33

في آخر فصل اختيار غريب كلامه عليه السّلام من الباب الثّالث ) و في حديثه عليه السّلام :

كُنَّا إِذَا اِحْمَرَّ اَلْبَأْسُ اِتَّقَيْنَا ؟ بِرَسُولِ اَللَّهِ ؟ ص فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى اَلْعَدُوِّ مِنْهُ

-----------
( 1 ) المعارف لابن قتيبة : 164 و النقل بتصرف .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 2 : 197 سنة 3 ، و أما حديث « لا سيف إلاّ ذو الفقار و لا فتى إلاّ علي » فقد مرّ تخريجه عن طرق كثيرة في شرح فقرة « و الفضائل الجمّة » من شرح خطبة الرضي .

[ 377 ]

« و معنى ذلك انّه اذا عظم الخوف من العدو ، و اشتد عضاض الحرب ،

فزع المسلمون إلى قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، فينزل اللّه عليهم النصر به ، و يأمنون مما كانوا يخافونه بمكانه ، و قوله عليه السّلام : إذا احمر البأس كناية عن اشتداد الأمر و الحرب ، و قد قيل في ذلك أقوال أحسنها : إنّه عليه السّلام شبّه حمي الحرب بالنّار التي تجمع الحرارة و الحمرة بفعلها و لونها ، و مما يقوي ذلك قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ، و قد رأى مجتلف الناس يوم حنين ، و هي حرب هوازن : « الآن حمي الوطيس » و الوطيس : مستوقد النار . فشبّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ما استحر من جلاد القوم باحتدام النار ، و شدّة التهابها . انقضى هذا الفصل ، و رجعنا إلى سنن الغرض الأول في هذا الباب » .

أقول : رواه الطبري مع اختلاف يسير ، فروى عن جعفر بن محمّد البزوري ، عن عبيد اللّه بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي اسحاق ، عن حارثة ،

عن علي عليه السّلام ، قال : لمّا أن كان يوم بدر ، و حضر الناس اتّقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ،

فكان من أشدّ الناس بأسا ، و ما كان منّا أحد أقرب إلى العدوّ منه 1 .

و رواه أبو عبيد مثل نقل المصنّف ، فنقله كتاب ( لسان العرب ) عنه ،

هكذا : كنّا إذا احمرّ البأس اتّقيناه برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، فلم يكن أحد أقرب إليه منه 2 .

« كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله » في ( تفسير القمي ) : لمّا رأى النبيّ انهزم أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله ( يوم أحد ) هزيمة قبيحة ، و أقبلوا يصعدون في الجبال و في كلّ وجه فلمّا رأى النبيّ صلى اللّه عليه و آله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه و قال : إنّي أنا رسول اللّه . إلى أين تفرّون عن اللّه و عن رسوله ؟ 3

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 135 سنة 2 .

-----------
( 2 ) لسان العرب لابن منظور 4 : 210 ، 211 مادة ( حمر ) .

-----------
( 3 ) تفسير القمي 1 : 114 .

[ 378 ]

و في ( اليعقوبي ) : أنّه كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله يوم أحد رأى أن لا يخرج من المدينة ، فأشارت عليه الأنصار بالخروج . فلمّا لبس لباس الحرب ردّت إليه الأنصار الأمر ، و قالوا : لا تخرج عن المدينة . فقال : الآن و قد لبست لامتي ،

و النبيّ إذا لبس لأمته لا ينزعها حتّى يقاتل ، و يفتح اللّه عليه 1 .

« فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه » في ( الطبري ) : كان فزع بالمدينة ،

فانطلق أهل المدينة نحو الصوت ، فإذا هم قد تلقّوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله على فرس عري لأبي طلحة ، و ما عليه سرج و عليه السيف ، و قد كان سبقهم إلى الصوت ، فجعل يقول : يا أيّها النّاس لن تراعوا لن تراعوا 2 .

قول المصنّف « و معنى ذلك أنّه إذا عظم الخوف من العدوّ » لشدّته .

« و اشتدّ عضاض الحرب » شبّه المصنّف الحرب بكلب يعضّ .

« فزع » أي : التجأ .

« المسلمون إلى قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بنفسه » في ( الطبري ) : قال محمّد بن إسحاق : قاتل النبيّ صلى اللّه عليه و آله بنفسه في تسع من غزواته : بدر ، و أحد ، و الخندق ،

و قريظة ، و المصطلق ، و خيبر ، و الفتح ، و حنين ، و الطائف . و قال الواقدي : قاتل النبيّ صلى اللّه عليه و آله في إحدى عشرة من غزواته و عدّ تلك التسع و وادي القرى . قال :

و قتل فيها غلامه بسهم ، و يوم الغابة ، و قتل من المشركين ، و قتل محرز بن نضلة يومئذ . و قال : لا خلاف في أنّ غزواته كانت سبعا و عشرين ، إلاّ أنّه اختلف في تقديم بعضها على بعض 3 .

« فينزل اللّه عليهم النصر به » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( فينزل اللّه

-----------
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 47 و النقل بتقطيع .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 2 : 427 سنة 10 ، بروايتين .

-----------
( 3 ) نقله عن ابن إسحاق و الواقدي الطبريّ في تاريخه 2 : 405 ، سنة 10 . فأمّا ما نقل عن ابن إسحاق فجاء في سيرة ابن هشام 4 : 189 ، نقلا عنه ، و ما نقل عن الواقدي فجاء في مغازيه 1 : 7 .

[ 379 ]

تعالى النصر عليهم به ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 1 .

« و يأمنون ممّا كانوا يخافونه » من غلبة العدوّ .

« بمكانة » متعلّق بقوله : « و يأمنون » .

« و قوله عليه السّلام : إذا احمرّ البأس كناية عن اشتداد الأمر و الحرب » و لا ريب في أنّ المراد ذلك ، و لكن اختلف في وجه الدلالة .

« و قد قيل في ذلك » أي : في وجه الكناية .

« أقوال » منها : قول الأصمعيّ ، فقال كما في ( اللسان ) : يقال : هو الموت الأحمر ، و الموت الأسود ، و معناه الشديد ، و أرى ذلك من ألوان السباع كأنّه من شدّته سبع 2 . قال أبو عبيد : فكأنّه أراد بقوله : « احمرّ البأس » أي : صار في الشدّة و الهول مثل ذلك 3 .

و منها : قول الأزهري ، فقال : كما فيه أيضا : و حمراء الظهيرة : شدّتها ،

و منه حديث عليّ كرّم اللّه وجهه : « كنّا إذا احمرّ البأس . . . » 4 .

« أحسنها أنّه عليه السّلام شبّه حمي الحرب » من حمي النهار ، إذا اشتدّ حرّه .

« بالنّار الّتي تجمع الحرارة و الحمرة بفعلها و لونها » يشهد له قوله تعالى : . . . كلّما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه . . . 5 ، و قوله عليه السّلام في استنفار الناس إلى أهل الشام : « و أيم اللّه إنّي لأظنّ بكم أن لو حمس الوغى و استحرّ الموت » 6 و قولهم : اضطرم فلان للحرب نارا و سعّرها ، و أججّها ، و أرثّها ،

-----------
( 1 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 4 : 359 ، لكن لم ينقل ابن ميثم في شرحه 5 : 375 هذه الفقرة أصلا .

-----------
( 2 ) لسان العرب 4 : 210 مادة ( حمر ) .

-----------
( 3 ) المصدر نفسه .

-----------
( 4 ) لسان العرب 4 : 211 مادة ( حمر ) عن الأصمعي ، لا الأزهري .

-----------
( 5 ) المائدة : 64 .

-----------
( 6 ) نهج البلاغة للشريف الرضي 1 : 83 الخطبة 34 ، و قريب منه في 1 : 189 الخطبة 95 .

[ 380 ]

و أوراها ، و هشّها ، و شبّها ، و حضاها ، و ذكّاها ، و أذكاها .

و ممّا ذكرنا يظهر لك ما في قول ابن أبي الحديد الجيد أنّ المراد : احمرار المعركة من سيلان الدم ، فإنّما قالوا ما قاله في قولهم : « الموت الأحمر » لا في « أحمرّ البأس » 1 .

« و ممّا يقوي ذلك قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم » هكذا في ( المصرية ) ،

و الصواب : ( النبيّ صلى اللّه عليه و آله ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) 2 .

« و قد رأى مجتلد » اسم مكان ، من اجتلد القوم بالسيوف و تجالدوا .

« الناس يوم حنين » و قد كانت عساكر الإسلام ذلك اليوم كثيرة ، لكونه بعد فتح مكّة ، حتّى قال أبو بكر معجبا بكثرتهم : « لن نغلب اليوم من قلّة » 3 ، ثمّ انهزم في من انهزم مع صاحبه 4 ، فأنزل تعالى معرّضا به و مخرجا له عن أهل الإيمان : . . . و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضاقت عليكم الأرض بما رحجت ثمّ ولّيتم مدبرين . ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله و على المؤمنين . . . 5 .

« و هي حرب هوازن » يعني : أنّ الكفّار الّذين قاتل المسلمون معهم في

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 4 : 359 و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 4 : 359 « الرسول » ، لكن لفظ شرح ابن ميثم 5 : 376 « رسول اللّه » أيضا .

-----------
( 3 ) الأصل رواه الواقدي في المغازي 2 : 890 ، و ابن سعد في الطبقات 2 ق 1 : 108 عن أبي بكر ، و رواه البزار في مسنده عنه مجمع الزوائد 6 : 178 ، عن غلام من الأنصار ، و رواه البيهقي في الدلائل عنه الدر المنثور 3 : 224 ، و عن رجل غير معلوم .

-----------
( 4 ) إنهزام أبي بكر و عمر في حنين يظهر من رواية المفيد في الإرشاد : 74 ، و أبي جعفر الطوسي في أماليه 2 : 187 المجلس 5 ، و الطبرسي في مجمع البيان 5 : 18 ، و ذكرهما من الثابتين ابن هشام في السيرة 4 : 64 ، و الواقدي في المغازي 2 : 900 ، و ابن سعد في الطبقات 2 ق 1 : 109 ، و الطبري في تاريخه 2 : 347 سنة 8 ، و البزار في مسنده عنه مجمع الزوائد 6 : 179 .

-----------
( 5 ) التوبة : 25 26 .

[ 381 ]

حنين كانوا قبيلة هوازن .

« الآن حمي الوطيس » قالوا : كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله أوّل من قال : « الآن حمي الوطيس » 1 .

و في ( الإرشاد ) : لمّا رأى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم هزيمة القوم عنه ( في حنين ) قال للعبّاس و كان رجلا جهوريّا صيّتا : ناد بالقوم ، و ذكّرهم العهد . فنادى العبّاس بأعلى صوته : يا أهل بيعة الشجرة يا أصحاب سورة البقرة إلى أين تفرّون ؟ اذكروا العهد الّذي عاهدتم عليه النبيّ صلى اللّه عليه و آله . و القوم على وجوهم قد ولّوا مدبرين ، و كانت ليلة ظلماء و النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم في الوادي ، و المشركون قد خرجوا عليه من شعاب الوادي و جنباته و مضايقه مصلتين بسيوفهم و عمدهم و قسيّهم . قالوا : فنظر النبيّ صلى اللّه عليه و آله الى الناس ببعض وجهه في الظلماء ،

فأضاء كأنّه القمر في ليلة البدر ، ثمّ نادى المسلمين : أين ما عاهدتم اللّه عليه ؟

فأسمع أوّلهم و آخرهم ، فلم يسمعها رجل إلاّ رمى بنفسه إلى الأرض ،

فانحدروا إلى حيث كانوا من الوادي ، حتّى لحقوا بالعدوّ فقاتلوه . . . و تجالد المسلمون و المشركون . فلمّا رآهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم قام في ركابي سرجه حتّى أشرف على جماعتهم ، و قال : الآن حمي الوطيس ، أنا النبيّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب . فما كان بأسرع من أن ولّى القوم أدبارهم وجي‏ء بالأسرى إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله مكتّفين 2 .

-----------
( 1 ) أخرجه من ضمن حديث حنين جمع كثير منهم ابن هشام في السيرة 4 : 66 ، و الواقدي في المغازي 2 : 899 ، و ابن سعد في الطبقات 2 ق 1 : 109 ، و الطبري في تاريخه 2 : 348 سنة 8 ، و جمع كثيرا من طرقه السيوطي في الدّر المنثور 3 : 224 ، 226 ، و أما كونه صلى اللّه عليه و آله أوّل من قال ذلك فقد رواه ابن الأثير في جامع الأصول 9 : 244 عن الخطابي ، و في النهاية 5 : 204 مادة ( وطس ) .

-----------
( 2 ) الإرشاد للمفيد : 75 .

[ 382 ]

« و الوطيس مستوقد النار » و في ( الصحاح ) الوطيس : التنّور 1 .

« فشبّه صلى اللّه عليه و آله ما استحرّ » أي : اشتدّ .

« من جلاد القوم » و قتالهم .

« باحتدام النار » أي : صوت التهابها .

« و شدّة التهابها » أي : اشتعالها .

« انقضى هذا الفصل » أي : فصل الغريب ، و ليس في العنوان كلمة غريبة ،

و إنّما اشتبه وجه الشبه في جملة « احمرّ البأس » فيه .

و ممّا روي عنه عليه السّلام من الغريب ما في ( طبقات نحاة السيوطي ) أنّ عليّا عليه السّلام قال لكاتبه : « الصق روانفك بالجبوب ، و خذ المزبر بشناترك ، و اجعل جندورثيك إلى قيهلي ، حتّى لا أنفي نفية إلاّ أودعتها حماطة جلجلانك » و قال :

أي : الصق مقعدتك بالأرض ، و خذ القلم بأصابعك ، و اجعل حدقتيك إلى وجهي حتّى لا أنطق كلمة إلاّ أودعتها حبّة قلبك 2 .

« و رجعنا إلى سنن » بالفتح ، أي : طريقة .

« الغرض » و الأصل فيه الهدف .

« الأول » من نقل مطلق مختار كلمه القصار .

« في هذا الباب » أي : الباب الثالث من الكتاب .

هذا ، و في ( سيرة ابن هشام ) : كان أبيّ بن خلف يلقى النبيّ بمكة فيقول :

يا محمّد إنّ عندي العوذ فرسا أعلفه كلّ يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه . فيقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله : بل أنا أقتلك إن شاء اللّه . فلمّا كان يوم أحد و انهزم أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و أسند في الشعب ، أدركه أبيّ بن خلف و هو يقول : أي محمّد

-----------
( 1 ) صحاح اللغة 2 : 986 مادة ( و طيس ) .

-----------
( 2 ) لم أجده في بغية الوعاة في طبقات النحاة للسيوطي .

[ 383 ]

لا نجوت إن نجوت . فقال القوم : يا رسول اللّه : أيعطف عليه رجل منّا ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : دعوه . فلمّا دنا ، تناول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم الحربة من الحارث بن الصمة . قال بعضهم : لمّا تناولها انتفض بها انتفاضة تطايرنا بها تطاير الشّعراء ، أي : ذباب له لدغ عن ظهر البعير إذا انتفض بها ثمّ استقبله فطعنه في عنقه طعنة ، تدأدأ أي : تقلّب منها عن فرسه مرارا ، فجعل يتدحرج . فلمّا رجع إلى قريش و قد خدشه في عنقه خدشا غير كبير ، فاحتقن الدم ، قال : قتلني و اللّه محمّد . قالوا له : ذهب و اللّه فؤادك ، و اللّه إن بك من بأس . قال : إنّه قد كان قال لي بمكّة : أنا أقتلك ، فو اللّه لو بصق عليّ لقتلني . فمات عدوّ اللّه بسرف و هم قافلون به إلى مكّة . فقال حسّان بن ثابت في ذلك :

ألا من مبلغ عنّي أبيّا
لقد ألقيت في سحق السعير

تمنّي بالضلالة من بعيد
و تقسم إن قدرت مع النذور

تمنّيك الأماني من بعيد
و قول الكفر يرجع في غرور

فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ
كريم البيت ليس بذي فجور1