تقديم

الكتاب والكاتب ومدرسته الفكريّة

مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):

لم تزل مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تقف في مواجهة ألوان الانحراف الفكري والسياسي التي فرّقت الاُمّة الإسلاميّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى مذاهب وفرق، فقد وظّف الأئمة الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم وشيعتهم لمواجهة هذه الانحرافات، والحفاظ على وحدة الاُمّة الإسلاميّة، وصيانتها فكرياً وسياسياً.

ولم تزل هذه المدرسة تحفل بعظماء الرجال الذين كرّسوا كلّ عمرهم من أجل هذه المهمة، محقّقين على أرض الواقع نبوءة الإمام الصادق (عليه السلام) حين قال:

«فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خَلَف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»(1).

 

المواجهة الفكرية والسياسية:

ولم تفترق المواجهة الفكرية عن المواجهة السياسيّة يوماً واحداً في تاريخ هذه المدرسة ومنهجها، بل كانت التعبئة الفكرية والسياسية تمشي في طريق واحد على طول خط المواجهة للانحراف.

وكانت هذه الظاهرة أحد المعالم الأساسية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي افترقت بها عن باقي المدارس حيث وجدنا مدارس اُخرى اختصّت بالجانب الفكري بعيداً عن الجانب السياسي كما هو الحال في مدرسة (المعتزلة) ووجدنا مدارس اُخرى نَحت منحىً سياسياً بينما ضَمر فيها الجانب الفكري كما هو الحال في مدرسة «الخوارج».

وربما تعود هذه الظاهرة ـ أعني الجمع بين خطَّي المواجهة الفكرية والسياسية  ـ إلى ما تعتقد به مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من أنّ الانحراف السياسي في الاُمة الإسلاميّة كان قد سبق الانحراف الفكري، وظلّ دائماً يوجهه ويدعمه ويغذيه، ومن هنا لم يكن بالامكان خوض مواجهة فكرية بعيداً عن المواجهة السياسيّة ....

وهذه هي الحقيقة دائماً ... حيث تقف الأصابع السياسيّة وراء مختلف صور الاتجاهات الفكريّة المنحرفة، وبخاصة في العالم الإسلامي.

 

مدرسة التشيّع في العراق:

وكان العراق منذ انتقال حكومة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إليه يمثّل أرض التشيّع، وقاعدة الولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، رغم أنّه ظلّ محكوماً لاتجاهات مذهبيّة وسياسيّة معادية لأهل البيت (عليهم السلام) في معظم الفترة التأريخية التي أعقبت شهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ سنة أربعين للهجرة ـ وتولّي معاوية بن أبي سفيان لمهامّ الخلافة الإسلامية!!

وظلّت (مدرسة الكوفة) التي ارتبطت فكرياً بأهل البيت (عليهم السلام)، وحملت علومهم، تخرّج العلماء المدافعين عن الدين والمذهب منذ دخلها الإمام الصادق (عليه السلام)على عهد المنصور العباسي(2)، حتّى قال الحسن بن علي الوشاء:

«أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمّد ـ الصادق ـ »(3).

فقد استمرّت هذه المدرسة ـ التي انتقلت فيما بعد إلى النجف الأشرف على عهد الشيخ الطوسي ـ م460هـ  ـ تحمل لواء الفكر الإسلامي الأصيل متمثّلا بمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، حتى سقط العراق في قبضة المستعمرين، وخضع للانتداب البريطاني الذي لم يخرج من العراق الاّ بعد أن زرع فيه عناصر متغرّبة في فكرها العقيدي وولائها السياسي.

 

العراق في القرن الرابع عشر الهجري:

وخلال النصف الأخير من القرن الرابع عشر الهجري كان العراق قد شهد ألواناً من التكتّلات السياسيّة، والاتجاهات الفكريّة القائمة على أسس فلسفيّة معادية للدين، والخاضعة سياسياً لارادة المستعمرين.

وكان «حزب البعث العربي الاشتراكي» الذي حكم العراق منذ عام 67 للميلاد يمثل عصارة تلك الارادات السياسيّة الأجنبيّة، وخلاصة الأفكار العلمانيّة اللاّدينيّة.

وكانت «الطائفية المقيتة» المتمثّلة بالعداء لشيعة أهل البيت ومدرستهم تمشي سوياً مع كلّ التحوّلات السياسيّة التي شهدها العراق، لما كانت تمثله هذه المدرسة من أصالة واقتدار في الدفاع عن الدين فكراً ووجوداً.

 

مؤلف هذا الكتاب:

في هذه الفترة بالذات كانت قد تبلورت النشاطات الفكريّة والسياسيّة لصاحب هذا الكتاب العلاّمة الفذ، والمجاهد العنيد، والدنا الفقيد السيد حسن القبانچي، والذي امتاز بممارسة الكفاحين الفكري والسياسي معاً، وكان ذلك من أبرز المعالم في شخصيّته.

لقد ناضل العلاّمة القبانچي ضدّ «مدرسة التغريب» بكلّ أفكارها العلمانية، والقوميّة، والإلحاديّة، والأخلاقيّة، كما ناضل ضدّ «الطائفية» التي نصبت العداء لأهل البيت (عليهم السلام) ومدرستهم.

لقد كانت خطاباته الجماهيريّة التي شملت أكثر من مدينة في العراق تسجّل نضاله السياسي إلى جانب نضاله الفكري معاً، وإلى أن أصدرت حكومة البعث قراراً بمنعه من ارتقاء منبر الخطابة عام 75م.

انّ هذا البُعد النضالي في المجالين الفكري والسياسي هو الذي عرّض العلاّمة القبانچي إلى الاعتقال من قبل أجهزة السلطة أيام العهد الملكي في حكومة نوري السعيد وحكومة ياسين الهاشمي، ثمّ أيام العهد الجمهوري في حكومة عبد الرحمن عارف، ثمّ أيام حكومة البعث الأسود عام 85 ثمّ عام 91 للميلاد(4) وبعد انتفاضة الشعب العراقي في النصف من شعبان لعام 1411 للهجرة الموافق لعام 1991 للميلاد، حيث كانت حكومة البعث تقرأ في شخصيّة المؤلف القوّة الكامنة التي قد تتفجّر ضدّها لدى أية فرصة متاحة.

ولم تزل أخباره بعد هذا الاعتقال الأخير مجهولة لحين كتابة هذه السطور رغم أنّ بعض الأخبار تقول انّه قد تعرّض للقتل الجمعي على أيدي حكومة البعث مع مجموعة علماء النجف الأشرف الذين اعتقلوا بعد انتفاضة شعبان 1411 هـ .

كما كان هذا البُعد الجهادي في شخصيّة المؤلف وأبنائه هو الذي جعله يستقبل برباطة جأش، وقوّة عزيمة شهادة عدد من أولاده وهم:

1 ـ العلامة السيد عزّالدين القبانچي، الذي استشهد على أيدي جلاوزة البعث عام 1974م.

2 ـ الشاب المجاهد السيد علي القبانچي، الذي استشهد على أيدي جلاوزة البعث عام 1981م.

3 ـ فضيلة السيد صادق القبانچي، الذي استشهد على أيدي أعداء الثورة الإسلامية في ايران عام 1982م.

4 ـ فضيلة السيد عبد الحسين القبانچي، الذي افتقد في سجون البعث منذ عام 1982م.

 

هذا الكتاب:

عنوان الكتاب «علي والاُسس التربويّة» واضح في الاتّجاه التربوي الذي يمثّل أحد اهتمامات العلامة القبانچي، وبخاصة إذا عرفنا أنّ هذا الكتاب في معظم محاوره عبارة عن محاضرات كان يلقيها المؤلف على مسامع الجمهور.

ومحور هذا الكتاب هو وصية الإمام علي (عليه السلام) لولده الإمام الحسن (عليه السلام)، وهنا مرّة اُخرى نجد ظاهرة طبعت مؤلفات وخطب وأحاديث العلامة القبانچي، وهي ظاهرة التركيز على أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ومنهجهم وبخاصة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث وجدنا هذه الظاهرة تمثّل أحد المعالم في اهتمامات المؤلف وكتاباته(5).

فقد مشى بنفس هذا الاتجاه في كتابه «مسند الإمام علي (عليه السلام)»(6) وكتابه «شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام)» وكتاب «صوت الإمام علي (عليه السلام)في نهج البلاغة».

إلاّ أنّ الملاحظة التي نريد تسجيلها حول هذا الكتاب ترتبط بقضية الجهاد العلمي للمؤلف في مواجهة الانحراف الفكري الذي غزا العراق كما غزا العالم الإسلامي في مرحلة تأليف هذا الكتاب.

فنحن إذا تابعنا المؤلف في فصول هذا الكتاب نجده واضحاً وجادّاً في مواجهة حملة التغريب، وحالة الانبهار بالفكر الغربي، التي اكتسحت الشارع الإسلامي يومئذ.

لاحظه كيف ينطلق من كلام الإمام علي (عليه السلام): «إنّما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك» ليعبئ الاُمّة ضدّ الهجوم الأخلاقي الغربي تحت شعار الحريّة فيقول:

«تقوم في هذه الأيام ضجّة حول التمسك بالحرية وترك ما عداها، ويا ليتها الحرية العفيفة الفاضلة، ولكنّها الحرية التي تطلقها أو تدّعيها مدنية الدول الكافرة والمشركة والملحدة.

هذه الحرية التي تقضي بأن يختفي الإسلام، ويضيع بين أهله، وتنهدر كرامة بنيه، وعزّة شبابه، وعرض نسائه.

الحرية التي تجعل الانسان ينطلق بغرائزه ومفضلا نفسه على الغير، وباحثاً عن منفعته الخاصة دون التفات إلى وجود غيره ...

الحرية التي تفرض الزعامات على الناس للعبث والافساد باسم الدين أو الوطنية ...

الحريّة التي تقوم الحروب لحمايتها، واستعمرت الأراضي الإسلاميّة باسمها، اليهود أحرار فيما يفعلون، والانكليز أحرار فيما يصنعون، والشعوب حرّة في لهوها ... الوجود كلّه حر.

إلاّ الدين ... هو الذي ليس له الحق في الحرية.

يجب أن يحيا في سجن من الصوامع والأضرحة، ليس للدين أن يدخل على الحاكم ويحاسبه، وعلى التاجر، ولا الموظف، ولا القاضي، ولا الطوائف والهيئات، كلّهم أحرار، إنّها فوضى.

ليست هذه هي الحريّة.

إذا أراد المسلمون استرداد سالف عظمتهم، فعليهم الأخذ بكتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله) والعمل بكلّ ما أمر به الإسلام ...»(7).

ومرّة اُخرى نجده يندفع لمناقشة الحضارة الغربيّة، وعقد مقارنة بينها وبين الإسلام في لائحة «حقوق الإنسان» التي حاولت الحضارة الغربيّة أن تخفي وراءها كلّ أنماط التخلّف الأخلاقي، والعبث الحيواني، والسقوط الحضاري، فنراه يعقد فصلا كاملا من هذا الكتاب لهذا الغرض بعد أن يقول:

«فليخفّف الغرب من اعجابه في «شرعة حقوق الإنسان» التي نشرتها هيئة الاُمم المتّحدة في القرن العشرين، وملأوا الدنيا عجيجاً فارغاً حول ما صنعوا، وما يصنعون، وأكثروا من الدعاية لأنفسهم على صورة ينفر منها الصدق والذوق جميعاً، وأزعجوا الإنسان بمظاهر غرورهم، وحمّلوه ألف مِنَّة، وألف حمل ثقيل»(8).

 

محقّق هذا الكتاب:

وختاماً لابدّ أن اُسجّل كلمة شكر وتقدير لولدنا الفاضل السيد هاشم الميلاني محقّق هذا الكتاب، وإنّني إذ اشيد بدوره وجهده ومثابرته في تحقيق هذا الكتاب وسائر كتبه السالفة أرجو له أن يمضي جادّاً متّكلا على الله تعالى في إحياء تراث أهل البيت (عليهم السلام) كما أسأل الله تعالى أن يوفّقه لذلك ويكون له عوناً وسنداً.

السيّد صدر الدين القبانچي

1 / ذوالقعدة / 1417 للهجرة النبويّة الشريفة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) الكافي، كتاب فضل العلم، باب فضل العلماء 1 : ح2.

(2) كان المنصور العباسي قد نزل بالحيرة قبل أن تبنى بغداد، وفيها دعا الإمام الصادق (عليه السلام) من المدينة المنوّرة، فمكث فيها مدة ثمّ عاد إلى المدينة. والحيرة تبعد اليوم عن الكوفة بما يقرب من عشرين كيلومتراً.

(3) عن المجالس للسيد الأميني 5 : 209.

(4) اُنظر تفصيل ذلك في كتابنا «خطيب العلماء» الذين ترجمنا فيه بشكل أوسع حياة العلامة القبانچي.

(5) راجع لمزيد التوضيح كتابنا «خطيب العلماء» الفصل الأول، لمحة عن حياته العلمية.

(6) يعتبر هذا الكتاب ـ الذي نأمل أن يصدر قريباً ـ أحد روائع المكتبة الشيعيّة وقد عبّر عنه سيّدنا السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في مقدمته له أنّه «من أهم مصادر المعرفة الإسلاميّة» كما عبّر عنه العلامة الشيخ باقر شريف القرشي بقوله «انّه موسوعة تُعد من أعظم وأنفع الموسوعات وستسدّ فراغاً في المكتبة الإسلامية وغيرها». وهو كتاب يتألّف من عشرة مجلّدات، استغرق المؤلف في تأليفه أكثر من عشرين عاماً.

(7) اُنظر «الفصل التاسع عشر» من هذا الكتاب.

(8) اُنظر «الفصل الثاني» من هذا الكتاب.