كلمة السيد القبانچي

لقد أحاطني سيّدي الحجّة برعاية أحسد عليها، وتفضّل مشكوراً بعد أن اطّلع على الكتاب بهذه الكلمة أجدني سعيداً بأن اُتوّج بها كتابي هذا، وله الامتنان.

 

تقديم

العلامة آية الله العظمى السيّد محمد جواد الطباطبائي

 

بسم الله الرحمن الرحيم ولله الحمد

بما انّ الإنسان ثنائيّ التركيب من نفس وبدن، صيّره الله تعالى نسخة لما أوجده من عوالم الموجودات الامكانيّة، وخمّر طينته من الظّلمات والنور، وركّب فيه دواعي الخير والشرّ، وعجنه من الموادّ المتخالفة، وجمع فيه القوى والأوصاف المتناقضة، وكانت الغاية القصوى من وضع النواميس والأديان، وبعثة المصطفين من عظماء الإنسان هو سوق هذه النسخة المفردة من مراتع البهائم والشياطين وايصالها إلى روضات العليّين، ولا يتيسّر ذلك إلاّ بالتخلي عن ذمائم الأخلاق ورذائل الصّفات، والتحلّي بشرائفها وفضائلها.

فكان من الواجب على كلّ فرد من أفراد هذا النوع العالي أن يأخذ أهبته، ويبذل همّته في تطهير قلبه عن أوساخ الطّبيعة وأرجاسها، وتغسيل نفسه عن أقذار الجسميّة وأنجاسها قبل أن يتيه في بيداء الشّقاق، ويهوي في مهاوي الضلالة والهلاك، ولا ريب في أنّ هذا لا يتأتّى إلاّ بمعرفة مهلكات الصّفات ومنجياتها، والعلم بأسبابها ومعالجاتها، وهذا هو الحكمة الحقّة التي مدح الله تعالى أهلها وقال: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(1) إذ هي الموجبة للحياة الحقيقية والسعادة السرمديّة، ومن طوى كشحه عنها ونبذها وراء ظهره فعلى شفا جرف الهلكات وفي نيران الشّهوات.

وكان السّلف من عظماء المجموعة وحكماء البشريّة، يبالغون في النشر والتّدوين والجمع والتّبيين لغرض تركيز هذه الفضائل في أفراد المجموعة على ما أدّت إليه قوّة أنظارهم وأدركوه بقرائحهم، ولمّا جاءت الشريعة الإسلامية بيّنت دقائقها وتفاصيلها; بحيث اضمحلّ في جنبها جميع ما قرّره أساطين الحكمة ومهرة العرفاء وغيرهم من أهل الملل والأديان، وكان أجمعها لكلا جنبي الحكمة النظريّة والعمليّة وصيّة سيّد الحكماء والموحّدين أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)لابنه الحسن، ولكن كان تقريبها وتركيزها في أذهان السّواد محتاجاً إلى بسط الكلام في هذه الحقائق الناصعة والجواهر الرّائعة، وقد تقدّم إلى شرحها سيادة الخطيب البارع الكبير، والمرشد المصلح الخطير، قرّة عيني العلاّمة الفذّ السيّد حسن آل القبانجي.

فإنّه أدام الله تعالى تأييده منذ نعومة أظفاره يواصل ليله بنهاره في توجيه الجمعيّات البشريّة ببيانه وبنانه، والحقّ والحقّ أقول: أنّ الرجل لا يكون مصلحاً حقّاً إلاّ إذا كانت وجهته قبل كلّ شيء تقويم أخلاق الأمّة، وتهذيب نفوسها، وغرس الأصول الطيّبة والمبادي الصحيحة في أفئدة النّاشئين، ومن أبدع ما أشرقت علينا شمسه من أسفاره الجليلة النافعة كتاب «علي والأُسس التربويّة في شرح الوصيّة» فإنّك بالنظر في صفحات هذا السّفر الجليل تعرف قيمة ما يسديه إلى أُمّته من وقت لآخر بتلك المؤلّفات القيّمة والصّحف الخلقيّة العظيمة التي تهديها سواء السّبيل، وتسمو بها الى الحياة الطيّبة، حياة الحكمة والرّشد والفضيلة والمروءة وغيرها من الخلال التي تكفل للأُمّة السعادة والهناء فلله درّك من لوذغيّ ماهر وعلاّمة نابغة، وَضّحْتَ وأجَدْتَ واستوعبتَ فهديتَ، جزاك الله عن التربية والآداب خيراً بالنبيّ وآله.

محمّد الجواد الطباطبائي التبريزي(2)

 

***

 

اقرأني أوّلا

كنت أتردّد منذ أمد بعيد بين مواصلة شرح لهذه الوصيّة كما ينبغي وإهماله بالكلية، إلى أن يتيح الله خصباً في الذهن، ونشاطاً في النفس، وقوّة في الفكر أكثر ممّا أجد، ولكن رأيت كما قال العماد الاصفهاني: «إنّه لا يكتب الإنسان كتاباً في يومه إلاّ قال في غده لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على إستيلاء النقص على البشر». كان هذا هو الحافز الوحيد على الخوض في عباب هذا البحر الطامي، البحر اللجي من الحكمة والمعرفة.

دخلت في الموضوع بعد إلحاح نفسي لم أجد له مدفعاً، ولا عنه حولا، معتقداً أنَّ ما أُلاقيه من صعوبة ووعورة(3) لا تذلل إلاّ بصبر وتوفيق، لما لهذه الوصية من الأهميّة ما لم يكن لغيرها من الوصايا، إذ كل فصل منها منهج تربوي، ومنهج سلوك، ومنهج تفكير، ومنهج حياة.

قبسات كل منها يصلح أن يكون أحد مفاهيم الفكرة الإسلامية، مفاهيمها الواقعية الضاربة في مناكب الأرض، المتلبسة بصميم الحياة.

تلك هي الخاصة الواضحة التي تمتاز بها وصايا الإمام علي (عليه السلام) من سائر وصايا المخلوقين، وتلك هي المقادير المحدودة التي تقتبسها الأفهام المحدودة من البحر اللّجي العظيم.

وحسب الذهن الواعي أن يلم بناحية واحدة أو أكثر من هذه النواحي الكثيرة والآفاق المترامية، وحسب الأذهان البشرية أن تتساند وتتساعد فتكشف منها أنواعاً كثيرة من العلم، وجوانب كثيرة من الهداية والإرشاد.

إنّ هذه الوصية لم تلاق من الكتّاب والشرّاح العناية التي تستحقّها، فقد بعدوا عن كثير من مطالبها المهمّة الثريّة التي يجد الإنسان فيها سعادته واطمئنانه لو أحسن استعمالها، ولم يعطوها نصيبها كما أعطوا غيرها ممّا هي دونها ودونها بأشواط.

ولقد كان حرياً أن يُحتَفل بها كما احتفلت هي بطاقات الحياة كلّها، ووجَّهت القلوب لكلّ منحة منحها الله، وكلّ آية من آيات الله.

حاولت في هذه الأوراق أن أُشير إلى هذه الثروة الضخمة وفوائدها، وإذا لم أبلغ الكمال فحسبي أني بذلت أقصى ما لديّ من جهد، وإذا لم أعرض على القارئ جميع حقائقها وأسرارها، فإنّي قدمت له ما يكفي للدلالة على عظمتها، وقوّة تعاليمها، وسموّ غايتها، وأنّها تشعّ أمواجاً من النور، وتفتح آفاقاً من الحياة.

المؤلف

 

***

 

ضبط الوصيّة

 

هذه الوصية الشريفة رواها جماعة من العلماء، وقد نقل السيد ابن طاووس (قدس سره)أنّ الشيخ الكليني رواها في كتاب الرسائل(4). وقد رواها في تحف العقول(5)، وذكر شيئاً منها ابن عبد ربه في «عقده»(6)، ورواها في كتاب منتخب الأعمال، وفي كتاب الكافي بإسناده عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في رسالته إلى الحسن (عليه السلام): «إيّاك ومشاورة النساء، إلى قوله: وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل»(7) ثمّ روى مثل ذلك عن الأصبغ بن نباتة إلاّ أنه قال: كتب بها الخ.

ونحن إذ ننقلها إنّما ننقلها عن السيد الأجل الحبر السيد ابن طاووس في كتابه كشف المحجة إلى ثمرة المهجة(8) في الفصل الرابع والخمسين والمائة، وإليك ما ذكره قدّس الله روحه بنصّه وعبارته:

«وقد وقع في خاطري أن أختم هذا الكتاب بوصية أبيك أمير المؤمنين (عليه السلام)الذي عنده علم الكتاب إلى ولده العزيز عليه، وبرسالته إلى شيعته وذكر المتقدّمين عليه، ورسالته في ذكر الأئمة من ولده (عليهم السلام)، ورأيت أن يكون رواية الرسالة إلى ولده بطريق المخالفين والمؤالفين فهو أجمع على ما تضمّنته من سعادة الدنيا والدين.

قال أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري في كتاب «الزواجر والمواعظ»(9) في الجزء الأول منه من نسخة تاريخها ذو القعدة من سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ما هذا لفظه:

وصيّة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لولده، ولو كان من الحكمة ما يجب أن يكتب بالذهب لكانت هذه.

وحدّثني بها جماعة، فحدّثني عليّ بن الحسين بن إسماعيل، قال: حدّثنا الحسن بن أبي عثمان الآدمي، قال: أخبرنا أبو حاتم المكتب يحيى بن حاتم بن عكرمة، قال: حدّثني يوسف بن يعقوب بأنطاكية، قال: حدّثني بعض أهل العلم، قال: لما انصرف علي (عليه السلام) من صفين إلى قنسرين كتب إلى ابنه الحسن بن علي (عليه السلام): من الوالد الفان، المقر للزمان، الخ.

وحدّثنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثنا سليمان بن الربيع النهدي، قال: حدّثنا كادح بن رحمة الزاهد، قال: حدّثنا صباح بن يحيى المزني.

وحدّثنا عليّ بن عبد العزيز الكوفي الكاتب، قال: حدّثنا جعفر بن هارون بن زياد، قال: حدّثنا محمّد بن عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جدّه جعفر الصادق، عن أبيه، عن جدّه (عليهم السلام)، أنّ علياً كتب إلى الحسن بن علي.

وحدّثنا علي بن محمّد بن إبراهيم التستري، قال: حدّثنا جعفر بن عنبسة، قال: حدّثنا عبّاد بن زياد، قال: حدّثنا عمرو بن أبي المقدام، عن أبي جعفر محمّد بن علي (عليه السلام) قال: كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن بن علي.

وحدّثنا محمّد بن علي بن زاهر الرازي، قال: حدّثنا محمّد بن العباس، قال: حدّثنا عبد الله بن داهر، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه، عن علي (عليه السلام) قال: كتب علي إلى ابنه الحسن (عليه السلام).

كل هؤلاء حدّثونا أنّ أمير المؤمنين علياً كتب بهذه الرسالة إلى ابنه الحسن   (عليه السلام).

وأخبرني أحمد بن عبد الرحمن بن فضال القاضي، قال: حدّثنا الحسن بن محمّد بن أحمد، وأحمد بن جعفر بن محمّد بن زيد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: حدّثنا جعفر بن محمّد الحسني، قال: حدّثنا الحسن بن عبدل قال: حدّثنا الحسن بن طريف بن ناصح، عن الحسن بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي، قال: «كتب أمير المؤمنين (عليه السلام)إلى ابنه كذا».

قال السيد: واعلم يا ولدي محمّد ـ ضاعف الله جلّ جلاله عنايته بك ورعايته لك ـ قد روى الشيخ المتفق على ثقته وأمانته محمّد بن يعقوب الكليني ـ تغمّده الله جلّ جلاله برحمته ـ رسالة مولانا أمير المؤمنين علي إلى جدّك الحسن ولده (عليهما السلام). وروى رسالة أُخرى مختصرة عن خطّ علي (عليه السلام) إلى ولده محمّد بن الحنفية ـ رضوان الله عليه ـ وذكر الرسالتين في كتاب «الرسائل».

ورأيت يا ولدي بين رواية الحسن بن عبد الله العسكري، مصنف كتاب «الزواجر والمواعظ» الذي قدمناه، وبين رواية الشيخ محمّد بن يعقوب في رسالة أبيك أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى ولده تفاوتاً، فنحن نوردها برواية محمّد بن يعقوب الكليني فهو أجمل وأفضل فيما قصدناه.

فذكر محمّد بن يعقوب الكليني في كتاب «الرسائل» بإسناده إلى أبي جعفر بن عنبسة، عن عباد بن زياد الأسدي، عن عمر بن أبي المقدام، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) من صفين كتب إلى ابنه الحسن (عليه السلام):

بسم الله الرحمن الرحيم من الوالد الفان، المقرّ للزمان، المُدْبِرِ العمر ...».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة : 269 .

(2) هو أحد أعلام النجف الأشرف، ومراجع الدين فيها، إمام جماعة الحرم العلوي الشريف، واستاذ الفلسفة والعرفان، تربطه مع السيد العلامة القبانجي رابطة المصاهرة، توفي عام 1387 للهجرة النبوية الشريفة صدرت له كتب باسم 1 ـ بغية الهداة في شرح وسيلة النجاة (كتاب الطهارة). 2 ـ منهاج العمل. 3 ـ مناسك الحج.

وله كتب لم تطبع بعد منها:

1 ـ أصفى التقريرات ـ وهو عبارة عن تقرير لأبحاث الاصول لمرجع عصره العلامة النائيني.

2 ـ اصلاح البشر ـ في الفلسفة والأخلاق.

3 ـ بغية الهداة في شرح وسيلة النجاة (سائر الأبواب الفقهية).

(3) الوعر: الصعب.

(4) كشف المحجّة : 219 فصل 154.

(5) تحف العقول : 46; عنه البحار 77 : 217 ح2; وانظر نهج البلاغة : الكتاب 31.

(6) العقد الفريد 3 : 100.

(7) الكافي 5 : 337 ح7.

(8) كشف المحجة : 218 فصل 154; عنه البحار 77 : 196 ح1.

(9) راجع كنز العمال 16 : 167 ح44215 عن الزواجر.