الفصل السادس عشر

الاقتصاد في الطلب، وذلّ المسألة، ووجوب شكر النعمة

 

 

«وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَيَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً.

وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ. فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَب قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَب; فَلَيْسَ كُلُّ طَالِب بِمَرْزُوق، وَلاَ كُلُّ مُجْمِل بِمَحْرُوم.

وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّة وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً.

وَلاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً. وَمَا خَيْرُ خَيْر لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ، وَيُسْر لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْر.

وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ. وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ ذُو نِعْمَة فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ، وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ».

 

دعوة للاقتصاد في الطلب:

ليس من شك في أنّ الإنسان لو اتّخذ له الليل والنهار مطيّة، فهو يسار به وإن لم يكن في السير راغباً، وإن لم يكن محباً، ويقطع المسافة البعيدة وإن كان يكره لنفسه أن يقطعها، فهل استطاع الإنسان يوماً أن يخالف هذه الأرض في حركتها حول نفسها كل يوم مرة، قاطعة به عشرات الأميال في الدقيقة الواحدة، أم أنّ الإنسان تمكن أن يرسخ في مكانه دون أن تحمله الأرض قاطعة له مسافة شاسعة حول الفلك المحيط بالشمس، كلاّ ما كان له ولن يكون لأنّه مخلوق ضعيف لا قوّة له ولا أيد، وكل ما يأتي لديه من الأمر أن يُدبِّر شؤونه بنفسه في هذا العالم السيّئ والمنزل الموبوء، وأن يعمل جاهداً في اكتساب العيش له ولعياله، وهو عن العمل فوق هذا عاجز، وعن التدخل في شؤون السماوات والأرض وحقائقهما أعجز.

فانت إذ أردت أن تعلم فأعلم يقيناً بأنّك سائرٌ مُغذٌّ في السير، ولكنك ثابت مع ذلك في مكانك لا تريم، وأنّك قاطع مسافة بعيدة، وفي كل يوم تكون فيه أقرب إلى أجلك المقدور من أمسك الماضي، مع أنك مقيم وادع لا ترى لنفسك سيراً ولا حركة، وما ذلك إلاّ لأنّك تدور على عجلة الزمان، ومن شأنها أن لا تحرّك ساكناً ولا توقظ نائماً، فإذا انهيت إلى غايتها أهابت بركبها أن قد بلغتم اللوى فلا سير ولا حركة، وإنّما هي الغاية التي كانت طيلة هذه المدة أتبعها، حتّى إذا وقفت الغاية منتصبة تريدكم، وقفت أنا لأرميكم إليها، فانزلوا فلقد آن لكم أن تتفارقوا، ولقد حان الحين، وليس من الحين مناص.

والإنسان كثيراً ما كان منغمساً في بحار لا شواطئ لها من الأماني العِذاب، ولكنّها لن يبلغها وإن استطاع أن ينال منها شيئاً، لأن للانسان قدراً قدر به، وأجلا أخر إليه فلا هو بسابق أجله، ولا الأجل بمهمل إياه ولو لحظات قصار (فإذا جاء أجلهم يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) [الاعراف : 34].

فكل إنسان بل كل حي صائر لا محالة إلى الفناء، وجار مع الزمن الى المصير المحتوم الذي ليس عنه محيد، فإذا علم الإنسان ذلك فأيّ فائدة ترجع عليه بالخير الجزيل في أنّ لنفسه سلسلة متصلة من الأماني والآمال الكاذبة، والآمال التي ليس فيها سوى البروق والرعود، فهي لا تتم ولا تنتهي الا إذا جاز لأحد أن يعدو أجله، وليس ذلك من الامكان بمكان، لأن الإنسان جار في طريقه، وماض في سبيله على النحو الذي مضى عليه سلفه، ولابدّ أنه سالك سبيلهم، وكما أنّ السبيل قد كبا عن الوصول إلى ما يرغبون.

واذن فما هذا الداعي الذي يدعوه ويلح عليه في الدعاء، يدعوه إلى أن يكثر من الطلب ويطلق لنفسه السبيل، أو ليس من الحق والإنصاف أن يجمل الإنسان في الطلب ويخفض فيه، وأن يجمل في الاكتساب، لأنّ الزائد عما يحتاج إليه الفرد ليس له وإنّما يجمعه لغيره يهنأ به ويتنعم، وهل أحب الإنسان يوماً أن يخدم غيره بدون مقابل، وهل رضي الإنسان لنفسه أن يجمع جاهداً هذه الأموال الطائلة التي يجمعها، ثم لا يكون له منها نصيب، وإنّما هي نصيب ولده من بعده يتقاسمونها ويتوارثونها، وإنّ في ولده لمن هو أبغض إليه من عدوّه، وإنّ في ولده لمن يحمل على أبيه عداوة وضغناً، وليت الأمر يقف عند هذا، وإنّما يحاسب هذا الذي جمع المال وخلّفه لغيره برضاً منه أو بغير رضا، فاما فوز واما إخفاق.

فإليك عن الإغراق في الطلب، والتتبع لآثار أقدام الرزق لا تعلم حلاله من حرامه، فلرب طلب قد جرّ إلى حرب(1)، ولرب كسب كثير جرّ إلى جوع وسغب، ولرب إلحاح جرّ إلى اليأس والحرمان، وهل ضمنت هذه الدنيا لكل من يعمل جاداً كاداً يتصبب جبينه عرقاً أن تغدق عليه في الرزق، وتدرّ له في الخير، وتلمي له في الراحة والأمان، وهل أنذرت هذه الحياة كل من يعمل ولكن بإجمال، ويكتسب ولكن باقلال أن تحرمه الرزق وتعدمه العيش، كلاّ لأنّ الرزق ليس موكولا لهذا العالم المحيط بنا، وليس موكولا إلى أفراد يتميّزون عن غيرهم، وإنّما الأمر كله يرجع إلى الله سبحانه، فهو الذي بيده كل شيء، وهو الذي بيده قوام كل شيء، وإنّما هؤلاء الأحياء فيما بينهم وسائط ينال البعض منهم رزقه من البعض الآخر، ويبلغ البعض الآخر رزق هؤلاء من الناس.

إذن فالرزق بيد الله يسوقه إلى من كان له أهلا، وقد يسوقه إلى من لم يكن له أهلا، يسوقه إلى من جدّ وأكتسب بكل ما فيه من قوّة وحول، وقد يسوقه إلى من لم يأخذ من الكسب والضرب في الأرض إلاّ بأطراف يسيرة، كل ذلك علم غيبي له حكمه وغاياته، ونحن عن فهم هذه الحِكم والغايات قاصرون، وعن البلوغ إلى كنهها عاجزون.

 

لا تكن عبدَ غيرك:

وينتهي الإمام (عليه السلام) بابنه إلى موضع خطر أشد الخطورة قد تقصر عنده العقول والأفهام، وقد يعسر على بعضها أيضاً فلا تستطيع بها نهوضاً.

ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) سبق من تخلف عنه في هذا الموضوع المهم كل الأهمية، وهو موضوع ـ الحرية ـ وما يتعلق بهذه الكلمة من معان ومفاهيم وما يلازمه من ملابسات، فالإمام في هذا الموضع يدعو ابنه إلى الحرية ويلح في الدعاء، حتّى أنّه ليكاد يطلب إليه أن يحضر هذا اللفظ بما فيه من معنى عميق في قلبه كلّما أصبح وكلّما أمسى، وحتّى لكأنّه يعرفه بشيء تنفر منه الطباع السليمة وهو ـ العبودية ـ التي من معانيها الذل والاستكانة والطاعة بغير حق، فالحرية والعبودية كلمتان متعاكستان، تخالف كل منهما الأُخرى، وإنّ بين أحدهما وبين الأُخرى لأشدّ الخلاف، فليس يرجى لها أجتماع، وليس إلى هذا التصور من سبيل.

يقول (عليه السلام) وما أعظم ما يقول: يا بني إيّاك أن تمد إلى الناس يداً تستجديهم وتطلب منهم، فإنّ في ذلك لذلة وهواناً، وأيّ ذلٍّ أكبر من أن يكون الإنسان عبد غيره وقد خلقه الله حرّاً، أو ما كان أخلق به أن يعيش حرّاً كما كان حرّاً، وأن يمارس حياته لا يخضع إلاّ لمن يستأهل الخضوع إليه، فما بال الإنسان ـ بعض الإنسان ـ يأبى إلاّ أن يطلب إلى هذا حاجة، ويبتغي عند ذاك مأرباً، أو كان الله يوماً ضاناً على عباده ضنى عبيده بعضهم على بعض، أو ليس قادراً على أن يمنحهم الحرية في جميع جوانب الدين والدنيا دون تجاوز القصد، وأن يمتعهم بهذه الحرية أيّما متاع، ولكنّ الإنسان هو الذي يُذِلُّ نفسه بنفسه، ويحوّل من نفسه الحرة المطلقة نفساً ذليلة خاضعة، ولو احتفظ بما وهبه الله من منحه، وبما أكرمه به من عطاء لأفاد من ذلك نفعاً عظيماً، ولتمتع بما لم يتمتع به غيره من العبيد الأذلاّء.

فيا بني: إني أربأ بك كما أربأ بغيرك من بني الإنسان، أن يخرجوا على فطرتهم هذه التي فطرهم الله عليها، فإذا نصحتك بشيء فليسمعوا وليعوا ما أقول ثم ليحفظوا ما أقول، ثم ليعملوا بما أقول، فلا تظننّ يا بني أنّك لو بذلت من نفس شيئاً سوف تستطيع لهذا المبذول المفتقد رداً ولا إستينافاً، فلن تستطيع أن تعتاض بما بذلته من نفسك عوضاً. فلن يرجع السيف المثلوم بعد أن يصلح إلى ما كان عليه أولا من قوّة في العمل، ومضاء في القطع، فكذلك أنت لا تستطيع أن ترجع نفسك إلى ما كنت تتمتع به من عزّة وحرية، بعد أن أوقعت فيها خللا عظيماً، فأيّاك وذاك، ودونك وإعزاز نفسك ورفع شأنها فقد جاء في الحديث: «إن الله تعالى أحلّ للمؤمن كل شيء عدا إذلال نفسه»(2).

 

ذم السؤال من الناس:

قال بعض السلف: من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرق، فإن قضاها المسؤول أستعبده بها، وان ردّه عنها رجع حرّاً وهما ذليلان، هذا بذلّ اللوم وذلك بذلّ الردّ.

ومن الشعر المنسوب لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام):

كِدَّ كدَّ العبد إن أحببت *** أن تصبح حرا

واقطع الآمال عن مال *** بني آدم طرا

لا تقل ذا مكسب يزري *** فقصد الناس أزرى

أنت ما أستغنيت عن غيرك *** أعلى الناس قدرا

ومن الشعر المنسوب إلى الحسين (عليه السلام):

إغن عن المخلوق بالخالقِ *** تغن عن الكاذب بالصادقِ

واسترزق الرحمة من فضله *** فليس غير الله من رازقِ

وأنشد أبن الأعرابي:

أبا هاني لا تسأل الناس والتمس *** بكفّيك فضل الله والله أوسع

فلو سأل الناس التراب لأوشكوا *** إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا

محمود الوراق:

شاد الملوك قصورهم وتحصّنوا *** من كلّ طالب حاجة أو راغب

فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن *** بادي الضراعة طالباً من طالب

سلم الخاسر:

إذا أذن الله في حاجة *** أتاك النجاح على رسلهِ

فلا تسأل الناس من فضلهم *** ولكن سل الله من فضلهِ

أحمد بن يوسف الأنباري:

لموت الفتى خيرمن البخل للفتى *** وللبخل خيرمن سؤال بخيل

لعمرك ما شيء لوجهك قيمة *** فلا تلق إنساناً بوجه ذليل

ولبعضهم:

إذا أظمأتك أكف اللئام *** كفتك القناعة شبعاً وريّا

فكن رجلا رجله في الثرى *** وهامة همّته في الثريّا

ولا تخضعنّ إذا ما افتقرت *** ولاتسأل الرزق ما عشت حيّا

فانّ إراقة ماء الحياة *** دون إراقة ماء المحيّا

وحكي أن أبا تمام ـ حبيب بن الطائي ـ قصد البصرة منتجعاً، فلما وردها سأل عن شاعرها فذكر له عبد الصمد بن المعدل، فقال: أنشدوني شيئاً من شعره، فأنشد قوله:

لست تنفك طالباً لوصال *** من حبيب أو طالباً لنوال

أيّ ماء لحرّ وجهك يبقى *** بين ذلّ الهوى وذلّ السؤالِ

فحوّل راحلته عنها ولم يدخلها، وقريب من هذا المعنى قول بعضهم في أبي الطيب المتنبي:

أي فضل لشاعر يطلب الفضل *** من الناس بكرة وعشيّا

عاش حيناً يبيع بالكوفة الماء *** وحيناً يبيع ماء المحيّا

القاضي عبد العزيز الجرجاني:

يقولون لي فيك إنقباض وإنّما *** رأوا رجلاً عن مورد الذلّ أحجما

إذا قيل هذا مورد قلت قد أرى *** ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظما

وأما السؤال ممّن ليس أهلا للمعروف، ومن هو باللؤم موصوف، فهو أدهى وأمرّ وأسوأ وأضرّ، وقد روى أن في زبور داود (عليه السلام): «إن كنت تسأل عبادي فاسأل من معادن الخير ترجع مغبوطاً مسروراً، ولا تسأل معادن الشر ترجع ملوماً محسوراً».

وفي الأثر أن الله تعالى أوحى إلى موسى (عليه السلام): «لئن تدخل يدك في فم التنين إلى المرفق خير من أن تبسطها إلى غني قد نشأ في الفقر»(3).

ومن كلامهم: لا شيء أوجع للاحرار من الرجوع إلى الأشرار(4).

وقيل لأعرابي: «ما السقم الذي لا يبرء، والجرح الذي لا يندمل، قال: حاجة الكريم إلى اللئيم»(5).

ومن كلام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها»(6).

وقوله: «ماء وجهك جامد يقطره السؤال، فانظر عند من تقطره»(7).

وأوصى بعضهم أبنه فقال: «لا تدنس عرضك، ولا تبذلنّ وجهك بالطلب إلى من إن ردّك كان ردّه عليك عيباً، وإن قضى حاجتك جعلها عليك منّاً، واحتمل الفقر بالتنزّه عمّا في أيدي الناس، والزم القناعة بما قد قسم لك».

وقال رجل لابنه: إيّاك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه(8).

رأي الأصمعي كناساً يكنس كنيفاً وهو ينشد:

وأكرم نفسي إنّني إن أهنتها *** وحقّك لم تكرم على أحد بعدي

فقلت له: يا هذا إنّك والله لم تترك من الهوان شيئاً إلاّ وقد فعلته بنفسك مع هذه الحرفة، فقال: بلى والله إنّني صنتها عمّا هو أعظم من هذا الهوان، قلت: وأيّ شيء هو؟ قال: سؤال مثلك، يقول: فانصرفت عنه وأنا أخزى الناس.

 

موعظة الامام السجاد (عليه السلام):

وفي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنّ محمّد بن المكندر كان يقول: ما كنت أرى أنّ علي بن الحسين (عليه السلام) يدع خَلَفاً أفضل منه، حتّى رأيت ابنه محمّد بن علي (عليه السلام)، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأيّ شيء وعظك.

فقال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيني أبو جعفر بن علي (عليه السلام) وكان رجلا بادناً ثقيلا، وهو متّكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا أما لأعظنّه، فدنوت منه فسلّمت عليه فرد عليّ ببهر وهو يتصبّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا، أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟

فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزّ وجلّ، أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنّما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله، فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني»(9).

ومما جاء نظماً في هذا المعنى قول عمر بن أحمد الباهلي:

ومن يطلب المعروف من غير أهله *** يجد مطلب المعروف غير يسير

إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة *** من الذمّ سار الذمّ كلّ مسير

وقال آخر:

وإذا بليت ببذل وجهك سائلا *** فابذله للمتكرم المفضال

إنّ الجواد إذا حباك بموعد *** أعطاكه سلساً بغير مطال

ما اعتاض باذل وجهه بسؤآله *** عوضاً ولو نال المنى بسؤال

وإذا السؤال مع النوال قرنته *** رجح السؤال وخفّ كل نوال

وقال آخر:

قطعي يدي بيدي أخفّ عليّ من *** مدّي إلى نذل لأخذ يد يدا

غضب الإله عليّ إن أك راضياً *** ليدي بأن تمتاح من يده يدا

وقال آخر:

اسأل العرف إن سألت جواداً *** لم يزل يعرف الغنى واليسارا

فإذا لم تجد من الذل بداً *** فالق بالذل إن لقيت الكبارا

ليس إجلالك الكبير ذلّ *** إنّما الذل أن تجلّ الصغارا

أبو شراعة القيسي:

إنّ الغنى عن لئام الناس مكرمة *** وعن كرامهم أدنى إلى الكرم

منصور الفقيه:

الموت أسهل عندي *** بين القنا والأسنّه

والخيل تجري سراعاً *** مقطعات الأعنّه

من أن يكون لنذل *** علىَّ فضلٌ ومِنَّه

* * *

الغاية لا تبرّر الوسيلة:

قوله (عليه السلام): «وَمَا خَيْرُ خَيْر لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ، وَيُسْر لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْر، وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ. وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ ذُو نِعْمَة فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ، وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ».

يقول (عليه السلام): إن أردت أن تجلب لنفسك خيراً فعليك بالطريق قبل الولوج فيه، فليكن طريقك خيراً تلق خيراً، وأعلم بأنّ طريق الخير لا يكون إلاّ خيراً، ولا يكون طريق الشر إلاّ شراً، فليس الخير خيراً إذا نيل عن طريق الشر لأنّه وليد لذلك الشر، وما خيراً خيرٌ لا ينال إلاّ بمشقة وعسر، وما خيراً خيرٌ لا يبلغ إلاّ بعد احتمال صعوبات واجتياز عقبات.

وإيّاك أن توجف بك مطايا الطمع والجشع مسرعة بك إلى غايتها المشؤومة، ونهايتها المؤدية بالانسان إلى القرار البئيس حيث مناهل الهلكة والموت المرير.            

واطلب الرزق من الله، ومن الله وحده، واكتسب الرزق في تجارة تعقدها بينك وبين الله، وإن أمكنك أن لا يكون بينك وبين الله واسطة تبلغ به الى الله، وتنال به رزقه فافعل، ففي ذلك العزّ، وفي ذلك الرفعة، وفي ذلك تتجلى معاني الحرية بأبهى مناظرها.

وكلّ إنسان لا محالة مدرك ما قسمه الله له من الرزق، وآخذ سهمه من القوت، وكل ما كان قد انتقل من الله إليك فهو نعمة عظيمة وعطاء موفور، وإن كان قليلا بل أقلّ من القليل، لأنّ اليسير من الله كثير، ولأنّ القليل من الله أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وإن كان كل منه.

فاشكره على نعمه فإنّ الشكر أفضل منازل الأبرار، وعمدة زاد المسافرين إلى عالم الأنوار، وهو غاية الفضائل والمقامات، ليس لكل سالك أن يصل إليه إلاّ الأوحدي من كل السالكين، ولذا قال تعالى: (وقليل من عبادي الشكور)[سباء : 13].

وكما أنّ الشكر من المنجيات الموصلة إلى سعادة الأبد، وزيادة النعمة في الدنيا، فضده ـ أعني الكفران للنعمة ـ من المهلكات المؤدية إلى شقاوة السرمد، وعقوبة الدنيا وسلب النعم. يقول الله تعالى: (فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) [النحل : 112].

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «أُشكر من أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فانّه لا زوال للنعماء إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت»(10).

 

كفران النعمة:

وقد نصّ القانون الإسلامي على حرمة كفران النعمة.

الكفران بالنعمة والكفر بها معناها واحد: وهو ستر النعمة وجحودها، والكافر هو الجاحد لأنعم الله تعالى.

يتحقق الكفران بنعم الله سبحانه بسترها وإخفائها عن العباد، وهذا حال من يظهر الحاجة والفقر والفاقة، وهو في نعمة من الله سبحانه تكفيه، ورزق واسع عمّا في أيدي الناس يغنيه، لكن الدناءة والخساسة أبت أن تفارق أهلها.

وعبثاً نحاول جمع أهل الدناءة والنهم والخساسة والجشع في صعيد واحد، مع أهل النزاهة والعفة والإباء والسخاء، فهذا تظهر نعم الله عليه، وذاك يسترها شحّاً ويخفيها جشعاً.

فستر النعمة وإخفاؤها كفران بها، والله سبحانه قد أمر باظهار النعمة، قال تعالى: (وأمّا بنعمة ربك فحدّث)[الضحى : 11].

وإذا أمر الله سبحانه باظهار النعمة، فقد نهى عن سترها وإخفائها، لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، أما مطلقاً أو مثل هذا المورد.

 

الكفران بنعم الناس:

يتحقق الكفران بنعم الناس، بعدم الاقرار والأعتراف لهم بنعمهم، فكل من نال من أحد إخوانه وأبناء نوعه نعمة وأنكرها ولم يظهرها، كان كافراً بالنعمة غير شاكر نعمة المنعم، ومن لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الخالق سبحانه وتعالى على نعمه.

إنّ السبب في إنكار النعمة والاحسان غير بسيط غالباً، بل هو مركب من صفتين رديئتين: الحسد واللؤم، وكفى بطبع تركّب منهما رادعاً وحاجزاً عن نسبة الاحسان إلى المحسن، وذكر المنعم بما أنعم، وشكره على إنعامه.

لا أراك ترتاب بأنّ كفران النعم وجحود الاحسان، يوجب سد باب الإنعام والاحسان بين العباد، نظراً لما انجبلت عليه طباعهم من حب المدحة والذكر الجميل، فهم حال إنعامهم وإحسانهم يرون ذكرهم بما هم أهله ثمن النعم والاحسان إلاّ من عصمه الله تعالى، فإنّ إحسانه وإنعامه خالصاً لوجه الله لا يريد به جزاءً ولا شكوراً.

فالمنعم يحب نسبة النعمة إليه، ووضعها في موضعها عند المنعم عليه، والله سبحانه المنعم على عباده، يسألهم يوم القيامة عن نعمه عليهم، فعلى مقدار النعمة يكون الحساب، وفيما وضعت تلك النعمة يكون الثواب أو العقاب.

وقد نص القانون الإسلامي على ذلك، قال سبحانه: (بسم الله الرحمن الرحيم  ألهاكم التكاثر  حتّى زرتم المقابر  كلا سوف تعلمون  ثم كلاّ سوف تعلمون  كلاّ لو تعلمون علم اليقين  لترونّ الجحيم  ثم لترونّها عين اليقين  ثم لتسئلنّ يومئذ عن النعيم) [سورة التكاثر].

قيل: نزلت هذه السورة في اليهود، وقيل: نزلت في حيين من قريش تفاخروا حتّى كان من أمرهم أن ذهبوا إلى المقابر، فعدّوا موتاهم ليعلموا أيّ الحيّين أكثر عدداً، والمقصود أنّ التكاثر في الأموال والأولاد ألهاهم وشغلهم عن ذكر الله وطاعته، وعن الاستعداد للدار الآخرة، فلم ينتبهوا حتّى ماتوا، ونقلوا إلى قبورهم، وفيها علموا عاقبة أمرهم.

وهذا خطاب عام يمكن انطباقه على من مات بلا كلفة، وعلى الأحياء بعلاقة إشرافهم على الموت، وقد هددهم سبحانه وكرّر التهديد والوعيد بقوله: (كلاّ سوف تعلمون  ثم كلاّ سوف تعلمون).

وبعد تكرّر التهديد وتأكيد الوعيد، بيّن سبحانه أنّهم لو علموا يقيناً سوء عاقبة أمرهم، لشغلهم يقينهم بالعقاب والثواب عن التفاخر والتكاثر بالأموال والأولاد، وكيف لا يشغلهم وهم بعد علم اليقين يرون الجحيم، ويرون أنّهم يسألون يومئذ ـ أي يوم القيامة ـ عن النعيم الذي خصّهم الله به.

 

أهل البيت (عليهم السلام) هم النعيم:

قال قتادة: إنّ الله سائل كل ذي نعمة عمّا أنعم عليه، وقيل: إن المسؤول عنه من النعم هو الصحة والفراغ، وقيل: الأمن والصحة(11)، ومنه نعمتان مجهولتان الصحة والأمان، وقيل: يسأل عن كل نعمة إلاّ ما خرج بالحديث وهو: ثلاثة لا يسأل العبد عنها: خرقة تواري عورته، وكسرة تسدّ جوعته، وبيت يكنّه من الحر والبرد.

روى العياشي في حديث طويل، قال: إنّ أبا حنيفة سأل أباعبدالله الصادق (عليه السلام)عن هذه الآية: (لتسئلن يومئذ عن النعيم) فقال له: ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال أبو حنيفة: هو القوت من الطعام، والماء البارد.

فقال له جعفر الصادق (عليه السلام): لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتّى سألك عن كلّ أكلة أكلتها، وشربة شربتها، ليطولنّ وقوفك بين يديه، فقال أبو حنيفة: فما النعيم جعلت فداك؟

فقال الإمام (عليه السلام): نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله به على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءً، وبنا هداهم الله للإسلام وهو النعمة التي لا تنقطع، والله سألهم عن حق النعيم الذي أنعم به عليهم، وهو النبي وعترته (صلى الله عليه وآله)(12).

وكيف كان المسؤول عنه من النعيم يوم القيامة، فعلى العاقل أن يكون عارفاً بالمنعم سبحانه وتعالى، حافظاً للنعمة غير كافر بها، ولا متكبر عليها، فانّ النعم المدركة المحسوسة لا تحصى، وأعظمها معرفة المنعم وشكره على النهج الذي أمر به تعالى. ولا يعرف ذلك إلاّ بدلالة النبي (صلى الله عليه وآله) وعترته (عليهم السلام)، وبذلك يتضح لك أنّهم هم النعيم الذي يسأل الله عباده عنه يوم القيامة، فعليك بالبحث والتدبّر، فإنّ نعمة الايمان والمعرفة أعظم من كل نعمة، فلا سعادة إلاّ بالعلم الموصل إلى الحقيقة المطلوبة.

 

القرية التي كفَرت بأنعُم الله:

جاء النص في القانون الأسلامي على قبح كفران النعمة، وبيان سوء عاقبتة، قال سبحانه وتعالى:

(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) [النحل : 112].

طالما ضرب سبحانه الأمثال لعباده تفهيماً لهم، وتقريباً لعقولهم، وإتماماً للحجة علهيم، فالله سبحانه ضرب هذا المثل في باب كفران النعمة الموجب لحلول النقمة، فأخبر سبحانه عباده عن أهل قرية كانوا آمنين في قريتهم، فلا يغار عليهم عدوّهم، ولا يصل اليهم أحد بسوء، وهم مطمئنّون لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق، لأنّ رزقهم يأتيهم رغداً من كل مكان.

يحمل أهل ذلك المكان ما عندهم من الطعام والأثمار إلى تلك القرية، فكان الله تعالى سخرهم لأهلها، ولم يزالوا كذلك حتّى بطروا النعمة فكفروا بها ولم يشكروها ، فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، أي بما كانوا يرتكبونه من كفران النعمة، وهو منبت كل بذر فاسد من كبر وعناد وبغي على العباد.

ولما كان أثر الجوع والخوف ظاهراً محسوساً، كان التعبير عنه باللباس من بديع التجوزات البيانية، نظراً لاشتراك أثرهما مع اللباس بمظهر الهيكل الانساني.

قال أبن عباس ومجاهد وقتادة: انّ تلك القرية مكة. نعم هي القرية الآمنة المطمئنّة التي يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، وهي التي كفر أهلها بنعم الله سبحانه، فعبدوا الأصنام، وأرتكبوا أنواع الآثام، وهمّوا بقتل خير الأنام بعد أن آذوه وقاطعوه وكذبوه.

وهو المعروف عندهم بأنّه صادق أمين في كل ما يخبرهم عنه، حتّى إذا أمرهم بترك عبادة الأحجار والأخشاب التي اتخذوها من دون الله أرباباً، كذّبوه وجحدوا عظيم الآيات من معجزات نبوته ورسالاته، وكادوه بأنواع المكائد والحيل، حتّى خرج من بينهم خائفاً يترقب، فدعا عليهم وقال: «أللهم أشدد وطأتك على مضر، وأجعل عليهم سنين كسني يوسف»(13).

فعذّبهم الله بالجوع حتّى أكلوا القد والعلهز ـ هو الوبر يخلط بالدم والقراد ـ كانوا يأكلونه على خبثه، فيظهر عليهم أثر سمّه وقذره، وكان الخوف في قلوبهم أشد من كفرهم، كانوا يخرجون لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) جازمين بالنصر، إعتماداً على كثرتهم وقوّتهم، فيرون من آيات الله ما يذهل عقولهم ويرهب قلوبهم، ويرجعهم إلى مكة نادبين أشرافهم وكماتهم، حتّى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت جزاءً من الله لهم على كفرانهم النعمة، ولم يزالوا معذّبين على كفران النعمة حتّى جاء نصر الله والفتح، حين فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة.

هاجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة فكان النصر والفتح، نعم فتحها بالسيف عنوة، وأزال عن أهلها أقذار الجهالة، وأنقذهم من ظلمات الضلالة، وأماط عنهم نصب لباس الجوع والخوف، وأرجعهم إلى شكر النعمة بعد كفرانها.

وقال سبحانه: (والله فضَّلَ بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون  والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون) [النحل : 71 و 72].

التفاوت بين أفراد الإنسان في هذا الكون الأول، محسوس يبصره كل عاقل، أجل يرى العاقل في النوع الأنساني الأبيض والأسود، والطويل والقصير، والصحيح والسقيم، كل ذلك في أصل وجوده وظهور حقيقته قبل توارد الشهوات والأسترسال في السعي إلى الحاجات، وبعد ذلك ترى عاقلا فقيراً، وجاهلا غنياً، ترى صحة ما قاله بعض الأُدباء:

كم عاقل عاقلٌ أعيت مذاهبه *** وجاهل جاهلٌ تلقاه مرزوقا

كم فيلسوف ضاق به معاشه، وبليد مغفل يمرح في النعمة كيف يشاء، يرى جميع ذلك العاقل العارف، فيعلم أن الله سبحانه قسم بين عباده النعم بحكمة بالغة لا تدركها العقول.

نعم فضَّل الله سبحانه بعض عباده على بعض في الرزق، فوسّع على بعض وقتّر على آخر، (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) أي لا يشارك الأغنياء الذين فضلوا في الرزق عبيدهم الذين ملكتهم أيمانهم في أرزاقهم التي فضلهم الله بها، فلا يشاركونهم في شيء منها، ولا يرضون بمساواتهم لهم، بل يرون لأنفسهم حق الإختصاص بما فضّلهم الله سبحانه به، فإذا كانوا يكرهون مشاركة عبيدهم لهم في ملكهم ونعمتهم، أفبنعمة الله سبحانه يجحدون ويجعلون لله شريكاً في ملكه وخلقه وفضله ونعمه على عباده.

فقوله تعالى: (أفبنعمة الله يجحدون)، ظاهر في الإستفهام بنحو الإنكار عليهم، والتوبيخ لهم على ما هم عليه من كراهتهم مشاركة عبيدهم في النعمة التي فضّلهم الله بها، ومن إتخاذهم لله شريكاً في ملكه وسلطانه.

فكيف تقبل عقولهم ويألف إدراكهم أن يجحدوا نعمة الله، فيجعلون له شريكاً في ملكه، وجحود النعمة كفران بها، والكافر بالنعمة مستحق للتوبيخ والذم، والانكار عليه بحكم العقل والنقل.

 

نماذج من نِعَم الله على العباد:

ثمّ بيّن سبحانه بعض نعمه على عباده بقوله: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات) [النحل:72].

ترى ويرى كل عاقل عظيم النعمة في جعل الروابط القلبية المتبادلة في الزوجية، وحقيقة تكوينها كما خلقها سبحانه، فإنّ فيها ـ بعد حفظ بقاء النوع الإنساني ـ ، التعاون والخدمة والأُنس والرأفة، والتمتع بالجمال والكمال ولطيف اللذات البشرية.

وأنعم سبحانه بالبنين والحفدة، والنعمة ظاهرة محسوسة، إذ بهم يناط السرور، وتجلى غياهب الكدر، فهم زينة وجمال، وأعوان وخلاّن، وعمل صالح لا ينقطع إذا حسنت سيرتهم، وخلصت لله سبحانه سريرتهم.

وخلق تعالى صنوف الأقوات وما تترامى إليه الشهوات، وأنعم بإباحة الطيّبات من رزقه لعباده، وهذا هو المراد من قوله تعالى: (ورزقكم من الطيبات).

ولما كان شكر النعمة ما يحكم به العقل، وكان الشاكر لنعمه سبحانه قليلا، وبّخ تعالى الكافرين بنعمه، فقال: (أفبالباطل يؤمنون وبنعة الله هم يكفرون) [النحل : 72].

لا يخفى أنّ الإستفهام بنحو الانكار والتوبيخ يدلّ كما لا يخفى على حُسن شكر المنعم، بل وجوب شكره وإن قلَّت تلك النعمة، فكيف إذا عظمت نعمة المنعم واتصلت، وكانت الحاجة إلى دوامها كالحاجة إلى أصل وجودها، فنعم الله سبحانه لا تحصى، والإنسان في حاجة إلى دوامها عليه، ولا دوام للنعمة إلاّ بفيضه تعالى، وفيضه على عبده بشكره لنعمه، فانّ شكر النعمة يسبب زيادتها قال سبحانه: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) [إبراهيم : 7].

فالشكر يوجب زيادة النعمة بحكم وعده تعالى، وكفران النعمة بنص هذه الآية موجب للعذاب في الآخرة، يوم يسأل الإنسان عن نعم الله كيف تقلب فيها، هل كان حامداً شاكراً، أو جاحداً كافراً، يوجب كفران النعمة بنص هذه الآية، العذاب الشديد في دار الدنيا بزوال تلك النعمة، وتبدلها بالنقمة، فكم هلك من هلك حين كفر النعمة في القرون الماضية، والأيام الخالية، وما زالت غضارة العيش عن قوم إلاّ بكفرانهم النعمة.

تتبّع حال بني الدنيا من مبدأ انتشارها في أرض الله الواسعة إلى يومنا الذي نحن فيه، تجد زوال النعم ونفارها مسبباً عن جحودها وكفرانها، وإليك مما سلف قضية واحدة فانّ فيها الأعتبار، وهي كفران (جرهم) نعم الله عليها:

 

كفران «جُرهم» للنعمة:

جُرهُم كَفَرت بالنعمة، وأستخفّت بحرم الله سبحانه، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، والذلة والصغار، بعد الأمن والثروة والعزة والسلطان.

كانت جرهم تسكن مكة المكرمة التي جعلها الله حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء، جعلها الله مقصداً تشد إليها الرحال من كل فج عميق، فيغنم قاصدوها منافع كثيرة، ويذكرون أسم الله تعالى في نسكهم ، ويشكرونه على ما هداهم من معرفته، وما رزقهم من بهيمة الأنعام والنعم الجسام، وما سخّره لهم من الأجرام العلوية والسفلية، التي كوّنها سبحانه وجعلها في مجاريها أسباباً من فيضة بقدرته، حتّى أخرج الإنسان إلى الوجود من كتم العدم، وجعل وجوده المنتشر متسلسلا من بين الصلب والترائب، سبحانه عظمت حكمته، وجلّ تدبيره، وقصرت الألسن عن أداء شكر قليل نعمه وهي لا تحصى.

كانت جرهم تسكن مكة الشريفة التي تتزاحم على سكناها الأشراف، وتحترمها جبابرة الملوك، نزلت قبيلة جرهم مكة المشرفة، فكانت قائمة بالواجب من خدمة الكعبة ـ وهي البيت الحرام ـ ترى لنفسها السلطة والسيادة والشرف والفضيلة على سواها من القبائل والشعوب.

وما برحت متمتّعة بنعمة ذلك الحرم المبارك يكرم مثواها من حل فيه، ويهابها من غاب عنه، حتّى كفرت النعمة فخابت صفقتها، وخسرت عزها وسلطتها، وذاقت سوء عاقبة كفران النعمة.

وإليك بيان حالها ملخصاً بأسهل بيان، وألطف إختصار، محتفاً بما مثلناه من تشخيص تلك القضية على نهج التصرفات الخيالية.

 

نزول جُرهم مكة المشرفة:

نزلت جرهم مكة المشرفة وفازت بأمرة العرب وسلطتها بعد هلاك العمالقة، وقامت بخدمة الحرم والكعبة، فرمّمت منها ما بدل شكله سيل الماء بعد هلاك العمالقة حين كفروا النعمة واستخفّوا بالحرم.

لبثت قبيلة جرهم زمناً طويلا شاكرة للنعمة، قائمة بما تقدر عليه من الخدمة للكعبة وقاصديها، وهي متمتعة بنعم الله تعالى، وما برحت كذلك حتّى استخفّت بحقّ البيت الحرام، وكفرت بنعم الله، وارتكبت الأُمور العظيمة، وأحدثت الأحداث القبيحة.

 

خزانة الكعبة:

كانت للبيت الحرام خزانة بشكل البئر في داخل البيت، يوضع فيها الحلي والأمتعة التي تُهدى للبيت، فاتّفق خمسة من جرهم على سرقة ما في الخزانة، ودخل أحدهم ليخرج ما فيها، وانتظره الأربعة خارج البيت، فأهلك الله تعالى ذلك المقتحم وفرّ الأربعة.

ولما كثر من جرهم كفران النعمة وزاد بغيهم، قام فيهم من أدرك سوء عاقبة كفران النعمة خطيباً، فوعظهم وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وكان ذلك الرجل من العقلاء وأهل الخبرة بالكتب السماوية وآثار الأُمم السالفة، وكان أسمه «مضاض» هو مضاض بن عمرو بن الحرث بن مضاض.

قام في قومه خطيباً فقال: يا قوم احذروا كفران النعمة والبغي فإنّه لا بقاء لأهله، وقد رأيتم من كان قبلكم من العماليق كفروا بالنعمة واستخفّوا بالحرم ولم يعظّموه، وتنازعوا بينهم واختلفوا، حتّى سلّطكم الله عليهم، فاجتحتموهم فتفرّقوا في البلاد، فلا تكفروا بالنعمة، ولا تستخفّوا بحقّ الحرم وحرمة بيت الله، ولا تظلموا من دخله وجاءه معظماً لحرماته، أو خائفاً رغب في جواره، فإنّكم إن فعلتم ذلك تخوّفت عليكم أن تخرجوا منه خروج ذل وصغار، حتّى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم، ولا إلى زيارة البيت الذي هو لكم حرز وأمن، والطير تأمن فيه.

فقال قائل منهم يقال له «مخدع»: ومن الذي يخرجنا منها ألسنا أعزّ العرب وأكثرهم مالا وسلاحاً، فقال مضاض: إذا جاء الأمر بطل ما تذكرون، فقد رأيتم ما صنع الله بالعماليق قبلكم.

فانظر إلى ما وعظ به مضاض قومه، وخوّفهم من سوء عاقبة كفران النعمة ووخامة مراتع البغي، وعرفهم ما كان من أمر العماليق قبلهم، وأنّهم سيصيبهم ما أصابهم.

 

مجمل أمر العماليق:

كانت العماليق اتخذت مكة المشرفة مسكناً، وقامت بخدمة الحرم زمناً طويلا، ثمّ كفرت بالنعمة واستخفّت بالحرم، وهتكت حرمة البيت، فسلّط الله عليها أضعف خلقه ـ وهو الذر ـ فأخرجهم من الحرم، ثم ابتلاهم بالجدب حتّى هلك الكثير من أنعامهم، وتسلّطت عليهم جرهم فأصلتهم نار حرب موقدة، فهلك منهم من هلك، وفرّ من سلم بعد ذهاب سلطانهم وعزّهم، والسبب الأكبر في هلاكهم هو كفران النعمة.

دفن كنوز الكعبة في بئر زمزم:

لما رآى «مضاض» إصرار قومه على ما هم عليه، وزيادة كفرانهم النعمة وبغيهم وعتوّهم، وعدم تأثّرهم بجميل بيانه ولطيف نصحه، حتّى كأنّهم صمّ لا يسمعون، أو على قلوبهم أقفال أحكمتها يد الجهالة فهم لا يعقلون.

لما رأى ذلك من قومه قام متستّراً بظلام الليل إلى بئر زمزم، فحفرها ودفن فيها كنوز الكعبة، وهي غزلان من ذهب، وأسياف وحلي وأمتعة كلها ذهبيّة، وأخفى أثر عمله قبل بزوغ فجر نهاره، حتّى لا تكون تلك الكنوز غنيمة تتلاعب بها سفهاء قومه، ولا يكون هو بينهم إلاّ آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بما يقدر عليه.

وبذلك يتخلّص من الآفات السماوية والانتقامات الربانية كل من رأى المنكر فأنكره بيده وقوّته، فإن لم يقدر فبلسانه وبيانه، وإلاّ فبقلبه، وبهذا نهض ذلك العارف الغيور على نفسه ودينه وقومه.

 

حلول النقمة بمن كفر النعمة:

تمادت جرهم بكفران النعمة والبغي، وأمنت لجهلها سوء العاقبة، وما شعرت بما يسوؤها، حتّى حلّت بساحتها قبائل من أهل مأرب، يقدمها عميدها «عمرو بن عامر» وجلّها من خزاعة.

فخرجت هذه القبائل من بلادها تقطع المهامه والقفار، لتنتقي من البلاد ما يوافقها هواء، وماء، وكلاء، وأناخت ركابها بمكة المشرفة لا عن سوء نية بأهلها بل غايتها الراحة وزيارة البيت وأداء حقه، ولما رأتها واسعة الرحاب تصلح للاقامة بها ريثما ترسل من رجالها من يختبر لها الشامات والعراق وغيرهما، كي تختار من البلاد ما يلائمها لتحتلّه وتحلّ به.

لما رأت ذلك عزمت على الأقامة في رحاب مكة، وأرسل عميدها «عمرو بن عامر» ولده ثعلبة إلى عظماء جرهم ليفاوضهم بما عزموا عليه، دخل ثعلبة على عظماء جرهم في ناديهم فحيّاهم، وقال: يا قوم إنّا خرجنا من بلادنا فلم ننزل منزلا أفسح لنا أهله وتزحزحوا عنّا فنقيم معهم حتّى نرسل رواداً فيرتادوا لنا بلاداً تحملنا، فافسحوا لنا في بلادكم حتّى نقيم قدر ما نستريح ونرسل رواداً إلى الشامات وبقية الشرق، فحيثما بلغنا انّه أمثل لنا لحقنا به، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيراً.

سمع عظماء جرهم كلام ثعلبة، فامتنعوا من قبول طلبه، وأبوا عليه إباءً شديداً، وأخذتهم سورة العجب والكبر، وقالوا: لا نحب أن تنزلوا بلادنا، وتضيقوا علينا مرابعنا ومواردنا، فارحلوا عنّا حيث أحببتم فلا حاجة لنا بجواركم.

آب ثعلبة إلى أبيه بما سمعه منهم، فأرسل إليهم عمرو بن عامر من أعلمهم أنّه لابدّ من المقام ببلادكم حولا كاملا حتّى ترجع إليّ رسلي التي أرسلتها، فإن أنزلتموني طوعاً نزلت وحمدتكم وساويتكم في الرعي والماء، وإن أبيتم أقمت على كرهكم، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء، وقتلت الرجال، ولم أترك منكم أحداً ينزل الحرم أبداً.

سمعت رجال جرهم ذلك فلم تأبه به وأجابته بما أساءه، وتحرّكت للحرب بكلّ ما تقدر عليه إلاّ «مضاض بن عمرو» فإنّه كان مخالفاً لهم في إبائهم عن قبول طلب «عمرو بن عامر»، وكان مضاض يرى لزوم إجابة طلبه لأنه حلّ وقومه في جوارهم ونزل بساحتهم، فهم بالأضياف أشبه من الأعداء، ولانّه يعلم ما عليه جرهم من كفران النعمة الموجب لسرعة الإنتقام مع الإصرار عليه وزيادة التقحّم فيه.

وكان يخوّف قومه وهو خائف من سوء عاقبة كفران النعمة، فلما رآهم تهيّأوا وتعبّأوا للحرب اعتزلهم بعد أن قال لهم: هذا ما كنت أتخوّفه عليكم وأُحذرّكم منه.

اعتزل مضاض الحرب وخرج بولده وخاصته قبل إيقاد نار الحرب، ولحق بقنونا وهي من أعمال الحجاز.

 

هلاك جرهم بسيوف خزاعة:

نشبت الحرب بين جرهم وخزاعة، فأظهرت جرهم في اليوم الأول بسالة عظيمة وهجوماً ودفاعاً شديداً، وانفصلت في نهاية اليوم غير مكترثة بخزاعة، ترى النصر في جانبها والسعد في طالعها، وأصبحت مبادرة للحرب في اليوم الثاني، فقابلتها خزاعة بما لم يكن بالحسبان.

وكان لقائدها وعميدها «عمرو بن عامر» الاقتدار العظيم في التدابير الحربية، ومظاهر البسالة والشجاعة، فلاقت جرهم في اليوم الثاني من خزاعة ما أذهلها، وأدخل الرعب في قلوب كماتها، وودّت قصر ذلك اليوم، وندمت على ما فرطت من عدم إجابتها طلب خزاعة.

انفصلت جرهم في اليوم الثاني عن الحرب منكسة الأعلام، خافقة القلوب، تردّد في شعاب مكة وتلاها نعي رجالها وأبطالها، وتبصر غياهب الإنكسار محلقة فوقها كيف توجّهت، باتت تلك الليلة وسوء عاقبة كفران النعمة يناديها إلى الهلاك، فهو الجزاء لمن كفر النعمة وبغى في الأرض الفساد، ولم تجد جرهم بدّاً حيث أصبحت من أستقبال نار الحرب، حيث رأت أبطال خزاعة تتقدّم بأعلام النصر نحوها والصبر ملء إهابها.

تقدّمت جرهم في اليوم الثالث للحرب فكانّها تقدمت والصبر والنصر عنها بمنعزل، وقبل انقضاء اليوم الثالث انقضى صبرها، فانهزمت والسيف في رقابها، فلم يفلت منها إلاّ الشريد، وذاقت وبال كفران النعمة، وكان عاقبة أمرها خسرى، وهذا هو الجزاء لمن لم يشكر النعمة، ولم يكتف بكفرانها حتّى بغى في الأرض الفساد.

 

عودة أبناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل (عليه السلام) إلى مكة:

لما حازت خزاعة النصر وخفقت أعلامها على مكة واستولت على الحرم، وأصبحت ولها في قلوب العرب وفي قلوب وفود بيت الله وزوّاره رغبة ورهبة، فالقاصي والداني لا يدخل ذلك الحرم المقدس إلا برضاها، وكان أولى الناس بالحرم أولى الناس بالكعبة (بيت الله) أبناء بانيه، أبناء من أسس قواعده على تقوى الله، وأبناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل (عليه السلام).

كان أبناء إسماعيل في دولة العماليق مشرّدين عن حرم الله وحرم أبيهم، أما في دولة جرهم فأمرهم أهون من أيّام العماليق، فإنّ جرهم لم تمنعهم من دخوله ومن مجاورته وسكناه، ولما وقعت الحرب بين جرهم وخزاعة، كانت خطة أبناء إسماعيل اعتزال الحرب وتنحّيهم عنها.

اعتزل أبناء إسماعيل حرب خزاعة ولم يعينوا عليها، فكان ذلك يداً جميلة عندها، كافتهم عليها بمساواتهم لها في سكنى الحرم، دخل أبناء إسماعيل مكة المشرّفة آمنين وحلّوا في ذلك الحرم محترمين، وخزاعة ترى انّها أحسنت اليهم وأنعمت عليهم، وجهلت أو تجاهلت أنّه لا مكة لولا الكعبة (البيت المقدس) وإنّ البيت بناه إسماعيل وإبراهيم بأمر من الله سبحانه إتماماً للنعمة، وإيضاحاً للحجة (ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة) [الأنفال : 42].

 

شوق مضاض بن عمرو الى مكة المشرّفة:

قد عرفت ما كان عليه «مضاض» من شكر النعمة، وخوف عاقبة كفرانها، وكيف كان تحذيره لقومه جرهم، وتخويفهم من سوء عاقبة كفران النعمة، ثم اعتزاله الحرب التي دارت بينهم وبين خزاعة، فكان حقيقة نجاته بما كان منه، وبما اتّصف به من شكر النعمة وترك كفرانها.

إنفصل مضاض عن قومه وتركهم يصطلون نيران كفران النعمة والبغي بسيوف خزاعة، وارتحل إلى «قنونا» وهي من أعمال الحجاز وأرضه، حلّ فيها بمن معه من ولده وخاصته من جرهم، حلّ فيها وقلبه في مكة في ذلك الحرم المنيع، في البيت الحرام (الكعبة المشرفة).

حلّ مضاض في قنونا وهو يتطلّع الأخبار من مكة كالمطل عليها، ويتوقّع بما لديه من الشوق الأكيد رجوعه إليها، حتّى تناقلت الركبان حديث هلاك جرهم، فساءه ذلك وسرّه، ساءه ما حلّ بقومه من العذاب في الدارين حيث اختاروا كفران النعمة، وسرّه ما هو عليه من الاستضاءة بنور الحق، وشكر النعمة والتخلّص من هوة الجهالة، وحيرة الضلالة، والعذاب العاجل والآجل.

ثم بعد هذا وذاك عادت تردّد في نفسه الحسرات والزفرات، والشوق يصعد أنفاسه ويصوبها نحو مكة المشرفة، نحو مهده ومسقط رأسه ووطنه، وحب الوطن لا ينكر، وقد روي: «حبّ الوطن من الإيمان».

كان مضاض غريق غمرة الأسى والأسف على التشرف برحاب الكعبة المشرّفة استياف شذاها، على مشاهدة معاهد أنسه وشفاء نفسه، حتّى شاع عود أبناء إسماعيل إلى مكة، وعطف خزاعة عليهم، وإنصافها معهم بمساواتهم في المسكن، في الماء والكلاء، فأماط ذلك نبأ السار عن قلبه غياهب الكدر، وانقلب الأسى رجاء، والأسف سروراً، حتّى غاص مضاض في بحور الأماني بما يبتغيه من عوده لديار جدّه وأبيه.

 

خيبة الرجاء أكبر البلاء:

إنّ رجوع أبناء إسماعيل (عليه السلام) إلى مكة، ومسالمة خزاعة لهم وعطفها عليهم، وهم أحلاف جرهم قبل حربها مع خزاعة، ولا كرامة لهم عند خزاعة إلاّ اعتزالهم حربها، وهو الذريعة والشفيع لهم عندها، إنّ هذا كله كان السبب الوحيد، والعلة التامة التي علّق عليها آماله مضاض لأنّه خالف عشيرته بجميع أفعالها، واعتزل حربهامع خزاعة، فجزم باجابة طلبه، وأرسل رسله لمكة المشرفة يطلب من خزاعة الاذن والرخصة بالعود إلى مكة، وتوسّل إليها بما قدّمه من موعظة قومه واعتزاله الحرب حتّى تضعضعت أركان جرهم، وتمّ فوز خزاعة، ثم أكّد على نفسه العهود، وحلف لهم الايمان أن لا يحدث في جوارهم حدثاً، ولا يخرج عن طاعتهم أبداً.

ذهبت رسل مضاض إلى مكة، وتفاوضت مع عميد خزاعة ورجالها، وآبت بخيبة الرجاء وانقطاع الأمل من سكنى مكة المشرفة، وتحمّلت رسل مضاض قرار خزاعة بهدر دم كل جرهمي يدخل مكة، وصادقت أشراف خزاعة على قرار عميدها، بنفي جرهم عن الحرم نفياً مؤبداً خوفاً من تظاهرهم ولو بعد حين.

وهذه طريقة أهل الأمرة في كل زمن يبذلون جهدهم، ويفعلون ما لا يرتضونه من غيرهم، حبّاً في احتكار السلطة، عادت رسل مضاض بما عرفت، فعاد مضاض إلى بؤسه ويأسه، ورب أمل خائب ولمع كاذب.

 

إبل مضاض ونفارها:

كانت العرب ولم تزل ترى تجمّلها بجمالها في حلّها وارتحالها، فالإبل عندها أحسن شيء يقتنى، تحملها أثقالها، وتشرب ألبانها، وتأكل لحومها متى أعوز الأمر، فهي الثروة الجميلة والمراكب الجليلة.

كانت جرهم تفوق سواها من العرب باقتناء الأبل العراب، لا سيما عميدها (مضاض بن عمرو) فانّه قلّ من ساواه في كثرة الإبل، ولم تكن «قنونا» كمكّة المشرّفة في الماء والكلاء، فلا راحة فيها لإبل مضاض، ولولا إحتياط رعاتها بإحاطتها كان نفارها أكثر من قرارها.

 

غفلة الرعاة:

غفل الرعاة عن إبل مضاض في بعض الأيّام فنفرت حتّى خرجت من أرض قنونا واجتازت جوارها، فحنت الى مراتعها في مكة حنينها إلى فصائلها، والعربي لا يجهل حنين الإبل إلى مراتعها وقطعها إليها كل سهل وجبل بعد مرور السنين، اجتازت إبل مضاض الصحراء الفاصلة بين قنونا والحرم، لا يقف في وجهها شيء حتّى دخلت شعاب مكة وتلالها.

 

صراخ الرعاة:

بينما مضاض يتقلّب على فراشه في دار غربته (قنونا)، وهو تارةً يعود إليه أمل العود إلى مكة المشرّفة، وتارةً تردّه خيبة سالف الأمل إلى اليأس ـ واليأس إحدى الراحتين ـ بينما مضاض في تلك الفكرة، وجوّ قنونا هادئ هاجع، وكل ما فيها مسامع إذ فاجأتها أصوات الرعاة بنفار الإبل، طرق ذلك النبأ مسامع مضاض، فاستوى على راحلته مع بعض أُسرته يتبع أثر إبله في المناهل والوهاد، حتّى انتهوا إلى «أجيال».

مضاض بن عمرو على أبي قبيس:

انتهى السير بمضاض إلى «أجيال» وهي سلسلة تلال وربوات تفصل بأبي قبيس أعلى جبال مكة، فرأى أثر إبله داخلا في شعاب مكة، داخلا في رحاب خزاعة وعاصمتها، ولم يكن ذاهلا عمّا قرّرته خزاعة من هدر دم كل جرهمي يدخل مكة، وقف على أثر إبله موقف الحائر الكئيب، موقف المذهول من غرائب المحن وعجائب الزمن، وقف محتدم الفؤاد، يطلب مشاهدة إبله بالعين بعد الأثر على جبل أبي قبيس.

ولا يخفى حال أبي قبيس على من اقتبس من أنوار الحجاز لوامع أعلامها، يرى الواقف عليه ما حوله من أودية وربوات وآثار وعلامات، يرى القاصي والداني، والمنخفض والعالي من أبنية مكة، يرى القائم والقاعد والمتحرّك والساكن والناحر والجازر إذا انتشروا في شوارع مكة وأكنافها.

صعد مضاض على أعلى أبي قبيس، وأرسل أشعة بصره ليبصر عراب إبله، أرسل أشعة بصره في ذلك الوادي المقدس، فأبصر ما حلق إليه بصره، أبصر ابله تنحر وتؤكل حولها ليوث خزاعة، يا له منظر هائل أنتج الحسرة والزفرة والتحرّق والعبرة، رأى إبله تنحر وتؤكل، ولا سبيل إليها.

غضّ مضاض طرفه عن ذلك المنظر، فعادت أشعة بصره منعكسة، ونظر إلى أبي قبيس فرآه متلبّداً بحالك الظلام، فسرح نظره في جو مكة، وإذا غياهب الارهاب والتهديد قد امتدت من شعاب مكة منتشرة في ذلك الجو حتّى حجبت شعاع الشمس عن ذلك الفضاء، فلوى مضاض زمام راحلته عن أبي قبيس، وخاف ان هبط الوادي أن يقتل، فتوجّه منصرفاً الى قنونا ينشىء ما يحويه إليه ضميره، واصفاً ما كانوا عليه، وما انتهى أمرهم إليه بقوله:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

ولم يتربع واسطا فجنوبه *** الى المنحني من ذي الأراكة حاضر

نحن كنّا أهلها فأبادنا *** صروف الليالي والجدود والعواثر

وأبدلنا ربي بها دار غربة *** بها الذئب يعوي والعدو المخامر

أقول إذا نام الخلي ولم أنم *** إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر

وبدلت منهم أوجهاً لا اُريدها *** وحيمر قد بدلتها واليحابر

فان تمل الدنيا علينا بكلها *** ويصبح شر بيننا وتشاجر

فنحن ولاة البيت من بعد نائب *** نمسي به والخير إذ ذاك ظاهر

وأنكح جدي خير شخص علمته *** فأبناؤه منا ونحن الأصاهر

وأخرجنا منها المليك بقدرة *** كذلك يا للناس تجري المقادر

فصرنا أحديثاً وكنا بغبطة *** كذلك عضتنا السنون الغوابر

وسحت دموع العين تبكي لبلدة *** بها حرم أمن وفيها المشاعر

فياليت شعري هل يعمر بعدنا *** جياد فممضى سيله فالظواهر

فبطن من أمسى كأن لم يكن به *** مضاض ومن حي عدي عمائر

فهل فرج آت بشيء تحبه *** وهل جزع منجيك مما تحاذر

هذا حال مضاض وهذا شعوره، وإن تخلّص من سرعة الانتقام لكنّه حرم سيادة جرهم وإمرتها، وسكنى مكة المشرفة وحرمتها، حرم ذلك كله بانقراض قومه، وإنقراضهم كان مسبباً عن كفرانهم النعمة وبغيهم في الأرض.

* * *

أحسنوا مجاورة النعم:

قال صاحب الدعوه الإسلامية الرسول الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله): «أحسنوا مجاورة النعم، لا تملوها ولا تنفروها، فانّها قلّ ما نفرت عن قوم فعادت إليهم»(14).

ترشدنا هذه الكلمة إلى رمز لطيف، وإشارة جميلة، وكناية حسنة، نعلم بعد تدبرها حكم العقل بأنّ دوام النعمة بحفظها، والقيام بواجب حقها، وبدون ذلك تنفر النعم كما ينفر الحر العاقل من جيرة جار لا يحترم جواره، ولا يحافظ على حقوق الجوار.

قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «إحذروا نفار النعم، فما كل شارد بمردود»(15).

إنّك بعد الألتفات لما يفيده التحذير في هذه الكلمة، لا ترى فرقاً بين مفادها ومفاد الكلمة السالفة، وكيف لا يتحد مفادهما، وتلك كلمة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذه كلمة الوصي (عليه السلام)، وغايتهما واحدة، ومعدن الحكمة والبلاغة بينهما سواء.

قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «بالشكر تدوم النعم»(16).

لا يخفى إستقلال العقل بوجوب شكر المنعم على إنعامه، والمنعم بالذات هو الله سبحانه، وبشكره تدوم النعم، وتزداد فيوضاتها منه بحكم قوله: (لئن شكرتم لأزيدنكم) [ إبراهيم : 7 ].

وقال (عليه السلام): «آفة النعم الكفران»(17).

آفة كل شيء علته، وما يسبب هلاكه وزواله، فكفران النعم علّة زوالها، وسبب نفارها، وبإستمرار الضلالة عن سواء السبيل، وانسلاخ النفس من دائرة المعارف والكمال يتحقق كفران النعمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) الحَرَب ـ بالتحريك ـ : أن يسلب الرجل ماله.

(2) مشكاة الأنوار : 245، الفصل الاول في عيوب النفس .

(3) المستطرف 2 : 115.

(4) محاضرات الادباء 1 : 54.

(5) المستطرف 2 : 115.

(6) نهج البلاغة، قصار الحكم : 66 .

(7) نهج البلاغة، قصار الحكم : 346 .

(8) المستطرف 2 : 115.

(9) ارشاد المفيد: 263 عنه البحار 46 : 287 ح5.

(10) البحار 71 : 27 ح 4 .

(11) راجع البحار 7 : 257 .

(12) راجع البحار 24 : 49 ح 23 .

(13) راجع البحار 17 : 271 ح6.

(14) البحار 77 : 173 ح 7.

(15) نهج البلاغة : قصار الحكم 246، عنه البحار 71 : 53 ح 85.

(16) غرر الحكم : 278 ح 6141.

(17) مستدرك الوسائل 11 : 353 ح 13238.