ومن قرّبت الى نفسه الموت، عمل للاخرة.

الخطبة 147

(1247) قوله: وطول هجعة من الأمم، يقال: اتيت فلانا بعد هجعة اى بعد نومة (130 ر) خفيفة من اول الليلة. والهجعة منه كالجلسة من الجلوس الاوّل.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 265

(1248) قوله: فيه علم ما يأتى، اى من الموت والبعث والحشر والحساب والصّراط والجنّة والنار، والحديث عن الماضى من مبتدأ الخلق وقصص الانبياء الماضين. (1249) (قوله:) ودواء دائكم، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ. قوله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، ومن قول النّبى، صلّى اللّه عليه وآله: القرآن هو الدّواء. (1250) [قوله:] وزوامل الآثام، الزامل بعير يستظهر به الرّجل ويحمل متاعه وطعامه عليه. (1251) (قوله:) لتنخمنّها اميّة من بعدى كما تلفظ النّخامة. النخمة اصلها واو، مثل تكله ووكله. وقد اتّخمت عن الطعام ومن الطعام. يعنى انّ الملك والخلافة يفارقان بنى اميّة ولا يعودان اليهم كما لا يعود النخامة الى مجارى ذوق لا فظها، وكان الامر كما قال، عليه السلام.

الخطبة 148

(1252) [قوله:] فلسنا نعلم كنه عظمتك.

قال الامام الوبرىّ: اى لا نعلم كنه ملكك ومنتهى سلطانك، بل نعلمك حيّا قيّوما لا تأخذك سنة ولا نوم.

(1253) اقول: وقد تعجّب بعض النّاس من انّه كيف يكون موجود لا كيفيّة له ولا نظير له ولا كميّة له، وله فى الوجود شواهد مثل الغضب والمحبّة. فمن طلب كيفيّة الغضب والمحبّة لا يعرفهما الا بآثارهما سوى كيفيّاتهما، لانّه ليس للغضب والمحبّة شكل ولون، فلا كميّة لهما ولا كيفيّة.

و الخيال هو الذى يطلب الكيفيّة والكمّيّة بواسطة الحواسّ. والمعقول المحض منزّه عن ان يكون متخيّلا. (1254) [قوله:] ليعلم كيف اقمت عرشك وكيف ذرأت خلقك وكيف علّقت فى الهواء سمواتك.

قال بعض العارفين: العرش مثال مجلس الملك الّذى يحضر هناك‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 266

وزيره، وحول هذه الحجرة رواق له ابواب، وعلى كلّ باب نائب من نوّاب الوزير. والابواب هى البروج، ونوّاب الوزير الثوابت، ووراء الباب (130 پ) نقباؤهم الكواكب المتحيّرة. وبين ايدى النقبآء خدم وغلمان. فالخدم والغلمان ينتظرون ما يرد عليهم من الاوامر والنواهى بوساطة الوزير والنوّاب والنّقباء، فيقرّبون اقواما، ويطردون اقواما. فانظر فى دار الدّنيا حتّى تعاين سقوفا بلا عمد مثل السموات، وفرشا مثل الارض، وخزاين مثل الجبال واوانى مثل انواع النبات، وسراجا مثل القمر، ومشعلة مثل الشمس، وقناديل مثل النجوم.

و لكن مثلك مثل نملة لها فى قصر الملك قرية ومسكن، فلا يحيط علمها الّا بذخاير قوتها ومسكنها، ولم يحط علمه بجلال الملك وكماله وغلمانه وخدمه ووزرائه. قال اللّه، تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ.

(1255) وقوله: كيف مددت على مور الماء ارضك، المور الموج.

 

 

قال بعض المفسرين يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، اى تموج موجبا. والمور الطريق. وقد حبس اللّه تعالى فى الارض تحت الصّخور الصّمّ مياها يتفجّر منها بالتدريج. فانّها لو لم تكن محبوسة تحت الصخور، لسالت وجرت دفعة، واهلك الزّرع والضّرع لذلك. قال، عليه السّلام: كيف مددت على مور الماء ارضك، اى على موج الماء

(1256) وقوله: انتهت عقولنا دونه، فالمعنى انّ العقل يدرك معنى القليل والكثير، فانهما وصفان اضافيّان، للعدد، وله طريق الى ان يدرك القليل الّذى لا اقلّ منه فى الاعداد، وليس له طريق الى ادراك الكثير المطلق الّذى لا اكثر منه.

فنسبة الكثير المطلق فى الادراك الى العلم الازلىّ كنسبة القليل المطلق. فلا فرق فى علم اللّه، تعالى، بين القليل المطلق والكثير المطلق.

(1257) ولا يمكن للعقل ان يدرك كيفيّة احاطة علم الازل بذلك،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 267

بل ادراكها موقوف على الذوق وعلى نور بصر البصيرة، ويختصّ بهما العارفون.

و نسبة العقل الى الذّوق، كنسبة الشّعاع الى الشّمس. وانتهاء العقول دون ما ذكره امير المؤمنين، عليه السلام، يضاهى انتهاء الوهم عند ادراك (131 ر) المدركات العقليّة.

و لذلك قال: رجع عقله مبهورا وسمعه والها، وفكره حائرا. ويقال: بهره بهرا، غلبه، المبهور المغلوب. (1258) قوله: كيف علّقت فى الهواء سمواتك، ويروى السماء.

السماء هاهنا عبارة عن جهة فوق، وكل ما علاك فاظلّك فهو سماء لذلك.

قيل: السقف للبيت السماء، والسماء العلوّ، والسّمّو الارتفاع، يعنى كيف علّقت فى السّموّ والارتفاع سمواتك. والعرب يسمّى كلّ ما ارتفع سمآء، وكل ما سفل ارضا. يقال: فلان شديد الارض اى شديد السّفلة. قال اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ، اى باىّ قدم.

(1259) قوله: كيف اقمت عرشك، العرش فى كلام العرب السرير. قال اللّه، تعالى: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها. والعرش السّقف. قال اللّه تعالى: خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها. العرش بيوت مكّة. وعرش الملك قوام امره وسلطانه. وعرش الامّة الرّجل الّذى يكون به قوام الامّة. و

قال قوم: العرش والكرسىّ الفلك الاقصى وفلك الثوابت.

و اللّه اعلم. (1260) قوله: الّا انّا نعلم انّك حىّ قيّوم. الحىّ هو الدائم الّذى لا يفنى ولا يزول. و

القيّوم عند ابى عبيد القائم الدايم الذى لا يزول.

و هو فيعول، يعنى انّه القايم على العباد باعمالهم وارزاقهم وآجالهم، وهو من قمت بالشى‏ء اذا وليته. ومثل قيّام وقيّوم بوزن ديّور وديّار من الدار، اى ليس فيها ساكن.

يقال ما بالدار ديّور وديّار. وقرأ بعض القرّاء: الحىّ القيّوم. (1262) قوله: وكل من رجا، عرف رجاءه فى عمله الّا رجاء اللّه، فانّه مدخول، وكلّ خوف محقّق، الّا خوف اللّه، فانّه معلول.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 268

(1263)

قال بعض المحقّقين: الخوف والرجاء جناحان بهما يطير المرء الى سرادق النجاة.

و

قيل: انّ الخوف مثل السّوط، والرجاء مثل الزّمام. ويتولّد من الرجاء المحبّة، ولا مقام وراء المحبّة.

كما قال: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ. (131 پ) وقال النّبىّ، عليه السلام: لا يموتنّ احدكم الا وهو حسن الظّنّ بربّه. اوحى تعالى الى يعقوب، عليه السلام. وقال: كنت تخاف الذّنب وتخاف عصيان اولادك، فقاسيت ما قاسيت. ولو رجوتنى وتوكّلت على حفظى وكلائى، لكان الامر بخلاف ذلك. ولكن قد جرى القلم. (1264) وفرق بين الرّجاء والغرور. فان من القى البذر النقىّ فى الارض الطيّبة منتظرا رحمة اللّه، فهو الرّاجى، فله الرّجاء. ومن القى البذر الفاسد فى السّباخ، وينتظر نباته، فهو صاحب الغرور. ومن القى البذر النّقىّ فى الارض الطيّبة، وما سقاهما منتظرا لطيّب من السماء، فهو المتمنّى والمشتهى.

(1265) وقال النّبى، عليه السّلام: ليس الدّين بالتمنّى ولا بالتشهّى، والاعراض عن سقى الزّرع مع التمكّن، وهو العمل الصالح، من باب القنوط، لا من باب الرجاء. قال اللّه، تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى‏، ويقولون: سيغفر لنا.

(1266) والخوف حالة من حالات القلب، وله سبب وثمرة.

فسببه التوحيد والمعرفة والاطّلاع على الخطر، وثمرته تنغيص نيل الشّهوات عنده. كما انّ من وقع من مخالب اللّيث لا يخطر بباله ما يشتهيه من الاموال والنساء.

و ثمرته فى الظاهر الاجتناب عن المعاصى.

فمن منعه الخوف عن الحرام، فهو ورع، ومن منعه الخوف عن الشهوات، فهو عفيف، ومن منعه الخوف عن الشبهات وعن الرّخص المؤدّية الى الحرام،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 269

فهو المتّقى، ومن منعه الخوف عما لا يعنيه وعمّا سوى منجياته، فهو الصّدّيق.

فاعلى درجات الخائفين الصدق، ثمّ التّقوى، ثم العفّة، ثم الورع.

فهذه علامات الرجاء والخوف.

و قال امير المؤمنين، عليه السلام: فى حقّ من يدّعى خوف اللّه، وهو كاذب، ويرجوه، وهو كاذب، فقال: للرجاء علامات فى الظاهر. (1267) فقوله: مدخول، الدّخل والدّخل العيب والرّيبة. يقال: دخل (132 ر) فلان فهو مدخول، اى فى عقله دخل. ونخلة مدخولة اى جوفها عفن. قوله: ضمارا، الضّمار ما لا يرجى من الدّين والوعد، وكلّ ما لا يكون منه على ثقة.

قال الراعى:

         حمدن مزادة فاصبن منه   ***   عطاءكم يكن عدة ضمارا

 

(1268) [قوله:]: كاف لك فى الاسوة، يقال: لا تأسّ من ليس لك بأسوة، اى لا تقتد [من‏] ليس لك بقدوة. ولى فى فلان اسوة، والاسوة القدوة. (1269) قوله: كان ادامه الجوع، اى لا ياكل الخبز حتّى يشتدّ جوعه. فاذا اشتدّ جوعه، ما اشتهى الادام. فان الادام مطلوب عند الجوع المتوسّط لا عند الجوع الغالب. (1270) قوله: ريحانه ما تنبت الارض للبهائم، هى البقول المأكولة. (1271) قوله: فتأسّ بنبيّك، اى الزم سنّته وعادته وتاسىّ به، اى تعزّى. (1272) قوله: اهضم اهل الدّنيا كشحا، يقال كشح مهضّم ومزمار مهضّم، لانّه فيما يقال: اكسار يضمّ بعضها الى بعض.

قال الشاعر:

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 270

 

         بركت على جنب الرّداع كانّما   ***   بركت على قصب اجشّ مهضّم‏

 

(1273) قوله: خرج من الدّنيا خميصا وورد الآخرة سليما، كانت عايشة، رضى اللّه عنها: تقول فى تأبين المصطفى، عليه السلام: يا من لم ينم على الحصير، ولم يلبس الحرير، ولم يشبع قطّ من خبز الشعير. (1274) قوله: عند الصّباح يحمد القوم السّرى، هذا مثل للعرب، ومعنى السّرى سرى اللّيل خاصّة، والفعل منه سرى يسرى. وكذلك الاسراء، وهما جميعا لازمان، وتعديتهما بالباء قال اللّه، تعالى: سُبْحانَ الَّذِي، وقال اللّه، تعالى: قالُوا يا.

(1275) اوّل من قاله خالد بن وليد حين امره صاحب رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، فى الغار والقبر، الصّديق، رضى اللّه عنه، بان يسير من اليمامة الى العراق مع جيشه، فقال له رافع الطّائىّ تلك مفازة سلكتها فى الجاهليّة، وهى خمس للابل.

فاشترى خالد مائة شارف فعطّثها، ثم سقاها الماء حتى رويت [ثم كتبها] ثم كعم افواهها، وحمل من الماء ما قدر على حمله، وسلك المفازة.

فلمّا خاف هلاكه، وهلاك جنده من (132 پ) من العطش في الليل وسرى تلك الليلة الرابعة، نحر الابال، واستنزف ما فى بطونها، من الماء وسقى الجند.

فقال له رافع: ان نسرى تلك الليلة، ربما توصّلنا الى الماء. فاطاعه خالد، واذرع الليل، وسرى.

فلما انفلق الصبح، قال رافع: انظروا هل ترون من بعيد سدرا عظاما، فنظروا، فرأوا السّدر، فكبّر رافع، وكبّر خالد، ووصلوا الى الماء.

فقال خالد:

         للّه درّ رافع انّى اهتدى   ***   فوّز من قراقر الى سوى‏

         خمسا اذا سار به الجيش بكى‏

   ***   ما سارها من قبله انس يرى‏

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 271

         عند الصباح يحمد القوم السّرى   ***   وتنجلى عنهم غيابات الكرى‏

 

يضرب للرجل يحتمل المشقّة رجاء الراحة. وذكرت تفصيل ذلك فى كتاب مجامع الامثال من تصنيفى. وقد عبّر الشاعر عن معناه حيث قال:

         كانّك لم تبعث من الدهر ليلة   ***   اذا انت ادركت الذى كنت تطلب‏

 

الخطبة 149

(1276) قوله اظهر به الشرايع المجهولة، اى اظهر بالنبىّ، عليه السّلام، ما لم يكن للعقل فيه مجال، وكان مجهولا من طريق العقل. (قوله:) العذاب الوبيل، يقال مرتع وبيل، اى وخيم وعذاب وبيل الى شديد. (1277) قوله: والمنجاة ابدا، اى بالتقوى منجاة فى الدنيا والآخرة. (1278) قوله: فاعرضوا عما يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها، لا شكّ ان زينة الحيوة الدنيا غدّارة خلّابة، ولكن لا يصحب الانسان منها الا ما قدّمه لنفسه، يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا. والوجه الثانى انّ الدّنيا مزرعة الآخرة. ولا يصحب الانسان منها الا قليل، وهو ماكوله وملبوسه.

 

 

و يجب ان يكون اشتغال الانسان باسباب المعاد، ولا يشتغل باسباب المعاش، الا لطلب اسباب المعاد. السبيل قصد، اى بين الاسراف والتقتير. والقصد العدل.

الخطبة 150

قوله: الالفاظ الّتى فى كلام له لبعض اصحابه

(1279) وقد سأله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام (1280) قوله: قلق الوضين، الوضين الوضين للهودج بمنزلة البطان (133 ر) للقتب، والتصدير للرجل. والجمع وضن. قال ابو عبيدة: وضين بمعنى موضون، مثل قتيل بمعنى مقتول. وفلان قلق الوضين، اذا كان متردّدا غير متمكّن. (1281) قوله: يا اخا بين اسد، كان ذلك السائل من اقارب ليلى بنت مسعود بن خالد. وليلى كانت امرأة امير المؤمنين، ولها من امير المؤمنين‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 272

عبد اللّه بن على بن ابى طالب وابو بكر بن على بن ابى‏طالب. لذلك قال امير المؤمنين: لك بعد ذعامة الصّهر وحقّ المسئلة. السداد بالفتح الاستقامة والصواب، وكذلك السّدد مقصور منه.

قال الاعشى: يوم الترحّل او قالت لنا سددا. والنّوط كلّ ما علّق من شى‏ء. لذلك قال: الاشدّون بالرسول نوطا. الاثارة والاثرة البقيّة، والاثرة بضم الالف ان يسحى باطن خفّ البعير ليقتصّ اثره. (1282) قوله: دع عنك نهبا صيح فى حجراته، بيت لامرى‏ء القيس:

         فدع عنك نهبا صيح فى حجراته   ***   ولكن حديثا ما حديث الرّواحل‏

 

و النّهب الغارة. وصيح فيه اى سيق. والحجرات النواحى. وقصة هذا البيت انّ امرء القيس هرب من ملك العرب، فاستجار رجلا من طىّ، فاغير على ماله، وخرج جاره على رواحله فى طلب الابل وذهب بها، فكان اسفه على الثانى اكثر من اسفه على الاوّل. (1283) قوله: يكثر الاود اى العوج والميل. (1284) قول: جدحوا بينى وبينهم شربا وبيئا، خلطوا او لتّتوا.

قال الامام الوبرىّ: كانوا اثرة، من الايثار، اى كانوا مختارين، اختارهم الخلق للامامة. وسمّى عقد الامامة بالاختيار «اثرة»، لاتّباع بعضهم راى بعض.

(1285) قوله شحّت عليها نفوس قوم، اى اختاروا الامامة واحيوها، لمّا ارادوا اصلاحهم. (1286) وسخت عنها نفوس آخرين، اى اعرضوا عن الانتصاب للامامة، لما لم يروا صلاحهم فى ذلك الوقت.

الخطبة 151

و من خطبة له، عليه السلام:

(1287) (133 پ) الحمد للّه خالق العباد، الخالق معناه انّه ابتدأ الخلق اوّل مرّة. الخلّاق معناه انّه يخلق الى آخر

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 273

الدّهر، حتّى يتمّ له الخلق، فلا يزال يخلق كلّ يوم خلقا من بعد خلق. ويقال فى العرب: جزّار، لمن يكون من عادته ان يجزر الابل. واصل الخلق التقدير، يقال: خلق اذا قدّر.

قال زهير:

         ولانت تفرى ما خلقت   ***   وبعض القوم يخلق ثمّ يفرى‏

 

(1288) ويقال: اللّه، تعالى خالق، لانّه قدّر الاشياء كلّها، ثمّ امضاها. وهو الخالق فى ابتدائه الخلق، والخلّاق فى تتميمه ايّاه الى اخر الدّهر. بعلم وحكمة وصلاح. والخالق المقدّر بعلم كامل. ولا يقال للانسان: الخالق، لان العالميّة الحقيقيّة للّه، تعالى لا للعباد. لذلك قال اللّه، تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ. (1289) قوله: مسيل الوهاد، الوهدة المكان المطمئنّ، والجمع وهد ووهاد. (1290) قوله: الاوّل لم يزل، قيل له: اوّل، لانّه لم يزل قبل كلّ شى‏ء، فاحدث الاشياء بعد ان لم يكن. (1291) قوله حدّ الاشياء عند خلقه لها ابانة لها من شبهها، يعنى ميّز بين الاشياء بالفصول الذاتيّة والخاصّيّة، ليبيّن النّوع، وبالعوارض ليبيّن الصنف بعضه من بعض. (1292) قوله: لا تقدّره الاوهام بالحدود والحركات ولا بالجوارح والادوات، اى لا يقدّره الاوهام بالحدود المكانيّة والزّمانيّة. (1293) قوله: لا يقال له «متى»، المعنى انّ الاوقات محدثة، فلا يصحب الا الحوادث. واذا كان اللّه، تعالى، قديما، فلا تعلّق بينه وبين الاوقات. ولا يجوز ان يقال: متى كان اللّه، لانّه لفظ لوقت معيّن، فلا مدخل له فى صفات اللّه، تعالى. وكذلك «حتّى» لفظ لوقت مستقبل. (1294) قوله: الظّاهر، لا يقال: ممّا، والباطن لا يقال: فيما، لانّه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 274

يقال: ظهر من كذا وكذا، اذا كان ذلك الشى‏ء ظرفا لما ظهر، امّا ظرف مكان، او ظرف زمان، او صدر من جهة فاعل، اللّه تعالى عن جميع ذلك علوّا كبيرا. والباطن (134 ر) لا يقال: فيما، لانه يخفى الشى‏ء فى غيره، فيكون باطنا فيه، امّا بالمجاورة والحلول، ثم يظهر منه. فكما لا يقال: ظهر من كذا، لا يقال: بطن فى كذا، لان احدهما يتبع الاخر فى الجواز والامتناع. (1295) قوله لا شبح فيتقضّى، اى ليس بجسم فينتهى قواه. وقد تقرّر فى العقول انّه ما من جسم الا وينتهى قواه ويفنى. (1296) قوله: ولا ازدلاف ربوة، روى ازدلاف رتوة، اى خطوة، بالتاء. والربو النّفس العالى، والربوة المكان المرتفع. (1297) قوله: من صفات الاقدار، اى من المقادير. (1298) قوله وتأثّل المساكن، التاثيل التاصيل يقال: مجد مؤثّل واثيل. قال امرؤ القيس قوله:

         ولكنّما اسعى لمجد مؤثّل   ***   وقد يدرك المجد المؤثّل امثالى‏

 

(1299) قوله: لم يخلق الاشياء من اصول ازليّة ولا من اوايل [ابديّة] فى العدم، اذ بعض الشى‏ء لا يخالف بعضه فى صفة ذاته، وان كانت الفروع محدثة، فلا بدّ من محدث لها. فان كان محدثها هو اللّه، تعالى، فاضافتها الى اللّه، تعالى، اولى من اضافتها الى الاصول، لانّ تعلّق الفعل بالفاعل احقّ من تعلّقه بغيره. وان كان محدثها هى الاصول، فان كانت مختارة، فهى الفاعل، وان كانت موجبة، فالفروع مع الاصول قديمة، لانّ الموجب لا ينفكّ عن الموجب. (1300) قوله: لا تحير دعاء، اى لا تجيب. قوله: ان من يعجز عن صفات ذى الهيئة والادوات، فهو عن صفات خالقه اعجز فى الاعتراف بالعجز عن ادراك هذه المعانى، تفاوت عظيم. ولعلّ النّفس الانسانيّة اذا استغرقها العجز عن ادراك كمال العجز، فقد صارت مدركة للعجز

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 275

من طريق المعرفة. لا من طريق المقدّمات. و

قيل: العجز عن درك الادراك ادراك.

و

قيل: من عرف اللّه، كلّ لسانه. واللّه، تعالى، محيط بالعقل وفوق العقل، فكيف يتصوّران يحيط العقل به وبصفاته. واحاطة الجزء (134 پ) بالكل فى غاية البعد. ومن قصر فهمه عن ادراك هذا العجز، فهو لقلّة استعداده لادراك عجزه. وليس لقصوره مستند، الا غروره وعجبه.

الخطبة 152

قوله: من خطبة فى اوصاف الطّير، وخصوصا فى خلقة الطاووس

(1301) الطّوس القمر. وطاس يطوس طوسا، حسن وجهه. والطاووس فى كلام اهل الشام الجميل من الرجال، وسمّى هذا الطائر طاووسا لحسنه. (1302) قوله: ما ذرأ من مختلف صور الاطيار، اعلم انّ من الحيوان ما يلزم مكانه ولا يبرح، مثل الاسفنج. ومن الطيور يقع من بلاد الى بلاد، وطيور لا ينقطع طيرانه ليلا ونهارا، مثل صنف من الخفّاش. وليس شى‏ء من طير الماء يعشّش او يفرخ فوق الشّجر. وجوارح الطير يأكل جميع ما يقهره الا ما كان من جنسها. ومن الحيوان قواطع واوابد، ومن الاوابد ما يلزم مأواه الطبيعىّ كالحمام، ومنه ما يفارقه الى ماوى شتوىّ كالفواخت والغربان. ومن القواطع ما يقطع من الشّتاء الى قرب، ومنها ما تجتاز فى الصّيف المراوح والروابى وينتقل فى الشتاء الى الاغوار والسهول. ومن القواطع ما يبعد مدى السّفر، مثل الطّير يطير من شرقى الجنوب الى غربىّ الشمال كالكراكى. منها ما يصيف الجنوب ويشتو بالشمال. و

قيل: ان طير الماء يقطع من الهند ربيعا البحيرة بباميان دفعة، والدفعة الاخرى من باميان الى نقايع مرو. والكراكى يسافر بخط واحد يقودها رئيس. والقطا يسافر جملة منتشرة. فاذا همّ قطيع من الطير بالقطع، تصايحت منذرة بما يصنع ليلا. ومن الطير ما يقوى على ريح دون ريح كالدّرّاج، فان الجنوب يرخيه، والشمال يقوّيه. فلذلك يختار لصيده هبوب الجنوب. والطاير الهندىّ الذى يقال له الببغاء له لسان كلسان الانسان، ويهيجه شرب الشراب، (135 ر) وهو مجال للكلام. والطير يشرب الماء الّا قليلا.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 276

و ذوات المخلب لا يشربه. والخصب يؤنّس بعض الحيوانات ببعض لزوال الحاجة الى المنازعة، ولذلك يكثر الحيوانات بناحية مصر. وللطاووس زهو بالوان ريشه يقال: ازهى من الطاووس.

(1303) ولمقدم الاطباء كلام فى الطاووس، وقال: لحمه شبيه بالليف وهو عسر الانهضام، وهو ردىّ المزاج.

(1304) قوله: ومنع بعضها بعبالة خلقه، مثل النّعام والطيور الكثيفة. يدفّ دفيفا. دفيف الطائر نشره فويق الارض. يقال: عقاب دفوف للّذى يدنو من الارض فى طيرانه. (1305) قوله: مطلّا على راسه، اى مشرفا، من قولهم: اطلّ عليه، اى اشرف. قال الشاعر: انا البازى المطلّ على نمير. القلع الشّراع، الدارى، مهموز، الذى ينظر عليك من مكان، والدارء الدافع عن نفسه الشى‏ء. والدارى‏ء مهموز ايضا البعير الذى بحلقه وصدره خراج.

و الدارىّ مشدّد الياء الذى لا يبرح بيته. والدّارىّ منسوب الى دارين فرضة بالبحرين. و

قيل المراد بذلك شراع دارىّ، اى منسوب الى دارين، وفيها سوق يحمل اليها المسك والثياب المصنوعة من بلاد الهند.

المنج ضرب من رياضة البعير يجدب الراكب خطامه فيردّه على رجليه. وقد عنجت البعر اعنجه بالضّم، والاسم منه العنج بالتحريك. وفى المثل «عود يعلّم العنج». والنوتىّ الملّاح، والنّواتى الملّاحون. (1306) قوله: يميس بزيفانه، زاف البعير يزيف، اى يتبختر فى مشيته، وكذلك الحمام عند الحمامة اذا جرّ الذّيال ورفع مقدّمه بمؤخّره، واستدار عليها. والزيّافة من النّوق المختالة. قال الشاعر: زيّافة مثل الفنيق المكرم. (1307) قوله: يفضى كافضاء الديكة ويؤزّ بملاحقة، افضى الرجل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 277

الى المرأة، باشرها. وافضى بيده الى الارض، مسّها ببطن راحته فى سجوده. والارّ الجماع، يقول ارّها يارّها ارا. مطاعمة الغراب سفاده على وجه يشبه المطاعمة، كما ذكر فى كتاب الحيوان. (1308) قوله مدارى من فضّة، المدرى شى‏ء يصلح به المشّاط قرون النّساء، وهى شى‏ء كالمسلّة. قال الشاعر:

 

         تهلك المدراة فى اكنافه   ***   واذا ما ارسلته يعتفر

 

الفلذة القطعة من الكبد واللّحم والمال، والجمع: فلذ. رجل احمش الساقين دقيقهما، وحمش الساقين ايضا بالتسكين. وقد حمشت قوايمه اى دقّت. والخلاسيّة مأخوذة من اخلس النبات اذا اختلط رطبه ويابسه، واخلس رأسه اذا خالط سواده البياض. (1309) قوله كصبغ الوسمة اليمانيّة، الوسمة بكسر السّين العظلم الذى يخضب به. (1310) قوله: وبصيص ديباجه. البصيص البريق. وقد بصّ يبصّ. قوله: تربّها امطار ربيع، اربّت السّحابة، اى دامت. ويقال ربّ الصنيعة اى اصلحها واتمّها. (1311) قوله: ادمج قوايم الذّرة، يقال: دمج الشى‏ء دموجا، اذا دخل فى الشى‏ء واستحكم فيه، وادمجت الشى‏ء اذ لفّفته فى ثوب. والشى‏ء المدمج المدرج مع ملابسه. قوله وأى على نفسه، الوأى الوعد، يقال وايته وأيا. الّا يضطرب شبح ممّا اولج فيه الروح، اى له حركات ارادية نفسانية.

الّا وجعل الحمام موعده والفناء غايته. (1312) قوله فى صفة الجنة: غرفت نفسك، غرفت نفسى من‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 278

الشى‏ء تعرف وتغرف غروفا، اى زهدت فيه وانصرفت عنه. غرفت نفسك اى زهدت. الكباسة بكسر الكاف الغذق، وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب. العسلج والعسلوج بالضمّ مالان واخضرّ من قضبان الشجر والكرم اوّل ما ينبت.

الخطبة 153

(1313) قوله: ولا عن اللّه تعقلون، اى لا تعقلون معنى امره ونهيه.

و ذلك لانّ الغرض المقصود من الفعل تمييز الحقّ من الباطل، فمن لم يميّز بينهما، فهو كمن لا يعقل. وهذا كما روى عن رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله: ليس العاقل من عقل ديناره ودرهمه، انّما (136 ر) العاقل من يعقل عن اللّه امره ونهيه. ولذلك سمّى اللّه الكفّار والجّهال صمّا وبكما وعميا، ونفى عنهم العقل فى وصفه لهم بانّهم لا يعقلون فى كثير من المواضع. (1314) قوله كقيض بيض فى اداح يكون كسرها وزرا ويخرج حضانها شرّا،

قيل هذا تشبيه بتقويم الجاهل، فان الجاهل الجانى عن الحق المعاند او المتعنّت الذى لا يرجى له ارعواء، مثله كالبيض فى اداحى، اذا سلمت من الكسر والفساد، اخرجت حيوانا مضرّا مفسدا، وان كسرت اتّقاء لما يعقّب من الشرّ، كان كسرها اثما.

فكذلك اذا قوّم الجاهل، واعيد الى العلم واخلاق العقلاء فى الاهتداء والاستقامة، لم يكن كذلك، ولم يجز عليه اختيارا. فلا وجه الّا ان ينفى عن الارض بالقتل والاهلاك. ولا يخلو ذلك عن التعدّى والظلّم، فيصعب فى مثل ذلك مراعاة الحدود. وان ترك على حاله، ادّى ذلك الى فساد عظيم، امّا من جهته، او ذرّيّته، او من حوله من اتباعه. وقد نبّة اللّه، تعالى، على ذلك حيث قال، تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فورد الآية فى قطّاع الطريق، نبّهت على حكم الجناة الّذين دونهم على حسب جناياتهم. (1315) قوله: قزع الخريف، القزع قطع من السّحاب رقيقة، الواحدة

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 279

قزعة. قال الشاعر: كانّ رعاله قزع الجهام. (1316) قوله: رصّ طود ولا حداب ارض. الرصّ للدّقّ الجريش. والحداب جمع الحدب وهو مرتفع من الارض، قال اللّه تعالى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. (1317) قوله: يذعذعهم اللّه فى بطون اوديته، يقال ذعذعته، فتذعذع، اى فرّقته فتفرّق. (1318) قول وايم اللّه ليذوبنّ ما فى ايديهم بعد العلوّ والتّمكين، كما تذوب الالية على النار. ذلك الخبر عن انقراض دولة بنى مروان وفناء رجالهم واموالهم.

كما حكى انّه لما صفا الامر لعبد اللّه ابى العبّاس السّفاح الملقّب (136 پ) بابن الحارثة، مضى اليه سديف بن [مهران بن‏] ميمون الشاعر، وكان من موالى بنى العباس. فلما سلّم عليه بالخلافة وسمع الجواب، قال سديف قلت كثيرا: اللّهمّ قد استحصد زرع الباطل، واستوثق طريده، فاتيح له يد الحقّ، تهشم سوقه وتستاصل شافته وعروقه، والآن استجاب، وله الحمد وهو ارحم الراحمين.

ثم نظر ووجد بنى امية جلوسا بين يدى السّفاح، وابو الغمر عمرو بن هشام بن عبد الملك معه على السّرير. فاستاذن فى الانشاد، فاذن له، فانشد قصيدة سينية، منها.

         ولقد ساءنى وساء سوائى   ***   قربهم من منابر وكراسى‏

         فاذكروا مصرع الحسين وزيد   ***   وقتيلا بجانب المهراس‏

         والقتيل الّذى بحرّ ان اضحى   ***   ثاويا رهن غربة وتناسى‏

         ذلّها اظهر التودّد منها   ***   وبها منكم كحزّ المواسى‏

         انزلوها بحيث انزلها اللّه   ***   بدار الاتعاس والانكاس‏

 

فعملت كلمته فى السّفاح.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 280

فقال الحاضرون من بنى اميّة: انّه اعرابىّ جلف لا يدرى ما يخرج من فيه.

فقال السّفاح: انصرفوا واحضروا غدا اهلكم اجمعين حتّى يخبركم امير المؤمنين.

فاجتمعوا اليوم الثّانى وقدّامهم ابو الغمر بن هشام، وكان رئيسهم.

فدخلوا وكان فيهم كلبىّ من اخوالهم منعه حاجب السّفاح عند الدخول. فصاح الرّجل وقال: يا ابا الغمر قد منعت من الدخول. فانصرف ابو الغمر ليدخله معه، فقال الحاجب للكلبىّ: لا تدخل يا مسكين فلم يقبل ودخل.

فلمّا استقرّ بهم المجلس، وجلس ابو الغمر مع السفاح على السرير، قام سديف وانشأ قصيدة، اولها:

         عمّنا العدل فاستناد مضيّا   ***   اذ راينا الخليفة المهديّا

 

فلما انتهى الى قوله:

         لا يغرّنّك من ترى من رجال   ***   ان بين الضّلوع داء دويّا

         فخذ السّيف واترك السّوط حتّى   ***   لا ترى فوق ظهرها امويّا

 

فاغتاظ السّفّاح، فقال ابو الغمر اسكت يا بن الزانية، فازداد خنق (137 ر) السّفّاح، فقال سديف تهييف [بطن‏] شيّن الدّريس.

فنظر السّفّاح الى رجال الخراسان وهم وقوف بالاعمدة بين يديه، فقال لهم بالفارسية: «دهيد» فضربوهم حتى قتلوهم. فلما انتهت النوبة الى الكلبىّ الفضولىّ، قال: لست منهم. فقيل: كذبت، تشبّهت بهم، فقتل ايضا.

و اخذت ارجلهمن وجرّت. وابو الغمر مع السّفاح على السرير، فالتفت السّفّاح الى ابى الغمر وقال: ما احسبك تستلذّ العيش بعدهم، فقال: نعم.

فاومأ بان يضرب، ويلحق بالقوم. ففعل ذلك وجرّ برجله ايضا.

و امر بالانّطاع، فبسطت عليهم، ودعا بالطعام، وجلس على الانطاع، واكل. وكان فيهم من يأنّ، ومن القوم من يحرّك رجليه، وهو يأكل فوقهم.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 281

ثمّ امر بصلبهم فى البستان. فلما كان بعد يوم او يومين صارنتن جيفهم يؤذى من فى المجلس فقيل له: يا امير المؤمنين لو امرت بدفنهم او تحويلهم لكان خيرا فقال: هذه الرايحة اذكى فى خياشيمى من المسك الاذفر، الآن سكن غليلى. واطفأ نائرة المروانيّة حتّى لم يبق منهم الا شرذمة بناحية المغرب بكورة قرطبة ونواحى اندلس.

(1319) وقتل مروان بن محمد وجزّ رأسه، ووضع بين يدى السّفّاح فى طست. فجاءت هرّة واقلعت عن فمه لسانه، واكلته. وتعجّب الناس من ذلك، وقالوا: هذا لسان كانت الاوامر والنواهى فى مشارق الارض ومغاربها صادرة عن هذا اللسان، والآن هذا اللسان فى فم هرّة مضغة، فاعتبروا يا أولى الابصار. وهذا معنى قول امير المؤمنين كما يذوب الالية على النار. وقتل مروان بن محمّد فى نواحى مصر، ومعه خمسمائة الف فارس وراجل، رجل كوفىّ يبيع الخبز على راسه، فعرف ذلك الخبّاز مروان بن محمّد فى ليل داج وهو يعبّى‏ء جيوشه، فاحذ لحيته وجزّ رأسه (137 پ)، وحمله الى على بن عبد اللّه بن عباس، ثم الى ابى العباس السّفّاح. (1320) قوله: تهتم متاه بنى اسرائيل، بنو اسرائيل تحيّروا فى تيهم اربعين سنة. لانّهم قالوا لموسى: قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّا، لَنْ، نَدْخُلَها أَبَداً ما. قالَ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ. (1321) قوله ليضعّفنّ لكم التيه [من‏] بعدى اضعافا، اراد به ملك بنى اميّة، فان مدة ملكهم كانت مائة وعشرين سنة، وتلك المدة اضعاف الاربعين، لان ضعف الاربعين هو ثمانون، واضعافه مائة وعشرون. (1322) قوله: انّكم ان اتّبعتم الداعى لكم، عنى به نفسه ومن يقوم مقامه. (1323) قوله: كفيتم مؤونة الاعتساف، العسف الاخذ على غير الطريق، وكذلك التعسّف والاعتساف.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 282

(1324) الثقل الفادح، مأخوذ من قول العرب امر فادح، اذا غاله وبهظه. قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله: وعلى المسلمين ان لا يتركوا مفدوحا فى فداء وعقد.

الخطبة 154

(1325) قوله: فانّكم مسئولون حتّى عن البقاع والبهائم. التصرف فى البقاع من طريق الرياء والسّمعة حرام، كما ذكره النبى، صلّى اللّه عليه وآله، فى خطبة الوداع، وفى البهائم على خلاف ما جوّزه الشرع حرام، ولايلام الانعام والبهايم اغراض مذكورة فى الكتب الاصولية، لذلك قال: مسئولون عن البهائم.

الخطبة 155

(1326) [قوله:] وثارت معهم عبدانكم، ظهرت وخرجت. والتفّت اليهم اعرابكم، اراد به انصارهم وخلطائهم من الاعراب الذين كانوا حول المدينة. (1327) (قوله:) انّ هذا الامر امر جاهلية،

قال ابو حاتم الرازىّ فى كتاب الزيّنة: الجاهليّة جاهليّتان: كفر، وهى الّتى كان عليها اهل الجاهليّة قبل مبعث رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، لجهلهم بامر الاسلام وكفرهم برسول اللّه، عليه السلام، فهذه فى الجاهليّة الجهلاء. والجاهليّة الاخرى هى الّتى عليها اصحاب الاهواء والضلالات ممّن هو (138 ر) فى جملة المسلمين، لا يستوجبون اسم الكفر بسبب اقرارهم برسول اللّه، وقبولهم الشريعة، ويستوجبون اسم الجهل، لانّهم ضلّوا عن حقايق السّنن. قال اللّه تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا. فلما جعلها الاولى، دلّ على انّ هناك جاهليّة اخرى.

(1328) وقال بعض العلماء: الجاهليّة الأخرى التى اخبر امير المؤمنين عنها هى جاهليّة ضلال لا جاهليّة كفر.

و الجاهليّة نعت للخصلة والغفلة الّتى اجتمعت عليها امّة من النّاس، كما قال: المجوسيّة واليهوديّة والنصرانيّة. وفرق بين الجاهليّة والجهل، ان الجاهليّة يكون بأمّة من الناس، يقال لهم اهل الجاهليّة، والجهل ينفرد به الجاهل. وقال امير المؤمنين علىّ بن‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 283

ابى طالب، عليه السّلام: انّ هاهنا علما، واشار الى صدره، لو اصبت له حملة. فالذين جهلوا هذا العلم الخاصّ هم اهل الجاهليّة الذين لا يعرفون امام زمانهم، وان كانوا مقرّين بساير السّنن. (1329) قال: انّ لهؤلاء القوم مادّة،

قال الجوهرىّ: المادة الزيادة المتصلة، عنى به انّ لهولاء اقارب ومعارف يعينونهم ويذهبون مذاهبهم.

(1330) قوله: فرقة ترى ما ترون [من‏] عقوبة قتلة عثمان، وفرقة ترى ما لا ترون من تصويب قتلة عثمن، وهم الخوارج، وفرقة لا تذمّ قتلة عثمن ولا تمدحهم، فاصبروا حتّى يتّفق الناس على امر واحد. (1331) قوله: آخر الدواء الكىّ، مثل للعرب. العرب تعالج بالكىّ، وكذا الترك. فمن قال: آخر الداء الكىّ، قال الكىّ وان كان علاجا، فهو داء ولكن لاداء بعده. والاصل فى المثل قولهم آخر الدواء الكىّ، لانّه انّما يقدم المعالج عليه بعد ان لا ينفع كلّ دواء.

قاله لقمن بن عاد، وكان سايرا، واصابه عطش، فاستسقى امراة، فقالت المراة: تبتغى اللّبن ام الماء فقال: ايّهما كان. فقالت الماء امامك واللّبن خلفك. (138 پ).

فراى صبيّا يبكى ويستسقى ولا يسقى، وراى شابّا معها، فقال: من هذا فقالت المرأة هو اخى. فنظر لقمن الى فتل الشعر فى اطناب الخيمة، فعلم انّ زوجها اعسر. فعرضت المرأة عليه الطعام، فابى لقمن، ومضى.

فراى رجلا يسوق ابله، فقال له لقمن: يا هاتى فقال: لبّيك يا لقمن.

فقال لقمن:

 

         يا ذا البجاد الحلكه   ***   والزوجة المشتركة

         عشّى رويدا ابلكه   ***   لست لمن ليس لكه‏

 

فقال هانى‏ء نوّر نوّر. فقال لقمن: علىّ التنوير، وعليك التغيير. إنّى مررت بها تغازل رجلا زعمت انّه لها اخ، ولو كان اخاها لجلّى عن نفسها، وكفاها

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 284

الكلام.

فقال: كيف علمت انّ المنزل منزلى.

فقال: عرفت عقايق هذا النوق فى البناء، وبوّ هذه الخليّة فى الفناء، وسقب هذه النّاب، واثر يديك فى الاطناب.

قال: فما الرأى قال ان تقلب البطن ظهرا، والظهر بطنا، حتى يستبين لك الامر امرا. قال افلا اعالجها بكيّة توردها المنيّة فقال لقمن آخر الدواء الكىّ.

الخطبة 156

شرح خطبة له عند مسير اصحاب الجمل الى البصرة،

(1332) قوله: امر قائم، اى دايم. (1333) قوله: لا يهلك عنه الا هالك،

قال الامام الوبرىّ: معناه من استحقّ العقاب، واستوجب العذاب، فانّه يدخل النار بعد ورود الآيات وقيام الحجج والبينات، فهو الذى كان يهلك فى معلوم اللّه، وان ازدادت الحجج والبراهين والالطاف، كما كان يهلك، وان لم يبعث الرّسول، فلا خير فيه على كلّ حال. وهو الذى ابان عنه، تبارك وتعالى، فى سورة والصافّات: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ. معناه انّكم لا تضلّون ولا تفتنون احدا عن الدّين، الا من كان هالكا فى معلوم اللّه، تعالى، سواء دعوتموه او تركتموه على حاله.

(1334) قال: وانّ المبتدعات المشتبهات هى المهلكات. البدع ابتداء احداث شى‏ء لم يكن له ذكر ولا حدث به (139 ر) سنة: يقال ابدع الشى‏ء، احدثه من غير مثال تقدّم فيه، ومنه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مبتدعهما. قوله: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها، ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ، اى لم تجر بها سنّة من اللّه، بل ابتدعوها من عند انفسهم. والبدعة فعلة بوزن الركبة والجلسة، وهى الجهة التى منها يبدع الشى‏ء، كما ان الركبة الجهة التى منها يركب، فمن ابتدع فى الدّين امرا من غير مثال، فقد ضادّ اللّه، عزّ وجلّ، وناوأه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 285

المهلكات اخلاق وعادات بها يهلك الانسان، كما قال النبى، عليه السلام: اما المهلكات فشحّ مطاع وهوى متّبع واعجاب المرأ بنفسه. (1335) قوله فى سلطان اللّه، السلطان الحجّة والقهر، وسلطان كل شى‏ء حدّته. (1336) قوله: حتى يأرز الامر الى غيركم، اى ينضمّ ويجتمع بعضه الى بعض. (1337) قوله: تمالأوا على سخطه إمارتى،

قال ابن السّكّيت: تمالؤا على الامر، اى اجتمعوا وتعاونوا،

و منه قول امير المؤمنين علىّ: واللّه ما قتلت عثمن ولا مالأت على قتله. (1338) قوله: ان تمّموا على فيالة هذا الراى انقطع نظام المسلمين، اى امّروا على الخطأ والزّلل، ولم يرد به وهى الراى وضعفه عندهم، فان الجاهل فى جهالته قد يربى على الحقّ، وان كان مذهبه وعقيدته فى نفسه اوهى واضعف من نسج العنكبوت. وفيالة الرأى، يقال: رجل فيل الرأى، اى ضعيف الرأى. قال الشاعر:

         بنى ربّ الجواد فلا تفيلوا   ***   فما انتم فنعذركم لفيل‏

 

و رجل وقال: اى ضعيف الرأى يخطى.

قال الشاعر:

         رأيتك يا اخيطل اذ جرينا   ***   وجرّبت الفراسة كنت فالا

 

(1339) قوله: لمن افاءها اللّه عليه، الفى‏ء الخراج والغنيمة، تقول منه افاء اللّه على المسلمين مال الكفّار يفى‏ء إفاءة.

الخطبة 157

شرح كلمات له فى قوله لما عزم على لقاء القوم بصفّين:

(1340) جعلت سكّانه سبطا من ملائكتك، السّبط دون القبيلة، واختصّ الاسباط بقبايل الانبياء والرسل، عليهم السّلام. والسّبط الفرقة، وهاهنا (139 پ) المراد بذلك الفرقة، لا ولد الولد. قال اللّه، تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 286

أَسْباطاً، أُمَماً، فانّها أنّث لانّه اراد اثنتى عشرة فرقة. (1341) قوله: ومجرى الشمس والقمر ومختلفا للنجوم، يقال: الشمس اذا ارتفع، ويقال للهضبة المرتفعة شموس، قال الشاعر:

         كانّ الشّموس بها بيئة   ***   لطيف حواليه او عالها

 

الشّموس هاهنا هضبة مرتفعة. فسمّيت الشمس شمسا لارتفاعها. وانّما انّثوها بسبب وضعها الاصلىّ، وهى الهضبة المرتفعة. اما القمر فلا يقال له: قمر: حتّى يمتلى ويقابل الشّمس. وسمّى قمرا لانّ نوره لا يزال يزيد وينقص بمنزلة القامر الذى يزيد ماله مرّة وينقض مرّة. والنجوم هى السيّارات مثل زحل والمشترى والمريخ والزهرة وعطارد والشمس والقمر. والكواكب هى الثوابت كالشعريين والنسرين والسّماكين والجناحين والقلبين. ويقال للسيّارة الكواكب بالاستعارة والتوسّع. والكوكب نور مجتمع. وكوكب الشى‏ء معظمه. والثابت اعظم من السيّارة. (1342) قوله: فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة، الفتنة الاثم. قال ابو عبيدة فى قوله، تبارك وتعالى، وَمِنْهُمْ مَنْ، اى ولا تؤثّمنى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ، الا فى الإثم. والفتنة الاحراق. قال اللّه، تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ اى يُحْرَقُون. ودينار مفتون محرق بالنار. والفتنة فى اصل اللغة ان تصرف صاحبك عن الحق الى الباطل. قال اللّه، تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. والشهادة فى كلام العرب الحضور، و

قيل للّذين قتلوا فى سبيل اللّه: شهداء، لانّهم حضروا وجادوا بارواحهم، فصار ذلك شهادة عليهم فى انفسهم انّهم صدّقوا البأس، وكانوا شهداء، لا كمن ولّى الدّبر وغاب.

و

قال قوم: يقال لهم: الشهداء: لانّ الملائكة والانبياء يشهدون لهم بالجنّة.

و قال قوم: (140 ر) هم الشّهداء، لانّهم حضروا دار الثواب، كما قال اللّه، تعالى: يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.

الخطبة 158

(1343) قوله: العار وراءكم، اى ان فررتم، ادرككم العار، وان‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 287

اقدمتم، وصلتم الى الجنّة. والذّمار، يقال: حامى الذّمار ومانع الذّمار، اى اذا ذمّر وغضب، حمى. وفلان امنع ذمارا من فلان. والذّمار ما وراء الرجل ممّا يحقّ عليه ان يحميه، لانّهم قالوا: حامى الذّمار، كما قالوا: حامى الحقيقة.

و سمّى ذمارا لانّه يجب على اهله التّذمر. وسمّيت حقيقة، لانّه يحقّ على اهلها الدّفع عنها. والجمع الحقايق، فذلك معنى قوله: عند نزول الحقايق.

و اكثر ما يطلق الحقيقة على النساء.

و الحفاظ، يقال: فلان لذو حفاظ وذو محافظة، اذا كان له انفة. (1343) شرح خطبة اخرى له: الحمد للّه الذى لا توارى عنه سماء سمآء والارض ارضا. العرب يسمّى كل ما علا وارتفع سماء، وكل ما سفل ارضا. وفى حديث امّ معبد فى صفة النبىّ عليه السلام، اذا تكلّم سماه البهاء، اى علاه. والمعنى انّ اللّه، تعالى، لا يرى بآلة وليس، تعالى، بجسم، ولذلك لا يحتاج الى آلة، فيدرك كلّ مدرك، لكونه حيّا لا آفة به. والسّواتر والحواجب انما يعترض دون الاجسام. فلذلك قال لا يحجب عنه سماء سماء ولا ارض ارضا. و

قيل: المراد بذلك، انّ علم اللّه، تعالى، ليس بمتغيّر زمانّى فيصرفه معلوم عن معلوم، ولا قدرته على وجه يشغله مقدور عن مقدور.

(1344) قوله: ثم قالوا: الا انّ فى الحقّ ان تأخذه وفى الحقّ ان تتركه،

المعنى [كما قال الامام الوبرىّ‏] انّهم غلطوا فى هذا القول، لان الحقوق لا يقاس بعضها على بعض فى الإعفاء والايفاء، لان من الحقوق ما يجب ايفاءه، ومنها ما لا يجب، ومنها ما يندب الى استيفاءه ومنها ما يندب الى تركه. فالامامة ليست من النوع الّذى يحسن تركه واعفاءه، وانما هو حقّ على من يستحقّه ويصلح له، وليس بحق له (140 پ) دون حق الشرع وحقوق المسلمين. والحقّ اذا كان على الانسان، فحكمه مجانب للحقّ اذا كان له.

و اذا كان كذلك، فحقّ المال اذا كان له على غيره، واحتاج اليه، ليس له تركه واعفاءه، بل يجب استيفاءه. فحقّ الامامة اذا كان عليه ان ينتصب لها

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 288

و يدّعيها، واذا عقدت له، حرم عليه [ردّها] من هذه الوجوه وغيرها. هذا اذا كان فى عصره من يكون مستحقّا لها من اضرابه، غير انّ الصلاح تعيّن فى واحد. فالوجوب يتعيّن عليه. واما اذا انفرد بالاستحقاق، دون ساير اهل زمانه، فالوجوب فيه اظهر على وجه التّعيين والتضّييق. فلذلك كان قول النّاس له: انّ فى الحقّ ان تاخذه، وفى الحقّ ان يتركه، قولا فاسدا. هذا قول الامام الوبرىّ.

و قال بعض الناس: الامامة تبع للنبوّة، فليس للنبىّ ان يسقط حقّ نبوّته، فكذلك الامام.

(1345) وقال ايضا بعض المتكلّمين: الامامة مشتركة بعضها للرعايا على الامام وبعضها للامام على الرعيّة، فليس للامام ان يسقط تلك الحقوق.

(1346) قوله: قدموا على عاملى بها، هو عثمن بن حنيف صاحب رسول اللّه، اخذه اصحاب الجمل بعد محاربة جرت بينهما بالمربد. (1347) قوله: قتلوا [طائفة] صبرا، اى بلا روية ومهلة، مأخوذ من قول العرب: اشتريت الشى‏ء صبرة اى بلا كيل ولا وزن. و

فى كتاب اصحاب اللغة: قتل فلان صبرا، اذا حبس على القتل حتى يقتل، وحلف صبرا، اذا حبس على الثّمن حتى يحلف.

(1347) قوله: وطائفه غدرا، لانّهم اخذوا عثمان بن حنيف ومن معه غدرا. (1348) قوله: الّا رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جرّه، لحلّ لى قتل ذلك الجيش كلّه، هذا دليل على صحّة قول من يقول: انّ الجماعة يقتل بالواحد. (1349) قوله: مثل العدّة التى دخلوا بها عليهم، وسبب ذلك انّ اهل البصرة افترقوا، فنصفهم اعانوا عثمن بن حنيف، وقالوا: هولآء يطلبون الامارة بعد (141 ر) ما بايعوا عليها، ونصفهم بايعوا طلحة والزبير، وقالوا: هما يطلبان قتلة عثمن بن عفان، واقتتلوا بياض يومهم هذا. فلما غربت الشمس، انصرفوا. وقتل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 289

عسكر طلحة والزبير من عسكر عثمان بن حنيف اعداد ما كان معهما من الجيوش حين دخل البصرة، واخذوا عثمان بن حنيف، وكان شيخا من اصحاب رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، ونتفوا لحيته وخلوّا سبيله. فلما ورد عثمان بن حنيف حضرة امير المؤمنين علىّ بن ابى طالب، قال له امير المؤمنين فارقتنا شيخا، ورجعت الينا غلاما. وهذه قصة طويلة مذكورة فى التواريخ.

الخطبة 159

(1350) قوله: انّ الجنّة حفّت بالمكاره، اى سترت، فلا يكشف الا بتحمّل المشاقّ والمكاره. (1351) قوله: ما من طاعة اللّه شى‏ء الّا يأتى فى كره، وما من معصية اللّه شى‏ء الّا يأتى فى شهوة. من عادة الدنيا ان تغرّك، وتخيّل اليك انّها تحبّك، ولا تفارقك. ثم تفارقك بغتة، وتلازم عدوّك.

(1352) وفى الانجيل انّ عيسى، عليه السلام، راى فى مكاشفاته الدّنيا على صورة عجوز، فقال لها: كم اعداد ازواجك فقال اكثر من ان تحصى. فقال عيسى: فارقوك ام طلقوك فقالت: كلّا، بل قتلت الجميع. فقال عيسى: عجبا لمن يخطبك ويطلبك. (1353) ومن سحر الدنيا انّها تزيّن ظاهرها وتخفى بلاءها ومحنها.

 

 

فيغترّ بظاهرها الجاهل. مثال عجوزة شوهاء، تلبس ثيابا فاخرة، فاذا كشف صاحبها قناعها، ندم على ما انفق عليها.

و فى الحديث: انّ الدّنيا ياتى يوم القيمة على صورة عجوز شوهاء فوهاء، فلا يمرّ عليها احد الّا وهو يقول لها نعوذ باللّه منك. فيقول اللّه لعباده: هذه الدنيا الّتى عصيتمونى بسببها، وسفكتم الدّماء بسببها، وقطعتم الارحام. (1354) ومثل صاحب الدّنيا فى اللذّة التى يجدها من الدّنيا، كما قال امير المؤمنين: «ما من معصية اللّه شى‏ء الّا يأتى فى شهوة، كمثل من يتناول طعاما لذيذا طيّبا يفسد به معدته (141 پ) ثمّ قآء وقذف ما فى معدته، فبطلت لذّته وبقيت تبعته. وكذلك كلّ من كان نصيبه من الدنيا اكثر، كان‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 290

ندمه اوفر، وخسرانه اكمل. ومحصّل ذلك الكلام انّ الطاعة قهر الهوى ونصرة العقل. فلذلك يكون فى كره من القوى الشهوانيّة والغضبيّة، والمعصية قهر العقل ونصرة القوى البدنيّة، فلذلك يأتى فى شهوة. (1355) قوله: انّ هذه النفس ابعد شى‏ء منزعا، وانّها لا تزال تنزع الى معصية فى هوى، يعنى انّ‏] فى باطن الانسان ما يجرى مجرى الكلب وهو الغضب وما يجرى مجرى الخنزير وهو الشّره والحرص، وما يجرى مجرى الشّيطن، وهذا الشّيطن يوسوس دايما ويهيّج هذا الخنزير والكلب.

فاذا دحرت الشيطن، وقهرت القوة الغضبيّة والشهوانيّة، واطعت داعى العقل، حصل لك من الاخلاق العلم والحكمة والصلاح والعفّة وحسن الخلق.

و تلك الاخلاق هى الباقيات الصالحات. (1356) قال: النفس ابعد شى‏ء منزعا، المعنى انّ الانسان واقع بين امرين: امر الشهوة وامر العقل. فبمقتضى الشهوة والغضب يحرص على تناول اللّذات الدنيّة البهيميّة كالغذاء والنكاح والتغالب وساير اللّذات العاجلة، وبقوّة العقل يحرص على اكتساب العلوم والافعال الجميلة.

و الى هذين الامرين اشار بقوله، تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً.

و من جبّلة الانسان ان يتحرّى ما فيه اللّذات. واللّذات على قسمين: محسوسة كالمبصرات والمسموعات والمذوقات وغيرهما، ومعقولة. واللذات المحسوسة فى الانسان غالبة، لذلك قال، تعالى: كلّا بل تحبّون العاجلة وتذرون الآخرة.

و يحتاج الانسان ان يقاد فى ابتداء امره الى مصالحه بضرب من القهر.

كما قال النبىّ، عليه السلام: يا عجبا لقوم يقادون [الى‏] الجنة بالسلاسل. ونفى الامور الشهوانيّة والغضبيّة من الانسان امر بعيد، لانّ تلك القوى مخلوقة مع بدن الانسان، والشّرع ما امر بنفيها، (142 ر) بل بتاديبها، وكونها

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 291

منقادة للشرع والعقل. ومدح اللّه قوما يكظم الغيظ، فقال: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، وما مدح من ليس له غيظ وغضب. (1357) قوله: الّا ونفسه ظنون عنده، اعلم انّ اللّه، تعالى، خلق الحيوانات العجم للدّنيا، وخلق الملايكة للملاء الاعلى، وخلق الانسان للدارين.

فالانسان واسطة بين وضيع ورفيع.

و الظّنون الرجل السّي‏ء الظنّ. فالمؤمن غير معجب، بل هو سيّى‏ء الظّنّ بنفسه، وهو ينظر الى الرفيع الذى فوقه، فلا يزال زاريا على نفسه ومستزيدا لها، اقتداء باب البشر آدم، حيث قال قالا رَبَّنا ظَلَمْنا. (1358) قوله: قوّضوا من الدّنيا تقويض الرّاحل، يقال: قوّضت البيت، اذا نزعت اعواده واطنابه. فالمعنى انّه يفارق الدنيا على وجه لا يلتفت اليها، كما لا يلتفت المسافر الى المنزل. (1359) قوله ومن محل به القرآن يوم القيمة صدق عليه، يقال محل به، اذا سعى به الى السلطان فهو ماحل. وفى الدعاء ولا تجعله ماحلا مصدّقا. (1360) وقوله واتّهموا عليه آرائكم، يعنى لا تفسّروه بآرائكم. فانّ النبىّ، صلّى اللّه عليه وآله، قال: من فسّر القرآن برأيه فليتبوء مقعده من النار. (1361) [قوله:] العمل العمل، ثمّ النهاية النهاية، هذا يؤمّ الحثّ على اقامة حدود اللّه. والحثّ على محافظة الاعمال الشرعيّة، ان يوقف عند حدودها، فلا يزاد على مقدارها فى العدد والصّفة، وفى العقليّات، ان يجرى على ما يقتضيه الادلّة من غير زيادة ونقصان، وعند الاجتهاد بالأمارات الصحيحة، فيراعى فيها مطابقة الاعتقاد للأمارات، ومطابقة الافعال، للعلوم فى القسمين بالشرع والعقل فيما لا دليل فيه. فهذا فهو مراعاة النهاية فى هذه الاقسام. (1362) قوله: انّ لكم نهاية، فانتهوا الى نهايتكم،

قال قوم: معناه ما قال اللّه، تعالى: إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏.

و النهاية الغاية. يقال بلغ نهايته اى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 292

غايته. وغاية الانسان عند قوم (142 پ) ان يصير من الابدال. ومعنى الابدال هم الذين يبدّلون من اخلاقهم وافعالهم الذميمة اخلاقا وافعالا حميدة، فيجعلون بدل الجهل العلم، وبدل الشّحّ الجود، وبدل الشّره العفّة، وبدل الظّلم العدالة، وبدل الطّيش التّؤدة. وهذا معنى قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ.

فالانسان اذا صار من الابدال، فقد ارتقى درجة الاحباب الّذين عناهم اللّه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ.

و يتبع ذلك ما روى النّبىّ، صلّى اللّه عليه وآله، عن اللّه، تعالى: اعددت لعبادى الصّالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال اللّه، تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وصارَ مِنَ الَّذين فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ. فحينئذ انتهوا الى نهاياتهم. (1363) قوله: انّ للاسلام غاية، فانتهوا الى غايته، هو مقتبس من قول النّبى، عليه السلام، فى شعب الايمان: اعلاها شهادة ان لا اله الّا اللّه، وادناها اماطة الاذى عن الطريق والاشتغال بالمنجيات والاعراض من المهلكات. (1364) (قوله:) وحجيج يوم القيامة عنكم، اى متكلّم بالحجة يوم القيمة عنكم. والحجيج الذى يتكلّم بالحجة، والحجّ الغلبة بالحجّة، ومنه الحجيج. (1365) (قوله:) الا وانّ القدر السّابق قد وقع، والقضاء الماضى قد تورّد، قال ابن عباس: القدر المقدّر هو تقدير اللّه الاشياء اوّل مرّة، ثم قضاها ففضّلها. ولذلك قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: افرّ من قضاء اللّه الى قدره. قال المفسّر يعنى افرّ من الشى‏ء قبل ان يقع، فيصير قضاء فصلا، الى ما قدّرو لم يفصّل، فانّ اللّه، تعالى، يزيله عنّى، وهو قادر على ذلك. وقال‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 293

جعفر بن محمد الصادق، عليه السلام: انّ اللّه اذا اراد شيئا، قدّره، واذا قدّره، قضاه، [و اذا قضاه،] امضاه. فالقضاء هو التفصيل والقطع. (143،) ومنه «قضى بينهم القاضى»، اى فصل الحكم. يقال: قضيت الامر، اى فرغت منه وامضيته وقوله: قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى‏، اى فاصنع ما انت صانع. والقضاء بمعنى الامر فى قوله، تعالى، وَقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ويقال للميّت او المقتول. قضى نحبه، يعنى فرغ من الدنيا وفصل منها. وقال الحارث بن حلزّة: بايديهم رماح صدورهنّ القضاء، اى الموت. (1366) قوله تورّد،

قال الجوهرىّ تورّدت الخيل البلدة، اى دخلها قليلا قليلا. والقضاء الماضى تورّد، اى حدث المقضىّ به قليلا قليلا مرتّبا متّسقّا

(1367) قوله: وتهزيع الاخلاق، التهزيع التكسير والاسراع. واراد به الاخلاق التى هى الفضائل دون الرّذايل. لسان المؤمن وراء قلبه، يعنى لا يتكلّم الا بما يقتضيه قلبه، ويظهره قلبه اوّلا بالافعال، ثمّ يتبعه لسانه.

و قلب المنافق وراء لسانه، يعنى المنافق يتكلّم بما لا يعتقد ولا يرضى، ويخالف قلبه فيه لسانه. فلسان المؤمن، يتبع قلبه فى الموالاة والمعاداة، ولسان المنافق لا يتبع قلبه. ثمّ فسّر ذلك امير المؤمنين علىّ، وقال: المؤمن من يتفكّر ثم يتكلّم، والمنافق يتكلّم ثم يتفكّر، يجب ان يكون التفكر اوّلا. (1368) قوله: سليم اللسان من اعراضهم، اشارة الى انّ مظالم الغيبة امثال مظالم الاموال ومظالم الدّماء. فانّ الغيبة جناية على قلب المؤمن وصفاته واخلاقه فيتأذّى بها قلبه، والقتل جناية على بدنه. (1369) قوله: وانّ ما احدث الناس يحلّ لكم شيئا ممّا حرّم عليكم، اراد به ما ابتدعوه من غير دلالة ولا رواية ولا اشارة سوّغته. (1370) قوله: وضرّستموها، ضرّسه الامور والحروب تضريسا اى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 294

جرّبته وحكمّته، والرجل مضرّس. قال ابو عمرو: المضّرس الّذى جرّب الامور (143 پ). (1371) قوله ضربت لكم الامثال، المثل كلام يعارض به الانسان صاحبه، فيبلغ به ما يحاول من حاجته بلا تصريح ويفهم عنه صاحبه مراده.

مثل قول النّبى، عليه السلام: لا ترفع عصاك عن اهلك، لم يرد به الضّرب، وانما اراد به الموعظة. (1372) [قوله:] من لم ينفعه اللّه بالبلآء والتجارب، البلاء النعمة. قال ابو عبيد فى معنى قوله: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ، اى نعمة ويد، من قولهم: ابليته خيرا. والبلاء الاختبار، والبلاء الخير والشرّ، والفتنة لا يكون الا فى الشّرّ. (1373) قوله: حتّى يعرف ما انكر، وينكر ما عرف، هنا نقصان، لانّ معرفة ما انكر انّما يكون كمالا اذا انضمّت الى ما عرفه من قبل. فامّا اذا انكر ما عرفه من قبل، فذلك نقصان، كما قال النبىّ، عليه السّلام: من لم يكن فى الزيادة فهو فى النقصان، ومن استوى يوماه فهو مغبون. (1374) فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب،

قال الامام الوبرىّ: ظلم العباد بعضهم لبعض لا يترك، انّ اللّه، تعالى، يقيم العدل بين الظّالم والمظلوم باستيفاء العوض. وقال غيره: يكافيه اللّه فى دار الدنيا زجرا للظالمين، [ثم‏] يعاقبه على ذلك يوم القيامة، كما فعل بفرعون ونمرود وقارون وغيرهم. وقال اللّه، تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى‏ دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ.

(1375) قوله: عند بعض الهنات، يقول هذا هنك اى سيئك، ويقال للمرأة: هنة وهنت، ساكنة النون، كما قالوا: انت، والجمع هنات ويقال: فى فلان هنات، اى خصلات شرّ، لا يقال ذلك فى الخير والمدح.

يقول: عند بعض الهنات، اى عند بعض القبايح. (1376) قوله: انّ اللّه لم يعط احدا بفرقة، مأخوذ من قول النّبى،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 295

عليه السّلام، الجماعة رحمة، الفرقة عذاب. (1377) قوله وكان من نفسه فى شغل، يعنى يعالج بالآداب الشّرعيّة امراض الحسد والغضب والشّره والرياء والكبر وحبّ المال وغير ذلك من المهلكات.

الخطبة 160

شرح كلماته فيما قال من خطبة له فى معنى الحكمين،

(1378) (144 ر) قوله: يجعجعا عند القرآن، والجعجعة التّضييق على الغريم فى المطالبة. وكتب عبيد اللّه بن زياد الى عمر بن سعد فى واقعة كربلا: اذا اتاك كتابى هذا فجعجع بالحسين، اى ضيّق عليه واحبسه. (1379) قوله: فتاها عنه، يقال: تأه فى الارض، اذا ذهب متحيّرا، وعنى بهما عمرو بن العاص وابا موسى الاشعرىّ. (1380) قول بما لا يعرف من معكوس الحكم، معناه انّهما ذهبا، ليحكما بين علىّ ومعوية، فغرّ عمرو بن العاص ابا موسى الاشعرىّ، وقال: تخلع انت عليّا، واخلع انا معوية، ونبايع عبد الرحمن بن عوف، وكان عبد الرحمن من اقرباء ابى موسى. وكان ابو موسى رجلا سليما، وكان يقدّمه عمرو بن العاص على نفسه خداعا. فصعد ابو موسى المنبر، وقال: خلعت عليّا وبايعت عبد الرحمن بن عوف، وكان عبد الرحمن غايبا. ونزل. وصعد عمرو بن العاص المنبر وقال: خلعت عليّا وبايعت معوية. فهذا ما لا يعرف من معكوس الحكم.

فان الحكم المستقيم هاهنا ان يحكم بين علىّ ومعاوية دون عبد الرحمن بن عوف. وابو موسى تبرّأ من علىّ ومعوية، واقتدأ بعبد الرحمن بن عوف. وانما بعث ابو موسى لغير ذلك. وانما بعث ابو موسى وعمرو بن العاص للحكم بين على ومعوية بموجب كتاب اللّه والسّنّة لا بموجب اهوائهما. فاذا حكما باهوائهما، فقد عكس الحكم.

الخطبة 161

و من خطبة اخرى له عليه السّلام،

(1381) لا يشغله شأن، معناه انّه ليس يجسم ذى آلة، فلا يجوز الاشتغال عليه، وانما يشتغل الفاعل اذا صار محلّا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 296

لفعله، فيصير كلّه او بعضه مشغولا بفعل، فلا يتأتّى منه غيره فى ذلك الوقت.

فامّا القادر، اذا لم يكن محلّا ليفعل من الافعال، فحاله فى ايجاد الافعال كحاله قبلها. فكما لم يكن مشغولا حين لم يفعل، فليس بمشغول اذا فعل. (1382) قوله (144 پ) ولا يغيّره زمان، التغيير عبارة عن زيادة فى شى‏ء او نقصان منه. والزيادة اما بزيادة الاجزاء او بحلول الاعراض. وهما لا يجوزان الّا على الاجسام. وكذلك النقصان. ويتغيّر بتغيير الزّمان، مثل النبات يبدوا فى فصل الربيع ويجفّ فى فصل الخريف والشتاء. وما هو تعالى بجسم او عرض يفنى بضدّه، او يكون واجب العدم فى الحالة الثانية. واللّه، تعالى، خالق الزمان منزّه عن الجسميّة والعرضيّة وحلول الحوادث فى ذاته فلا يغيّره الزمان. ولو كان جسما لغيّره الزمان كساير الاجسام. (1383) قوله ولا يصفه لسان،

قال بعض العارفين: العبارات والكلام محدودة متناهية، وعظمة اللّه غير محدودة.

(1384) وقال الامام الوبرىّ: الواصفون لا يبلغون تفاصيل افعال اللّه، تعالى، لانّهم لا يعرفون عددها، فذكر اللّه، تعالى، والمراد افعاله، كانه قال لا يصف مبلغ افعاله لسان. وقال ويحتمل مبلغ ما يقدر عليه وما يعلمه. وقال يحتمل ان يكون المراد لا يصفه لسان، كما يصف الامور الضروريّة.

و قال بعض العارفين: ينزّهه، تعالى، كلّ عارف عن كمال يمكن ادراكه للحق، كما ينزّهه كلّ عامّى عن النقصان.

(1385) قوله لا يعزب عنه عدد قطر الماء ولا نجوم السماء ولا سوافى الريح فى الهواء ولا دبيب النمل فى الفضاء ولا مقيل الذّرّ فى الليلة الظّلماء، يعلم مساقط الاوراق وخفىّ طرف الاحداق، السفىّ التّراب وسفت الرّيح التّراب تسفيه سفيا، اذا اذرته. الهواء فى كلام العرب الخلأ، والكبيس الممتلى‏ء. فالهواء عندهم ضدّ الكبيس. ويقال لما ليس بجرم كثيف الهواء فكانّه لا شى‏ء فيه. قال اللّه، تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ، اى خالية لا تغنى شيئا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 297

و لا عقد فيها. و

قيل: الهواء فى اللغة السّعة. ويقال: لما بين السماء والارض هواء، لانّه سعة ما بينهما. قال امروأ القيس:

         بهو هواء تحت صلب كانّه   ***   من الفضّة الخلقاء زحلوق ملعب‏

 

(145) يصف الفرس والبهو الجنب.

(1386) وهذه الكلمات الّتى اشار اليها امير المؤمنين ماخوذة من قول اللّه، تعالى، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ [بِعِلْمٍ‏] وَما كُنَّا غائِبِينَ. فكلّ شى‏ء حاضر له، فلذلك لا يعزب عن علمه شى‏ء، خلافا لمن يقول من الجاهلين الضّالين: انّ اللّه عالم بالكليّات دون الجزئيات. وقوله عزّ وجلّ: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي، وقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ.

قال بعض العلماء: ليس العلم الازلىّ موقوفا على وجود شى‏ء، بل وجود كلّ شى‏ء موقوف على ذلك العلم المشفوع بالاختيار والحكمة والمشيّة والقدرة. فاذا كان الزمان جزأ من الموجودات، فكيف يجوز ان يقال: يلزم من تغيّر بعض الموجودات تغيّر علمه. وانّما كان يصحّ ذلك ان لو كان علمه متوقّفا على وجود الموجودات، مثل علم البشر. فاذا لم يكن علمه كذلك، لم يلزم من تغيّر الجزئيّات تغيّر العلم المحيط بها، تعالى عمّا يقولون الجاهلون علوّا كبيرا.

(1387) قوله: المعتام لشرح حقايقه، اعتام الرّجل اذا اخذ الغنيمة، وهى خيار المال. (1388) قوله الا بذنوب اجترحوها، جعل سبب زوال النعمة الذّنوب، لان مرجع الذّنوب الى استيلاء القوّة الشهوانيّة والغضبيّة. ومن استولى عليه هاتان القوّتان فهو لا يقدر على امساك النعمة، فيزول عنه بسبب عجزه عن امساكها، ويكون زوال نعمته فى الدنيا مكافاة لذنوبه. (1389) قوله: وقد كانت امور مضت ملتم فيها ميلة كنتم فيها غير محمودين،

قال الامام الوبرىّ: كانت تلك الامور صغائرها مكفّرة بشرط الاجتناب عن الكبائر، ويجب الاستغفار لصاحبها.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 298

و قال غيره: هذه كبائر موبقة.

(1390) ومعنى قوله: ولو اشاء ان اقول لقلت، لا يقتضى انّه شاء وقال. لانّ قول القايل: لو اردت ان اسافر، لركبت الفرس، [يقتضى ان ركوب فرسه مقتضى ارادته السفر]، ولا يقتضى انّه اراد وركب، وحصل منه الارادة والركوب، ولكن يقتضى تعلّق كلّ واحد (145 پ) منهما بالآخر. ومصداق ذلك قول اللّه، تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ، ولا يقتضى هذه الآية انّه، تعالى، شاء وآمن من فى الارض، فكذلك هاهنا. والكلام فى الشرطىّ طويل لا يحتمل الموضع بيانه.

الخطبة 162

شرح كلام قاله لذعلب اليمانىّ.

(1391) الذّعلب والذعلبة الناقة السريعة، ومنه سمّى الرّجل. (1392) قوله: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، اى بالمقابلة والمحاذاة، والاصل فى ذلك انّ الكيفيّة مما يتقاضاه الخيال بواسطة الحاسّة المبصرة، ثمّ يطلب الخيال من كلّ شى‏ء نصيب الحاسّة المبصرة من طريق الكيفيّة. وما يدركه الانسان بحاسّة السّمع، فليس للخيال ان يطلب منه الكيفيّة. وكذلك المذوقات والمشمومات. فكذلك ما يعرف بالعقل ويدرك بالبصر الّذى بعد الموت ممّا وعده اللّه، تعالى، ليس للخيال ان يطلب منه الكيفيّة. فانّ الكيفيّة والكمّيّة من قبيل الاعراض. واللّه، تعالى، منزّه عن العرضيّة والجوهريّة والجسميّة. (1393) قوله: قريب من الاشياء غير ملامس، تاثير الفاعل فى الفعل لا يحتاج الى الملامسة، خصوصا من يفعل بلا آلة. ونظير ذلك انّ الروح الانسانيّة متصرّفة ومحركة، فلا يقال انّها اقرب الى عضو، بل تصرّفها فى جميع الاعضاء على نسبة واحدة. (1394) قوله: متكلم لا برويّة، اى هو غنىّ عن التفكّر والبحث واقتناص المجهول بالمعلوم.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 299

(1395) قوله مريد بلا همّة، الهمّة ما يهمّ الانسان من قبل الحاجة. واللّه، تعالى، منزّه عن ذلك. (1396) قوله: بصير لا يوصف بالحاسّة، المعنى انّه بصير فى الشاهد، ماله حاسّة باصرة. (1397) قوله رحيم لا يوصف بالرّقة، الرحمة من اللّه، تعالى، انعام واحسان وتفضّل، ومن الخلايق رقة وتعطّف.

الخطبة 163

و من كلام له فى ذمّ اصحابه،

(1398) الحمد للّه على ما قضى من امر، وقدّر من فعل. سبق الفرق بين القضاء والتقدير، والفرق بين الامر والخلق والفعل. (1399) قوله: وعلى ابتلائى بكم (146 ر)

قال الامام الوبرىّ: انّ اللّه، تعالى، كما يستحقّ الحمد بما يحدثه لعباده من السّرّاء، فانّه يستحقّ الحمد بما يحدثه من الضّرّاء، وفى التكليف اذا كلّف سهلا يسيرا، فهو مشكور، واذا كلّف ما فيه بعض مشقّة، فهو مشكور ايضا. فلذلك قال امير المؤمنين على ابتلائى بكم. فكان امير المؤمنين مبتلى برعيّته، كما كان يعقوب مبتلى بفراق ابنه، وايوب مبتلى بمرضه، وموسى بأمّته الجاهلة، والصّدّيق باهل الردّة.

(1400) قوله: ان حوربتم خرتم، خار الرجل يخور خؤورة، ضعف وانكسر.

قال الوبرىّ: الظالم الجاهل اذا عدل به، فانّه يظلم العادل به. ونسى ذكره.

(1401) قوله: لا يخرج اليكم من امرى رضا فترضونه ولا سخط فتجتمعون عليه، اومى بذلك على اختلافهم عليه، فما هم مجتمعون على الرضا بامامته واتّباعه والطاعة له، ولانّهم مجتمعون على العصيان له. (1402) قوله: ولا حميّة، يقال حميت عن كذا حميّة بالتشديد ومحميّة، اذا انفت منه. يقال: تركة الميّت وتريكة الميّت لتراثه المتروك.

و التّريكة من النساء الّتى تترك فلا يتزوّجها احد. والتريكة بيضة النّعام الّتى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 300

تتركها. والتّريكة روضة يغفلها النّاس، الواحد فما فوقه. وشكايات امير المؤمنين (من) رعاياه يتبع شكاية موسى من امّته، لانّ موسى اوّل من دعا بنى اسرائيل الى الكتاب المنزّل والامر والنهى، فشقّ ذلك عليهم. وامير المؤمنين اوّل من قاتل اهل البغى والخوارج، فشقّ ذلك على رعاياه وعسكره، لانّهم ما تعوّدوا قبل ذلك قتال اهل القبلة. ابن النابغة عمرو بن العاص، نسبة الى امّه، ولها قصّة.

الخطبة 164

(1403) قوله: انبأ نوف البكالىّ، فالبكالة البكيلة، ونسبت الى البكالة، لانّه يبيع البكالة، و

قيل هو البكيلىّ، وبكيل حىّ من همدان، ومنه قول الكميت: لقد شركت فيه بكيل وارحب.

جعدة بن هبيرة المخزومىّ ابن اخت امير المؤمنين علىّ بن ابى طالب، عليه السّلام. (1404) قوله: حمدا يكون لحقّه (146 پ) قضاء ولشكره اداء،

قيل معناه قضاء واداء فى وقت واحد، لان ما يوجبه نعمه، تعالى، من الشكر فى كلّ وقت يصحّ ان يقضى ويؤدّى، وما لا يصحّ خروجه الى الوجود لا يقدر عليه، وما لا يقدر عليه لا يصحّ وجوبه، وما لا يصحّ وجوبه لا يصحّ من الحكيم ايجابه.

و لما اوجب الشّكر، فى كل وقت، دلّ على صحّة وجود الشكر فى ذلك الوقت المعيّن. ثم كذلك حقّها فى كلّ وقت الى ما لا يتناهى من الاوقات.

(1405) قول: خنع له مذعنا، الخنوع كالخضوع والذّلّ، واخنعتنى اليك الحاجة، اخضعتنى. (1406) قوله: لم يولد، فيكون فى العزّ مشاركا، ولم يلد، فيكون مورثا هالكا. المعنى لانّه لو ولد، لوجب ان يكون له والد، لانّه لا يجوز ان يكون مولود بلا والد، ويعنى به من حىّ يكون اصلا له، وهو متولّد عن اجزائه، ذكرا كان الاصل او انثى، واذا كان له والد، فقد شارك الولد فى العزّ والقدرة والمملكة. فلذلك قال: لم يولد، فيكون فى العزّ مشاركا، لانّ التقدّم يربى على‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 301

المشاركة فى العزّ. واذا تقدمه الوالد، وجاز ان يتقدّم عليه غيره، فلان يجوزان يشاركه غيره اولى. (1407) قوله: ولم يلد، فيكون موروثا هالكا، لانّ من جاز عليه الولد، جاز عليه الموت والفناء، فيجوز عليه حينئذ ان يرثه الولد ويبقى بعده.

فيكون الوالد موروثا هالكا. فابطل، عليه السّلام، بالكلام الاوّل الشّركة وبالثّانى الفناء.

و قال قوم: من يولد، فانّما يولد لانّ نوعه يبقى بالتوالد، وما يبقى نوعه بالتوالد لا بالاعيان، له جنس وفصل وشريك. فلذلك قال: فيكون فى العزّ مشاركا.

مثاله انّ الانسان يتوالد، لانّه ان لم يتوالد لم يبق نوع الانسان، فيكون مع الانسان انواع مشتركة داخلة تحت جنسه.

(1408) وقوله: لم يلد فيكون موروثا هالكا، كلّ من يتولّد منه، فانما يتولّد، لان المولّد لا يبقى. ولو كان (147 ر) باقيا لم يولد منه، فانّما يتولّد مثله، وبقى هو دايما. ولهذا نظاير فى النبات والحيوانات، لا يحتمل الموضع زيادة على ما ذكرناه. (1409) قوله ولم يتقدّمه وقت ولا زمان، انّما كان ذلك، لانّ الوقت حادث، واللّه، تعالى قديم، ومقارنة الحادث للقديم محال، فتقدّمه عليه اولى. قوله: ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، لانّه ما من حىّ سواه الا ويجوز عليه الزيادة والنقصان. (1410) قوله: فى صفة السموات، موطّدات بلا عمد، قايمات بلا سند، دعاهنّ فاجبن طايعات مذعنات غير متلكّئات ولا مبطئات، هذا الكلمات مأخوذة من قول اللّه، تعالى: ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ.

(1411) وقال بعض العلماء: السموات والارضون وجدت، ولم يكن‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 302

قبل وجودها قبل ولا بعد، حتّى يقال لم لم يوجد قبل ذلك. فان القبليّة والبعديّة عارضتان من عوارض الزمان. والزمان يوجد الابعد وجود الاجسام. فكما لا يجوز ان يكون قبل وجود الاجسام فوق ولا تحت، لانّهما عارضتان من عوارض المكان، فكذلك لا يجوز ان يكون قبل وجود الاجسام قبل ولا بعد. لانّ ذلك موقوف الوجود على وجود الزمان، والزمان موقوف الوجود على وجود الحركة، والحركة موقوفة الوجود على وجود الاجسام.

 

(1412) قوله: ولو لا اقرارهنّ بالربوبية، المعنى لو امتنع عليه خلق من خلقه، واستصعب على مراده، فلم يقدر على امضاء امره فيه، لما قدر ان يتصرّف فيه على اىّ وجه كان، بان يجعله موضعا للعرش ولا للملائكة، فاراد بقوله: لولا اذعانهنّ، اى قبولهنّ لما يحدث اللّه فيهنّ من انواع افعاله. فاذا قدر على تصريف الخلق فى وجه، قدر على تصريفه فى جميع الوجوه، لان القادر على شى‏ء يحدثه (147 پ) على وجه، قادر على ان يحدثه على اى وجه يصحّ ان يكون عليه بالفاعل.

و قالت الفلاسفة السمآء حيوان مطيع للّه تعالى. (1413) قوله: جعل نجومها اعلاما يستدلّ بها الحيران، بيّن انّ فائدة علم النجوم، انّما هى الاهتداء بها فى ظلمات البرّ والبحر فحسب. قوله: لم يمنع ضوء نورها اد لهمام سجف اللّيل المظلم،

قال الامام الوبرىّ. انّما لم يصحّ من الظلمة ان يمانع نور الكواكب، لانّ اللّه، تعالى، قادر على ان يزيد فى قدر انوارها على قدر اجزاء الظّلمة. وانما يكون الشى‏ء مانعا لغيره لكثرة اجزائه. ففى اىّ جانب حصلت الكثرة، صار الجانب الآخر مغلوبا.

(1414) (قوله:) السّفع المتجاوزات، السّفع الأثافى وآثار الدار. (1415) قوله: ما يتجلجل به الرّعد فى افق السّماء، الجلجلة صوت الرعد. والجلجل السّحاب الّذى فيه صوت الرعد. (1416) قوله: لا يخلق بعلاج، اى بمزاولة، يقال: عالجت الرجل، اذا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 303

زاواته (1417) قوله: بل ان كنت صادقا ايّها المتكلّف لوصف ربّك،

قال الامام الوبرىّ: وهذا تنبيه على الدلالة على وحدانيّة اللّه، تعالى، لانّه اذا قدر ان يتصرّف فى جنس واحد فيخالف بين اشكاله وهيأته، حتّى يكون بعض الاجسام مرئيّا مدركا بالمماسّة، وبعضها يتعذّر فيه الادراك، حتّى ينزل منزلة ما ليس بمدرك فى نفسه، دلّ على ذلك على انّه يكون مشبّها للاشياء.

(1418) وقال بعض الحكماء: من عجز عن وصف الملائكة ومعرفة حقائقهم، فهو عن معرفة كنه عظمة اللّه اعجز.

(1419) قوله: اين العمالقة، هم اولاد عملاق بن لوة بن سام بن نوح واخوه جديس. ولكن اسم العمالقة وقع على اولاد عاد وثمود، واولاد جديس واولاد صحار واولاد وبار. فهولاء العرب العمالقة الذين انقرضوا عن آخرهم.

و كان منزل عاد اليمن، ومنزل ثمود ما بين الحجاز الى الشام، ومنزل طسم نحو عمّان والبحرين، ومنزل جديس اليمامة (148 ر) ومنزل صحار تهامة والحجاز، ومنزل جاسم فى حدّ سفوان، ومنزل وبار رمل عالج. وذكرت تلك التفاصيل فى كتابى المعنون بمجامع الامثال. (1420) [قوله:] اين الفراعنة، فرعون اسم حيوان مائىّ. والفراعنة القاب ملوك القبط، منهم سنان بن الاشدّ بن علوان بن عبيد بن عوج بن عمليق، وهو فرعون يوسف، عليه السّلام. و[الدّيّان بن‏] الوليد بن مصعب بن ابى اهون بن العلوان بن قاران بن عمرو بن عمليق، وهو فرعون موسى، عليه السّلام.

(1421) والنماردة القاب ملوك السّريانتين واحدهم نمرود، منهم نمرود بن كنعان بن حام بن نوح، وهو صاحب ابراهيم، عليه السّلام. ونمرود بن كوس بن كنعان بن حام، صاحب النسور، ونمرود بن ماشى بن نوح، ونمرود بن ساروغ بن ارغو، ونمرود بن كنعان بن المصاص بن يقطان بن عنتر بن‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 304

ارفخشد بن سام بن نوح. (1422) قوله: اين اصحاب الرّسّ، قال اللّه، تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ. وقال فى قصّة اصحاب الرّسّ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ.

(1423) وقصة اصحاب الرّسّ انّه كان فى المغارات سبعة آلاف رجل مع المواشى والبهائم والانعام، فوصلو الى مغارة هواؤها سجج وفضاءها ابلج، ولم يكن فيها ماء، فحفروا حفرة، فنبع منها الماء، فشربوا منه، فكان ماء عذبا. وكان فى حوالى الحفرة رملة مرداء. فدبّر زعيمهم واستخرج الجصّ والجلو، وحفروا بواسطة الجلو بئرا، ففارت البئر وجرى المآء من شفا البئر.

و استسقى من هذا البئر سبعة آلاف رجل مع المواشى والحيوانات، وامداد النّز متواترة. فبنى زعيمهم على اكمة من تلك الوادى من الطابق والصّاروج قصرا مشيدا، وتحصّن به. وهو اوّل من تحصّن بالقلاع والحصون والقصور. فارسل اللّه اليهم حبّقوق النبىّ الذى هو مذكور فى (148 پ) دعاء الاستفتاح. و

قيل: نبيّهم حنظلة بن صفوان

و هذا اصحّ. واصحاب الرّسّ كانوا يعبدون هذا البئر يسجدون على شفير هذا البئر تعظيما للبئر، وطغوا فى البلاد، واكثروا الفساد، فعصوا الرسول، وزجروه وقتلوه. فباتوا ليلة، فلمّا اصبحوا صار ماءهم غورا. كما قال اللّه، تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ، وصارت البئر معطّلةً لا ماءَ فيها الى يوم القيمةِ.

و ماتت مواشيهم بياض يومهم هذا، وارسل اللّه، تعالى، جبرئيل حتّى صاح واهلكهم بصيحة واحدة، فماتوا بقضّهم وقضيضهم. و

قيل: انّ اصحاب الرسّ كانوا قبل نوح النبى، عليه السلام. وقيل: كانوا بعده.

و اللّه اعلم. (1424) قوله اين الّذين ساروا بالجيوش وهزموا بالالوف، وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن، عنى به الفيشدادية من ملوك الفرس والكيانية.

-  [و الكيانيّة] بلغة الفرس الجبابرة-  والاشكانية والاكاسرة.

و من ملوك اليمن التبابعة والاذواء، ومن ملوك اليمن اللخميّون، ثم‏

--------------------------------------------------------------- صفحة 305

المالكية. ابناء ملك بن فهم، ثم البطالسة ملوك الروم ويونان. ولقب كلّ واحد منهم بطلميوس. (1425) قوله ضرب بعسيب ذنبه، عسيب الذّنب منبته من الجلد والعظم. (1426) قوله: والصق الارض بجرانه، وجران البعير مقدّم عنقه من مذبحه الى منحره. (1427) قول: ادبر من الدنيا ما كان مقبلا، واقبل منها ما كان مدبرا، تقدّم شرحه قبل ذلك. (1428) قوله: خليفة من خلائف انبيائه،

قيل: الخليفة من يتولّى امضاء الامر عن الآمر، وقيل سمّى الخليفة خليفة، لانّه يخلف الذاهب، اى يجى‏ء بعده.

و فى كتاب الصّحاح الخليفة السلطان الاعظم، والجمع الخلايف، مثل كريمة وكرائم، ويجمع على خلفاء من اجل انّه لا يقع الّا على مذكّر، وفيه الهاء، جمعت على اسقاط الهاء، وصار مثل ظريف وظرفآء، لان فعيلة لا يجمع على فعلاء.

(1429) وحدّثنى الامام علىّ بن محمود النصرابادىّ، قال: حدّثنى الامام على بن احمد الواحدىّ، قال حدثّنى ابو اسحق (149 ر) احمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبىّ، قال حدّثنا عبيد اللّه بن حامد بن محمد، قال اخبرنا احمد بن محمد بن يوسف، قال: اخبرنا يعقوب بن سفيان الصغير، قال: اخبرنا يعقوب بن سفيان الكبير، قال اخبرنا ابن ابى مريم، قال اخبرنا نعيم بن حمّاد، قال اخبرنا هشيم ومحمد بن يزيد عن العوامّ بن حوشب، قال حدّثنى شيخ من بنى اسد، قال سال عمر بن الخطّاب طلحة والزبير وسلمان الفارسىّ عن الفرق بين الخليفة، والملك، فقال سلمان الفارسىّ: الخليفة الّذى يعدل فى الرّعيّة، ويقسم بينهم بالسّويّة، ويشفق عليهم شفقة الرّجل على اهله ويقضى بكتاب اللّه، تعالى.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 306

(1430) ثم قال امير المؤمنين: اين عمّار، اى عمّار بن ياسر، واين التّيّهان، هو ابو الهيثم بن التّيّهان الانصارىّ صاحب رسول اللّه، عليه السّلم، وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت صاحب رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، كانت شهادته مثل الشهادتين عند رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله. (1431) قال وابرد برؤسهم الى الفجرة،-  يقال: صاحب البريد قد ابرد الى امير فهو مبرد.

الخطبة 165

و من خطبة اخرى له

(1431 م) قوله: ساد العظماء بجوده، لانّ السادة يكون بكفاية المهمّات. والسّيد هاهنا من يرجع اليه الناس فيه كفاية المهمّات. والجود عند العرب هو الّذى يتفضّل على من لا يستحقّه ويعطى من لا يسأل ولا يخاف الفقر، وهو الّذى يهب الشى‏ء بلا تقدير، يهب كثيرا، ومنه مطر جود اى كثير بلا مقدار.

الرّجعة الرجوع الى الدنيا بعد الموت. وقولهم: جاء رجعة كتابك اى جوابه. وله على امراته رجع ورجعة. (1432) قوله: ضجيع حجر عبارة عن العذاب الجسدانّى، وقرين شيطان، عبارة عن العذاب الروحانىّ. (1433) قول لهزه القتير، اى خالطه الشّيب، فهو ملهوز، ثم هو اشمط ثم اشيب.

الخطبة 166

الثرم بالتحريك سقوط الثنيّة، يقول منه ثرم الرّجل بالكثير فهو اثرم.

(1434) قوله: نعر الباطل، يقال (149 پ): نعر العرق ينعر بالفتح فيهما نعرا، اى فار منه الدّم، يقال: عرق نعّار ونعور. ما كانت فتنة الا نعر فيها فلان، اى نهض فيها. وانّ فلانا لنعّار ونعور فى الفتن، اذا كان سعى فيها.

الخطبة 167

(1435) ورجل دواء، اى فاسد الجوف، وامرأة دويّة، وقلوبهم دويّة اى فاسدة الجوف. (1436) قوله: مشى فى خفاء ودبّ فى ضرّاء، مثل للعرب، يقال دبّ فى ضرّاء اذا مشى مستخفيا فيما يوارى من الشجر. ويقال للرجل اذا ختل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 307

صاحبه، هو يدبّ له الضّراء ويمشى له الخمر. قال بشر:

         عطفنا لهم عطف الضّروس من الملا   ***   بشهباء لا يمشى الضّراء رقيبها

 

(1437) قوله: يتقارضون الثّناء، اى يثنى كلّ واحد منهم على صاحبه على سبيل المبادلة.

الخطبة 168

(1438) قوله: اضلعوا المضيق، الاضلاع الامالة، يقال: حمل مضلع اى مثقل، ومنه قول الاعشى، وحمل لمضلع الاثقال. (1438) ومن خطبة ايضا قوله: خطرات هماهم النّفوس، الهاهم ترديد الصّوت فى الصّدر وترديد الفكر. (1439) قوله: لمّة الشيطان اى حزب الشيطان، وحمة النيّران، الحم والحمة الرّماد، والحمة السّواد، وحمة الحرّ معظمه، وحمة الفراق ايضا ما قدّر وقضى، حمة العقرب مخفّفة الميم. (1440) قوله: صروم العشار، الصّروم جماعة من الابل، وكذلك الصّرمة، وهذا مأخوذ، من قول اللّه، تعالى: وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ. وفى تفسير الثعلبىّ اى اهملها اهلها، وعشرآء ناقة اتت عليها من يوم ارسل فيها النحل عشرة اشهر وزال عنها اسم المخاض، ثمّ لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعد ما تضع ايضا. (1441) قول: فيصير صلدها سرابا، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً. (1442) قوله: ومعهدها قاعا سملقا السّلق القاع الصّفصف، وجمعه سلقان، مثل خلق وخلقان، وكذلك السّملق بزيادة الميم، والجمع السّمالق.

الخطبة 169

(1443) قوله: تحفزه الرياح باذيالها، حفزه اى دفعه من خلفه، قال الراجز: تريح بعد النّفس (150 ر) المحفوز.

اى النفس الشديد المتتابع الذى كانّه يحفز اى يدفع.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 308

(1444) قوله: فما نجا منها، فالى مهلك، اى لا يأمن الهلاك ما دام فى البحر والهلاك له بالمرصاد، كذلك من كان فى الدّنيا، وان نجا من المرض والمخاوف، فالموت والفناء له بالمرصاد.

الخطبة 170

(1445) [قوله:] ولقد واسيته بنفسه فى المواطن الّتى تنكص فيها الابطال وتتأخّر الاقدام، نجدة اكرمنى اللّه بها: فالاوّل نومه على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، حين همّ المشركون بقتل النبىّ، عليه السّلام، وسار رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، مع الصّديق الى الغار.

و الثانى يوم احد، انهزم الاصحاب ولم يبق فى المعركة سوى علّى بن ابى طالب والعباس بن عبد المطلب، فقيل لعلىّ: قتل محمد. فقال علىّ: لم يقتل، ولئن قتل او مات، فربّ محمد حىّ لا يموت. ويوم الخندق حين عبر الخندق، وقتل عمرو بن عبدودّ، حتّى قال النبىّ، عليه السلام: لضربة علىّ يوم الخندق خير من عبادة المتعبّدين بعده الى آخر الدّهر. ويوم حنين حين انهزم اكثر المسلمين، وقتل علىّ ذا الخمار.

و فى غير ذلك من المشاهد المعلومة. (1446) قوله ملأ يحبط وفلأ يعرج، روى انّه لما غسل النّبىّ، وكفّن، وحنّط، ووضع على سريره، وصلّى عليه المهاجرون والانصار، نزل [و] صلى عليه جبرئيل مع فوج من الملائكة، ثم ميكائيل مع اعوانه، ثم اسرافيل مع اعوانه، ثم عزرآئيل مع اعوانه. فهذا معنى قوله ملأ يهبط وملأ يعرج. (1447) قوله: ما فارقت سمعى هينمة منهم، اى صوت خفىّ. (1448) قوله فمن ذا احقّ به منّى حيّا وميّتا، كلام به متعلّق لبعض الناس‏

الخطبة 171

و من خطبة له

(1449) قوله: يعلم عجيع الوحوش، العجّ رفع الصوت،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 309

و قد عجّ عجيجا، قوله: واختلاف النّينان فى البحار الغامرات، النّون الحوت، الجمع انوان ونينان. (1450) قوله: دخيلا دون شعاركم، دخل الرّجل ما يختصّ به. قوله: بعد ارذاذها (150 پ) الرّذاذ المطر الضعيف، وهو فوق القطقط، يقال: ارذّت السماء وارض مرّذ ولا مرذّة. (1451) قوله: اتاق الحياض لمواتحه، تئق السّقاء يتأق تأقا، اى امتلاء، واتاقته انا. والمواتح من الماتح المستقى، وكذلك المائحة الموائح. (1452) قوله لا عصل فى عوده، العصل اعوجاج شديد، ويقال للرجل المعوّج السّاق اعصل، وشجرة عصلة عوجاء، وعود اعصل اعوج. (1453) قوله: ولا وعث لفجّه، الوعث المكان السهل الكثير الدّهس تغيب فيه الاقدام ويشقّ على من يمشى فيه، ومنه وعثاء السّفر. (1456) قوله اساخ فى الحقّ اسناخها، اساخ ادخل، يقال ساخت قوائمه فى الارض، دخلت فيها وغابت، مثل ناخت. والسنخ الاصل، واسناخ الانسان اصولها. (1457) قوله: معوز المثار، اعوزه الشى‏ء، اذا احتاج اليه فلم يقدر عليه. المثار من ثار الغبار، اى سطع. (1458) قوله: حين دنا من الدنيا الانقطاع، واقبل من الآخرة الاطّلاع، مأخوذ من قول النبىّ، عليه السلام، حيث قال بعثت مع الساعة كهاتين، واشار بابهامه وسبّابته. (1459) قوله: قامت باهلها على ساق، اى على شدّة. قال الشاعر قوله: وقامت الحرب بنا على ساق. (1460) [قوله:] واقتراب من اشراطها، الشّرط بالتحريك العلامة، واشراط الساعة علامتها. (1461) قوله: اثافى الاسلام، الاثفّية للقدر. وتقديره افعوله، والجمع‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 310

الاثافى. يقال بقيت من بنى فلان اثفّية خشناء، اى بقى منهم عدد كبير.

و الأثافى كناية عن مقوّمات الشى‏ء. يقال: لسليمن وهوازن ابنا منصور بن عكرمة وغطفان ومحارب أثافى العرب. (1462) قوله: وغيطانه، الغائط المطمئنّ من الارض الواسع، والجمع غوط واغواط وغيطان. (1463) قوله: وامام لا يجوز عنه القاصد، الامام الّذى يؤتمّ به ويقتدى باقواله وافعاله، وهو القدوة والمثال، والمأموم.

(1464) قال لبيد: ولكل قوم سنّة وامامها. وقال النابغة: ابوه قبله وابو ابيه بنوا مجد الحياة على امام. (151 ر).

(1465) قوله : قال الباهلىّ: امام به يقتدى فى الكرم.

قال ابو عبيدة فى قول اللّه، تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ، اى بالَّذى اقتدوا به، وجعلوه اماما. وقال آخر: اى بكتابهم.

قال ابو عمر: والامام يكون فى الخير والشّرّ. قال اللّه، تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً. وقال وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ، والامام النّظام الّذى يؤلّف من المختلفين ويجمع بين المفترقين.

قال لبيد:

         وكنت امامنا ولنا نظاما   ***   وكانّ الجزع يخيط بالنظام‏

 

و قال آخر: الامام اخذ من «امّه يؤمّه امّا» اذا قصده. فالامام هو القصد والمقصود.

الخطبة 172

(1466) قوله فى الصلوة انّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق، الحتّ قشر الشّى‏ء وحكّه. وفى حديث النبىّ، عليه السّلام، انّه قال لسعد احتتهم يا سعد، اى ارددهم. و

فى كتاب الصحاح الحتّ حتّك الورق من الغصن والمنىّ من الثوب ونحوه.

(1467) قوله: بالحمّة، تقدّم ذكر الحمّة. الحمّة عين ماءها حارّ ويستشفى بها المرضى.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 311

(1468) قوله: نصبا بالصلوة، نصب الرجل بالكسر نصبا، تعب. (1469) قال: ثم انّ الزكوة جعلت مع الصّلوة قربانا. الصلوة فى لغة العرب الدّعاء. قال اللّه، تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ. ومنه صلوة الجنائز، اى ادع لهم. والصّلوة الرحمة قال كثير:

         صلّى على عزّة الرّحمن وابنتها   ***   ليلى، وصلّى على جاراتها الاخر

 

(1470) قال النّبىّ، صلّى اللّه عليه وآله، لعبد اللّه بن ابى اوفى حين اتاه بصدقة: اللّهمّ صلّ على [آل‏] ابى اوفى، اى بارك.

قال ابو عبيدة: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ اى يبارك.

قال بعض المفسّرين: الصلوة من [اللّه‏] الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن المؤمنين الدعاء.

و

قيل الصلوة من التصلية يقال: صلّيت العود، ليّنته بالنار حتى يسهل نقويمه ويزول اعوجاجه.

قال الشاعر: فما صلّى عصاك كمستديم. يعنى بالصلوة يلين قلب المؤمن ويزول اعوجاج اخلاقه. وقيل اخذت الصلوة من المصلّى الذى يتلو السابق.

فكذلك المقتدى (151 پ) فى الصلوة للامام، يتبع الامام فى السجود والركوع وغيرهما.

و فى الصّلوة على النّبىّ سرّ لا يعرفه الا العلماء الرّاسخون.

فان الصّلوة لو كانت بمعنى الرّحمة، لجازان يقال عند ذكر النّبىّ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: رحمه اللّه عليه. واتّفق المسلمون على انّه لا يجوز ذلك، ولا يذكر النبىّ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، الا بالصّلوة والسّلم. ففى ذلك سرّ لطيف.

(1471) والزكوة النّماء والزيادة، يقال زكا الزرع، نما وطال.

و قرية زكيّة اذا كثر خيرها. والزكوة الطهارة فى قوله، تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، اى طهّرها. (1472) والقربان ما ذبح لوجه اللّه، قال اللّه، عزّ وجلّ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ. ويقال لما يذبح للّه: قربانا. اخذ من القربان وهو واحد قرابين الملك اى خالصاته، يقال: فلان من قربان الامير وبعدانه. (1473) قوله: فلا يتبعنّها احد نفسه، اى لا يلتفت ذهنه ووهمه الى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 312

ما يصدّق به. (1474) قوله: يرجو بها ما هو افضل منها، يعنى يرجو عوضا ازيد منها فى الدار الدّنيا. (1475) قوله: ثم اداء الامانة، المراد بالامانة هاهنا ما قال اللّه، تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ،

فى كتاب الغريبين الامانة الطّاعة والعبادة.

و قال قوم: الامانة الّتى حمله الانسان وهى كونه مستصلحا للدّارين.

و ذلك انّ اللّه، تعالى: اوجد خلقا لا يصلح الا للدّنيا وهو الحيوان الاعجمىّ، وخلقا يصلح الا للدار الآخرة وهو الملك، وخلقا يصلح للدّارين وهو الانسان.

فالانسان واسطة بين جوهرين: وضيع وهو الحيوانات العجم، ورفيع وهو الملك. فجمع فيه قوى العالمين، وجعله كالحيوانات فى الشهوة البدنيّة والغذاء والتناسل والمنازعة وغير ذلك من اخلاق الحيوانات، وكالملائكة فى العقل والعلم وعبادة اللّه والصّدق والوفاء ونحو ذلك من الاخلاق الشريفة.

و وجه الحكمة فى ذلك انّه لمّا رشّحه لعبادته وخلافته وعمارة ارضه، جمع له القوّتين. لانّه لو كانت (152 ر) كالبهيميّة خاليا عن العقل لما صلح لعبادة اللّه وخلافته فى الارض، كما لم يصلح لذلك البهايم. ولو كان كالملك معرّى عن الامور الشهوانيّة لم يصلح لعمارة ارضه، كما لم يصلح لذلك الملائكة.

لذلك قال للملائكة: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ. ولم يجمع هاتان القوّتان فى السماء والارض والجبال، فانّهنّ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ، عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، بسبب ما فيه من القوى الشهوانيّة التى ذكرناها.

و قال بعض المفسرين: الحمل هاهنا الخيانة والتّرك. واللّه اعلم.

(1476) قول لطف به خبرا. الخبر بالضمّ العلم بالشى‏ء.

الخطبة 173

(1477) قوله: لكلّ فجرة كفرة، يعنى لمن يعتقدها ولا يبالى بها.

الخطبة 174

(1478) قوله: شبعها قصير وجوعها طويل، يعنى من تناول منها شبع‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 313

بادنى شى‏ء، ومن اعرض عنها طال جوعه و

قيل: مدّة شبعها قصيرة، لان الجوع الطّويل يتبعها، وهذه صفة الدنيا، والاوّل صفة الهدى.

(1479) قوله خارت ارضهم بالخسفة، انخفضت، والخور المنخفض من الارض، ارض خوّارة ضعيفة رخوة.

الخطبة 175

(1480) قوله: والسّريعة اللحاق بك، معناه انّ فاطمة ماتت بعد رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، باربعة اشهر، و

قيل بستة اشهر.

(1481) قوله: فاحفها السّؤال، الحفاوة بالفتح المبالغة فى السؤال عن الرجل، والعناية فى امره. وفى المثل ماربة لا حفاوة. يقول منه حفيت بالكسر حفاوة.

الخطبة 176

(1482) قوله: اخرجوا من الدّنيا قلوبكم، قبل: ان يخرج منها ابدانكم، يعنى لا تجعلوا همومكم ونيّاتكم مقصورة على الدنيا، وفارقوا الدّنيا بنيّاتكم وهممكم. (1483) قوله: للّه آباؤكم،

قيل اللّام لام العاقبّة، كما قيل: للموت يغذو الوالدات سخالها، يعنى عاقبة ايّامكم كانت المصير الى اللّه. وقيل: اللّام لام الاختصاص، كما يقال: لزيد اخ، اى اختصّ باللّه آباؤكم، هذا كما يقال: للّه انت.

و هذه كلمة يراد بها مدح المخاطب وتفضيله. ومعنى تفضيله تخصيصه بالاضافة الى اللّه، وان كان غيره للّه، كما يقال: بيت اللّه، ناقة اللّه، لانّه لا مدح وراء التخصيص باللّه. (152 پ) (1484) [قوله:] قدّموا بعضا يكن لكم، يعنى ما قال النّبىّ، عليه السّلام: ليس لك من مالك الا ما اكلت فافنيت، او تصدّقت به فابقيت. وانما قال: قدّموا بعضا لان حرمان الورثة ايضا لا يجوز. (1485) وقال: ولا تخلّفّوا كلّا، لان ترك الصّدقات والزكوات والوصايا ايضا لا يجوز، فما تصدّق به فله. والوصيّة من الثّلث تصحّ، وما خلّفه ان خلّف الكلّ بلا وصية فعليه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 314

الخطبة 177

(1486) قوله: مفظعات الامور، فظع الامر بالضمّ فظاعة فهو فظيع اى شديد شنيع جاوز المقدار. وكذلك افظع الامر فهو مفظع. مضلعات المحذور، اى مثقلات. يقال مضلع اى حمل مثقل.

(1487) ومنه قول الاعشى: وحمل لمضلع الاثقال.

الخطبة 178

 

 

الاربة هاهنا الحاجة. و

قال بعض المفسرين فى قوله، تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ، اى غير اولى العقل الّذين لا يعقلون امرهنّ.

يقال ارب الرجل، اذ احتاج. وفى الحديث: كان املككم لاربته، اراد لحاجة، يعنى انّه كان غالبا لهواه.

الاسوة القدوة، والاسوة والاسوة ما يتاسّى به الحزين. (1488) قوله: لا لغيركما فى هذا العتبى، يقال: اعتبنى فلان، اذا عاد الى مسرّتى راجعا عن الاساءة، والاسم منه العتبى. وفى المثل: لك العتبى بان لارضيت، هذا اذا لم يرد الاعقاب، يقول عتبك بما لا تهوى، ويقال: اعتبناهم بالسيف اى ارضيناهم بالقتل.

الخطبة 179

و من كلام له وقد سمع قوما من اصحابه يسبّون اهل الشام:

(1489) انّى اكره لكم ان تكونوا سبّابين ولكن لو وصفتم اعمالهم وذكرتم حالهم، كان اصوب فى القول، هذا تنبيه على تحريم السبّ واللّعن، كما قال النبى، عليه السّلام: ما بعثت سبّابا ولا لعّانا، وسيجى‏ء القول بعد ذلك فى معنى السبّ واللّعن. وهذه الكلمات مقتبسة من قول النّبىّ، عليه السّلام: اللّهم انّى بشر، فاذا دعوت على انسان، فاجعل دعآئى له لا عليه، واهده الى الصّراط المستقيم.

الخطبة 180

(1490) قوله: املكوا عنّى هذا الغلام، عنى به الحسن بن على. (1491) وقوله: انّى انفس بهما (153 ر) يعنى بالحسن والحسين على الموت، لئلا ينقطع بهما نسل رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، دليل على انّه لم يخبره النبىّ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، باوقات قتلهما ولم يعرف ذلك‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 315

تفصيلا.

الخطبة 181

(1492) قول: حتى نهكتكم الحرب، يقال: نهكته الحمّى، اذا اخذته وجهدته واضنته ونقصت لحمه.

الخطبة 182

(1493) قوله: لقد استهام بك الخبيث، يعنى الشيطان، يقال: هام على وجهه، اذا ذهب من العشق او غيره. وقد نهاه امير المؤمنين عن ذلك، لانّه اخلّ بآداب العزلة ووجد فى نفسه رغبة فى اظهار طاعته، وطلب بالطاعة منزلة فى الدنيا، وامتنع من الطّعام، وما عرف انّ زاد الطريق من الطريق، وزاد العبادة من العبادة، والمواظبة على العلم والعمل من غير صحة البدن لا يصحّ، ولا يكون سلامة البدن الا بالطعام والشراب. قال اللّه، تعالى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً. ومن تناول الطعام على نيّة سلامة بدنه حتّى يقوى بدنه على العلم والعمل، كان اكله وشربه من قبيل العبادة. وقد اخطأ الرجل وهو عاصم بن زياد حين قاس شخصه وحاله بشخص امير المؤمنين وحاله، ولم يعرف تباين المقصدين، ونظر الى الظّاهر. (1494) قوله: كى لا يتبيّغ بالفقير فقره، اى لا لا يتهيّج. ويقال: اصله يتبغّى من البغى فقلب، مثل جذب وجبذ.

الخطبة 183

(1495) قوله: لقف عنه، اى تناول بسرعة. (1496) قوله: له وجهان: فكلام خاصّ، وكلام عامّ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى اللّه به، ولا ما عنى به رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله. للخاصّ من الكلام المتشابه مفهوم سوى مفهوم العامّ، كما للعاقل مفهوم من الكلام سوى مفهوم الصّبىّ. فانّ الصبىّ يفهم من قول القائل: جلس فلان فوق فلان، وبغداد فى يد الخليفة، انّ الجالس فوق غيره بالمكان، وانّ مدينة السلم شى‏ء مقبوض هو فى يد الخليفة. والعاقل المجرّب يعرف ويفهم سوى ذلك. وكذلك الفقيه يفهم من لفظة صورة المسئلة كذا، اى حقيقتها وترتيبها، والعامىّ يفهم من الصورة الهيئة الجسمية، لذلك نظائر. واشار (153 پ) امير المؤمنين الى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 316

ذلك حيث قال: كلام خاصّ وكلام عامّ. فيحمله السّامع ويوجّهه على غير معرفة. هذا مبدأ الاختلاف فى الامّة. وقد صنّف الامام الغزالىّ فى معانى الاخبار المتشابهة كتابا، وبيّن تفصيل كلام امير المؤمنين هذا فيه بحيث لا مزيد عليه.

الخطبة 184

شرح خطبة اخرى له،

(1497) قوله: الاخضر المثعنجر، يقال ثعجرت الدّم وغيره فاثعنجر، اى صببته فانصب، وتصغير المثعنجر المثيعج والمثيعنج. (1498) قوله: ارزها فيها اوتادا، يقال رزّه رزّة اى طعنه طعنة وارتزّ السّهم فى القرطاس، اى ثبت فيه. (1499) قوله: تكركره الرياح العواصف، الكركرة تصريف الرياح السحاب، اذا جمعته بعد تفرّق.

قال الشاعر:

         باتت تكركر الجنوب   ***   واصله تكررّه من التكرير

 

(1500) قوله: الغمام الذوّارف، ناقة ذروف ومذراف وذارفة، اى سريعة، قال الراجز: يذرفها الاعداء اىّ ذرف. وذرف الجرح بالكسر، اذا انتقص بعد البرء.

الخطبة 185

(1501) قوله: ساوربه المغالب، ساوره اى واثبه.

الخطبة 186

(1502) [قوله:] لم يسهم فيه عاهر ولا ضرب فاجر، معناه ما قال النّبىّ، عليه السّلام: لمّا خلق اللّه آدم، اودع نورى فى جبينه، فما زال ينقله من الآباء الاخاير والامّهات الطّواهر، حتّى انتهى الى عبد المطّلب. وقال، عليه السلام: ولدت من نكاح لا من سفاح.

الخطبة 187

(1503) ضرب على عرقه بسوء، كناية عن التهجين. قطع الدّابر، الدّابر الاصل.

فى كتاب الغريبين فى قوله، تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ، قيل اصلهم وآخرهم، وقيل دابر الرجل عقبه. ومعنى «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا»، اى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 317

استاصل اللّه شأفتهم.

(1504) قوله: او اضطهد، يقال ضهدته فهى مضهود ومضهد، اى مقهور ومضطرّ، وفلان ضهدة لكل احد، اى كلّ من شاء ان يقهره، فعل. (1505) قوله: اجعل نفسى اوّل كريمة، عبارة عن قوله فى موضع آخر: انّى لا شوق الى الموت من الظّمان الى العذب البارد.

الخطبة 188

(1506) قوله: لا يجرى لاحد الا جرى عليه، ولا يجرى عليه الّا جرى له، يعنى لا يحكم (154 ر) الحق لاحد على غيره، الا وحكم لغيره عليه، ولا يحكم لغيره الّا وحكم له على غيره. (1507) قوله: لا يستوجب بعضها الا ببعض، حقوق الاباء والامّهات والاولاد وحقوق الازواج، فانّ حقّ الزوج لا يثبت على الزوجة الاباداء المهر واداء النفقة، وحقّ الزّوجة بالنّفقة لا يثبت على الزّوج الا بالطاعة وترك النّشوز، فيوجب اداء المهر والنفقة طاعة الزوجة، ويوجب الطاعة وترك النشوز النفقة والسّكنى وغيرهما. (1508) [قوله:] كثر الادغال فى الدين، الدغل الفساد. (1509) قوله: تبعات اللّه عند العباد، التّبعة ما يتبع الانسان من الاثم والوبال والغضب. (1510) قوله: ببالغ حقيقة ما اللّه اهله من الطّاعة له، الانسان معلول من جهة القوى البدنيّة، فكانه ممراض لا يستغنى ابدا عن الدّوآء والعلاج، لا يتبع حقيقة ما امره به طبيب الشّرع من الطّاعة له، وتلك الامراض مثل الجهل والشّرة والعجلة والظّلم. وامر باماطته كما امر بحلق العانة وقصّ الشارب والظّفر من طريق الظاهر. فمن لم يمط تلك النجاسات عن نفسه، لم يجد سبيلا الى وصول نعيم الآخرة، بل والى طيب الحياة الدنيا. وذلك انّ من تطهّر، تجلّى عن قلبه الغشاوة، فيعلم الحقّ حقّا، والباطل باطلا، ولا يشغل الا ما يعنيه. ومتى ثبتت نجاسته، صار قلبه مسكن الشياطين، كما قال اللّه، تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 318

عَلى‏ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى‏ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. (1511) قوله: ليس امرء، الى تمام الكلام، يعنى لا يستغنى الكبير عن المعين، ولا يكون الصّغير وان كان حقيرا بحيث لا يعتبر اعانته، فانّ الاعانة مفيدة وان كانت من حقير صغير مهين. (1512) قوله: لم تعظم نعمة اللّه على احد الا ازداد عليه حق اللّه عظما. للشّكر مقام محمود لا يصل اليه اكثر النّاس. لذلك قال اللّه، تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ. وحقيقة ما قاله (154 پ) امير المؤمنين انك تعرف انّ جميع النّعم من عند اللّه، والمنعم الحقيقىّ هو اللّه، ولا ترى النعمة الّا من اللّه. واذا اعتبرت باسباب النعمة والوسائط الّتى تصل النعمة بسببها اليك، لم يحصل منك الشكر الحقيقىّ، بل يكون الشكر مشتركا، فلا تعتقد انّ المنعم عليك توقيع الملك، اى القلم والدواة والقرطاس، بل المنعم هو الملك هو الملك الذى افاض عليك سجال الخلع، وان كانت تلك الخلع لا يصل اليك الا بتلك الوسايط. فهذا معنى قوله: ان يصغر عنده لعظم ذلك كلّ ما سواه.

بل ما سواه عنده بمثابة القلم والدواة والقرطاس بالنسبة الى الملك. (1513) قوله: ان يظنّ بهم حبّ الفخر ويوضع امرهم على الكبر، المعنى فى ذلك انّ سبب العجب والتكبّر الجهل المحض، وعلاجهما المعرفة والعلم. ومن كملت معرفته، وتمّ علمه، فلا مجال للكبر والعجب عنده. واذا خلع الملك على عبده من غير سابقة له، فمن حقّه ان يتعجّب من لطف الملك الذى خصّصه لا من نفسه. فلو قلت انّ اللّه وفّقنى لطاعته بسبب محبّتى ايّاه، فتفّكر فى انّ محبّته فى قلبك منه لا منك. وان قلت: محبّته منّى، لانّى عرفته، فتفكّر فى انّه هو الذى عرّفك. وان قلت: عرفته بعقلى، فتفكّر فى انّ العقل منه او منك. والعارف لا يغترّ بمدح الخلق وثنائهم. لان رضا الناس عامة لا يدرك، ومدايحهم لا يتمّ ولا يستقيم. فما من انسان مدحه قوم الا وذمّه [قوم‏]. والعاقل لا يقدم على شى‏ء لا يتمّ له، ولا يتعلّق سعادة الدنيا وسعادة

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 319

الآخرة بثناء الخلق. والعاقل لا يغترّ بما ليس فيه سعادة الدّارين. ومن كان محمودا عند اللّه لا يضرّه مذمّة الخلق، ومن اخلص للّه، زيّن اللّه قلوب النّاس بمحبّته، ورضى اللّه عنه. ومن طلب محمدة الناس، واقبل على الطاعات خوفا من مذمّة النّاس، كشف اللّه استار نفاقة، واخزاه، وابتلاه بمذمّة الناس وفاته (155 ر) رضى اللّه لذلك. (1515) قوله: عند اهل البادرة، البادرة الحدّة، يقال اخشى عليك بادرته، وبدرت منه بوادر غضب، اى خطأ وسقطات عند ما احتدّ. والبادرة البديهة، والبوادر من الانسان وغيره.

الخطبة 189

(1516) قوله واكفأوا انائى، كفأت الاناء كببته وقلبته، فهو مكفوء. و

زعم ابن الاعرابىّ «اكفأ به بمعنى كفأ به».

الخطبة 190

(1517) قوله: ادركت وترى من بنى عبد مناف، ولم يكن الزبير من اولاد عبد مناف من قبل الاب فانّ نسب الزّبير هو الزبير بن العوام بن خويلد بن اسد بن عبد العزّى بن قصىّ بن كلاب، وهو من بنى عبد مناف من قبل امّه. فان امّه صفية (بنت) عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وطلحه لم يكن من بنى عبد مناف، وهو من ابناء اعمام الصّديق. ونسب الصّدّيق ابوبكر عبد اللّه بن عثمن بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب. ونسب طلحة الفياض بن عبيد اللّه بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة. وامّ طلحة كانت من بنى عبد مناف. (1518) قوله: افلتنى اعيان بنى جمح، اميّة بن خلف واخوه ابىّ بن خلف وعثمان بن مظعون كانوا من بنى جمح. وكان فى زمان امير المؤمنين من بنى جمح عبد اللّه بن صفوان بن اميّة بن خلف بن وهب بن حذاقة ابن جمح بن هصيص بن كعب بن لؤىّ بن غالب، وعبد الرحمن بن صفوان وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذاقة بن جمح.

الخطبة 191

 

 

فى كلام له عند تلاوة «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ»

 

(1519) قوله: سلكوا فى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 320

بطون البرزخ سبيلا،

فى كتاب الغريبين البرزخ هو القبر وكلّ حاجز بين شيئين برزخ. قوله: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً اى حاجزا لا يغلب العذب الملح ولا الملح العذب.

(1520) قوله: ضمارا لا يوجدون، الضّمار ما لا يرجى من الدّين والوعد وكلّ ما لا يكون (155 پ) منه على ثقة. قال الراعى:

         وانضاء أنخن الى سعيد   ***   طروقا ثمّ عجّلن ابتكارا

         حمدن مزاره فاصبن منه‏   ***   عطاء لم يكن عدة ضمارا

 

(1521) قوله: لا يحفلون بالرّواجف، لا يحفلون لا يبالون، قال الكميت: واحفل صرمها ولا ابالى. والرّواجف السّهام الواقعة دون الغرض ثم يرجف اليه. والرّواجف الجيوش والرواجف فى قول الفرزدق:

         على عمائمنا تلقى وارحلنا   ***   على زواحف ترجيها محاسير

 

من ابل زواحف، والواحدة زاحفة. ويقال ذلك للبعير اذا اعيا فجرّ فرسنه.

السّوق جمع السّوقة وهى الرّعية. (1522) قوله: لا ياذنون للقواصف، ريح قاصف وقاصفة شديدة، والقصف اللّهو واللّعب، وامرءة قاصفة، والنساء قواصف، وقصفة القوم تدافعهم وازدحامهم. وجاء من هذا فى الحديث: القاصفون والقاصفة. (1523) قوله: صمّت ديارهم، اى خربت فلا يسمع منها صوت، ويقال: شهر اللّه الاصمّ، لانّه لا يسمع فيها قعقعة السّلاح وصوت المستغيث.

و يقال: صمّ صداه، اى هلك. وفى المثل: صمّت حصاة بدم. (1524) قوله: فى ارتجال الصفة، اى فى تبديل الامارة والعلامة. (1525) قوله: مدّت لهم الى مباءة، المباءة منزل القوم فى كلّ موضع، ويسمّى كناس الثّور الوحشى مبآءة، وكذلك معطن الابل. التّناوش التّناول، قال اللّه، تعالى: وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى، اى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 321

انّى لهم تناول الايمان فى الاخرة، وقد كفروا به فى الدّنيا. ولك ان تهمز الواو كما يقال: وقّتت واقّتت. (1526) قوله: وتكاءدنا ضيق المضجع، يقال تكأدنى الشى‏ء وتكاءدنى اى شقّ على، تفعّل وتفاعل بمعنى. (1527) قوله: ارتسخت اسماعهم فاستكّت، يقال استكّت مسامعه اى صمّت وضاقت، منه قول الشاعر وهو عبيد بن الابرص:

         دعا معاشر فاستكّت مسامعهم   ***   يا لهف نفسى لو يدعو بنى اسد

 

و قال الشاعر:

         وتلك الّتى تستكّ منها المسامع‏

 

(1528) قوله: شحاحة بلهوة ولعبة، الشّحاح بالفتح (156 ر) الشحيح، يقال ايضا: ارض شحيح شحاح لا يسيل الا من مطر كثير، والشّحّ البخل مع حرص، المراد بخلا مع حرص بلهوة ولعبة. يضحك الى الدّنيا وتضحك اليه، يعنى يميل الى الدنيا وتميل الدنيا اليه. يقال: ضحك به ومنه بمعنى، وضحك، اى مال، وتضاحك الرّجل واستضحك بمعنى. (1529) قوله: بتسكين الحارّ بالقارّ وتحريك البارد بالحارّ، فلم يطفى‏ء ببارد الّا ثوّر حرارة، اقول: انظر الى مجامع علوم الطب فى هذه الكلمات.

(1530) وتفصيل ذلك انّ هيجان الحرارة، امّا من تعب شديد او طعام حارّ حريف مثل الثّوم والخردل، وامّا من كثرة اللبث فى الشمس، وامّا من عفونات [فى‏] البدن، فتلهّبت فيها الحرارة، واما من انسداد مجارى البدن واحتباس الحرارة فيها، وامّا من سخافة البدن وتخلخله، وامّا من مقاربة اجسام حارّة، وامّا من ادوية واشربة حارّة، وامّا من شرب النبيذ الصّرف، واما من كثرة الحركة والسّهر، وامّا من غضب شديد، وامّا من الصّوم الدايم، وامّا من‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 322

كثرة الجماع وسهال البطن وهيجان البرد، امّا من كثرة الراحة، وامّا من الاطعمة مثل الجبن واللّبن، وامّا من برد الهواء، وامّا من مقاربة اجساد باردة مثل الثّلج، وامّا من افراط الجماع والتّعب والسّهر والفكر واسهال البطن بحيث يؤدّى الى انطفاء الحرارة الغريزيّة وهيجان اليبس، [و] امّا من تعب شديد، وامّا من قلّة الطعام، وامّا من اغذية وادوية يابسة، او مقاربة اجسام يابسة وامّا من كثرة الاستحمام بمياه مالحة كبريتيّة، وامّا من طول السّهر والهمّ، وامّا من الهموم ونفاد موادّ الرطوبة وهيجان الرطوبة، وامّا من طول الدّعة والاطعمة والاشربة الرّطبة او مقاربة الاجسام الرّطبة، وامّا [من‏] كثرة الاستحمام بمياه عذبة، وامّا من كثرة النّوم بعد الطّعام.

(1531) وفى جميع هذه العلل اذا كانت القوة باقية، وكانت عناية الطّبيب مصروفة الى حفظ (156 پ) قوة المريض، فالمريض يقبل العلاج.

فان القوة للعليل كالزّاد والمرض كالطريق. وان سقطت القوة قبل منتهى المرض، كان الامر كما قال امير المؤمنين، حيث قال: ولا اعتدل بممازج لتلك الطبايع الا امّد منها كلّ ذات داء. (1532) وبيان آخر وهو ان القوّة النامية الّتى للانسان، امّا ان يكون فى سورتها وقوّتها، وهى ان تكون زايدة فى البدن غير مفتقرة على اخلاف ما تحلّل، بل تزيد فى حجم البدن ايضا بكثرة ما يغذوه. فهذه القوّة النّامية تكون بالحال المذكورة عند اكثر الاطبّاء الى نحو ثلثين سنة شمسيّة. وامّا ان يقف فيقتصر على ان يخلف على البدن مثل ما تحلّل فقط من غير زيادة، وذلك الى تمام خمس وثلثين سنة. وامّا ان ينقص ويأخذ فى الضّعف، فيكون الذى يستفيده البدن منها اقلّ ممّا تحلّل وذلك الى نحو ستّين سنة.

(1533) فالحالة الاولى سنّ الفتيان، والثانية سنّ المتناهين، والثالثة سنّ الكهول. ثم بعد السّتين يتبيّن النّقصان فى القوّة النّامية فيكثر تحلّل الرطوبات ويقّل الخلف من الغذاء، وسمّى هذا السّن سنّ الشّيوخ. ولا يزال‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 323

يتمادى الامر بالبدن، ويتسلّط اليبس، حتّى يصير من عدم الرطوبة بحيث لا يصلح لحلول الحياة، فيموت الانسان ولا يقبل العلاج.

(1534) فهذا معنى قول امير المؤمنين حتى فتر معلّله وذهل ممرّضه وتعايا اهله بصفة دائه وخرسوا عن جواب السّائلين عنه، الى آخر الفصل. واللّه اعلم.

و ما ذكر من غمرات الموت وسكراته، فقد سئل واحد من الصحابة فى سكرة موته عن حاله، فقال: كانّى اتنفّس من خرت ابرة، وكانّما يقطع اعضائى [بالمقراض، ففى كل جزء من اجزائى وعضو من اعضائى‏] الم لا يمكن وصفه. قال ذلك ومضى لسبيله.

و كان رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، يقول فى سكرات موته: اللهم اعنّى على سكرات الموت. وفى التورية: انّ مثل الموت كشجرة مشوّكة ادرجت فى بدن ابن آدم، فتعلّقت كلّ شوكة منها بعرق وعصب، ثم جذبها رجل شديد (157 ر) الجذب، فقطع ما قطع وابقى منها ما ابقى. وقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: للموت الف نزعة اشدّ من الف ضربة بالسيف.

الخطبة 192

(1535) قوله حين فرغ من قرائة قوله، تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ: قوله: بعد العشوة، ان تركب امرا على غير بيان، يقال: اوطأتنى عشوة اى امرا ملتبسا، كلّ ذلك مأخوذ من العشاء والعشيّة. برهة من الدهر وبرهة اى مدة طويلة من الزمن. (1536) قوله يذكّرون بايّام اللّه، مأخوذ من قول اللّه، تعالى، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏.

قال ابن عبّاس وابىّ بن كعب ومجاهد وقتادة: اى بنعم اللّه. قال مقاتل: بوقايع اللّه فى الامم الماضية. وقيل: بما كان فى ايّام اللّه من النعمة والمحنة.

فاخبر بذكر الايّام عنه، لانّها كانت معلومة عندهم. و

قيل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 324

ايّام اللّه الايام المعلومات.

و

قيل ايّام اللّه قوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ، وقال: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي

و فى هذا الكلام المراد الوقايع الّتى كانت فى الامم الماضية، لانّه قال: ويخوّفون مقامه بمنزلة الادّلة فى الفلوات، من اخذ القصد، اى سمت الطّريق. (1537) (قوله:) فشاهدوا ما ورآء ذلك، قد جعل اللّه لكلّ شى‏ء كما لا يشتاق اليه طبعا، وقد هداه الى التخصيص تسخيرا، كما نبّه عليه بقوله، تعالى: قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ. والسعادات ضربان: ضرب دائم لا يبيد ولا يحول وهو النّعم الأخرويّة، وضرب يبيد ويحول وهو النّعم الدّنيويّة.

و النّعم الدّنيويّة متى لم توصلنا الى تلك السّعادات، فهى كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وغرور وفتنة وعذاب، كما قال الشاعر:

         انّما الدّنيا كرؤيا افرحت   ***   من رآها ساعة، ثمّ انقضت‏

 

(1538) قوله: كانّما اطّلعوا غيوب اهل البرزخ فى طول الاقامة فيه، وحقّقت القيامة عليهم عداتها، السبب فى قصور الانسان عن تصوّر ما بعد الموت انّ الانسان لا يمكن ان يعرف حقيقة الشى‏ء (157 پ) الا بكدّ شديد ومطلب عسير، وربما لا يتصوّر شيئا حتّى يدركه بنفسه. واذا لم يدركه، ووصف له، يجرى مجرى صبىّ يوصف له لذّة الجماع، فلا يمكنه ان يتصوّر حقيقته حتّى يبلغ فيباشره بنفسه. ومن تصوّر من الانبياء والاولياء حقيقة الدّار الآخرة وطالعها ببصر البصيرة، شغله الفرح والتّلذّذ ربها عن كلّ ما دونها. لذلك قال امير المؤمنين: فكشفوا غطاء ذلك لاهل الدنيا، حتّى كانّهم يرون ما لا يرى الناس. (1539) ولكلّ قوة من القوى لذّة يختصّ بها لا يشاركها فيها غيرها.

فلذة العين فى النظر الى ما يستحسنه، ولذّة السّمع فى الاستماع الى ما يستطيبه، ولذّة اللّمس فى مسّ ما يستلذّه، وكذى حاسّة الشّمّ والذّوق، ولذّة الوهم فى صورة ما يأمله، ولذّة الخيال فى تخيّل ما يستحسن تصوّره، ولذّة

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 325

الفكر فى امر مجهول يتعرّفه.

و كلّ واحد من هذه القوى والاجزاء، اذا عرض لها آفة تعوقه عن شهوته وعن ادراك لذّته، فيكون كالمريض الّذى لا يشتهى، وان كان به ظما. واذا تناوله، لم يجد لذّته.

         فمن يك ذا فمّ مرّ مريض   ***   يجد مرّا به الماء الزّلالا

 

(1540) فالّلذّات الاخرويّة لذّات لا يدركه الّا بالعقل المحض.

و عقول اكثر النّاس معوقة عن ادراك حقايق اللّذات الاخرويّة، فلا يشعر بها، كالخدر لآفة عرضت له، فلا يحسّ بالسبب المولم. واقوام عقولهم كعقول الصّبيان لا يحسّون بالآلام والّلذّات الّتى فى الدار الآخرة. قال اللّه، تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ. ومن اغترّ بالحيوة الدّنيا، فهو فى عقله صبىّ.

لانّه اشتغل باللّهو واللّعب. وامور القيامة كلّها اسرار. وقول الكفّار: وَيَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ، سئوال عن شى‏ء يستحيل الجواب على موجبه. فانّ امر الساعة اذا كان وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ، فكان متى سئوالا عن الزمان، فاستحال جواب السايل عنه. وهو مثل قول الاكمه اذا قال: بيّن لى كيف اذوق المبصر او اشمّه. فان اجبنا له على سبيل الملامسة بشى‏ء اخطأنا فيه بالضرورة. لذلك (158 ر) قال اللّه، تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.

(1541) وقال بعض العارفين: القيامة من داخل حجب السموات والارض، ومنزلها من تلك الحجب منزلة الجنين من رحم امّه. ولذلك لا يقوم الّا إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وانْشَقَّتِ السَّماءُ، وانتشرت الكواكب، ويَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ. ومن كان خارج الحجب، فالقيامة سرّ عنده.

 

و من رفع الحجاب، صار سرّ القيامة علانية، ورسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، انّما اطّلع على سرّ القيامة بعد ما قطع الحجب ليلة المعراج. والى هذا المعنى اشار اللّه، تعالى، بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها. اى ان كان سرّ القيامة علانية لك ليلة المعراج، فما الّذى بقى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 326

عندك. وكلّ عاقل وفّقه اللّه للمجاهدة، والرياضة، فانّه يصل من عالم اليقين الى عين اليقين. كما ان كلّ طفل رضيع اذا بقى مع تربية صالحة، فانّه يصل الى مقام التميّيز، اذا كان حان وقته. ومن لم يصل الى هذا المقام، كان من الّذين قال اللّه، تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. اسمع بهم وابصر يوم يأتوننا.

(1542) قوله: قد نشروا دواوين اعمالهم، اصل الكلمة دوّان بدلالة قولهم فى الجمع دواوين. لكنّهم هربوا من التّضعيف استثقالا له، الى ان ابدلوا من الواو الاولى يآء. فلو تكلّفوا ما تركوه من قلب الواو يآء وادغام الاوّل فيه، يعاد مثل ما هربوا منه، وهو التضعيف لحصول يائين. الا ترى انّ الكلمة بعد الادغام يصير على الدّيان. وبعض النّاس يذهب الى انها معرّبة من ديوان، اى انّ الكتّاب كمردة الشياطين. والصواب ان يقال: هى من دوّنت الكلمة اى ضبطتها وقيّدتها. وهذا مدوّن فى كتاب كذى، اى مضبوط. فالدّيوان موضع ضبط حسبانات النّاس. وانما احتمل التضعيف فى الجمع لدخول الف الجمع بين الواوين فيه. (1543) قوله: فنشجوا نشيجا، نشج الباكى (158 پ) ينشج نشجا اذا غصّ بالبكاء فى حلقه من غير انتحاب. وكذلك نشج الحبّ والزقّ والقدر اذا ما غلاما فيها، حتّى يسمع له صوت. روى: تحابوا بالحاء، بمعنى تحوّبوا، والتحوبّ التوجّع والتحزّن. وقيل: بالجيم، والتجاوب التجاوز. (1544) قوله: لا تضيق عليه المنادح، اى المفاوز، والمندح المكان الواسع، وهو المقصود هاهنا. (1545) قوله: لها حسيب غيرك، هذا مأخوذ من قول اللّه، تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ.

الخطبة 193

شرح ما قاله بعد تلاوة قوله، تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ،

(1546) بلول يقال بلّ الرجل من مرضه وابلّ اذا برأ.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 327

(1547) قوله خوف بيات نقمة، بياتا فى قوله، تعالى: وَكَمْ مِنْ، اى ليلًا، وهو اسم من بيّت يبيّت تبييتا، وسمّى البيت بيتا لانه يبات فيه. (1548) قوله: مطرف عين، يقال: طرف بصره يطرف طرفا، اذا طبق احد جفنيه على الاخر، الواحدة من ذلك طرفة، يقال: اسرع من طرفة عين. (1549) قوله: وانّ السعداء بالدنيا، [غدا هم الهاربون منها اليوم. للناس حالتان: حالة فى دار الدنيا ويعبّر عنها بالمستودع، وحالة بعد الموت ويعبّر عنها بالمستقرّ. قال اللّه، تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. فالانسان فى كدح ما دام فى المستودع، كما قال اللّه، تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فالشقىّ من طلب الراحة من حيث لا راحة هناك، وهو دار الدنيا. قال اللّه، تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا، أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، فاِنَّهم طَلَبوا من الدُّنيا ما ليس فى طبيعتِها، كما قال الشاعر:

         اريد فى ذمنى ذا ان يبلّغنى   ***   ما ليس يبلغه فى نفسه الزّمن‏

 

فلا جرم صار مستودعهم بالاضافة اليهم مستقرّا، كما قال اللّه، تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ. والسعيد من عرف انّ الصّحّة والغنيمة فى السفر، وما التفت الى الدّنيا ولذّاتها، وهرب منها، الّا بما يتبلّغ به مراعيا فيه حكم الشرع. كما قال امير المؤمنين، عليه السّلام، واخبر اللّه، تعالى (159 ر) عن ذلك حيث قال: وما الحيوة الدّنيا فى الاخرة الا متاع، ولم يركن الى الدنيا الا من جهل حقايقها ومنافعها.

(1550) واخبر النبىّ، عليه السلام، عن ذلك حيث قال: ما انا والدّنيا، إنّما مثلى فيها كمثل راكب سار فى يوم صائف، فرفعت له شجرة، فنزل، فقال فى ظلّها ساعة، ثم راج وتركها.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 328

و قال النّبىّ، صلّى اللّه عليه وآله: من سكن قلبه حبّ الدنيا، بلى بثلث: شغل لا يبلغ مداه، وفقر لا يبلغ غناه، وامل لا يبلغ منتهاه. قال اللّه، تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ، نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا، نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ. (1551) قوله: رجفّت الراجفة، الراجفة الزلزلة. (1552) قوله: ولحق بكلّ منسك اهله، المنسك الّذى يذبح فيه النسائك. (1553) قوله: خذ ما يبقى لك، المراد به قوله، تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ، يعنى خُذْ من الدُّنيا الفانيةِ الثّوابَ الباقىَ.

الخطبة 194

شرح لكلام آخر له،

(1554) قوله: على حسك السّعدان، السعدان نبت، وهو من افضل مراعى الابل. وفى المثل مرعى ولا كالسعدان. والنون زايدة، لانه ليس فى الكلام فعلال غير خزعال، والّاكّار من المضاعف. ولهذا النبت شوك يقال له: حسك السعدان، ويشبّه به حلمة الثّدى. يقال سعدانة الثّندوة. (1555) قوله: اعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة، يؤمى الى هديّة اهديت اليه. (1556) قوله: وجوههم بالعظلم، العظلم نبت يصبغ به، و

قيل وهو النّيل.

ضجّ ضجيج ذى دنف، اذا جزع الانسان من شى‏ء، وغلب، قيل ضجّ يضّجّ ضجيجا.

الخطبة 195

(1557) قوله ثكلتك الثواكل يا عقيل، الثّكل فقدان المرأة ولدها. وهذا دعاء للعرب، يعنى ثكلتك امّهاتك وجدّاتك، ربما يراد به الذّم، وربّما لا يراد، كقولهم: قاتله اللّه. الئنين، قالوا: انّ المآء. قال الشاعر: يامن لدمع دأيم الئنين.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 329

الخطبة 196

(1558) قوله: هبلتك الهبول، هبلته امّه، اى ثكلته والهبول من النساء الثكول. (1559) قوله: اتيتنى لتخد عنى، الى آخر الفصل، كلام خارج عن العجب. (159 پ) وللاولياء ان يتفوّهوا بمثل ذلك، حتّى يقتدى بهم الناس. قال اللّه، تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ، فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. ومن امن غوايل الرياء، وعرف انّه ان اظهر مقاماته، اقتدى به خلق، فالاولى له ان يظهر ذلك. ومن لا يأمن الرياء، فله ان يخفى.

(1556) ومثال ذلك من لم يكن عالما بالسّباحة، والقى نفسه فى البحر، وماج البحر، هلك. ومن كان عالما بالسّباحة، نجا ونجّا غيره. ويجب ان يطلب بهذا الاظهار منزلة المقتدين. فان طلب الريّاسة بمعزل عن الانبياء والاولياء، عليهم السّلام. لذلك قال امير المؤمنين: وانّ دنياكم عندى لاهون من ورقة فى فم جرادة. (1557) اما الدعآء الّذى دعا به امير المؤمنين حيث قال: اللهم من وجهى باليسار، فان غاية نعمة اللّه على عبده الّا يحوجه عند الاسترزاق الى مثله من البشر.

(1558) شرح خطبة له اخرى قوله: لجأوا الى الاستجارة بك، الاستجارة الاستعطاف، واصله انّ الصائد يأتى ولد الظّيبة فى كناسه فيعرك اذنه فيخور، اى يصيح، فيستعطف بذلك امّه كى يصيدها، ومنه صلوة الاستجارة، وهو طلب الخير والرحمة من اللّه. (1559) قوله: اللهم ان فههت عن مسئلتى، الفّهة والفهاهة العىّ، قد فههت يا رجل بالكسر فهها، اذا اعييت.

الخطبة 197

(1560) قوله: داوى العمد، اى الفدح، يقال عمده المرض اى فدحه، ويقال عمد البعير، اذا انفضخ داخل سنامه من الركوب وظاهره صحيح، فقال هو بعير عمد.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 330

الخطبة 198

تداككتم علىّ تداكّ الابل الهيم على حياضها.

فى الغريبين: تداكّ الناس عليه اى ازدحموا.

هدج اليها الكبير، يقال هدج الظّليم اذا مشى فى ارتعاش.

الخطبة 199

(1562) قوله: عمرا ناكسا، والناكس المطأطى‏ء راسه، وجمع فى الشعر على نواكس، وهو شاذ على ما ذكرناه فى «فوارس». ومباعد طيّاتكم، الطّيّة النيّة.

قال الخليل الطّيّة تكون منزلا، ويكون منتاى، تقول: مضى لطيّته اى لنيّته التى انتواها، وبعدت عنّا طيّته، وهو المنزل الذى (160:) انتواه، ذهب لطيّته، وطيّته بعيدة، اى شاسعة.

المعابل النّصول العريضة. تتابعت عليكم عدوته، العدوة الحضر. احتدام علله، احتدمت النار التهب، واحتدم الدّم اشتدت حمرته، ويقال: احتدم صدر فلان غيظا. (1563) شرح كلامه فى صفة الزّهاد، كانوا قوما من اهل الدنيا، وليسوا من اهلها، فكانوا فيها كمن ليس منها، هذا حال من انفكّ رقبته عن اسر الزمان والمكان، ويكون زهادته طبعا تكلّف فيه، كما قال النّبىّ، عليه السلام: انا واتقياء امّتى براء من التكلّف، ومهما انشرح صدره للايمان بالغيب، فاض على باطنه نور لم يشاهد مثله قبل ذلك. وقد اوحى اللّه، تعالى، الى داود، عليه السلام، وقال: يا داود من طلبنى، وجدنى، ومن طلب غيرى، لم يجدنى.

الخطبة 200

قوله فى خطبة بذى قار،

(1564) بعد العداوة الواغرة فى الصّدور، يقال فى: صدره علّى وغر بالتسكين اى ضغن وعداوة وتوقّد من الغيظ. تقول: وغر صدره علىّ يوغر وغرا، فهو واغر الصدر علىّ.

الخطبة 201

(1565) قوله فجناة ايديهم، يعنى ما اكتسبت ايديهم، فانّه اولى بهم عند الانفاق.

الخطبة 202

(1566) قوله: انّما فرّق بينهم مبادى طينهم،

قال بعض الاطبّاء سبب تفاوت النّاس سبعه اشياء.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 331

اوّلها اختلاف الا مزجة وتفاوت الطبيعة واختلاف الخلقة، كما قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، انّ اللّه، تعالى، لمّا اراد خلق آدم، امر ان يؤْخذ قبضة من كلّ ارض. فجاء بنو آدم على قدر طينها الاحمر والابيض والاسود والسّهل والحزن والطيّب والخبيث. وقال امير المؤمنين: من سبخ الارض وحزن تربة وسهلها، فهم على حسب قرب ارضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون. وقال اللّه، تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ. والثانى اختلاف احوال الوالدين فى الصّلاح والفساد. وذلك انّ الانسان قد يرث من ابويه آثار ما هما عليه من جميل السيرة والخلق او قبحهما، كما يرث مشابهتهما فى خلقهما، قال اللّه، تعالى (160 پ): وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ.

و الثالث اختلاف محلّ مادّة الانسان، كما قال النبىّ، عليه السّلام: تخيّروا لنطفكم، وقال: الناكح غارس، فلينظر اين تضع غرسه، وقال: ايّاكم وخضراء الدّمن. قيل: ما خضراء الدّمن قال المراءة الحسناء فى المنبت السّوء. والرابع اختلاف ما يتفقّد به من الرضاع ومن طيب المطعم. وللرضاع تأثير عجيب، لقول النبىّ، عليه السّلام: الرضاع يغيّر الطّباع. ويقول العرب: للّه درّه.

الخامس اختلاف احوالهم فى تاديبهم وتعويدهم العادات الحسنة والقبيحة. فحقّ الوالد ان يؤخذ بالاداب الشرعيّة، واخطار الحقّ بباله، وتعويده فعل الخير، كما قال، عليه السلام: مروهم بالصلوة لسبع. ويجب ان يصان عن مجالسة الاشرار. فانّه فى حال صباه كالشمع يتشكّل بكلّ شكل.

السادس اختلاف من يتخصّص به، ويأخذ طريقته.

و السابع اختلاف اجتهاده فى تزكية نفسه بالعلم والعمل، حتّى استقلّ بنفسه.

فهذه اسباب اختلاف الناس.

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 332

الخطبة 203

قوله فى شرح خطبة له:

(1567) الحمد للّه الّذى لا يدركه الشواهد ولا تحويه، ولا تراه النواظر ولا تحجبه السّواتر،

قال قوم: العقل البشرىّ قاصر عن ادراك الوجود الازلىّ، لانّه لا مثال له فى الشاهد، فيستدلّ بالشاهد على الغائب.

(1568) وقال الامام الوبرىّ: لا تدركه الشّواهد اى الاحياء الكاينون فى الاماكن. وقال: ثمّ اورد التعليل لذلك وقال: ولا تحويه المشاهد، اى انّما لا يصحّ ان يدرك، لانّه لا يجوز عليه الاماكن، وانما الادراك مقصور على هذا، ويجب ان يكون المدرك فى محلّ او زمان.

(1569) وقال بعض العلماء: الانسان لما كان على هيئة العالم، وجد فيه كلّ ما وجد فى العالم. فكما انّ فى العالم اشياء لا يتأتّى اصلاحها، وحيوانات لا يمكن تأديبها، كذا فى ذات الانسان قوى لا يتأتّى اصلاحها وتهذيبها، فكان له مع تلك القوى قصور. قال اللّه، تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ. نبّه على انّ الانسان لا يكاد يخرج من دنياه (161 ر)، وقد قضى وطره، ولهذا قال اللّه، تعالى: فى حقّ العقلاء العارفين الّذين استضائوا بشغله من نور التوحيد، يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وهذا دليل على انّهم لا يصلون الى ما يطلبون من المعلومات وحقايق الاشياء وهم بدنيّون.

(1570) وقال جعفر بن محمد الصادق، عليه السّلام: من ظنّ انّه يصل الى الحقّ ببذل المجهود، فهو متعنّ، ومن زعم انه يصل اليه بغير بذل المجهود، فهو متمنّ. وقال اللّه، تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا، خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ. وقال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ. والانسان ما دام فى دنياه، لا ينفكّ من مشاركة البهائم والسّباع، لكونه حيوانا محتاجا الى ما يحتاج اليه السباع ومن مشاركة الاشجار والنبات، لكونه محتاجا الى ما يحتاج اليه الاشجار.

فالانسان اذا ما لم يقتحم العقبة، ولم يفكّ الرقبة، لم يتعرّ من الحاجات البدنية، ولم يامن شياطين الانس والجنّ، وكيف يامن، وقد قال اللّه،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 333

تعالى: وكذلك جَعَلْنا لكُلِّ شى‏ءٍ عَدَداً. (1571) قوله: بحدوث خلقه على وجوده، يعنى: انّ ممكن الوجود يحتاج الى واجب الوجود. (1572) قوله: بل تجلّى لها وبها امتنع منها واليها حاكمها اى ظهر اللّه، تعالى، علما ومعرفة لاصحاب العقول بالعقول، فتجلّى لنفسه بالعقول، لانّها دالة على اللّه، تعالى، من حيث انّ وجود العلم فى القلب لا من جهة صاحبه لا يقدر عليه الّا اللّه، تعالى، فالعقل يدلّ دلالة على اللّه لوقوعه على وجه لا لجنسه، لانّه من جنس الاعتقاد، وهو مقدور للعباد، يعنى الاعتقاد. (1573) وقوله: تجلّى، يحتمل انّه تجلّى بالعقول، اى ما ادركته العقول من الادلة. (1574) وقوله: بها امتنع منها، قال: لانّ الدليل لمّا دلّ على اللّه بصفات ذاته، فقد دلّ على انّه لا يشبه المرئيّات، فلذلك قا[ل‏]: تجلّى لها بها، وبها امتنع منها، على الوجهين الّلذين ذكرناهما فى نفس العقول، وما يعلم بها من الاشياء المخصوصة، اى الاجسام وبعض الاعراض الدالة على اللّه، تعالى. (1575) قوله: واليها حاكمها، قال (161 پ) وقوع الشّبهة للعقلاء اذا وقعت لهم، فالواجب عليهم ان يفزعوا الى ادلة العقول. فلمّا وكّلهم اللّه، تعالى، اى ما ثبت فى عقولهم من الادلة بتقرير اللّه، تعالى، فيها، وكانّه حاكم العباد الى عقولهم، فيجب التحاكم الى العقول. فما قضت العقول على صحّته فهو الحقّ، وما حكمت بابطاله فهو الباطل. والهاء فى «تجلّى لها» وفى «بها» و«منها» عائد الى الاذهان. والذّهن قوّة من قوى العقل. وكثيرا ما يطلق الاذهان على العقول. و

قال قوم: تجلى للعقول بالعقول، كما يتجلّى نور الشمس للابصار. بالابصار. وما امتنع منها، اى لضعف العقول، امتنع منها، كما يمتنع نور الشمس لضعف الابصار منها. وليس للابصار قوّة محاذات‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 334

الشّمس.

(1576) قوله: واليها حاكمها، يعنى: والى الاذهان حاكم الاذهان. فانّ العقول هى الحاكمة بين المعقولات والموهومات الصّادقة والموهومات المزّيفة. (1577) قوله: تجلّى لها بها وبها امتنع منها على سبيل التفصيل، انّ العقل يدرك المعلومات، وليس له الى ادراك احواله سبيل. ووراء العقل ذوق الشعر. فانّ العالم باللغة ما لم يكن له ذوق الشعر، فهو لا يميّز بين الاوزان والاركان والفواصل والكامل والناقص والمنهوك. والعقل بليد بمعرفة اللّه، تعالى، ولكنّه [له‏] التذاذ به من حيث انّه معلوم، كما يلتذّ بسائر المعلومات، ولكن هذا الالتذاذ اكمل عنده.

فهذا معنى قوله: تجلّى لها بها. وهذا العرفان شبيه بالبصر الظاهر اذا التذّ بادراك شموم طيّب من حيث انه مبصر ذو لون، كما تلتذّ العين بمشاهدة المسك والعود والعنبر، ويلتذّ بمشاهدة الاطعمة اللذيذة. ولكن الذوق وراء ذلك، وهو يحصل من الاخلاص العملىّ والمواظبة على الفكر والذّكر. فلذلك قال: وبها امتنع منها، يعنى بعدم الذوق للعقل امتنع منها. وقد يعبّر عن هذا الذوق بعين اليقين. (1578) قوله: ليس بذى كبر، امتدّت به النّهايات، فكبّرته تجسيما.

قال الوبرىّ: هذا بناء على نفى التجسيم، لان النهاية انّما يصحّ على الاجسام. فالجسمية هى المصحّحة للكون فى الجهات، فالجهات (162 ر) انما تكون مع التحيّز. والكون فيها يستحيل مع ارتفاع التحيّز.

(1579) هذا ما سمح به الوقت من شرح نهج البلاغة. وتمّ بتمامه المجلد الاوّل من معارج نهج البلاغة فى التاسع من ربيع الاخر سنة اثنى وخمسين وخمسمائة بناحية بيهق من نواحى نيشابور.

غفر اللّه للمصنّف وللمعيد ولمن نظر فى هذا الكتاب بعين الرّضا

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 335

و الارتضاء والصّواب، واللّه عنده حسن المآب. اللّهم اغفر لعبدك الفقير الى رحمتك تاج الكرمانىّ، واحشره مع اهل بيت نبيّك محمد الاكرمين [من‏] بريّتك، وصلّى اللّه على محمد وآله اجمعين. فرغت من كتابة المجلدة يوم الاحد الرابع عشر من صفر سنة خمس وسبعمائة.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 336

(1580) بسم اللّه الرّحمن الرحيم ثقتى باللّه.

يقول ابو الحسن بن ابى القاسم البيهقى: ابتدأت بعد حمد اللّه والصلوة على محمّد وآله الاخيار الابرار بالمجلّد الثانى من كتاب معارج نهج البلاغة وهو شرح الكتاب فى يوم الثلثاء التاسع من شهر ربيع الآخر سنة اثنى وخمسين وخمسمائة.

(1581) فصل فى شرح مشكلات ما قال امير المؤمنين، عليه السلام، فى صفة عجيب خلق اصناف من الحيوان.

(1582) قوله: الابصار مدخولة، الدّخل العيب. ودخل الرّجل فهو مدخول اى فى عقله دخل. امّا وصف النملة فقد تقدّم على وفق ما انتهى الىّ من فوائد العلماء السابقين. وللنّملة مع لطافة شخصها وخفّة وزنها فى الشّمّ ما ليس لشى‏ء. واذا ماتت جرادة او ما يشبه الجرادة وليس يقربها ذرّة، ولا لها بالذرّ عهد فى ذلك المنزل، فلا يلبث ان يقتل ذرة ذرة قاصدة تلك الجرادة، ويحاول نقلها. فان تعذّر عليها، عادت راجعة الى قريتها، وتعود وخلفها كالخيط الاسود الممدود من النّمال. ويظهر للنّملة من جملة ما ذكرناه قوة حاسّة الشّمّ، ولا يمكن ان يشمّ الانسان الجايع عشر ذلك. ثم علوّ الهمّة والجرأة على محاولة نقل شى‏ء فى وزن جسمها بمائة مرّة وليس شى‏ء من الحيوانات يحمل (162 پ) ما يكون اضعاف وزنه سوى النّملة.

(1583) ومن العجائب انّ اللّه، تعالى، سخّر الدهاقين للنملة الضعيفة، حتّى يتكأد الدّهقان العناء فى الحرث والزّرع والحصاد، ولا يمكنه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 337

صيانه حرثه عن النّملة، فيجذبها الالهام الالهىّ من بطن الارض الى امحاء تلك الحرث، كانّ الدهقان كان اجيرا للنّملة. واذا اخرجت النّملة حبّها من بيتها، ليحفظها، ويكون بعد ذلك مطر، الهمها اللّه، تعالى، حتّى يردّ تلك الحبّة الى محلّها صيانة لطعامها عن اذى المطر. والدّهقان اذا افسد السّيل زرعه وحبوبه، لا يشعر بذلك. فانظر الى النّملة وقسمة اجزائها والغرف الّتى فى دماغها للحسّ المشترك والخيال والوهم والحواسّ الّتى لها من الشّمّ والذّوق واللّمس، وما فى بطنها من موضع للغذاء وموضع دخول الغذاء وموضع خروج الثفل، ومع ذلك فهى ثلث طبقات متّصلات. ذلك تقدير العزيز العليم.

(1583) وللنّمله مع صغر جثّتها فى دماغها الحسّ المشترك والخيال والوهم والمتخيّلة والحافظة، ولها حاسّة الشّم وحاسّة اللمس والقوة النامية والمولّدة والغاذية والجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة.

و ذكر واحد من المهندسين انّه احمى بالنار حلقة من الحديد ورمى بها الى الارض، لتبرد، فاشتملت الحلقة على نملة، فارادت التخلّص منها، فلقيها وهج النّار، فرجعت الى وسط الحلقة، وماتت فى مركز الحلقة بحيث كانت ابعد من الدّايرة.

و لو انّ بدن الذّرّة كانت مثل العقرب وعضّت انسانا، لكانت عضّتها احرّ من لسع العقرب.

و النملة من ذوات السّموم.

(1585) ومن اعاجيب النّملة انّها لا تتعرّض للجعل والجرادة وبنات وردان والزنابير والحنفساء، ما لم يكن بها عفن او قطع يد او رجل، فان حدث بها علّة، وثبت عليها، ودبّت اليها. ولا يكاد الحيّة يسلم من اذى النملة اذا كان بها ادنى عفن. (163 ر) فانظر الى النّمل واحتشاده فى جمع القوّة، وما له من الحدّة والتّشمير [فى جمع القوت‏] ما ليس للانسان مثله. وتراه تتعاون على النّقل كما يتعاون الناسّ على العمل. ثم لا يتخذ الزّبية [القرية] الّا فى نشز

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 338

من الارض، لكيلا يفيض عليها السيل ليغرقها. (1586) قوله عليه السلام: ان شئت قلت فى الجرادة، اذا تأمّلت حلقة الجرادة، وجدتها اضعف امثالها. واذا توجّهت عساكرها نحو بلدة لم يستطع احد دفعها. الا ترى ان ملكا من الملوك لو جمع خيله ورجله ليحمى بلاده من الجرادة، ما قدر على ذلك. افليس من الدلائل على عظم الخالق وقدرته انّه يبعث اضعف خلقه على اقوى خلقه، فلا يستطيع دفعه. ثم انّ الجراد ينساب على وجه الارض مثل السّيل، فيغشى السّهل والجبل. وان طار، ستر نور الشمس بكثرته. (1587) قوله: والحجر الحامس، الاحمس المكان الصّعب. قال العجّاج: وكم قطعنا من قفاف حمس. (1588) قوله: تفرق [هذه‏] اللّغات، اللّغة اصلها «لغى» او «لغو» والهاء عوض، وجمعها «لغى» مثل «برة وبرى» قال بعضهم: سمعت لغاتهم بفتح التاء، وشبّهها بالتاء الّتى توقف عليها بالهاء. والنسبة اليها «لغوىّ» ولا يقال «لغوىّ».

و قالت الاطبّاء: اختلاف اللّغات بسبب اختلاف الامزجة بسبب الاهوية والامكنة.

و يتمسّكون بما قال اللّه، تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً، وقال: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ، وقال اللّه، تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ، الى قوله: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ. (1589) قوله: الويل لمن انكر المقدّر وجحد المدبّر، معناه لا فساد فى العقائد اكثر من فساد التّعطيل، وهم الّذين يقولون: انّ الانسان خلق سدى.

و الانسان كما قال امير المؤمنين حكاية عنهم كالنّبات البرّىّ يبدو من غير زرّاع، ويهلك من غير حاصد. وقد نبّه اللّه، تعالى، على ذلك، وابطل عقائد المعطّلين، حيث قال: أَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، (163 پ) أَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 339

و فحوى هذه الاية، انّهم لو تدبّروا انفسهم، وعرفوها، لعرفوا اللّه، تعالى، والمبدء والمعاد، ولما انكروا البعث الّذى هو لقاء ربّهم. وقوله، تعالى: وَلا تَكُونُوا، يعنى: انّهم لو عرفوا انفسهم، لعرفوا اللّه، تعالى. فلمّا جهلوه، دلّ جهلهم ايّاه على جهلهم ايّاه. (1590) قوله: دعا كلّ طاير باسمه،

 

 

قيل: معناه كتب فى اللّوح المحفوظ كلّ لغة تواضع عليها العباد فى المستقبل، وذكر الاسامى الّتى يتواضعون عليها، وذكر لكلّ اسم مسمّاه

و ذكر الطاير اراد جميع الاجناس والانواع، كما قال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى‏ وَنَكْتُبُ ما. [هذا] قوله، واقول تأمّل جسم الطاير وخلقته. فانّه حين قدر ان يكون طيّارا فى الجوّ، خفّف جسمه، وادمج خلقه. فاقتصر به من القوائم على اثنين، ومن الاصابع الخمس على اربع، ومن منفذين للزّبل والبول على واحد، ثم خلقه تعالى ذا جؤجوء، محدّب ليسهل عليه خرق الهواء، كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة لينشقّ الماء. وخلق فى جناحه وذنبه ريشات طوالا متانا لينهض به الى الطّيران، وكسى جسمه كلّه الرّيش، ليتداخل الهواء فيقلب. فلما كان طعامه الحبّ واللّحم يبلعهما بلعا بلا مضغ، نقص من خلقه الاسنان، وخلق لها منقارا صلبا، واعانه بفضل حرارة فى الجوف يستغنى بها عن التقدّم للطيران فى مضغه. ثم خلقه، تعالى، يبيض بيضا ولا يلد ولادة، كيلا يثقل عن الطّيران. فلو كانت الفراخ فى جوفه، لاثقلته، وعاقته عن الطّيران. ثم يقعد الطاير على البيض فيحضنه. ويلقط الطّعم بعد ان يستقرّ فى حوصلته، فيغدو به فراخه. وهذا من فعله يشهد على انّه معطوف من جهة اللّه، تعالى، على فراخه، لعلّه لا يعرفها الطّاير، وهى دوام النّسل وبقاؤه. وفكّر فى حوصلة الطّاير، فانّ مسلك الطّعم الى القانصة ضيّق لا ينفذ فيه الطّعم الاوّل الا قليلا قليلا. فلو كان هذا الطائر يلتقط حبّة ثانية حتّى يصير الاولى الى القانصة، لطال ذلك عليه. فخلق، تعالى، له الحوصلة (164 ر) كالمخلاة المعلقة امامه، فيها ما ادرك من‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 340

المطعم بسرعة، ثم ينفذ الى القانصة على مهل. فلو كان اختلاف الالوان والاشكال فى الطّيور انّما يكون من قبل امتزاج الاخلاط واختلاف مقاديرها، كما قاله جهّال الطّبيعيّين، لما كان فى طاير واحد هذه العجائب. فانظر فى الوشى الذى تراه فى الطواويس والدّرّاج والتدرّج على استواء ومقابلة على نحو ما يخطّ بالاقلام، كيف يأتى بها الامتزاج المهمل على شكل واحد لا يختلف. (1591) احصى عدد الرّيش منها، انظر الى الرّيش منها كنسج الثّوب، وفى وسط الريش عمود غليظ متين اجوف، نسج عليه ذلك، ليمسكه بصلابته وهو القصبة الّتى يكون فى وسط الريش، وهو مع ذلك اجوف ليخفّ على الطائر، فلا يعوقه على الطّيران. ومع ذلك احصى، تعالى وتقدس، عدد الريش منها والنّفس، يعنى انّه، تعالى، عالم بجميع المعلومات مجملها ومفصّلها كلّها وجزئها. (1592) قوله: ارسى قوائمها على النّدى واليبس، تفكّر فى الطائر الّذى هو طويل السّاقين، فانه يرعى فى ضحضاح من الماء ويتأمّل ما يدبّ فى الماء وينساب فيخطو ذلك الطائر خطوا رقيقا حتى يتناوله. ولو كان قصير الساقين، لثار الماء، وزعر منه الصّيد. وكان عنقه طويلا، ليتمكّن من تناول الاطعمة من الارض، لانّ من كان ساقه طويلا وهو اوقص لا يتمكّن من تناول الاطعمة.

(1593) وانظر الى العصافير كيف يطلب طعامها فى بياض نهارها، ولا يتيسّر لها دفعة، وينالها بالطلب والحركة. فسبحن من خلق العصفور على هذه الهيئة وقربه وبعده، فلم يجعله ممّا لا يقدر عليه الصيّاد عند الحاجة اليه، ولم يجعله مع ضعفه وصغر جثّته مما ينال بالهوينا.

انظر الى الخفّاش، فان معاشها من الحيوانات تنشر فى الجوّ من البعوض والفراش واشباه ذلك من الجراد واليعاسيب. وهذه الحيوانات بالليل مبثوثة فى الجوّ. فانظر كيف وجّه الرّزق الى الّتى لا يخرج الا باللّيل من هذه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 341

الضّروب. وذكر فى الكتب الكبيرة انّ الدّخّل (164 پ) قد عشّش فى بعض الاشجار، فاقبلت نحوه حيّة لتبتلعه. فبينا هو ينقلب ويضطرب فى طلب حيلة للنّجاة منها، اذا وجد حسكة، فحملها، والقيها فى فم الحيّة، فلم تزل الحيّة تلتوى وتنقلب، حتّى ماتت، فقيل معنى: (1594) قوله: دعا كلّ طائر باسمه، اى الهمه رشده. يقال فى الاستعارات دعاه باسمه، اى نبهّه على مقصوده، وافاض عليه مواهبه. ويقال ما دعاه باسمه، اذا لم يلتفت اليه.

الخطبة 204

و من خطبة اخرى له فى التوحيد،

(1595) قوله: ما وحدّه من كيّفه ولا حقيقته اصاب من مثّله،

قال المتكلّمون من اثبت للشى‏ء مثلا ونظيرا، فقد كيّفه. وقال غيرهم من اطلق عليه مقولة الكيف، فقد كيّفه، ومن كيفّه، فقد سدّ على نفسه باب التوحيد.

و لا حقيقته اصاب من مثّله، من اثبت للّه مثلا، فقد توجّه اعتقاده الى غير اللّه. واذا لم يتعلّق اعتقاده به، تعالى، فهو غير عارف به. (1596) قول لا صمده من اشار اليه، الصّمد الذى يصمد اليه فى الحوايج، وهو نهاية الغايات فى انفس المخلوقين، يقصد نحوه لمعرفة الانفس فى ضمايرها وغامض عقولها، انّه الغاية الّتى يضطرّ اليها الخلايق عند الكرب والشّدايد، فيلجأ اليه ويصمد نحوه. ويستغيث به عند الضرورة ويعلم انّه لا مقصد الا نحوه ولا ملجأ الّا اليه. فهو الصّمد المقصود لا من طريق الصّمد الحسّىّ المكانىّ. فلذلك قال: لا صمده من اشار اليه، وتوّهمه. و

قيل: الصّمد الغنىّ. فمن اثبت له مكانا، فقد اثبت له حاجة الى المكان، وتوّهمه جسما، فلا غنى للجسم من الاكوان. ومن توهّمه عرضا، فالعرض محتاج الى محدث والى محلّ. وكلّ ذلك مخالف للغنى.

(1597) قوله: كلّ معروف بنفسه مصنوع، لانّ ما عرف بنفسه هو المشاهد المدرك من جنس الاجسام ومن جنس الاعراض. والادراك يتعلّق‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 342

باخصّ اوصاف الشى‏ء، فحقيقة الشّى‏ء ما اقتضاه طريق معرفته. وكل شى‏ء عرف بنفسه فهو المحسوس، وما عرف بافعاله ولوازمه فهو المعقول. ولا يلزم من هذا ان يكون كلّ معروف صانعا لغيره (165 ر) قديما، لانّ هذا عكس غير مقبول. (1599) لا باضطراب آلة، لانّ اللّه، تعالى، يفعل اختراعا من غير مماسّة، واستحال عليه المجاورة، ولا يشغله شأن عن شأن. والفعل بالاسباب لا يقتضى الجسميّة والمجاورة. (1600) قوله: كلّ قائم فى سواه معلول، يعنى كلّ ما يحتاج فى وجوده الى غيره فهو محدث. (1601) قوله: مقدّر لا بحول فكرة، التقدير المضاف الى اللّه، تعالى، عند اكثر المتكلّمين هو العلم بما كان وكلّ ما لم يكن وكلّ ما يكون.

و التقدير اذا ما لم يكن من عالم، فلا بدّ له من تفكّر وتدبّر، تعالى اللّه عن ذلك. (1602) قوله: غنىّ لا باستفاده، فالغنىّ على قسمين: غنىّ بالشّى‏ء، وذلك مختصّ بالعباد، غنىّ عن الشى‏ء وذلك مختصّ باللّه، تعالى. (1603) قوله سبق الاوقات كونه، يعنى انّه كان فى الازل، تعالى وتقدس، قبل الزمان والوقت. (1604) قوله: والعدم وجوده، يعنى: والعدم الزمانىّ وجوده، والعدم الزمانىّ عدم الشى‏ء فى شى‏ء من شأنه ان يوجد، كعدم صورة الانسان من نطفة، فانّ ذلك العدم متأخّر عن وجود النطفة، وعدم صورة السيف من الحديد، فانّ الحديد متقدّم، وعدم صورة السيف متأخّر عن وجود الحديد. فعدم شى‏ء من شى‏ء من شأنه ان يمكن له وجود عدم متأخّر تقديرا عن وجود المحدثات.

فلذلك قال: سبق العدم وجوده، اى العدم الملحق ببعض المحدثات.

و

قال بعض النّاس: إنّ العدم ايضا بوجه مبداء من المبادى‏ء. فلذلك قال:

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 343

هو سابق متقدّم على جميع المبادى.

(1605) قول: والابتدآء ازله، دليل على انّه متقدّم بالوجود الحقيقىّ على جميع المبادى، تقدّم الفاعل الحقيقىّ على الفعل، لا كتقدّم العلّة على المعلول، تعالى اللّه عن ذلك.

(1607) قال الامام الوبرىّ معناه، كلّ ممكن يجوز وجوده ويجوز عدمه مطلقا من غير اعتبار سبب. وجواز العدم محال فى حقّ اللّه، تعالى، لانّه واجب الوجود، فكان الوجود اولى به من العدم. فهذا سبق وجوده العدم، اى العدم (165 پ) المطلق المضاف الى الموجود المطلق.

و قال ايضا [يجوز ان‏] يكون المراد بالعدم عدم كل شى‏ء سواه، فليس فى المعدومات ما يستحيل وجوده. وما يستحيل وجوده هو الممتنع. واذا جار الوجود على كل معدوم، فصفة العدم تقبل التبدّل. والقديم، تعالى، موجود، ووجوده لا يتبدّل. فكان وجوده، تعالى، سابقا على عدم كلّ شى‏ء، لكن بمعنى انّه وجوده فى كلّ وقت واجب، وكان اولى من عدم كلّ معدوم عدمه ليس بواجب.

(1608) وقال غيره لوجود الممكن سبب وجودىّ، ولعدمه سبب عدمىّ. فالممكن له من غيره الوجود، ومن غيره العدم. وليس له باعتبار ذاته الوجود ولا العدم، بل لا ينفّك عن جواز الوجود وجواز العدم. فسبق واجب الوجود، تعالى، يعتبر من تلك الجهة التى ذكرناها.

(1609) قوله: يتشعيره المشاعر عرف ان لا مشعر له. المشاعر الحواسّ.

قال الشّاعر:

         والراس مرتفع فيه مشاعره   ***   يهدى السّبيل له سمع وعينان‏

 

يعنى اذا تحقّق انّه خالق المشاعر، فقد تحقّق انّه لا حواسّ له. والابتداء ازله، سبق ازله وجوده،

قال الامام الوبرىّ: يحتمل فيها [ما]

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 344

ذكرنا من المعنيين فيما قبله: احدهما سبق ازله ووجوده ابتداء كلّ محدث، فهو موجود فيما لم يزل، ولا شى‏ء غيره فى الوجود. والثّانى انّ الابتداء هو الحدوث، وانما يجوز الحدوث على ما كان معدوما، وانما يجوز العدم على غير القديم. فاذا كان قديما، لاستحال عدمه، واذا استحال عدمه، استحال حدوثه، وهو الابتداء. ففى احد التأويلين يرجع التاويل الى غيره، وفى الثانى يرجع اليه تقديرا، ثمّ يكشف الدليل على استحالته.

(1610) قوله وبمضادّته بين الاشياء عرف ان لا ضدّ له، لانّه لو كان فيها ما يضادّه، تعالى، لم يجز وجوده شى‏ء منها مع وجوده، تعالى، لاستحالة وجود الضدّين. وتضادّهما يرجع الى الوجود، لا الى المحال. ولا يجوز ان يكون غير هذه الاشياء وغير هذه الاجناس، ضدا له، تعالى، لا ما ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا قديم، (166 ر) فهو غير معقول، وما لا يعقل لا يجوز تعليق الحكم به، وما لا يكون معقولا فهو ابعد من المحال، لانّ المحال معقول. (1611) قوله: وبمغارقته بين الاشياء عرف ان لا قرين له، لانّه اذا لم يكن فيها ضدّ له، لم يجز ان يكون فيها مثل له، لانّها محدثات، وهو، تعالى، قديم ولا يجوز ان يكون المحدث مثلا للقديم. (1612) قوله: ضادّ النور بالظلمة،

قال الامام الوبرىّ: المضادّة بين الاسود والابيض لا يرجع الى الجسمين، لان الاجسام متماثلة، والمثل لا يضادّ مثله. وانما المضادّة ترجع الى لونها وهو السواد والبياض، وبطريق المجاز يقال فى الجسمين: انّهما متضادّان.

(1613) قوله: لا يشمل بحدّ،

قال و: لانّ الحدود اقطار الشى‏ء وجوانبه، والاقطار انما يشتمل على جواهر مجتمعة. واذا لم يكن القديم، تعالى، جوهرا ولا جسما، استحالت عليه الاقطار والحدود.

(1614) قوله: ولا يحسب بعدّ،

قال و: انّ الشى‏ء انما يعدّ اذا كان ذا اجزآء متماثلة، ذلك لا يجوز على اللّه، تعالى، لانّه لا جزوء له ولا مثل له،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 345

فلا يجوز على اللّه، تعالى. وهذا معنى قوله: كلّ موصوف بالوحدة غيره.

(1615) قوله: فانّما تحدّ الادوات انفسها وتشير الآلات الى نظايرها،

قال الامام الوبرىّ: انّ بعض الانسان يكون حدّا له، لانّ الحدّ طرفه.

و انما يجوز الطّرف للمتحيّز المتبعض الّذى صار فى حكم شى‏ء واحد بحلول الحياة فيه. فالاداة لها غايتان: احديهما جملتها التى الادوات بعضها. والثانية ما يشير اليه ويقصد نحوه، وهو الشاغل للسّمت الفارغ. فكما وجب ان يكون غايتها الاولى من جنس الادات، فيكون جسما شاغلا للجهة، وجب ان يكون الغاية الثانية، وهى المشار اليها، جسما شاغلا للسّمت المقابل للاداة، وهى معنى:

(1616) قوله: ويشير الآلات الى نظائرها، لانّ الجسم لا يجوز ان يقابل الا جسما مثله. فاذا كان احد المقابلين جسما، وهو المشير، وجب ان يكون (166 پ) المشار اليه جسما مثله. وكما لا يجوز ان يكون المشير غير جسم، كذلك المشار اليه لا يكون غير جسم. ولهذا يستحيل ان يكون اللّه، تعالى، مشارا اليه، لانّه يستحيل ان يكون جسما شاغلا للسمت، واستحال ايضا ان يكون مشيرا. فلهذا قال: ويشير الالات الى نظايرها. (1617) قوله: منعتها «منذ» القدميّة،

قال الامام الوبرىّ: انّ هذه الكلمة وضعت لافادة تغيير وقت الحدوث، فيقال: ما رايت فلانا منذ شهر، فيفيد انقطاع ذلك من غاية الشهر. واذا كان كذلك فما من شى‏ء من الاشياء سوى اللّه، تعالى، الا ويجوز اطلاق هذه الكلمة عليه، فيقال: انّ كذا وجد منذ كذا شهرا، ومنذ عام، او منذ الف عام، الى ما زاد على ذلك. واذا صحبتها علامه الحدوث، استحالت ان يكون قديمة. واذا استحال اطلاق هذا اللفظ على اللّه، تعالى، لكونه قديما، فلا يقال كان اللّه منذ كذا، دلّ على انّه مخالف للاشياء. وقد روى عن امير المؤمنين على انّه سئل متى كان اللّه فاجاب وقال: متى لم يكن.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 346

(1618) قوله وحمتها «قد» الازلية،

قال و: لانّها اداة تفيد تحقيق المضىّ، امّا مضىّ الشى‏ء او مضىّ وقت حدوثه. وكلا هما دليلان على استحالة القدم فيها، ولهذا لا يقال فى اللّه. قد كان اللّه.

و قوله وجنّبتها «لولا» التكملة

قال الامام الوبرىّ: انّ اللّه تعالى، قضى ان يكون خلقه شاهدا ودليلا وداعيا الى طلب الآخرة.

(1619) قوله: اذا لتفاوتت ذاته، ولتجزّأ كنهه،

قال و: لو جاز عليه الحركة والسكون، وهو قديم، لتفاوت الذّات، لتناقض الاحكام، لانّه يستحيل عليه الحركة لكونه قديما. ولو جاز عليه الحركة، لكان محدثا. فهذا هو التفاوت.

و لو جاز زواله وفناءه، لوجب ان يكون القديم غيره، اذ لا بدّ من قديم ينتهى اليه الحوادث.

(1620) فهذا معنى قوله: ولالتمس التّمام، اذ لزمه النقصان. ولو كان جسما لحلول الحوادث فيه، لكان محدثا، فلا تأثير للحوادث فيه.

فهذا معنى قوله: (167 ر) وخرج بسلطان الامتناع من ان يؤثّر فيه ما يؤثّر فى غيره. (1621) قوله منعتها «منذ» القدميّة، وحمتها «قد» الازليّة،

قال قوم: يعنى منعت تلك الادوات والالات بسبب اطلاق لفظ «منذ» و«قد» عليها من ان يوصف بالقدميّة والازليّة، فمنعتها وحمتها

و جنّبتها. ولو لا تكملة نظام العالم والحكمة بتلك الحوادث، [لم توجد تلك الوسائط والاسباب‏].

و تكملة النظام لا يكمّل اللّه، تعالى، فانّ اللّه، تعالى، منزّه عن ان يكمّل بشى‏ء. (1622) قوله: بها تجلّى صانعها للعقول، تحقّق انّ الهاء عائدة الى الاشياء المتقدّمة. يعنى بدلايل المحدثات توسّل العقلاء الى معرفة اللّه، تعالى.

و قيل: بالقدمة تجلى الصانع للعقول. وبالازليّة [امتنع‏] عن ان يكون محسوسا، لانّ الادراك يتعلّق باخصّ الوصف، ولا يمكن ادراك اخصّ اوصاف‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 347

اللّه، تعالى.

(1623) قوله انّما كلامه، سبحانه، فعل منه انشأه،

قال الامام الغزالىّ، رحمه اللّه، اعلم انّ لكلام اللّه، تعالى، صورة ومعنى، بينهما بون بعيد، وحقيقة كلام اللّه غير صورته. واعتبر ذلك بالنّار، فانّ رقمها فى الكتابة سوى لفظ اللافظ بها، وانّ اثرها فى الاعيان وهو الاحراق سوى حقيقتها، ورقم النّار غير محرق. فان الرّقم لا يحرق القرطاس ولا لفظها، فان اللفظ لا يحرق الفم، وانما حقيقتها فى المحرقيّة والاحراق اثرها لا حقيقتها. فللقران حروف مرقومة والفاظ مقرؤة متلوّة وحقيقة قال فيها سلف الاسلام: القرآن كلام اللّه ووحيه وتنزيله غير مخلوق. هذا كلام الامام الغزالىّ وغيره من علماء السّلف، ولساير المتكلّمين فى هذه المسئلة كلام طويل لا يحتمل الموضع بيانه.

(1624) قوله: ومثله، يعنى بالالفاظ والحروف والكتابة. (1625) قوله: فيستوى الصّانع والمصنوع ويتكافأ المبتدع والبديع، هذا يرّد على الذين يقولون: ان العالم معلول، والمعلول لا ينفكّ عن العلة.

و يقولون انّ البارى علّة، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا. (1626) قوله لا بلفظ، لانّ اللّفظ ما يلفظ (167 پ) من الفم، تعالى اللّه عن ذلك. (1627) قوله يحفظ ولا يتحفظ، والحفظ من اللّه دفاعه المكارة عن عباده، والتحفّظ [صيانة النفس عن المكروه، تعالى اللّه عن ذلك‏]. (1628) قوله: يريد ولا يضمر، لان الاضمار احداث ارادة فى القلب وانطواء القلب عليها. (1629) قوله: يحبّ ويرضى من غير رقّة، الداعى للعباد الى المحبّة رقّة القلب وضعفه عن احتمال ما يلقاه غيره من الشدّة وسوء الحال. (1630) قوله: ويغضب من غير مشقة، الغضب فى عباده، غليان دم القلب، ولا يكون ذلك الا عن مشقة، تعالى اللّه عن ذلك.

 

   ***      ***   ارج‏نهج‏البلاغة، متن    ، صفحة 348

و الغضب عند المتكلمين ارادة الاضرار بالغير او كراهة نفع له، فيرضى اللّه ويحبّ احسانها ويغضب عدلا. (1631) قوله: [يقول‏] لما اراد [كونه‏]: كن، فيكون.

قال الامام الوبرىّ: معناه اذا اراد وشاء، فعل من غير تراخ وانفكاك.

(1632) قوله: ارساها على غير قرار، لانّه لا بدّ للعالم من نهاية، فلو كان لها قرار، لكان الكلام فى القرار كالكلام فى الارض. و

قيل: اى جعل الارض فى الوسط والسماء محيطا بها، والهواء محيطا بالماء، والنار محيطة بالهواء، والفلك محيطا بالنار.

(1633) قوله: مراحها وسائمها، المراح بضم الميم حيث ياوى اليه الابل والغنم بالليل، والمراد هاهنا الحيوانات الّتى تروح الى مراحها. والسّوام والسّائم بمعنى وهو المال الرّاعى. (1634) قوله: ومتبلّدة اممها واكياسها، يختلف الحيوانات بالكيس والخرق، فان الغنم شديد الخرق يهيم فى اوجهها لا لمقصود ولا لغرض، ولا يهتدى الى الاستدفآء فى الشّتاء، بل ربما افلت من الكنّ الى البرد. واذا مطر الغنم لم يبرح موضعه حتى يهلك، ويتبع التّيوس طبعا، والمعز يقف وقوف حيران حتّى يجر الراعى واحدا منها بناصيته فيتبعه البواقى.

لكن المعزى اقلّ كسلا من الشاة واشدّ انسا بالنّاس واضعف فى البرد.

و الجميع منها فقد يخاف الرّعد خوفا شديدا.

و الايّل كيّس اوّل ما نبت قرنه بعد الاسقاط، يشمّسه ثم يمتحنه على الشجر. فاذا حكّ به، ولم يألم، برزعن بواريه واثقا بسلاحه. ويتداوى من لسع الحيّة ومن كثرة اكلها ايّاه بالسراطين فيأكلها.

و الأيّل يتبع المطرب ويشغل به (168 ر) حين يدركه الرّاشق من خلف وينتظر ارخاءها للاذنين، فانّهما ان كانت منتصبتين، لم يخف عليها الهمس.

و الحبارى تقاتل الافعى. واذا لسعتها الافعى، تعالج نفسها ببقلة، يقال‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 349

لها الخسّ.

و ابن عرس يستظهر عند قتال الحيّة باكل السّذاب، فان السّذاب والنّكهة السذابيّة ممّا يشمئزّ منه الافعى.

و اللقلق يداوى جراحته بالسعتر الجبلىّ. والقنفذ يحسّ بالشمال والجنوب قبل الهبوب، فيسدّ جحره، ويغيّر المدخل.

و الخطّاف صنّاع، جدّا فى اتّخاذ العشّ من الطّين والخشبة، وان اعوزه الطّين، ابتلّ وتمرّغ فى التراب، ليحمل جناحاه قدرا من الطّين.

و خرق الدّحاج بيّن واضح.

و طاير يقال له: يا فى، يقاتل العقاب، ويغلبه، ويغنّى فى غاية اللّذة.

و اشجى نياحته ما يكون عند موته، وهو ينوح قبل موته باشجى نياحته، وله الهام من اللّه، تعالى، عند موته، كأنّه ينوح على نفسه. فذلك طرف من خرق الحيوانات وتبلّدهم وكياستهم، كما اشار اليه امير المؤمنين، عليه السّلام. (1635) قوله: على احداث بعوضة ما قدرت على احداثها.

قال الامام الوبرىّ انّ جنس الجواهر يستحيل كونه من المخلوقين، ولا يقدر على اختراع الاجسام واتخاذها الّا اللّه.

(1636) قوله: مقرّة بالعجز عن انشائها، هذا هو الّذى قررّناه انّ اللّه، تعالى، لمّا اختصّ بانشاء الاجسام اختصّ بافنائها. (1637) قوله: بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، لانّ الاشياء اذا كانت معدومة، استحالت ان تكون قادرة، فلا يصحّ ان يحدث انفسها، ولا ان يعين فى احداثها، ولا من حال جهل وعمى الى علم والتماس.

قال الامام الوبرىّ: هذا ردّ واضح على من زعم انّ المعدوم لا يكون معلوما، حتّى يوجد، ثمّ يعلمه اللّه حينئذ، لا كما زعم ابو الحسين انّه يتجدّد كون اللّه عالما عند تجدّد الاشياء.

(1638) قوله: لا لسأم، اى الموت.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 350

الخطبة 205

و من خطبة له فى الملاحم

(1639) قوله: (168 پ) ضربة السيف على المؤمن اهون من الدّرهم من حلّه، ذاك خبر عن صعوبة كسب الحلال فى ذلك الزمان، حيث يكون المعطى اعظم اجرا من المعطى.

قال و: لانّ المعطى اذا جمع من الحلال والحرام، ثم ناعطى الفقير، فانّ اخذ الفقير قد يكون طاعة، اذا كان نيّته فى الاخذ سدّ حاجته ودفع الآفة عن نفسه وعن عياله. واعطاء المعطى يكون معصية. والتقرّب الى اللّه ممّا يجتمع من الحرام والحلال معصية. والفقير الآخذ ربما لا يعلم حال المال ولا حال المعطى، فيظنّ بالمعطى خيرا، فهو معذور ومشكور بالقبول والانتفاع.

(1640) قوله ما اطول هذا العناء وابعد هذا الرجاء، هذا وصف لامتداد زمان الفتنة وكثرة الفتن. وابعد هذا الرجاء، هذا، وقلّ ما يرجى الصلاح لاهل الزمان بسبب وفات الاخيار وكثرة الفجّار. (1641) قوله: ايّها الناس القوا هذه الازمّة، هذا ترغيب فى قطع العلايق الدّنياويّة والقناعة منها باليسير وتحذير سوء عاقبة الاغنياء والمترفين.

و عبّر عن الهلاك فى العاقبّة بقوله تحمل ظهورها الاثقال. (1642) قوله: ولا تصدّعوا على سلطانكم، يقال تصدّع الامر تفرّق، وتصدّع القوم تفرّقوا. (1643) قوله: يهلك فى لهبها المؤمن، ويسلم فيها غير المسلم، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً.

الخطبة 206

و من خطبة له اخرى

(1644) قوله: سابقوا الى منازلكم الّتى امرتم ان تعمروها، الى آخر الكلام، الموت انتقال من منزل الى منزل. من وثق بما له عند اللّه، لم يكرهه. ولا يكره الموت والانتقال من هذا المنزل الادنى الى المنزل الاعلى الّا رجلان: رجل لا يؤمن بالاخرة، كما قال اللّه، تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى‏ حَياةٍ. والثانى مؤمن يخاف ذنبه. فمن كان مؤمنا بالآخرة، ولا يخاف ذنبه، فانه يحبّ الموت ويتمنّاه. كما قال النبىّ،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 351

عليه السلام، من احبّ لقاء اللّه (169 ر) احب اللّه لقائه. وقد ذكر اللّه الموت والاماتة من قبيل النّعم، فقال: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ. فجعل الاماتة انعاما، كما جعل الاحياء انعاما. واوّل الاية يدل على ذلك، حيث قال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، والموت نعمة، لان الحيوة الباقية الّتى بعد الموت نعمة، ولا سبيل اليها الا بالموت، والسبب الّذى به يتوصّل الى النعمة [نعمة].

و قيل: لمّا مات داود الطّائىّ رحمه اللّه، نادى قبل موته باعلى صوته: اطلق داود من السّجن ونجا. قال اللّه، تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ.

(1645) وسئل الامام مسعود الصّوابىّ فى سكرات موته عن حاله، فقال: اليس مصيرى اليه. وقيل النّوى المزروعة لا تصير نخلا مثمرا الا بعد دفنها فى الارض وفسادها، وكذلك البرّ لا يمكن التغذّى به الّا ان يطحن ويعجن ويطبخ، فيتغيّر تغيّرا كثيرا، كلّ ذلك فساد فى الظاهر. فكذلك الانسان يموت ويفنى، والفناء والموت فسادان، ولكن بذلك الفساد يتوصّل الى البقاء الابدى. ولا يرضى بالبقاء فى دار الدّنيا الا من كانت همّته دنيّة، ويكون رضاه بالحيوة الدنيا رضى الخنافس والجعلان بالاوراث والنّجاسات.

الخطبة 207

 

(1646) [قوله:] فمن الايمان ما يكون ثابتا مستقرا فى القلوب، ومنه ما يكون عوارى بين القلوب والصدور، معناه: من النّاس من يخلص فى ايمانه، ومنهم من ينافق. والبراءة انّما تقع على الثبات فى مستقبل الاوقات. فمن مات مصرا على كفر او نفاق او كبيرة، فامّا ما دام حيّا، فانّه يرجى له التوبة، فانّما يتبرّأ منه فى الحال لا فى المستقبل. فهذا معنى: (1647) قوله: فاذا كانت لكم براءة من احد، فقفوه حتّى يحضره الموت. (1648) [قوله:] الهجرة قائمة على حدّها الاوّل، معناه ما دام تاركا للواجب من اركان الدين ومات على ذلك.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 352

(1649) [قوله:] ما كان للّه فى احد من حاجة، اى من اظهر الايمان او اخفاه تقية وخوفا من الجبابرة، فلا حاجة للّه الى احد. (169 پ). (1650) [قوله:] لا يقع اسم الهجرة على احد الا بمعرفة الحجّة، لان الهجرة انّما تقام بعد المعرفة بوجوبها. ولا يعرف وجوبها الا من عرف الرسول ومن يقوم مقام الرسول بعده. ومن حيل بينه وبين المصير الى الرسول والى الائمة، فهو كالمهاجر فى العقيدة. قال اللّه، تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ. (1651) قوله: بطرق السماء اعلم، يعنى انا عالم بالعلوم السماويّة كما انا عالم بالعلوم الارضيّة.

قال الوبرىّ: معناه انّ علمه بالدين اوفى من علمه بالدنيا.

الخطبة 208

(1652) قوله: وانتم والساعة فى قرن، قوله: القرن حبل يقرن به البعيران. قال الشّاعر: انّى لدى الباب كالمسدود فى قرن.

و القرن البعير المقرون بآخر. قال الشاعر: رغا قرن منها وكاس عقير (1653) [قوله:] اشراط الساعة، علاماتها. والشّرط بالتحريك العلامة، ورذال المال، قال الشّاعر: وفى شرط المعزى لهنّ مهور

قال الكميت: ولم اذممهم شرطا ودونا. والاشراط الارذال والاشراف، وهو من الاضداد. وسميّت علامات الساعة اشراطها، لانّها توافى ارذال النّاس، لقول النّبىّ، عليه السلام: لا يقوم السّاعة حتّى يكون المطر قيظا، والولد غيظا وتفيض اللّئام فيضا.

(1654) [قوله:] والافراط، مأخوذة من قول العرب افراط الصبّح اوّل تباشيره. والفرط الفرس السّريعة التى يتقدّم الخيل. والفرط الذى يتقدّم الورّاد.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 353

كانّ الفرط فى هذه المواضع لفظ وضع للسير والتقدّم. (1655) قوله: متغيّط زفيرها، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً، غايظه، فاغتاظ، وتغيّظ. (1656) قوله: الزموا الارض، لا تنتقلوا والزموا بيوتكم. (1657) قوله: لا تحرّكو بايديكم وسيوفكم فى هوى السنتكم، يعنى اكظموا الغيظ. وهذا ما امر به اللّه ورسول اللّه حيث قال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ.

الخطبة 209

و من خطبة له ايضا

(1658) قوله: على نعمه التّوأم، اى الّتى يتبع بعضها بعضا، من التّوأم على وزن فوعل، يقال هذه توأمة، والجمع توائم، مثل قشاعم، وتؤآم. قال (142 ر) الراجز: (170 ر).

قالت لنا ودمعها تؤآم

         كالدّر اذ اسلمه النّظام   ***   على الّذين ارتحلوا السلام‏

 

و التّؤام الثانى من سهام الميسر. قال الخليل: تقدير توأم فوعل، واصله ووأم، فابدل من احدى الواوين تاء. (1659) قوله، ولا حضرة ملأ، اى استعانة من عقلاء حاضرين ذوى البصائر والاذهان الثاقبة. (1660) قوله: يموجون فى حيرة، اى يضطربون. قوله: التّقوى حقّ اللّه عليكم، اى امر محكم اوجبه اللّه عليكم، وهى يعنى التّقوى توجب على اللّه حقّكم اى ثوابكم. (1661) قوله: فى اليوم الحرز، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ، يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وفى غد الطريق الى الجنّة، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا. (1662) قوله: وواكظوا بجدّكم عليها. الواكظ الدافع. يقال: وكظه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 354

وكظا اى دفعه. قال ابو عبيد فى غريب المصنّف: المواكظة المداومة على الامر. (1663) اعتاضوها، اعتاض وتعوّض، اى اخذ العوض. (1664) قوله: اموالها محروبة، يقال حرب ماله، اى سلب، فهو محروب وحريب. (1665) قوله: المتصدّية العنون من الدوابّ المتقدّمة فى السّير. قوله: اهلها على ساق، اى على شدّة، من قول العرب: قامت الحرب بنا على ساق، وقتل اهلها بعضهم على اثر بعض، من قول العرب: ولدت فلانة بنين على ساق واحد، اى بعضهم على اثر بعضهم. (1666) قوله: اعيتهم المحاول، اى الحيل. قوله: اقبلت الغيلة، الاغتيال. (1667) قوله: لاتَ حِينَ مَناصٍ،

قال بعض المفسّرين: اى ليس وقت تأخّر وقرار، وقال بعضهم: اى ليس وقت ملجأ ومفرّ.

الخطبة 210

و من كلامه فى الخطبة القاصعة،

(1668) ويقال: القاصعات. اعلم ان اصل القصع يدلّ على تطأمن فى الشى‏ء، والقصع ابتلاع جرع الماء او الجرّة، وقصعت الناقة بجرّتها ردّ بها الى جوفها.

قال قوم من رواة الاخبار: كان امير المؤمنين يخطب على ناقة (170 پ) هى يقصع بجرتها، فعرفت هذه الخطبة بالقاصعة لملازمة قصع الناقة انشاء هذه الخطبة. والعرب يسمّى الشى‏ء باسم اللازم له.

قال الحطيئة:

         اذ انزل الشّتآء بدار قوم   ***   تجنّب جار بيتهم الشّتاء

 

ذكر الشّتاء باسم الضّيق اللازم له. والشدة والشّتاء ينزل بالفقير والغنى ولا يتجنّب الشّتاء احدا، والمراد تجنّب جار بيتهم الضّيق والشّدة وضنك المعيشة الملازم للشّتآء. ومن قال: الخطبة القاصعاء، يعنى خطبة ردّ بها

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 355

الخطيب الى صدره لعدم المستمع، كما يقصع الجمل الجرّة الى جوفه. وقيل: القاصعاء، لانّ الخطيب ملأ بهذه الخطبة فمه، ولم يتكلّم بتمام ما فى صدره، من قولهم: قصع الجرح بالدّم اذا امتلأ ولم يسل. وقالوا: خطبة القاصعاء تجرى مجرى جنّة الخضراء، واضيفت الى نعتها. ومن قال: الخطبة القاصعة، اى المسكّنة، من قولهم قصع الماء عطشه اى سكّنه. وقيل: شبّهت هذه الخطبة بالقاصعاء اى جحر اليربوع يقصع فيه، اى يدخل. شبّهوا فى القاصعآء فاعلاء بفاعلة، وخففوا الف التانيث بمنزلة الهاء، يعنى خطبة دخلت فيها رموز. فالمراد بالقاصعاء فى جحر اليربوع مكان يدخل فيه الداخل بحيث لا يتبعه احد.

شبّه المقصود فى هذه الخطبة بالقاصعاء اى الجحر الّذى لا يعرف التابع مدخله. (1669) قوله: الحمد للّه الذى لبس العزّ،

قيل: انّ العزّة اعلى المراتب، والعزيز الذى لا يجوز عليه المنع عن مراده فى افعاله. والكبرياء العظمة. وادّعاء هذين الامرين لا يجوز على الخلق. وقد ادّعى بعض الكفرة الالهيّة لنفسه، فقال: وجعلها حمى وحرما على غيره.

قال: ثمّ اختبر بذلك الملائكة المقرّبين، كلّف عباده الانقياد والنزاهة عن الكبر، ومدح الملائكة بالخضوع. (1670) قوله: لخفّت البلوى فيه عل الملائكة، اشارة الى ما تقدّم من انّ آدم، عليه السّلام، كان واسطة بين الملك وساير الحيوانات العجم.

فلو لم يكن مخلوقا من الصّلصال، لم يكن واسطة، (171 ر) بل كان من انواع الملئكة واشراف الرّوحانيّين والكرّوبيين، او كان من نوع آخر. حقّت بمعرفة نوعيّته البلوى على الملائكة، او بسبب سجوده وتعظيمه ومعاونته. (1671) قوله: انّ حكمه فى اهل السمآء واهل الارض لواحد.

قال الامام الوبرىّ: اهل السّمآء ايضا متواعدون بالعذاب ان عصوا كاهل الارض. وقال غيره: تحريم التكبّر والعزّة على اهل السّماء مثل تحريمها على‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 356

[اهل‏] الارض، لذلك قال اللّه تعالى: فى حق الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ.

(1672) قوله: ولا لزمت الاسمآء معانيها، اى لو انقاد النّاس للحقّ لرغبة قاهرة ملجية، او لرهبة ملجية، لم يكن اسامى المدح المفيدة فى الدين مفيدة حينئذ للتعظيم والمدح والثّواب، بل كانت كاللغات العارية من المعانى. (1673) قوله: امن سنى الدنيا ام من سنى الاخرة، فسنة الدنيا شمسيّة وهلاليّة وهما اثنا عشر [شهرا]. والشهور القمرية قد ينقص من ثلثين، والشهور الشمسيّة لا ينقص. والسنة الحقيقة مدة دور الشمس فى دايرة فلك البروج. من اية نقطة فرضتها الى ان توافيها بسيرها الخاصّ. وقالت القدماء لا تفاوت بين السنين. وظهر للمتأخّرين ذلك التفاوت بسبب حركة اوج الشّمس. وعدد ايّام السّنة الحقيقية ثلثمائة وخمس وستون يوما وربع يوم، الّا قدر اربع وثلثين ثانية من يوم. والشهر اصطلاحى، لانّ الشمس لا يقطع البروج كلّها فى الازمان المتساوية، بل تقطعها فى الازمان المختلفة. ولا يمكن الوقوف عليها الا لمن هو مؤيّد بحدس كامل فى الحساب. والثانى انّ الكسور الواقعة فى ايام الشهر لم يمكن القاءها، فاعرضوا عن ذلك الاعتبار فردّوا امر الكسرين الى كسر واحد. فوضع الناس نوعين من الشّهور اصطلاحيّين لا طبيعيّين على طريقين مختلفين بعد اتفاقهم على انّ الشهور لا يزاد على اثنى عشر شهرا، ولكنّ الايام اختلفت فى الطريقين.

(1674) فاحد (171 پ) نوعى الشهور شهور الروم، وابتداء سنتهم لا يوافق ابتداء الحسّيّة الحقيقيّة. ولكن ايام سنتهم يوافق ايّام السنة الحقيقيّة. ثم يزيدون فى كلّ اربع سنين يوما فى آخر سباط. وبعض المنجّمين يصحّفون ويقولون شباط بالشين المعجمة وهو خطأ.

(1675) واما الفرس فانّهم وضعوا السنة اثنى عشر شهرا متساوية، كلّ شهر ثلثون يوما، وزادوا فى آخر الشهر الثّانى عشر الذى هو اسفندار مذماه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 357

خمسة ايام ليقرب سنتهم الى السنة الحقيقة. ولانّهم ما رعوا فى حسابهم ذلك الرابع من اليوم الذى هو فصل السنة الحقيقيّة على سنتهم، فاذا مضى مائة وعشرون سنة من تاريخهم، كانت قد زادت سنّتهم بشهر تامّ. وكانوا يجعلون السنة ثلثة عشر شهرا، ولم يمكنهم ان يلحقوا فى آخر كلّ اربع سنين يوما كما فعلت الروم، لانّ ملوكهم كانوا معتادون شيئا واحدا فى كل يوم من ايام السّنة، وقد وظفّوا للملك فى كلّ يوم لباسا خاصّا وريحانا خاصّا. وقد امرهم زردشت صاحب امرهم ان لا تغفلوا عن الكبيسة، وحثّهم على مراعاتها. (1676) و[فى‏] سنى الآخرة كلام، والاولى ما قال اللّه تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، ذلك من ايّام اللّه، قال اللّه، تعالى، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏. وسنة الاخرة مقتبسة من قوله، تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ. (1677) قوله: عن كبر ساعة واحدة، اشارة الى ذمّ الكبر والعجب. قوله: هوادة، الهوادة الصّلح والميل. (1678) [قوله:] ولكن اراد اللّه ان يكون الاتّباع لرسله، الى قوله: امورا له خاصّة،

قيل: معناه اراد اللّه ان يكون الايمان والطاعة لا لنفع عاجل، ولا لدفع ضرر عاجل، بل يكون برضى اللّه وابتغاء ثوابه فى الآخرة، ويكون كلّ واحد منها حسنا مفيدا.

(1679) قوله: ان يعديكم بدائه، اى ابليس.

قال بعض العارفين: الكبر محاربة اللّه، تعالى، ومخاصمته، لانّ الكبرياء لا يليق الّا به. قال اللّه، تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ (172 ر) قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ. وقال اللّه، تعالى: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. والكبر خلق من الاخلاق ورذيلة من الرذائل.

و اثره يظهر على ظاهر الانسان، وهو ان يعتقد فى نفسه انّه اشرف ابناء الزمان، ويتبع هذا الاعتقاد والتصوّر هيأت جسمانيّة، يقال لها الرّعونة.

و التكبّر امّا على اللّه كتكبّر ابليس ونمرود وفرعون وتكبّر من استنكف‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 358

عن عبادة اللّه، وامّا على الرسول كتكبّر كفّار قريش، حين قالوا: هو بشر مثلنا، ولو لا نزل هذا القرآن على جبل من القريتين عظيم، فقال اللّه، تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وامّا التكبّر على عباد اللّه، والنظر اليهم بعين التحقير، وهذا هو التكبّر المشهور بين الناس. فهذا ايضا منازعة اللّه، تعالى، لقوله، تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وقال: الكبرياء ردائى والعظمة ازارى والخلق عبيدى وامائى. فمن نازعنى فى شى‏ء من هذا، القيته فى النار. ويروى ايضا: قصمته. وقد عبّر عمّا ذكرنا ابو نواس 1 فى قطعة له، منها قوله:

         حذّرتك الكبر لا يعلقك ميسمه   ***   فانّه ملبس نازعته اللّاها

 

و من اين للغلام المملوك ان يلبس لباس الملك، ويتحلّى بالتاج وزينة مالكه، والاتكاء على سرير الملك. قوله: ومن دبّت فيه نخوة الكبر لا يقبل الحقّ، اذا ظهر له انفة واستكبار، كما قال اللّه، تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ، أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ.

و قال عبد اللّه بن مسعود: اعظم الذنوب ان يقال للرّجال: خف اللّه، فيجيب، ويقول: عليك بنفسك، فاشتغل بنفسك، فانّك غير مأخوذ بذنبى.

(1680) قوله: دلف بجنوده، يقال دلفت الكتيبة فى الحرب اى تقدّمت، يقال دلفناهم. (1681) قوله: وقع فى حسبكم اى قال: قالَ ما مَنَعَكَ. ووقع فى نسبكم، حيث قال: ارايتك هذا الّذى كرّمت علىّ، وقال: قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ. (1682) قول: لا تكونوا كالمتكبّر على ابن امّه، عنى به قابيل.

(172 پ) والفايدة فى قوله: على ابن امّه، وقابيل كان اخا لها من ابيه وامّه، ما قال اللّه، تعالى، فى قصة موسى حيث قال له هرون: قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ.

قال الثعلبىّ فى التفسير: كون الولد من الامّ على التحقيق، وللاب‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 359

من جهة الحكم.

وقال بعض المفسّرين: شفقة الاخ الّذى هو من قبل الامّ زايدة على شفقة الاخ الّذى هو من قبل الاب بسبب زيادة شفقة الامّ ورأفتها.

و قيل قطع امير المؤمنين نسب قابيل عن آدم بسبب سوء صنيعه، كما قال اللّه، تعالى فى حقّ كنعان بن نوح: قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ، فلذلك نسبه الى امّه دون ابيه.

(1683) قوله: والزمه آثام القاتلين، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، الآية و[ذلك انه‏] سنّ [سنّة] سيّئة فى القتل وقطع الرحم. ومن سنّ [سنّة] سيّئة، فله وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيمة. (1684) قوله: حتّى اعنقوا فى حنادس جهالته، العنق ضرب من سير الدابّة والابل، وهو سير مسبطرّ ويقال اعنق الفرس، قال الرّاجز يا ناق سيرى عنقا فسيحا. (1684) قوله: القوا الهجينة على ربّهم، تهجين الامر تقبيحه، والهجين القبيح، يعنى نسبوا القبايح الى ربّهم، كما فعلت المجوس، حين اثبتوا صانعين، يقال لهما يزدان واهرمن، فنسبوا الشّرّ الى اهرمن والخير الى يزدان. (1685) [قوله:] لا تطيعوا الادعياء: الدعىّ من ليس له اب ينسب اليه، فتبنّاه احد، قال اللّه، تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ. قوله: احلاس العقوق، حلس كلّ شى‏ء ما يلزمه، يقال نحن احلاس الخيول، اى نلزم ظهورها. اصل ذلك من قولهم احلست السماء، اى مطرت مطرا رقيقا دائما. (1686) قوله: تراجمة ينطق على السنتهم، يقال: ترجمت الكتاب اذا نقلته من لسان الى لسان. والترجمان بفتح التاء احسن من التّرجمان، وهو الذى يبيّن الكلام.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 360

(1687) قوله: وثنا فى اسماعكم الثنا مقصور، مثل الثناء، الا انّه فى الخير (173 ر) والشرّ جميعا، والثناء فى الخير خاصة. (1688) قوله: ومخضهم بالمكاره، يقال مخضت اللّبن امخضه وامخضه وامخضه ثلث لغات، وقد مخضت الناقة بالكسر، يمخض مخاضا مثل سمع سماعا، ويروى بالخاء والحاء معا. (1689) قوله: جعل رسله اولى قوّة فى عزائمهم وضعفه فيما ترى الاعين.

قال بعض النّاس: اقتضت الحكمة الالهيّة ان يكون النّبىّ حنيفا واقعا بين الانسان والملك، ومشاركا لكلّ واحد منهما. فانّهم كالملآئكة فى عزائمهم، وكالبشر فى احوال المطعم والمشرب والخوف والرجاء والضّعف والقوّة. مثال ذلك مثال المرجان، فانّه واقع بين النبات والجماد، جرمه حجرىّ، وله اغصان وفروع وينموا نموّ الاشجار. وكالنّحل فانّه نبات يشبه بالحيوان عند التّلقيح وبطلان الرأس، قال اللّه، تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً، لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ. ولمّا عمى الكفّار عن ادراك هذه المنزلة وعمّا للانبياء من الفضيلة، انكروا نبوّة الانبياء، كما حكى اللّه عنهم حيث قالوا: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ، شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ. فالنبىّ بالاضافة الى ساير الناس كالقلب بالاضافة الى ساير الاعضاء. ومنزلة علومهم من علوم الأمم بمنزلة، ضوء الشّمس من ضوء القمر. فكما انّ نور القمر مقتبس من نور الشمس وقاصر عنه، كذلك منزلة الامم من انبيائهم ومنزلة علمهم من علوم الانبياء. وكما لا يحصل النّور للقمر الا بوساطة الشمس. كذلك لا يحصل تزكية نفوس الأمّة الّا بواسطة الانبياء. قال اللّه، تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فاللّه، تعالى، يزكّى الانبياء بوسائط الملك، ويزكّى ساير الناس بوسائط الانبياء. كالطبائع الّذى جعلت له كتابة، ثم بوساطته ثبت فى الشّموع المختلفة مثل تلك الكتابة.

و قال ذلك (173 پ) القائل ايضا فى:

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 361

(1690) قوله: اراد اللّه سبحانه ان يكون الاتّباع لرسله والتصديق بكتبه، ان العبادة فعل اختيارى مناف للشهوات البدنية يصدر عن نيّة يراد بها التقرّب الى اللّه، تعالى، على وفق الشريعة. فالعبادة اذن فعل يجمع هذه الاوصاف كلّها. (1691) قوله فجعلها بيته الحرام، ذكرنا فى ابتداء الكتاب وجه الحكمة فى التعبّد بالحجّ. (1692) قوله: واقلّ نتايق الدّنيا مدرا، النتائق البقاع المأهولة. (1693) قوله لا يزكو بها خفّ ولا حافر ولا ظلف، اى ذو خفّ وذو حافر وذو ظلف. (1694) قوله: مثابة، ذكرنا معنى المثابة قبل ذلك. (1695) قوله: نبذوا السرابيل وغير ذلك، عبارة عن هيآت المحرم. (1696) قوله: ارياف محدقة، الرّيف ارض فيما زرع وخصب، والجمع ارياف. (1697) قوله: الماء الغدق الكثير، وقد غدقت عين الماء بالكسر اى غزرت. (1698) قوله: [مغدقة] معتلج الرّيب من النّاس، يقال اعتلجت الارض طال نباتها، واعتلجت الامواج التطمت. (1699) قوله: تساور قلوب الرجال، يقال ساوره اى واثبه، ومنه سمىّ الرجل سوّارا، اى وثّابا معربدا، وسورة الشراب وثوبه فى الراس. (1700) قوله: حرّس اللّه عباده المؤمنين الى آخر هذا الفصل، دليل على انّ بالعبادات تنقاد القوى البشرّية للعقل وتزول الاخلاق المهلكات. (1701) قوله: تليط، اى تلصق. (1702) قوله: يعاسيب القبائل، اليعسوب فحل النّحل، ومنه قيل للسّيّد يعسوب قومه. والباء زائدة، لانّه ليس فى كلام العرب، فعلول غير بنى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 362

صعفوق. (1703) قوله: تدبّروا احوال الماضين من المؤمنين، عنى به اسرائيل عند فرعون واولاد الانبياء فى ايدى بختنصّر وغير ذلك، فان بختنصّر خلع على دانيال وردّه الى بيت المقدس، وفوّض الى امارة بنى اسرائيل، وموسى وهرون ورثا ارض مصر بعد هلاك فرعون. (1704) قوله: حين وقعت الفرقة وتشتّت الالفة، اخبار عمّا حدث فى بنى اسرائيل من اختلاف كلمتهم (174 ر) عند استيلاء جالوت عليهم، واختلاف كلمتهم عند استيلاء بختنصر عليهم. واما حال ولد اسمعيل فما جرى بين آل قحطان وآل معدّ وبين بنى اسحق كما جرى بين اولاد روم بن عيص من اختلاف النسطوريّة واليعقوبيّة والملكانيّة، فاستولى القياصرة على اولاد اسمعيل فى الروم وبنى اسرائيل من الشام، وازعجوهم عن الشام. فارتحلوا الى حدود المدينة، وهم يهود خيبر وقريظة والنضير ووادى القرى وقينقاع، واستيلاء الا كاسرة على ولد اسمعيل من العرب، فقد ملك معدّا فى الجاهلية آل مضر، وهم اللّخميّون من اليمن، وكانوا عمّال الا كاسرة. (1705) قوله يجتازونهم عن ريف الآفاق، يضمّونهم ويسوقونهم سوقا ليّنا. ومنه ليلة الجوز. (1706) قوله: فالاحوال مضطربة والايدى مختلفة والكثرة متفرّقة، اى كانت احوال العرب فى الجاهليّة مضطربة وقلوبهم مختلفة، كما ذكرت تفاصيل ذلك فى تفاصيل ايام العرب ووقايعهم فى كتابى المعنون بمجامع الامثال. (1707) قوله: فى بلاء ازل، اى ضيق وشدّة. (1708) قوله: من بنات موؤدة، اغار ملك العرب على بنى تميم وسبى ذراريهم ونسائهم. فحضروا باب الملك، والتمسوا ردّ نسائهم عليهم.

فقال الملك لتلك النّسوان: من ارادت منكنّ الالحاق بقومها فلا حرج عليها.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 363

فابت نساء بنى تميم الّا المقام مع الجند، وهربن من اقوامهنّ. فانف من ذلك بنو تميم فبعد ذلك جرت عندهم عادة الوأد. واقتدأ بنى تميم قوم آخرون من العرب، حتّى ان قطعت مادة هذا الشرّ كما ذكرته فى مجامع الامثال من تصنيفى.

قيل: كان سبب قتل البنات فى الجاهليّة انّه لما منعت تميم الا تاوة، وجّه اليهم النعمن بن المنذر كتائب، فاساق البهائم وسبى الذّرارى. فاتاه القوم، وسألو النساء. فقال النعمان كلّ امراة اختارت آباءها او اخاها او زوجها ردّت اليهم، ومن اختارت صاحبها السّابى (174 پ) تركت عليه. فكلّهنّ اخترن آباءهن الا ابنة لقيس بن عاصم فانّها اختارت صاحبها عمر بن المشمرخ. فنذر قيس انّه لا يولد له بنت الّا وأدها انفة. واقتدى به جماعة من العرب، وقالوا: لا نقتلهنّ عجزا عن الانفاق عليهنّ، ولكن مخافة ان يتزوّجن غير الاكفاء.

فضلّ لصعصعة بن ناجية ناقتان عشراوان، فقال صعصعة: ركبت جملا فى طلبهما، فرفع لى بيت من الحرير، فقصدته. فاذا شيخ بفنآء الدار فسالته عن الناقتين. فقال ما ميسمهما فقلت ميسم بنى دارم. فقال هما عندى، وقد احيا اللّه بهما قوما من اهلك من مضر. فانتظرت لتخرجا الىّ، فاذا عجوز قد خرجت من كسر بيت. فقال لها الشّيخ ما وضعت ان كان سقبا شاركنا فى احوالنا، وان كان حايلا وأدناها. فقالت العجوز: ولدت انثى. فقال الشيخ وأديها. فقلت له اتبيعنيها فقال: هل تبيع العرب اولادها فقلت انّما اشترى حياتها لا رقّها. قال: فبكم قلت احتكم فقال الشيخ بالناقتين والجمل.

فقلت: ذاك لك. فقال صعصعة لرسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، آمنت بك، وقد صارت لى سنّة فى العرب ان اشترى كلّ موؤدة بناقتين وجمل. فلى الى هذه الغاية مائة وثمانون موؤدة قد انقذتها من القتل. هل انتفع بذلك واوجر عليه فقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله: لا ينفعك لانّك لم تبتغ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 364

بذلك وجه اللّه، تعالى. وان تعمل فى اسلامك عملا صالحا، وان كان قليلا، نفعك. (1709) قوله: اصنام معبودة، كان لكلّ قبيلة صنم يعبدونه: سواع كان لهذيل، وودّ لبنى كلب، ويغوث لمذحج، وكان بدومة الجندل، ونسر لذى الكلاع، ويعوق لهمدان، واللات لثقيف، والعزّى لقريش وبنى كنانة، ومناة للاوس والخزرج، وهبل كان فى الكعبة، واساف ونائلة كانا على الصّفا والمروة. (1710) قوله: ارحام مقطوعة وغارات مشنونة، اخبار عما كان بين العرب (175 ر) من الحروب مثل حرب يوم الفجار، ويوم ذى غول، ويوم الوقيط، ويوم شويحط بين مضر واهل اليمن، وايام بكر وتغلب ابنى وائل، وحرب ايام داحس والغبراء بين عبس وذبيان وهما ابنا بغيض. (1711) [قوله‏] لا تغمز لهم قناة، ولا تقرع لهم صفاة، كنايتان عن العزّ والمنعة. (1712) قوله: ان عندكم الامثال من بأس اللّه وقوارعه، اى ما شاهدتم من وقايع الزمان فى عهد المصطفى، عليه السّلام،  وبعده، وعندكم وعد اللّه [و] وعيده. (1713) قوله: الّا لتركهم الامر بالمعروف والنّهى عن المنكر، ماخوذ من قول اللّه، تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ. (1714) قوله: امرنى بقتال اهل البغى، قال النبىّ، صلّى اللّه عليه وآله، لعلىّ، عليه السّلام: يا على انّك تقاتل بعدى الناكثين والقاسطين والمارقين. فالناكثون الّذين نكثوا بيعته. والقاسطون هم الذين خالفوا المهاجر والانصار واشراف الصحابة فى بيعة امير المؤمنين علىّ. والمارقون هم الخوارج الذين مرقوا عن طاعته. (1715) قوله: وامّا شيطن الرّدهة، فقد كفيته بصعقة سمعت لها

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 365

وجبة قلبه، الرّدهة نقرة فى صخرة يستنقع فيها الماء. وفى الامثال قرّب الحمار من الردهة ولا تقل له: سأ، و

قال الخليل: الرّدهة شبه اكمة كثيرة الحجارة.

و

فى كتاب الصحاح: شيطن الرّدهة مقدّم الخوارج بنهروان، وقتله امير المؤمنين، كما ذكره، بصيحته.

(1716) قوله: لاديلنّ منهم، اى لانتقمنّ، وفى الدعاء: اللّهم ادلنى على فلان، اى اغلبنى وانصرنى، وادالنا اللّه من عدوّنا من الدولة. (1717) قوله: الّا ما يتشذّر، اى يتفرّق، من قولهم: تفرّقوا شذر مذر، اذا ذهبوا فى كلّ وجه. والتشذّر الاستثغار بالثوب او بالذّنب. (1718) قوله: اتّباع الفصيل أثر أمّه، مثل يضرب لمن يتبع الشرّ. (1719) قوله: سمعت رنّة الشيطن، الرّنة الصوت والصّياح. (1720) قوله: انّ فيكم من يطرح فى القليب، يعنى قليب بدر حين طرح فيه من قتل من المشركين، مثل (175 پ) ابى جهل وعتبة وشيبة والوليد بن المغيرة واحفاد اميّة بن عبد شمس والبحترّى بن هشام وغيرهم. (1721) قوله: ومن يحزّب الاحزاب، هو ابو سفيان وعمرو بن عبدودّ وصفوان بن اميّة وعكرمة بن ابى جهل وسهيل بن عمرو وغيرهم. واما قوله: يا ايّتها الشجرة، ففيه كلام لكلّ قوم.

(1722) قال الامام الوبرىّ: والمراد ان كنت من الادلة على اللّه، واللّه، تعالى، ارسلنى، فانّه قال: اللّهم، ان كانت هذه الشجرة كذا وكذا من خلقك شاهدة عليك، وانت شاهد على رسالتى، فافعل بهذه الشجرة كذا وكذا. ولما كانت الشجرة موضع افعال اللّه، تعالى، الّتى سألها منه، خاطب الشجرة. وقال ايضا: المراد به الملائكة الموكّلون بالشجرة. وهذا كقوله، تعالى: يوم القيامة فى خطاب جهنّم: هَلِ امْتَلَأْتِ، والمخاطب ملائكة جهنم.

(1723) وذكر الامام الغزالىّ تفاصيل ذلك فى كتابه المعنون بالمضنون به على غير اهله.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 366

(1724) (قوله): قلوبهم فى الجنان واجسادهم فى العمل، يعنى اطمأنّت قلوبهم بذكر اللّه والتذّت بحلاوة ذكره. ويقال ذلك لمن هو بقلبه منقطع عن الدنيا، وبجسده مشغول بالعبادة.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 367

رسائل امير المؤمنين عليه السلام

(1725) باب المختار من كتب امير المؤمنين، عليه السّلام، ورسايله وغيرها.

الكتاب 1

من كتاب له الى اهل الكوفة،

(1726) قوله: جبهة الانصار، الجبهة من الناس الجماعة. (1727) قوله: ارفق سيرهما فيه الوجيف، الوجيف ضرب من سير الابل. وفى المثل: اوجف فاعجف. وقال عثمن لطلحة حين همّ الناس بعثمان: اللّهمّ لا تحقّق امنيّة طلحة فى الخلافة. (1728) قوله: جاشت جيش المرجل، اخبار عن الفتن الّتى كانت فى المدينة من بقايا فتن قتل عثمان.

الكتاب 2

(1729) قوله مثل كسرى وقيصر وتبّع وحمير، اوّل ملك لقّب بكسرى من ملوك العجم نوشروان، وقيل: كسرى معرّب «خسرو»، وقيل معنى كسرى الملك العادل. واوّل من لقّب من ملوك الروم بقيصر غسطس، ومعنى قيصر شقّ عنه، وذلك انّ امّه ماتت وهى حبلى، فشقّ (176 ر) بطنها عنه، واخرج، فلقّب بقيصر، ثم قالوا لمن بعده من ملوك هذا البيت: القياصرة، وكانوا ينزلون رومية. وتبّع اسم الملك الاعظم من ملوك اليمن، والاذواء دون التبابعة. وتبّع لقب من تملّك بلادا كثيرا سوى اليمن. وسمّى بذلك، لان العساكر تبعوه. وقبل التبّع الفى‏ء، يعنى انّه ظلّ اللّه وظلّ الامان. والاذواء مثل ذى يزن وذى جدن وذى رعين وذى المنار، ملوك لا يملكون الا اليمن.

و اوّل ملك من ولد قحطان هو حمير بن سبا. (1730) قوله شهد على ذلك العقل، اذا خرج من اسر الهوى، اى اذا كان اسيرا فى مخالب الهوى، لم يقبل العاقل الموعظة، وما يفكّر فى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 368

العواقب. وروى ايضا انّ احدا من اهل الكوفة ايضا اشترى دارا، وقال يا امير المؤمنين اكتب لى قبالة الشّرى، وناوله رقّا. فكتب امير المؤمنين بعد التسمية: هذا ما اشترى ميّت من ميّت دارا فى بلدة المذنبين وسكّة الغافلين، الحدّ الاوّل منها ينتهى الى الموت، والثانى الى القبر، والثالث الى الحساب، والرّابع امّا الى الجنّة وامّا الى النّار، ثم كتب:

         لا دار للمرأ بعد الموت يسكنها   ***   الّا لمن كان قبل الموت بانيها

         فان بناها بخير طاب مسكنها   ***   وان بناها بشرّ خاب مأويها

 

الكتاب 3

قوله: المتكاره مغيبه خير من مشهده، يعنى الحاجة اليه يظهر ما فى قلبه، ويتعدّى شرّه الى غيره.

الكتاب 4

(1731) قوله: ليس لك ان تفتات فى رعية، ان يكون بسبب طلب القوّة. وروى: «تفتأت، يقال: افتأت برايه، اى استبدّ وانفرد، ويروى ذلك بغير الهمز، ويروى «تغتاب» اى تقع فيهم بما يسؤهم.

الكتاب 5

(1732) قوله: انّما الشّورى للمهاجرين والانصار، الشّورى المشورة.

الكتاب 6

(1733) (قوله:) فهجر لاغطا، اللّغط الصّوت والجلبة.

الكتاب 7

(1734) قوله: واحلسونا الخوف، واضطرّونا الى جبل وعر، اخبار عن امر (176 پ) قريش حين اخرجوا بنى هاشم من مكة، وحبسوهم فى الشّعب، وحرموا على انفسهم مكالمتهم ومتابعتهم ومخالطتهم، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلّقوها من باب الكعبة، فبعث اللّه الارضة حتّى اكلت الصحيفة سوى اسم اللّه، وصارت يد الكاتب شلّأ. والكاتب منصور بن عكرمة. (1735) قوله ومن اسلم من قريش، خلوا ممّا نحن فيه بحلف يمنعه او عشيرة تقوم دونه، عفى به من اسلم، ولم يكن من بنى هاشم، لانّ هذا البلاء كان مختصا ببنى هاشم. (1736) قوله: وكافرنا يحامى عن الاصل، يعنى: بنو هاشم من كان منهم كافرا فهم يذبّون عن النّبى، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، بسبب القرابة سوى‏

--------------------------------------------------------------- صفحة 369

ابى لهب وابنه. (1737) قوله: احمرّ الباس، اى اشتدّ القتال. (1738) قوله: واراد من لو شئت، ذكرت اسمه، عنى به نفسه. (1738) قوله: ولا اظنّ اللّه يعرفه، يعنى هو بخلاف ما ادّعاه واخبر به.

الكتاب 8

(1739) قوله قاتل جدّك وخالك واخيك شدخا يوم بدر، ضرب عبيدة بن الحرث عتبة بن ابى ربيعة، ولم يمت عنه، بل قطع رجل عتبة. فجاء علىّ، وقتل عتبة بن أبي ربيعة ثم قتل علىّ حنظلة بن أبي سفيان صنو معاوية من أبيه وأمّه، ثم قتل الوليد بن عتبة خال معوية. وجرى بين علىّ وبين الوليد مفاخرة، فقال الوليد انا اكثر منك مالا وولدا وعبيدا وخؤلا، فانزل اللّه تعالى، قوله: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ. (1740) قوله: شدخا، الشّدخ كسر الشى‏ء الاجوف.

الكتاب 9

(1741) قوله: لا تذوقوا الموت الا غرارا او مضمضة، يقال غارّت الناقة تغارّ غرارا، اذا قلّ لبنها. ومنه غرار النّوم وهو قلّته، حكاه عنه ابو عبيدة.

يقال: ما مضمضت عينى بنوم، اى ما نمت، ويقال: تمضمض النّعاس فى عينه.

الكتاب 10

قوله: من وصيّة له لمعقل بن قيس الرّياحىّ

(1742) لمّا انصرف زياد بن ابى حفص، وهو عامل امير المؤمنين عن حريث الخارجى مجروحا، وذهب حريث الخارجىّ (177 ر) الى رام هرمز. بعث امير المؤمنين الى حريث الخارجى معقل بن قيس الرياحىّ مع الفى فارس، وكتب الى عبد اللّه بن عبّاس، وامره بان يعاون معقلا بالفى فارس، وحمد زيادا، ودعا له بخير، ودعاه الى الكوفة ليستريح. فبعث عبد اللّه بن عبّاس الى معقل خالد بن معدان الطائىّ مع الفى فارس. فلما وصل معقل الى حريث، وجده فى رام هرمز، وقد اجتمع عليه خمسة الآف من الخوارج والالفان من العبيد والرستاقيين والاعراب.

و اقبلوا، وانهزم حريث مع بنى ناجية، وقتل معقل من بنى ناجية ثلثمائة فارس،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 370

و التجأ حريث الى جيرفت من بلاد كرمان. ثم كتب معقل كتاب الفتح الى امير المؤمنين، فاصّره امير المؤمنين بان يقفوا اثرهم ويقطع دابرهم، فتوجّه معقل بلقائهم. فاجتمع على حريث من النصارى والخوارج ومن الذين منعوا الزكوة عشرة الاف فارس، واقتتلوا قتالا عظيما، حتّى قتل حريث حين قام قائم الظهيرة، وقتل معه النعمان بن مهارة الراسبىّ، وانهزم الخوارج، وذلك فى سنة ثمان وثلثين من الهجرة. وسبى معقل من النصارى مائة شريف ومن بنى ناجية مائة وخمسين شريفا. وتقدّم قضيّتهم مع مصقلة بن هبيرة، وكان مصقلة بن هبيرة عامل علىّ على بلدة اردشير خرّه من بلاد الاهواز.

(1743) فصل. وامّا قول السيد الرضىّ فى حقّ معقل بن قيس انّ امير المؤمنين انفذه الى الشام، فلم يوجد ذلك فى التواريخ، وانما وجد فى التواريخ ما ذكرناه. والظفر الّذى ساعد معقل بن قيس انما ساعده ببركات امتثاله مراسم امير المؤمنين، وكان معقل مخلصا له. (1744) قوله: البردان والابردان الغداة والعشىّ.

الكتاب 11

(1745) قوله: وقد امرّت عليكما وعلى من فى حيّزكما مالك بن حرث الاشتر، بعثه امير المؤمنين، على عليه السلام، الى اهل الرّقّة بلدة بالشام، حين قطعوا الجسر، ولم يتمكّن امير المؤمنين مع عساكره من العبور.

و الاميران اللذان بعثهما امير المؤمنين (177 پ) على مقدمة المعسكرين زياد بن النّضر وشريح بن هانى. ثم بعث اثرهما مالك بن الحرث الاشتر.

الكتاب 12

 

 

(1746) قوله: لا تقاتلوهم حتى يبدؤكم، فانّكم بحمد اللّه على حجة، الفقه فى ذلك انّه يجب على الامام ان يدفع اهل البغى وتجهّز الجيوش اليهم ويدعوهم الى الجماعة ويعرض اولا عليهم التوبة. واذا انهزم اهل البغى، فلا يجوز ان يقفوا الامام اثرهم ولا من يتبع الامام، ولا يقتل المجروحون. فان الغرض من هذا القتال دفع شرور اهل البغى، وبالجرح يحصل الدفع، فلا يحتاج الى القتل. وقد يقتل المجروحون، اذا كان لهم مقدّم ومتبوع يؤلون اليه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 371

(1747) قوله: ان كان الرجل ليتناول المرأة فى الجاهليّة بالفهر، الفهر الحجر مل‏ء الكفّ، يذكّر ويؤنّث، والجمع الافهار، وتصغيرها فهيرة. ومنه سمى عامر بن فهيرة.

الكتاب 13

(1748) قوله: الطّعن الدّعسىّ والضّرب الطّلحفىّ، يقال: دعست الوعاء حشوته، يعنى طعن يحشو الحشا. ضرب طلحف بزيادة اللام مثل خنجر، اى شديد.

الكتاب 14

(1749) قوله: ولا الصّريح كاللّصيق، اللّصق واللّصيق الدّعىّ. (1750) قوله ولا المؤمن كالمدغل، يقال ادغل فى الامر، اذا ادخل فيه ما يخالفه ويفسده.

الكتاب 15

و من كتاب له الى ابن عباس،

(1751) قوله: بلغنى تنمّرك لبنى تميم،

قال الاصمعىّ تنمر له اى تنكّر وتغيّر وأوعده، لان النمّر لا تلقاه الا وهو متنكّر غضبان. وقول الشاعر: قوم اذ البسو الحديد تنمّروا حلقا وقدّا.

اى تشبّهوا بالنّمر لاختلاف ابواب القّد والحديد.

(1752) قوله: بوغم فى جاهلية ولا اسلام، الوغم هاهنا التّرة، والاوغام التّرات. (1753) قوله: انّ لهم بنا رحما ماسّة وقرابة خاسّة، مسطور فى جداول الانساب: علىّ بن ابى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصّى بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة واسمه عمرو بن الياس بن مضر. (1754) قوله: وامّا تميم، فهو تميم بن مرّ بن ادّ بن طالحة، واسمه عامر بن الياس بن مضر. (1755) قوله: فاربع ابا العباس، يقال: (178 ر) اربع على نفسك، اربع على ظلعك اى ارفق بنفسك، وهذا مثل. ويقال: اربع، اى اقم‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 372

فى المربع.

الكتاب 16

(1756) [قوله:] اقيموا هذين العمودين، يعنى القرآن والعترة. (1757) قوله: ما فجأنى الموت وارد كرهته ولا طالع انكرته، دليل على انّ اولياء اللّه لا يكرهون الموت، وقد تقدّم ذلك المعنى.

الكتاب 17

(1758) قوله: من اهل القرى وديّة، الودىّ على فعيل، صغار الفسيل، الواحدة وديّة. (1759) حتى تشكل ارضها غراسا، يقال اشكل النّحل اى طاب رطبه وادرك، وتشكّل العنب اينع بعضه.

الكتاب 18

(1760) قوله ولا مهلوسة، الهلاس السّلّ، وقد هلسه المرض يهلسه هلسا. ولا ذات عوار، العوار العيب، يقال سلعة ذات عوار، بفتح العين وقد يضمّ عن ابى زيد. (1761) قوله: لا يمصّر لبنها، اى لا يحلب جميع لبنها.

الكتاب 19

(1762) قوله: آمره ان لا يجبههم ولا يعضههم، يقال جبهته صككت جبهته، وجبهته بالمكروه إذا استقبلته به. ويقال عضهه عضها اى رماه بالبهتان.

الكتاب 20

و ان تنافح فى دينك، يقال نافحت عن فلان خاصمت، ونافحوهم مثل كافحوهم.

الكتاب 21

(1763) قوله: تخبرنا ببلاء اللّه، اى بلطف اللّه. (1764) قوله: كناقل التّمر الى هجر، مثل للعرب، ويروى كبضع [التّمر]. وهجر اسم بلد مذكر مصروف. والنسبة اليه هاجرىّ على غير قياس.

و منه قيل للبناء: هاجرىّ. وهجر مدينة بالبحرين كثير النخل. وسبب ذلك انّ رجلا احمق من اهل هجر قدم البصرة، ومعه مال كثير ليشترى به شيئا للرّبح، ويحمله الى هجر، وتلف ماله، وفسد التّمر فى بيوته. فضرب به المثل. كذا ذكره الهروىّ. ويقال كمستبضع التّمر الى خيبر.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 373

قال الشاعر:

         فانّك واستبضاعك الشعر نحونا   ***   كمستبضع تمرا الى اهل خيبرا

 

(1765) قوله حنّ قدح ليس منها، مثل للعرب مشهور لا تعادله فى الشهرة مثل. الهاء راجعة الى القداح. والقداح السّهم اذا كان غير مريّش، والجمع الاقداح. وحنّ اى صوّت، وهو من حنين الناقة، وهو مستعار (178 پ) للقدح، لانّ احد القداح اذا كان من غير جوهرة اخواته، ثم اجاله المفيض، خرج له صوت يخالف ساير اصواتها، فيعرف انّه ليس من جملة القداح. واوّل من قاله عمر بن الخطّاب حين قال الوليد بن عقبة بن ابى معيط: ااقتل من بين قريش: فقال عمر «حنّ قدح ليس منها». يضرب للرّجل يفتخر بقبيلة ليس منها، او يباهى بما لا يوجد فيه. (1766) قوله: اربع على ظلعك، مثل آخر، اى ارفق بنفسك، ويقال: ارق على ظلعك، اى لا تحمل عليها اكثر مما تطيق. (1767) قوله: حتى اذا استشهد شهيدنا، عنى به حمزة بن عبد المطّلب. (1768) قوله: الطّيار فى الجنّة، عنى به جعفر بن ابى طالب. (1769) قوله: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها». هذا عجز بيت للهذليّين وصدره:

         وعيرها الواشون انّى احبّها   ***   وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

 

اى هذا امر زايل عنك عاره. (1770) قوله: من مالت به الرّميّة، هذا مثل. والرّمية الصّيد يرمى.

قيل: بئس الرّميّة الارنب، اى بئس الشى‏ء ممّا يرمى به الارنب. وانّما جاءت بالهاء لانّها صارت فى عدد الاسماء، وعدّل به الى فعيل، هو بئس الشى‏ء فى نفسه مما يرمى به الارنب. (1771) قوله: عادىّ طولنا، اى قديم فضلنا، ينسب كلّ قديم الى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 374

عاد. (1772) قوله: منّا اسد اللّه، عنى به نفسه، وسمّاها به رسول اللّه.

و قيل: اسد اللّه حمزة بن عبد المطّلب.

يقال لبنى اسد وطيىّ‏ء الخليفان.

و الاخلاف فى شعر زهير هم اسد وغطفان. ولما اجلت خزاعة بنى اسد عن الحرم، فخرجت تحالف طيّئا، ثمّ حالفت بنى فزارة، فقيل للاسد: اسد الاحلاف. وهو اسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس. وقيل اسد بن ربيعة بن نزار. و

قيل لعتبة بن ربيعة: اسد الاحلاف.

(1773) قوله: منّا سيّدا شباب اهل الجنّة، اى الحسن والحسين. قوله ومنكم صبية النّار، اى صبية عقبة بن ابى معيط، حيث قال النّبىّ، عليه السّلام: لك ولهم النّار. (1774) قوله: (179 ر) ومنكم حمّالة الحطب، هى امّ جميل اخت ابى سفيان. (1775) قوله: فلجوا عليهم، يعنى قالت الانصار منّا امير ومنكم امير.

فقيل للانصار: الائمة من قريش. (1776) قوله ام من بذل له نصرته، عنى به امير المؤمنين نفسه، وانّ عثمن استقعده، وعنى به فى قوله: فتراخى عنه، معوية. (1777) قوله لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل، بيت تتمثّل به العرب، وهو حمل بن سعد العشيرة ابو حىّ من مذحج، وهو بنصب الجيم والميم، و

قيل هو حمل بن بدر رجل من قشير اغير على ابل له فى الجاهليّة فى حرب داحس والغبراء، فاستنقذها [و قال‏]:

         لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل   ***   لا بأس بالموت اذ الموت نزل‏

 

(1778) قوله: ربّ ملوم لا عذر له، مثل. سمع الاحنف رجلا يقول: «بئس الطعام التمر والاقط» فقال الاحنف: ربّ ملوم لا ذنب له. وانما ذمّ الرجل التّمر والاقط، لانّ الاكل لا يكثر اكلها الا فى القحط. وخير الطّعام‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 375

عندهم الزّبد والكمأة، لانّهما يكونان فى الربيع والخصب. (1779) قوله: وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح، بيت للعرب، وصدره: وكم سقت فى آثاركم من نصيحة. (1780) قوله: اضحكت بعد استعبار، مثل يضرب لمن يهزل بعد الجدّ.

الكتاب 22

(1781) [قوله:] ما لم تغبوا عنه، اى لم تتغافلوا.

الكتاب 23

(1782) قوله: انّ نفسك قد اولجتك شرّا، اى غلبتك حين اورد بك شرّا.

الكتاب 24

قوله: منها فى وصيّته للحسين بن على:

(1783) لا تذهبنّ عنها صفحا، اى معرضا، يقال: ضربت عنه صفحا، اذا اعرضت عنه. (1784) قوله: لا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه: كلّ علم لا يحتاج المرء اليه فى طلب سعادة الاخرة، فهو لا ينتفع به، وان ساعده انتفاع ظاهر، فانّه تؤول عاقبته فى الدنيا الى خسران ومضرّة وفى العقبى الى ندامة ووبال. (1785) فيكون كالصّعب النّفور، مثل لكلّ من ينفر ممّا راه، والاصيل فى الابل. (1786) قوله: ترك كلّ شائبة، الشائبة واحدة الشوائب، وهى الاقذار والانجاس والادناس. مضى ذكر المثل (179 پ) السائر: فى خبط عشوآء. (1787) قوله: او ما شاء ممّا لا نعلم، فان اشكل عليك شى‏ء من ذلك، فاحمله على جهالتك به. هذا تنبيه على ان علوم الانسان قاصرة عن ادراك اسرار الربوبيّة.

فانّك اوّل ما خلقت جاهلا ثم علّمت، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً. (1788) قوله: وما اكثر ما تجهل من الامر، ويتحيّر فيه [رايك‏]،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 376

يعنى يكون معرفته عندك بالقوة القريبة، ثم يخرج الى الفعل. وهذه اشارة الى اكتساب العلوم. قوله: لا تكن خازنا لغيرك، اى لا تجمع اموالا ينتفع بها غيرك. (1789) قوله: والمبطى‏ء عليها اقبح حالا من المسرع، يعنى من تغافل وتوانى. (1790) قوله: فى الدعاء ربما اخرت عنك الاجابة، اللّه تعالى وعد اجابة ادعية المؤمنين، وجعل بعض الدعاء سببا لبعض قضاء الحوائج، ولم يجعل جميع الادعية اسبابا لقضاء جميع الحوائج. فان اقتصت الحكمة ان يكون الاجابة يتلو الدعاء، كان كذلك. وان تأخرت الاجابة، فلمصلحة. ولم يكن ذلك من قبيل خلف الوعد. فان اللّه، تعالى، يجيب امّا فى الحال، او فى الاستقبال، او يؤتيه خيرا ممّا سأل، او فى العقبى. ومع ذلك فالدّعاء عبادة، وجزاء العبادات يكون فى العقبى والمكافات يكون فى الدّنيا. (1791) قوله: فى منزل قلعة، اى ليس بمستوطن، ومجلس قلعة اذا كان صاحبه يحتاج الى ان يقوم مرّة بعد مرّة. (1792) قوله من اخلاد اهل الدنيا، اى ميلها. (1793) قوله بواد وعث، الوعث المكان السّهل الدهس تغيب فيه الاقدام ويشقّ على من يمشى فيه. (1794) قوله: من اكثر اهجر، مثل للعرب الهجر والهجر الافحاش فى المنطق، واصله من الهجر وهو الترك، لترك العقلاء ايّاه، ومنه سمى الهاجرة لترك الناس الخروج فى ذلك الوقت، يضرب لمن يتكلّم بما لا يعنيه. (1795) قوله: الاتكال على المنا بضائع النّوكى، مثل للعرب، يقال لا تتّكل على المنى، فانّها (180 ر) بضائع النّوكى، اى الحمقى. (1796) قوله وامحض اخاك النصيحة حسنة كانت ام قبيحة، النّصيحة اذا كانت عن محض الاخلاص لا تكون قبيحة بالنسبة الى الناصح،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 377

و انما يكون قبيحة بالنسبة الى السامع. (1797) قوله الرزق رزقان: رزق يأتى بسبب الطلب، ورزق يأتيك بلا طلب، وهذا محسوس مشاهد. (1798) قوله: فانّ رأيهنّ الى افن، الافن بجزم الفاء النقص وبنصب الفاء ضعف الرأى. وفى المثل: انّ كثرة الرّقين تعفّى (تغطّى) افن الافين.

(1799) قال الشارح: لمّا فرعت من شرح الفاظ هذه الوصيّة، اردت ان اتكلّم فى معانيها مفصّلا، فان هذه الوصية جامعة الآداب الشرع ومكارم الاخلاق المهذّبة التى هى الفضائل.

(1800) قوله: لا تتك رسله،

عند المتكلمين انّ معرفة اللّه، تعالى، واجبة على العاقل، لكونها لفظا. ولا تكون لفظا، الا على وجه يكون معرفته بالتوحيد انّ اللّه، تعالى، واحد فى الالهيّة. فلو كان مع اللّه ثان، لوجب ان يكون الى معرفته طريق. اذ معرفة الصّانع واجبة. والطريق ليس الّا افعاله.

و الافعال الالهيّة كلّها مضاف الى اله واحد. لذلك قال: لو كان لربّك شريك، لا تتك رسله، ولرايت آثار ملكه.

(1801) قوله: بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، انّما يكون الاقلاع عن السّيّئة، اذا اخلّ بها لكونها سيّئة قبيحة. فاما اذا تركها لا لرضى اللّه، فلا تكون حسنة. (1802) قوله: انّ العطيّة على قدر النيّة، يعنى اذا سال العبد ربّه ما فيه صلاح، اجيب اليه، امّا عاجلا او اجلا، اذا كان تعجيله او تاجيله صلاحا. وان كان مطلوبه خاليا عن الصّلاح والفساد، فهو موكول الى اللّه [: ان شاء اعطاه، وان شاء منعه. وان كان مطلوبه فسادا، فاجابة اللّه‏] دعاءه منعه عن نيل مراده. هذا، اذا اراد السائل الصلاح، فاما اذا قصد بدعائه ادراك الّلذّة او كشف المضرّة، ولم يشرط صلاحا فى ما نواه، فهو كمن لم يدع اللّه اصلا فى حقّ المطلوب، بل هو شرّ من غير الدّاعى، لانّ دعاءه على غير هذا الوجه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 378

معصية، فحقيق به ان لا ينال لما سأل شيئا. (1803) قوله: (180 پ) ولا تخاطر بشى‏ء رجاء اكثر منه. هذا ممّا لا يحمل على ظاهره، لانّ اكثر المناجات مبنيّة على غالب الرأى فى الاقدام والاحجام، من البياعات والتّجارات وانواع الشّركة برّا وبحرا، وانما يطلب الارباح المرجوّة بمخاطرة الاموال الحاضرة، على ما قال امير المؤمنين، عليه السّلام: فى موضع آخر: التاجر مخاطر. (1804) فمعنى قوله: لا تخاطر بشى‏ء رجاء اكثر منه، اى لا تخاطر بمال فى يدك اذا لم يغلب على ظنّك السّلامة والربح. فانّ دفع المال الى الغير واقتحام الورّاط على غير هذه الحالة حرام، وانما يجوز ذلك عند غلبة الرأى والظنّ بحصول الرّبح والزيادة مع السّلامة. (1805) قوله: من لم يبالك فهو عدوّك، اى من جعل عادته كشف قناعك واشاعة معايبك كلّها فى كلّ حال، وان وصفها لك، فهو عدوّ لك.

(1806) و

قال بعض العلماء: اصول الدنيا ثلثة اشياء: الطعام واللباس والمسكن. واصول الصناعات والحرف ثلثة: الزرّاع والدهقان، فانّ منها اصول الطّعام واللباس، والحائك والبنّاء.

و لكلّ هذه الحرف توابع ولوازم كالحلّاج والغزّال والعصّار والخيّاط للباس. ولكلّ واحد من هؤلاء احتياج الى آلات من الحديد والخشب والجلود المدبوغة. وعلى هذا قياس ساير الحرف وتعلّق بعضها ببعض.

فاحتاج النّاس الى معاونة بعضهم بعضا. فانّ كلّ واحد منهم لا يمكنه القيام بجميع مصالحه. فالحائك يحيك للخيّاط، والخيّاط يخيط للحائك، والدهقان يزرع القطن لهما. وهما يعينان الدهقان بالنسج والخياطة. وامثال ذلك.

فظهرت المعاملة التى هو تلو المعاونة بين النّاس. ولزمت هذه المعاملات الخصومات، ولزمت الخصومات المعاداة والمقاتلة.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 379

فاحتاج اصحاب الصنايع والحرف الى سلطان سائس يسوسهم وحاكم عادل يحكم بينهم بالعلم والشرع الحقّ (181 ر).

(1807) فنسى بعض الناس نفسه وعاقبته من هذه المشاغل والتوابع والعلايق، وما عرف انّ المقصود من جميع هذه الصنايع والحرف والوالى والقاضى ثلثة اشياء، وهى الطعام واللباس والمسكن. والمقصود من هذه الاشياء تقوية البدن وسلامته. والمقصود من سلامة البدن تزكية القلب.

و المقصود من تزكية القلب السعادة الكبرى الموعودة فى الاخرى. فنسى ذاته وسعادته.

(1808) ومثاله كمثل مسافر قصد بيت اللّه الحرام، فنسى نفسه ومقصده، وضيّع فى الطريق عمره فى تربية الجمل ورعيه، وامثال ذلك، وخسر الدنيا والاخرة، وكان ممّن قال اللّه، تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ.

و مثال الدنيا مثال الظّل تحسبه راكدا ثابتا، وهو زايل، ولكن يزول قليلا لا دفعة.

لا بل مثالها مثال عجوز شوهاء ملثّمة قد زيّنت ظاهرها بالحلّى والحلل والطّيب. فاذا حسرت لثامها، كانت ممّن يتعوّذ الناس من شرّها.

و مثال اصحاب الدّنيا امثال المسافرين، لهم مقصد واحد، وكلّهم فى الطريق، بقى لبعضهم منزل ولبعضهم فرسخ، ولبعضهم ميل، كذلك بقى من اعمار اهل الدّنيا سنة، ومن اعمار بعضهم شهر، ومن اعمار بعضهم يوم، على هذا القياس.

و مثال طالب الدنيا كمثال شارب ماء البحر لا يروى الشارب، بل يزداد كلّ ساعة عطشه، ولا ينقطع ماء البحر، وهو يشرب حتّى يهلك.

و مثال صاحب الدّنيا كمثال ضيف دخل دار المضيف فناوله شربة من الجلّاب فى اناء ثمين، فيظنّ انّ الاناء ملك له، وانّه يخرج من دار المضيف مع ذلك الاناء. فقيل له: اخرج كما دخلت، فحظّك ما شربت فحسب.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 380

و لذلك قال النّبىّ، عليه الصّلوة والسّلام: ليس لك من مالك الا ما اكلت او شربت او لبست، الى تمام الخبر. (1809) وهلك اكثر الناس بسبب طلب الجاه والحشمة والثّناء.

و بهذه الاسباب وقعت العداوة بين الناس، وارتكب المعاصى، واستولى على القلوب النّفاق (181 پ). والخيانة.

و العلم بالاشياء الفانية غير معتبر. ومن ذلك العلم باللغات، خصوصا العلم بلغة العرب. فان الغرض منه الوصول الى الكتاب والسّنّة، والغرض من الكتاب والسّنّة السّعادة الابديّة الّتى فى الاخرة والعلم باللّه، تعالى، ورسله واليوم الآخر من الباقيات الصّالحات.

و انّ هذه المعلومات لا يتغيّر ولا يزول عمّا اعتقده المؤمنون الموحّدون.

و طلب الثناء من الخلق استعباد قلوبهم والسنتهم والاستيلاء على قلوبهم دون اموالهم، خصوصا اذا كان طلب هذه الثناء والمدح بافعال لا يجوّزها الشّرع.

فهذا من امراض القلوب.

(1810) ومن اقبل على الطاعة، واداء العبوديّة، فغرضه من ذلك تزكية النفس وتطهير ذاته وكونه مستعدّا لرضوان اللّه، تعالى، فهو العابد.

و من اقبل على الطاعة بسبب ثناء الخلق ومدحهم، فهو يجرى مجرى عابد الصّنم، لانّه يعبد معبودا هو مخلوق.

و من اقبل على الطاعة طلبا لرضى اللّه، تعالى، ولكن احبّ ان يعرفه النّاس بالعبادة والزّهد، فذلك الرياء والشرك الخفىّ، لانّ المقصود من عبادته مشترك بين اللّه، تعالى، والمخلوق. قال اللّه، تعالى، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ.

و لو سوّدت فى شرح هذه الوصية الّتى جمع فيها امير المؤمنين جميع ما يحتاج اليه البشر طاقات من القراطيس، لما قرب من فوايدها بنصف عشرها او اقلّ. ومن له ذوق علمى وعملى، فانه يكفيه ما اشرت اليه. ومن كان‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 381

بخلاف ذلك، فالقليل والكثير من البيان عنده سواء.

الكتاب 25

قوله: فى رسالته الى قثم بن العباس بن عبد المطّلب:

(1811) انّ عينى بالمغرب، يعنى امينى الّذى يخبرنى عن الامور. قوله: قيام الحازم الصّليب، اى الشّديد. (1812) قوله: ايّاك وما يعتذر منه، مثل للعرب، اى لا يرتكب امرا يحتاج فيه الى الاعتذار، يضرب لمن ارتكب افعالا شنيعة ويعتذر منها.

الكتاب 26

(1813) قوله: فو اللّه لولا طمعى عند لقائى،

معناه لولا انّى ارجو ان يكون عاقبتى الشّهادة، ويغلب على ظنّى، واعلم يقينا انّ الشهادة انّما يكون اذا جاهدت مع الاعداء. (182 ر) وانّما اجاهد اذا كنت اماما، فلذلك اصبر على اذى الإمارة، ولولا هذا لاحببت مفارقتكم. ولا يدلّ ذلك على انّى اخرج من الامامة. فانّ الانسان قد يصبر على امر شاقّ، اذ كان يجب مفارقته عند الصلاح، كالجايع الّذى اشتدّ جوعه وعطشه، فانّه يجب عليه الافطار، اذا كان يمكن له الافطار، وان كان يوطّن نفسه على الكفّ والاصطبار. هذا ما اورده الامام الوبرىّ.

الكتاب 27

قوله فى رسالته الى عقيل

(1814) حتّى نجا جريضا، اى مغموما. قوله: اخذ منه بالمخنّق، مثل يقال خنقه يخنقه، وموضعه من العنق مخنّق بالتّشديد، يقال بلغ منه المخنّق، واخذت بمخنّقه، فمعنى «بلغ منه المخنّق» اى بلغ منها الجهد. (1815) قوله: كلّا ولا، يعنى فى القلة، وهى كلمة يقولها العرب اذا استقلّت الشى‏ء. (1816) قوله: فلأيا بلأى، يقال فعل ذلك بعد لأى، اى بعد شدّة وابطآء، ولأى لأيا، اى ابطأ، والتأى مثله. (1817) يقال: وجزتك الجوازى، اى الارحام، و

قيل: افعالك المحمودة او المذمومة.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 382

(1818) قوله: ابن امّى، عنى به النّبىّ، صلّى اللّه عليه وآله، فان امّ على فاطمة بنت اسد ممّن قال النّبى فى شأنها فاطمة امّى بعد أمّى. (1819) قوله: رايى فى قتال المحلّين، قال: احلّ الرجل، اى خرج من ميثاق كان عليه.

الكتاب 28

(1820) قوله: انّما نصرت عثمان حين كان النصر لك، اى تفعل نصره، وخذلته حين كان النصر له، اى نصرك ينفعه.

الكتاب 29

(1821) قوله: مالك بن الحرث اخو مذحج. ومذحج مثال مسجد ابو قبيلة من اليمن، وهو مذحج بن جابر بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشحب بن يعرب بن قحطان.

الكتاب 30

قوله فى كتابه الى ابن عباس:

(1822) قلبت لابن عمّك ظهر المجن، قلب له ظهر المجنّ، مثل يضرب لمن يخالف بعد ما كان موافقا، ويتغيّر عمّا كان عليه. (1823) قوله: الذئب الازل، السّبع الازلّ، الذّئب الارسح، يتولّد بين الذئب والضّبع، وهذه الصفة لازمة له، كما يقال للضّبع الارجأ. وفى المثل هو اسمع من الذئب الازلّ (182 پ). والازلّ الخفيف الوركين، وامرأة زلّاء اى رسحاء بيّنة الزّلل. (1824) قوله: لا ابا لغيرك، تقدّم الكلام فى ذلك، وهاهنا المراد به الذمّ، لذلك قال لغيرك. قوله: لا عذرنّ الى اللّه فيك، استعارة عن المبالغة فى ما يحصل به رضى اللّه. (1825) قوله: ضحّ رويدا، مثل للعرب، اى لا تعجل فى ذبحها، و«ضحّ» من التضحية. (1826) قوله: ويتمنّى المضيّع الحسرة، مأخوذ من قول اللّه تعالى: وَلَوْ تَرى‏ إِذِ، ووَلَوْ تَرى‏، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ، تقدّم القول‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 383

فيه.

الكتاب 31

(1827) قوله: النّعمن بن عجلان الزّرقى، الزّرق ايضا اكثبة الدّهماء، ونسب اليها الزّرقىّ قال الزّرمة:

         وقرّبن بالزّرق الحمائل بعد ما   ***   تقرّب عن غزبان اوراكها الخطر

 

الكتاب 32

قوله فى رسالة له الى مصقلة بن هبيرة:

(1828) فيمن اعتامك من اعراب قومك. اعتميت الشّى‏ء اى اخترته وهو قلب الاعتيام، فاعتماك اى اختارك.

الكتاب 33

قوله: من كتاب له الى زياد،

(1829) وقد كان ابن ابى سفيان فى زمن عمر بن الخطّاب، فلتة من حديث النفس ونزغة من نزعات الشيطن لا يثبت بها نسب ولا سبب: وهو ان جماعة شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا عند عمر بن الخطّاب، وفيهم ابوبكرة مولى رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله. فلما ادّى الشّهادة ابوبكرة واشار معه، وانتهى الامر الى زياد، قال له واحد من الصّحابة: ايّاك تفتضح بلسانك واحدا من صحابة رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، فقرّر زياد كلاما بليغا وامير المؤمنين علىّ كان جالسا فى زاوية المسجد مع ابى سفين. فلمّا عاين امير المؤمنين فصاحة زياد، وآنس منه رشدا، قال امير المؤمنين علىّ لابى سفيان، نعم الفتى هذا، لو كان له نسب من قريش.

فقال ابو سفين: انا وضعته فى رحم امّه، وقصّ عليه قصّة سكره وسفاحه. فهذا الّذى اشار اليه امير المؤمنين علىّ حيث قال: فلتة من حديث النفس ونزعة من نزعات الشّطين، لا يثبت بها نسب. فنفى ذلك امير المؤمنين، لقول النّبى، عليه السّلام: الولد للفراش وللعاهر الحجر. ولا اعتبار (183 ر) بالاجتهاد فى مقابلة النصّ. فكيف يقول من ليس بمجتهد. واما قول زياد: شهد بها وربّ الكعبة، فقول باطل، لانّ شهادة علىّ هى على كلام من ابى سفين، هو داخل فى نزعات الشّيطن وهوى النّفس، وقال: لا يثبت، ولا يقوم بذلك نسب.

فكيف يكون هذا الكلام شهادة على اثبات النّسب، فكيف يكون ردّ علىّ،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 384

على ابى سفين تحقيقا لهذا النّسب. (1830) امّا قوله: فلتة، يقال كان تلك الامر فلتة اى فجأة، اذا لم يكن عن تدبّر ولا تردّد.

الكتاب 34

مظنّة الشى‏ء موضعه ومألفه الذى يظنّ كونه فيه، والجمع المظّانّ. قول الشّاعر: تحنّ الى القدّ، القدّ اناء من الجلد.

(1831) قوله: فى جشوبة العيش، طعام جشب ومجشوب، غليظ خشن، وقيل: هو الذى لا ادام معه. (1832) قوله: تقمّمها اى تتبّع القمامة بالكناسات. (1833) قوله: طريق المتاهة، يقال: تاه فى الارض، اى ذهب متحيّرا، وتيّه نفسه اى حيّرها وطوّحها. (1834) قوله: النّباتات البدويّة، الّتى يستقيها ماء المطر. (1835) قوله انّكم لا تقدرون على ذلك، يعنى التّجاوز من اتّقاء الحرام الى اتّقاء ما تركه اولى ويجوز فعله، ولكن عليكم باتّقاء الحرام، فانّ ذلك لا بدّ منه. (1836) قوله: حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد، اى تميّز الحقّ من الباطل والطّيب من الخبيث. (1837) قوله: حبلك على غاربك، مثل للعرب، تقدّم الكلام فيه، وهو طلاق فى الجاهليّة، واصل الكلام فى الابل. (1838) قوله بمداعيك، اى بزخارفك وزهرتك، يقال كنّا فى دعوة فلان ومدعاة فلان، وهو مصدر، يريدون الدّعاء الى طعام. (1839) قوله ومضامين اللّحود، يقال ذلك استعارة لكل شى‏ء مستور، لانّ المضامين فى اصلاب الفحول.

يقال: مكان دحض ودحض بالتحريك، اى زلق. (1840) قوله تشبع الربيضة من عشبها، الربيض الغنم برعاتها

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 385

المجتمعة فى مربضها، يقال: هذا ربيض بنى فلان. (1841) قوله: فيهجع، الهجوع النّوم ليلا، وهجع جوعه مثل هجا اذا انكسر، ولم يشبع. (1842) قوله (183 پ) تقشّعت، اى تفرّقت. (1843) قوله: صلاح ذات بينكم،

فى كتاب الغريبين: اصلحوا ذات بينكم اى حقيقة وصلكم.

الكتاب 35

قوله عليه السلام:

(1844) صلاح ذات البين افضل من عامّة الصّلوة والصّيام،

قال الامام الوبرىّ: يجوز ان يكون المراد بذلك، انّ الاصلاح بين الناس وازالة الوحشة معهم يزيد ثوابه على ثواب النوافل من الصّلوة والصّيام، وان كثرت. ووجه ذلك ظاهر، وهو انّ صلاح ذات البين خير يتعدّى من فاعله الى غيره، والصّلوة والصّوم مقصوران على الفاعل، فجاز ان يكون القليل من ذلك النوع يوفى على كثير من غيره.

(1845) قوله: اللّه اللّه، اى اتقوا اللّه والتكرار للتّأكيد. (1846) قوله لا تغبّوا افواههم، من قولهم لا يغبّنا عطآءه، اى لا يأتينا يوما دون يوم، اى يأتينا كلّ يوم. قال الراجز: وحمّرات شربهنّ غبّ، اى كلّ ساعة، وهذا كلام شبه استعارة، اى لا تطعموهم ساعة دون ساعة ويوما دون يوم، بل اطعموهم كلّ وقت وساعة. (1847) قوله: فانّه ان ترك لم تناظروا، يعنى اذا اتّفق النّاس على ترك الحجّ، عوجلوا بالعقاب، ولم ينظروا. (1848) قوله: ايّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور. مثل به يمثل مثولا اى نكل به، والاسم المثلة بالضّمّ، ومثل بالقتيل جدعه.

الكتاب 36

قوله: فى كتابه الى معوية

(1849) يوتغان، الوتغ بالتحريك الهلاك، وقد وتغ يوتغ واتغا اى اثم، واوتغه اللّه اى اهلكه، واوتغ فلان دينه بالاثم.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 386

(1850) قوله: تاوّلوا على اللّه فاكذبهم، اى طلبوا لافعالهم تأويلا لا يرضاه اللّه، كما فعل اصحاب السبت، فانّ اللّه امرهم ان لا تعدوا فى السبت فحبسوا الحيتان فى الحياض يوم السبت، واصادوها يوم الاحد. وفى رواية فتألّوا على اللّه، تعالى. وذلك فى حديث النّبى، صلّى اللّه عليه وآله، من يتألّ على اللّه يكذبه.

الكتاب 37

فى كتابه الى عمّال الخراج:

(1851) ولو لم يكن فيما نهى اللّه عنه من البغى والعدوان عقاب يخاف، لكان فى ثواب اجتنابه ما لا عذر فى ترك طلبه.

قال الامام الوبرىّ: لانّ التّقوى من القبايح له حكمان: فوز بالثواب ونجاة من العقاب. (184 ر) فلو عفا اللّه عن العقاب فى ارتكاب القبايح، لم يسغ للعاقل تعاطيها، لانّ فيها حرمان ثوابها، فكفى بثواب التّقوى داعيا اليها، وان كان يؤمن العقاب، لانّ تفويت النّفع العظيم الّذى لا مزيد عليه لا يجوز فى العقل.

الكتاب 38

قوله فى عهده الذى كتبه للاشتر على مصر،

(1852) يقال جبيت الخراج جباية وجبوته جباوة ولا يهمز، واصله الهمز. الخراج اسم لما يخرج من الفرائض فى الاموال، فصار الخراج لفظا واقعا على الضّريبة وعلى مال الفى‏ء وعلى الجزية والغلّة. قال اللّه، تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً، فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، اى اجراً، فرزقُ ربِك خيرٌ. والخرج والخراج الحقل فى قوله، تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً. (1853) قوله: يكسر نفسه عند الشّهوات، اشارة الى علاج مرض النّفس. قوله: والجمحات، الجموح من الرجال الّذى يركب هواه، فلا يمكن ردّه، قال الشاعر:

         خلعت عذارى جامحا ما يردّنى   ***   عن البيض مثال الدّمى زجر زاجر

 

 وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي الّا ما رحم الله، اى بالمعصية، يعنى الّا من رحم اللّه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 387

نظيره فانكحوا ما طاب لكم، اى من طاب. وقوله: «الّا ما رحم» استثناء منقطع عمّا قبله، كقوله، تعالى: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ. (1854) قوله: قد جرت عليها دول، الدّولة بالضمّ فى المال، يقال حاز الفى دولة بينهم، والجمع دولات ودول.

قال ابو عبيد: الدّولة بالضمّ الشى‏ء الذى يتداول به بعينه. وقال بعضهم الدّولة والدّولة لغتان بمعنى.

(1855) قوله: انّما يستدلّ على الصّالحين ممّا يجرى اللّه لهم على السن عباده، اخذ هذا المعنى الشّاعر فى قوله:

         النّاس اكيس من ان يمدحوا رجلا   ***   حتّى يروا عنده آثار احسان‏

 

(1856) قوله: لا تنصبنّ نفسك لحرب اللّه، اى لمعصية اللّه. (1857) قوله: يحاربون اللّه، يعنى يعصونه. (1858) قوله: الى بادرة، اى الى خطأ، وجدت عليها مندوحة، (184 پ) يقال فى هذا الامر منتدح ومندوحة اى سعة. ويقال: انّ فى المعارض لمندوحة عن الكذب، اى سعة. (1859) [قوله:] منهكة للدين، اى نقصان او ضعف، من قولهم: نهكته الحمّى، اى اجهدته واضنته ونقصت لحمه، يقال: باتت عليه نهكة المرض. (1860) قوله: اوسطها فى الحقّ، الوسط من كلّ شى‏ء اعدله. (1861) قوله: فليكن صغوك لهم، يقال صغوه معك، وصغوه وصغاه اى ميله. (1862) قوله: فليكن العذر عندك منك، واشنأهم عندك اطلبهم لمعائب الناس، عنى به الذى يتحدّث بمعائب النّاس. (1863) قوله: مثافنة الحكماء، يقال ثافنت الرجل جالسته، كأنّك الصقت ثفنة ركبتك بثفنة ركبته. وفرق هاهنا بين العلماء والحكماء.

فالعلماء الّذين لهم علم ولا تجربة لهم ولا ذكاء الذين يحيطون بجميع‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 388

العلوم الانسانيّة مع تجربة وذكاء. (1864) قوله: وفى اللّه لكلّ سعة، اى قضاء وقدر، كلّ محتاج من خلقه، وكلّ مكفىّ بكفاية اللّه، غير انّ المقدور يختلف: فمنه ما يصل من جهة اللّه الى العباد، ومنه ما يقع من طريق العباد، ومنهم يقع التقصير، كما جاء فى الحديث ما جاع فقير الا بما منع غنىّ. (1865) قوله: من خلوف اهليهم، حىّ خلوف اى غيّب. قال ابو زبيد:

         اصبح البيت بين آل بيان   ***   مقشعرّا والحىّ حىّ خلوف‏

 

قوله: اى لم يبق منهم احده والخلوف ايضا الحضور المتخلّفون، وهو من الاضداد. (1866) قوله: بحيطتهم على ولاة امورهم، الحيطة بالكسر الحياطة، وهما من الواو، وقد حاطه يحوطه حوطا وحيطة اى كلاءة، ومع فلان حيطة لك، اى تحنّن (و) تعطّف. (1867) قوله: ما يضلعك من الخطوب اى يثقلك، من قولهم حمل مضلع اى مثقل، ومنه قول الاعشى: وحمل لمضلع الاثقال، ومن رواه بالظّاء فالاصل من ظلعت الارض باهلها اى ضاقت بهم من كثرتهم، اى ما يضيق بك من كثرة الخطوب. (1867) قوله: بسنّته الجامعة (185 ر) غير المفرّقة، قوله: الجماعة نعت لقوم مجتمعين على امام واحد وامر واحد، فصادف الجماعة اسما لازما لمن اجتمع على امام عادل. فمراد امير المؤمنين بهذا الكلام السّنّة والجماعة، واهل السّنّة هم الّذين اتّفقوا بعد قتل عثمان على امام منه. (1868) قوله: لا تمحكه الخصوم، المحك اللّجاج، وقد محك يمحك، فهو رجل محك ومماحك. (1869) قوله: وافسح له فى البذل ما يزيح من بيت المال علل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 389

حوايج من يتكفّل بمصالح المسلمين. (1870) قوله: لا تقولنّ: انّى مؤمّر آمر فاطاع، لانّ انسان لو اقدم على جميع ما يقدر عليه، لكان فساده اكثر من صلاحه، لانّ ما يدعوا اليه الشّهوة والهوى لا خير فيه. ولو كان الوالى يأمر بجميع ما يطاع فيه، لم يسلم نفسه ولا ولايته. فيجب ان يأمر بما يقتضيه العقل والدّين. (1871) وابعث العيون، اى اجعل عليهم مشرفا، او ناظرا يحفظهم ويخبرك بافعالهم واحوالهم. (1872) قوله من طلب الخراج بغير عمارة، اخرب البلاد واهلك العباد، لانّه يأخذ بالخراج ربع الضّيعة، فلم يبق للدهقان ما ينفقه على نفسه وما يبذره، فيصير مضطرّا الى الجلاء والهلاك. فاذا انتقل الدّهقان، فهذا اخراب البلاد، وان مات، فهذا اهلاك العباد. (1873) قوله: او بالّة، اى ندى زخير، من قولهم: لا يصيبنك عندى بالّة اى يصيبنّك منّى ندى زخير. (1874) قوله: اعتمرها الغرق، اى زارها، ومنه العمرة، وقيل اعتمرها اى غيّر عمارتها. قوله: وسوء ظنّهم بالبقاء، يعنى انّ الوالى اذا لم يثق ببقآء ولايته لا يهتمّ بمصالح الرّعيّة فى المستقبل. (1875) قوله: ليس عليه مثل آصارهم واوزارهم، لانّ معين الانسان على الامارة يجب ان يكون موثوقا به فى النّصيحة. وانّما يوثق بنصيحته، اذا نصح قبله غيره. (1876) قوله: واعلم انّ فى كثير منهم ضيقا فاحشا وشحّا قبيحا، عنى به التّجار، فان الغالب عليهم الشّحّ المطاع ومعيشتهم (185 پ) ضنك، وقد رايت تاجرا صبّ بين يديه قناطر من الذهب بنيشابور، وهو يلطم وجهه ويبكى، فسئل عن ذلك، فقال لى من النقود ما لا يضبطه الحساب، وقد

 

   ***      ***  

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 390

اشتهيت منذ شهر هريسة، فما ساعدنى طبعى على انفاق نصف دانق من مالى على قضاء شهوتى، فاجزع واستغيث من ضنك معيشتى وشحّى. فتذكرت هاهنا قول امير المؤمنين حيث قال: ضيقا فاحشا وشحّا قبيحا. (1877) قوله: بيعا سمحا اى لا غنى فيه ولا وكس، وسمحا اى سهلا. (1878) قوله: من غلّات صوافى الاسلام، اى ممّا اذّخره الوالى لنفسه ومصالحه. (1879) التّافة، الحقير. (1880) يقال صعّر خدّه، اى اماله من الكبر. (1881) قوله: استوبلوا، يقال: استوبلت البلد اى استوحشته، وذلك اذا لم يوافقك فى بدنك، وان كنت تحبّه. (1882) قوله: ولا تخيسنّ بعهدك، يقال: خاس فلان بالعهد، اذا نكث، وخيّسه تخييسا، وخاس به يخوس ويخيس، اى غدر به. (1883) قوله: على لحن القول بعد التاكّد، لحن القول اى فحواه ومعناه، واللّحن الخطأ ايضا. (1884) قوله حميّة انفك، العرب يقول شمخ بانفه ورغما لانفه، لانّ انف كلّ شى‏ء اوّله، وانف المعدة اوّله. قال امرؤ القيس.

         قد غدا يحملنى فى انفه   ***   لا حق الايطل محبوك مهر

 

قولهم: يقبل رغما لانفه، لان الانف اوّل عضو يصل الى الارض عند السجود. وشمخ بأنفه، اخذ ذلك من انف البعير. وكذا حمية الانف، لانّ البعير الهائم يحمى انفه من الخشاش ويمتنع على قائده.

(1885) ولم يتمّ هذا الامر للاشتر، لانّه سقى السّمّ فى العسل، فمات، فقال معوية: انّ اللّه جنودا منها العسل.

الكتاب 39

قوله: فى كتابه الى طلحة والزبير:

(1886) ان يجتمع العار والنار، العار السبّة والعبّ وهو من احكام الدنيا، والمعائر المعائب، قالت ليلى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 391

الاخيلية:

         لعمرك ما بالموت عار على امرء   ***   اذا لم يصبه فى الحيوة المعائر

 

الكتاب 40

قوله: (186 ر) فى كتاب له الى معوية:

(1887) والّب عالمكم جاهلكم، التأليب التحريض، يقال: حسود مؤلّب. قال ساعدة الهذلىّ: صبر لباسهم القتير مؤلّب. عنى بالعالم ابا هريرة والمغيرة بن شعبة وغيرهما من الصحابة، وبالقائم عمرون العاص ومروان بن الحكم، وبالجاهل اهل الشام الّذين ما راوا النبىّ ولا الخلفاء ولا دار الهجرة.

الكتاب 41

قوله فى وصيّته لشريح القاضى:

(1889) عند الحفيظة واقما قامعا، الحفيظة الغضب والحمّيّة، قال الشاعر:

         اذا لقام بنصرى معشر خشن   ***   عند الحفيظة ان ذو لوثة لانا

 

و

الوقم قال الاصمعىّ: [قهره‏] وردّه. وقال ابو عبيد: اى قهره، وقال الكسائىّ: الوقم كسر الرّجل وتذليله. يقال: وقم اللّه العدوّ، اذا اذلّه.

الكتاب 42

و من كلامه الى اهل الامصار:

(1890) ضرّستنا، من قولهم: ضرّسهم الزّمان، اشتدّ عليهم، وضرّسته الحروب تضريسا، جرّبته واحكمته. (1891) قوله: فهو الرّاكس، الركس ردّ الشى‏ء مقلوبا. (1892) قوله: دائرة السّوء، الهزيمة القبيحة. فمن تمّ على ذلك منهم، فهو الّذى انقذه اللّه من الهلك.

قال الامام الوبرىّ: معناه سمع قولنا واطاع امرنا فانقاد لكتاب اللّه، فهو الّذى نجا من الهلك. ومن اعرض عنه وانقاد لفاسد، رايه، فهو الهالك اذا فارق الدّنيا على هذه الصّفة.

الكتاب 43

قوله ومن كتاب له الى الاسود بن قطيبة والى حلوان:

(1893) انّ الوالى اذا اختلف هواه، منعه ذلك كثيرا من العدل، معناه اذا لم يوطّن نفسه، ولم يعزم عزما صادقا على الايتمار لامر اللّه. ولم يجعل غرضة اقامة العدل،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 392

حتّى يستوى عنده العدوّ والولىّ، منعه ذلك كثيرا من العدل، لانّ رجحان جانب الولىّ بلا حجّة صادقة خارج عن العدل. (1894)

قال الامام الوبرىّ: انّ الّذى يصل اليك من ذلك من الثّواب والثّناء افضل من الّذى يصل بسببك الى الرعيّة من امن السّرب وغير ذلك.

الكتاب 44

قوله: من كتاب له الى العمّال (186 پ)

(1895) [قوله:] وصرف الشّذى، الشّذى مقصور، الاذى والشرّ. يقال آذيت واشذيت. (1896) قوله: نكّل به تنكيلا، اذا جعله نكالا وعبرة لغيره.

الكتاب 45

و قوله فى كتاب له الى كميل بن زياد عامله على هيت،

(1897) هيت بالكسر اسم بلد على العراق،

قال الاصمعىّ، اصلها من الهوّة. وانّه اغار على قرقيسا وضيّع مواضع عمله.

(1898) قوله: لرأى شعاع، الشّعاع بفتح الشّين تفرّق الدم وغيره.

قال الشاعر: لها نفذ لولا الشّعاع اضاءها.

و يقال: رأى شعاع متفرّق، ونفس شعاع تفرّقت هممها.

الكتاب 46

قوله: فى كتاب له الى اهل مصر،

(1899) المهيمن الشّاهد، وهو من آمن غيره من الخوف، واصله اامن فهو مئأمن. بهمزتين، قلبت الهمزة الثانية كراهية لاجتماعهما، فصار مأيمن، ثم صيّرت الاولى هاء، كما قالو: اهراق الماء واراقه. (1900) قوله: انثيال الناس، يقال: انثال عليه النّاس من كل وجه، اى انصبّوا. (1901) قوله: راجعة الناس، قد رجعت [عن الاسلام‏]، عنى به اهل الردّة. قوله: وهم طلاع الارض، طلاع الارض ملؤه. قال الشاعر يصف قوسا:

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 393

كتوم طلاع الكفّ لا دون ملئها.

قال الحسن البصرىّ: لان اعلم انّى برى‏ء من النّفاق، احبّ الّى من طلاع الارض ذهبا. (1902) قوله: شرب فيكم الحرام، اى الخمر، وجلد [حدّا] فى الاسلام، عنى به الوليد بن عقبة والمغيرة بن شعبة جلد هما عمر بن الخطّاب مرّة، وجلد الوليد فى عهد عثمان علىّ بن ابى طالب بين يديه. (1903) قوله: ومنهم من لم يسلم حتّى رضخت له الرضائخ، يقال رضخت له رضخا، وهو العطاء ليس بالكثير. وفى الحديث: امرت له يرضخ، هو عمرو بن العاص، طلب من النّبىّ، صلّى اللّه عليه وآله، عطا حتّى اسلم. (1904) قوله: من نام، لم ينم عنه، كلام له يمثّل به، يعنى من غفل عن عدوّه، لم يغفل عدوّه عنه.

الكتاب 47

قوله من كتاب له الى ابى موسى الاشعرىّ:

(1905) هو لك وعليك، يعنى تخلط الحقّ بالباطل، (187 ر) امّا الحق فهو لك، واما الباطل فهو عليك. (1906) قوله: حتى يخلط زبدك بخاثرك، مثل للعرب: اخلط الزّبّاد بالخاثر، وزبّاد اللبن بالضمّ والتشديد. والخاثر خلاف الرقيق من اللبن.

و فى الامثال ما يدرى ايخثر ام يذيب. (1907) قوله: ما هى بالهوينا، اى بالامر اليسير.

(1908) حتّى لا يقال اين فلان، يعنى حضورك وغيبتك ووجودك وعدمك عند[هم‏]سواء.

الكتاب 48

(1909) قوله: وبعد ان كان انف الاسلام، اى اوّل الاسلام واظهره. [و فى‏] رواية «حربا»، يعنى بعد ظهور الاسلام حربا لرسول اللّه، عنى به ابا سفين، انّه حارب رسول اللّه من يوم احد الى يوم فتح مكّة، ورواية «حزبا» اى صار حزبا لرسول اللّه بعد القهر وظهور الاسلام ونزول قوله، تعالى:

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 394

 إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ.

نزلت بين المصرين، اى الكوفة والبصرة. (1910) قوله انقطعت الهجرة يوم اسر اخوك، يعنى انقطعت الهجرة بعد فتح مكّة، فانّ مكّة بعد فتحها صارت دار الاسلام بعد ما كانت دار الحرب، فاسر يومئذ يزيد بن ابى سفيان، حتّى جمع معه الاحابيش، وحارب خالد بن الوليد فى اسفل مكّة. يقال اعضضته سيفى، اى ضربته به. [قوله:] بجدّك، يعنى عتبة بن ابى ربيعة، وخالك اى الوليد بن عتبة، واخيك، اى حنظلة بن ابى سفيان، قتلهم يوم بدر. (1911) قوله انّها خدعة الصّبىّ عن اللّبن، كلام يتمثّل به.

الكتاب 49

(1912) قوله باللّمح الباصر، اللّمح الباصر، اى الامر الواضح. (1913) قوله: الخائض فى الدّهاس، الدّهاس المكان اللّيّن السّهل لا يبلغ ان يكون رملا وليس هو بتراب ولا طين. الدّيماس السّرب، فى الحديث فى وصف المسيح سبط الشعر كثير خيلان الوجه كانّه خرج من ديماس. والدّيماس فى لغة التّابعين ومن تلتهم سجن كان للحجّاج بن يوسف.

الكتاب 50

(1914) [قوله:] ليفرح بالشى‏ء الّذى لم يكن ليفوته اى يلتذّ بالرجاء، فانّ لذة الوهم بالرجاء، ويفرح بما يرجوه، فلا يتحقّق، ويحزن على ما لم يكن من مصائب الدنيا، حتّى يصيبه (187 پ) بعضها، عنى بها ذلك فى اكثر الامور.

الكتاب 51

(1915) قوله: واجلس لهم العصرين. العصران هاهنا الغداة والعشىّ.

قال الشّاعر: وامطله العصرين حتّى يملّنى ويرضى بنصف الدّين والانف راغم وفى غير هذا الموضع «العصران» اللّيل والنّهار.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 395

الكتاب 52

قوله: فى كتابه الى الحرث الهمدانى:

(1916) وعظّم اسم اللّه ان تذكره، اى لا تحلف باللّه كاذبا، ولا تستشهده باطلا. (1917) قوله: واسكن الامصار العظام، فانّها جماع المسلمين، يعنى تمام امور الاسلام والمسلمين انّما يتعلّق بمصر جامع، لقول النّبى، عليه السّلام: الجماعة رحمة، وقوله: يد اللّه [على الجماعة]. وانما الرساتيق فسكّانها مشغولون بمصالح الزراعة والحراثة، غافلون عن الديانة وعن ذكر اللّه. (1918) قوله: خادع نفسك فى العبادة، اى امسك، من قولهم: اعطى ثمّ خدع، اى امسك.

الكتاب 53

(1919) قوله: خذ عفوها. العفو فى كلام العرب الابتداء والرّفعة الاولى، ويقال خذ عفوها، اى كثر بها من عفا ماله، والعفو هو السّعة والتفضّل.

و العرب يقول: واكلنا عفو الروضة ورعينا عفوها. اى اوّلها ولم ترع قبلنا.

و

قيل: عفو الذّنب مأخوذ من أنّه اوّل ذنب يستوجب التفضّل عليه والصّفح عنه، فلذلك سمّى عفوا.

(1920) قوله: مهطعون اليها، يقال: اهطع، اذا مدّ عنقه وصوّب رأسه. قال الشاعر: ونمر بن سعد لى مطيع ومهطع.

الكتاب 54

قوله: فى كتابه الى عبد اللّه بن عباس:

(1921) ما كان لك منها اتاك على ضعفك، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك، عنى به الامور البشرية الّتى لا تحتاج لها الى استعداد بشرىّ.

الكتاب 55

(1922) قوله: يبهظه مقامه، يقال: بهظه الحمل يبهظه بهظا، اى اثقله وعجز عنه، وهذا امر باهظ، اى شاقّ. قوله: نوازع يقرع العظم وتهلس اللّحم. النوازع الخصومات فى الحقّ، من قولهم: بينهم نزّاعة ونازعة، اى خصومة فى حقّ. تهلس تسلب وتذيب، من قولهم هلسه المرض اى اذابه، ومهلوس العقل اى مسلوبه. (1923) قوله: من حلف، اى من عهد.

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 396

الكتاب 56

(1924) قوله: بين اليمن وربيعة، (188 ر) يعنى بين قحطان وبين بنى ساوبين بنى ربيعة بن نزار الذى يقال له ربيعة الفرس.

الكتاب 57

(1925) قوله: طيرة من الشّيطان، الطيرة الخفّة والطّيش. قال الكميت:

         وحلمك عزّ اذا ما حلمت   ***   وطيرتك الصّاب والحنظل‏

 

الكتاب 58

قوله: فى وصيّة له لعبد اللّه بن العباس حين بعثه للاحتجاج على الخوارج:

(1926) لا تخاصمهم بالقرآن، فانّ القرآن حمّال ذو وجوه، ولكن حاجّهم بالسّنّة، لانّ الكتاب يحتمل من الوجوه ما لا يحتمله السّنّة. وما كان اكشف وابين من مراد قائله، فالاحتجاج اقرب. وسنة الرسول، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، اظهر فى ابطال مذاهب الخوارج من القرآن، لانّ رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، اقام الحدود على الفسّاق والجناة، واقام فيهم حكم المؤمنين من الحدود.

و لا يخفى ذلك على الامّة، ولا نزاع فيه، لوقوع المشاهدة، والاحتجاج بالمشاهد اقوى.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 397

باب المختار من حكمه

الحكمة 1

(1927) قوله: كن فى الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب. ابن اللبون ولد الناقة اذا استكملت السنة الثانية ودخل فى الثالث، لانّ امّه وضعت غيره، فلها لبن. فهو نكرة ويعرف بالالف واللام. قال الشاعر:

         وابن اللّبون اذا ما لزّفى قرن   ***   لم يستطع صولة البزل القناعيس‏

 

و قيل المراد بذلك انّه [قال:] كن فى الفتنة بحيث لا مطمع لاحد من طريق القوّة ومن طريق المال، يعنى لا تهيّج الفتنة بنفسك ومالك. عبّر عن القوّة بالظّهر، وعن المال باللّبن.

و

قيل: لا تكن فى الفتنة منقادا لصاحب الفتنة بحيث يركبك، اى يحملك وزره، ويستمدّ منك، كما يستمدّ الحالب من اللبن

و المراد بالقولين: لا تكن سلس القياد فى الفتنة والشرّ.

الحكمة 2

(1928) قوله: من امرّ عليها، المراد بذلك انّ اطلاق اللّسان فى ما لا يعنيه وما يستهينه يفضى الى وضع القدر والحرّية عند الناس. لان الايذاء انما يشتهيه (188 پ) الانسان ويرغب فيه، ومن [امرّ] لسانه على اذ دراء الناس، فقد هان عليهم وخفّ وزنه عندهم.

الحكمة 3

(1929) قوله: والعجز آفة، اى من عجز عن تهذيب اخلاقه، وامساك نفسه عند الشّهوات، فلقد ادركته الآفة. (1930) قوله: الزّهد ثروة، مأخوذ من قول النّبىّ، عليه الصّلوة والسّلام: القناعة مال لا ينفد. (1931) وحقيقة الزّهد انّ الزاهد يختار الباقى على الفانى، وكانت‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 398

الدّنيا فى عينه حقيرة، امّا الورع فهو الّذى يتنزّه عن المعاصى. والزاهد هو الّذى يتنزّه عن اكثر المباحات مع القدرة والتمكّن، ولا يدّخر الدنيا. والزّاهد المطلق هو الّذى لا يضيّع عمره فى اكتساب اللّذّات الدّنياويّة، ويقبل على الّلذّات الموعودة فى العقبى. وهذا بيع يتبعه ربح عظيم. قال اللّه، تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فلذلك قال امير المؤمنين: الزّهد ثروة، لانّه باع الفانى واشترى الباقى، والثّروة بالباقى دون الفانى.

(1932) واعلم ان بيع الدنيا بالاخرة زهد ضعيف عند بعض العارفين، لان مطلب العارف هو النسبة الشريفة الّتى بين العبد والمعبود، وهو الرضوان الاكبر. ولهذا العارف ولاية ان ياخذ الاموال ويتصرّف فيها، ويضعها فى مواضعها، كما فعل امير المؤمنين علىّ بن ابى طالب. وكان العارف مع اموال الدّنيا فى يده زاهدا، وربما كان الفقير الّذى لا يقدر على درهم واحد غير زاهد، لانّ قلبه معلّق بالدّنيا، والعارف منقطع عن الدنيا غير ملتفت اليها، ولا يشتغل بطلب الدنيا، ولا يتركها، بل لا يشغله الدّنيا من طريق الطلب ومن طريق الانقطاع والهرب عنها، وبينه وبين الدنيا لا وصل ولا انقطاع، مثال ذلك انّك ترى انسانا فى مدينة او سفر، ولا صداقة بينه وبينك ولا عداوة، لانّ العداوة ايضا نوع من الاشتغال بالدنيا. وهذا لا يتيسّر لكل احد، بل لنادر فى كلّ زمان.

(1933) وقال واحد لعبد اللّه بن المبارك: يا زاهد. فقال: الزاهد هو (189 ر) عمر بن عبد العزيز، فانّه متصرّف فى اموال الدّنيا، وهو مع ذلك زاهد فيها. فامّا انا فلا اقدر على درهم واحد، فكيف اكون زاهدا.

(1934) واقول: ترك الطلب ايضا، لانّ من لا يقدر على الدّنيا، ويطلبها سرّا وعلانية، فليس بزاهد، بل هو ممّن خسر الدّنيا والاخرة، ذلك هو الخسران المبين.

الحكمة 4

(1935) قوله: العلم وراثة كريمة، تقدّم الكلام فى العلم وفضيلته، والعلم النافع الذى طلبه فريضة.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 399

(1936) قوله: الاداب حلل مجدّدة، اى لا يبلى، بل يزداد بكثرة التجارب والممارسة كلّ وقت جدّة. وعنى بالاداب هاهنا آداب الشرع الّتى هى مكارم الاخلاق. (1937) قوله: الفكر مرآة صافية، اعلم انّ كلّ علم لا يحصل بديهة، فلا بدّ من طلبه. ولا يمكن طلب ذلك المجهول الا بمعروفين يؤلّف بينهما، حتى يعرف من تأليفهما هذا المجهول. وهذان المعروفان كالاصلين. ومثالهما رأس المال للتاجر [و العلم بالتّجارة]. فمن استولى على راس المال، ولم يعرف التجارة، فقد ضيّع راس ماله. ومن فاز براس المال، وكان عارفا بالتجارة، فقد فاز بالربح العظيم.

(1938) ومثال ذلك انّ من اراد ان يعرف انّ العقبى خير من الدنيا، لا يمكنه ان يعرف ذلك الا بمعرفة اصلين: احدهما ان الباقى خير من الفانى، ويعرف ان العقبى باقية والدنيا فانية.

(1939) فمثل هذين العلمين كالزند والمقدحة ومثل التفكّر مثل حركة اليد عن القابس. ومثال معرفة المجهول المطلوب مثال النّار الّتى يخلقها اللّه بسبب الزّند والمقدحة وحركة يد القابس.

فلذلك قال امير المؤمنين: الفكر مرآة صافية. (1940) والدرجة الاولى من الكفر ان يتفكّر فى نفسه واعماله المكروهة ورذايله الخبيثة، فيتخلّص نفسه منها. والرذايل الظاهرة كالمعاصى، والباطنة كالحرص والحسد والبخل وامثال ذلك داخلة فى هذا المعنى.

و الدرجة الثانية التفكر فى افعال اللّه، تعالى.

و تقدّم الكلام فى بعض عجائب مخلوقات اللّه، تعالى. (189 پ).

و لذلك قال النّبىّ، عليه السّلام: تفكّروا فى المخلوقات ولا تتفكّروا فى الخالق.

الحكمة 5

(1941) قوله: صدر العاقل صندوق سرّه، اى لا يفشى سرّه. فانّ السرّ

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 400

بالكتمان، اولى، وكتمان الاسرار خلق محمود من الفضائل وهو من باب الامانة. (1942) [قوله:] الاحتمال قبر العيوب والمسالمة خباء العيوب، هما روايتان، عنى به انّ المخاصمة يثير نقع العيوب، فانّ الخصم يضطرّ الى اظهار معايب خصمه ليحقّره فى اعين النّاس ويفوز بالانتقام منه. ومن لم يغضب، واختار الاناة عند سفاهة السّفهاء، استترت عيوبه، اى لا يذكر من عيوبه عيب اذا عرف بالاحتمال. (1943) قوله: البشاشة حبالة المودّة، معناه بالبشاشة يمكن حسن المعاشرة، ولا يضيق نطاق البشاشة عن الاصدقاء والمعارف، ويضيق نطاق المال والجاه عن هولاء. (1944) قوله: من رضى [عن‏] نفسه كثر الساخط عليه، من رضى عنه نفسه، اعتقد الكمال لنفسه، ومن اعتقد الكمال لنفسه، اعتقد النّقصان لغيره. وليس الامر كذلك. فينظر الى غيره بالازدراء والتحقير فكثر السّاخط.

و من رضى عن نفسه، رفع نفسه فوق قدرها، ومن رفع نفسه فوق قدرها، ردّها النّاس الى قدرها. فكثر السّاخط عليه. ومن رضى عن نفسه، لم يجتهد فى طلب كماله، وبقى فى مهاوى النّقصان، وتصوّر نقصانه كمالا. والعقلاء يتصوّرون نقصانه نقصانا، فلذلك كثر السّاخط عليه.

الحكمة 6

(1945) قوله: الفقر يخرس الفطن عن حجّته، لانّ الفقر يصغّر صاحبه فى نفسه فيتصاغر اليه نفسه، فلا يقدم على القول، وان كان صدقا وحقّا، لجبنه ومخافته ان يردّ عليه، ويستخفّ به، فيؤثر السّكوت على الكلام عند اظهار الحجّة، وان كان حسن الكلام، فيصير من هذا الوجه كالاخرس عن الحجّة والبرهان.

الحكمة 7

(1946) قوله: الصدقة دواء منجح، ماخوذ من قول النّبى، صلّى اللّه عليه وآله: داووا مرضاكم (190 ر) بالصّدقة.

قال بقراط مقدّم الاطبّاء: من‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 401

الامراض امراض علاجه القرابين والصّدقات. واذا كان الشافى فى الحقيقة هو اللّه، فطلب الشّفاء منه بالصّدقات اولى. وهذا دواء ينفع، ودواء الطبيب ربّما لا يفيد ولا ينفع. ويقال لهذا الدواء: الطبّ الالهىّ.

فلذلك قال امير المؤمنين: الصّدقة دواء منجح.

الحكمة 8

(1947) قوله: اذا اقبلت الدّنيا على احد، اعارته محاسن غيره. معناه انّ من وافقته الدولة، اعتقد الناس فيه الكمال والمحاسن والفضائل، فينسبون محاسن غيره اليه. واذا ادبرت الدولة، اعتقدوا فيه المثالب. فربّما اتى بمحمدة وينسب الى غيره، ولا يظنّ به الّا الادبار. و

قيل: فى قوله «اعارته محاسن غيره» يعنى انّ العقلاء والعلماء يتقرّبون اليه بتنبيهه على عقايل الكلام ومحاسن الاعمال، فكأنّ الدولة اعارته محاسن غيره.

الحكمة 9

(1948) قوله: [اعجز النّاس‏] من عجز عن اكتساب الاخوان، واعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم. يجب فى اتخاذ الاخوان ان يراعى فيه اتّفاق المطلب، وهو مطلب الاخوّة واتّفاق الاخلاق. فانّ البخيل يرى بذل السّخىّ اسرافا، والسّخىّ يرى امساك البخيل لؤما. والشّجاع يرى جبن الجبان ضعفا، والجبان يرى شجاعة الشّجاع تهوّرا. فيجب فى اتخاذ الاخوان والاصدقاء اتّفاق الاخلاق، حتى تكون الصّداقة دائمة لا يزيلها الامور العارضة.

الحكمة 10

(1949) قوله: ما كلّ مفتون يعاتب، معناه اذا وقع الانسان فى شدّة من شدائد الدنيا ينظر: فان كان من سوء اختياره، او كان فعله سببا لها، او اوقع نفسه فى تلك الشدّة بسبب امور شهوانيّة او معصيتة، فانّه يلزم عليها ويعاتب. وان كان من فعل اللّه، او من فعل غيره، فانّه لا يلام عليها، وهو فى كلّ حال مفتون.

الحكمة 11

(1950) قوله: تذلّ الامور للمقادير، حتّى يكون الحتف فى التّدبير، يعنى من قدّر اللّه هلاكه (190 پ) فانّ تدبيره يؤدّي الى تدميره.

الحكمة 12

 

(1951) قوله: امرؤ وما اختار، مثل للعرب، كلّ امرؤ وما اختار

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 402

و يروى: «دع امرءا وما اختار». الواو هاهنا بمعنى «مع» اى: دع امرا مع ما يختار. وهذا كقولهم: استوى الماء والخشبة، اى مع الخشبة، وجاء البرد والطيالسة. ونكر «امرأ» الّا انّه اراد بالنكرة العموم، كقول اللّه، تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ. ومعنى المثل ملائم لقول الشاعر:

         اذا المرء لم يدر ما امكنه   ***   ولم يات من امره ارسنه‏

         فدعه فقد ساء تدبيره‏

   ***   سيضحك يوما ويبكى سنة

 

(1952) امّا تغيير الشّيب والخضاب، فنقل بعض الروايات انّه نوع من الرياء. واذا كان الشّيب نور اللّه، فستر نور اللّه امر خارج عن الاعتدال، والغزاة يخضبون بالحنّاء فى عهد السّلف.

الحكمة 13

(1953) قال فى الاحنف بن قيس حين اعتزل امير المؤمنين وطلحة والزبير: خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل.

الحكمة 14

(1954) من كان صاحب المروة، فانّ اللّه، تعالى، يهديه فى عواقب اموره الى ما يحبّ ويرضى.

الحكمة 15

(1955) قوله: قرنت الهيبة بالخيبة، اذا عظّم الانسان صغار الامور فى نفسه، او كبّر صغير الناس فى وهمه وهابه، ربما كان ذلك سبب حرمانه ممّا قدّر له فى الرّزق او حسن الذّكر، فلذلك قال قرنت الهيبة بالخيبة.

الحكمة 16

(1956) قوله: لنا حقّ، فان اعطيناه، والا ركبنا اعجاز الابل.

قيل: من منع حقّه مع حاجته اليه، ولم يقدر على استيفائه، فقد ظلم، والمظلوم تلحقه مذلة.

الحكمة 17

(1957) قوله: من كفارات الذّنوب العظام اغاثة الملهوف والتّنفيس عن المكروب، لانّ الاغاثة طاعة متعدّية، وفيه فوائد: منها زجر الظّالم ونجاة المظلوم وتوطين النّفس على قهر القوّة الغضبيّة واكتساب مودّات القلوب. واذا كانت الطاعة عظيمة، كانت كفارة، للمعصية العظيمة. و

قيل: انّ كفارة المعصية الظاهرة الطّاعة الظّاهرة المتعدّية. ولا طاعة (191 ر) فى الظّهور مثل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 403

اغاثة ملهوف واعانة العقل عند استيلاء الهوى عليه من باب اغاثة الملهوف.

الحكمة 18

(1958) قوله: واذا رايت، سبحانه وتعالى، يتابع عليك نعمه [و انت تعصيه‏] فاحذره، المعنى، يعنى: فاحذر معصية اللّه، لانّه اذا تواتر نعم اللّه على عبده من صحّة البدن وكثرة المال والاولاد واستقامة الاحوال، وذلك العبد يعصى ربّه، كان استحقاقه للعقاب اوكد، لما روى انّ اللّه يقول: يا بن آدم، خيرى عليك نازل، وشرّك الىّ صاعد، واتحبّب اليك بالنّعم، وتتمقّت الىّ بالمعاصى.

الحكمة 19

(1959) قوله: ما اضمر احد شيئا الّا ظهر فى فلتات لسانه وصفحات وجهه، المعنى انّ الاعتقاد الذى فى صميم الفؤاد كالرطوبة التى فى اعراق الشجرة واصولها. فلا شكّ انّه يظهر آثارها بالاوراق والازهار على اغصانها.

الحكمة 20

(1960) امش، بدائك ما مشى بك، يعنى امش فى صورة الاصحّاء مع علّتك، ولا تضع جنبك على الفراش. وذلك راجع الى اخفاء المرض.

كما قال النّبىّ، عليه السّلام: من كنوز اللّه كتمان الصدقة والمصيبة. والفايدة الطبيّة فى ذلك انّ اخفاء المرض معاونة للطبيعة على دفع المرض، فانّه نوع تجلّد، والتجلّد يكون اعانة الطبيعة وتقويتها، ومن الامراض امراض تحلّل الحركات الجسمانيّة موادّها، فلذلك قال: امش بدائك ما مشى بك.

الحكمة 21

(1961) قوله: افضل الزّهد اخفاء الزّهد، المعنى من ابتهج باطلاع الخلق على زهده وعبادته، فهو قارع باب الرّياء، الّا ان يكون ابتهاجه بسبب انّه اراد اخفاء زهده، فاظهر اللّه حسن طاعته من غير طلب منه، واخفى معاصيه التى خبأها، وهذا لطف كامل وفضل وافر. فابتهج بانّ لطف اللّه، تعالى يظهر حسناته وعفوه يستر سيّئاته. ومحصّل الكلام فى اظهار، الزّهد انّ الطاعة وترك المعاصى (191 پ) ممّا يتقرّب بهما الى رضى اللّه. فاذا اظهره للناس، فلا يخلوا من ان يكون الخلق فى قلبه اكرم واعظم من اللّه. ومن كان اللّه فى قلبه اكرم واعظم، فهو يخفى الطّاعة والزّهد، فلذلك قال: افضل الزّهد اخفاء

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 404

الزّهد.

الحكمة 22

(1962) قوله: الايمان على اربع دعائم: على الصّبر (....)، اعلم انّ معنى الايمان يرجع الى المعارف والاحوال والاعمال. فالمعارف كمثل اصل الشجرة، والاحوال كالاغصان، والاعمال كالثّمرات. فقدّم امير المؤمنين من دعائم الايمان الصّبر، لانّ الصّبر اشدّ الاعمال، ولا يستغنى المؤمن عن الصّبر، لان المؤمن امّا فى النّقمة وامّا فى المهنة: فاذا كان فى النّعمة، فلو لم يصبر ولم يملك نفسه، حصل له البطر والطّغيان، كما قال اللّه، تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ. والصّبر فى العافيةو النّعمة من علامات الصّدّيقين. وقال اللّه، تعالى، فى حقّ ثعلبة حين لم يصبر على النّعمة والعافية: فلما آتاهم اللّه من فضله، بخلوا به وتولّوا وهم معرضون. والصّبر على النعمة ان لا يسكن اليها ولا يطمئنّ ويعرف انّ هذه عارية.

و اما الاحوال الّتى لا تلائم الانسان، فمنها كلفة الطّاعة ومشقّتها والاجتناب عن المعاصى. ولا غنى عن الصّبر فى اداء التكليف على كلفة التّكليف ومشقّته. ومنها موت الاعزّة ونقصان الاموال. ولا غنى عن الصّبر عند هذه الشّدائد. قال اللّه، تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا.

(1963) وامّا العفّة فهى تحصيل تمام حسن الخلق من كسر القوّة الشهوانيّة والغضبيّة.

(1964) والعدل عدلان: عدل بالنسبة اليك، وعدل بالنسبة الى غيرك. فالعدل الذى هو منسوب اليك الاحتراز من الخسران والطّغيان فى ضعف القوّة الشّهوانية والغضبيّة وتسلّطها. فيسكن الغضبيّة بالشّهوانيّة والشّهوانيّة بالغضبيّة، فهذا هو الميزان الحقيقىّ. قال اللّه، تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (192 ر).

(1965) اما الاخلاص، فالباعث على العمل الصّالح النّية، فاذا كان‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 405

المتقاضى واحدا، فهذا هو الاخلاص. مثال ذلك انّ من صام، فان كان غرضه الثّواب، فهذا هو الاخلاص، وان كان غرضه الثواب وحفظ الصحّة او قلة المؤونة، فهذا خارج عن الاخلاص. وكذلك اذا اعتق عبدا، فان كان المطلوب رضى اللّه، فهذا هو الاخلاص، وان كان المطلوب رضى اللّه ونجاته من نفقة العبد وكسوته. فهذا غير الاخلاص.

و هذا هو المرتبة الثانية من الصّدق، لانّ من كان فى ضميره شى‏ء سوى ما يتقرّب الى اللّه، فهذا هو الكذب. (1966) وامّا قوله: والتّرقّب، فالمراقبة والترقّب معنى قول اللّه، تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ. وفى الاخبار: حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا. ومراقبة الصّديق ان يكون قلبه مستغرقا فى ذكر اللّه، ولا يلتفت الى غير اللّه. كما قال النّبى: من اصبح وهمّه همّ واحد، كفاه اللّه همّ الدّنيا والاخرة. ومراقبة الصّلحاء واصحاب اليمين معرفتهم بانّ اللّه مطلّع عليهم، ولا يساعدهم الاستغراق فى سبيل اللّه، بل لهم التفات الى انفسهم والى احوالهم.

و حقيقة الترقّب ان يكون مراقبته على وجه ينظر الى افكاره وخواطره. فما كان منها موافقا لرضى اللّه، اقبل عليه بالاتمام، وما كان منها مخالفا لرضى اللّه، استحيى من اللّه، وامتنع منه.

(1967) اما المحبّة والشّوق، فانكرهما جماعة من اهل الظّاهر، وقالوا: لا يقال محبّة اللّه والشّوق الى لقاء اللّه، تعالى. والمحبّة ميل الطبع الى شى‏ء ملائم. فان كان هذا الميل قويّا، يقال له العشق.

(1968) قوله: كلّ كمال محبوب، ومن احبّ كاملا، اعتقد ذلك المحبّة كمالا له. ومن احسن الى واحد، فهو محبوب، كما قال النبىّ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 406

عليه السّلام: جبّلت القلوب على حبّ من احسن اليها. فكانّ المحبّ بالحقيقة (192 پ) يحبّ نفسه ويحبّ بقاء نفسه. فكذلك يحبّ من اوجد نفسه وابقى نفسه، واعطاه كمال نفسه. وكما انّه يحبّ وجود نفسه يجب ان يحبّ من اوجده، ولم لا يحبّ، ومحبّته ثمرة معرفته.

(1969) امّا الشّوق فقد نقل فى الادعيّة المرويّة عن رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، انّه قال: اسألك الشّوق الى لقائك. والشّوق يكون فى الشّاهد الى شى‏ء بعضه، هو شاهد من وجه وغايب من وجه. مثال ذلك المعشوق، فانّه غائب من جهة شخصه حاضر فى الخيال. والشوق تقاضى الطّبع حتّى يكون ما فى الخيال مشاهدا فى الحسّ حتى يتمّ الادراك. فما كان متخيّلا يريد ان يكون محسوسا مشاهدا. فاذا اعتبرنا حال القلب وما ارتسم فيه من معرفة اللّه، فذلك هو الانس. واذا اعتبرنا حال القلب وما لم يحصل للانسان من تفاصيل معرفة اللّه، وطلب المرء تحصيله، فهذا هو الشّوق. وهذا لاتمام المطلوب، وهو الّذى قال اللّه، تعالى، فى ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. (1970) قوله: على تبصرة الفطنة، قال: الفطنة ذكاء القلب، وتبصرته هو اكتساب العلوم. فان العقل والعلم الاوّلىّ اذا لم يقترن به العلم المكتسب يسمّى اعمى. وانما يخرج عن العمى اذا توصّل به الى العلوم المكتسبة. (1971) قوله: وتاوّل الحكمة،

قال: هو العلم بمراد الحكماء فيما قالوا، واولى الحكمة بالعلم هو قول اللّه ورسوله، كما قال اللّه، تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ.

(1972) قوله: وموعظة العبرة،

قال: هو الاعتبار والتفكّر فيما يرى ممّا يحدثه اللّه فى خلقه من الزيادة والنقصان وتصريف الاحوال. فيستدلّ بها على صانع حكيم وعلى فناء الدّنيا وزوالها وانّ البقاء ورائها.

(1973) قوله: وسنّة الاوّلين،

قال: هذا [هو] الاحتذاء على سيرة

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 407

الانبياء فى اخلاص التوحيد والاستقامة على اليقين والاعتصام بسنّة النّبى، صلّى اللّه عليه وآله، وما سبق عليه الصّحابة (193 ر) والصّالحون فى ملازمة التقوى سرّا وجهرا وقولا وعقيدة.

(1974) قوله: صدر عن شعائر الحكم، لانّ العلم بمعانى كلام اللّه ورسوله يكون فاصلا بالحكمة العادلة والسيرة الفاضلة. (1975) قوله: لم يصبح ليله، مثل للعرب، ووضع المثل «اصبح ليل» يضرب فى من يتوقّع النّجاة من البلاد ولا ينجو قائله امرءة امرء القيس.

و كان امرء القيس فروكا. وكانت تلك المراة لا يطيق معه البيتوتة.

الحكمة 23

(1976) قوله: فاعل الخير خير منه، لان الخير خير من الخير.

الحكمة 24

(1977) قوله: ان المرض لا اجر فيه، لان الالام اسباب الاعواض لا اسباب الاجر والثّواب.

الحكمة 25

(1978) قوله: بجمّاتها على المنافق، اى باجمعها.

الحكمة 26

 

 

(1979) قوله: سيّئة تسوءك، يعنى تحزن بعدها وتندم عليها، خير من حسنة تورث العجب، وقد ذكرنا ان العجب من المهلكات.

الحكمة 27

(1980) قوله: احذروا صولة الكريم اذا جاع، الكريم لا يحتمل اذى الجوع، واللئيم بعد الشّبع يبطر.

الحكمة 28

(1981) قوله: المال مادّة الشّهوات، يعنى بالمال تحصيل المشتهى، فيكون سببا للشهوات.

الحكمة 29

(1982) قوله: من حذّرك كمن بشّرك، يعنى النّجاة من الشرّ مثل البشرة بالخير.

الحكمة 30

(1983) قوله: لا ترى الجاهل الا مفرطا او مفرّطا، اى: غاليا او مقصّرا.

الحكمة 31

(1984) قوله: اذا تمّ العقل، نقص الكلام، يعنى: العاقل لا يتكلّم بما لا يعنيه، فيقلّ كلامه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 408

الحكمة 32

(1985) قوله: قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها،

قال قوم: هذه استعارة عن المفارقة الحقيقيّة.

و الطلاق الرّجعىّ انّه اذا قال الرجل لامرأته: انت طالق واحدة، او قد طلّقتك، او انت مطلّقة، او انت طالق طلاقا، فهى واحدة رجعيّة، او قال لها: اعتدّى، او عليك باستيراد حملك، ونوى به الطلاق واحدة، فهى واحدة رجعيّة.

و اذا وقعت عليها تطليقة رجعية او تطليقتان، فله ان يراجعها ما دامت فى العدّة. فقال امير المؤمنين: فقد طلّقتك طلاقا لا رجعة فيها. و

قال قوم من اهل المعنى: لم يكن (193 پ) بينهما نكاح، فكيف يقع الطّلاق. وهذه استعارة، وفى الاستعارات لا يطلب الاحكام الشرعيّة.

الحكمة 33

(1986) قوله: خذ الحكمة انّى كانت، فان الحكمة يكون فى صدر المنافق، فيختلج فى صدره حتّى يخرج الى صواحبها فى صدر المؤمن.

قال: لانّ الحكمة كالضّالة عند المنافق لا يسكن نفسه الا باظهارها. فان الجاهل اذا علم شيئا، صار العلم عنده كالنادر، فيعجب بنفسه، ويكاد يعجز عن الامساك عنه، حتّى يظهره. فاذا تكلّم بالحكمة، وسمعها المؤمن، ازداد علم المؤمن بها الى علمه، فيسكن عنده، ثمّ اذا احتيج الى علة، بثّه. ومن اخلاق المؤمن الوقار وعادته الاصطبار.

الحكمة 34

(1987) قوله: قيمة كلّ امرء مّا يحسن، المعنى انّ جميع ما خلقه اللّه [انّما خلقه‏] كاملا على وجه الحكمة. وقيمة كلّ شى‏ء تبع لمقصوده.

و اذا كان المقصود من خلق العاقل العمل الصّالح والتّقوى من القبايح، فانّه لا سبيل له اليها الّا بالعلم، فكان المقصود من خلقه حصول معرفته وعلمه. فمتى ازداد علمه، ازدادت قيمته.

و قيمة الانسان يظهر بامرين: حسن الثناء فى العبادة، وحصول الثّواب فى المعاد. فمجموعهما يظهر قيمته، ويقضى حقّه.

(1988) وقال قوم: من فاز بالعلم، انتفع بكلّ ما سمعه وشاهده،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 409

و من كان جاهلا، استبصر بكلّ ما سمعه وشاهده.

و لذلك قال: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً. فالخبيث من الارض، وان طاب بذره، وعذب ماؤه، لم ينبت الا خبيثا، والطّيّب من الارض، وان فسد بذره، وملح ماؤه، لم ينبت الا طيّبا. ولذلك قال اللّه، تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ.

و قال فى صفة القرآن: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ. وهو عليهم عمى. ومن لم يتخصّص بالعلم والعمل، فليس (194 ر) بانسان ولا قيمة له. فانّ القيمة للانسان بقوله، تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ. ولو توّهمنا سلب العقل عن الانسان، لما كان الّا بهيمة مرسلة، او صورة ممثّلة. ولا انتفاع بالعقل، الا بعد تحصيل العلم. ولذلك نفى اللّه، تعالى، العقل عن اقوام لا ينتفعون به.

(1989) ولا انتفاع بالعلم الا بعد الاهتداء بالشّرع. لذلك قال اللّه، تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. فلا قيمة لسرير لا يمكن الجلوس عليه، ولا لطعام لا يمكن التغذّى به، ولا للباس لا يمكن ستر العورة ودفع اذى الحرّ والبرد به، وللفرس الّذى لا يمكن ركوبه وقطع المسافة به، فكذلك لا قيمة لا مرء لا علم له ولا هداية له.

(1990) وقال اللّه، تعالى: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ، فابتدأ بتعليم القرآن، ثمّ بخلق الانسان، ثم بتعليم البيان. ولم يدخل الواو فى ما بينهما.

و كان الوجه على متعارف النّاس ان يقول: خلق الانسان، وعلّمه البيان، وعلّمه القرآن، فان ايجاد الانسان مقدّم على تعليم البيان، وتعليم البيان مقدّم على تعليم القرآن.

لكّن اللّه لمّا لم يعدّ المخلوق انسانا ما لم يتخصّص بالقرآن، ابتدأ بالقرآن، ثم قال: يُرِيدُ اللَّهُ. نبّه على انّ تعليم القرآن هو الّذى جعله انسانا على‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 410

الحقيقة. ثم قال: عَلَّمَهُ الْبَيانَ نبّه على انّ البيان الحقيقىّ المختصّ بالانسان يحصل بعد معرفة علم القرآن. وترك حرف العطف، وجعل كلّ جملة بدلا ممّا قبله لا عطفا.

(1992) والانسان لفظ المدح، فلا يقال للكافر: انسان، وللجاهل: انسان، الّا من طريق التوسّع وكونه مستعدّا للانسانيّة التى ذكرناها، كما يقال للقطن انّه ثوب اى مستعدّ ان يتّخذ منه ثوب.

الحكمة 35

(1993) قوله: ضربتم اليها آباط الابل، عبارة عن السّفر، لان الرّاكب برجله يضرب ابط الابل. (1994) قوله: لا يرجون احد منكم الّا ربّه، لانّ كلّ موجود سواه زايل فان، وبفناء المرجوّ (194 پ) يفنى الرجاء المتعلّق به. (1995) قوله: لا يخافنّ الا ذنبه، لانّ خوف المريض من مرضه لا من طبيبه ودوائه. (1996) قوله: ولا يستحيينّ احد منكم، اذا سئل عمّا لا يعلم، ان يقول: لا اعلم، لانّ من تكلّم فى ما لا يعلم، ما ميّز فى ذاته بين علمه وجهله، واراد ان يلبّس على الناس، ويبرّز عندهم مجهولة فى زىّ معلومه. ومن قال فى ما لا يعلم ان يقول: لا اعلم، افاده العلماء حتّى علم.

(1997) يقول مصنف الكتاب: رأيت النّبىّ، صلّى اللّه عليه وآله فى منامى اوّل ليلة من رمضان سنة احدى وثلثين وخمسمائة، وهو يقول لى: «من قال: لا ادرى فى ما لا يدرى، فهو اعلم الناس» وكان يكرّر ذلك مرارا، فبعد ذلك ما سئلت عن شى‏ء الا تفكّرت فيه ورجعت الى الكتب والفتاوى وغير ذلك، حتّى وثق به قلبى، ثمّ اجبت. (1998) قوله: ولا يستحيينّ احد، اذا لم يعلم الشى‏ء، ان يتعلّمه. قيل لواحد من العلماء وهو يتعلّم على كبر سنّه: اما تستحيى ان تتعلّم على الكبر فقال: اذا لم استحيى من الجهل على كبرى، فكيف استحيى من‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 411

التعلّم على كبرى والعلم شفاء لمرض الجهل، وطلب الشّفاء حسن من الشّاب والشّيخ. (1999) [قوله: وبالصّبر]، تقدّم الكلام فى الصبر.

الحكمة 36

(2000) قوله: انا دون ما تقول، يعنى بمدحتى ما لا يمدح به مثلى وانا فوق ما تعتقده فىّ.

الحكمة 37

(2001) قوله: بقية السّيف ابقى عددا واكثر ولدا، من سنّة اللّه، تعالى، انّ من قتل مظلوما، وقتلت ذرّيته، ثمّ يبقى واحد منهم، فانّه يملى له ويمدّ فى املائه، حتّى ربّما ازداد طول املائه على قرنه واهل زمانه، كما فعل بزين العابدين علىّ بن الحسين، عليه السّلام، فانّه خلق من صلبه ذرّية طيّبة مباركة ينوب نسله عن نسل كثير من الناس، حتّى لو بقى المقتولون من اهله لما وفوا فى النسل بنسل هذا الواحد. وحاصل ذلك ما امضاه اللّه، تعالى، وقدّره من العدد انّه يخلقه، فانّه خلقه لا محالة، قتل بعضهم او لم يقتل، لانّه هو الخالق لجميعهم. فان شاء خلق الكثير من واحد (195 ر) وان شاء خلقهم من الكثير، كما عمّ الارض من ذرّية آدم، عليه السّلام، ومن ذرّيّة نوح، عليه السلام.

و قال حبيب بن عدىّ:

         وذلك فى ذات الاله وان يشأ   ***   يبارك فى اوصال شلو ممزّع‏

 

(2002) قوله: ممزّع اى مفرّق يقال: فلان يتمزّع من الغيظ اى يتفرّق، والمرأ تمزّع القطن بيديها. والبقيّة، فى قول اللّه، تعالى: فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ، اولو تمييز واو لو طاعة.

قال الازهرىّ: البقيّة الاسم من الابقاء، كانّه اراد: اولوا بقاء على انفسهم ليمكنّهم بالدين المرضىّ. والعرب يقول للعدوّ اذ استولى: البقيّة، اى ابقوا علينا، ولا تستاصلونا.

الحكمة 38

(2003) قوله: من ترك قول «لا ادرى» اصيبت مقاتله. مقاتل الانسان المواضع الّتى اذا اصيبت، قتلت يعنى: ربّ انسان اخبر عمّا علم، فكان اخباره سببا لهلاكه، واخبر عما لا يعلم، فتركه قول «لا ادرى» كان سببا

--------------------------------------------------------------- صفحة 412

لهلاكه.

الحكمة 39

(2004) قوله: راى الشيخ خير من مشهد الغلام، كلام لامير المؤمنين يتمثّل به. ومعنى ذلك انّ راى الشيخ صادر عن عقله وتجاربه. وحضور الغلام او مشهد الشابّ ينبئى عن حرصه وهواه، وقلة تفكّره فى العواقب.

الحكمة 40

(2005) قوله: انّ القلوب تملّ، يعنى: من التفكّر، فابتغوا لها طرائف الحكمة. الطّرف الكريم من الفتيان. والانثى طرفة. ويقال للبضاعة الكريمة: طرفة، وللبضاعات الكريمة: طرائف. والحكمة اصابة الحقّ ووضع الشى‏ء فى موضعه، حتّى لا يشوبه ذلك، والحكمة الاسم، وهو من الاحكام، وهو المنع.

و منه «حكمة اللجام» لانّها تمنع الدابة من الاعوعاج. ومنه سمّى الحاكم لانّه يمنع الظالم. ومعنى الحكمة هاهنا كلام نافع لا يحتاج فى استماعه الى التفكّر.

الحكمة 41

(2006) قوله: كيف يقلّ ما يتقبّل المقبول من الافعال هو الّذى حكم لفاعله بالثّواب ورضوان اللّه. والمرضىّ اعمّ من المقبول، لانّ اللّه يرضى العدل والاحسان من كل كافر، ولا يقبلهما من الكفّار. فالمقبول (195 پ) من الافعال المحكوم لفاعله باستحقاق الثّواب. واذا حكم بالفوز والثواب، لا يقال: انّه قليل.

الحكمة 42

(2007) قوله: ان يباهى النّاس بعبادة ربّك، ليس المراد به مباهاه يورث عجبا ورياء كما ذكرنا. فانّ المباهاة فى اللّغة المفاخرة.

فقال قوم: المباهاة هاهنا الغبطة. وقال قوم: يباهى النّاس، اى يوانس النّاس بعبادة ربّك، اى يلزم الجماعات ومواضع الذكر والوعظ. من قولهم: بهئوا بهذا المقام اى انسوا، والمباهأة بالهمزة المؤانسة.

الحكمة 43

(2008) قوله: [انّ‏] ولىّ محمّد من اطاع اللّه، لانّ من عصى اللّه فقد عصى محمّدا، ولا يكون عدوّ اللّه ولىّ محمّد.

الحكمة 44

(2009) قوله: نوم على يقين خير من صلوة فى شكّ، يعنى مباح‏

 

   ***      ***  

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 413

صادر من صاحب يقين خير من عمل له صورة الخير وهو صادر عن شاكّ فى دينه. لانّ مع الشّك فى الدين لا يثمر العمل. (2010) قوله: رجل من الحروريّة، يقال لهم: الحروريّة، لانّهم نزلوا بحروراء، وهو موضع بنهروان، واجتمعوا هناك وناظرهم امير المؤمنين، فرجع منهم الفان، وبقى هناك نفر من الخوارج، فقال امير المؤمنين: ممّا اسميّكم انتم الحروريّة لاجتماعكم بحروراء. ويقال: نهروان، بضمّ النّون والرّاء.

و قال ثعلب: بفتح النون. قال الشاعر:

         اكرّ على الحروريّين مهرى   ***   واحملهم على وضح الطّريق‏

 

و مقدّم الحروريّة عروة بن جرير ويزيد بن عاصم المحاربىّ. وكان ذلك الرجل الذى يصلّى، وقال امير المؤمنين: نوم على يقين (....)، هو عروة بن اذينة، وكان مبغضا لعلىّ، الّا انّه كان متعبّدا، وفاز به معاوية فى ايام ملكه وقتله، وسال غلامه عن حاله، يعنى عن حال عروة بن اذينة. فقال له غلامه: ما اتيته بطعام قطّ نهارا، ولا فرشت له فراشا بالليل قطّ، يعنى كان ابدا يصوم نهاره، ويصلّى ليله. وعروة هذا هو اوّل من سلّ من الخوارج السّيف وضرب به بغلة الاشعث بن قيس.

الحكمة 45

(2011) قوله: عقل رعاية لا عقل رواية،

فى الانجيل (196 ر) انّ ناقل الاخبار من غير رعاية ودراية كاعمى ناقد دنانير، وهو لا يفرّق بين زيوفها ونقودها. واشترى سلعة، ثمّ صبّ ما فى كيسه، فوجد النّاقد اكثره زيوفا، فردّ عليه وهو لا يدرى ممّن اخذه، وعلى من يردّه، فيبقى بلا نقد ولا سلعة.

الحكمة 46

(2012) قوله: لا يقرّب فيه الا الماحل، الماحل السّاعى الى السلطان. يقال: محل به اذا سعى به الى السلطان. والمحل المكر والكيد.

الحكمة 47

(2013) ثمّ قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح، يعنى: قطعوا الدّنيا قطعا، من قول العرب جاء وقد قرض رباطه. والمراد به قطع علائق الدّنيا، كما فعل عيسى، عليه السّلام.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 414

(2014) قوله: الّا ان يكون عشّارا، هو الذى يأخذ الضّرائب والسوابل. والعريف هو الّذى يعرف قومه فيدلّ على قومه من يظلمهم. والشّرطّى أخذ من قولهم: اشرط فلان نفسه لامر، اى اعلمها له واعدّها.

قال الاصمعىّ: ومنه الشّرط، لانّهم جعلوا لانفسهم علامة يعرفون بها، الواحد شرطة وشرطىّ. ثم وقع هذا الاسم على من يأخذ الاموال من الجنايات الّتى لا يجب عليها اخذ المال مثل الزّنا، فانّه يجب عليه الحدّ ولا يجب عليه اخذ المال.

(2015) قوله او صاحب عرطبة، العرطبه الطّنبور بلغة الروم، والكوبة الطبل الصغير المخصّر، عنى بهما صاحب الملاهى.

الحكمة 48

(2016) (قوله): وسكت لكم عن اشياء ولم يدعها نسيانا، فلا تتكلّفوها، هذا ردّ على المجادلين الذين يكلّفون انفسهم معرفة ما لم يكلّفهم اللّه، تعالى، به، واراد بالسكوت انّه لم يذكر ولم يأمر بالبحث عنه، فلا تتكلّفوها، اى لا تطلبوا حكمها وحقيقتها.

الحكمة 49

(2017) قوله: ربّ عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه، عنى به من علم ما لا حاجة له الى علمه، وجهل ما يضرّه جهله، كمن جهل حقيقة نفسه ومبدءه ومعاده، واشتغل بالطبّ والحساب واللغة وعلوم التواريخ الانساب (196) وعلوم الاعداد وغير ذلك.

(2018) وقال الامام الوبرىّ: هذا يحتمل وجهين: احدهما انّ العلم قد تقدّم على فعل الجهالة، فيكون سبب هلاكه ولا ينفعه علمه، لانّه يحتاج فى كلّ فعلى الى علم. فعلمه بامر مّا لا ينوب عن علمه بامر آخر، فهو فى امر آخر جاهل، وان كان عالما بغيره، فمثل هذا العلم لا ينفعه، لانّه لا يصرفه عن قبح.

و الثانى انّ العالم يفعل قبيحا لشهوة، فهو كالفاعل له بجهالة. واذا لم يصرفه علمه لغلبة شهوته، جاز ان يقال فيه: قتله جهله، اذا كان فعله سبب قتله. قال اللّه، تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا، آه، وقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 415

لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.

(2019) وقال قوم: المراد بذلك علم يورثه كبرا او عجبا ومنّ على عباد اللّه بعلمه، و[مع‏] جوامع معصيته وتقصيره فى الطاعات [يرجو] رحمة ربه بسبب علمه، وينتظر ممّن ليس بعالم تعظيمه واحترامه.

قال النّبىّ، عليه السّلام: آفة العلم الخيلاء. وبالحقيقة جهل هذا الرجل اوفر من علمه، لانّ العالم الكامل هو الّذى يعرف اخطار امور الاخرة. وعرف انّه ان لم يعمل بعلمه، كان علمه عليه وبالا. فمن علم شيئا من العلوم الدينيّة، فهو عالم، ومن لم يعلم انّه ان لم يعمل بعلمه، كان علمه وبالا، صار جاهلا بهذا المعلوم، ويقتله جهله.

الحكمة 50

(2020) قوله: قد علّق بنياط هذا الانسان بضعة هى اعجب ما فيه، وهى القلب، وله موادّ من الحكمة واضداد من خلافها، الى قوله: كلّ افراط له مفسد. اعلم انّ مملكة القلب مملكة لها جنود مختلفة، كما قال اللّه، تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً. وخلق القلب للاخرة، وشأنه طلب السّعادة العظمى ولا يحصل للقلب معرفة اللّه، تعالى، الا بمعرفة صنع اللّه، تعالى. وصنع اللّه، تعالى، العالم.

(2021) ومعرفة عجائب العالم لا يحصل الا من طريق الحواسّ. وقوام الحواسّ بالقلب، والمعرفة صيده، والحواسّ شبكته، (197 ر) والقالب مركبه، والقالب مركّب من العناصر. وذلك لضعيف بسبب هذا التركيب، وفى خطر الهلاك من داخل بسبب الجوع والعطش، ومن خارج بسبب الآفات، واحتاج فى دفع الم الجوع والعطش الى عسكرين: ظاهر وباطن. فالظّاهر هو الاعضاء، والباطن القوى.

فما من شى‏ء الّا والانسان يشبهه من وجه: هو كالاركان بما فيه من الحرارة والبرودة والرّطوبة واليبوسة، وكالمعادن بما فيه من العظام والاعصاب، وكالنّبات من جهة ما يتغذّى وينمو، وكالبهيمة من جهة ما يحسّ ويتخيّل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 416

و يتوهّم ويلتذّ ويتألّم، وكالسّبع من جهة ما يحرّد ويغضب، وكالشّيطان من جهة ما يغوى ويضلّ، وكالملك من جهة ما يعرف اللّه ويعبده، وكاللّوح من جهة ما جعله اللّه مجمع الحكم.

و

فى التورية: فى بدن الانسان اربعة آلاف حكمة، وفى قلبه مثل ذلك.

و كالقلم من جهة ما يثبت بكلامه صور الاشياء فى قلوب الناس، كما انّ القلم يثبت الاشياء فى القرطاس واللّوح.

(2022) فالانسان بقلبه صاد معدن العلم والحكمة. ووجود العقل فيه فى ابتداء الامر كوجود الماء تحت الارض المحتاج فى الاستقاء منه الى حفر.

و لمّا خلق الانسان على وجه يتحرّى ما فيه اللّذّات، والّلذّات محسوسة ومعقولة، وطلب اللّذّات المحسوسة اغلب على الانسان، لانّها من توابع الشّهوة، لذلك قال اللّه، تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ.

و

فى الانجيل: العقل صديق ممنوع، والقوى عدوّ متبوع.

(2023) وقد يظهر الانسان فى شعار النّبات الحميد او الذميم، فتصير امّا كالاترجّ الّذى يطيب حمله ونوره وعوده وورقه، او كالنخل والكرم فى ما يؤتى من النفع، او كالكشوث فى عدم الخير وتعدّى الشّرّ، وكالحنظل فى حرارة المذاق، وعلى هذا نبّه اللّه بقوله، تعالى: كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ.

و يظهر تارة فى شعار الحيوانات المحمودة، فيصير (197 پ 225 پ كيدرى) كالنّخل فى كثرة منافعه وقلّة مضارّه، وفى حسن سياسته، كما قال: وَأَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ. او الخنزير فى الشّره، او كالذّئب فى العيث او كالكلب فى الحرص، او كالنّمل فى الجمع، او كالفارة فى السّرقة، او كالثّعلب فى المراوغة، او كالقرد فى المحاكاة، او كالحمار فى البلادة، او كالثور فى الغمار. وعلى هذا النحو من المشابهات دلّ بقوله، تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ.

و يظهر تارة فى شعار الشياطين، فيغوى ويضلّ ويسوّل الباطل فى صورة

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 417

الحقّ، كما دلّ، تعالى، عليه بقوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي.

و انّما يكون انسانا اذا وضع كلّ واحدة من هذه الاشياء موضعها حسب ما يقتضيه العقل المستضيئ من الشّرع.

(2024) وقد ضربوا لذات الانسان وقواها امثالا صورّتها بها. فانّ تمثيل ما لا يدرك الّا بالعقل بمتصوّر للحسّ يقرّب من الفهم.

فقالوا: ذات الانسان يجرى مجرى بلد احكم بناؤه، وشيّد بنيانه، وحصّن سوره، وخطّت شوارعه، وقسّمت محالّه، وعمّرت بالسّكّان دوره، وأجريت انهاره، واقيمت اسواقه، واستعملت صنّاعه، وفيه ملك مدبّر وللملك وزير، وصاحب بريد، وصاحب اخبار، وخازن وترجمان، وكاتب، وفى البلد اخيار واشرار.

فصنّاعها القوى الّتى يقال لها الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والنّامية والغاذية. والملك العقل، ودار ملكه القلب والدّماغ، والوزير القوّة المفكّرة، ومسكنه الدّماغ، وصاحب البريد القوّة المتخيّلة، واصحاب الاخبار الحواسّ الخمس، والخازن القوّة الحافظة، والترجمان النّطق، وآلته اللّسان، والكاتب القوّة الكاتبة، وآلتها اليه، وسكّانها الاخيار والاشرار. فالاخيار القوى الّتى منها الاخلاق الجميلة، والاشرار القوى الّتى مها الاخلاق القبيحة.

(198 ر) (2025) فكما انّ الوالى اذا تزكىّ وساس النّاس بسياسة اللّه، تعالى، صار ظلّ اللّه، تعالى فى الارض، ووجب على الكافّة طاعته. كما قال: اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول واولى الامر منكم، كذلك متى كان العقل سايسا، وجبت على ساير القوى طاعته.

و كما لا ينفكّ اشرار العالم من طلب العبث والفساد وتعادى الاخيار، كما قال: وكذلك جعلنا فى كلّ قرية اكابر مجرميها ليمكروا فيها، كذلك‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 418

فى نفس الانسان قوىّ رديّة من الهوى والشّهوة والحسد، وتطلب الفساد وتعادى العقل والفكر.

كما انّه يجب للوالى ان يتّبع الحقّ، ولا يصغى الى الاشرار، كما قال: واحذرهم ان يفتنوك، كذلك يجب للعقل ان لا يعتمد على القوى الذّميمة.

و كما انّه يجب على الوالى ان يسالم اعاديه اذا لم يقو عليهم، كما قال: وان جنحا للسّلم، فاجنح لها، وان لا يركن اليهم، وان سالمهم، كذلك يجب للعقل ان يسالم الاشرار من قوى النفس اذا عجز عنها، وان لا يركن اليها.

و كما انّ الوالى اذا احسّ بقوة يحتاج ان يعدل الى نقض العهد واظهار المعاداة، كما قال: فاذا انسلخ الاشهر الحرم، فاقتلوا المشركين، الى قوله: واقعد والهم كلّ مرصد، كذا حق العقل اذ قوى على قوى النّفس ان لا يرجّيها.

(2026) وكما انّ شياطين الانس والجنّ يضعف كيدها على من اختصّ بالايمان، واستعاذ باللّه، ويقوى على من والاها، كما قال: انّما سلطانه على الذين يتولّونه كذلك يضعف كيد الهوى عن العقل اذا تقوى باللّه واستعاذ به. وقيل مثل الانسان مع قواه مثل مسافر معه رفقاء فى السّفر، وهو مضطرّ الى مصاحبتهم، حتّى ينقضى سفره، كما قال الشّاعر:

         ومن نكد الدّنيا على الحرّ ان يرى   ***   عدوّا له ما من صداقته بدّ

 

فواحد امامه كانّه رقيب يحفظه، ولكنّه مموّه يلفّق (198 پ) الباطل تلفيقا، فيخلط الكذب بالصّدق. وآخر عن يمينه زعر يحميه عن اعاديه، لكنّه ربما يغويه فيهيّج هايجه فلا يقمعه النّصح، كانه نار على حطب. وآخر عن يساره و[هو] الّذى يأتيه بالمطعم والمشرب، لكنّه ارعن ملق قدر شبق كأنّه خنزير جايع.

و من حيلته ان يسلّط هذا الزّعر [على هذا الارض حتّى يزبره زبرا وان يطفى غلوآء، هذا الزّعر] التأيه بخيلاء هذا الارعن الملق، وان لا يجنح الى الباهت المتخرّص، يؤتيه موثقا من اللّه غليظا، ثمّ يصدّقه فى ما ينهى اليه. فالملق‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 419

المموّه الباهت كناية عن الوهم، والزعر عن الغضب، والملق الارعن عن الشهوة. وفى ذلك كلام طويل.

فاشار امير المؤمنين الى تقويم هذه القوى وحفظها على حدّ الاعتدال، حتّى لا يؤدّى الرجاء الى ذلّ الطّمع، والطّمع الى الحرص، واليأس الى الاسف، والغضب الى الغيظ، وغير ذلك من تفاصيل ما ذكرنا. (2027) قوله: نحن النّمرقة الوسطى بنا يلحق التّالى واليها يرجع الغالى. الحقّ واهله متوسّطون، والباطل على الطرفين. فانّ المبطل امّا مقصّر، وامّا متجاوز، كما قال امير المؤمنين، عليه السّلام: لا ترى الجاهل الّا مفرطا او مفرّطا. فشبّه الحقّ بواسطة الاشياء. فمن حقّ من تخلّف عنه ان يبادر اليه فيلحق به، ومن حقّ من تجاوزه ان يرجع اليه فيقف عنده. فلمّا كان امير المؤمنين امام الحقّ، وجب على سائر النّاس ان يقفوا عنده.

الحكمة 51

(2028) قوله: من احبّنا اهل البيت، فليستعدّ للفقر جلبابا.

قال الامام الوبرىّ: يحتمل هذا الفقر الظّاهر، ويحتمل انّ المراد بذلك: انّ من احبّنا، ومن وطّن نفسه على مودّتنا، وعزم على مشايعتنا، فليوطّن نفسه وليحدّثها باستدامة العبادة للّه، طول حيوته الى مماته، فانّه سيرتنا. فمن تابعنا فليستنّ بسنّتنا وانّ سنّتنا الفقر والفاقة الى اللّه تعالى.

(2029) وقال بعض العلماء: انّ الفقير هو الّذى ليس له ما يحتاج اليه، وليس له ان يكتسب ما يحتاج اليه. والانسان فى ابتداء امره محتاج الى وجوده، ويحتاج فى حال وجوده (199 ر) الى بقائه، وبعد بقائه الى صحّته، وجميع ذلك ممّا لا يدخل فى اكتساب العبد.

و فى الانجيل انّ عيسى، عليه السّلام، قال: اصبحت مرتهنا بعملى، والامر بيد غيرى، فلا فقيرا فقر منى. والناس كلّهم فقراء. كما قال اللّه، تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ. لكن الفقير فى العرف والعادة هو الذى يعرف حقيقة فقره. فلذلك‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 420

قال: فليستعدّ للفقر جلبابا او تجفافا. فمن ترك الدنيا اختيارا، فهو زاهد، ومن ترك الدنيا اضطرارا، فهو فقير.

(2030) والفقر ينقسم ثلثة اقسام: قسم ليس له مال، ولكنّه دائما فى طلبه، ويقال له الفقير الحريص. وقسم لا يطلب الدنيا، وان اعطاه انسان شيئا، اخذه، وشكر اللّه، تعالى، وهو الفقير القانع. وقسم لا يسأل من المخلوق شيئا، ولا ياخذه، وشكر اللّه، تعالى، وهو الفقير القانع. وقسم يسأل من المخلوق شيئا، ولا ياخذ، وهذا هو الفقير المحمود.

و ذكر السّيّد المرتضى فى كتاب الغرر: من احبّنا اهل البيت، فليستعدّ للفقر جلبابا او تجفافا.

قال ابو عبيد: وقد تأوّل بعض الناس هذا الخبر على انّه اراد به الفقر فى الدنيا. قال: وليس ذلك كذلك، لانّا نرى فى من يحبّهم مثل ما فى سائر النّاس من الفقر ولا تميّز بينهما. قال: والصحيح انّه اراد الفقر يوم القيمة، واخرج الكلام مخرج الموعظة والنصيحة والحثّ على الطاعات.

و كانّه اراد: من احبّنا، فليعدّ للفقير يوم القيامة ما يجبره من الثّواب والقرب الى اللّه، تعالى.

(2031) قال القتيبى: وجه الحديث خلاف ما قاله ابو عبيد، ولم يرد الا الفقر فى الدّنيا. ومعنى الخبر انّ من احبّنا، فليصبر على التقلّل من الدّنيا والتقنّع فيها، وليأخذ نفسه بالكفّ عن احوال الدّنيا واعراضها. وشبّه الصّبر على الفقر بالتّجفاف والجلباب، لانّه يستر الفقر كما يستر الجلباب او التّجفاف البدن. ويشهد بصحّة هذا التّاويل ما روى عنه، عليه السّلام، انه راى قوما على بابه، فقال: يا قنبر، من هؤلاء فقال له قنبر: شيعتك. فقال: ما لى لا ارى فيهم سيما الشّيعة. قال: وما سيما الشّيعة فقال: خمص البطون من الطّوى، يبس الشفاه (199 پ) من الظما، عمش العيون من البكا. هذا كلّه قول ابن قتيبة.

(2032) قال السّيّد المرتضى: يمكن ان يكون فى الخبر وجه ثالث،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 421

و هو انّ الفقر ان يجزّ انف البعير [حتّى‏] يخلص الى العظم او قريب منه، ثمّ يلوى عليه حبل، يذلّل بذلك الصعب، يقال: فقره يفقره، اذا فعل ذلك به.

و بعير مفقور به فقر، فيحتمل ان يكون اراد بذلك من احبنا فيلزم نفسه وليخطمها وليقدها الى الطّاعات ويصرفها عمّا يميل طباعها اليه من الشّهوات وليذللها على الصّبر عمّا كره منها ومشقة ما اريد منها كما يفعل ذلك بالبعير الصّعب.

الحكمة 52

(2033) قوله: اذا استولى الصّلاح، الى تمام الكلام، معناه انّ الكلّىّ فى الخير والشرّ والصّلاح والفساد يغلب الجزءىّ.

الحكمة 53

(2034) قوله: ما ابتلى اللّه احدا بمثل الاملاء له، فى قيده. وهذا مأخوذ من قول اللّه تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.

الحكمة 54

(2035) قوله: وسعته السّنّة ولم ينسب الى البدعة، يقال: امض على سنّتك، اى على سيرتك، والسّنّة السّيرة. يقال: فلان على سنة النّبىّ، اى على سيرته. قال الشاعر: فاوّل راض سنّة من يسيرها. (2036) البدعة الحدث فى الدنيا بعد الاكمال، والجمع بدع. و

قيل: هى مأخوذة من قول العرب: ابدعت الراحلة اذا كلّت. ويقال للمبتدع مبتدع، لانه يكلّ عند المحاجّة.

و

يقال البدعة احداث شى‏ء لم يكن له ذكر ولا جرت به سنّة.

يقال: ابدع الشى‏ء اذا احدثه من غير مثال. ومنه «بديع السموات والارض». قال اللّه تعالى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها، اى لم يجز بها سنة من اللّه. والبدعة فعلة بوزن الرّكبة والجلسة، وهى الجهالة الّتى منها يبدع الشى‏ء، كما انّ الركبة الجهة التى منها يركب. وسقاء بديع، اذا كان جديدا. والبدعة ضدّ السّنّة

الحكمة 55

(2037) قوله: غيرة المرءة كفر، وغيرة الرّجل ايمان، قال لانّ الرّجل يكره الشركة فى المرءة، وقد حرّم اللّه هذه الشركة، وانما يكره الرجل ما يكرهه اللّه، تعالى. ولذلك كان غيرة الرجل ايمانا. وغيرة المرءة من قضايا شهواتها. وقد اباح اللّه الشركة فى ذلك، حيث قال: (200 ر)

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 422

 فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَثُلاثَ وَرُباعَ. وهذه شهوة لا يقتضيها الشّرع. وغيرة الرجل تتابع غضبه على وجه يجوّزه الشّرع.

الحكمة 56

(2038) قوله: الاسلام هو التسليم، عنى به انّ الاسلام من طريق اللفظ يطلق على الانقياد وعلى الانقطاع الى اللّه، تعالى. الانقياد هو التسليم، والتسليم هو اليقين. والمراد بالاقرار اقرار الذّهن وحكمه. فان حكم الذهن فى انّ الاثنين نصف الاربعة هو التصديق. والمراد بذلك انّ الجزء العلمىّ والاعتقادىّ لا يتمّ الّا بالجزء العملىّ، وانّ الاسلام ينقسم الى علمىّ وعملىّ.

الحكمة 57

(2039) (قوله:) عجبت لمن شكّ فى اللّه وهو يرى خلق اللّه، دلالة الفعل على الفاعل والخلق على الخالق دلالة الالتزام، وبخلق اللّه يستدلّ العاقل على وجوده.

فالسموات والارض وجدت عن عدم محض، ولم يكن قبل وجودها ولا بعدها. فانّهما عارضان من عوارض الزّمان، والزّمان لا يوجد الا بعد وجود الاجسام. فكما لا يجوز قبل وجود الاجسام فوق، ولا تحت، لانّهما عارضان من عوارض المكان، فكذلك لا يجوز ان يكون قبل وجود الاجسام قبل ولا بعد، لأنّهما من عوارض الزّمان، والزّمان موقوف الوجود على وجود الحركة، [و الحركة] موقوفة الوجود على وجود الاجسام. واكثر خلق اللّه محسوس، ولا شكّ فى المحسوس، ولا يتصوّر خلق لا من خالق وصنع لا من صانع، (2040) قوله- : عجبت لمن انكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الاولى،

قال قوم: النشأة الاولى نشأة آدم، عليه السلام، وايجاد الانسان من نطفة اعمّ [من خلقه‏] ومن اعادته وحشره يوم القيمة. قال اللّه، تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، وقال: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً. فهذه هى النشأة الاولى. وقال: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً، ولم يقل: وخلقنا منه لحما. وفى ذلك سرّ لطيف، لانّ اللّه، تعالى انشأ اللّحم انشاءا آخر لا من النّطفة، واجراها مجرى الكسوة الّتى يلبسها الانسان على سبيل‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 423

التّجديد. ولذلك اذا قطع اللّحم من الانسان يعود وينبت. (200 پ).

(2041) وقال بعض الاطباء: الانسان يتّكوّن من النطفة، وترّبى بدم الطمث. والدم والنطفة من الغذاء، والغذاء من الحيوان والنّبات، والنّبات من سلالة من طين.

(2042) وقال: بعض المفسّرين: لمّا خلق اللّه، تعالى، آدم من سلالة من طين، وخلق اولاده منه، فاولاده ايضا من سلالة من طين بواسطة آدم.

[و] لذلك قال اللّه، تعالى: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فالانسان اوّلا يتكوّن جمادا ميّتا، كما قال اللّه، تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ، والنطفة فى حكم الميّت. فاذا قدر اللّه، تعالى، على احياء النطفة فى النشاة الاولى، فكذلك يقدر على الاعادة فى النشأة الاخرى. ثم يصير الانسان نباتا ناميا، كما قال اللّه، تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. وذلك اذا كانت نطفة وعلقة ومضغة. ثم يصير حيوانا، قال اللّه، تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ، فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فمن عرف حقيقة النشأة الاولى، آمن باليوم الآخر والنشأة الاخرى.

الحكمة 58

(2043) قوله: من قصّر فى العمل، ابتلى بالهمّ، يعنى من قصّر فى اداء الوظائف الشّرعيّة، ابتلاه اللّه بالهمّ. ومن خفّف على جسده وبدنه ثقل العبادات، حمل اللّه على قلبه وزر الهموم. مثال ذلك من كان مريضا، واستبشع الدواء، ابتلاه اللّه بالداء. (2044) قوله: لا حاجة للّه، هذه استعارة. مثال ذلك لا ينفع معالجة الطّبيب مريضا لا يطيع الطبيب ولا يهتمّ بصحّته وزوال مرضه، فكذلك لا ينفع لطف اللّه انسانا لا يرحم نفسه.

قال الامام الوبرىّ: معناه المضيّع لحقوق اللّه فى نفسه امّا كافر وامّا فاسق ومثله لا كرامة له عند اللّه، يكنّى عن سقوط قدره عند اللّه، تعالى، بانّه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 424

لا حاجة له فيه. وهذا مأخوذ من قول اللّه، تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ، اى لو لا عبادتكم.

الحكمة 59

(2045) قوله: توقّوا البرد فى اوّله، و(201 ر) تلقّوه فى آخره، فانّه يفعل بالابدان كفعله بالاشجار، اوّله يحرق وآخره يورق، هذه اشارة الى جمل من الاصول الطّبيّة عند الاطبّاء. الصّيف هو جميع الزمان الحارّ، والشتاء هو جميع الزمان البارد. فيكون زمان الربيع والخريف كلّ واحد منها عند الاطبّاء، اقصر من كلّ واحد من الصّيف والشّتاء.

 

و الربيع معتدل، وهو زمان الازهار والصّيف حار يابس، لتحلّل الرّطوبات فيه من شدّة الحرارة، وتخلخل جوهر الهواء ومشاكلته للطّبيعة الناريّة. والشّتاء بارد رطب لضدّ هذه العلل. والخريف غير معتدل فى الرّطوبة واليبوسة.

و الشّمس قد جفّفت الهواء ولم يحدث بعد من العلل المرطّبة ما يقابل تجفيف العلّة المجفّفة.

و ليس حال بقاء الربيع على رطوبة الشّتاء كحال بقاء الخريف على يبوسة الصّيف. فان رطوبة الربيع يعتدل بالحرّ فى زمان لا يعتدل فيه يبوسة الخريف بالبرد. وفى الرّبيع يكون ما يتحلّل اكثر ممّا يتسخّن. والهواء الخريف، شديد اليبس مستعدّ جدّا لقبول التسخّن والاستحالة الى مشاكلة الناريّة بتهيئته ايّاه لذلك، ولياليه وغدواته باردة.

و اما الربيع فهو اقرب الى الاعتدال فى الكيفيّتين. لانّ حرّه لا يقبل من السبب المشاكل للسّبب فى الخريف ما يقبله حرّ الخريف من التسخّن والتبرّد. والابدان لا تحسّ من برد الخريف، لانّ الابدان فى الربيع منتقلة من البرد الى الحرّ متعوّدة للبرد، وفى الخريف بالضدّ.

فلذلك قال امير المؤمنين: توقّوا البرد فى اوّله، اى فى فصل الخريف، وتلقّوه فى آخره، اى فصل الرّبيع.

و هذا الكلام عايد فى اصول الطّب على وفق ما اشرت اليه على موجب‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 425

ما وصل الىّ.

الحكمة 60

(2046) [قوله:] عظم الخالق، يصغّر المخلوق فى عينك. وجرت بين عارف [و بين آخر] احاديث الجنّة، فقال العارف: الجار، ثمّ الدّار، وقال الآخر: الدّنيا لقمة والشيطان كلب، فمن رمى لقمة الى الكلب يدفع بها ضرره، كيف يلتفت الى هذه اللّقمة. وهذا (201 پ) تصغير المخلوق فى عينه.

و قيل ل واحد من العارفين: فلان زاهد. فقال: عمّا ذا فقيل: عن الدّنيا، فقال: الدّنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة، فما لا يزن عند اللّه جناح بعوضة كيف يعتبر الزّهد عنها. والزّهد انّما يكون عن شى‏ء، والدنيا لا شى‏ء.

الحكمة 61

(2047) قوله: انتم لنا فرط، بالتحريك الّذى يتقدّم الواردة فيهيّى‏ء لهم الارسان والدّلاء ويمدّد الحياض ويستقى لهم. وهو فعل بمعنى فاعل، مثل تبع بمعنى تابع. يقال: رحل فرط وقوم فرط ايضا. وفى الحديث، انا فرطكم على الحوض. (2048) قوله: فمثّلت لهم ببلائها البلاء، يعنى ما فيها من البلاء، يدلّ على انّ بلاء الاخرة منه اشدّ، وما فيها من النعيم يدلّ على ان نعيم الاخرة منه اهنأ وادوم.

الحكمة 62

(2049) قوله: الصّلاة قربان كل تقىّ، اعلم ان الصّلوة مثل شخص، وآدابها كالحواسّ، وفرايضها كالاعضاء، وروحها الخشوع والخضوع. والمقصود من الصّلوة استقامة القلب وتجديد ذكر اللّه على سبيل الهيبة والتعظيم، قال اللّه، تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا. ومن كان قلبه حاضرا فى وقت التّكبير فحسب كان كشخص به رمق. فتفكّر من الاذان فى نداء القيامة، حيث قال قوم يسمعون الصّيحة بالحقّ. ومن القيام فى حال الوقوف فى حالة السّؤال حيث قال: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. ومن التّشهّد فى قوله: وَتَرى‏ كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً. ومن الرّكوع فى قوله، تعالى: ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. ومن فرح عند سماع الاذان، ابتهج عند نداء القيامة. والقربان بالضمّ ما تقرّبت به الى اللّه، ومنه قربة للّه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 426

قربانا. (2050) قوله. الحجّ جهاد كلّ ضعيف. وصورة اعمال الحجّ مكتوبة فى كتب الفقه. وامّا حقيقته فهى انّ الانسان مخلوق على وجه لا يصل الى سعادته الا بترك اختياره والاجتناب عن لذّاته. وسفر الحجّ على مثال سفر الاخرة. وفى هذا السفر المقصد هو البيت، وفى سفر الاخرة المقصد ربّ البيت. فالوداع عند مفارقة اهله يحكى الوداع (202 ر) فى سكرة الموت. وكما انّ هذا السّفر لا بدّ له من الزّاد، فكذلك سفر الآخرة لا بدّ له من زاد التّقوى، وكما انّ الزّاد الّذى يتغيّر ويفسد لا يصلح لسالك طريق البادية، كذلك العمل المشوب بالرّياء لا يصلح لسفر الآخرة. وعند الرّكوب يجب ان يتذكّر ركوب الجنازة، وعند لباس ثوب الاحرام يتذكّر الكفن، وعند عقبات البادية يتذكّر اهوال القيامة، ويتفكّر عند الالتجاء الى الخطر فى انّه لا ينجو من اهل القيامة الا بخفارة العمل الصّالح، وعند التلبية يتذكّر جواب ما يسأل عنه يوم القيامة، كما قال: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ، ويوم يدعوهم فيستجيبون بحمده. وكان علىّ بن الحسين زين العابدين، عليه السّلام، اذا احرم، اصفرّ وجهه وارتعدت فرائصه تفكّرا فى ما ذكرناه، وفى امثال ذلك. والوقوف بعرفة يحكى الوقوف بعرصات القيامة، واشتغال كلّ واحد بنفسه، ومذلّة كلّ واحد، وان كان ملكا مطاعا.

و كلّ ملك معه غلمان وخدم وحشم، فانّه ينفرد عند الوقوف بعرفات، ويتفرّق خدمه وغلمانه. (2051) قوله: لكلّ شى‏ء زكوة، وزكوة البدن الصيّام، وقال اللّه، تعالى: الصّوم لى، وانا اجزى به، لانّ الصّوم امساك خاصّ، وهو امر مستور، لا يطّلع عليه الّا اللّه، تعالى، وهو مكسر للشّهوة، والشّهوة جند من جنود ابليس.

و زكوة المال ينقص المال صورة وينميه معنى. فالصّوم ينقص القوّة البدنيّة صورة ويزيد المعنى الحقيقىّ الّذى هو قطع موادّ الشّهوات. والصّوم صومان: صوم العوامّ وصوم الخواصّ. فصوم العوامّ حفظ البدن والفرج، وصوم [الخواصّ‏] حفظ

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 427

القلب عمّا دون اللّه، تعالى، وحفظ الاعضاء والجوارح عن معصيته، وهذا الصوم زكوة البدن. (2052) قوله: جهاد المرأة حسن التّبعّل، ذاك خبر مروىّ عن رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، اورده القاضى القضاعىّ فى الشّهاب. وهذه مجاهدة، لانّ فيه قهر الغضب.

الحكمة 63

(2053) قوله: استنزلوا الرّزق (202 پ) بالصّدقة، من ادّعى محبّة اللّه فرضا به، بذل المال بالصدقة، فانّ المال ايضا محبوب، والصديق يفدى ما يملكه، ويرى الفقراء المحاويج عياله. والدرجة السّفلى ان يعطى من عشرين دينار نصف دينار. ومن منع الصّدقة والزّكوة، فقد اظهر انّ المال احبّ اليه من اللّه. والزّكوة شكر من النّعمة، ومن شكر استحقّ المزيد. لذلك قال: استنزلوا الرّزق بالصدّقة. والدليل على انّ الزّكوة شكر النّعمة انّ الغنىّ يرى غيره فقيرا محتاجا اليه، فيودّى زكوة ماله البتة شكرا للّه، تعالى، على انّه اغناه وما احوجه الى غيره.

الحكمة 64

(2054) قوله: ما عال امرؤا اقتصد، اى ما افتقر من ترك الاسراف والتقصير، كما قال اللّه، تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا، لَمْ يُسْرِفُوا، وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً.

الحكمة 65

(2055) قوله: قلة العيال احد اليسارين، اليسار على وجهين: يسار بكثرة المال، ويسار بقلة الانفاق. فمن قلّ عياله، قلّ انفاقه، ومن قلّ انفاقه ما افتقر.

قال الامام الخجندىّ المقيم باصفهان: معنى الخبر ليس ما يظنّ القوم: انّ من قلّ عياله كثر ماله، ولكن من قلّ عياله سهل عليه الانفاق، وكانت مئونته خفيفة، كما ان من كثر ماله سهل عليه الانفاق. ومن قلّ عياله كان عيشه هنيئا، كما انّ المتموّل عيشه هنى. واكثر الفضايح يكون من قلة المال وكثرة العيال،

نعوذ باللّه من ذلك.

الحكمة 66

(2056) قوله: تنزل المعونة على قدر المؤونة، يعنى امداد الطاف‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 428

اللّه، تعالى، يتصّل بالعبد على موجب ما يطلب به من الاشغال.

الحكمة 67

(2057) قوله: التّودّد نصف العقل،

قال الامام الوبرىّ المتكلّم: كانّ العقل قسمان: احدهما المعرفة بالعقلاء الحاضرين، وهو علم المشاهدة، وما سويهم تبع لهم.

و القسم الثانى من العقل معرفة عادات العقلاء فيما يحبّون ويكرهون، فموافقتهم فى ما يحبّون ومجانبة ما يكرهون هو التودّد اليهم.

مجموع هذين القسمين هو العقل، واحدهما نصفه.

(2058) ذكر القفّال الشّاشىّ (203 ر) صاحب التفسير فى كتاب جوامع الكلم: ان المراد بالنصف هاهنا وفى قوله: نصف العقل، ليس على وجه التقدير والتحديد. والمراد بذلك لكلّ خصلة من هذه الخصال حظّ وافر ونفع تامّ. وهذا مشهور فى مذهب العرب. فان العرب يقول: من عرف طريقا فكانّما سلك نصفه. والمراد بذلك انّ معرفة الطّريق ينفع فى سلوكه نفعا كاملا.

و قال شريح القاضى: اصبحت ونصف النّاس علىّ غضبان.

و المراد بذلك بعض النّاس. لانّ فى النّاس من لا يحتاج الى القاضى، فلا يرضى عنه ولا يغضب عليه.

الحكمة 68

(2059) قوله: من ضرب يده على فخذه احبط اجره، قال لانّ ذلك من شدّة الجزع عند المصيبة، وهذا انّما يأتى من ترك الرضا بقضاء اللّه، تعالى، وذلك يحبط الثّواب لا محالة، لانّ الرّضا بقضاء اللّه ركن من اركان الايمان.

الحكمة 69

(2060) قوله: الهمّ نصف الهرم،

قال بعض الاطبّاء: جميع العوارض النفسانيّة يتبعها او يسحبها حركة اما الى خارج واما الى داخل، وذلك اما دفعة واما قليلا قليلا. ويتبع حركتها الى خارج برد الباطن، وربّما

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 429

افرط ذلك فيتحلّل دفعة، فيبرد الباطن والظاهر، ويتبعه غشى او موت، ويتبع حركتها الى داخل برودة الظاهر وحرارة الباطن. وربّما اختنقت من شدّة الانحصار، فيبرد الظاهر والباطن، ويتبعه غشى عظيم او موت. والحركة الى خارج، اما دفعة عند الغضب، واما اولا فاولا كما عند اللّذة وعند الفرح المعتدل. والحركة الى داخل اما دفعة كما عند الفزع، واما اوّلا فاولا كما عند الحزن. والاختناق والتحلّل المذكور ان انّما يتابعان دائما ما يكون دفعة. وامّا النقصان والذبول فيتبعان دائما ما يكون قليلا قليلا لا دفعة. وقد يتّفق ان يتحرّك الى جهتين فى وقت واحد (203 پ) اذا كان العارض يلزمه عارضان مثل الهمّ، فانّه قد يعرض منه غضب وحزن، فتختلف الحركات، وله تأثير قوىّ فى الشّيب.

الحكمة 70

(2061) قوله: كم من صائم ليس له من صيامه الا [الجوع و] الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه الّا [السّهر و] العناء، اراد بالقائم المصلّى، هذا هو القائم الذى يمسك عن الطّعام والشّراب والنّكاح ولا يمسك عن المعاصى والفواحش. والمراد بالصّوم ما ذكرناه، ومن المصلّى الذى يصلّى فيه، وقلبه غير حاضر، بل هو متفكّر فى الامور الدّنياويّة. وخصّ الظمأ بذلك دون الجوع، لانّ الظمأ اغلب على العرب من الجوع بسبب حرارة الهواء وغير ذلك. (2062) قوله: حبّذا نوم الاكياس، لانّ العاقل اذا جرى على قضايا عقله، يقال له الكيّس، ومن جرى على قضايا عقله لا يفعل ما يصير وبالا عليه من المباحات. وللنّوم حالة عجيبة، ونوم الاكياس حالات لهم فيها الطاف من الرّؤيا، كما اخبر رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، عن الرّؤيا الصّالحة للرّجل الصّالح.

الحكمة 71

(2063) قوله: ادفعوا امواج البلايا بالدّعاء، الدّعاء فى اللّغة العبادة فى قوله، تعالى: وَرَبَطْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ إِذْ، اى لن نعبد. والدعاء هو الاستعانة والاستغاثة، قال اللّه، تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ، استَعينوا بآلهتكم. قوله: وان‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 430

يدع مثقلة الى حملها، اى يستغيث. و

قال الخليل: سمعت اعرابيا يقول لآخر: دعاك اللّه، اى عذّبك واماتك.

و فى الحديث: النّار تدعو اهلها، اى تصيبهم انواع عذابها. وفى قول النّبىّ، عليه السلام: الفقه فى الانصار والدعوة فى الحبشة، يعنى الاذان. والمراد بذلك تفضيل بلال المؤذّن.

(2064) قال القفّال الشّاشىّ: من البلاء بلاء مقدّر، قدّره اللّه، تعالى، على وجه: ان دعا العبد ربّه، دفع عنه، وان ترك الدعاء، اصابه.

اقول نظير ذلك حرارة الشّمس فى بعض الاوقات على وجه: ان تحرّك المرء عنها، وانتقل الى الظلّ، ما اصابته، وان ترك التحرّك والانتقال وغير ذلك، سوّدت وجهه.

و من غاية الدعاء قول النّبىّ، عليه السّلام: ربّ اشعث ذى طمرين لا يؤبه به، لو اقسم على اللّه لا برّه، منهم (204 ر) البراء بن عامر.

الحكمة 72

 

 

(2065) قوله: اخرجنى الى الجبّان، الجبّان الصّحراء. (2067) [قوله:] عالم ربّانىّ ومتعلّم على سبيل النّجاة. اما العالم الربّانىّ، فهو العالم الّذى حصّل من العلوم علوما الى الآخرة، ومن الحرص الى القناعة، ومن الغفلة الى التّقوى. والمتعلّم المذكور هو الّذى يتعلّم لاجل ذلك.

(2068) قال الامام الوبرىّ: معنى ذلك انّ كل واحد من القسمين من العالم والمتعلّم انما يفوز ويباين الهمج الرّعاع اذا جمع وصفين. فالعالم انّما يفلح اذا جمع بين العلم والعمل، والمتعلّم انّما يفوز اذا جمع الى التعلّم القصد الى سبيل نجاته. فاذا كان العالم غير عامل، والعالم غير قاصد لسبيل النجاة، فهما من جملة الرّعاع.

(2069) الهمج جمع همجة وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجه الغنم وعينها. ويقال للرّعاع من الناس الحمقى: انما هو همج. وقول الراجز: قد هلكت جارتنا من الهمج‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 431

قالوا: الهمج هاهنا سوء التدبير فى المعاش. الرّعاع الاحداث والطّغام. (2070) قوله: العلم يزكو على الانفاق، لانّ الهداية الى الدّين والابانة للناس عن تفاصيل العلوم يفتح لصاحبه ابواب العلم، ويسهّل عليه الوقوف على الادلة والوصول الى العلوم المتطرّقة. وربما يذكّره ما نسى من الدّلايل والمعلومات. فلذلك قال: والعلم يزكوا على الانفاق، وقال اللّه، تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً.

الحكمة 73

(2071) قوله: ويخشى الخلق فى غير ربّه ولا يخشى ربّه فى خلقه،

قال ومعناه: يبقى الناس فى طاعة اللّه فيضيّعها، ويبطل رضى الناس ولا يبقى عقاب اللّه، فيقيم العدل والدّين بين عباده.

الحكمة 74

(2071) قوله: صنيع المال يزول بزواله، والمعنى ان صنيع المال يفنى واثر العلم يتوارث. (2072) قوله: اصبت لقنا غير مأمون، يعنى يطلب العلم للدّنيا.

و مستظهرا بنعم اللّه على عباده وبحجّته على اوليائه، عنى به المعاند المجادل او منقادا لحملة الحقّ، عنى به المقلّد الّذى يقبل قولا [بلا] حجّة امّا لغفلته و(204 پ) وركونه الى الدّنيا واما لفيالة رأيه. (2073) قوله: او منهوما بالّلذّة مستغرقا فى اللّذّات الخسيسة ارتمست فيه الامور الشهوانيّة. (2074) قوله: صحبوا الدّنيا بابدان ارواحها معلّقة بالمحلّ الاعلى، عنّى به انّهم ما التفتوا الى غير الحقّ، واماطوا القذى عن طريقهم كما يميط الدهقان الشّوك والكشوث عن مزارعه. وواظبوا على الذّكر والفكر. ومن واظب على ذكر مذكور انس به. ومن انس بشى‏ء، غفل عما دونه. فلذلك قال: ارواحها معلّقة بالمحلّ الاعلى. هذا خبر عن فقراء آخر الزمان وارباب التوحيد، لذلك قال: آه آه شوقا الى رؤيتهم.

الحكمة 75

(2075) قوله: المرء مخبوء تحت لسانه، ما يتصوّره الانسان بذهنه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 432

يتخيّل له الفاظا دالّة بالوضع عليها. فيكون دلالة اللفظ على المعنى الّذى فى الذهن كدلالة الكتابة على اللّفظ. فبالكتابة يعرف اللّفظ. واللّفظ مخبوء تحت الرّقوم، يعنى رقوم الكتابة، والمعنى مخبوء تحت اللّفظ. واللّسان آلة النّطق، كما انّ القلم آلة الكتابة.

الحكمة 76

(2076) قوله: هلك امرؤ لم يعرف قدره، اى هلك فى الدنيا والاخرة. و

قيل الهلاك بمعنى النقصان. يقال: هالك، اى ناقص، والمعنى نقص عن الجهل قدره.

الحكمة 77

(2077) قوله: يزجّى التوبة بطول الامل، من الزّجى، التوبة بطول الامل، امّا ان يكون الشّهوة غالبة عليه بحيث لا يمكنه الاعراض عنها، فيصير غافلا عن امر الاخرة، ويكون الحجاب بينه وبين التّوبة الشّهوة. وامّا ان يرى امور الدّنيا نقدا وامر الآخرة نسية، فيختار النّقد على النسية. امّا ان يكون دائما على عزم التّوبة، ولكن يؤخرها ويقضى كلّ شهوة يعرض لها، ويقول: افعل هذه الكبيرة واقضى هذه الشهوة، ثمّ اتوب. وهذا هو الّذى اشار امير المؤمنين، يعنى يؤخّر التوبة ويأمل طول حياته، حتّى يتوب فى آخر امره، فيجمع بين لذّة الدّنيا وسعادة الآخرة.

(2078) ومن حقّ ذلك المقصّر ان يتفكّر ويعرف انه يؤخّر التوبة الى زمان المستقبل، وليس له حكم على ذلك، بل ربّما ينقطع عمره دون ذلك الزمان. (205 ر) وما حاجتك الى التّوبة غدا، واستغناؤك عنها فى يومك.

و ان عسرت عليك التّوبة فى يومك، بسبب استيلاء شهواتك عليك، فيعسر ايضا عليك غدا. فانّ شهوتك ملازمة لك فى يومك وغدك. ولم يخلق اللّه يوما من الايّام فيه يسهل على التايب توبته، ويسهل عليه فيه الاعراض عن الامور الشهوانيّة.

(2079) مثال ذلك رجل كلّفه السّلطان قلع شجرة. فقال: اصلها راسخ، وانا اقوى على قلعها، فاصبر الى السّنة القابلة. فقال: يا ضعيف اليقين،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 433

فى السّنة القابلة يزداد ضعفك، ويزداد رسوخ الشجرة. فكذلك رسوخ الشّجر كلّ يوم يزداد، وقوّة الانسان على قلعها يضعف. واعلم انّ الايمان شجرة سقيها من ينابيع العمل الصّالح والتّوبة. فاذا انقطع الشّجر، جفّت الشّجرة بعد ما ذبلت. وفى الحديث: التّايب حبيب اللّه، واللّه، تعالى، يحبّ التّوابين. (2080) قوله: تغلبه نفسه على ما يظنّ، يعنى يظنّ البقاء فى الدنيا والتمتّع بها، ويظنّ انّ اللّه قد يعفو عنه مع ذنوبه، لا يغلبها على ما يستيقن من الموت وعقوبة اللّه، تعالى، والوعد والوعيد والحساب. ويخاف على غيره اذا اذنب ذنبا ما صدر منه، فانّه يقول: هلك فلان بذنبه، ويذمّه ويلومه ويوبخّه.

و يرجو عفو اللّه، وان كان ذنبه اعظم من ذنب غيره، وهذا نوع من الغرور والغفلة. (2081) قوله: وانفرج عن شرايط الملة، يعنى اعترض على اللّه، والاعتراض على اللّه بالقلب واللسان خروج عن الملة الحنيفيّة.

و فى الانجيل عن اللّه تعالى: من اصابَتْه مصيبةٌ بماله ونفسه وولده، واستقبل هذه المصيبة بصبر جميل، لا احاسبه يوم القيامة. واذا بكى وحزن، عليه، [لا يفوته‏] ثواب الصّابرين. ولكن اذ اشتكى، واعترض على اللّه، تعالى، واتّهمه، كان كما قال امير المؤمنين، عليه السّلام.

(2082) و

قال بعض العلماء فى تفاصيل هذه الموعظة: ملازمة الجادّة اصعب على السارى من الزيغ عن الحجة، واصابة الهدف (205 پ) اعسر على الرّامى من الصدوف. والابواب الداعية الى الشرّ ايسر، ولو جاء من الابواب الباعثة الى الخير والمال، وان كان نفسه مرغوبا فيه. فمتى اصابه الفاجر، صار سببا للشرّ العظيم. والعلم اذا اقتناه من خلقه فاسد ودينه ضعيف، صار سببا لاغواء الخلايق.

و كما انّ كلّ فرس ضاهاه الحمار فى خصايص افعاله، لم يكن كاملا، كذا الانسان متى شارك الحيوانات الاخر فى ان يحرز سعيه لاصابة الّلذّات، لم‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 434

يكن محمودا. بل المحمود من الناس، الّذى صرف همّته الى تحصيل الغرض الانسانىّ من سعيه على ابلغ كماله.

(2083) واتّصال العبد برضوان اللّه على اربع مراتب: اوّلها رتبه المتّقين، وهى من علايق الخوف.

و ثانيها رتبة المحسنين، وهى من علايق الرّجاء.

و ثالثها رتبة الابرار، وهى من علايق المحبّة.

و رابعها رتبة الصّالحين، وهى من علايق الاخلاص.

و الاستقامة صورة لكلّ واحدة من هذه المراتب. واذا سعد العبد رضوان مولاه، فقد صارت دنياه آخرته وفقره غناه ونومه يقظته.

(2084) وقد يحصل العفّة من الانسان من غير ان يكون عفيفا، امّا لعدم البصيرة بلذّة شى‏ء مّا، وامّا لميل هواه بالقوّة الى شى‏ء مّا، وامّا لفرط الامتلاء من اصابة شى‏ء مّا، وامّا لانّه خامد الشّهوة اصلا وراسا. وقد يعمل اعمال الشّجعان من غير ان يكون شجاعا، امّا للرغبة كالمستبصر فى دينه، وامّا للغضب والتعصّب، وامّا للعادة. ومن اختار من الاخلاق الاطراف، اعنى طرف الغلوّ وطرف النقصان، دون الاوساط، كان، كما قال امير المؤمنين، ينافس فيما يفنى ويسامح فيما يبقى ويرى الغنم مغرما، الى آخر كلامه.

الحكمة 78

(2085) قوله: وما ادبر، [كان‏] كأن لم يكن، اى ما فنى يشبه ما لم يوجد. قوله: الراضى بفعل قوم، الرضا اظهر شى‏ء فى الموافقة، وهو من الافعال المختصّة بالقلب، فكان اوكد من العمل.

الحكمة 79

(2086) قوله: اعتصموا بالذّمم فى اوتادها، الذّمام (206 ر) الحرمة، واهل الذّمة اهل العقد، والذّمّة الامان. يعنى عليكم بمراعات العقود والعهود بين الناس ما حافظوا عليها. هذا كقوله: الوفاء لاهل الوفاء وفاء عند اللّه، والعذر لاهل العذر وفاء عند اللّه. ومن لم يحفظ على عهدك، فلا عهد له‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 435

عليك، ولا يجب عليك الوفاء بعهده.

الحكمة 80

(2087) قوله: الفقر هو الموت الاكبر، الموت انقطاع الحيوة وزوالها، والفقر انقطاع مادّة الحيوة من الغذاء وغيره. وانقطاع المادّة اشدّ واضعف، لانّ الميّت ما دام ميّتا لا يتألّم، وانّما يتألّم مرّة واحدة فى سكرات موته، والفقير فى كلّ ساعة يتألّم، فالفقر هو الموت الاكبر.

الحكمة 81

(2088) قوله: الاعجاب يمنع من الازدياد، اى من كان معجبا بنفسه، فقد اعتقد انّه كمل. ومن اعتقد انّه كمل، لم يطلب الزيّادة، فان الزيّادة على الكمال محال. ومن اعتقد كما له، لم يزد.

قال الامام الوبرىّ: من اعجب بنفسه، ورضى من خصاله، اقتصر على ما حصل عنده، ولم يحرّض نفسه على زيادة المناقب، لانّه اعجب بما اوتى، وليس وراء الرضا غاية.

الحكمة 82

(2089) قوله: من استقبل وجوه آلاراء، عرف مواضع الخطاء. هذا هو الاصل فى معرفة الصحيح من الفاسد، اذا احتمل المتنازع فيه وجوها جايزة مختلفة. فانّما يظهر الصّحيح منها والفاسد بالقسمة. ثم يبطل ما يحتمل من الاقسام بالسّبر والامتحان، فيبقى الواحد منها صحيحا، ويظهر انّ ما دونه فاسد.

(2090) وقال قوم: اجزاء الانفصال اذا كانت متناهية، فاذا ابطلت واستثبت البعض، بقى البعض صحيحا، وظهر فساد البعض الآخر. وفى مواضع الغلط بيان مذكور.

الحكمة 83

(2091) قوله: اضاء الصّبح لذى عينين، مثل للعرب، ولفظ المثل «تبيّن الصبح لذى عينين». عند العرب الصّبح اوّل النّهار والغسق اوّل اللّيل.

لذى عينين لرجل ذى عينين. يضرب مثلا لامر ينكشف ويظهر كالصّبح اذا تبيّن، ابصره كلّ واحد.

الحكمة 84

(2092) قوله: ترك الذّنب اهون من طلب (206 پ) التّوبة. وفى الامثال. ترك الذّنب ايسر من الاعتذار.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 436

الحكمة 85

(2093) قوله: كم من اكلة منع الاكلات، المثل ربّ اكلة منع اكلات يضرب ذلك فى من يختار درّة منقودة، فيصير محروما عن درّة موعودة، ولمن ياكل طعاما يمرض منه، ويمتنع مدة من الطّعام. قاله الحرث بن كلدة لبعض الملوك، وقيل: قاله عامر بن الظّرب لاتباعه.

الحكمة 86

(2094) قوله: ما اختلفت دعوتان الّا كانت احديهما ضلالة،

قال الامام الوبرىّ: هذا مخصوص فى ما قام فيه الدليل، وكان العلم به مطلوبا، واذا اختلف الاعتقادان فيه، فاحدهما ضلال لا محالة.

الحكمة 87

(2095) قوله: من بادى صفحته للحقّ هلك،

قال و: معناه من اظهر جميع ما يعتقده من الحقّ، ودعا النّاس الى جميع ما علم من الصّواب جملة وتفصيلا، فانّه لا يسلم عن النّاس، ولم يلبث حتّى يهلك لشدّة معاداتهم له.

و هذا كقوله: من ابدى صفحته للحقّ، هلك عند جهلة الناس.

الحكمة 88

 

 

(2096) قوله: ايكون الخلافة بالصّحابة، ولا يكون بالصّحابة والقرابة، هذا تعريض بمعاوية، فانّه كان يدّعى انّه من الصحابة، ويدّعى انّه من عبد مناف وينتحل الخلافة بمشورة من الصّحابة وبيعتهم، فلذلك قال: والمشيرون غيّب. فانّ اهل الحلّ والعقد هم المهاجرون والانصار، ولم يبايعوا معوية قطّ، وما رضوا بامارته، بل انكروا عليه حتّى انتهى الانكار الى القتال.

الحكمة 89

(2097) قوله: نحن اعوان المنون، يعنى كلّ نفس يتنفّس به الانسان يقرّبه الى منيّته، فصارت الانفاس كانّها خطوات الانسان الى موته.

و قال الاطبّاء: اسباب الموت كثيرة، وبعضها يحصل بواسطة الانسان من العوارض النفسانيّة وغير ذلك.

فلذلك قال: نحن اعوان المنون. واسباب فناء الانسان اكثر من اسباب فناء بعض النبات.

الحكمة 90

(2098) قوله: انّ للقلوب شهوة واقبالا وادبارا، القلوب تميل الى اشياء يقتضيها العقل والشرع، ولها اقبال على بعض الاشياء المحمودة، وادبار عنها الى اشياء (207 ر) يجرى مجريها. مثلا تملّ من الصلوة، ويميل الى‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 437

تلاوة القرآن ويملّ من تلاوة القرآن، ويميل الى الذّكر، ويميل الى التفكّر، «فاتوها من قبل شهوتها، واقبالها. فانّ القلب اذا اكره عمى»، يعنى ادركه عجز البشريّة.

الحكمة 91

(2099) قوله: لم يذهب من مالك ما وعظك، يعنى كانّه لم يذهب ولم يزل من الاموال، ما اثمر الوعظ، وما فنى ما بقيت ثمراته.

الحكمة 92

(2100) (قوله:) انّ الاجل جنّة حصينة، يعنى من لم يقربه اجله فلا جنّة له اقوى من تأخير اجله، وانّه لا يصل اليه ما يقطع عمره، اذا لم يقدّر اللّه، تعالى، له اجلا مسمّى.

الحكمة 93

(2101) قوله: لا يزهدنّك فى المعروف من لا يشكرك، الى قوله: واللّه يحبّ المحسنين. المعنى انّك ان اب ردت قوله بالاحسان ابتغاء وجه اللّه، فاللّه يحبّ المحسنين، وحسبك محبّة اللّه. وان اردت ثناء الشّاكرين، فان كفّر نعمتك المنعم عليه، فقد يشكر نعمتك غيره. وكفى بذلك شاهدا ثناء من لم يشاهد البرامكة، ولم يصل اليه منهم نعمة عليهم. وصنّف اخبار البرامكة ومآثر الاجواد وكتاب الاسخياء من لم يفز من نعمة هؤلاء بشى‏ء سوى الاحاديث. فانّ صنيع المنعم احسانك، فالنّاس لا يضيّعونه واللّه، تعالى، لا يضيّعه.

الحكمة 94

(2102) قوله: الّا وعاء العلم، من اثبت وعاء العلم جسما، قال: لا يضيق المحلّ عن الاعراض، ومن اثبته غير جسم قال: المحلّ غير جسمانى وغير منقسم. ولا يحتمل الموضع بيان هذين القولين.

الحكمة 95

(2103) قوله: قلّ من تشبّه بقوم الا اوشك ان يكون منهم، لانّ التكليف يصير عادة، والعادة يصير شبه الطّبيعة.

الحكمة 96

(2104) لتعطفنّ الدّنيا علينا بعد شماسها عطف الضّروس على ولدها،

قال قوم: عنى امير المؤمنين بذلك المختار بن ابى عبيدة الثقفىّ حين خرج ثائرا بدم الحسين، فانتقم من اعدائه وسفك من دماء قتلة الحسين‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 438

ما سفك.

و

قيل: معناه نحن اهل البيت ونمتحن بضروب البلاء (207 پ) تمحيصا لنا وتهذيبا، ثم ياتى بعد ذلك الخلاص والفلح والنّصرة، كما قال اللّه، تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا، جاءَهُمْ نَصْرُنا.

الحكمة 97

(2105) قوله: عجب المؤمن بنفسه احد حسّاد عقله، لانّ موجب العقل ومقتضاه الازدياد من الفضائل والمناقب والمآثر، وموجب العجب الاقتصار على ما هو عليه. فالعجب يصرف عن الازدياد، فكان عدوّا للعقل.

الحكمة 98

(2106) قوله: من لان عوده، كثفت اغصانه، اى من سامح النّاس، سامحوه، وازداد بتلك المسامحة ماله وجاهه.

الحكمة 99

(2107) قوله: الخلاف يهدم الرّأى، لأنّ الخلاف يهيّج القوة الغضبيّة، فلا يفوز صاحب الخلاف باصابة الرأى. وقيل: معناه لا راى لمن لا يطاع، يعنى: من كان غير مطاع فوجود رايه وعدمه سواء.

الحكمة 100

(2108) قوله: فى تقلّب الاحوال يعلم جواهر الرجال، يعنى يعرف فضائل الغنى، اذا افتقر، ورذائل الفقر اذا استغنى. فانّ فى الاكثر اذا استغنى الفقير تبدّلت اخلاقه، واذا افتقر الغنىّ تغيّرت احواله وخصاله.

الحكمة 101

(2109) حسد الصّديق من سقم المودّة، يعنى من حقّ الصّديق ان يحبّ لصديقه كلّ خير. فاذا حسد، كانت صدقته ناقصة.

الحكمة 102

(2110) قوله: اكثر مصارع العقول تحت بروق [المطامع‏]، يعنى الطمع يمنع العقل عند الاستيلاء والتّملك. وكم من طامع خالف قضايا عقله، حتّى طمع هذا فى العقلاء. وامّا فى غير العقلاء، فلو لم يطمع العصفور فى الحبّة، لما وقع فى الفخّ. وفى قوله: تحت بروق المطامع سرّ لطيف، لانّ البرق نور لا يقتبس منه، وكذلك فى الطمع رجاء فاسد من قضايا الوهم [و] لا اعتبار به ولا فوز معه بالمقصود.

الحكمة 103

(2111) قوله: من اشرف افعال الكريم غفلته عما يعلم، المعنى هو تغافله عن معايب الناس، فلا يتسمّعها، ويغفل ايضا عن هفواتهم فى حقّه‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 439

فلا يتتبّعها.

الحكمة 104

(2112) (قوله:) من كساه الحياء ثوبه، لم ير النّاس عيبه. لان حياءه يخفى عيوبه عن اعين الناس (208 ر).

الحكمة 105

(2113) قوله: العجب لغفلة الحسّاد عن سلامة الاجساد، يعنى انّ صحة الاجساد وسلامتها من طريق أمن السّرب نعمة ليست وراءها نعمة.

و الحسّاد يحسدون فى ما هى دونها من الرتبة.

الحكمة 106

(2114) قوله: من اتى غنيّا فتواضع لغناه، فقد ذهب ثلثا دينه. قال امّا التّواضع لمكان الغنا فمعصية لا شكّ فيها، لانّ الغنىّ انّما يستحقّ مدحا لغناه لا يبلغ حدّ التواضع. وامّا التقدير بالثّلثين، فالاصل فيه انّ الدّين على ثلثة اقسام: بالقلب واللّسان والجوارح. والتّواضع يبنى على امرين: اعتقاد فى القلب ونية، وعمل بالجوارح، فيستعمل فيه آلتان من آلات الايمان، وهو القلب والجوارح، فيذهب بها عن الآلتين، ويبقى ثلثه، وهو الاقرار باللسان، وربما يعظّمه بلسانه وافعاله، ولم يعظّمه بقلبه، فصرف فى تعظيمه ركنين من اركان الايمان.

(2115) وقال قوم: تعظيم الغنّى بسبب ماله غايته حبّ الدنيا، [و هو] رأس كل خطيئة. وهذا ينبئ عن حبّ الدّنيا وحبّ الجاه والحرمة. لان صاحب المال مهيب. وينبى‏ء ايضا عن الغرور والغفلة. فحبّ الدنيا لا يلائم حبّ اللّه، والصدق والاخلاص والزهد والتّوكّل والمحاسبة والمراقبة. وهذا الذى يزول عنه بسبب تعظيم الغنىّ ثلثا دينه. وقا[ل قو] م هذه استعارة، والمراد بذلك ذهب اكثر دينه.

الحكمة 107

(2116) قوله فى صفة الجاهل: قد فعلت، يعنى انّه هو الذى لا يضع الشى‏ء موضعه.

الحكمة 108

(2117) قوله: من عراق خنزير فى يد مجذوم، العرق العظم الذى اخذ عنه اللّحم، والجمع عراق بالضّمّ. قا[ل ا]بن السّكيت: ولم يجى‏ء شى‏ء

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 440

من الجمع على فعال الا احرف منها توآم ورباب وظوار وفرار [و رخال‏] وعراق [فى جمع توأم، وربّى وظئى وفرير ورخل وعرق‏]. اما الجذام فهو فساد شكل يعرض للاعضاء بسبب خلط محترق خبيث ينبثّ فى البدن. وهذا الخلط اذا كثر، ورم الاعضاء اوّلا ثم قرحها، وهو مرض خبيث عسر العلاج. والمعنى لا شى‏ء اخبث من عراق خنزير، اى عظم لا لحم عليه فى يد مجذوم. فان يد المجذوم خبيث (208 پ) متقرّحة، وهى اخبث اعضاء المعلولين. فاخبر عن خساسة الدّنيا هذه وخساسة من قنع بها.

الحكمة 109

(2118) قوله: انّ قوما عبدوا اللّه رغبة، الى تمام الكلام، من تناول الدواء لدفع المرض والا لم، فهو خسيس الهمّة، ومن تناول الدواء لحفظ الصّحة فهو رفيع الهمّة. (2119) و

قال بعض العلماء، معنى قوله: عبد اللّه شكرا، للشّكر درجة عالية، قال اللّه، تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ. اما التوبة والصّبر والخوف والزّهد والمحاسبة والمراقبة فامور غير مقصودة للاخرة. واصول الدّيانة العلم والحال والعمل. فالعلم هو الاصل، والحال نتيجة العلم، والعمل نتيجة الحال.

و العلم شكر لمعرفة النّعم، والحال سرور القلب بهذه النعمة، والعمل صرف النعمة فيما امر به المنعم. وبالعلم يعرف النّعمة، ويعرف انّ اصول النّعم من اللّه تعالى، ولا شريك له فى هذه النّعمة. فكان العمل، كما ذكرنا، من نتايج هذا العلم الّذى هو شكر معرفة النّعم. لذلك قال امير المؤمنين فتلك عبادة الاحرار.

الحكمة 110

(2120) قوله: اذا اردحم الجواب، خفى الصّواب، المعنى انّ من تفكّر فى الطّرق المسلوكة، ولم يميّز فى ذهنه ما ينتج المطلوب، وتفكّر فى ما يلايم الجواب وفى ما لا يلائم، خفى عليه الصّواب. فاذا ركب على وجه التركيب، او حلّل على وجه التّحليل، فاز بالصواب، وان كثر القياسات. فربما يخفى عليه الصّواب بسبب التكثير. وهذا الموضع لا يحتمل زيادة على ما

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 441

ذكرناه.

الحكمة 111

(2121) قوله: اذا كثرت المقدرة، قلّت الشّهوة، المعنى انّ الفقر يثمر الحرص، والحرص يثمر الشّهوة، فتزداد الرّغبة فى ما ليس عنده. و

قيل: الممنوع متبوع، والانسان حريص على ما منع. فمن قدر على شى‏ء، واستولى عليه، قلّت 1 شهوته المتعلّقة بذلك الشى‏ء، وتعلّقت شهوته بما ليس له، وان كان ما عنده احسن وازين ممّا عند غيره.

و

قيل: المرء يوافق الى ما لم ينل.

الحكمة 112

(2122) (قوله:) افضل الاعمال ما اكرهت نفسك عليه،

قال الامام الوبرىّ: هو فى الفرائض، والواجبات [خاصة دون النوافل‏]، لانّه مندوب عند تثاقل نفسه، والاقتصار على الفرائض. والاكراه متوجّه الى الفرايض والواجبات دون النوافل.

(2123) وقال غيره: الانسان يحبّ الدّعة والخفض والكسالة. فمن سلّط عقله على هواه، فقد اكره نفسه على العمل الصّالح، وكان ذلك من افضل الاعمال.

الحكمة 113

(2124) قوله: [عرفت اللّه‏] بفسخ العزائم وحلّ العقود، العزائم امور غير محسوسة ظاهرة، ولها فسخ من غير صاحبها، ولا بدّ لها من فسخ قادر فعله مخالف لافعال غيره. و

قيل: فسخ العزائم يدلّ على ضعف صاحبها وعجزه، ولا بدّ من قادر يظهر بصنعه عجز العاجز وضعفه.

الحكمة 114

(2125) قوله: صلة الارحام منماة للعدد، لانّ الاقارب اذا تخاصموا وتحاسدوا، تقاتلوا، واذا تقاتلوا، نقصت اعدادهم، واذا تواصلوا، زادت اعدادهم. (2126) قوله: وترك اللّواط تكثيرا للنّسل، لانّ اللائط مضيّع لمادة الانسان قطعا ومفسد للبذر، فكأنّه قاتل النسل الّتى حرّم اللّه الا بالحقّ. لانّ من افسد البذر، كمن افسد الزّرع. (2127) قوله: ترك الكذب تشريفا للصّدق، فالصّدق هناة محمودة يتخلّق بها القلب، والكذب بخلاف ذلك. والتشريف هاهنا تأكيد. وللصدق‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 442

نتايج ملايمة، كما قال النّبىّ، عليه السّلام، اصدقكم رؤيا اصدقكم حديثا.

الحكمة 115

(2128) قوله: ما من احد اودع قلبا سرورا، الّا وخلق اللّه من ذلك السرور لطفا.

قال الامام الوبرىّ: يحتمل هذا وجهين من المعنى: احدهما انّ اللّه (210 ر) تعالى يقدّر عند صنع العبد لطفا له ينقذه من المهلكة. واراد بالخلق التدبير والكتابة فى امّ الكتاب.

و الثّانى [انّه‏] يخلق اللّه عند احسانه ملكا يدعوا له بالخير والمعونة من اللّه، تعالى، ويكون ذلك الملك عونا لذلك العبد بامر اللّه عند المهالك، فيحرسه اللّه، تعالى، بسببه.

(2129) وقال غيره: هذه استعارة، والمراد من اعان اخاه المسلم عند اضطراره، دفع اللّه عنه البلاء عند اضطراره، ويرزقه من حيث لا يحتسب.

(2130) قوله: الوفاء لاهل الغدر غدر عند اللّه، والغدر باهل الغدر وفاء عند اللّه، هذا مأخوذ من قول اللّه، تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، فانبذ اليهم على سواء، انّ اللّه لا يحبّ الخائنين. وذلك فى يهود بنى قينقاع. وكان بين رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وبينهم عهد، فعزم اليهود على نقض العهد، واخبر اللّه، تعالى، رسوله بذلك، وامره بمجازاة نقض عهدهم، ومحاربتهم، فحاربهم وازعجهم، كما ذكر فى التفاسير.

الحكمة 116

(2131) قوله فى اغارة اصحاب معاوية على الانبار، حتى اتى النّخيلة، النّخيلة موضع على اميال من الكوفة. (2132) قوله: ما تكفوننى انفسكم، يعنى عنادى من عصيانكم اكثر من عنادى من عدوانهم. ولو لا عصيانكم، لما ابتليت بعدوانهم. حيف الوالى على الرعيّة حملهم على ما يكرهون من بذل الاموال، والارواح، بغير الحقّ.

و حيف الرعيّة على الوالى خيانتهم وعصيانهم. الوزعة، الوازع الّذى يتقدّم الصفّ فيصلحه ويقدّم ويؤخّر.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 443

و فى الحديث، وقد شكى اليه، بعض عمّاله: انا اقيد من وزعة اللّه، تعالى. وهو جمع وازع. قال الحسن: لا بدّ للناس، من وازع اى من سلطان يكفيهم. وذكر ابن جرير فى تاريخه انّ امير المؤمنين، عليه السلام، خيّم بالنخيلة وخرج بالناس. فلمّا امسوا، انصرف النّاس الى بيوتهم، وبقى امير المؤمنين بالنخيلة مع اولاده وخواصّه، فانصرف امير المؤمنين ضرورة الى الكوفة.

الحكمة 117

(2133) قوله: نظرت تحتك، اى اقتديت بمن هو دونك فى الرتبة عند اللّه، وما اقتديت (210 پ) بمن هو فوقك. يعنى اقتديت باهل الشام، وما اقتديت بصحابة رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، من المهاجرين والانصار، حين بايعونى.

فقال الحرث: فانّى اعتزل مع سعد بن مالك، عنى به سعد بن ابى وقّاص. فانّه لمّا قتل عثمان اشترى اغناما وانتقل الى البادية، وكان يتعيّش بتلك الاغنام، حتّى قضى نحبه، ولم يشهد بيعة على.

و اما عبد اللّه بن عمرو التجأ الى حفصة امّ المؤمنين زوجة النبىّ واخت عبد اللّه بعد ما بايع امير المؤمنين، ولكنّه ما خرج معه الى حرب الجمل، وقال: اعجزتنى العبادة عن الفروسيّة والمحاربة. فلست مع علىّ ولا مع اعدائه، ولا احتياج له الى نصرتى، وانا رجل ضعيف متعبّد.

و اعتقد عبد اللّه بن عمر انّ قتال اهل البغى فرض على الكفاية. وانّ القوم الذين مع على يقع بهم الكفّار. ولو احتاج اليه امير المؤمنين، لخرج لانّه بايعه، لم ينصرا الحقّ، يعنى علانية، ولم يخذلا الباطل علانية، لان من لم ينصر الحقّ، لم يخذل الباطل.

الحكمة 118

(2134) قوله: صاحب السلطان كراكب الاسد، كلام فى غاية المتانة، وفيه ما لا يحصى من الفوائد. لانّ من ركب الاسد لا يخلو امّا ان يلقيه الاسد ويريد به، وامّا ان يلقيه ويفترسه. وصاحب السّلطان، امّا ان يوقعه السّلطان‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 444

فى مهلكة لا ينجو منها بسبب نظام ملكه، وإمّا ان يهلكه السّلطان، ومع ذلك فالنّاس يحسدونه بسبب جاهه وماله، وهو فى خطر عظيم.

الحكمة 119

(2135) قوله: احسنوا فى عقب غيركم، ماخوذ من قول اللّه، تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً.

الحكمة 120

(2136) (قوله:) انّ كلام الحكماء اذا كان صوابا، كان دواء، يعنى يتّعظ به الناس. وان كان خطأ، كان دواء، يعنى يقبله الناس بسبب حسن ظنّهم بهم، فيهلكون، كما قيل: اذا زلّ العالم، زلّ بزلّته العالم، فانّ الكلام كالشّاردة، يعنى كالناقة النافرة.

الحكمة 121

(2137) قوله: احبب حبيبك هونا مّا، هذا من الامثال، يعنى لا تطلعه على جميع اسرارك، [فانّه‏] ربما يعود بغيضك، فيؤذيك بافشاء (211 ر) سرّك. و«ما» للابهام، اى اعطى شيئا مّا، اى شيئا يقع عليه اسم العطاء، ولا شى‏ء أحسن من الاعتدال فى الحبّ والبغض وغيرهما. وهذا ماخوذ من قول اللّه، تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً.

الحكمة 122

(2138) قوله: هو من مال اللّه ولا حدّ عليه. اكل بعضه بعضا، وامّا الآخر فعليه الحدّ، فقطع يده.

قال بعض الفقهاء لا قطع على سارق بيت المال، لان هذا مال لا يختصّ به احد من المسلمين، وهم فيه سواء، وانّما قطعه، لانّ اجتهاده اوجب قطعه، وراى الصّلاح فى ذلك.

قوله من عروض النّاس، يقال: فلان من عروض النّاس، اى من العامّة.

الحكمة 123

(2139) قوله ممّا سمّى له فى الذكر الحكيم، عنى بالذّكر الحكيم اللّوح المحفوظ. والذّكر الشّرف، فى قوله، تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ. والذّكر التورية فى قوله: وَما أَرْسَلْنا، اى اهل التورية. وقيل اراد كلّ من يذكر بعلم وافق المسلمين أو خالفهم، والذّكر التذكّر فى قوله «أو يحدث لهم ذكرا» أي تذكّرا، والذكر الخير فى قوله: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، وقوله: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ. اتّفق اكثر المفسّرين على انّ‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 445

الذّكر الحكيم هاهنا اللّوح المحفوظ.

(2140) و

فى تفسير الثعالبىّ: اللّوح المحفوظ معلّق من العرش، وهو من درّة بيضاء. والحكيم المحكم، فعيل بمعنى مفعل، وبمعنى مفعل بكسر العين ايضا. فالكتاب المحكم بكسر الكاف، لانّه احكم ما خلق ولم يفته شى‏ء. ومنع بعضه، اى يفسد بعضها الّا بامره واذنه. ولا يسمّى الرجل حكيما، حتّى يجمع بين العلم والعمل، كانّ علمه منعه عن المعاصى. يعنى ما كتب اللّه لعبد، وقدّر له فى اللّوح المحفوظ، فانّ ضعف العباد وقلة حيلته لا يمنعه عن ذلك، وطلبه وحيلته لا يزيده على ما قدّر له فى اللوح المحفوظ.

(2141) قوله: مستدرج بالنّعمى، الاستدراج الاخذ على عثرة.

كذا ذكره صاحب الغريبين، اى نمهلهم، ثم نأخذهم كما يرقى الرّاقى (211 پ) الدّرجة قليلا قليلا.

الحكمة 124

(2142) قوله: اللّهمّ انّى اعوذ بك ان تحسّن فى لامعة العيون علانيتى، عنى به الاستعاذة من الرياء وحبّ الثناء. وبعض الناس يبتهج بالمدح ويغتمّ بالذّم، ويخيّب ويكافى، وهو من اشرار الناس، وبعضهم يفرح بالمدح ويغتمّ بالذّمّ، ولكن لا يظهر الاغتمام، ولكنه فى قلبه يحبّ مادحه ويبغض عائبه. وهذه درجة الصلحاء والاخيار. وبعضهم لا يفرح بالمدح ولا يغتمّ بالذمّ ولا يحزن به، ولا يلتفت الى المادح، لانّ قلبه مشغول باللّه غير ملتفت الى مدح النّاس وذمّهم. وهذه درجة العبّاد والزّهاد. وبعضهم يبغض المادح ويحبّ العائب، لانّه يستفيد من العائب فوائد: منها انّه يسمع منه عيبه فينفر من عيبه، ويجتهد فى اصلاح نفسه.

و الثانى انّ العائب اهدى الى من عابه جميع حسناته، ودعاه الى ما فيه صلاح نفسه، ولا ينقطع علايق الدّنيا عن قلب المؤمن، وهو يغترّ بالمدح. ومن عمل طاعة ليمدحه النّاس على طاعته، فانّه متقرّب الى النّاس لا الى اللّه. وهذا باب من ابواب الشّرك. لذلك قال امير المؤمنين: تقرّبا الى عبادك‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 446

و تباعدا من مرضاتك.

الحكمة 125

(2143) قوله: اذا اضرّت النوافل بالفرايض فارفضوها،

قال قوم: معنى ذلك انّ اداء النوافل اذا كان مانعا عن اداء الفرائض، فاترك النوافل، واشتغل باداء الفرائض.

و

قال قوم: اذا صلّى النوافل رياء الناس، اضرّت تلك النوافل بالفرائض.

فمن حق من يخاف الرياء ان يقتصر على اداء الفرائض، فانّ اداء الفرائض بعيد من الرياء.

و

قيل: معناه ذكر بعد ذلك رواية عن امير المؤمنين: انّ للقلوب اقبالا وادبارا، فاذا اقبلت، فاحملوها على النوافل، واذا ادبرت، فاقتصروا بها على الفرائض، يعنى بذلك حالة القبض والبسط.

(2144) وقال فضيل بن عياض: كان فى الزمن الماضى لا يراؤون بما يعملون من الطاعات والان يراؤون بما لا يعملون.

و فى الاثر انّ اللّه، تعالى، يقول للملائكة اذا صلّى عبد من عباده رياء، او عمل طاعة رياء، انظروا الى عبدى الذى يستهزى‏ء بى. وقد تقدّم القول فى الرياء.

و

قال قوم: من كان فقيرا او مريضا، (212 ر) وخاف انّه ان اشتغل بالنوافل، فاتته الفرائض، فعليه بالفرائض لا بالنوافل.

و اعلم انّ النوافل وضعت تلافيا للخلل الواقع فى الفرائض وجبرا لانكسارها. فما دام الجبر سببا للكسر، فالاولى ان لا يكون.

الحكمة 126

(2145) قوله: ليس الرؤية [كالمعاينة] مع الابصار، اى لا يوجب الادراك العلم، لا محالة. انّما الذى يوجبه هو التفكّر. واراد به العلم الاستدلالىّ دون المشاهدة، فكانّه قال: ليس العالم من ادرك المحسوس، انّما العالم من علم ما ليس بمحسوس. (2146) قوله: فقد يكذب العيون اهلها، ولا يغشّ العقل من‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 447

استنصحه. العين ترى الشى‏ء من بعيد اصغر، ومن قريب اعظم، وترى الكواكب فى الافق اعظم وفى وسط السماء اصغر. وجرم الكوكب لا يزيد ولا ينقص فى فلكه. وترى ساكن السّفينة الساحل متحرّكا، والسفينة ساكنة.

و ترى الخشب او الحديد فى الماء معوجّا وهو مستقيم، ولذلك اخوات ونظائر، ولكن هذه الامثلة يكفى.

و فى معنى قوله «يكذب العيون اهلها» قوله: قطع العلم عذر المتعلّلين، اى لا عذر للعالم فى التقصير من جهة العمل، وان كان الجاهل غير معذور، ولكن العالم اقطع عذرا.

الحكمة 127

(2147) قوله ما قال النّاس لشى‏ء طوبى له، ذلك فى الدنيا ونعيمها، اما فى سبيل اللّه فلا.

الحكمة 128

(2148) قوله: فى القدر: طريق مظلم فلا تسلكوه،

قال الامام الوبرىّ المتكلّم: معنى القدر ههنا ما لا نهاية له من معلومات اللّه، تعالى، فانّه لا طريق اليه ولا الى مقدوراته. وقال غيره: القدر ما هو مكتوب فى امّ الكتاب، اى اللّوح المحفوظ وما دللنا على تفصيله، وليس لنا ان نتكلّفه. ويقال للوح المحفوظ: القدر، وللكتاب: القدر، كانّ كلّ شى‏ء قدّره اللّه كتبه.

و

 

سئل ابن عباس عن القدر، فقال: هو تقدير الاشياء كلّها اوّل مرّة، ثم قضاها ففصّلها.

و قال جعفر بن محمد الصادق، عليه السّلام، النّاس فى القدر على ثلث منازل. من جعل للعباد فى الامر مشيّته، فقد ضادّ اللّه، ومن اضاف الى اللّه، تعالى، (212 پ) ما هو منزّه عنه، فقد افترى على اللّه كذبا. ورجل قال: انّ رحمت، فبفضل اللّه، وان عذّبت، فبعدل اللّه. فذاك الذى سلم دينه ودنياه جميعا.

الحكمة 129

(2149) قوله: اذا ارذل اللّه عبدا، دليل على ان الجهالة من الرّذالة، ولا شرف لمن لا علم له.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 448

الحكمة 130

(2150) قوله: كان لى فما مضى اخ فى اللّه، عنى به ابا ذرّ الغفارىّ.

الحكمة 131

(2151) قوله: لو لم يتوعّد اللّه على معصيته، معناه من لم يتناول الدّواء لاجل زوال المرض، لوجب ان يتناول لحفظ الصّحّة.

قال الامام الوبرىّ: معناه انّ النعم توجب الشّكر وتعظّم المعصية، سواء كان فيها عقاب، او لم يكن، فانّ حقّ النعمة وحكمها مراعاة الشّكر وتعظيم حقّ موليها، سواء اعقب الشّكر فى المستانف زيادة اولا. واذا كان هذا حكما لازما، فمن حقّه ان يتبع النّعم ولا يضاع: فلذلك يجب علينا شكر المنعم وتعظيمه حقا لسالف احسانه، وان امنّا الضرر من جهته عند التقصير وامنّا من افضاله فى المستقبل، كذلك فى حقّ اللّه تعالى، الا انّ المشقّة فى الشّكر توجب الثواب فى المستقبل. ولولا المشقة، لكان حكمه ما ذكرنا.

الحكمة 132

(2152) قوله: استحقّت ذلك منك الرحم،

قال قوم: الانسان يبقى بنوعه، يعنى يبقى نوع الانسانيّة بالتوالد والتناسل. وما قدر اللّه، تعالى، لانسان واحد بقاء من ابتداء الدنيا الى انتهائها، فالوالد يتصوّر بقاءه من بقاء ولده، وبقاءه محبوب، فبقاء ولده الذى هو بقاءه من طريق بقاء النّوع ايضا محبوب.

فالوالد يجزع على ولده اكثر مما يجزع على غيره، لانّه يجزع على فوات بقاء شخصه، لانّه فناء جزء منه، لان ببقاء الولد يبقى نوع الانسان.

(2153) قوله: جرى عليك القدر وانت ماجور، الصبر ثبات باعث الدّين عند مقابلة باعث الشّهوة. وقول امير المؤمنين: جرى عليك القدر، وانت ماجور، يعنى: انّ ثواب الصّبر يبقى ما لا نهاية له، والجزع لا يمتدّ اوقاته، وتبقى تبعاته. قوله: سرّك، يعنى ولدك حين ولد سرّك، وهو بلاء (213 ر) وفتنة كما قال اللّه، تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَو حزنك حين مات، وهو ثواب ورحمة، فى قوله: تعالى: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 449

الحكمة 133

(2154) قوله: لا تصحب المائق، فانّه يزيّن لك فعله، الموق حمق فى غباوة. ويقال احمق مائق. الاحمق لا يتصوّر نقصانه، بل يتخيّل نفسه كاملة، ويودّ ان تكون مثله.

و قال بعض الحكماء: الاحمق، هو ما يتخيّل مضارّة فى صور منافعه. ولو كان كذلك، فكل واحد منا احمق، لانّنا نتخيّل الدّنيا وزخارفها، وهى مضار، فى صورة منافعنا.

و سئل عن مسافة ما بين المشرق والمغرب، فقال: مسيرة يوم للشمس. لهذا الكلام شرح طويل قنعنا منه بمجمل دون مفصّل.

(2155) الافلاك على ما قيل سبع، والسموات السّبع على موجب قول اللّه، تعالى، والعرش والكرسىّ، فيكون تسعا. فاقربها الينا فلك القمر، والفلك الثانى مما يلينا لعطارد، والثالث للزهرة، والرابع للشّمس. والخامس للمشترى، والسابع لزحل، والثامن للثوابت، والتاسع فلك الافلاك، وهو غير مكوكب، ويقال له الفلك الاطلس والفلك الاعظم والمحيط. وهذا الفلك يدور من المشرق الى المغرب، ويدور معه سائر الافلاك باذن اللّه وتقديره دورة واحدة فى كل يوم وليلة حوالى الارض. وهذا معنى قول اللّه، تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ، وقوله: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وقوله: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ.

(2156) وقد مسح المهندسون الارض فقدّروها اربعة وعشرون الف ميل، وقدّروا قطرها سبعة آلاف وتسعمائة وستّين ميلا. ولها اربعة اركان: المشرق والمغرب والجنوب والشمال. هذا على الاضافة. ويجوز على هذا الوصف ان يكون بلدة مشرقا لقوم ومغربا لمن فوقهم، وان يكون بلد مغربا لقوم، مشرقا [لمن‏] دونهم. وكذلك الجنوب (213 پ) والشمال، كما قال اللّه، تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 450

(2157)

قال بعض المفسرين: انّها بيت المقدس.

و

قال قوم: ما كان على يمين خطّ الاستواء، وهو مدار راس الحمل والميزان للتّوجه الى المشرق من البلدان فهى جنوبيّة، وما كانت على يساره فهى شمالية، وما كان من البلدان نحو المشرق من خطّ نصف النهار، وهو الخطّ الذى يحيط بالفلك الاعظم مارّا على قطبية بحذاء قبّة الارض الّتى اصطلحت عليها ارباب تلك الصناعة. والقبّة كما نقل بلدة باليمن، فهى مغربية. وبعد كلّ بلد من خط نصف النهار يسمّى طول البلد، وبعده من خطّ الاستواء يسمّى عرض البلد.

و قوله، تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ،

قيل: هى الاقاليم السّبعة، وقيل: هى الاراضى المنقطعة، وقيل: اقسام من خطّ الاستواء الى جنب الشّمال ومنقطع العمران عند ياجوج وماجوج على عرض ثلث وستين درجة، وانتهى الى الامم الذين يسكنون الحانات 1 من شدة البرد، وهم غير محمودين فى طبايعهم لقساوة قلوبهم وخلاقة ابدانهم. اما النصف الجنوبىّ فجاء بيننا وبين الوصول اليه والوقوف على عمرانه وخرابه بحار وارضون.

الحكمة 134

(2158) قوله مسيرة يوم، هذا معنى قوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها.

و

قال المهندسون: عظم مثل جميع الارض مائة وستّ مرة وربع وثمن، وقطرها اثنان واربعون الف ميل، وبعدها من الارض اربعة الاف الف ميل ونصف. واختلفوا فى ذلك. واما سيرها، فانّها يقطع الفلك فى ثلثمائة يوم وخمسة وستّين يوما وربع يوم.

و سبب اختلاف هذه المطالع والمغارب، انّ اللّه، تعالى، خالف بين قطبى فلك البروج وبين قطبى فلك الاستواء اربعة وعشرين درجة، فمالت منطقة فلك البروج عن منطقة فلك الاستواء الى الشّمال ناحية، والى الجنوب ناحية، ولزمت المنطقيّات كلّ واحدة (214 ر) منهما الاخرى فى موضعين، متقابلين.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 451

الحكمة 135

(2159) قوله فى جواب سؤال السائل: كما يرزقهم على كثرتهم، قال هذا ثناء ومع الايجاز، وذلك لانّ من علم العلوم وعلم من الكلام ما يبيّن عنه، ويدلّ على حقيقته، ولم يدر الا الابانة والايضاح، فان القليل من كلامه يبلغ ما لا يبلغه الكثير من كلام غيره. ولذلك سلك السّلف سبيل الايجاز فى كلامهم، ووقعت الغنية به عن الكثير. وربما فتح مثل هذا الكلام ابوابا من العلم على سامعه، لانّه يكون احسن موقعا وابين تاثيرا واقلّ نفوز لا  واكثر محصولا لعلم قائله وحسن نيّته وطهارة فعله وسريّته.

الحكمة 136

(2160) قوله: انّ المسكين رسول اللّه، المعنى انّ الآمر بالصدقة هو اللّه، وهو الّذى قرض الناس قرضا حسنا، وهو الّذى وضع قوت الفقير فى يد الغنىّ، فكأنّ الفقير رسول من اللّه الى الغنىّ، ولذلك قال اللّه، تعالى: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ.

الحكمة 137

(2162) قوله: ما زنى غيور قطّ، لانّ الغيور ما يرضى لنفسه لا يرضى لغيره. (2163) قوله: فلوى عن ذلك، يقال: لوى الرّجل رأسه، والوى براسه اما[ل‏] واعرض. قوله: وان تلووا وتعرضوا بالواوين.

فاصاب انسا هذا الداء. كان امير المؤمنين مستجاب الدعوة، وقال له رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: انت منّى بمنزلة هرون من موسى، الّا انّه لا نبىّ بعدى، واستجاب اللّه دعوتى ودعوتك كما استجاب دعاء موسى وهرون، حيث قال: قد اجيبت دعوتكما.

الحكمة 138

(2164) قوله: فى القرآن نبأ ما قبلكم، عنى به الامور الماضية، وخبر ما بعدكم، يعنى به امور الاخرة.

الحكمة 139

(2165) قوله: ردّوا الحجر حيث جاء، هذا مثل اوردته فى مجامع الامثال من تصنيفى. والمراد انتقم ممّن ظلمك، اقتداء بقول اللّه، تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 452

الحكمة 140

(2166) قوله: انّما اختلفنا عنه لا فيه، يعنى اختلفنا فى تفاسير (214 پ) كلماته الصادرة عنه، لا فى رسالته ونبوّته.

الحكمة 141

(2167) قوله: اعاننى على نفسه، يعنى قصّر فى حقّه فكان عونا لى على نفسه، فغلبته. و

قيل: يعنى تصوّر فى نفسه وتوهّم انّه مغلوب، وانّ امير المؤمنين غالب.

الحكمة 142

(2168) قوله فى حقّ عبد اللّه بن عباس، وقد اشار عليه عبد اللّه بن العبّاس حين انصرف عن مكة حاجّا، وكان امير الموسم عن جهة عثمان بن عفّان. فلما انصرف، بايع الناس علىّ بن ابى طالب، فبايعه عبد اللّه بن العبّاس.

و قال لامير المؤمنين: هذا امر قد وقع، وانا لا آمن من غوائل النّاس، فاكتب لابن طلحة كتاب ولاية البصرة، ولابن الزّبير ولاية الكوفة، واكرمهما، وطيّب قلب طلحة والزّبير بذلك، واكتب الى معوية واذكر القرابة والصلة وطاعة اللّه، وفوّض ولاية الشّام، حتّى يبايعك. فان بايعك، وجرى على سننك وطاعة اللّه، فاتركه على حاله، وان خالفك، فادعه الى المدينة، واجعل بدله آخر، حتى يسكن الدّهماء، ولا يموج بحار الفتنة.

فقال امير المؤمنين: معاذ اللّه ان افسد دينى بدنيا غيرى، وقال لعبد اللّه: لك ان تشير علّى، الى تمام الكلام. قوله: مرّ بالشّامييّن حى من العرب.

الحكمة 143

(2169) قوله: فتنة للوالى ومذلّة للمؤمنين، عنى به خدمة الرّعيّة، وذاك احتراز عن حبّ الجاه باستخدام غيره.

الحكمة 144

(2170) قوله: بؤسا لكم، يقال فى الامثال: بؤسا له وتوسا وجوسا، البؤس الشدة، والجوس الجوع. والتّوس اتّباع الجوس، وهذا عند الدّعاء على الانسان، ونصب هذه الكلمات باضمار الفعل، اى قدّر اللّه له هذه الاشيا وقضى له، والزمه.

الحكمة 145

(2172) قوله: على قدر سرورهم، اى بقتله. وكان محمد بن ابى بكر ربيب امير المؤمنين، وقد تزوّج امير المؤمنين بامّه، ومحمّد طفل ربّاه‏

 

   --------------------------------------------------------------- صفحة 453

امير المؤمنين.

الحكمة 146

(2173) قوله: ستّون سنة، لانّ من عمّره اللّه ستّين سنة، فقد جاوز عقبة الصّبى والشّاب والكهولة، وهو فى سنّ الشيخوخة، وما بعد ذلك الّا ارذل العمر (215 ر).

الحكمة 147

(2174) قوله: ما ظفر من ظفر الاثم به، اى من استولى عليه الهوى، لا يظفر باحد، لانّ من لا يظفر بنفسه كيف يظفر بغيره. ولو ظفر لكان صورة ظفر [فى الحقيقة] هزيمة. ومن غلب غيره بالشرّ والمعصية، فهو مغلوب لا غالب.

وفسّر بعض المفسّرين قول اللّه تعالى حيث قال: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، يعنى المؤمن منصور ابدا. ومن غلب بالشرّ، فهو المغلوب لا المؤمن.

الحكمة 148

(2175) قوله: الاستغناء عن العذر اعذر من الصّدق به، كلام احاطت به الفوائد احاطة الهالة بالقمر.

الحكمة 149

(2176) قوله: لا ينفع المسموع اذا لم يكن المطبوع، لانّ من لا قوة لخاطره ولا تصرّف لذهنه، ما نفعه ما سمع من العلوم. والحفظ لايق بالصّبيان الّذين اذهانهم وخواطرهم ناقصة، وانّما الاعتبار بالاذهان والخواطر للكاملين.

الحكمة 150

(2177) قوله: من كثر كلامه كثر خطأه، لانّه لا يقدر على ان يضبط الكثير، وهو على صيانة القليل من الخطأ اقدر. كالرّاعى، فانّه على حراسة القليل من الاغنام ورعايتها اقدر. وان كثرت ربّما عاثت فيها الذئاب، وتخطّفها ورعت فى غير حدّ الراعى. و

قال بعض الحكماء: كلام قليل مصون عن الخطأ خير من كثير مشوب بالخطأ. كما انّ الذّهب القليل المصون من الغشّ انفع من الكثير المغشوش. ومن الامثال: من اكثر اهجر، والمكثار كحاطب ليل.

(2177) قوله: من قل ورعه، مات قلبه، تقدّم القول فى الورع وموت القلب.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 454

الحكمة 151

(2178) قوله: لم يرد ذلك استدراجا، الاستدراج الاخذ على غرّة، وقد تقدّم.

الحكمة 152

(2179) قوله: عن ضراية عاداتها، والرواية الصّحيحة ضراوة.

الحكمة 153

(2180) قوله: فصلّ على محمد،

قال بعض العلماء مثال ذلك سئوال الرعيّة عن الامير بواسطة الوزير. والنبىّ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، يشفع اذا صلّى المصلّى عليه فى قضاء حاجته

الحكمة 154

(2181) قوله: (215 پ) حياشة لهم الى جنّته، يقال: حيّشت الابل جمعتها وسقتها.

الحكمة 155

(2182) قوله: جاهل لا يستنكف ان يتعلّم، قيل: لشيخ كان يتعلّم: اما تستحيى ان تتعلّم على الكبر قال: انا لا استحيى من الجهل على الكبر، فكيف استحيى من العلم على الكبر.

الحكمة 156

(2183) قوله: ربّ قول انفذ من صول، ويروى: اشدّ. هذا الكلام يتمثّل به العرب. الصّول والصّولة الحملة، ومنه الجمل الصّؤل، للجمل الهائج. ومسألة الجمل الصؤل مسألة معروفة فى العقد. والصّولة فعلة منه. يريد «ربّ قول هو اشد نكاية من الصّول». وموضع اشدّ خفض، لانّه نعت «قول»، والنعت تابع للمنعوت فى حكم الاعراب. وانما نصبه الرّفع لانّ افعل لا ينصرف، والفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف ظاهر. ويجوز «اشدّء بالرّفع على خبر الابتداء.

(2184) قال ابن آدم الهروىّ: لهذا المثل معنيان: احدهما انّه يقول: ربّ قول يقول الانسان، ويكون ضرره لديه اشدّ من صولة عدوّ يصول عليه.

و الثانى ربّ قول سمعته من صاحبك من قذف او هجر يكون اشدّ من صولة عدوّ يصول عليك.

(2185) وحكى استاذنا الامام المدنىّ عن ابى الهيثم انه قال:

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 455

«اشدّ» فى موضع خفض، لانّه تابع للقول، وما جاء بعد «ربّ» فالنّعت تابع له.

يضرب فى ما يبقى من العار.

الحكمة 157

(2186) قوله: القلب مصحف البصر، اشار الى الحافظة التى للانسان وكون البصر جاسوسا يؤدّى اليها ما تراه، لتنزع العقل من المبصرات والمحسوسات ما يجرّدها عن الموادّ والعلايق للموادّ. ويصيّرها ملائمة له.

الحكمة 158

(2187) قوله: للاشعث معزّيا: ان صبرت صبر الاكارم، والّا سلوت سلوّ الاغمار. نظمه بعض الشعراء فقال:

         وقال علىّ فى التعازى لاشعث   ***   وخاف عليه بعض تلك المآثم‏

         اتصبر للبلوى عزاء فتوجر   ***   ام تسلو سلوّ البهائم‏

 

الحكمة 159

(2188) قوله حتّى تلقى اللّه املس، الاملس الصحيح الظّهر. وفى الامثال (216 ر) هان علىّ الاملس ما لاقى الدّبر، عنى به انّه يلقى اللّه ولا وزر عليه وهو نقىّ الصحيفة من المظالم. ويقال ايضا فى الامثال: ملسى لا عهدة، اى قد انملس من الامر لا له ولا عليه.

الحكمة 160

(2189) قوله: فليلامس اهله، المراد بذلك انّه يدفع عن نفسه الشهوة الّتى هى من دواعى الشّيطان. ومن لم ينكح فالغالب عليه ان لا يحفظ نظره عن الحرام وقلبه عن الوسوسة، وان حفظ فرجه عن الحرام.

الحكمة 161

(2190) قوله: انّما هو عيد لمن قبل اللّه صيامه، العيد ما اعتادك من همّ او غيره، لانّه مما يعود لوقته.

قال الشاعر: اذا اقول صحا يعتاده عيدا. والاصل فى ذلك الواو. والعيد كلّ يوم مجمع، ويسمّى لعوده كلّ عام. وانما جمع بالياء، واصلها الواو للزومها فى الواحد. و

قيل للفرق بينه وبين اعواد الخشب، وقيل: العيد اليوم الّذى يعود فيه الفرح والسرور. والاصل العود.

قال الشّاعر: عاد قلبى من الحبيبة عيد.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 456

و منه قول الشّاعر: يا عيد مالك من شوق وايراق. والاعياد ايّام الامم.

(2191) اما اعياد النصارى فالميلاد، والقلنداس والذنح وعيد السّمع والشّبّار ومرجورس وميلاد يوحنّا ومرطوما وصوم مارة مريم والتجلّى وفطر مارة مريم وآخر التجلّى ومقيل يوحنّا وعيد الصليب والسّباسب والسّعانين.

و للهنود اعياد كثيرة اوّلها ژاتر وآخرها اوداد.

و اما لليهود عشيّة الاجتماع ويوم الاجتماع، اعنى اجتماع الشمس والقمر عيد لهم، وينفح الامام فى الشّبّور، ويحمدون اللّه على سلامة ذلك الشهر، وعيد العنصرة يوم واحد فى التّوريّة، وعند اهل الشام والعنانيّة يومان: وهو يوم كلّم اللّه بنى اسرائيل من الطور، واليوم الثانى امر موسى بالصّعود الى الجبل والمكث فيه، كما قال اللّه تعالى: وَواعَدْنا مُوسى‏ ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ، وعيد صوما ربا وعيد مظلى.

و عيد المسلمين يوم الفطر ويوم الاضحى.

الحكمة 162

(2192) قوله: ان اخسر الناس (216 پ) صفقة، المراد بذلك اسوء الناس، حالا. وصفقت له بالبيع والبيعة صفقا، اى ضربت يدى على يده. وقد ربحت صفقتك للشّرى، وصفقة رابحة، وصفقة خاسرة.

الحكمة 163

(2193) قوله: اخبر تقله، كلام يتمثّل به، ويروى: فاقله. القلى والقلا البغض، اذا القاف قصر. واذا فتحت، مدّ. ومنه قوله، تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى‏. وقوله: انّى لعملكم من القالين، اى من المبغضين.

و التقدير ان خبرتهم فلتقلهم. فاوقع لفظ الامر فى موضع الخبر. ومثله قوله: تعالى: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. تقديره من كان فى الضلالة مدّه الرحمن فى ضلالته مدّا. فاللفظ لفظ الامر والمعنى مخبر.

و

قال الهروىّ: اخبر، يعنى جرّب، يعنى اذا جرّبتهم قليتهم.

و يقال «تقله» الهاء للوقف، يقول: كلّ من خبرته من الناس، ظهر لك انّه مبغض. و

قيل: الهاء فى «تقله» للسّكت بعد الحذف، يعنى حذف العايد،

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 457

يعنى انّ اصله اخبر النّاس تقلهم. وحذفت الهاء والميم، ثم ادخل هاء الوقف، ويكون الجملة فى موضع النّصب بلفظ وجدت، اى وجدت الامر كذلك. وضرب فى ذمّ الناس وسوء معاشرتهم.

قال العميد ابوبكر القهستانىّ: لولا انّ الاعتراض على السّلف من الجهالة والسّرف، لقلت: القلى ثمّ المخبر، حتّى لا يكون مضيّعا فى وقته وواضعا غير موضعه مقته.

الحكمة 164

(2194) قوله: ذعذعتها الحقوق، يقال ذعذعته فتذعذع اى فرّقته فتفرّق.

الحكمة 165

(2195) قوله: الغنى والفقر بعد العرض على اللّه، تعالى: يعنى من عرض على اللّه، تعالى، وفاز برضوان اللّه، فقد ظهر انّه كان فقيرا عن الدّنيا غنيّا برحمة اللّه. فربّ فقير فى صورته وقلبه مشتاق الى الغنى، فله ذلّ الفقر فى الدّنيا وعقوبة الاغنياء فى الآخرة.

الحكمة 166

(2196) قوله: ما اخذ اللّه على اهل الجهل ان يتعلّموا، حتّى اخذ اهل العلم ان يعلّموا.

قال الامام الوبرىّ: فريضة العلم ينقسم الى عقلىّ وشرعىّ، وكلاهما ينقسم الى فرض عين وكفاية. فاما العقلىّ، فلا بدّ فيه من منبّه على الادلّة (217 ر) فكما وجب على الجاهل ان يعلم بعقله ما يحتاج اليه، يجب ايضا على العلماء ان ينبّهوا بالسنتهم وتصانيفهم. ولذلك كثر فى هذه الامّة من العلماء فى هذا الجنس الدّرس والتصانيف وصنوف المذكّرات وغير ذلك.

و امّا المسموعات ففيه فرض عين وكفاية. وكلى القسمين فى السّمع يحتاج فيها الى هاد ومبيّن وواصف للمذاهب ودلالاتها. وعلم الشّرع لا طريق له الّا السمع. فالمفيد فى العقليّات ان يكون منبّها لا معلّما. ويجوز ان يقال فى مفيد العقليّات علّمه كذا، اذا وصف المعلوم والدليل. فاما الواصف للشرع وادلّته، فانّه يقال علّمه كذا وعرّفه كذا وهداه. فهذه الاسماء حقيقة فيه. ومن قال‏

 

   ***      ***  

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 458

حكما باجتهاد، فقوله دليل وهداية وبيان وتعريف. واما المعلّم على الاطلاق، فيقال لمن حرفته تعليم الصّبيان، والمؤدّب لمن حرفته تأديبهم. ولا يجوز اطلاق المعلّم على علماء الاسلام، لانه شنيع غير مشهود [س 11 گ 217 ر] (س 8 گ 208 پ تا س 4 گ 209 پ) واذا وجب تحصيل العلم على العقلاء من الوجهين الّذين ذكرناهما من الاقسام، ولا بدّ فى كلى القسمين من منبّه، او مبلّغ للسّمعيّات، او صاحب للفتاوى فى نوازل الشرع، وجب على العلماء التعريف، وعلى غيرهم المعرفة. واذا وجب التّنبيه فى العقليّات (209 ر) والبيان والبلاغ فى الشرعيّات، جمع اللّه جمل ذلك فى القرآن العظيم، فانطوى على بيان العقل والشّرع تعليما لهذا الاصل. فقال اللّه، تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، الى غير ذلك من الآيات. فلذلك قال: ما اخذ اللّه على اهل الجهل ان يتعلّموا، حتّى اخذ اللّه على اهل العلم ان يعلّموا. ولما وجب التنبيه فى العقليات، والبيان والبلاغ فى الشرعيّات، اودع اللّه جملا من العقل وتفاصيله وجملا من الشّرع وبعض تفاصيله القرآن العظيم، كما قال: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ.

(2197) وقال بعض القائلين: من المعلوم الظّاهر انّ الامور المعقولة الّتى يتوصّل الى اكتسابها لحصول الحدّ الاوسط بعد الجهل بها، انّما يتوصّل اليها بالقياس. وهذا الحدّ الاوسط قد يحصل [على‏] ضربين من الحصول: فتارة يحصل بالحدس، والحدس هو فعل الذهن يستنبط بذاته الحدّ الاوسط.

و الذكاء قوّة الحدس. وتارة يحصل بالتعليم، ويتأدّى التعليم الى الحدس. فانّ الاشياء ينتهى لا محالة الى حدوس استنبطها ارباب تلك الحدوس، ثم ادّتها الى المتعلّمين. فجايز اذن ان يقع للانسان بنفسه الحدس، وان ينعقد فى ذهنه القياس بلا مفيد. وهذا يتفاوت بالكمّ والكيف، فلانّ بعض الناس يكون اكثر عدد حدس للحدود الوسطى، وامّا بالكيف، فلانّ بعض الناس يكون اسرع زمان حدس. ولانّ هذا التفاوت ليس منحصرا فى حدّ، بل يفيد الزيادة والنقصان‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 459

دايما وينتهى فى طرف النقص الى من لا حدس له البتة، فيجب ان ينتهى ايضا فى طرف الزيادة الى من له حدس فى اسرع وقت واقصره. فيمكن ان يكون من النّاس مؤيّد النفس بشدة الصفاء الى ان يستعمل حدسا فى كل شى‏ء، فيرتسم فيه الصّور اما دفعة واما قريبا من دفعة، وارتساما لا تقليديّا. فان التقليد ياتى فى الامور الّتى انّما يعرف باسبابها، ليست يقينيّة عقلية، فيجب لمثله ان يعلم، ولمن دونه [فى الرتبة] ان يتعلّم.

الحكمة 167

(2198) وسئل، عليه السّلام، من اشعر الشعراء فقال: انّ القوم لم يجروا فى حلبة تعرف (209 پ) الغاية عند قصبتها، فان كان ولا بدّ، فالملك الضّليل. يريد امرء القيس، ويقال له الضّلّيل، لانهماكه فى شرب الخمر واقدامه على امور النساء وتهتّكه.

(2199) قال الحاكم ابو عبد اللّه فى تاريخ نيشابور: انّما سمّى «ضلّيلا» لانّه ذهب الى الرّوم، وتنصّر فى آخر عمره، حتى اهدى اليه تعالى ملك الروم حلّة مسمومة.

(2200) المعنى: الشعر هو الكلام الموزون (س 4 گ 209 پ) (س 12 گ 217 ر) على روىّ واحد المقوّم على حذو، واحذى البيت بالبيت حذو النّعل بالنّعل والقذة بالقذة، حتى لا يخالف بعضه بعضا فى الوزن والرّوّى: وربّما سمّوه شعرا، لانّه الفطنة بالغوامض من الاسباب، يقال: شعرت بالشى‏ء شعرا وشعورا. ومنه قولهم: ليت شعرى، اى ليتنى اشعر به. وسمّوا الكلمات المنظومة الموزونة قافية، اى انّه الكلام الّذى يقفوا بعضه بعضا على مثال واحد. ثمّ سمّوا اجتماع القوافى قصيدة، يعنون بالقصيدة انّها الكلمة الّتى قد امتليت بالمعانى، وكثر فيها الالفاظ المستحسنة، يقال: ناقة قصيدة، اى ممتلية كثير الشّحم واللّحم سمينة. شبّهوا القصيدة بها.

قال الشاعر:

         قطعت وصاحبى سرح كنار   ***   كركن الرّعن ذعلبة قصيد

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 460

و فى امّة العرب، ان شاء اللّه تعالى، شعراء، مدوّن كلامهم ومخلّد على مرور الدّهر، وصار الشعر رياضة للمرتاضين وادبا للمتأدّبين، ورغب فيه الملوك من النّاس (217 پ) واستحسنه الامم، كافة.

و للجذيمة بن الابرش ملك العرب ابيات منها:

         ربّما اوفيت فى علم   ***   ترفعن ثوبى شمالات‏

         يا ليت شعرى ما اماتهم‏   ***   نحن ادلجنا وهم باتوا

 

و قال معدى كرب وقد عمّر:

         ارانى كلّما افنيت يوما   ***   اتانى بعده يوما جديد

         يعود بياضه فى كلّ فجر   ***   ويأتى لى شبابى ما يعود

 

و يقال: اوّل من قصد القصائد وذكر الوقايع مهلهل بن ربيعة واسمه عدىّ.

(2201) و

قيل: انّ العباس بن عبد المطّلب سأل عمر بن الخطّاب عن الشعراء، فقال: امرء القيس سابقهم خسف لهم عين الشّعر فافتقر، عن معان عورا صح بصر . قال الشعبىّ: كان ابوبكر وعمر شاعرين، وكان علىّ اشعر منها. وذكر اشعار الصّحابة محمد بن اسحق بن يسار فى مغازيه. وقيل: من اشعر العرب فقيل امرء القيس حين ركب، والاعشى حين رغب، والنابغة حين رهب.

(2202) وقيل خرج ملك العرب النعمان بن منذر ومعه امرء القيس وطرفة واعشى وعبيدة بن الابرص، وكلّ واحد منهم قال: انا اشعر. فغضب الملك عليهم وسبقهم وساروا، فاستقبلهم فى الفلاة جنّىّ وحبسهم. وقال:

         من معرب جدل جار العويص له   ***   بحرا يجيز لنا بيتا على واو

 

فقال لهم النعمان اجيبوه فقالوا جميعا سوى امرء القيس: ليس لنا بمجاوبة الجنّى طاقة. فقال الملك لامرء القيس: اجبه فقال امرؤ القيس لا اجيبه حتّى يعترف هؤلاء بتقدّمى فأقرّوا بفضله وتقدّمه فقال امرء القيس.

         انا اجيز لكم بيتا فاعربه   ***   ان الّذى يزدرينى شاعر غاوى‏

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 461

         امضى لحاجة نفسى غير مكترث   ***   ولا ابالى صياح النابج الغاوى‏

         اناس شتّى ونبت الارض مختلف   ***   منه العصىّ ومنه اليابس الذاوى‏

         اخذته والذى حجّ الحجيج له   ***   انى فصيح وانى شاعر راوى‏

 

(2203) وسئل لبيد وقيل: من اشعر الناس فقال: الملك الضلّيل، قيل: ثم من فقال: الفتى القتيل، يعنى طرفة. قيل: ثم من فقال: ابو عقيل، وعنى به نفسه.

و

قال الفرزدق: كان الشعر جزورا فنحر، واخذ سنامها امرؤ القيس، واخذ طرفة باطايب لحمها (218 ر)، واخذ لبيد بامعائها واكبادها، وبقيت عظامها وارواثها، فاقتسمناها نحن.

(2204) قال ابو عبيدة معمّر بن المثنى: العرب العكاظيّون لا يعدّون من شى‏ء الا ثلثة، ثم يكفون ولا يزيدون عليها. فان لحق بعد ذلك شى‏ء، لم يعدّوه.

(2205) واتفقوا على انّ اشعر الشعراء فى الجاهلية امرؤ القيس بن حجر الكندىّ، ونابغة بنى ذبيان، وزهير بن سلمى المدنىّ وبكى الدّمن ووصف ما فيها.

ثم اختلفوا فيهم، فقال بعضهم امرؤ القيس اوّلهم فتح لهم الشّعر فاستوقف، وبكى الدّمن، ووصف ما فيها، فتبعوا اثره. وهو اوّل من شبّه الجمل بالعصا واللقوة  والظباء والطّير.

و قال من فضّل النابغة: هو اوضحهم كلاما واقلّهم سقطا وحشوا، واجودهم مقاطع واحسنهم مطالع.

و قال الذين فضّلوا زهيرا: هو امدح القوم. وهذا معنى قول امرؤ القيس: انّ القوم لم يجروا فى حلبة تعرف الغاية عند قصبتها.

و شبّه الفرزدق بزهير، والاخطل بالنابغة، وجرير بالاعشى، ولم يشبّه احد بامرؤ القيس.

(2206) والعجّاج اوّل من وضع الرّجز، وشبّهه بالشّعر، فجعل له‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 462

اوائل وذكر الدّيار وصف ما فيها وبكا على الشّباب ووصف الرّاحلة، وشبّهها كما صنعت الشعراء فى الشّعر. وكان العجّاج يشبه من الرّجّاز بامرؤ القيس من الشعراء.

ثم اختلفوا فى البقية من الرّجّاز، فقالت تميم: العجّاج. اولهم، ثم حميد الارقط، ثم رؤبة، ثم الاغلب الفحل، ثم ابو النجم الفضل بن قدامة. وكان الرجل قبل العجّاج، اذا فاخر او خاصم، نظم بيتا او بيتين فحسب.

(2207) قال ابو عبيدة معمر بن المثنىّ: من اجود ما قيل فى الامثال والكرم قول امروء القيس حيث قال:

         ولكنّما اسعى لمجد مؤثّل   ***   وقد يدرك المجد المؤثّل امثالى‏

         وما المرء ما دامت حشاشة نفسه   ***   بمدرك اطراف الخطوب ولا آل‏

 

(218 پ) وقال غيره فى هذا المعنى:

         ولو انّ ما اسعى لادنى معيشة   ***   لمال قليل او يثاب على جلدى‏

         لأبت الى نفسى ويبلغ حاجتى‏   ***   من المال مال دون بعض الذى عندى‏

         ولكنّما اسعى لمجد مؤثّل   ***   وكان ابى نال المكارم عن جدى‏

 

و قال شاعر بنى ضبّة فى هذا المعنى:

         ولو انّى لنفسى كنت اسعى   ***   لا جزأنى من المال القليل‏

         ثياب اكتسيها او طعام‏   ***   واح علىّ من المال فصول

         ولكن لا ابا لك غال مالى   ***   وكان دريّة للمال غول

         مكارمه الصديق اذا عترانى‏   ***   وكل الحىّ والانس الحلول

 

فانظر الى مرتبة امرؤ القيس بين هؤلاء فى هذا المعنى.

و قال امرؤ القيس فى الامثال:

         اذا المرؤ لم يخزن عليه لسانه   ***   فليس على شى‏ء سواه بخزّان‏

 

فقال الفرزدق: الذى يقول:

         وما ذرقت عيناك الا لتضربى   ***   بسهمك فى اعشار قلب مفتّل‏

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 463

(2208) وسأل الاخطل وقال: من اشعر الناس فقال الذى: يقول:

         كانّ عيون الوحش حول خبائنا   ***   وارجلنا الجزع الذى لم يثقّب‏

 

وسال جريرا وقال من اشعر الناس فقال الذى يقول:

         سموت اليها بعد ما نام اهلها   ***   سموّ حباب الماء حالا على حال‏

 

فاجتمعوا، وهم شعراء الاسلام، على انّ امرؤ القيس اشعر الناس.

(2209) وزعموا ان كثيّر عزّة الخزاعىّ قال: خرجت من عند عبد الملك بن مروان، وقد خلع علىّ، وكساننى حلّة وانابها معجب، وانا اطوف، فوصلت فى بادية الى الشام الى جارية سوداء توقد نارا ببعر فقالت: من انت فقلت: انا كثيّر بن عبد الرحمن. فقالت لكثير عزّة فقلت: نعم، فقالت لا حيّاك اللّه ولا بيّاك انت الّذى تقول:

         فما روضة بالحزن ظاهره الثّرى   ***   يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها

         (219 ر) باطيب من اردان عزّة موهنا   ***   اذا اوقدت بالعنبر الرّطب نارها

 

ويحك لو القيت العنبر على هذا البعر طابت ريحه، فهلّا قلت كما قال امرؤ القيس:

 

         الم تر انّى كلما جئت طارقا   ***   وجدت بها طيبا وان لم تطيّب‏

 

قال كثيّر: فقلت للجارية: ويحك اكتمى علىّ هذا العيب. ولك هذه الحلّة.

فاعطيتها الحلّة ومضيت.

و قال امرؤ القيس:

         من القاصرات الطّرف لو دبّ محول   ***   من الذّر فوق الاتب منها لاثّرا

 

و قال جميل فى هذا المعنى:

         منعّمة لو يدرج الذّرّ بينها   ***   وبين حواشى درعها كاد يخرج‏

 

و قال حسّان بن ثابت فى مثله:

         لو يدبّ الحولىّ من ولد الذّرّ   ***   عليها لا ندبتها الكلوم‏

 

فانظر بنظر البصيرة فى مرتبة امرؤ القيس. واقتباس الشاعرين منه.

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 464

(2210) وذكروا ان هشام بن عمر التغلبىّ، وكان والى السند، وهو فضّل النابغة على امرؤ القيس، وكان معه من العرب من يفضّل امرؤ القيس على الشعراء. فقال هشام ذات ليلة فى عشرة، من يحسّن ان يقول مثل قول النابغة:

         كلينى لهمّ يا اميمة ناصب   ***   وليل اقاسيه بطى‏ء الكواكب‏

         وضدر اراح الليل عازب همّه‏   ***   تضاعف فيه الحزن من كل جانب‏

         تطاول حتّى قلت ليس بمنقض   ***   وليس الذى يهذى النجوم بآئب‏

 

فقال ذلك الرجل الذى يفضّل امرؤ القيس: احسن من ذلك امرؤ القيس حيث قال:

         وليل كموج البحر ارخى سدوله   ***   علىّ بانواع الهموم ليبتلى‏

         فقلت له لمنا تمطىّ بصلبه   ***   واردف اعجازا وناء بكلكل‏

         الا ايّها اللّيل الطّويل الا انجلى   ***   بصبح وما الاصباح منك بامثل‏

 

فاعترف هشام بتفضيل امروء القيس.

(2211) وقال امرؤ القيس فى المدح، وكاد لا يمدح ولا يهجو لانّه كان ملكا:

         يفكّهنا سعد ويغدوا عليهم   ***   بمثنى الزّقاق المترعات وبالجزر

         وتعرف فيه من ابيه شمائلا   ***   ومن خاله ومن يزيد ومن جحر

         سماحة ذا وبرّ ذا ووفاء ذا   ***   ونائل ذا اذا صحا واذا سكر

 

و قال امرؤ القيس فى الغريب.

         كبكر مقاناة البياض بصفرة   ***   غذاها نمير الماء غير محلّل‏

         وتعطو برخص غير شثن كانّه   ***   اساريع ظبى او مساويك اسحل‏

 

و قوله:

         فظلّ كمثل الخشف يرفع رأسه   ***   وسائره مثل التّراب المدقّق‏

 

و قوله:

         فيوما على بقع دقاق صدورها   ***   ويوما على سفع المدامع ربرب‏

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 465

         ويوما على صلت الجبين مسحّج   ***   ويوما على بيدانة امّ تولب‏

 

و قال فى وصف المرءة:

         كأنّ المدام وصوب الغمام   ***   وريح الخزامى ونشر القطر

         يعلّ به برد انيابها   ***   اذا طرّب الطائر المستحرّ

 

(2212) وسال سعيد بن العاص، وهو امير المدينة، الحطيئة، وقال: من اشعر النّاس، فقال الحطيئة: امرو القيس لقوله:

         واللّه انحج ما طلبت به   ***   والبرّ خير حقيبة الرّحل‏

 

(2213) وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فى حق امرؤ القيس هو اشعرهم وقايدهم الى الناس. (2214) وكان امرؤ القيس 1 شديد الغيرة. فلمّا راى ذلك النساء منه غيّبن بناته فى الماء، فعرف ذلك امرؤ القيس، فخرج يوما حتى اقبل على جوار تلعبن فى غدير.

فقال: ايّتكنّ، تجيز علىّ بيتا حتى اعطيها راحلتى.

فقال ابنته: هات.

فقال امرؤ القيس:

         اذا بركت تعالى  مرفقاها   ***   على مثل الحصير من الرّخام‏

 

فقالت بنته:

         فقاموا بالعصّى ليبعثوها   ***   فهبّت كالعصيف من النّعام‏

 

فنزل امرؤ القيس، وغطّها فى الماء، حتى ماتت.

ثم جاء الى غدير آخر، وقالت لمن كانت هناك من النساء: ايّتكنّ تردّ علىّ بيتا، اعطيته ثوبى.

فقالت ابنته: هات.

فقال امرؤ القيس:

         صادت فؤادك بالنياط خريدة   ***   صفراء رادعة عليها اللؤلوء

 

 

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 466

فقالت الجارية:

         كعقلية الادحىّ بات يحفّها   ***   دبر النّعام وزال عنها الجؤجؤ

 

فاخذها، وضرب (220 ر) بها الصّخر حتى قتلها. ثم اتى غديرا آخر، وقال ايّتكنّ تردّ علىّ بيتا ولها فرسى. فقالت جارية: هات: فقال امرؤ القيس:

         وكانهنّ نعاج رمل هائل   ***   نزف يمدن كما يميد الشارب‏

 

فقالت الجاوية:

         بل من اقرّت فى الخطى من خطوها   ***   ان الخرايد خطوها تتقارب‏

 

فلم يزل يتوخّاها حتى قتلها، ثم انصرف، وقد فرغ من قتل بناته، وقال:

         طال الزمان وملّنى اهلى   ***   وشكوت هذا البير من حبل‏

         ثم اذا باتت ارّقنى فاذا   ***   انتبهت فاتمّ شغلى‏

 

(2215) فهذه الحكايات والروايات والقراين معنى قول امير المؤمنين، عليه السلام، حيث قال: فان كان ولا بدّ، فالملك الضلّيل.

الحكمة 168

(2216) قوله: يدع هذه اللّماظة لاهلها، عنى بها زخارف الدنيا، فانّها شبه المخاطة، لا عداد بها للعارفين. (2217) قوله: ليس لانفسكم تمنّ الا الجنة، مأخوذ من قول اللّه، تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.

الحكمة 169

(2218) قوله: وان يكون فى حديثك فضل عن علمك، يعنى لا تقول ما لا تعلم. فمن قال ما علم، فقد ساوى قوله علمه، ومن قال ما لا يعلم، ففى قوله فضل عن علمه. (2219) قوله: وان تتّقى اللّه فى حديث غيرك، اشارة الى آداب النطق وترك معايب الناس.

الحكمة 170

(2220) قوله: ربّ مفتون بحسن القول فيه، يعنى يتخيّل ان مدح الناس فى حقّه صدق وان الكمال الانسانىّ لازم له، فصار مفتونا بالثناء

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 467

و المدح. والمادح لا يخلوا امّا ان يكون كاذبا، او صادقا. فان كان كاذبا، فمدحه باب من ابواب الاستهزاء، لانّ من وصفك بما ليس لك من الفضايل، يوشك ان يصفك بما ليس لك من الرذائل، فلا اعتبار للعاقل بهذين الوصفين.

فان كان صادقا، فمن حقّك ان تبتهج بما قيل من الفضايل التى ذكرها المادح. لا بقول المادح، فان المتموّل يبتهج بامواله، لا بقول الناس انه متموّل.

و اذا نسب بعض النّاس فقيرا الى الغنى، لا يزول بذلك فقره، يل يشتدّ فقره.

فلذلك (220 پ) اذا نسب المادح جهلا الى العلم، ورذلا الى الفضائل، فلا يزول ذلك المدح جهله ورذالته. وقد ذكرنا انّ حبّ الثناء من المهلكات فى ما تقدّم، اعاذنا اللّه من الرّذائل المهلكات، ووفّقنا اللّه بفضله ولطفه لاكتساب الفضائل المنجيات، انّه رفيع الدرجات ومنزل البركات وقاضى الحاجات.

(2221) فصل في تتمة الكتاب

قال الشارح الامام السيّد حجة الدين فريد خراسان ابو الحسن بن الامام ابى القاسم البيهقىّ: شرحت هذا الكتاب على مبلغ وسعى وامكانى، واوردت فى هذا الشرح من العلوم: علم الفقه، وعلم اصول الفقه، وعلوم غرايب الاخبار وعلوم التواريخ، وعلوم الاشارة، والايّام للعرب، وعلوم نوادر اللغة، وعلوم الكلام، وعلوم الطب، وعلوم الهيئة والحساب، وعلوم الاخلاق، وعلوم الموازين، موازين النحو وغيره، وعلوم امثال العرب، وعلوم مقامات الاولياء، وعلوم اثالوجيا وجو مطريا، لا على موجب النقل والحكاية، بل على قضايا البحث المستقصى والدراية. فمن اراد الزيادة وما اختا[ر] الاستفادة، وله رتبة الافادة، فهو من الّذين احسنوا بالحسنى وزيادة. وانا الدّاعى له بالهداية، والتوفيق، وارجو منه ان يكون داعيا لى بالرّحمة والغفران، ويعفوا عن جناح قلم عناية لا ملال وكلالة خاطر، فانّه لا يستدرك. وان صنّفت كتبا قصدت فيها طلب الذكر الجميل دون العوض الجليل، فقد صنفت هذا الكتاب ابتغاء وجه ربّى الاعلى. وبسبب‏

 

--------------------------------------------------------------- صفحة 468

ذلك عذرى فيما قصرت، بالقبول احقّ واولى منّى ان يكن كذبا، فقد طاب كذبها، وان صدقت يوما، تضاعف طيبها. ومطلوبى من هذا التأليف رضوان اللّه، فطريقه قد يسلك، لا رضى النّاس. فانّ رضى الناس غاية لا يدرك.

و فرغت من كتابة هذا الشرح (221 ر) واتمامه واخراج انواره من اكمامه فى الثالث عشر من جمادى الاولى سنة اثنى وخمسين وخمسمائة.

و اللّه، تعالى، ولىّ التوفيق والتيسير، وهو على كلّ ما يشاء قدير.

و السلام.

و الحمد للّه ربّ العالمين والصلوة على نبىّ الرحمة محمّد وآله الاخيار الابرار، والحمد للّه على آلائه، وصلواته على سيّدنا محمّد وآله، وسلّم تسليما كثيرا كثيرا.