الفصل العشرون
العلاقة مع المرأة
«وَإِيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْن، وَعَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْن.
وَاكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ، وَلَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ.
وَلاَ تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَة، وَلاَ تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا، وَلاَ تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا.
وَإِيَّاكَ وَالتَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَة، فَإِنَّ ذلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَى السُّقْمِ، وَالْبَرِيئَةَ إِلَى الرَّيْبِ.
وَاجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَان مِنْ خَدَمِكَ عَمَلا تَأْخُذُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلاَّ يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ.
وَأَكْرِمْ عَشيِرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَيَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ. إِسْتَوْدِعِ اللهَ دِينَكَ وَدُنْيَاكَ، وَاسْأَلْهُ خَيْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ وَالاْجِلَةِ، وَالدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ، وَالسَّلاَمُ».
التشاور مع النساء:
قوله (عليه السلام): «وَإِيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْن، وَعَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْن. وَاكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ، وَلَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ».
نرى الإمام (عليه السلام) يستمرّ في إلقاء وصاياه وعظاته البالغة على ولده المجتبى (عليه السلام)، فينهاه عن ذكر ما يزري بالإنسان من صنوف الكلام، ثمّ يعرّض على النساء ومشاورتهنّ، فيظهر حقيقة المرأة بأجلى صورها وأوضحها، ويعرضها عرضاً دقيقاً لا يقصد من ورائه إلاّ تزييف آرائها، وأنّ عزمها إلى وهن، وأنّ رأيها إلى أفن.
ويبدو من كلامه (عليه السلام) أنّ المرأة غير صالحة للإستشارة والحوار في الأُمور وبخاصّة الأُمور المهمّة منها، وليس من شكّ أنّ المرأة ناقصة في تكوينها العقلي ـ وقد استعرضنا هذه النكتة في المجلّد الثاني من كتابنا الجواهر الروحية ـ ، وهي لا تبلغ مهما بلغت مرتبة الرجل، ولا تستطيع يوماً أن تقف في مصاف الرجال جنباً إلى جنب ما دامت العاطفة والشفقة، أو قل بساطتها التي تشابه بساطة الطفل وسذاجته من جوانب عديدة يطغى على نفسها.
فهي إذاً لا تصلح لجعلها في موضع الحكم أو في مرتبة مهمّة لا ينوء بعبئها الثقيل إلاّ ذو عزم وحزم عظيمين، ولو صلحت للإستشارة فلا يكون ذلك إلاّ مجاراة لها ومماشاة لرضاها، ثمّ مخالفة ومعاكسة في العمل كما هو منطوق بعض ما يؤثر: «شاوروهنّ وخالفوهنّ»(1).
وممّا يلاحظ أنّ كلام الإمام (عليه السلام) لا يدلّ على أنّ نقص المرأة سنّة مطردة في كلّ امرأة على الخصوص، وإنّما هي تجري في الأكثرية الغالبة، وليس من شكّ في أنّ بين النساء من تفضّل كثيراً من الرجال، وتصلح لما يصلح له العظماء وزيادة.
ولا يخفى أنّ وجود امرأة كهذه قليل أو قل نادر، لأنّ ذلك يعتبر شذوذاً وتحدّياً على الطبيعة، ـ راجع موضوع المرأة في المجلّد الأوّل من كتابنا الجواهر الروحية ـ .
الحجاب:
وينقلها الإمام (عليه السلام) من هذا التحذير إلى شيء آخر ممّا يمتّ إلى المرأة وطبيعتها بصلة قوية، وهو أن تحتجب المرأة وتلحّ في الاحتجاب، لأنّ ذلك أستر وأبقى عليها، كما أنّ عليها أن تكفّ بصرها عن رؤية الأجنبي، بل إنّ الإمام (عليه السلام)لم يكتف بهذا كلّه بل أمر الزوج أن يجعل معرفتها محدودة بحيث لا تتعدّاه إلى غيره بقوله: «وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل».
وليس مفهوم هذا النصّ هو أن لا تعرف أحداً ولو من ناحية الاسم فقط فإنّ ذلك ممّا لم يكن، بل يقصد أن لا يكون في نفسها حبّ وتعلّق بغير زوجها، وأن يكون قلبها مرآة صافية تعكس صورة زوجها فحسب، دون أن تكون مرآة يتطلّع إليها الأجنبي، وهذا هو المقصود من المعرفة.
ولم يمض (عليه السلام) في وصيّته لولده إلاّ بعد أن كانت جارية ونافذة في أهله وزوجه، وهي بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهي التي قد سألها أبوها يوماً: ما أحسن الأشياء إلى المرأة، فكان جوابها منطوياً على مدى عفّتها واحتجابها وهو: أن لا ترى أحداً وأن لا يراها أحد، فكان ذلك قصارى الاحتجاب والعفّة.
ولا شكّ في أنّ دخول الرجل على المرأة ليس بأقلّ محذوراً وعاقبة من رؤية الرجل لها، ولعلّ قوله (عليه السلام): «وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهنّ»، يفسّر لنا أنّ دخول الرجل عليها ممّا يؤدّي في كثير من الأحيان الى الخلوة بها، والتمكّن منها أكثر ممّا لو رآها خارجاً، وليس يعقب ذلك عندئذ إلاّ حدوث شيء لا تحمد عقباه.
وطبيعي أنّ إلقاء الحجاب عن وجه المرأة قد أسفّ بكثير من الأُمم إلى الخلاعة والتهتّك والمجون، والمرأة باعتبار مرونتها وسهولة نحولها وانفعالها لا تستطيع أن تحتفظ بعفّتها ما دامت تقابل الرجل وجهاً لوجه، وأنّى لها أن تحتفظ بها بين رجل رضيها ورضيته.
المرأة ريحانة:
قوله (عليه السلام): «وَلاَ تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَة، وَلاَ تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا، وَلاَ تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا. وَإِيَّاكَ وَالتَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَة، فَإِنَّ ذلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَى السُّقْمِ، وَالْبَرِيئَةَ إِلَى الرَّيْبِ».
ليس بوسعي أن أُفسّر كلامه (عليه السلام): «ولا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها»، وليس بوسعي أن أجد إلى تفسير هذه العبارة طريقاً يؤدّي إلى المقصود.
فقد اختلف الشرّاح في شأنها، فقال البعض منهم: إنّ الإمام يقصد منها أن لا تكلّف المرأة مشاقاً وأتعاباً قد طالما خرجت عن طوقها، ولا كان في مقدورها الاتيان بها، لأنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة.
وقال آخر: إنّ معنى ذلك أن لا تكلّف المرأة بشيء أصلا، ولا يحقّ لزوج أن يأمر زوجه أيّاً كان ذلك الأمر، لأنّ الشارع المقدّس احترمها ورفع من مقامها، وجعل الغاية من اتّخاذ الرجل إيّاها واقترانه بها غاية شريفة، وهي إنجاب النسل عن الطريقة التناسلية، والعملية التناسلية حقّ مشترك بينهما.
فهي حقّ من حقوق الزوجة، وهي حقّ من حقوق الزوج، إذ يجب على الزوجة مطاوعة الزوج متى طلب منها حقّه، وعلى الزوج أداء حقّ الزوجة باشباع رغبتها الجنسية ما أمكنه ذلك، وإذا لم يجد الرجل في قلبه ذرّة من حبّ، وكمية من ودّ فما عليه إلاّ تأدية حقّها مرّة في كلّ أربعة أشهر ما لم يمنعه مانع أو يصدّه صادّ.
وقال بعض آخر: إنّ المراد أن لا يجعل الرجل من المرأة رجلا آخراً تعمل عمله، وتنزل معه إلى السوق لتواجه جميع الطبقات من الناس وتشاركهم في مهام الأُمور، وتتسنّم المناصب الراقية لما بينّاه أوّلا من أنّها رقيقة القلب، حسّاسة المشاعر، تتألّم وتنفعل بسرعة، وتتحوّل وتتغيّر من طبيعة إلى أُخرى كالطفل، فلذلك لا يصلح لها أن ترتقي منصب الحكم والقضاء، ولا أن تخدم المجتمع خدمة فيها شيء كثير من عناء الفكر والجسد، لأنّها ريحانة وليست بقهرمانة.
كانت الخيزران كثيراً ما تكلّم موسى الهادي ابنها لمّا استخلف في الحوائج، وكان يجيبها إلى كلّ ما تسأل، حتّى مضت أربعة أشهر من خلافته، وقد انثال الناس عليها وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدوا إلى بابها، فكلّمته يوماً في أمر فلم يجد إلى إجابتها سبيلا، واحتجّ عليها بحجّة، فقالت: لابدّ من إجابتي، فقال: لا أفعل، قالت: إنّي قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، فغضب موسى وقال: ويلي على ابن الفاعلة قد علمت أنّه صاحبها، والله لا قضيتها لك ولا له.
قالت: والله لا أسألك حاجة أبداً، قال: إذاً والله لا أُبالي، فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعبي كلامي، والله وأنا بريء من قرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لئن بلغني أنّه وقف أحد من قوّادي وخاصّتي وخدمي وكتّابي على بابك لأضربنّ عنقه، ولأقبضنّ ماله، فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدوا إلى بابك كلّ يوم، أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك، إيّاك ثمّ إيّاك أن تفتحي فاك في حاجة لملّي أو ذمّي، فانصرفت وما تعقل ما تطأ عليه، ولم تنطق عنده بحلوة ولا مرّة بعدها حتّى هلك(2).
ويخطر على بالي أنّ المسعودي ذكر في «مروج الذهب» في أواخر أحوال محمّد الأمين، انّه لمّا قتل محمّد الأمين دخل على زبيدة بعض خدمها فقال: ما يجلسك وقد قتل أمير المؤمنين محمّد، فقالت: ويلك وما أصنع؟ فقال: تخرجين فتطلبين بثأره كما خرجت عائشة تطلب بدم عثمان، فقالت: إخسأ لا أُمّ لك، ما للنساء وطلب الثار، ومنازلة الأبطال(3).
أجل نحن لا نكلّف المرأة فوق طاقتها، لأنّها متعة ولذّة فحسب، وليست خادمة تستخدم لأشقّ الأُمور وأصعبها.
نحن نريد أن نراها دائماً أمام أبصارنا تتحرّك وتمشي بحسن واعتدال لكي نتمتّع باطالة النظر إليها، وتبتهج نفوسنا بها كلّما اجتمعنا على المائدة، تحدّثنا أمر أولادها وصغارها، وما كانوا يصنعونه في البيت حينما نغادره إلى أعمالنا، وما يحدّثونه من لغط وضوضاء، فكانوا بذلك يؤدّون حقّ الطفولة وواجبها.
نحن لا نريد للمرأة الخمول والجمود والجهل والغباوة، بل نريد لها الحشمة والوقار والعفّة والرزانة، وليس هذا بمنغص لحياتها الدراسية، ولا مكدر لحياتها العلمية، فإنّها تستطيع أن تجعل من عفافها وحجابها مدرسة علوم ومعارف، ومن وراء ذلك تنفع المجتمع الإنساني بما تسديه من خدمة صحيحة غير مشوبة بجهل ولا دعارة، ولا ممزوجة بتبذل وخلاعة.
فإذا كانت هذه بنتاً وهي كما نريد صارت في بيت أبيها كالسراج الذي ينير في جنباته، فيسعد أهلهابعفّتها ومعرفتها، ويرتاح أبوها من الخوف عليها، وإذا صارت في بيت زوجها كانت تاج رأسه، وملكة قلبه، وإذا أعقبت أنجالا صارت الرؤوم الحنون والمدرّسة السيارة لهم، غرست في نفوسهم بذور الخير للإنسانية.
هذه بعض الجوانب البارزة في النظام الإسلامي بالنسبة إلى المرأة، وقد تحدّثنا عن هذا بكثير وكثير، ونزيد هنا بأن نقول:
حقوق المرأة:
في الشرق اليوم «هيجة» تسمّى حقوق المرأة، والمطالبة بالمساواة الكاملة مع الرجل.
وفي وسط هذه «الهيجة» التي تشبه الحمى، يهذي بعض المحمومين والمحمومات باسم الإسلام، بعضهم ـ للتوريط ـ يقول: إنّ الإسلام قد ساوى بين الجنسين في كلّ شيء، وبعضهم ـ جهلا منه أو غفلة ـ يقول: إنّ الإسلام عدوّ للمرأة، ينتقص كرامتها، ويهين كبرياءها، ويحطم شعورها بذاتيّتها، ويدعها في مرتبة أقرب للحيوانية، متاعاً حسياً للرجل، وأداة للنسل ليس غير، وهي في هذا كلّه في موضع التابع من الرجل، يسيطر عليها في كلّ شيء، ويفضلها في كلّ شيء.
وهؤلاء وأُولئك لا يعرفون حقيقة الإسلام، أو يعرفونها ثمّ يلبسون الحقّ بالباطل ابتغاء الفتنة ونشراً للفساد في المجتمع، ليسهل الصيد لمن يريد الصيد في الأقذار.
وقبل أن نبيّن حقيقة وضع المرأة في الإسلام، يجدر بنا أن نلمّ إلمامة سريعة بتاريخ قضية المرأة في أُوربا، فهي منبع الفتنة التي فتنت الشرق عن طريق التقليد.
المرأة في اُوربا:
كانت المرأة في أُوربا وفي العالم كلّه هملا لا يحسب له حساب.
كان العلماء والفلاسفة يتجادلون في أمرها، هل لها روح أم ليس لها روح، وإذا كان لها روح فهل هي روح إنسانية أم حيوانية، وعلى فرض أنّها ذات روح إنسانية فهل وضعها الاجتماعي والإنساني بالنسبة للرجل هو وضع الرقيق، أم هو شيء أرفع قليلا من الرقيق.
وحتّى في الفترات القليلة التي استمتعت فيها المرأة بمركز اجتماعي مرموق، سواء في اليونان أو في الامبراطورية الرومانية، لم يكن ذلك مزية للمرأة كجنس، وإنّما كان لنساء معدودات، بصفتهنّ الشخصية، أو لنساء العاصمة بوصفهنّ زينة للمجالس، وأدوات من أدوات الترف التي يحرص الأغنياء والمترفون على إبرازها زهواً وعجباً، لكنّها لم تكن قطّ موضع الاحترام الحقيقي كمخلوق إنساني جدير بذاته أن يكون له كرامة، بصرف النظر عن الشهوات التي تحببه لنفس الرجل.
وظلّ الوضع كذلك في عهود الرقّ والاقطاع في أُوربا، والمرأة في جهالتها، تدلّل حيناً تدليل الترف والشهوة، وتهمل حيناً كالحيوانات التي تأكل وتشرب وتحمل وتلد وتعمل ليل نهار، حتّى جاءت الثورة الصناعية فكانت الكارثة التي لم تصب المرأة بشرّ منها في تاريخها الطويل.
لقد كانت الطبيعة الأُوربية على جميع عهودها كزة جاحدة، لا تسخو ولا ترتفع إلى مستوى التطوّع النبيل الذي يكلّف جهداً، ولا يفيد مالا أو نفعاً قريباً أو غير قريب، ولكن الأوضاع الاقتصادية في عهدي الرق والاقطاع والتكتّل، الذي كانا يستلزمانه في البيئة الزراعية، جعلا تكليف الرجل إعالة المرأة هو الأمر الطبيعي الذي تقتضيه الظروف، فضلا عن أنّ المرأة كانت تعمل في المنزل في الصناعات البسيطة التي تتيحها البيئة الزراعية، فكانت تدفع ثمن إعالتها بهذا العمل.
ولكن الثورة الصناعية قلبت الأوضاع كلّها في الريف والمدينة على السواء، فقد حطمت كيان الأُسرة وحلّت روابطها بتشغيل النساء والأطفال في المصانع، فضلا عن استدراج العمّال من الريفيّة القائمة على التكافل والتعاون، إلى المدنيّة التي لا يعرف فيها أحد أحداً، ولا يعول أحد أحداً، وإنّما يستقل كلّ إنسان بعمله ومنعته، وحيث يسهل الحصول على المتعة الجنسيّة من طريقها المحرّم، فتهبط الرغبة في الزواج وكفالة الأُسرة، أو تتأخّر سنوات طويلة على الأقلّ.
وليس همّنا هنا هو استعراض تاريخ أُوربا، ولكنّا نستعرض العوامل التي أثّرت في حياة المرأة فحسب.
قلنا إنّ الثورة الصناعية شغلت النساء والأطفال، فحطمت روابط الأُسرة وحلّت كيانها، ولكن المرأة هي التي دفعت أفدح الثمن من جهدها وكرامتها، وحاجاتها السيكلوجية والمادية، فقد نكّل الرجل عن إعالتها من ناحية، وفرض عليها أن تعمل لتعول نفسها حتّى لو كانت زوجة وأُمّاً، واستغلّتها المصانع أسوأ استغلال من ناحية أُخرى، فشغلتها ساعات طويلة من العمل، وأعطتها أجراً أقلّ من الرجل الذي يقوم معها بنفس العمل في نفس المصنع.
ولا تسأل لماذا حدث ذلك، فهكذا هي أُوربا، جاحدة كزّة كنود، لا تعترف بشيء اسمه كرامة بشرية، ولا تتطوّع مرّة واحدة بالخير حيث تستطيع أن تعمل الشرّ وهي آمنة.
تلك طبيعتها على مدار التاريخ، في الماضي والحاضر والمستقبل إلاّ أن يشاء الله لها الهداية والارتفاع.
وإذ كان النساء والأطفال ضعافا فما الذي يمنع من استغلالهما والقسوة عليهما إلى أقصى حد، إنّ الذي يمنع شيء واحد فقط هو الضمير، ومتى كان لأُوربا ضمير؟
ومع ذلك فقد وجدت قلوب إنسانية حيّة لا تطيق الظلم، فهبت تدافع عن المستضعفين من الأطفال، نعم الأطفال فقط، فراح المصلحون الاجتماعيون يندّدون بتشغيلهم في سنّ مبكرة، وتحميلهم من الأعمال ما لا تطيقه بنيتهم الغضّة التي لم تستكمل نصيبها من النموّ، وضآلة أُجورهم بالنسبة للجهد العنيف الذي يبذلونه، ونجحت الحملات، فرفعت رويداً رويداً سنّ التشغيل، ورفعت الأُجور، وخفضت ساعات العمل.
أمّا المرأة فلم يكن لها النصير، فنصرة المرأة تحتاج إلى قدر من ارتفاع المشاعر لا تطيقه أُوربا، لذلك ظلّت في محنتها، تنهك نفسها في العمل ـ مضطرّة لاعالة نفسها ـ وتتناول أجراً أقلّ من أجر الرجل مع اتّحاد الانتاج والجهد المبذول.
وجاءت الحرب العظمى الأُولى وقتل عشرة ملايين من الشباب الأُوربيين والأمريكان، وواجهت المرأة قسوة المحنة بكلّ بشاعتها، فقد وجدت ملايين من النساء بلا عائل، إمّا لأنّ عائلهنّ قد قتل في الحرب، أو شوّه، أو فسدت أعصابه من الخوف والذعر والغازات السامّة والخانقة، أو لأنّه خارج من حبس السنوات الأربع يريد أن يستمتع ويرفّه عن أعصابه، ولا يريد أن يتزوّج ويعول أُسرة تكلّفه جهداً في المال والأعصاب.
ومن جهة أُخرى لم تكن هناك أيد عاملة من الرجال تكفي لاعادة تشغيل المصانع لتعمير ما خرّبته الحرب، فكان حتماً على المرأة أن تعمل، وإلاّ تعرّضت للجوع هي ومن تعول من العجائز والأطفال.
وكان حتماً عليها كذلك أن تتنازل عن أخلاقها، فقد كانت أخلاقها قيداً حقيقياً يمنع عنها الطعام، إنّ صاحب المصنع وموظّفيه لا يريدون مجرّد الأيدي العاملة، فهم يجدون فرصة سانحة والطير يسقط من نفسه ـ جائعاً ـ ليلتقط الحبّ، فما الذي يمنع من الصيد؟ ألعلّة الضمير؟ وما دامت قد وجدت ـ بدافع الضرورة ـ امرأة تبذل نفسها لتعمل، فلن يتاح العمل إلاّ للّتي تبذل نفسها للراغبين.
ولم تكن المسألة مسألة الجوع إلى الطعام فحسب.
فالجنس حاجة بشرية طبيعية لابدّ لها من إشباع، ولم يكن في وسع الفتيات أن يشبعن حاجتهنّ الطبيعية ولو تزوّج كلّ من بقي حيّاً من الرجال، بسبب النقص الهائل الذي حدث في عدد الرجال نتيجة الحرب، ولم تكن عقائد أُوربا وديانتها تسمح بالحلّ الذي وضعه الإسلام لمثل هذه الحالة الطارئة ـ وهو تعدّد الزوجات ـ لذلك لم يكن بدّ للمرأة أن تسقط راضية أو كارهة، لتحصل على حاجة الطعام وحاجة الجنس، وترضي شهوتها إلى الملابس الفاخرة وأدوات الزينة، وسائر ما تشتهيه المرأة من أشياء.
وسارت المرأة في طريقها المحتوم، تبذل نفسها للراغبين، وتعمل في المصنع والمتجر، وتشبع رغائبها عن هذا الطريق أو ذاك، ولكن قضيّتها زادت حدّة، فقد استغلّت المصانع حاجة المرأة إلى العمل، واستمرّت في معاملتها الظالمة التي لا يبرّرها عقل ولا ضمير، فظلّت تمنحها أجراً أقلّ من أجر الرجل الذي يؤدّي نفس العمل في نفس المكان.
ولم يكن بدّ من ثورة، ثورة جامحة تحطّم ظلم أجيال طويلة وقرون.
وماذا بقي للمرأة؟ لقد بذلت نفسها وكبرياءها وأُنوثتها، وحرمت من حاجتها الطبيعية في أُسرة وأولاد تحسّ بكيانها فيهم، وتضمّ حياتها إلى حياتهم فتشعر بالسعادة والامتلاء، أفلا تنال مقابل ذلك ـ على الأقل ـ المساواة في الأجر مع الرجل، حقّها الطبيعي الذي تقرّره أبسط البديهيّات؟
ولم يتنازل الرجل الأُوربي عن سلطانه بسهولة، أو قل لم يتنازل عن أنانيّته التي فطر عليها، وكان لابدّ من احتدام المعركة واستخدام جميع الأسلحة الصالحة للعراك.
استخدمت المرأة الاضراب والتظاهر، واستخدمت الخطابة في المجتمعات واستخدمت الصحافة، ثمّ بدا لها أنّها لابدّ أن تشارك في التشريع لتمنع الظلم من منبعه، فطالبت أوّلا بحقّ الانتخاب، ثمّ بالحقّ الذي يلي ذلك بحكم طبائع الأشياء وهو حقّ التمثيل في البرلمان، وتعلّمت على نفس الطريقة التي يتعلّم بها الرجل، لأنّها صارت تؤدّي نفس العمل، وطالبت كنتيجة منطقيّة لذلك أن تدخل وظائف الدولة كالرجل، ما داما قد أُعدّا بطريقة واحدة ونالا دراسة واحدة.
تلك قصة «كفاح المرأة لنيل حقوقها» في أُوربا، قصّة مسلسلة، كلّ خطوة فيها لابدّ أن تؤدّي إلى الخطوة التالية رضي الرجل أو كره، بل رضيت المرأة أو كرهت، فهي ذاتها لم تعد تملك أمرها في هذا المجتمع الهابط المنحلّ الذي أفلت منه الزمام.
ومع ذلك كلّه فقد تعجب حين تعلم أنّ انكلترا ـ أُمّ الديمقراطية ـ ما تزال إلى هذه اللحظة تمنح المرأة أجراً أقلّ من أجر الرجل في وظائف الدولة رغم أنّ في مجلس العموم نائبات محترمات!!
* * *
حقوق المرأة في الاسلام:
ونعود إلى وضع المرأة في الإسلام، لنعرف إن كانت ظروفنا التاريخية والجغرافية والاقتصادية والعقيدية والتشريعية، تجعل للمرأة «قضية» تكافح من أجلها، كما كان للمرأة الغربية قضية، أم إنّها شهوة التقليد الخالصة، والعبودية الخفيّة للغرب ـ التي تجعلنا لا نبصر الأشياء بعيوننا، ولا نراها في حقيقتها ـ هي التي تملأ الجوّ بهذا الضجيج الزائف في مؤتمرات النساء.
1 ـ المساواة في القيمة البشرية:
من البديهيّات الإسلامية التي لا تحتاج إلى ذكر ولا إعادة أنّ المرأة في عرف الإسلام كائن إنساني له روح إنسانيّة من نفس «النوع» الذي منه روح الرجل: (يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيراً ونساء) [النساء : 1].
فهي إذن الوحدة الكاملة في الأصل والمنشأ والمصير، والمساواة الكاملة في الكيان البشري، تترتّب عليها كلّ الحقوق المتّصلة مباشرة بهذا الكيان، فحرمة الدم والعرض والمال، والكرامة التي لا يجوز أن تلمز مواجهة أو تغتاب، ولا يجوز أن يتجسّس عليها، أو تقتحم الدور، كلّها حقوق مشتركة لا تمييز فيها بين جنس وجنس، والأوامر والتشريعات فيها عامة للجميع:
(يا أيّها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب)[الحجرات : 11].
(... ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً)[الحجرات : 12].
(يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) [النور : 27].
والجزاء في الآخرة واحد للجنسين: (فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أُنثى بعضكم من بعض) [آل عمران : 195].
2 ـ المساواة في الشخصية القانونية:
وتحقيق الكيان البشري في الأرض متاح للجنسين: الأهلية للملك والتصرّف فيه بجميع أنواع التصرّف من رهن واجارة ووقف وبيع وشراء واستغلال ... الخ (للرجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون) [النساء : 7]، (للرجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب ممّا اكتسبن) [النساء : 32].
ولابدّ هنا من وقفة عند أمر أو أمرين بشأن حقّ الملكية والتصرّف والانتفاع، فقد كانت شرائع أُوربا «المتحضّرة» تحرم المرأة من كلّ هذه الحقوق إلى عهد قريب، وتجعل سبيلها الوحيد إليها عن طريق الرجل زوجاً كان أو أباً أو ولي أمر، أي أنّ المرأة الأُوربية ظلّت أكثر من اثني عشر قرناً بعد الإسلام لا تملك من الحقوق ما أعطاها الإسلام.
ثمّ هي حين ملكتها لم تأخذها سهلة، ولا احتفظت بأخلاقها وعرضها وكرامتها، وإنّما احتاجت أن تبذل كلّ ذلك، وتتحمّل العرق والدماء والدموع، لتحصل على شيء ممّا منحها الإسلام ـ كعادته ـ تطوّعاً وإنشاء، لا خضوعاً لضرورة اقتصادية، ولا إذعاناً للصراع الدائر بين البشر، ولكن إحساساً منه بالحقّ والعدل الأزليين، وتطبيقاً لهما في واقع الأمر لا في عالم المثل والأحلام.
والأمر الثاني أنّ الشيوعية خاصّة والغرب عامّة، يعتبرون الكيان البشري هو الكيان الاقتصادي، ويقولون صراحة إنّ المرأة لم يكن لها كيان لأنّها لم تكن تملك، أو لم يكن لها حقّ التصرّف فيما تملك، وأنّها صارت مخلوقاً آدمياً فقط حين استقلّت اقتصادياً، أي حين صار لها ملك خاص مستقلّ عن الرجل تستطيع أن تعيش منه وتتصرّف فيه.
وبغضّ النظر عن إنكارنا لتحديد الكيان البشري بهذه الحدود الضيّقة، والهبوط به حتّى يصبح عرضاً اقتصادياً لا غير، فإنّنا نوافقهم ـ من حيث المبدأ ـ على أنّ الاستقلال الاقتصادي له أثر في تكوين المشاعر وتنمية الشعور بالذات.
وهنا يحقّ للإسلام أن يفخر بما أعطى المرأة من كيان اقتصادي مستقلّ، فصارت تملك وتتصرّف وتنتفع بشخصها مباشرة بلا وكالة، وتعامل المجتمع بلا وسيط.
ولم يكتف الإسلام بتحقيق كيان المرأة في مسألة الملكية، بل حقّقه في أخطر المسائل المتعلّقة بحياتها وهي مسألة الزواج، فلا يجوز أن تزوّج بغير إذنها، ولا يتمّ العقد حتّى تعطي هي الاذن: «لا تزوج الثيّب حتّى تستأمر، ولا تزوج البكر حتّى تستأذن، وإذنها صمتها».
ويصبح العقد باطلا إذا أعلنت أنّها لم تبد موافقتها عليه، وقد كانت المرأة ـ في غير الإسلام ـ تحتاج إلى سلوك طرق ملتوية لتتهرّب من زواج لا تريده، لأنّها لا تملك شرعاً ولا عرفاً أن ترفض، ولكن الإسلام أعطاها هذا الحقّ الصريح، تستخدمه متى أرادت، بلى أعطاها أن تخطب لنفسها، وهو آخر ما وصلت إليه أُوربا في القرن العشرين، وحسبته انتصاراً هائلا على التقاليد البالية العتيقة!
ويبلغ من تقدير الإسلام لمقوّمات الكيان البشري ـ في عصور كان يغشيها الجهل والظلام ـ أن اعتبر العلم والتعلّم ضرورة بشرية، ضرورة لازمة لكلّ فرد لا لطائفة محدودة من الناس، فقرّر للملايين حقّ التعلّم، بل جعله فريضة وركناً من الايمان بالله على طريقة الإسلام.
وهنا كذلك يحقّ له أن يفخر بأنّه أوّل نظام في التاريخ نظر إلى المرأة على أنّها كائن بشري، لا يستكمل مقوّمات بشريّته حتّى يتعلّم، شأنها شأن الرجل سواء بسواء، فجعل العلم فريضة عليها كما هو فريضة على الرجل، ودعاها أن ترتفع بعقلها، كما ترتفع بجسدها وروحها عن مستوى الحيوان، بينما ظلّت أُوربا تنكر هذا الحقّ إلى عهد قريب، ولم تستجب إليه إلاّ خضوعاً للضرورات.
الى هذا الحدّ وصل تكريم الإسلام للمرأة، وما يستطيع أحد مهما أُوتي القدرة على التبجح أن يقول: إنّ فكرة الإسلام في كلّ هذه الأُمور قائمة على أنّ المرأة مخلوق ثانوي، أو تابع في وجوده لمخلوق آخر، أو أنّ دورها في الحياة دور ضئيل لا يؤبه له.
فلو كان الأمر كذلك ما اعتنى بتعليمها، والتعليم بالذات مسألة لها دلالة خاصة، وتكفي وحدها ـ دون حاجة إلى المسائل الأُخرى ـ لتقرير الوضع الحقيقي للمرأة في الإسلام، وهو وضع كريم عند الله وعند الناس.
3 ـ الفوارق الطبيعية:
ولكن الإسلام بعد هذا ـ بعد تقرير المساواة الكاملة في الإنسانية، والمساواة في جميع الحقوق التي تتّصل مباشرة بالكيان البشري المشترك بين الجميع ـ يفرّق بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق وبعض الواجبات، وهنا الضجّة الكبرى التي تثيرها نساء المؤتمرات، ويثيرها معهنّ كتّاب و «مصلحون» وشباب، يعلم الله أنّهم لم يريدوا بدعوتهم وجه الاصلاح، بل يريدون بها أن يجدوا المرأة سهلة التناول في المجتمع وفي الطريق، ولله درّ الصافي النجفي إذ يقول:
الناس سمّوا عصر نور عصرهم *** جهلا كمن سمّى الظلام النورا
فإذا هم بعلومهم يوماً مشوا *** فبخلقهم يتقهقرون دهورا
* * *
الغيرة على النساء:
ويمضي (عليه السلام) في تحذير ولده ووعظه، فينهاه عن التغاير في غير موضع الغيرة لأنّ ذلك يؤدّي إلى ما يحذر منه، فيجب عليك أيّها الزوج أن لا تتوسّع في الغيرة فإنّ ذلك ممّا يكسب لك عاقبة وخيمة، وقد ينهيك إلى العار والشنار، فإنّ الرجل إذا تحذّر واحتاط كثيراً على امرأته قد يبصرها بما لم تكن تبصره من قبل فيوقعها في ما كان يحذره عليها، ويقع هو فيما كان يخشاه ويتجنّبه، وهذا معنى قوله (عليه السلام): «فإنّ ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم، والبريئة إلى الريب».
ما أحسن الغيرة ولكن في محلّها، وما أقبح الغيرة لو وقعت في غير موقعها.
معنى الغيرة:
الغيرة هي الحمية، وهي السعي في محافظة ما يلزم محافظته من الدين والعرض، وهي من نتائج الشجاعة، وكبر النفس وقوّتها، ومن شرائف الملكات وبها تتحقّق الرجولية والفحلية، والفاقد لها غير معدود من الرجال، وفقدانها من نتائج صغر النفس وضعفها، ومن المهلكات العظيمة، وربّما يؤدّي ذلك إلى الدياثة والقيادة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا لم يغر الرجل فهو منكوس القلب»(4).
وقال: «إذا أُغير الرجل في أهله أو بعض مناكحه من مملوكته فلم يغر، بعث الله طائراً يقال له القفندر حتّى يسقط على عارضة بابه، ثمّ يمهله أربعين يوماً، ثمّ يهتف به إنّ الله غيور يحبّ كلّ غيور، فإن هو غار وأنكر ذلك فأكبره، وإلاّ طار حتّى يسقط على رأسه فيخفق بجناحه على عينيه، ثمّ يطير عنه فينزع الله منه بعد ذلك روح الايمان، وتسمّيه الملائكة الديّوث»(5).
وقال (صلى الله عليه وآله): «كان إبراهيم (عليه السلام) غيوراً وأنا أغير منه، وجدع الله أنف من لا يغار على المؤمنين والمسلمين»(6).
أنواع الحمية:
وهي أنواع ثلاثة: حمية النسب، وحمية العرض، وحمية الدين.
1 ـ حمية النسب:
أمّا حمية النسب فأظهر ما تكون في العرب، وإليك طرفاً من مظاهرها فيهم:
1 ـ كان الفرزدق لا ينشد بين يدي الخلفاء والأُمراء إلاّ قاعداً، فدخل على سليمان بن عبد الملك، فأنشد شعراً فخر فيه بآبائه، وقال من جملته:
تالله ما حملت من ناقة رجلا *** مثلي إذا الريح لفتني على الكور
فقال سليمان: هذا المدح لي أم لك؟ قال: لي ولك، فغضب سليمان وقال: قم فأتمم ولا تنشد بعده إلاّ قائماً، فقال الفرزدق: لا والله أو يسقط إلى الأرض أكثري، فقال سليمان: ويلي على الأحمق، وارتفع صوته (وسمع الضوضاء بالباب)، فقال سليمان: ما هذا؟ قيل له: بنو تميم على الباب يقولون: لا ينشد الفرزدق قائماً وأيدينا في مقابض سيوفنا، قال: فلينشد قاعداً(7).
2 ـ وفد الوليد بن جابر بن ظالم الطائي على معاوية في أيّام استقامة الأُمور له، فدخل عليه في جملة الناس، فلمّا انتهى إليه استنسبه فانتسب له، فقال: أنت صاحب ليلة الهرير، قال: نعم، قال: والله ما تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة، وقد علا صوتك أصوات الناس وأنت تقول:
شدّوا فداءً لكم أُمّي وأب *** فإنّما الأمر غداً لمن غلب
هذا ابن عمّ المصطفى والمنتجب *** تنميه للعلياء سادات العرب
ليس بموصوم إذا نصّ النسب *** أوّل من صلّى وصام واقترب
قال: نعم أنا قائلها، قال: فلماذا قلتها؟ قال: لأنّا كنّا مع رجل لا تعلم خصلة توجب الخلافة، ولا فضيلة تصيّر إلى التقدمة إلاّ وهي مجموعة له.
كان أوّل الناس سلماً، وأكثرهم علماً، وأرجحهم حلماً، فات الجياد، فلا يشقّ غباره ويستولي على الأمد فلا يخاف عثاره، وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره، وسلك القصد فلا تدرس آثاره، فلمّا ابتلانا الله بافتقاده، وحوّل الأمر إلى من يشاء من عباده، دخلنا في جملة المسلمين، فلم ننزع يداً عن طاعة، ولم نصدع صفات جماعة، على أنّ لك منّا ما ظهر، وقلوبنا بيد الله، وهو أملك بها منك، فأقبل صفونا، وأعرض عن كدرنا، ولا تثر كامن الأحقاد، فإنّ النار تقدح بالزناد.
قال معاوية: وإنّك لتهدّدني يا أخا طي بأوباش العراق أهل النفاق، ومعدن الشقاق؟ فقال: يا معاوية، هم الذين أشرقوك بالريق، وحبسوك في المضيق، وذادوك عن سنن الطريق حتّى لذت منهم بالمصاحف، ودعوت إليها من صدق بها وكذبت، وآمن بمنزلها وكفرت، وعرف من تأويلها ما أنكرت.
فغضب معاوية وأدار طرفه فيمن حوله فإذا جلّهم من مضر ونفر قليل من اليمن، فقال: أيّها الشقي الخائن إنّي لأُخال أنّ هذا آخر كلام تفوّهت به، وكان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ، فعرف موقف الطائي ومراد معاوية فخافه عليه، فهجم عليهم الدار وأقبل على اليمانية، فقال: شاهت الوجوه ذلاًّ وقلاًّ وجدعاً وفلاًّ، وكشم الله هذه الأُنوف كشماً موعباً.
ثمّ التفت إلى معاوية فقال: إي والله يا معاوية ما أقول قولي هذا حبّاً لأهل العراق ولا جنوحاً إليهم ولكن الحقيقة تذهب الغضب، لقد رأيتك بالأمس خاطبت أخا ربيعة ـ يعني صعصعة بن صوحان ـ وهم أعظم جرماً عندك من هذا وأذكى لقلبك، وأقدح في صفاتك، وأجدّ في عداوتك، وأشدّ انتصاراً في حربك، ثمّ أثبتّه وسرّحته، وأنت الآن مجمع على قتل صاحبنا، زعمت استصغاراً لجماعتنا، فإنّا لا نمرّ ولا نحلى، ولعمري لو وكّلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدّك العاثر، وذكرك الداثر، وحدّك المفلول، وعرشك المثلول، فاربع على ظلعك، واطونا على بلالتنا، ليسهل لك حزننا، ويطمئنّ لك شاردنا، فإنّا لا نرأم بوقع الضيم، ولا نتلمّظ جرع الخسف، ولا نغمر بغمار الفتن، ولا ندر على الغضب.
فقال معاوية: الغضب شيطان فاربع نفسك أيّها الانسان، فإنّا لم نأت إلى صاحبك مكروهاً، ولم نرتكب منه مغضباً، ولم ننتهك منه محرماً، فدونكه فإنّه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره، فأخذ عفير بيد الوليد وخرج به إلى منزله، وقال له: والله لتؤبن بأكثر من هذا، ثمّ جمع من بدمشق من اليمانية وفرض على كلّ رجل دينارين في عطائه، فبلغت أربعين ألفاً، فتعجلها من بيت المال ودفعها إلى الوليد وردّه إلى العراق مسروراً(8).
2 ـ حمية العرض:
وأمّا حمية العرض: فهي عامة في الناس شاملة، وهي فيهم على ثلاث مراتب; إفراط، وتفريط، واعتدال.
أمّا الافراط: فهو أن تغلب على الإنسان حتّى تكدر عليه عيشه، وقد يفضي به هذا الافراط إلى أن يرمي بالسوء عرضه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ من الغيرة غيرة يبغضها الله عزّ وجلّ، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة»، وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تكثر الغيرة على أهلك فترمى بالسوء من أجلك».
وكان مسكين الدارمي أحد من يستهجن الغيرة، ويستقبح وقوعها في غير محلّها، فمن شعره في هذا المعنى:
ما أحسن الغيرة في حينها *** وأقبح الغيرة في غير حين
من لم يزل متهما عرسه *** مناصباً فيها لرجم الظنون
يوشك أن يغريها بالذي *** يخاف أو ينصبها للعيون
حسبك من تحصينها ضمها *** منك إلى خيم كريم ودين
لا تظهرنّ يوماً على عورة *** فيتّبع المقرون حبل القرين(9)
وقال بعض المحدّثين في معنى قول علي (عليه السلام): «إيّاك والتغاير في غير موضع الغيرة».
يا أيّها الغائر مه لا تغر *** إلاّ لما تدركه بالبصر
ما أنت في ذلك إلاّ كمن *** بيّته الدبّ لرمي الحجر(10)
وأمّا التفريط: فهو أن تفقد هذه القوّة أو تضعف في بعض الناس حتّى لا يبالي بعرضه وما يصنع به.
وأمّا الاعتدال: فهو الوقوف بها عند القصد، واستعمالها في حدود المروءة والحكمة.
فمن ذلك انّ المعتصم العباسي بلغه أنّ امرأة علوية في عمورية ضربها جلواز بالسوط على معصمها فصاحت وامعصماه، فتخيّل الجلواز أنّها هتفت بالمعتصم العباسي، فقال لها مستهزئاً بها: سيأتيك المعتصم على الخيول البلق.
فحملت هذه الكلمة إلى المعتصم وهو إذ ذاك في مجلس الشراب، فغار لذلك وحرّكته الحمية، فقال لساقيه: ويحك اختم الكأس انّ الخمر محرّم عليه حتّى يأخذ بثار ابنة عمّه، ثمّ قال لغلمانه: فتّشوا الاصطبلات أين ما وجدتم فرساً أبلقاً عليّ به.
فأحصوا فيها سبعين ألف فرس أبلق على شكل واحد، فتجهّز وأراد المسير، فبعض وزرائه ما أحبّ ذلك، أقبل إلى منجّم ورشاه بالمال وقال له: إذا أراد المعتصم هذا الوجه فقبّحه له ولا تحسن له المسير، فعرض المنجم ذلك على المعتصم عند عزمه على المسير، وقال: أيّها الملك إنّ طوالع النجوم قد انتحست، ولا أراك ظافراً في هذا الوجه، فالتفت أحد وزرائه الذي هو من البعض الذين رغبوا مسيره في هذا الوجه، وقال: يا أمير المؤمنين اسمع منّي ما أقول، ثمّ أنشأ:
دع النجوم لطراق تعيش بها *** وانهض بقوّة عزم أيّها الملك
إنّ النبيّ وأبناء النبي نهوا *** عن النجوم وقد عاينت ما ملكوا
فاستحسن قوله واستصوب رأيه، ثمّ سار، وكان قد أوصى أصحابه قبل أن يفتح تلك المدينة، قال لهم: إذا فتحنا بعون الله تعالى فادخلوا على تلبية واحدة (لبّيك أيّتها العلوية)، ثمّ انّه حاصرها أياماً وفتحها، فدخل أصحابه على تلبية واحدة يلبّون العلوية، ودخل هو وقد أرخى عمامته على عينيه وهو ينادي: لبيك يا ابنة العمّ.
ثمّ أقبل على ملكهم فقتله، وجلس على سريره، وأسلم من الناس من أسلم وقتل من قتل، ثمّ قال لغلمانه: احضروا لي كلّ علوية ضمّتها هذه البلدة، فأحضرت العلويات، فقال: اُدعوا لي كلّ جلواز فأحضروا الجلاوزة، فقام بين العلويات فنادى: أيّتكنّ العلوية التي ضربت وهتفت بي، فقامت تلك العلوية، فقالت: أنا يا ابن العمّ، فقال: اُنظري أيّ جلواز ضربك.
فجعلت تنظر في وجوههم إلى أن أشارت إلى واحد منهم وقالت: هذا، فأمر العقابين أن يبطحوه، ثمّ أمرهم فضربوه بالسياط حتّى تناثر لحمه ثمّ قال لسيّافه: اضرب عنقه، فقال: استخرج لي قحف رأسه، فاستخرجه له فالتفت عند ذاك لساقيه وقال: أين الكأس؟ قال: هو حاضر، فقال: اسكبه في هذا القحف، ثمّ جعل يشرب ويقول:
السيف والخنجر ريحاننا *** أُفّ على النرجس والآسي
شرابنا من دم أعدائنا *** وكأسنا جمجمة الرأس
3 ـ حمية الدين:
وأمّا حميّة الدين: فهي أيضاً شاملة، وقد يعبّر عنها بالعصبية، ولكن الفرق بينهما ظاهر، وكلّ منهما من ثمرات الغضب للدين، إلاّ أنّه إن اختصّ بالمدافعة أو الاشارة بالدين وآثاره، وتجرّد عن الطعن والتنقيص في غير الإنسان فهو حمية، وإلاّ فهو عصبيّة، والحمية في الدين محمودة ولا يخلو منها طبع، وإن اختلفت مراتبها في النفوس.
قال بعضهم: رأيت ببغداد رجلا مكفوف البصر يسأل الناس ويقول: من أعطاني فلساً سقاه الله تعالى على يد معاوية، قال: فتبعته حتّى خلوت به فلطمته لطمة أوجعته وقلت: عزلت عليّاً أمير المؤمنين عن الحوض يا فاسق، فقال: أتريد أن أسقيهم على يد أمير المؤمنين من حوض الكوثر بفلس واحد، لا والله لا كان ذلك أبداً، وأنا لم أذكر لمعاوية حوضاً في كلامي، فليسقهم من حيث شاء.
ويعجبني ذكر ما نقله محمّد طه نجف ـ أعلى الله مقامه ـ عن الشيخ جواد نجف (قدس سره): إنّ بعض من كان مشهوراً بالسرقة في طهران، سرق ليلة دار رجل يهودي ولم يعلم بأنّ صاحب الدار يهودي، فلمّا أصبح الصبح واشتهر أمر السرقة، علم السارق أنّ المسروق كان يهودياً، فجاء إليه كالمستخبر وقال: كم كانت سرقتك؟ قال: كذا مقدار، قال: اُكتبها بورقة حتّى أتجسّس عليها لعلّي أطّلع على من سرقها.
فلمّا كتبها ولم ير دعوى زيادة على ما أخذ منه، قال له: امض معي إلى الحاكم، فأخذه إلى الحاكم وأحضر له السرقة وسلّمها له، فقال له الحاكم: ويلك تأخذ مال المسلمين وتردّ مال اليهود، قال السارق: نعم إنّ المسلمين اخوة وإذا كان يوم القيامة أصلح بينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالالتماس من هذا والتوسّل لهذا، ولكن يشقّ عليّ أن يطأطئ رسول الله (صلى الله عليه وآله)رأسه بين يدي موسى بن عمران (عليه السلام) حين يقول له: إنّ رجلا من أصحابك سرق دار رجل من أصحابي، ويكيدني حين يأخذ رسول الله بيدي إليه ويخضع له ويقول: قل لصاحبك يعفو عن هذا القرنان.
وأمّا العصبيّة: فلا يخلو أيضاً منها طبع بشر، فكلّ ذي دين يتعصّب لدينه، إذ كلّ أحد يرى أنّه على حقّ ويعتقد أنّ غيره على ضلال فيتعصّب له.
قيل للبهلول: إنّه ورد في الحديث الصحيح إنّ يوم القيامة توضع أعمال الشيخين في كفّة من الميزان، وأعمال سائر الخلق في كفة أُخرى، فترجح أعمال الشيخين على أعمال الخلائق، فقال البهلول: إن كان هذا الحديث صحيحاً فالعيب في الميزان.
قصة الحجاج السلمي:
ومن هذا الباب قصّة الحجّاج بن عكّاظ السلمي في حسن تلطّفه، واحتياله، وآمال يقظته في توصّله إلى تحصيل ماله، وتلخيصها: انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا فتح خيبر وأعرس بصفيّة وفرح المسلمون، جاءه الحجّاج بن عكّاظ السلمي، وكان أوّل ما قدم أسلم تلك الأيام وشهد خيبر، فقال: يا رسول الله إنّ لي مالا عند صاحبتي أُمّ شيبة، ولي مال متفرّق في تجّار مكّة فأذن لي يا رسول الله في العود إلى مكّة عسى أسبق خبر إسلامي إليها، فإنّي أخاف إن علموا إسلامي أن يذهب جميع مالي بمكّة، فأذن لي لعلّي أخلصه.
فأذن له رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إنّي أحتاج أن أقول، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وأنت في حلّ، قال الحجّاج: فخرجت فلمّا انتهيت إلى الثنية ـ ثنية البيضاء ـ وجدت بها رجالا من قريش يستمعون الأخبار، وقد بلغهم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سار إلى خيبر، وكانوا قد عرفوا أنّ خيبر قرية الحجاز ريفاً ومنعة رجال، فهم يتجسّسون الأخبار، فلمّا أبصروني قالوا: هذا لعمر الله عنده الخبر، أخبرنا يا حجّاج فقد بلغنا أنّ القاطع ـ يعنون النبي ـ قد سار إلى خيبر.
قال: فقلت لهم: بلغني أنّه قد سار إليها وعندي من الخبر ما يسرّكم؟ قال: فلتبطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجّاج، قال: فقلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قطّ وأسر محمّد أسراً، وقالوا: لا نقتله حتّى نبعث به إلى مكّة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم، قال: فقاموا وصاحوا بمكّة: قد جاءكم الخبر، وهذا محمّد إنّما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم.
قال: فقلت: أعينوني على جمع مالي على غرمائي بمكّة فإنّي أُريد أن أقدم خيبر فأُصيب من ثقل محمّد وأصحابه قبل أن يسبقني التجّار إلى هنالك، فقاموا معي فجمعوا مالي كأحبّ جمع سمعت به، قال: وجئت صاحبتي فقلت: مالي لعلّي ألحق، خيبر فأُصيب من فرض البيع قبل أن يسبقني التجّار.
فلمّا سمع العبّاس بن عبد المطّلب الخبر وما جاءه عنّي أقبل حتّى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجّار، فقال: يا حجّاج ما هذا الخبر الذي جئت به؟ قال: قلت: وهل عندك كتمان لما أضعه عندك، قال: نعم، قلت: فاستأخر عنّي حتّى ألقاك على خلا، فإنّي مشغول في جمع مالي كما ترى، فانصرف عنّي حتّى أفرغ.
قال: حتّى إذا فرغت من جمع كلّ شيء كان لي بمكّة، وأجمعت على الخروج لقيت العبّاس، فقلت: احفظ عليّ حديثي يا أبا الفضل فإنّي أخشى الطلب واكتم عليّ ثلاثاً، ثمّ قل ما شئت، قال: أفعل، فقلت: والله إنّي تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم ـ يعني صفيّة ـ ولقد فتح خيبر وانتقل ما فيها وصارت له ولأصحابه، قال: ما تقول يا حجّاج؟ قلت: إي والله فاكتم عنّي، وقد أسلمت وما جئت إلاّ مسلماً لآخذ مالي فرقاً من أن أُغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب.
قال: حتّى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلّة له وتخلّق وأخذ عصاه، ثمّ خرج حتّى أتى الكعبة وطاف بها، فلمّا رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلّد لحرّ المصيبة، قال: كلاّ والله الذي حلفتم به، لقد افتتح محمّد خيبراً وترك عروساً على ابنة ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه، قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلماً وأخذ ماله وانطلق ليلتحق بمحمّد وأصحابه ليكون معهم، قالوا: انفلت عدوّ الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ثمّ لم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك، فتوصّل بيقظته واحتياله إلى مخلصه وتخليص ماله.
الحزم مع العمّال:
قوله (عليه السلام): «وَاجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَان مِنْ خَدَمِكَ عَمَلا تَأْخُذُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلاَّ يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ».
نستنتج من هذه العبارات الجليلة مواداً تدبيرية هامّة سواء في حياتنا العامة أو الخاصّة، تعلّمنا كيف ندبّر أمر الخدم في المنزل، وأمر الخدم في خارجه، وكيف ننظّم أعمال العمّال ونجعلهم يعملون بكلّ ما لديهم من إمكانيّات، وقدر كلّ حسبما أوكل به، فعلى صاحب العمل أن ينظّم دفتراً لحساب العمّال، وترتيب أعمالهم اليومية وما يأتيه أحدهم من العمل ليعطي الأجر على قدر المشقّة، وليس مِنْ شكٍّ في أنّ هذا خير من أن يتواكلوا في الخدمة، ويلقي بعضهم العمل على عاتق البعض الآخر.
العلاقة مع العشيرة:
قوله (عليه السلام): «وَأَكْرِمْ عَشيِرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَيَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ. إِسْتَوْدِعِ اللهَ دِينَكَ وَدُنْيَاكَ، وَاسْأَلْهُ خَيْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ وَالاْجِلَةِ، وَالدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ، وَالسَّلاَمُ».
إنّما يُعرف الإنسان بأهله وعشيرته.
إنّما يُعرف الفرد بأقربائه وذويه.
إنّما يحميه ويذود عنه ويدافع دونه أبواه واخوانه.
إنّما يتمكّن أن يلعب الفرد في فضاء واسع من السعادة والرفاهية والأمان إذا ما حصل على عشيرة وأقرباء.
حقاً أنّ العشيرة جناح لمن أحبّ الطيران فوق المسافات الشاسعة من احياء الغبطة والسرور، وحقّاً إنّ العشيرة أصل يصير إليه الإنسان كلّما طلب إليه ان انتسب، وكلّما بوغت بمن يقول له هل تبارزني، وانّهم يد يصول بها الفرد، ويبطش بكلّ ما تمرّ عليه من حوادث ومصاعب ومشاقّ في سبيل الحياة، فهو بهذه اليد يسجّل في مقاومة تلك الحوادث والمشاقّ صفحة وصفحات.
يقول علي (عليه السلام) في مقام آخر: «أيّها الناس! إنّه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه، وألمّهم لشعثه، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به، ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه»(11).
ألا لا يعدلنّ أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقص إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه أيد كثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودّة.
وقد قالت الشعراء في هذا المعنى فأكثروا، فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة:
إذا المرء لم يغضب له حين يغضب *** فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبوا
ولم يحبه بالنصر قوم أعزّة *** مقاحيم في الأمر الذي يتهبّب
تهضمه أدنى العداة فلم يزل *** وإن كان غضباً بالضلامة يضرب
فآخ لحال السلم من شئت واعلمن *** بأنّ سوى مولاك في الحرب أجنب
ومولاك مولاك الذي إن دعوته *** أجابك طوعاً والدماء تصبب
فلا تخذل المولى وإن كان ظالماً *** فإنّ به تنأى الأُمور وترأب
ومن شعر الحماسة أيضاً:
أفيقوا بني حزن وأهواؤنا معاً *** وأرحامنا موصولة لم تقضب
لعمري لرهط المرء خير بقية *** عليه وإن غالوا به كلّ مركب
إذا كنت في قوم وأُمّك منهم *** لتعزى إليهم في خبيث وطيب
وإن حدّثتك النفس إنّك قادر *** على ما حوت أيدي الرجال فكذب
ومن شعر الحماسة أيضاً:
وما كنت أبغي العمّ يمشي على شقا *** وإن بلغتني من أذاه الجنادع
ولكن أُواسيه وأنسى ذنوبه *** لترجعه يوماً إليّ الرواجع
وحسبك من ذلّ وسوء منيعة *** مناواة ذي القربى وإن قيل قاطع
ومن شعر الحماسة أيضاً:
ألا هل أتى الأنصار انّ ابن بجدل *** حميداً شفى كلباً فقرّت عيونها
فأنا وكلباً كاليدين متى تقع *** شمالك في الهيجا تعفّها يمينها
وبعد أن أفرغ الإمام (عليه السلام) ما في وسعه أن يفرغه من الوصايا والعظات على ولده المحبوب، وبعد أن أدّى ما للبنوّة على الأُبوّة من حقوق، بعد فراغه من كلّ هذا لم يتركه وشأنه، وإنّما أوكل أمره إلى الله تعالى، واستودعه إيّاه في دينه ودنياه، سائلا المولى أن يقضي له بخير القضاء في الدنيا والآخرة، والعاجلة والآجلة، وبعد هذا كلّه أبلغه سلاماً من أب حنون إلى ولد بار.
* * *
هذا منتهى ما جادت به دراستي ومطالعاتي عن هذه الوصية، توخّيت بذلك خدمة الإنسانية، فإن لقيت هذه الخدمة قبولا وكانت ذا نفع، كان قبولها وتأثيرها خير جزاء لمعاناتي، وإلاّ فأسأل الله تعالى أن يلهم من هو أكثر أهلية لهذا العمل ليقوم بهذه الخدمة.
انتهى في اليوم السابع عشر من جمادى الثاني سنة 1378 هـ في النجف الأشرف
بقلم مؤلّفه حسن السيد علي القبانجي النجفي
***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحار 77 : 167 ضمن حديث 2.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 : 125 باب 31.
(3) مروج الذهب 3 : 415.
(4) الوسائل 14 : 108 ح3.
(5) الوسائل 14 : 108 ح4.
(6) البحار 103 : 248 ح33.
(7) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 : 129 باب 31.
(8) شرح النهج لابن أبي الحديد.
(9) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 : 127.
(10) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 : 127.
(11) البحار 74 : 101 ح53.