الخطبة ( 195 ) ( و من كلام له عليه السلام ) :
وَ لَقَدْ عَلِمَ اَلْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ ؟ مُحَمَّدٍ ص ؟ أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اَللَّهِ وَ لاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي اَلْمَوَاطِنِ اَلَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا اَلْأَبْطَالُ وَ تَتَأَخَّرُ اَلْأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اَللَّهُ بِهَا وَ لَقَدْ قُبِضَ ؟ رَسُولُ اَللَّهِ ص ؟ وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ ص وَ اَلْمَلاَئِكَةُ أَعْوَانِي فَضَجَّتِ اَلدَّارُ وَ اَلْأَفْنِيَةُ مَلَأٌ يَهْبِطُ وَ مَلَأٌ يَعْرُجُ وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ وَ لْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ اَلْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ اَلْبَاطِلِ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ لِي وَ لَكُمْ أقول : الخطبة من خطبه عليه السلام في صفين . روى نصر بن مزاحم في ( صفينه ) مسندا عن أبي سنان الأسلمي قال : لمّا اخبر علي بخطبة معاوية ،
و عمرو بن العاص ، و تحريضهما الناس عليه عليه السلام أمر الناس فجمعوا . قال أبو سنان : و كأنّي أنظر إلى علي عليه السلام متوكّئا على قوسه ، و قد جمع أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عنده فهم يلونه و احب أن يعلم الناس أنّ اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم متوافرون عليه فحمد اللّه . ثم قال : « أيّها الناس اسمعوا مقالتي ،
و عوا كلامي . فإنّ الخيلاء من التجبّر ، و إنّ النخوة من التكبّر ، و إنّ الشيطان عدوّ حاضر يعدكم الباطل ، ألا انّ المسلم أخو المسلم إلى أن قال ألا و إنّ من أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي سفيان الاموي ، و عمرو بن العاص
[ 89 ]
السهمي ، أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ، و قد علمتم أنّي لم اخالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قطّ ، و لم أعصه في أمر قطّ . أقيه بنفسي في المواطن الّتي ينكص فيها الأبطال و ترعد فيها الفرائض ، نجدة أكرمني اللّه بها فله الحمد . و لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّ رأسه لفي حجري ، و لقد ولّيت غسله بيدي وحدي تقلبه الملائكة المقرّبون معي ، و أيم اللّه ما اختلفت امّة قطّ بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على حقّها ، إلاّ ما شاء اللّه .
فقال أبو سنان : فسمعت عمّار بن ياسر يقول : « أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فقد أعلمكم انّ الامّة لن تستقيم عليه » قال : ثمّ تفرق الناس و قد نفذت بصائرهم 1 ، و رواه الشيخان في أماليهما مسندا عن الأصبغ مثل ما رواه نصر مع تبديل قوله « نجدة » بقوله « بقوة » 2 .
قول المصنّف « و من كلام له عليه السلام » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب « و من خطبة له عليه السلام » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّيّة » 3 .
« و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم » قد عرفت أنّ في رواية ( صفين و الاماليين ) بدل الجملة « و قد علمتم » لانّه خاطب الصحابة الّذين كانوا معه و اجتمعوا حوله ، و لفظ المصنّف أيضا ورد في مواضع اخر . ففي ( غيبة النعماني ) : « قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المشهورة الّتي رواها الموافق و المخالف « ألا إنّ العلم الّذي هبط به آدم عليه السلام إلى أن قال و قال علي عليه السلام في خطبته هذه « و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال : إنّي و أهل بيتي مطهّرون » 4 .
-----------
( 1 ) وقعة صفين : 223 .
-----------
( 2 ) أمالي المفيد : 233 ح 5 ، المجلس 27 ، و أمالي أبي علي الطوسي 1 : 9 ، الجزء 1 .
-----------
( 3 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 541 ، و شرح ابن ميثم 3 : 439 .
-----------
( 4 ) الغيبة للنعماني : 28 و 29 .
[ 90 ]
و في ( خصال الصدوق ) مسندا عن مكحول أنّه قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه ليس فيهم رجل له منقبة إلاّ و قد شركته فيها و فضلته ، ولي سبعون منقبة لم يشركني فيها أحد منهم الخبر 1 .
قال ابن أبي الحديد يمكن أن يعنى بالمستحفظين الخلفاء الّذين تقدموا لأنّهم الّذين استحفظوا الإسلام أي جعلوا حافظين له ، و حارسين لشريعته و يحوزونه ، و يجوز أن يعني به العلماء و الفضلاء من الصحابة لأنّهم استحفظوا الكتاب ، أي : كلّفوا حفظه و حراسته 2 .
قلت : فيه أوّلا : إنّه واضح أنّ المراد بالمستحفظين هم الّذين وجدوا حافظين تذكرا للوقايع و الامور ليكون مناسبا لقوله بعد « إنّي لم أردّ على اللّه ،
و لا على رسوله ساعة قط » و الاستفعال قد يجيء لاصابة الشيء على صفة ،
نحو : استعظمته أي : وجدته عظيما ، و هنا كذلك ، و إلاّ فأيّ ربط لحفظ الإسلام و حفظ الكتاب بكلامه عليه السلام ذاك .
و ثانيا : إذا كان الاستفعال بمعنى الطلب ، فمن أين كان المتقدمون عليه عليه السلام حافظين للاسلام ، و قد قتل المسلمون ثالثهم بكفره لقوله تعالى و من لم يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الكافرون 3 .
و ثالثا : إنّ خلفاءه الّذين قال : كيف يجعلهم أمير المؤمنين عليه السلام شهداء لما وصف به نفسه ، و قد كانوا أجهدوا غاية الجهد أن يوجدوا عليه عليه السلام طعنا في ردّه على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوما . فروى الزبير بن بكار في موفقياته عن ابن
-----------
( 1 ) الخصال 2 : 572 ح 1 ، باب السبعين .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 541 .
-----------
( 3 ) المائدة : 44 .
[ 91 ]
عباس قال : خرجت اريد عمر فلقيته راكبا حمارا ، و قد ارتسنه بحبل أسود إلى أن قال :
قال لي عمر : فلم لا تخطب الى ابن عمّك يعني عليّا عليه السلام قلت : ألم تسبقني إليه ؟ قال : فالاخرى ، قلت : هي لابن أخيه ، قال : يا ابن عباس إنّ صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به . فليتني أراكم بعدي . قال : قلت : إنّ صاحبنا ما قد علمت أنّه ما غيّر و لا بدّل و لا أسخط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيّام صحبته له . قال : فقطع علي الكلام . فقال : و لا في ابنة أبي جهل لمّا أراد أن يخطبها على فاطمة ؟ قال : قلت : قال اللّه عزّ و جلّ و لم نجد له عزما 1 و صاحبنا لم يعزم على سخط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لكنّ الخواطر الّتي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه ، و ربما كانت من الفقيه في دين اللّه العالم العامل بأمر اللّه ، فقال : يا ابن عباس من ظن أنّه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتّى يبلغ قعرها . فقد ظن عجزا . استغفر اللّه لي و لك ، خذ في غير هذا . ثم أنشأ يسألني عن شيء من امور الفتيا و اجيبه . فيقول : أصبت أصاب اللّه بك ،
أنت و اللّه أحق أن تتّبع 2 .
قلت : و هذا من الرجل نظير سعيه على أن يوجد له عليه السلام صفة مذمومة .
فسمّى حسن خلقه دعابة كما سمّى طلبه عليه السلام لحقه حرصا ، و سمّى عزّة نفسه عجبا و كبرا .
ثم أصله بهتان ، و لو كان له حقيقة كيف يغضب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من شيء أحلّه اللّه تعالى ، و جاء به نفسه من عنده تعالى ، و لمّا اصطفى عليه السلام من سبي بني زبيد جارية بعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال له : تقدم
-----------
( 1 ) طه : 115 .
-----------
( 2 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 106 ، شرح الخطبة 226 .
[ 92 ]
الجيش إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأعلمه بما فعل علي من اصطفاء الجارية من الخمس لنفسه ، وقع فيه . فسار بريدة حتى انتهى الى باب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فلقيه عمر فسأله عن حال غزوتهم ، و عن الّذي أقدمه . فأخبره أنه إنّما جاء ليقع في علي ،
و ذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه . فقال له عمر : إمض لما جئت له فإنه سيغضب لابنته مما صنع . فدخل بريدة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و معه كتاب من خالد بما أرسل به . فجعل بريدة يقرأه ، و وجه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يتغيّر ، فقال بريدة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : إنّك إن رخّصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم . فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و يحك يا بريدة أحدثت نفاقا . إنّ علي بن أبي طالب يحلّ له من الفيء ما يحلّ لي . انّ عليّا خير الناس لك و لقومك و خير من اخلف بعدي لكافة أمّتي . يا بريدة إحذر أن تبغض عليّا فيبغضك اللّه .
قال بريدة : فتمنّيت أنّ الأرض انشقّت فسخت فيها ، و قلت : أعوذ باللّه من سخط اللّه و سخط رسوله 1 .
و قال النقيب و قد نقله ( ابن أبي الحديد ) في شرح قوله عليه السلام لما قيل له :
« كيف دفعكم قومكم عن هذا الأمر ؟ » في جملة ما قال ممّا فعل عمر لدفع أمير المؤمنين عليه السلام عن الأمر : « عاب عليا عليه السلام بخطبته بنت أبي جهل فأوهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كرهه لذلك ، و وجد عليه ، و أرضاه عمرو بن العاص . فروى حديثا افتعله و اختلقه على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال سمعته يقول : « إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، إنّما وليي اللّه و صالح المؤمنين » فجعلوا ذلك كالناسخ لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم « من كنت مولاه فهذا مولاه » 2 .
قلت : قد عرفت أنّ أصل خبر الرجل وضع لمخالفته للكتاب كخبر
-----------
( 1 ) رواه المفيد في الارشاد : 85 ، و النقل بالمعنى .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 118 ، شرح الخطبة 226 .
[ 93 ]
صاحبه « نحن معاشر الأنبياء لا نورّث » و حينئذ فلو كان ابن أبي الحديد قال :
إنّ المستحفظين غير خلفائه كان أحسن ، و إن كان خلفاؤه ، و باقي مخالفيه عليه السلام مقرّين بفضائله ، و أنّ الخلافة حقه حتى مثل عمرو بن العاص و سعد بن أبي وقاص .
ففي ( خلفاء ابن قتيبة ) : أن عمرو بن العاص سئل عن خبر الولاية فقال :
انه حق و قال للسائل : أزيدك . ليس أحد من صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له مناقب مثل مناقب علي 1 .
و فيه أنّ سعد بن أبي وقاص قال : إنّ عليا شاركنا في محاسننا و لم نشاركه في محاسنه ، و كان أحقنا كلّنا بالخلافة 2 .
« إنّي لم أردّ على اللّه ، و لا على رسوله ساعة قطّ » قال ابن أبي الحديد : الظاهر أنّه عليه السلام يرمز إلى أمور وقعت من غيره كما جرى يوم الحديبية عند سطر كتاب الصلح فإنّ بعض الصحابة أنكر ذلك و قال : ألسنا بالمسلمين ؟ قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : بلى . قال : أو ليسوا بالكافرين ؟ قال : بلى . قال : فكيف نعطي الدنيّة في ديننا . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّما أعمل بما اومر به ، و قال لقوم من الصحابة :
ألم يكن وعدنا بدخول مكّة ، و نحن قد صددنا عنها ، ثم ينصرف بعد أن أعطينا الدنية من ديننا ، و اللّه لو أجد أعوانا لم أعط الدنية أبدا . فقال أبو بكر له : ويحك الزم غرزه . فو اللّه انّه لرسول اللّه ، و ان اللّه لا يضيعه ثم قال له : أقال لك : انّه سيدخلها هذا العام قال : لا قال : فسيدخلها فلما فتح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مكّة ، و أخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال : هذا الذي وعدتم به 3 .
-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة المنسوب الى ابن قتيبة 1 : 109 .
-----------
( 2 ) الإمامة و السياسة 1 : 100 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 541 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 94 ]
قلت : إذا كان الخبر صحيحا ، و رواه الناس كلهم كما اعترف به في كلامه ، فلم رمز عن عمر و قد اتفقت التواريخ أيضا سوى الآثار على إنكار عمر في الحديبية على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ردّه عليه ، و من الغريب اعتذار ابن أبي الحديد عنه بأنّ سؤاله كان التماسا لطمأنينة النفس كإبراهيم ، و إن قول أبي بكر : « إلزم غزره فو اللّه انه لرسوله » تثبيت على عقيدته ، و لا يدلّ على الشك كما قال تعالى و لو لا ان ثبّتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا 1 .
فعلى قول ابن أبي الحديد اذا صار عمر بالاعتراض على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نبيّا مرسلا كإبراهيم ، لم لم يعترض على اللّه حتى يصير عند ابن أبي الحديد إلها ؟ نعوذ باللّه من العصبية الى أي درجة تصل ، و كيف يعتذر له بعدم الشك ،
و قد ذكر الثعلبي عند ذكر سورة الفتح ، و غيره من الرواة أنّ عمر قال : « ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ » 2 .
و لنعم ما قال صاحب ( الطرائف ) في قول عمر « فلم نعطي هذه الدنية في ديننا » فهلاّ كانت هذه الشجاعة منه في يوم حنين ، و خيبر و غيرهما من الغزوات الّتي هرب فيها و خالف اللّه و رسوله .
قال : و من طريف ذلك أنّ عمر بعد ما أخبره نبيهم بالجواب عن سؤاله و اعتذر عن دخول مكّة لا يلتفت إلى جواب نبيّهم ، و لا اعتذاره ، و يأتي إلى أبي بكر فيعيد عليه تلك الموافقة و شكّه في الإسلام ، و يلتمس من أبي بكر الجواب ، فأعاد عليه أبو بكر ما سمعه من نبيهم .
قال : و من طريف ذلك : إقدامه على نبيّهم في مثل تلك الحال من شدّة الحاجة إلى عون المسلمين لنبيهم بالقول و الفعل ، فكان ذلك الموقف موقف
-----------
( 1 ) الاسراء : 74 .
-----------
( 2 ) رواه عن الثعلبي و غيره ابن طاووس في الطرائف 2 : 441 .
[ 95 ]
تعنيف و تخجيل ، و فتح لأبواب الشك في النبوة ، و تقوية حجة سهيل بن عمرو و الكفار . اما يدل هذا على ضلال هائل و جهل خاذل ؟
قال : و من طريف ذلك أنّ بعد قول نبيهم لعمر « إنّي رسول اللّه و لست أعصيه و هو ناصري ، يقول له عمر : « أو لست كنت تحدّثنا انّا سنأتي البيت و نطوف به ؟ » قال : أما هذا تكذيب صريح لنبيّهم و استخفاف لنبوّته ، و كسر لحرمته 1 .
و قال ابن أبي الحديد أيضا : « و قد كانت وقعت من هذا القائل أمور دون هذه القصّة كقوله : دعني أضرب عنق أبي سفيان » و قوله : « دعني اضرب عنق عبد اللّه بن أبيّ » و قوله : « دعني أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة » و نهي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن التسرع الى ذلك ، و جذبه ثوب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين قام على جنازة ابن سلول يصلي و قوله له : « كيف تستغفر لرأس المنافقين ؟ » قال :
و ليست في ذلك جميعه ما يدلّ على وقوع القبيح منه ، و إنما الرجل كان مطبوعا على الشدّة و الشراسة و الخشونة ، و كان يقول ما يقول على مقتضى السجية التي طبع عليها . و على أيّ حال كان ، فلقد نال الإسلام بولايته و خلافته خيرا كثيرا 2 .
قلت : أمّا في قوله دعني أضرب عنق فلان ، و فلان و فلان . فهو أحق بما قيل في الحجاج :
أسد علي و في الحروب نعامة
جبناء تصفر من صفير الصافر
هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى
بل كان قلبك في جناحي طائر
و قد أمر عمر بقتل رجلين خلافا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم
-----------
( 1 ) الطرائف 2 : 441 442 ، و النقل بتلخيص .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 542 .
[ 96 ]
حنين لما ارتفع النهار أن لا يقتل أسير من القوم ، و أسر ذاك اليوم ابن الأكوع .
فمر به عمر فأقبل على رجل من الأنصار ، و قال : عدو اللّه الّذي كان عينا علينا ها هو أسير . فاقتله فضرب الأنصاري عنقه . فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فكرهه و قال : ألم آمركم أن لا تقتلوا أسيرا ؟ و قتل بعده جميل بن معمر بن زهير و هو أسير . فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو مغضب إلى الأنصار فقال : ما حملكم على قتله و قد جاءكم الرسول أن لا تقتلوا أسيرا ؟ فقالوا : إنّما قتلناه بقول عمر . فأعرض النبي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى كلّمه عمير بن وهب في الصفح عن ذلك 1 .
و ممن ردّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم غير عمر أبو حذيفة بن عتبة . روى محمّد بن إسحاق أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لأصحابه : إنّي قد عرفت أنّ رجالا من بني هاشم و غيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ( أي : في بدر ) و من لقي أبا البختري ، فلا يقتله فإنّه إنّما أخرج مستكرها . فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة : أنقتل آباءنا ، و ابناءنا و إخواننا و عشيرتنا ، و نترك العباس ، و اللّه لئن لقيته لألحمنّه السيف ، فسمعها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فقال لعمر : يا أبا حفص قال عمر : و اللّه إنّه لأوّل يوم كنّاني فيه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بأبي حفص أيضرب وجه عم رسول اللّه بالسيف ؟ فقال عمر : يا رسول اللّه دعني فلأضرب عنقه بالسيف . فو اللّه لقد نافق . فكان أبو حذيفة يقول : و اللّه ما أنا بآمن من تلك الكلمة الّتي قلت يومئذ ، و لا أزال منها خائفا أبدا 2 .
و قال محمّد بن إسحاق أيضا و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا استشار أبا بكر و عمر و سعد بن معاذ في أمر الاسارى غلظ عمر عليهم غلظة شديدة . فقال : يا
-----------
( 1 ) رواه المفيد في الارشاد : 76 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) رواه عنه ابن هشام في السيرة 2 : 197 ، و الطبري في تاريخه 2 : 151 ، سنة 2 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 97 ]
رسول اللّه أطعني في ما اشير به عليك . فإنّي لا آلوك نصحا . قدّم عمّك العباس . فاضرب عنقه بيدك ، و قدّم عقيلا إلى علي أخيه يضرب عنقه ، و قدّم كل أسير منهم إلى أقرب الناس إليه يقتله ، فكره النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذلك و لم يعجبه 1 .
قلت : من الغريب أنّه يحكم بنفاق أبي حذيفة لمّا أراد مخالفة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في قتل عمّه ، و يستأذنه في ضرب عنقه ، ثم بعد ذلك يشدّد بنفسه على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في قتل عمه .
و أما قول ابن أبي الحديد و ليس في جميع ذلك ما يدلّ على وقوع القبيح منه فأعجب ، و لا بد أن يقول بأنّه لم يقع في نسبته الهجر الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لما قال آتوني بدواة أكتب لكم ما لن تضلوا بعدي أبدا ، و منعه عن كتابة وصيّته ،
و في ارادة إحراق بنت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم سيّدة نساء العالمين ، و إحراق سيّدي شباب أهل الجنّة ، و إحراق أمير المؤمنين عليه السلام الّذي كان بمنزلة نفس النبي بنص القرآن 2 ، لأنّه كان حلف أنّه يحرقهم لو لم يخرج للبيعة ، و كان يفعل ، . . .
أيضا منه قبيح .
و أمّا قوله : « فإنّما الرجل كان مطبوعا على الشراسة . . . » فلعمري كان خاله أبو جهل أيضا مطبوعا على تلك الشراسة فكان لا يقدر أن يضبط نفسه في عداوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإن كان عمر معذورا كان ذاك أيضا معذورا .
و أمّا قوله : « فقد نال الإسلام به . . . » فعلى فرض التسليم فالخمر و الميسر أيضا كان فيهما منافع للناس إلاّ أنّ إثمهما أكبر من نفعهما مع أنّ فتوحاته كانت بسط يد للجبّارين و كيف و قد هيّأ أسباب تولية عثمان رئيس بني امية أعداء الدين و أعداء الإسلام ، و لعمر اللّه إن من لم يكابر كان مسخه الإسلام
-----------
( 1 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 356 ، شرح الكتاب 9 .
-----------
( 2 ) أنظر قوله تعالى : . . . أنفسنا و أنفسكم . . . آل عمران : 61 .
[ 98 ]
واضحا ، و لقد مرّ أبو سفيان أيّام عثمان على قبر حمزة فضربه برجله ، و قال :
قم يا حمزة و انظر الدين الّذي تقتلوننا به في يد فتياتنا يلعبون به 1 .
ثم لم خصّ الردّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالثاني . فقد كان الأوّل أيضا يردّ عليه . روى المبرد في كامله ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نظر إلى رجل ساجد . فقال : ألا رجل يقتله ؟ فحسر أبو بكر عن ذراعه ، و انتضى السيف ، و صمد نحوه . ثم رجع إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال : أقتل رجلا يقول لا إله إلاّ اللّه . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : ألا رجل يفعل ؟ ففعل عمر مثل ذلك . فلمّا كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : لو قتل هذا ما اختلف في دين اللّه اثنان 2 .
و قد خالفاه عملا و ردّا عليه قولا في تخلفهما عن جيش اسامة مع أنّ ردّ الثانيّ لم يكن منحصرا بما نقل . فقد روى الحميدي عن عروة عن عائشة من المتفق على صحّته أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم اعتمّ بالعشاء حتى ناداه عمر للصلاة .
فقال : نام الصبيان و النساء . و في رواية ابن شهاب أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال « و ما كان لكم أن تنزروا رسول اللّه على الصلاة » و ذلك حين صاح عمر 3 .
و روى الحميدي من ( صحيح مسلم ) عن أبي هريرة قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم :
لقيت عمر فأخبرته بالّذي بعثتني به . فضرب بين يدي ضربة خررت لاستي ،
و قال : إرجع . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له : ما حملك على ما صنعت . قال : أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد ألاّ إله الاّ اللّه مستقينا بها قلبه بشّره بالجنة ، قال : نعم .
قال : فلا تفعل فإني أخشى أن يتّكل الناس عليها فخلّهم يعملوا 4 .
-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 4 : 51 ، شرح الكتاب 32 .
-----------
( 2 ) رواه المبرد في الكامل 7 : 110 ، و الشيرازي في تفسيره و عنه الطرائف 2 : 429 .
-----------
( 3 ) رواه عن الحميدي ابن طاووس في الطرائف 2 : 442 ، و هو في صحيح مسلم 1 : 441 ح 218 .
-----------
( 4 ) رواه عن الحميدي ابن طاووس في الطرائف 2 : 437 ، و النقل بتلخيص و هو في صحيح مسلم 1 : 59 ح 52 .
[ 99 ]
و في ( الاستيعاب ) : في خالد بن ربعي في قصّته مع القعقاع أنزل تعالى لا تقدموا بين يدى اللّه و رسوله 1 في قول أبي بكر للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : استعمل فلانا و قول عمر له : استعمل فلانا 2 .
و عدّ النقيب في أسباب تجرّي عمر على بيعة أبي بكر ، و العدول عن علي عليه السلام انكاره أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أصحابه بذبح النواضح 3 .
« و لقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص » أي : تحجم عنها يقال :
نكص الرجل على عقبيه ، أي : رجع .
« فيها الأبطال » جمع البطل ، أي : الشجاع .
« و تتأخّر فيها » هكذا في ( المصرية ) ، و الكلمة زائدة لعدم وجود « فيها » في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّيّة » 4 .
« الأقدام » فلا تقدم و لا تتقدم .
قال ابن أبي الحديد : هذا ممّا اختص بفضيلته غير مدافع . ثبت معه يوم احد و فرّ الناس ، و ثبت معه يوم حنين و فرّ الناس ، و ثبت تحت رايته يوم خيبر حتى فتحها و فرّ من كان بعث بها من قبله .
قال : و روى المحدّثون أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لما ارتثّ يوم أحد قال الناس :
قتل محمّد ، رأته كتيبة من المشركين و هو صريح بين القتلى إلاّ أنّه حيّ فصمدت له ، فقال لعليّ عليه السلام : إكفني هذه . فحمل عليه السلام و قتل رئيسها ، ثم صمدت له كتيبة ثالثة . فكذلك . فكان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد ذلك يقول : قال لي جبريل : يا محمّد إنّ هذه للمواساة فقلت و ما يمنعه و هو منّي و أنا منه . فقال جبريل و أنا
-----------
( 1 ) الحجرات : 1 .
-----------
( 2 ) الاستيعاب 1 : 416 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 117 ، شرح الخطبة 226 .
-----------
( 4 ) يوجد لفظة « فيها » في شرح ابن أبي الحديد 2 : 541 ، و شرح ابن ميثم 3 : 439 ، ايضا .
[ 100 ]
منكما 1 . قلت و رواه الطبري و روى ما بعده 2 .
قال : و روى المحدثون أيضا أنّ المسلمين سمعوا ذلك اليوم صائحا من جهة السماء ينادي : « لا سيف إلاّ ذو الفقار ، و لا فتى إلاّ علي » فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمن حضره : ألا تسمعون ؟ هذا صوت جبريل .
قال : و أما يوم حنين . فثبت معه في نفر يسير من بني هاشم بعد أن ولّى المسلمون الأدبار ، و حامى عنه ، و قتل قوما من هوازن بين يديه ، حتى ثابت إليه الأنصار ، و انهزمت هوازن ، و غنمت أموالها ، و أما يوم خيبر فقصّته مشهورة ، الخ 3 .
قلت : لم خصّ تلك المواطن باحد و حنين و خيبر ؟ و لم لم يذكر يوم الأحزاب ، يوم عمرو بن عبد ود ، و قد كان الفتح في جميع غزوات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على يده ، و تقدم الكلام فيها في الأوّل عند قوله عليه السلام : « أما و اللّه إن كنت لفي ساقتها حتّى ولّت بحذافيرها ما ضعفت و لا جبنت » 4 و لم تكن مواساته عليه السلام مختصة بغزواته . لم لم يذكر ليلة المبيت ، و قد ذكر الثعلبي منهم في قوله تعالى : و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه 5 أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا أراد الهجرة خلّف عليا عليه السلام بمكّة لقضاء ديونه و ردّ الودايع الّتي كانت عنده ، و أمره ليلة خرج إلى الغار ، و قد أحاط المشركون بالدار ، أن ينام على فراشه . ففعل فأوحى عزّ و جلّ إلى جبرئيل و ميكائيل : إنّي قد آخيت بينكما ،
و جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر . فأيّكم يؤثر صاحبه بالحياة ،
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 542 .
-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 2 : 197 سنة 3 .
-----------
( 3 ) المصدر نفسه .
-----------
( 4 ) مر في عنوان 2 من هذا الفصل .
-----------
( 5 ) البقرة : 207 .
[ 101 ]
فاختار كلاهما الحياة ، فأوحى إليهما : ألاّ كنتما مثل علي آخيت بينه و بين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ، و يؤثره بالحياة ، فاهبطا إلى الارض .
فاحفظاه من عدوه ، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه ، و ميكائيل عند رجليه ، فقال جبرئيل : بخ بخ . من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي اللّه بك الملائكة . فأنزل اللّه تعالى على رسوله ، و هو متوجّه إلى المدينة في شأن علي عليه السلام و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه 1 و لم لم يذكر يوم البراءة .
« نجدة أكرمني اللّه بها » أي : شجاعة . جعله ( ابن أبي الحديد ) مفعولا مطلقا حذف عامله 2 ، و جعله « خو » مفعولا له لقوله « و لقد واسيته » 3 ، و الصواب :
كونه خبرا ، أي : تلك المواساة نجدة أكرمني اللّه بها .
رووا أنّه قيل لخلف الأحمر : أيّهما أشجع عنبسة و بسطام أم علي ؟ فقال :
إنّما يذكران مع البشر لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة . فقيل له : فعلى كل حال .
فقال : و اللّه لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما 4 .
« و لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّ رأسه لعلى صدري » قال الطبري : ان عليا عليه السلام كان يغسّله ، قد أسنده إلى صدره ، و عليه قميصه يدلكه من ورائه 5 .
و في ( الإرشاد ) : و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا قرب خروج نفسه قال له : ضع يا علي رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر اللّه تعالى . فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك ،
و امسح بها وجهك ثم وجّهني ، و تولّ امري ، و صلّ علي أوّل الناس ، و لا تفارقني حتّى تواريني في رمسي ، و استعن باللّه تعالى . فأخذ علي عليه السلام رأسه
-----------
( 1 ) رواه عن الثعلبي ابن طاووس في الطرائف 1 : 37 ، ح 27 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 542 .
-----------
( 3 ) شرح الخوئي 6 : 44 .
-----------
( 4 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 4 : 55 ، شرح الكتاب 35 .
-----------
( 5 ) تاريخ الطبري 2 : 451 سنة 11 .
[ 102 ]
في حجره فاغمي عليه فأكبّت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه و تندبه و تبكي و تقول :
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ففتح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عينه و قال بصوت ضئيل : يا بنية هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ، و لكن قولي : و ما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم 1 فبكت طويلا فأومأ إليها بالدنو منه ،
فدنت منه فأسرّ إليها شيئا تهلّل وجهها له 2 .
و روى أحمد بن حنبل في ( فضائله ) عن ام سلمة قالت : و الّذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهدا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعثه في حاجة غداة قبض فكان يقول : أجاء علي ثلاث مرّات فجاء علي قبل طلوع الشمس فخرجنا من البيت لمّا عرفنا أنّ له إليه حاجة . فأكبّ عليه علي عليه السلام فكان آخر الناس به عهدا و جعل يسارّه و يناجيه 3 .
و عن الطبري في ( الولاية ) و الدار قطني في ( الصحيح ) ، و السمعاني في ( فضائله ) عن عائشة قالت : قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو في بيتها : ادعوا لي حبيبي .
فدعوت له أبا بكر فنظر إليه ثم وضع رأسه . ثم قال : ادعوا لي حبيبي . فدعوا له عمر . فلمّا نظر إليه قال : ادعوا لي حبيبي . فقلت : ويلكم ادعوا له عليّا . فو اللّه ما يريد غيره . فلمّا رآه أفرج الثوب الّذي كان عليه ثم أدخله فيه ، و لم يزل يحتضنه حتّى قبض و يده عليه 4 .
و روى أحمد بن حنبل في ( مسنده ) عن ابن عباس قال : لمّا مرض
-----------
( 1 ) آل عمران : 144 .
-----------
( 2 ) الارشاد : 100 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 3 ) أخرجه أحمد في مسنده 6 : 300 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 4 ) رواه عنهم السروي في مناقبه 1 : 236 .
[ 103 ]
النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مرضه الّذي مات فيه قال : ادعوا عليّا . قالت عائشة : ندعو لك أبا بكر و قالت حفصة : ندعو لك عمر . و قالت امّ الفضل ، ندعو لك العبّاس . فلمّا اجتمعوا رفع رأسه فلم ير عليّا صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، فسكت فقال عمر : قوموا عن رسول اللّه 1 .
و روى كاتب الواقدي في ( طبقاته ) عن أبي غطفان قال : سألت ابن عباس أرأيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم توفّي و رأسه في حجر أحد ؟ قال : توفّي و هو لمستند إلى صدر علي عليه السلام . قلت : فإنّ عروة حدّثني عن عايشة أنّها قالت توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بين سحري و نحري . فقال ابن عباس : أتعقل ؟ و اللّه لتوفي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أنّه لمستند إلى صدر علي عليه السلام و هو الّذي غسّله ، و أخي الفضل ،
و أبى أبي أن يحضر ، و قال : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان يأمرنا أن نستتر فكان عند الستر 2 .
و من المضحك أنّ عائشة خطبت يوم الجمل كما في ( بلاغات أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) فقالت : قبض النبي بين سحري و نحري ، و أنا إحدى نسائه في الجنّة له ادّخرنى ربي ، و حصتى من كل بضع ، و بي ميّز مؤمنكم من منافقكم 3 فقولها : « قبض النبي بين سحري و نحري » كقولها : « بي ميّز مؤمنكم من منافقكم » و على قولها يكون اللّه منافقا حيث لم يرض خروجها و قال لها و قرن في بيوتكن و لا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاولى 4 فضلا عن جبرئيل و أمير المؤمنين عليهما السلام حيث قال تعالى أيضا و لصاحبتها : و ان
-----------
( 1 ) رواه عنهم السروي في مناقبه 1 : 236 .
-----------
( 2 ) طبقات ابن سعد 2 ق 2 : 51 .
-----------
( 3 ) بلاغات النساء : 12 .
-----------
( 4 ) الاحزاب : 33 .
[ 104 ]
تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين 1 و لزم أن يكون مروان بن الحكم مؤمنا حيث ساعدها في الجمل .
قال ابن أبي الحديد : قالت الشيعة : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم توفي لليلتين بقيتا من صفر و الأكثرون أنّه في شهر ربيع الأوّل بعد مضي أيّام منه 2 .
قلت : ما نسبه إلى الشيعة إنّما هو قول بعضهم ، المفيد و الطوسي و ذهب الكليني في ( كافيه ) : إلى كونه في الثاني عشر من ربيع الأول ، و في ( إثبات الوصيّة ) أيضا : انّه في ربيع الأول 3 .
« و لقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي » روى ابن المغازلي في ( مناقبه ) : أنّ عائشة سئلت : من كان أحبّ الناس إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ فقالت :
فاطمة . فقيل لها : من الرجال ؟ قالت : زوجها و ما يمنعه منه ، و اللّه إنّه كان صوّاما قوّاما ، و لقد سالت نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في يده فردّها إلى فيه 4 .
و اختلاف قولها هذا مع قولها يوم الجمل المتقدم محمول على اختلاف المقامات في سخطها و رضاها ، و أيضا قد يجري اللّه الحق على لسان أهل الباطل فيقرّون بها إتماما للحجّة . و مر خبر كاتب الواقدي في تكذيب ابن عباس لها في قولها الأوّل .
ثم اختلف في المراد من سيلان نفسه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فالمفهوم من ابن أبي الحديد و ابن ميثم كون المراد به سيلان الدم من قولهم « ذو نفس سائلة » فقالا : « يقال انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قاء دما يسيرا وقت موته ، و أنّ عليا عليه السلام مسح بذلك الدم
-----------
( 1 ) التحريم : 4 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 543 .
-----------
( 3 ) قاله المفيد في الارشاد : 101 ، و في تاريخه : 63 ، و الطوسي في التهذيب 6 : 2 ، و أيضا الراوندي في قصص الأنبياء ،
و عنه : البحار 22 : 514 و قال القول الثاني : الكليني في الكافي 1 : 439 ، و المسعودي في إثبات الوصية : 106 .
-----------
( 4 ) رواه عن مناقب ابن المغازلي ابن طاووس في الطرائف 1 : 157 ح 244 ، لكن لم يوجد في النسخة المطبوعة .
[ 105 ]
وجهه » 1 و المفهوم من المفيد كون المراد به خروج روحه . ففي ( إرشاده ) :
قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و يد امير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها فرفعها الى وجهه فمسحه بها ، فعبر بفيضان نفسه 2 .
و في ( الصحاح ) : « فاضت نفسه » أي : خرجت روحه . قال أبو عبيدة و الفراء : هي لغة في تميم ، و نقل عن الأصعمي عن أبي عمرو بن العلاء انّه قال بدل « فاضت نفسه » « فاظت نفسه » 3 .
فإن قيل : فما المراد ؟ قلت : يمكن أن يكون المراد إمرار الكف الّتي تأثرت من خروج الروح فيها على الوجه .
« و لقد ولّيت غسله و الملائكة أعواني » روى كاتب الواقدي في ( طبقاته ) مسندا عن يزيد بن بلال قال : قال علي عليه السلام : أوصى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن لا يغسّله أحد غيري ، فإنّه لا يرى أحد عورتي إلاّ طمست عيناه . قال علي عليه السلام : فكان الفضل و اسامة يناولاني الماء من وراء الستر و هما معصوبا العين . قال علي عليه السلام : فما تناولت عضوا إلاّ كانّما يقلّبه معي ثلاثون رجلا حتّى فرغت من غسله 4 .
قال ابن أبي الحديد : الغسل تولاّه علي عليه السلام بيده ، و كان الفضل بن العباس يصبّ عليه الماء ، و يروي الشيعة أنّ عليّا عليه السلام عصب عيني الفضل حين صبّ عليه الماء ، و أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أوصاه بذلك ، و قال له : إنّه لا يبصر عورتي أحد غيرك إلاّ عمي 5 .
-----------
( 1 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 542 ، و شرح ابن ميثم 3 : 441 .
-----------
( 2 ) الارشاد : 100 .
-----------
( 3 ) صحاح اللغة 3 : 1099 و 1177 ، مادة ( فيض و فيظ ) .
-----------
( 4 ) طبقات ابن سعد 2 ق 2 : 61 .
-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 543 ، و النقل بتلخيص .
[ 106 ]
قلت : لم يختص بذلك الشيعة . فقد عرفت رواية كاتب الواقدي له ، و هو من نصّاب العامة ، و نقل عن ابن بطة و ابن المغازلي و هما أيضا من العامة روايتهما لذلك 1 و قال الحميري مشيرا إلى ذلك :
هذا الّذي ولّيته عورتي و لو
رأى عورتي سواه عمي
و مرّ خبر ابن عباس خوف أبيه من حضور غسله صلّى اللّه عليه و آله و سلم لذلك .
و في ( تاريخ اليعقوبي ) : كان بعض نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أتين فاطمة عليها السلام في مرضها فقلن : يا بنت رسول اللّه صيّري لنا في حضور غسلك حظّا . قالت :
أتردن تقلن فيّ كما قلتن في أبي ؟ لا حاجة لي في حضوركن 2 .
« فضجت الدار و الأفنية » جمع الفناء ، و فناء الدار ما امتد من جوانبها .
« ملأ يهبط و ملأ يعرج » قال الخوئي : روى ( البحار ) من ( البصائر ) عن أحمد بن محمّد عن القاسم بن يحيى ، عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام :
لمّا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم هبط جبرئيل عليه السلام و معه الملائكة و الروح الّذين كانوا يهبطون في ليلة القدر . ففتح لأمير المؤمنين عليه السلام بصره . فرآهم في منتهى السماوات إلى الأرض يغسّلون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم معه ، و يصلّون عليه معه و يحفرون له ، و اللّه ما حفر له غيرهم حتّى إذا وضع في قبره نزلوا مع من نزل فوضعوه 3 .
قلت : الخبر ليس بالسند الّذي ذكر . ففي « باب ما يلقى إليهم عليهم السلام في ليلة القدر » من ( البصائر ) روى أوّلا خبرا بذلك السند . ثم روى خبرا عن أحمد بن
-----------
( 1 ) رواه ابن المغازلي في مناقبه : 93 ح 137 ، و أيضا الديلمي في الفردوس و عنه كنوز الحقائق 2 : 175 ، و أما ابن بطة فلم يروه بل نقل السروي في مناقبه 1 : 239 حديثا آخر عن أبانة ابن بطة ثم قال « و روي » فذكر هذا الحديث و الظاهر أن قوله « روي » بلفظ المجهول .
-----------
( 2 ) رواه اليعقوبي في تاريخه 2 : 115 و النقل بتلخيص و فيه « كما قلتن في امّي » .
-----------
( 3 ) شرح الخوئي 6 : 58 .
[ 107 ]
الحسن ، عن أحمد بن محمّد ، عن العباس بن حريش عن الجواد عليه السلام ثم قال « و بهذا الاسناد » و روى هذا الخبر 1 ، و هو كما ترى إشارة إلى الخبر الأخير لا الأوّل .
« و ما فارقت سمعي هينمة » أي : صوت خفي .
« منهم يصلّون عليه » روى ( الكافي ) عن أمير المؤمنين عليه السلام سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في صحته و سلامته يقول : إنما انزلت آية : إنّ اللّه و ملائكته يصلّون على النبي ، يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما 2 في الصلاة علي بعد قبض اللّه تعالى لي 3 .
و في ( كامل الجزري ) : قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : ضعوني على سريري على شفير قبري . ثم اخرجوا عنّي ساعة ليصلّي علي جبرئيل و إسرافيل و ميكائيل و ملك الموت مع الملائكة 4 .
و رواه الطبري عن ابن مسعود و زاد « قال : قلنا فمن يدخلك في قبرك يا نبيّ اللّه ؟ قال : أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم » 5 .
و قال ابن أبي الحديد : و صلّوا عليه إرسالا لا يؤمّهم أحد ، و قيل : إنّ عليّا عليه السلام أشار بذلك فقبلوه . و أنا أعجب من ذلك لأنّ الصلاة عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلم كانت بعد بيعة أبي بكر فما الّذي منع من أن يتقدّم أبو بكر فيصلّي عليه إماما 6 .
-----------
( 1 ) يوجد الحديث بهذا السند في البصائر : 245 ح 17 ، كما رواه المجلسي و الخوئي و أمّا الحديث الثاني فهو قبل الحديث الاول في البصائر : 262 و 263 ح 12 و 14 ، بمتنين ، سند أحدهما أحمد بن محمّد عن الحسن بن العباس بن حريش ، و الآخر الحسن بن أحمد بن محمّد عن أبيه عن الحسن بن العباس بن حريش .
-----------
( 2 ) الاحزاب : 56 .
-----------
( 3 ) الكافي 1 : 451 ح 38 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 4 ) رواه ابن الاثير في الكامل 2 : 320 ، سنة 11 ، و ايضا الطبري في تاريخه 2 : 435 ، سنة 11 .
-----------
( 5 ) تاريخ الطبري 2 : 436 ، سنة 11 .
-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 543 .
[ 108 ]
قلت : كيف يصلّي عليه إماما ، و قد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بصلاتهم عليه إرسالا قد رووا أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم سئل عمّن يصّلى عليه . فقال : « إذا غسّلتموني ،
و كفّنتموني ، فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري . ثم اخرجوا عنّي ساعة . فإنّ أوّل من يصلّي علي جليسي و حبيبي و خليلي جبرائيل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة . ثم ادخلوا علي فوجا فوجا فصلّوا علي و سلّموا إلى أن قال و ليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد » و قد نقل الخبر ابن أبي الحديد نفسه في موضع آخر 1 .
و مع ذلك فعجبه في محله فحيث تخلف أبو بكر عن جيش اسامة و لم يقنع بذلك و تقدم إلى الصلاة في مكان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى يجعل ذلك وسيلة لتصديه الأمر حتّى خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع شدّة مرضه و عدم قدرته على المشي مستقلا و أخّره ، كيف لم يصلّ عليه بعد بيعتهم له ؟ إلاّ أنّه يرفع العجب أنّه كان نال غرضه حينئذ ، و لم يبال بالصلاة عليه بعد ، و لئلاّ يطعن بمخالفته في ذلك أيضا .
و روى ( الكافي ) في باب مولد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الباقر عليه السلام قال : لمّا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بات آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم بأطول ليلة حتّى ظنّوا أن لا سماء تظلّهم ،
و لا أرض تقلّهم لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تر الأقربين و الأبعدين في اللّه . فبينما هم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه و يسمعون كلامه . فقال : « السلام عليكم أهل البيت و رحمة اللّه و بركاته . إنّ في اللّه عزاء من كلّ مصيبة ، و نجاة من كلّ هلكة ،
و دركا لما فات كلّ نفس ذائقة الموت ، و إنّما توفّون اجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار ، و ادخل الجنّة فقد فاز ، و ما الحياة الدنيا إلاّ متاع
-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 190 ، شرح الخطبة 233 .
[ 109 ]
الغرور 1 انّ اللّه اختاركم و فضّلكم و طهّركم ، و جعلكم أهل بيت نبيّه ،
و استودعكم علمه ، و اورثكم كتابه ، و جعلكم تابوت علمه ، و عصا عزّة ،
و ضرب لكم مثلا من نوره ، و عصمكم من الزلل ، و آمنكم من الفتن ، فتعزّوا بعزاء اللّه فإنّ اللّه لم ينزع منكم رحمته ، و لن يزيل عنكم نعمته ، فأنتم أهل اللّه عزّ و جلّ الّذين بهم تمّت النعمة إلى أن قال :
و قد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أكمل لكم الدين ، و بيّن لكم سبيل المخرج .
فلم يترك لجاهل حجّة ، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسى فعلى اللّه حسابه ، و اللّه من وراء حوائجكم ، و أستودعكم اللّه ، و السلام عليكم » .
و سئل أبو جعفر عليه السلام ممّن أتاهم التعزية فقال : من اللّه تبارك و تعالى 2 .
« حتى واريناه في ضريحه » في مسند أحمد بن حنبل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : لقد أعطيت في علي خمس خصال هي أحبّ إلىّ من الدنيا و ما فيها إلى أن قال :
و أمّا الرابعة : فساتر عورتي ، و مسلّمي إلى ربي 3 .
و في ( الإرشاد ) : دخل أمير المؤمنين عليه السلام و العبّاس ، و ابنه الفضل ،
و اسامة بن زيد ليتولّوا دفن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فنادت الأنصار من وراء البيت : يا علي انّا نذكرك اللّه ، و حقنا اليوم من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يذهب ، أدخل منّا رجلا يكون لنا به حظّ من مواراة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال عليه السلام : ليدخل أوس بن خولي و كان بدريا فاضلا من بني عوف من الخزرج فلمّا دخل قال عليه السلام له : إنزل القبر . فنزل ، و وضع عليه السلام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على يديه ، و ولاّه في حفرته ، فلمّا حصل
-----------
( 1 ) آل عمران : 185 .
-----------
( 2 ) اخرجه الكليني في الكافي 1 : 445 ح 19 .
-----------
( 3 ) رواه عن مسند أحمد ، ابن طاووس في الطرائف 1 : 157 ح 246 ، و عن فضائل أحمد ، ابن أبي الحديد في شرحه 2 :
431 ، شرح الخطبة 152 ، لكن لم يوجد في نسختنا من مسند أحمد .
[ 110 ]
في الأرض قال عليه السلام له : اخرج فخرج ، و نزل عليه السلام القبر فكشف عن وجه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و وضع خده على الأرض موجّها إلى القبلة على يمينه . ثم وضع عليه اللبن ، و أهال عليه التراب 1 .
و روى ابن أبي الحديد عند عنوان و من كلام له عليه السلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عنهم قريبا منه و قال : من تأمل هذه الأخبار علم ان عليا عليه السلام كان الاصل و الجملة و التفصيل في أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و جهازه . ألا ترى أنّ أوس بن خولي لا يخاطب أحدا من الجماعة غيره ، و لا يسأل غيره في حضور الغسل و النزول في القبر . قال : ثم انظر إلى كرم علي عليه السلام و سجاحة أخلاقه ،
و طهارة شيمته كيف لم يضنّ بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس ، و هو رجل غريب من الأنصار . فعرف له حقه ، و اطلبه بما طلبه فكم بين هذه السجيّة الشريفة و قول من قال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلاّ نساؤه ، و لو كان في ذلك المقام غيره من اولي الطباع الخشنة ،
و أرباب الفظاظة و الغلظة و قد سأل أوس ذلك ، لزجر و انتهر ، و رجع خائبا 2 .
قلت : هل تستوي الظلمات و النور .
و قال ابن أبي الحديد أيضا : ثمّه نقلا عن الطبري روايته عن ابن مسعود في خبر بعد ذكر الغسل و الصلاة « قلنا فمن يدخلك قبرك يا رسول اللّه ؟ قال :
أهلي مع ملائكة كثيرة يرونكم و لا ترونهم » .
و قال ابن أبي الحديد : العجب لهم كيف لم يقولوا له في تلك الساعة « فمن يلي امورنا بعدك » لأنّ ولاية الأمر أهمّ من السؤال عن الدفن و عن كيفية الصلاة عليه 3 .
-----------
( 1 ) الارشاد 101 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 193 ، شرح الخطبة 233 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 190 ، شرح الخطبة 233 ، و ما نقله عن تاريخ الطبري فهو فيه 2 : 436 ، سنة 11 .
[ 111 ]
قلت : بل عيّن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبل من يلي امورهم في حجّة وداعه في صحته ، و أراد تجديده و تأكيده ذاك الوقت في مرضه فمنعه فاروقهم ، و قد نقل ابن أبي الحديد نفسه عن الطبري عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عباس يقول : يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم يبكي حتى تبل دموعه الحصباء .
فقلنا له و ما يوم الخميس ؟ قال : يوم اشتدّ بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم وجعه فقال : إئتوني باللوح و الدواة أو قال بالكتف و الدواة أكتب لكم ما لا تضلّون بعدي ،
فتنازعوا . فقال : « اخرجوا عنّي ، و لا ينبغي عند نبي ان يتنازع » قالوا : ما شأنه ؟
اهجر ؟ استفهموه ؟ فذهبوا يعيدون عليه . فقال : « دعوني فما أنا فيه خير مما يدعوني إليه » 1 .
و الطبري و ان أجمل القائل « أهجر » إلاّ انّ كاتب الواقدي و غيره صرّحوا في رواياتهم أنّ القائل « أهجر » عمر ، و رووا عنه إقراره بأنّه منع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من الوصيّة 2 لأنّه علم أنّه يريد أن يعيّن عليا و لم يكن صلاحا لإباء قريش عنه .
و قال ابن أبي الحديد : ثمه أيضا روت عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة قالت : ما علمنا بدفن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى سمعنا صوت المساحي في جوف الليل ليلة الأربعاء . و قال : فمن العجب كون عائشة و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلم في بيتها لا تعلم بدفنه حتّى سمعت صوت المساحي ،
أتراها أين كانت ؟ قال : و قد سألت عن هذا جماعة . فقالوا : لعلّها كانت في بيت يجاور بيتها عندها نساء كما جرت عادة أهل الميت و تكون قد اعتزلت
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 190 ، شرح الخطبة 233 ، و ما نقله عن تاريخ الطبري فهو فيه 2 : 436 ، سنة 11 .
-----------
( 2 ) اخرجه بلا تصريح باسم عمر الطبري في تاريخه 2 : 436 ، سنة 10 ، و جماعة اخرى ، و أخرجه مع تصريح البخاري في صحيحه 1 : 32 ، و 4 : 7 و 271 ، و مسلم في صحيحه 3 : 1259 ح 22 ، و جمع آخر و روى اعتراف عمر بمنعه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 97 ، شرح الخطبة 226 .
[ 112 ]
بيتها و سكنت ذلك البيت 1 .
قلت : بل الظاهر أنّها كأبيها و صاحبه أشفقت من بقاء الامّة بلا و ال فخلّت جنازته و كانت في تدبير ذلك معهما ، و كيف تصبر على أن لا تشاهد إلى ما يصير أمر أبيها ، و قد كانت في مرض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعثت إلى أبيها في صلاته بالناس عوض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
« فمن ذا أحق به مني حيّا و ميّتا » من أحق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من أمير المؤمنين عليه السلام حيا و ميتا ، و قد قال عزّ و جلّ في محكم كتابه فيه خصوصا إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون 2 و قال عزّ و جلّ و أنفسنا و أنفسكم 3 و فيه و في أهل بيته المعصومين عموما إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا 4 و قال تبارك اسمه قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودّة في القربى 5 و قال رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم في المتواتر عنه بعد تقرير الناس بكونه أولى بهم من أنفسهم « أيّها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم و ال من والاه و عاد من عاداه » 6 .
و من أحق به صلّى اللّه عليه و آله و سلم حيّا و ميّتا و قد قال سلمان و نقله ابن أبي الحديد في موضع آخر دخلت عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلم صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه فقال
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 193 ، شرح الخطبة 233 .
-----------
( 2 ) المائدة : 55 .
-----------
( 3 ) آل عمران : 61 .
-----------
( 4 ) الاحزاب : 33 .
-----------
( 5 ) الشورى : 23 .
-----------
( 6 ) حديث الغدير المتواتر أخرجه جمع كثير من أهل الحديث ، منها ما أخرجه ابن عساكر بطرق كثيرة في ترجمة علي عليه السلام 2 : 5 90 ح 503 593 .
[ 113 ]
لي : يا سلمان لا تسألني عمّا كابدته الليلة من الألم و السهر أنا و علي . فقلت : يا رسول اللّه ألاّ أسهر الليلة معك بدله . فقال : لا هو أحق بذلك منك 1 .
و قالت ام سلمة كما رواه أحمد بن حنبل في ( مسنده ) : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول : أجاء علي ؟ مرارا أظنّه كان بعثه في حاجة ، فجاء بعد ذلك فظننت أنّ له إليه حاجة . فخرجنا من البيت . فقعدنا عند الباب فكنت أدنى إلى الباب . فأكبّ عليه علي عليه السلام فجعل يسارّه و يناجيه ، ثم قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في يومه ذلك 2 .
و عن ( أربعين الخطيب ) في خبر طويل قال حذيفة : دخل علي عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو مريض ، فإذا رأسه في حجر رجل أحسن الخلق ،
و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نائم . فقال الرجل : ادن إلى ابن عمّك . فأنت أحق به منّي ، فوضع رأسه في حجره . فلمّا استيقظ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم سأله عن الرجل قال علي : كان كذا و كذا . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : ذاك جبرئيل كان يحدّثني حتّى خفّ عنّي و جعي 3 .
و في ( الطبري ) مسندا عن أبي رافع قال : لما قتل علي عليه السلام ( يوم احد ) أصحاب الألوية . أبصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم جماعة من مشركي قريش . فقال لعليّ :
إحمل عليهم فحمل عليهم ، ففرّق جمعهم و قتل عمرو بن عبد اللّه الجمحي ،
ثم أبصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : إحمل عليهم ،
فحمل عليهم ففرّق جماعتهم و قتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي .
فقال جبرئيل : يا رسول اللّه إنّ هذه للمواساة . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله : إنّه منّي و أنا منه ، فقال جبرئيل : و أنا منكما . قال : فسمعوا صوتا : « لا سيف إلاّ ذو الفقار
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 571 ، شرح الخطبة 200 .
-----------
( 2 ) اخرجه أحمد في مسنده 6 : 300 ، و النقل بتصرف في اللفظ .
-----------
( 3 ) رواه عن اربعين الخوارزمي السروي في مناقبه 2 : 237 ، و اخرجه ايضا الخوارزمي في مناقبه : 83 .
[ 114 ]
و لا فتى إلاّ علي » 1 .
و روى المرزباني : أنّ خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين ( و قيل عبد اللّه بن سفيان الحرث بن عبد المطلب ) قال :
ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أ ليس أوّل من صلّى بقبلتهم
و أعرف الناس بالآثار و السنن
و آخر الناس عهدا بالنبيّ و من
جبريل عون له بالغسل و الكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به
و ليس في القوم ما فيه من الحسن
فما الّذي ردّكم عنه فنعلمه
ها إنّ بيعتكم من اغبن الغبن
و في لفظ : « ها إنّ بيعتكم في أوّل الفتن » 2 .
و قال الحميري :
و كفاه تغسيله وحده أحمد
ميتا و وضعه في اللحد
و قال :
و من ذا تشاغل بالنبيّ و غسله
و رأى عن الدنيا بذاك عزاء
و قال العبدي :
من كان صنو النبي غير علي
من غسّل الطهر ثم واراه
و قال العوفي :
من غسّل المرسل و من أنزله
في لحده و عنه الدين قضى
و روى ابن سعد و هو من نصّابهم في ( طبقاته ) عن جابر ، أنّ كعب الأحبار قام زمن عمر فقال و نحن جلوس عند عمر : ما كان آخر ما تكلم به
-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 197 ، سنة 3 .
-----------
( 2 ) رواه عن المرزباني المفيد في الارشاد : 22 ، و رواه ايضا المرتضى في الفصول المختارة 2 : 216 ، و السروي في مناقبه 3 : 196 ، بفرق .
[ 115 ]
النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ فقال عمر : سل عليّا . قال : أين هو ؟ قال : هو هنا . فسأله . فقال علي عليه السلام : أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي . فقال : الصلاة الصلاة ، فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبياء و به امروا و عليه يبعثون . قال : فمن غسّله ؟ قال : سل عليّا . قال فسأله . فقال : كنت أنا اغسّله ، و كان عباس جالسا ،
و كان اسامة و شقران يختلفان إليّ بالماء 1 .
و روى أيضا عن عمر بن علي قال : قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مرضه : ادعوا لي أخي . قال : فدعي له علي . فقال : ادن منّي . قال : فدنوت منه . فاستند اليّ . فلم يزل مستندا إليّ و إنه ليكلّمني حتّى إنّ بعض ريق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليصيبني الخبر 2 .
و من أحق به صلّى اللّه عليه و آله و سلم منه عليه السلام حيّا و ميّتا ، و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم في المستفيض : « أنا مدينة العلم و علي بابها . فمن أراد المدينة . فليأت من بابها » 3 ،
و قد قال تعالى محيلا إلى بداهة العقول هل يستوي الّذين يعلمون و الّذين لا يعلمون إنّما يتذكر اولو الألباب 4 .
ثم الغريب روايتهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر أبا بكر بالصلاة ، و جعلوا ذلك دليل إمامته ، فاستند إليه عمر في نصب أبي بكر جاعلا له فوق الإمامة خلافة الرسول ، فقال لأبي بكر : إنّ النبي اختارك لديننا بصلاتك بالناس . فكيف لا نرضاك لدنيانا بالإمامة لنا ، و هذا مع روايتهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر أبا بكر بخروجه في جيش اسامة ، و لعن المتخلّف ، فكيف أمره بالصلاة بالناس مع
-----------
( 1 ) طبقات ابن سعد 2 ق 2 : 51 .
-----------
( 2 ) المصدر نفسه .
-----------
( 3 ) اخرجه الحاكم في المستدرك 3 : 126 و 127 ، و الكلابي في مسنده ، منتخبه : 426 ح 2 ، و البزّار في مسنده ،
و الديلمي في الفردوس ، و عنهما ينابيع المودة : 72 و 282 ، و غيرهم .
-----------
( 4 ) الزمر : 9 .
[ 116 ]
روايتهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : ادعوا لي عليا فدعت عائشة و حفصة بأبويهما ،
فأعرض عنهما 1 و مع روايتهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله خرج بتلك الحال متّكئا على رجلين و صلّى بهم قاعدا 2 .
و رووا في صلاة أبي بكر بالناس ما يبطل صدره ذيله ، و يكذّب آخره أوّله ، قال ابن أبي الحديد في عنوان « و من كلام له عليه السلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم » : روى الأرقم ابن شرحبيل قال : سألت ابن عباس هل أوصى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال : لا . قلت : فكيف كان فقال : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال في مرضه ،
ابعثوا إلى علي فادعوه . فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر ، و قالت حفصة : لو بعثت إلى عمر ، فاجتمعوا عنده هكذا لفظ الخبر على ما أورده الطبري في التاريخ و لم يقل : فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إليهما .
قال ابن عباس فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : انصرفوا فإن تكن لي حاجة ابعث اليكم فانصرفوا ، و قيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم الصلاة ، فقال : مروا أبا بكر أن يصلّي بالناس . فقالت عائشة : ان أبا بكر رجل رقيق فمر عمر . فقال : مروا عمر . فقال :
عمر ما كنت لأتقدم و أبو بكر شاهد ، فتقدم أبو بكر ، فوجد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم خفّة فخرج . فلمّا سمع أبو بكر حركته تأخّر فجذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأقامه مكانه و قعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقرأ حيث انتهى أبو بكر .
ثم قال ابن أبي الحديد : عندي في هذه الواقعة كلام و يعترضني فيها شكوك و اشتباه إذ كان قد أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يبعث إلى علي ليوصي إليه فنفست عائشة . فسألت أن يحضر أبوها ، و نفست حفصة عليه ، فسألت أن
-----------
( 1 ) رواه السروي في مناقبه 1 : 236 ، عن الطبري في الولاية و الدار قطني في سنته و السمعاني في الفضائل و أحمد في مسنده .
-----------
( 2 ) اخرجه البخاري في صحيحه 1 : 122 و 126 ، و مسلم في صحيحه 1 : 311 ح 90 ، و غيرهما .
[ 117 ]
يحضر أبوها ، ثم حضرا و لم يطلبا ، فلا شبهة أنّ ابنتيهما طلبتاهما ، هذا هو الظاهر و قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قد اجتمعوا عنده « إنصرفوا فإن تكن لي حاجة بعثت إليكم » قول من عنده ضجر و غضب باطن بحضورهما ، و تهمة للنساء في استدعائهما . فكيف يطابق هذا الفعل و هذا القول ما روي من انّ عائشة قالت : لمّا عيّن أبوها في الصلاة « إنّ أبي رجل رقيق فمروا عمر » ؟ و أين ذلك الحرص من هذا الاستعفاء و الاستقالة ؟ و هذا يوهم صحّة ما تقوله الشيعة من أنّ صلاة أبي بكر كانت عن أمر عائشة ، و ان كنت لا أقول بذلك ، و لا أذهب إليه إلاّ من تأمّل هذا الخبر ، و لمح مضمونه يوهم ذلك فلعل هذا الخبر غير صحيح .
قال ابن أبي الحديد : فإن قلت : لم قلت في صدر كلامك هذا : إنّه أراد أن يبعث إلى علي ليوصى إليه ، و لم لا يجوز أن يكون بعث إليه لحاجة له . قلت : لأنّ مخرج كلام ابن عباس هذا المخرج ، ألا ترى أنّ أرقم بن شرحبيل الرواي لهذا الخبر قال : سألت ابن عباس هل أوصى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ فقال : لا . فقلت : فكيف كان ؟ فقال : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال في مرضه : إبعثوا إلى علي فادعوه . فسألته المرأة أن يبعث إلى أبيها ، و سألته الاخرى أن يبعث إلى أبيها . فلو لا أنّ ابن عباس فهم من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم « ابعثوا إلى علي فادعوه » أنّه يريد الوصية لما كان لأخبار الأرقم بذاك متّصلا بسؤاله عن الوصية معنى 1 .
قلت : لقد أجاد في كلامه ، ثم أيّ معنى لقراءة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من حيث انتهى أبو بكر بعد عدم اقتداء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم به كما تضمّنه خبرهم ؟ ثم أي استبعاد لصلاته بغير اذنه في مرضه مع صلاته بغير اذنه في صحته . روى مسلم و البخاري في ( صحيحيهما ) عن سهل الساعدي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم . فجاءت الصلاة . فجاء المؤذن إلى
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 191 ، شرح الخطبة 233 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 118 ]
أبي بكر . فقال : تصلي بالناس فاقيم فقال : نعم . قال : فصلّى أبو بكر . فجاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فخرق الصفّ حتى قام عند الصف المقدم فرجع أبو بكر القهقرى 1 ، و من أين ان مبادرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى المسجد ، و تأخير أبي بكر في الموضعين لا سيما في الأوّل الّذي كان في شدّة المرض للدلالة على عدم جواز الاقتداء به .
و من الغريب أنّ الجزري قال : و لمّا اشتد مرضه اذّنه بلال بالصلاة .
فقال : مروا أبا بكر يصلي بالناس ، قالت عائشة : فقلت : إنّه رجل رقيق ، و انّه متى يقوم مقامك لا يطيق ذلك ، فقال : مروا ابا بكر فيصلي بالناس فقلت مثل ذلك ،
فغضب و قال : إنكنّ صواحب يوسف ، مروا أبا بكر يصلي بالناس . فتقدم أبو بكر . فلمّا دخل في الصلاة وجد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم خفّة فخرج بين رجلين . فلمّا دنا من أبي بكر تأخّر أبو بكر فأشار إليه أن قم مقامك . فقعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يصلّي إلى جنب أبي بكر جالسا ، فكان أبو بكر يصلّي بصلاة النبي ، و الناس يصلّون بصلاة أبي بكر و صلّى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة و قيل : ثلاثة أيّام ثمّ انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم خرج في اليوم الّذي توفّي فيه إلى الناس في صلاة الصبح . فكاد الناس يفتتنون في صلاتهم فرحا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تبسّم النبي فرحا لما رأى من هيئتهم في الصلاة ثم رجع 2 .
فإن فيه مضافا إلى ما تقدم انّه أيّ ربط لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم « انّكن صواحبات يوسف » مع قول عائشة « إنّ أبا بكر رجل رقيق » و إنّما يناسب قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذاك مع ما في الخبر الأوّل أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر بإحضار
-----------
( 1 ) أخرجه بطرق البخاري في صحيحه 1 : 125 و 208 و 211 و 214 ، و 2 : 111 ، و 4 : 242 ، و مسلم في صحيحه 1 :
316 و 317 ح 102 104 .
-----------
( 2 ) رواه ابن الاثير في الكامل 2 : 322 ، سنة 11 .
[ 119 ]
أمير المؤمنين عليه السلام فبعثتا إلى أبويهما و أحضرتاهما .
و أيّ ربط بين قوله : « فوجد خفة » و قوله : « فخرج بين رجلين » بل بينهما تضاد ، ثم كيف أمر كرارا بأن يصلّي أبو بكر بالناس ثم لم يدعه بأن يتمّ صلاة واحدة بل يخرج بدخوله في الصلاة حتّى يتفرق خياله في الصلاة . إلى غير ذلك من المناقضات الّتي يفهمها كل من لم يكن ذا عصبيّة .
و إنّما الصحيح الّذي يشهد به أخبارهم بعد إسقاط متناقضاتها في تفصيل صلاة أبي بكر في مرض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما ذكره محمّد بن محمّد بن النعمان في ( إرشاده ) فقال : و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذ ذاك في بيت امّ سلمة .
فأقام به يوما أو يومين . فجاءت عائشة إليها تسألها أن تنقله إلى بيتها لتتولّى تعليله ، و سألت أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ذلك ، فأذنّ لها . فانتقل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى البيت الّذي أسكنه عائشة ، و استمر به المرض فيه أيّاما ،
و ثقل فجاء بلال عند صلاة الصبح ، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مغمور بالمرض . فنادى :
« الصلاة رحمكم اللّه » فاوذن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بندائه . فقال : يصلّى بالناس بعضهم فإنّي مشغول بنفسي . فقالت عائشة ، مروا أبا بكر ، و قالت حفصة : مروا عمر .
فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين سمع كلامهما و رأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بأبيها و افتتنانهما بذلك ، و النبي حي : « اكففن فانّكن صويحبات يوسف » ثم قام صلّى اللّه عليه و آله و سلم مبادرا خوفا من تقدم أحد الرجلين و قد كان أمرهما بالخروج مع اسامة ، و لم بكن عنده أنّهما قد تخلّفا فلمّا سمع من عائشة و حفصة ما سمع ، علم أنّهما متأخران عن أمره . فبدر لكفّ الفتنة و إزالة الشبهة ، فقام صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّه لا يستقلّ على الأرض من الضعف ، فأخذ بيده علي بن أبي طالب صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الفضل بن العباس فاعتمد عليهما و رجلاه تخطّان الأرض من الضعف ، فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب
[ 120 ]
فأومأ إليه بيده أن تأخّر . فتأخّر أبو بكر ، فكبّر و ابتدأ الصلاة الّتي كان قد ابتدأها أبو بكر ، و لم يبن على ما مضى من فعاله ، فلمّا سلم انصرف إلى منزله ، و استدعى أبا بكر و عمر و جماعة ممّن حضر بالمسجد ثم قال :
ألم آمركم ان تنفذوا جيش اسامة . فقالوا : بلى . قال : فلم تأخّرتم عن أمري ؟
قال أبو بكر : إنّي كنت خرجت ثم رجعت لاجدّد بك عهدا ، و قال عمر : إنّي لم أخرج لأنّني لم احبّ أن أسأل عنك الركبان ، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : نفّذوا جيش اسامة . نفّذوا جيش اسامة . يكرّرها ثلاث مرّات ثم أغمي عليه من التعب الّذي لحقه ، و الأسف الّذي ملكه ، فمكث هنيئة مغمى عليه و بكى المسلمون و ارتفع النحيب من أزواجه و ولده و نساء المسلمين و جميع من حضر من المسلمين ، فأفاق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فنظر إليهم ثم قال : « إيتوني بدواة و كتف لأكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا » ثم اغمي عليه فقام بعض من حضره يلتمس دواة و كتفا . فقال له عمر : « إرجع فإنّه يهجر » فرجع و ندم من حضر على ما كان منهم من المخالفة في إحضار الدواة و الكتف و تلاوموا بينهم ، و قالوا : إنّا للّه و إنّا إليه راجعون لقد أشفقنا من خلاف النبي . فلمّا أفاق قال بعضهم : ألا نأتيك بدواة و كتف . فقال : أبعد الّذي قلتم ؟ لا ، و لكنّي أوصيكم بأهل بيتي خيرا . و أعرض بوجهه عن القوم فنهضوا و بقي عنده العباس و الفضل بن العباس و علي بن أبي طالب عليه السلام و أهل بيته خاصّة 1 .
و من الغريب أنّ الشهرستاني روى في ( ملله ) عن ( صحيح البخاري ) ممانعة عمر عن وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و انّه قال : « قد غلبه الوجع حسبنا كتاب اللّه » و كثر اللغط ، و ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم غضب و قال : « قوموا عنّي لا ينبغي عندي
-----------
( 1 ) رواه المفيد في الارشاد : 97 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 121 ]
التنازع » و انّ ابن عباس قال : « الرزية كلّ الرزية منع نبيّنا عن وصيّته » 1 .
و روى فيه أيضا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : « جهّزوا جيش اسامة . لعن اللّه من تخلّف عنه » فقال قوم : « يجب علينا امتثال أمره » و قال قوم « اشتد مرضه » ثم قال : و إنّما اوردت هذين المتنازعين لأنّ المخالفين ربّما عدّوا ذلك من الخلافات المؤثّرة في أمر الدين و ليس كذلك و انّما كان الغرض كلّه إقامة مراسم الشرع الخ 2 .
فتراه اعترف بأنّ منع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الوصية ، و التخلّف عن جيش لعن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم المتخلف عنه موجبان لا فساد الدين ، لكن اعتذر بما ذكره من الغرض ، فهل كان عمر أعرف من اللّه و رسوله الّذي لا ينطق عن هوى بل بوحي من السماء ، فليقولوا بأنّا ندين بدين أبي بكر و عمر لا بدين نبي الإسلام و كان الحطيئة يقول لما سمع خلافة أبي بكر :
أطعنا رسول اللّه إذ كان حاضرا
فيا لهفتا ما بال دين أبي بكر
و هؤلاء أهل سنة أبي بكر و عمر يقولون بلسان الحال و إن أنكروه في المقال :
عصينا رسول اللّه اذ كان حاضرا و انّما
نطيع و نخضع لدين أبي بكر
و من راجع في ما كتبوا في امر السقيفة يعلم كما يعلم بالشمس في رابعة النهار أنّ غرضهما لم يكن إلاّ نيل الرياسة و السلطنة مثل معاوية إلاّ أنّ معاوية لم ينافق و جهر بمراده و كون غرضه الإمرة و هما لبسا بارادة الدين
-----------
( 1 ) أخرجه البخاري في صحيحه 1 : 32 ، و 3 : 7 و 271 ، و رواه عنه الشهرستاني في الملل و النحل 1 : 29 ، و اللفظ للشهرستاني .
-----------
( 2 ) رواه الشهرستاني في الملل و النحل 1 : 29 ، و النقل بتلخيص .
[ 122 ]
كما عرفته من الشهرستاني قال سعيد بن سويد : صلّى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة في الصحن ثم خطبنا فقال : إنّي و اللّه ما قاتلتكم لتصلّوا و لا لتصوموا و لا لتحجّوا و لا لتزكّوا إنّكم لتفعلون ذلك إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، و قد أعطاني اللّه ذلك و أنتم كارهون . قال شريك في حديثه : هذا و اللّه هو التهتّك 1 .
قلت : ليت هذا التهتّك كان ممّن أسس لمعاوية ذلك ، و جعله بتدبير الامر لعثمان خليفة حتّى يغيّر دين النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و يستأصل أهل بيته ، و يأسر بناته بيوم بدر على يد ابنه ، و يسنّ لعن النبي صلّى اللّه عليه و آله . و لا تستوحشن من تعبيري فإنّ لعن علي لعن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإنّه عليه السلام كان بنصّ الكتاب نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله 2 و قد مرّ ابن عباس على من يسبّه فقال : أيّكم سبّ اللّه و رسوله ، فقالوا : لم يكن ذلك ،
فقال : أيّكم سبّ عليّا ، فقالوا : كان ذلك ، فقال : سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول : « من سبّ عليّا فقد سبّ اللّه و رسوله » 3 .
و بالجملة هل هو عليه السلام مع اشتماله على تلك المكارم احق بمقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعده أم من هرب يوم خيبر و حنين ، و في كثير من المواقف ، و قد قال تعالى : و من يولّهم يومئذ دبره إلاّ متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه و مأواه جهنم و بئس المصير 4 ، و لم يصلح لتأدية آيات و عزل من السماء و لعنه في التخلف عن جيش اسامة و قال فيه يوم خيبر معرّضا إنّه لا يحبّ اللّه و رسوله و لا يحبّه اللّه و رسوله ، و إنّه فرّار غير كرّار حيث أثبت صلّى اللّه عليه و آله و سلم أضداد ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام بعد فرار صدّيقهم و فاروقهم و أعرض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عنه في صحته و مرضه .
-----------
( 1 ) رواه ابو الفرح في المقاتل : 45 .
-----------
( 2 ) بالنظر الى قوله تعالى أنفسنا و أنفسكم آل عمران : 61 .
-----------
( 3 ) أخرج هذا المعنى الطبري في الولاية و ابن بطة في الابانة ، و عنهما مناقب السروي 3 : 221 ، و غيرهما .
-----------
( 4 ) الانفال : 16 .
[ 123 ]
فقد روى الحميدي عن ( صحيح مسلم ) في ( مسند أنس ) : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه ، ثم تكلم عمر فأعرض عنه الخبر 1 .
و في ( معارف ابن قتيبة ) : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في يوم أحد أخذ سيفا فهزّه و قال : من يأخذه بحقه ؟ فقال عمر : أنا . فأعرض عنه ، و قال الزبير : أنا . فأعرض عنه . فوجدا في أنفسهما . الخبر 2 . و مرّ إعراضه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الرجلين في مرضه في رواياتهم ، . . . و ترك جنازة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و نازع على الحطام الفاني .
قال ابن قتيبة في ( خلفائه ) : إنّ الأنصار . لمّا قالوا لسيّدة النساء صلوات اللّه عليها لو أنّ زوجك و ابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ، ما عدلنا به . فيقول علي كرّم اللّه وجهه : أفكنت أدع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في بيته لم أدفنه ، و أخرج أنازع الناس سلطانه ؟ فقالت فاطمة : ما صنع ابو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، و لقد صنعوا ما اللّه حسيبهم و طالبهم 3 . مضافا إلى ما مر من منعه عن وصيته و نسبة الهجر إليه .
هذا ، و نظير كلامه عليه السلام في بيان اختصاصه عليه السلام بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم حيا و ميتا لكونه متصديا لاموره و كافيا لمهماته ، قول أحمد بن يوسف في وصف الفضل ابن سهل ذي الرياستين و اختصاصه بالمأمون حيا و ميتا و كونه عماده ، ففي جملة كلامه : فإنّه اعطاه رياسة الحرب ، و رياسة التدبير ،
و عقد له على رأسهما علما في راية دعوته ، و قلّده سيفهما ، و ختمه بخاتم الخلافة ، و خاتم الدولة ، و جعل صلاته بين صاحب حرسه و صاحب شرطته ،
-----------
( 1 ) رواه عن الحميدي ابن طاووس في الطرائف 2 : 447 ، و الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 3 : 1403 ، 82 .
-----------
( 2 ) رواه ابن قتيبة في المعارف : 159 .
-----------
( 3 ) الإمامة و السياسة 1 : 12 .
[ 124 ]
و صيّر له الجلوس على الكرسي بحضرته في صدر كل مجلس جلسه إلاّ أن يؤثر به من أبناء الخلفاء ، و قدّمه في دخول داره راكبا إلى أقصى مكان ينتهى إليه أحد من بني هاشم لأنّه منهم ، و أعظمهم غناء عنهم ، فسمّاه صاحب دعوته ، و سيفه على عدوه ، و بابه الّذي يدخل إليه منه ، و ولاّه خيوله في أقطار الأرض و مقدّمته بحضرته ، و قلّده من الثغور ما قد علمتم بما أفرده في عهده إلى ما أنفذ في جميع سلطانه و ملكه من مشارق الأرض و مغاربها ، و أين يأتي الوصف على ما فضّله به ، و قدّمه ، و شرّفه على الناس ، و لكنا نخطر بذكره ، ثم نكل السامعين إلى ما يرجعون إليه من المعرفة الّتي لا يبلغها الصفة .
ثم لم يكن ما اكرمه به في حياته بأعلى ممّا أكرمه به في وفاته أي أكرم المأمون الفضل تولى غسله و تكفينه و مباشرته بجهازه إلى حفرته بيده و قاسى من الغصص و برحاء الحزن و إذراء العبرة و اراقة الدمعة ما حال بينه و بين الكلام ، و كاد يمنعه من القول و الدعاء في صلاته عليه ، و حفظ أهل الحرمة به رعاية له فيهم و وفاء بعهده من بعده ، و اقرّ خاصّته ، و قوّاده ،
و عمّاله ، و كتّابه على مراتبهم ، و حمد بحمده ، و ذمّ بذمّه ، و جند بجنده و شاكريته نظرا و عطفا ، فلم يبق عليه في احياء ذكره ، و بلوغ كل ما يحبّه في حياته غاية إلاّ أتى من ورائها ، و أمر بقراءة فتوحه بعده كما كانت تقرأ على عهده ، و أضاف كل ما حدث بعده إلى ما تقدم من سعيه ، و أخبر أنه كان من سببه 1 .
« و لتصدق نيّاتكم في جهاد عدوكم » في ( الطبري ) : انّ يوم الجمل قتل من بني ذهل خمسة و ثلاثون رجلا فقال رجل لأخيه و هو يقاتل : ما أحسن قتالنا إن كنّا على الحق قال : فإنّا على الحق . إنّ الناس أخذوا يمينا و شمالا و إنّما
-----------
( 1 ) اسقط الشارح هنا شرح فقرة « فانفذوا على بصائركم » .
[ 125 ]
تمسّكنا بأهل بيت نبيّنا قال : فقاتلا حتّى قتلا 1 .
« فو الّذي لا إله إلاّ هو إنّي لعلى جادّة الحق ، و إنّهم لعلى مزلّة الباطل » إنّما اقسم عليه السلام لأنّه عليه السلام أحسن من عملهم معه عليه السلام و مع مخالفيه شكّهم ، و إلاّ فكونه عليه السلام على الحق و كون مخالفيه على الباطل من البديهيات بعد تصديق العقل و النقل لما قاله عليه السلام .
ثم الغريب من بلادة و اصل بن عطاء انّه لم يفرّق بين النور و الظلمة فقال كما في ( ملل الشهرستاني ) إنّ أحد الفريقين من أصحاب الجمل و أصحاب صفين مخطئ لا يعينه ، و كذلك قوله في عثمان و قاتليه و خاذليه :
إنّ أحد الفريقين فاسق لا محالة كما أنّ أحد المتلاعنين فاسق لا محالة .
قال و اصل : و أقل درجات الفريقين أنّه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين . قال الشهرستاني : فلم يجوّز عطاء قبول شهادة علي و طلحة و الزبير على باقة بقل و جوّز أن يكون عثمان و علي على الخطأ . قال الشهرستاني و وافقه عمرو بن عبيد على مذهبه 2 .
قلت : قاتلهم اللّه أما تواتر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال لأمير المؤمنين عليه السلام « إنّك تقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين » 3 ؟ أما رجع الزبير عن حربه عليه السلام باقراره بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له : « إنّك ظالم في حرب علي » 4 ؟ أما تواتر عن
-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 530 ، سنة 36 .
-----------
( 2 ) الملل و النحل 1 : 52 و 53 ، و النقل بتلخيص .
-----------
( 3 ) أخرجه جمع كثير من أهل الحديث منها ما أخرجه بطرق ابن عساكر في ترجمة علي عليه السلام 3 : 200 214 ح 1206 1219 .
-----------
( 4 ) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 : 366 ، و ابو يعلي و ابن أبي شيبة و ابن راهويه و ابن منيع في مسانيدهم ، و عنهم المطالب العالية 4 : 301 303 ، و جمع آخر .
[ 126 ]
النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « إنّ عمارا تقتله الفئة الباغية » 1 و أنّ ذاك الخبر أوجب تزلزلا في أصحاب معاوية حتّى اضطر معاوية إلى أن يلبّس عليهم و يقول لهم : إنّا ما قتلنا عمّارا بل قتله علي الّذي جاء به إلى حربنا ؟
قال الشهرستاني بعد ما مر نقله طاعنا فيهم هذا قوله و هو رئيس المعتزلة و مبدأ الطريقة في أعلام الصحابة و أئمة العترة 2 .
قلت : و مع ذلك إنّهم أقرب إلى فطرة العقول من جمهور أهل السنّة و الشهرستاني أحدهم فإنّهم يجمعون بين الضّدّين ، و هو شيء يحكم ببطلانه جميع العقلاء ، و إن لم يكونوا ذوي دين فإن كان بطلان أمر المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه السلام معلوما و أنّهم لم يكونوا من الاسلام على شيء فالأمر كما ذكر الشيعة ، و ان لم يكن معلوما فكما ذكر واصل و من تبعه ، لكن واصل و ان لم يجمع بين الضدين كجمهور السنّة إلاّ أنّه أنكر البديهيات و تشكك في الواضحات . كيف لا و قد تواترت الأخبار من طريقهم بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام على الحقّ و أنّ الحق معه يدور حيثما دار 3 .
و في ( خلفاء ابن قتيبه ) : ذكروا أن رجلا من همدان يقال له برد ، قدم على معاوية فسمع عمرو بن العاص يقع في علي عليه السلام فقال له : يا عمرو إنّ أشياخنا سمعوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » فحقّ ذلك أم باطل ؟
فقال عمرو : حقّ ، و أنا أزيدك أنّه ليس أحد من صحابة النبي له مناقب مثل مناقب علي . ففزع الفتى . فقال عمرو : إنّه أفسدها بأمره في عثمان . فقال برد :
-----------
( 1 ) اخرج مسلم في صحيحه 4 : 2235 و 2236 ح 70 74 ، و الترمذي في سننه 5 : 669 ح 3800 ، و أحمد في مسنده 2 : 164 ، و 6 : 289 و 300 ، و جمع كثير غيرهم .
-----------
( 2 ) الملل و النحل 1 : 53 .
-----------
( 3 ) أخرجه البزار في مسنده و عنه مجمع الزوائد 7 : 236 ، و ابن مردويه في مناقبه و عنه ذيل احقاق الحق 5 : 631 ،
و غيرهما عن سعد بن أبي وقاص و في الباب عن علي عليه السلام و ام سلمة و غيرهما .
[ 127 ]
هل أمر أو فعل ؟ قال : لا . و لكنّه آوى و منع . قال : فهل بايعه الناس عليها ؟ قال :
نعم . قال : فما أخرجك من بيعته ؟ قال : اتّهامي إيّاه في عثمان . قال له : و أنت أيضا اتّهمت قال : صدقت . فيها خرجت إلى فلسطين . قال : فرجع الفتى إلى قومه فقال : إنّا أتينا قوما أخذنا الحجّة عليهم من أفواههم ، على الحق فانصروه 1 .
« أقول ما تسمعون » أي : تعرفو أنّ الأمر كما أقول فعليكم العمل بمقتضاه .
« و استغفر اللّه لي و لكم » ممّا صدر من التفريط في جنب اللّه تعالى .
شارك عليه السلام نفسه معهم ليكونوا اسرع إلى قبول كلامه .