من الخطبه ( 160 ) و من كلام له عليه السلام لبعض أصحابه ، و قد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحقّ به ؟ فقال :
يَا أَخَا ؟ بَنِي أَسَدٍ ؟ إِنَّكَ لَقَلِقُ اَلْوَضِينِ تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ وَ لَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ اَلصِّهْرِ وَ حَقُّ اَلْمَسْأَلَةِ وَ قَدِ اِسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ أَمَّا اَلاِسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا اَلْمَقَامِ وَ نَحْنُ اَلْأَعْلَوْنَ نَسَباً وَ اَلْأَشَدُّونَ ؟ بِالرَّسُولِ ص ؟
نَوْطاً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَ اَلْحَكَمُ اَللَّهُ وَ اَلْمَعْوَدُ إِلَيْهِ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ
وَ دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ
وَ هَلُمَّ اَلْخَطْبَ فِي ؟ اِبْنِ أَبِي سُفْيَانَ ؟ فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي اَلدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ وَ لاَ غَرْوَ فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ اَلْعَجَبَ وَ يُكْثِرُ اَلْأَوَدَ حَاوَلَ اَلْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اَللَّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ وَ سَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ وَ جَدَحُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَ عَنْهُمْ مِحَنُ اَلْبَلْوَى أَحْمِلْهُمْ مِنَ اَلْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ وَ إِنْ تَكُنِ اَلْأُخْرَى فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ 18 27 35 : 8 أقول : الأصل فيه رواية الصدوق في ( علله و أماليه ) ، و المفيد في ( ارشاده ) 1 رواه الاول مسندا عن طريق العامة . ففي العلل في باب العلة الّتي من أجلها ترك الناس عليا عليه السلام و قال « أبو أحمد الحسن بن عبد اللّه العسكري عن ابراهيم بن رغد العبشمي ، عن ثبيت بن محمد ، عن أبي الأحوص المصري عمّن حدّثه ، عن أبي محمّد الحسن بن علي عليه السلام ، عن آبائه عليه السلام قال : بينا أمير المؤمنين عليه السلام في أصعب موقف بصفين اذ قام إليه رجل من بني دودان ،
-----------
( 1 ) رواه الصدوق في علل الشرائع 1 : 145 ح 2 ، و في اماليه : 494 ح 5 ، مجلس 90 ، و المفيد في الارشاد : 156 .
[ 171 ]
فقال له : لم دفعكم قومكم عن هذا الأمر ، و كنتم أفضل الناس علما بالكتاب و السنّة ؟ فقال عليه السلام : سألت يا أخا بني دودان ، و لك حقّ المسألة ، و ذمام الصهر ،
فإنّك لقلق الوضين ، ترسل عن غير ذي مسد . إنّها كانت إمرة شحّت عليها نفوس قوم ، و سخت عنها نفوس آخرين ، و لنعم الحكم اللّه ، و الزعيم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و دع عنك نهبا صيح في حجراته ، و هلّم الخطب في ابن أبي سفيان . فلقد اضحكني الدهر بعد ابكائه .
و لا غرو إلاّ جارتي و سؤالها
ألا هل لنا أهل سألت كذلك
بئس القوم من خفضني ، و حاولوا الإدهان في دين اللّه فان ترفع عنّا محن البلوى أحملهم من الحق على محضه ، و ان تكن الاخرى ، فلا تأس على القوم الفاسقين . إليك عنّي يا أخا بني دودان .
و قال الثاني : روى نقلة الآثار أنّ رجلا من بني أسد وقف على أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : يا أمير المؤمنين العجب فيكم يا بني هاشم كيف عدل بهذا الأمر عنكم ، و أنتم الأعلون نسبا و سببا و نوطا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و فهما للكتاب ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا ابن دودان إنّك لقلق الوضين ، ضيّق المخرم ، ترسل غير ذي مسد ، لك ذمامة الصهر ، و حقّ المسألة ، و قد استعلمت فاعلم : كانت أثرة سخت بها نفوس قوم و شحّت عليها نفوس آخرين . فدع عنك نهبا صيح في حجراته ، و هلّم الخطب في أمر ابن أبي سفيان فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه و لا غرو ، و يئس القوم و اللّه من خفضي و منيتي ،
و حاولوا الإدهان في ذات اللّه ، و هيهات ذلك منّي ، و قد جدحوا بيني و بينهم شربا و بيئا فإن تنحسر عنّا محن البلوى أحملهم من الحق على محضه ، و ان تكن الاخرى ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فلا تأس على القوم الفاسقين .
[ 172 ]
و نقل الخوئي كلام ( الارشاد ) لكن فيه « من خفضني و هينني » 1 و نقله المرتضى عن ( مجالس المفيد ) مثل ( ارشاده ) 2 .
و قال ابن أبي الحديد بعد العنوان : سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام و كان على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل فقلت له من يعنى بقوله « كانت اثرة شحّت عليها نفوس قوم ، و سخت عنها نفوس آخرين » ؟ و من القوم الذين عناهم الأسدي بقوله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، و أنتم أحقّ به ؟ هل المراد يوم السقيفة و يوم الشورى ؟ فقال : يوم السقيفة . فقلت : إن نفسي لا تسامحني ان أنسب إلى الصحابة عصيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و دفع النص . فقال :
و أنا ايضا لا تسامحني أن أنسب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و سلم إلى إهمال أمر الامة ، و ان يترك الناس فوضى سدى مهملين ، و كان لا يغيب عن المدينة إلاّ و يؤمّر عليها أميرا ، و هو حيّ ليس بالبعيد عنها ، فكيف لا يؤمّر ، و هو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث .
ثم قال : لا يشك أحد من الناس ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان عاقلا كامل العقل .
أمّا المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم ، و اما اليهود و النصارى و الفلاسفة ،
فيزعمون انّه حكيم تامّ الحكمة سديد الرأي اقام ملّة ، و شرع شريعة . فاستجدّ ملكا عظيما بعقله و تدبيره ، و هذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب ،
و غرائزهم و طلبهم بالثارات و الذحول ، و لو بعد الأزمان المتطاولة ، و يقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر . فلا يزال أهل ذلك المقتول ، و اقاربه يتطلّبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثارهم منه ، فان لم يظفروا به قتلوا بعض
-----------
( 1 ) شرح الخوئي 4 : 278 .
-----------
( 2 ) نقله المرتضى في الفصول المختاره 1 : 46 ، عن العيون و المحاسن للمفيد .
[ 173 ]
اقاربه و أهله . فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة ،
و ان لم يكونوا رهطه الادنين و الاسلام لم يحل طبائعهم ، و لا غيّر هذه السجيّة المركوزة في أخلاقهم ، و الغرائز بحالها فكيف يتوهم لبيب انّ هذا العاقل وتر العرب ، و على الخصوص قريشا ، و ساعده على سفك الدماء ، و ازهاق الأنفس و تقلد الضغائن ابن عمه الأدنى و صهره ، و هو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس و يتركه بعده ، و عنده ابنته ، و له منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوّا عليهما ، و محبّة لهما ، ثم يعدل عنه في الامر بعده ، و لا ينصّ عليه ، و لا يستخلفه فيحقن دمه ، و دم بنيه و أهله باستخلافه ؟ ألا يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه و ترك بنيه و أهله سوقة و رعية فقد عرّض دماءهم للاراقة بعده ، بل يكون هو الذي قتلهم ، و أشاط بدمائهم ، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم ، و إنّما يكونون مضغة للآكل ، و فريسة للمفترس ،
يتخطّفهم الناس ، و يبلغ فيهم الاغراض فأمّا اذا جعل السلطان فيهم و الأمر إليهم فإنه يكون قد عصمهم و حقن دماءهم بالرياسة التي يصولون بها ،
و يرتدع الناس عنهم لأجلها ، و مثل هذا معلوم بالتجربة . ألا ترى أنّ ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس و وترهم و ابقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ثم أهمل أمر ولده و ذريته من بعده ، و فسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم ، و جعل بنيه سوقة كبعض العامة ، لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم ، و لوثب عليهم ذوو الأحقاد و التراث من كل جهة يقتلونهم و يشرّدونهم كل مشرّد ، و لو انّه عيّن واحدا من أولاده للملك ، و قام خواصّه و خدمه و خوله بأمره بعده ، لحقنت دماء أهل بيته ، و لم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك ، و ابّهة السلطنة ، و قوّة الرياسة ، و حرمة الامارة افترى ذهب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم هذا المعنى أم أحبّ أن يستأصل أهله و ذريّته من بعده ؟
[ 174 ]
و اين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة إلى قلبه تقول :
انّه احبّ ان يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس ، و ان يجعل عليا المكرّم المعظّم عنده الّذي كانت حاله معه معلومة كأبي هريرة الدوسي ،
و أنس بن مالك الأنصاري يحكم الامراء في دمه و عرضه و نفسه و ولده فلا يستطيع الامتناع ، و على رأسه مئة ألف سيف مسلول يتلظى اكباد اصحابها عليه ، و يودّون ان يشربوا دمه بافواههم ، و ياكلوا لحمه بأسيافهم . قد قتل أبناءهم و اخوانهم و آباءهم ، و أعمامهم ، و العهد لم يطل ، و القروح لم تتعرق ،
و الجروح لم تندمل .
قال : فقلت : لقد احسنت في ما قلت الاّ أنّ لفظه عليه السلام يدل على انه لم يكن نصّ عليه . ألا تراه يقول « و نحن الأعلون نسبا ، و الأشدّون بالرسول نوطا » فجعل الاحتجاج بالنسب ، و شدة القرب ، فلو كان عليه نصّ لقال عوض ذلك « و انا المنصوص علي و المخطوب باسمى » .
فقال رحمه اللّه انما اتاه من حيث يعلم لا من حيث يجهل . ألا ترى أنّه سأله فقال : « كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به » أي : باعتبار الهاشمية و القربى . فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الّذي تعلّق به الأسدي تمهيدا للجواب .
فقال عليه السلام : « انّما فعلوا ذلك مع انّا اقرب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من غيرنا لانّهم استاثروا علينا » و لو قال له « انا المنصوص علي و المخطوب باسمى في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم » لما كان قد اجابه لانه ما سأله « هل أنت منصوص عليك أم لا و هل نصّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالخلافة على أحد أم لا » و انما قال « لم دفعكم قومكم عن الامر و انتم اقرب إلى ينبوعه و معدنه منهم فاجابه جوابا ينطبق على السؤال و يلائمه .
[ 175 ]
و أيضا فلو اخذ يصرّح له بالنصّ ، و يعرّفه تفاصيل باطن الامر لنفر عنه و اتّهمه ، و لم ينجذب إلى تصديقه ، فكان اولى الامور في حكم السياسة و تدبير الناس ان يجيب بما لا نفرة منه ، و لا مطعن عليه فيه 1 .
و قال ابن أبي الحديد أيضا : في ضمن شرح عنوان « للّه بلاد فلان » بعد ذكر اخبار من طريقهم دالّة على النصّ كخبر ابن عباس قال : خرجت مع عمر إلى الشام في احدى خرجاته . فانفرد يوما ، يسير على بعيره فاتّبعته فقال لي :
يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمّك . سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، و لا أزال أراه واجدا افيم تظنّ موجدته ؟ قلت : إنك لتعلم . قال : اظنّه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة . قلت : هو ذاك . إنه يزعم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أراد الأمر له فقال : يا ابن عباس ، و أراد النبي الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد اللّه ذلك ؟ ان النبي أراد ذلك و أراد للّه غيره فنفذ مراد اللّه و لم ينفذ مراد رسوله ، أو كلّ ما أراده النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان ؟ انه أراد اسلام عمّه و لم يرده اللّه فلم يسلم .
قال ابن أبي الحديد : و قد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ و هو قوله « ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته عنه خوفا من الفتنة و انتشار أمر الاسلام فعلم النبي ما في نفسي فأمسك ، و أبى اللّه إلاّ امضاء ما حتم » 2 .
و كخبر الحسين بن محمّد السبتي انّ عمر نزلت به نازلة فقام لها وقعد و ترنّح لها و تفطّر و قال لمن عنده ، معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الامر ؟
فقالوا : أنت المفزع و المنزع فغضب و قال يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه و قولوا
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 456 ، شرح الخطبة 160 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
[ 176 ]
قولا سديدا
1 ثم قال « اما و اللّه انّي و ايّاكم لنعلم ابن نجدتها و الخبير بها .قالوا : « كانّك اردت ابن أبي طالب » قال « و انّى يعدل عنه ، و هل طفحت حرة مثله » قالوا : فلو دعوت به قال : « هيهات انّ هناك شمخا من هاشم ، و اثرة من علم ، و لحمة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يؤتى و لا يأتي فامضوا بنا إليه فأقصفوا نحوه و أفضوا إليه فألفوه في حائط له عليه تبّان و هو يتركّل على مسحاته و يقرأ أ يحسب الانسان أن يترك سدى 2 إلى آخر السورة و دموعه تهمي على خدّيه فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت و سكتوا . فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها فقال عمر : « اما و اللّه لقد ارادك الحقّ ، و لكن أبى قومك » فقال : « يا أبا حفص خفّض عليك من هنا و من هنا انّ يوم الفصل كان ميقاتا » فوضع عمر إحدى يديه على الاخرى و أطرق إلى الأرض و خرج كأنما ينظر في رماد 3 .
و كخبر ابن عباس قال : دخلت على عمر يوما فقال : يا ابن عباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتّى نحلته رياء . قلت : من هو ؟ فقال : هذا ابن عمك يعني عليا عليه السلام قلت : و ما يقصد بالرياء ؟ قال : يرشّح نفسه بين الناس للخلافة . قلت : و ما يصنع بالترشيح قد رشحه لها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فصرفت عنه قال : انّه كان شابّا حدثا فاستصغرت العرب سنّه ، و قد كمل الآن ألم تعلم أنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلاّ بعد الأربعين . قلت : أما أهل الحجى و النهى فإنّهم ما زالوا يعدّونه كاملا منذ رفع اللّه منار الإسلام ، و لكنهم يعدّونه محروما محدودا .
فقال : أما إنّه سيليها بعد هياط و مياط ثم تزلّ فيها قدمه ، و لا يقضي منها إربه ،
-----------
( 1 ) الاحزاب : 70 .
-----------
( 2 ) القيامة : 36 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 114 ، شرح الخطبة 226 .
[ 177 ]
و لتكونن شاهدا ذلك يا عبد اللّه . ثم يتبين الصبح لذي عينين ، و تعلم العرب صحّة رأي المهاجرين الأولين الّذين صرفوها عنه بادئ بدء فليتني أراكم بعدي يا عبد اللّه إنّ الحرص محرّمة ، و انّ دنياك كظلك كلّما هممت به ازداد عنك بعدا 1 .
و كخبره أيضا كما في ( امالي ابن حبيب ) قال ابن عباس : تبرّم عمر بالخلافة في آخر ايّامه ، و خاف العجز ، و ضجر من سياسة الرعية . فكان لا يزال يدعو اللّه بأن يتوفاه . فقال لكعب الأحبار يوما و أنا عنده : إنّي قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر ، و أظنّ وفاتي قد دنت ، فما تقول في علي ؟ أشر علي في رأيك ، و اذكر لي ما تجدونه عندكم فإنكم تزعمون أنّ أمرنا هذا مسطور في كتبكم .
فقال : أمّا من طريق الرأي فانّه لا يصلح ، إنّه رجل متين الدّين ، لا يغضي على عورة ، و لا يحلم عن زلّة ، و لا يعمل باجتهاد رأيه ، و ليس هذا من سياسة الرعية في شيء ، و أمّا ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر هو و لا ولده ، و ان وليه كان هرج شديد . قال : و كيف ذاك ؟
قال : لأنه أراق الدماء ، و من أراق الدماء لا يلي الملك . إنّ داود لمّا أراد أن يبني حيطان بيت المقدس أوحى اللّه إليه : إنّك لا تبنيه ، لأنك أرقت الدماء ، و إنّما يبنيه سليمان . فقال عمر : أليس بحق أراقها ؟
قال كعب : و داود بحقّ أراقها يا أمير المؤمنين . قال : فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم .
قال : نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة و اثنين من أصحابه إلى أعدائه الّذين حاربهم و حاربوه على الدين . فاسترجع عمر مرارا ، و قال : أتستمع يا
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 115 ، شرح الخطبة 226 .
[ 178 ]
ابن عباس أما و اللّه لقد سمعت من النبي ما يشابه هذا ، سمعته يقول : ليصعدن بنو امية على منبري ، و لقد اريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة ، و فيهم انزل : و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن 1 .
و كخبر ( أمالي أبي بكر بن الأنباري ) : ان عليّا عليه السلام جلس إلى عمر في المسجد ، و عنده ناس ، فلمّا قام عرّض واحد بذكره ، و نسبه إلى التيه و العجب فقال عمر : حقّ لمثله أن يتيه . و اللّه لو لا سيفه لما قام عمود الاسلام ، و هو بعد أقضى الامّة و ذو سابقتها و ذو شرفها . فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه ؟ قال : كرهناه على حداثة السن و حبّه بني عبد المطلب 2 .
« سألت النقيب أبا جعفر يحيى ، و قد قرأت عليه هذه الأخبار فقلت له : ما أراها إلاّ تكاد تكون دالة على النص ، و لكنّي أستبعد أن تجتمع الصحابة على دفع نص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على شخص بعينه كما استبعدنا من الصحابة على ردّ نصّه على الكعبه ، و شهر رمضان و غيرهما من معالم الدين » .
فقال : أبيت إلاّ ميلا إلى المعتزلة ، ثم قال : إنّ القوم لم يكونوا يذهبون إلى أنها من معالم الدين ، و أنّها جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة الصوم ،
و لكنهم كانوا يجرونها مجرى الامور الدنيوية ، مثل تأمير الامراء ، و تدبير الحروب ، و سياسة الرعية ، و ما كانوا بهذا الأمر و أمثاله من مخالفة نصوص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا رأوا المصلحة في غيرها . ألا ترى كيف نصّ على إخراج أبي بكر ، و عمر في جيش اسامة ، و لم يخرجا لمّا رأيا أنّ في مقامهما مصلحة للّه و له و للملّة ، و حفظا للبيضة ، و دفعا للفتنة و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يخالف و هو
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 115 ، شرح الخطبة 226 ، و الآية 60 من سورة الاسراء .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 115 ، شرح الخطبة 226 .
[ 179 ]
حيّ في أمثال ذلك فلا ينكره ، و لا يرى به بأسا . ألست تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلا على أن يحارب قريشا فيه فخالفته الأنصار ، و قالت له : ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه ، و انزل في منزل كذا فرجع إلى آرائهم .
و هو الّذي قال للأنصار عام قدم المدينة « لا تؤبّروا النخل » فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة حتى قال لهم : انتم اعرف بأمر دنياكم و أنا أعرف بأمر دينكم .
و هو الذي أخذ الفداء من اسارى فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الأمر ، و خلص الأسرى ، و رجعوا إلى مكّة .
و هو الذي أراد ان يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه .
فأبى سعد بن معاذ ، و سعد بن عبادة ذلك ، و خالفاه فرجع إلى قولهما ، و قد كان قال لأبي هريرة : اخرج فناد في الناس « من قال لا إله إلاّ اللّه مخلصا بها قلبه دخل الجنة فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفع في صدره حتّى وقع على الأرض فقال : « لا تقلها فإنّك إن تقلها يتّكلوا عليها و يدعوا العمل » فأخبر أبو هريرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بذلك فقال « لا تقلها و خلّهم يعملون » فرجع إلى قول عمر .
و قد أطبقت إطباقات واحدا على ترك كثير من النصوص لمّا رأوا المصلحة في ذلك كاسقطا سهم ذوي القربى ، و إسقاطهم سهم المؤلّفة قلوبهم ، و هذان الأمران في باب الدين أدخل منهما في باب الدنيا ، و قد عملوا بآرائهم امورا لم يكن لها ذكر في السنّة كحدّ الخمر . فإنّهم عملوه اجتهادا ، و لم يحدّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم شاربي الخمر ، و قد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم .
و لقد كان أوصاهم في مرضه أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب : فلم يخرجوهم حتّى مضى صدر من خلافة عمر ، و عملوا في أيام
[ 180 ]
أبي بكر برأيهم في ذلك و استصلاحهم .
و هم الّذين هدموا المسجد بالمدينة ، و حوّلوا المقام بمكة ، و عملوا بمقتضى ما تغلب في ظنونهم من المصلحة ، و لم يقفوا مع موارد النصوص حتّى اقتدى بهم الفقهاء . فرجّح كثير منهم القياس على النص حتى استحالت الشريعة ، و صار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة .
و أكثر ما كانوا يعملون بآرائهم في ما يجري مجرى الولايات و التأمير و التدمير ، و تقرير قواعد الدولة ، و ما كانوا يقفون مع نصوص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تدبيراته إذا رأوا المصلحة في خلافها ، كأنّهم كانوا يقيّدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا ، و كانّهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله ،
و تقدير ذلك القيد : « افعلوا كذا ان رأيتموه مصلحة » .
فأمّا مخالفتهم له في ما هو محض الشرع و الدين ، و ليس يتعلّق بامور الدنيا و تدبيراتها فإنّه يقلّ جدا ، نحو أن يقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : الوضوء شرط في الصلاة فيجمعوا على ردّ ذلك ، و يجيزوا الصلاة من غير وضوء ، أو يقول صوم شهر رمضان واجب فيطبقوا على مخالفة ذلك و يجعلوا شوّالا عوضا عنه . فانه بعيد إذ لا غرض لهم فيه ، و لا يقدرون على اظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
قال : و القوم الّذين كانوا قد غلب على ظنونهم أنّ العرب لا تطيع عليا عليه السلام فبعضها للحسد ، و بعضها للوتر و الثأر ، و بعضهم لاستحداثهم سنّه ، و بعضهم لاستطالته عليه السلام عليهم و رفعه عنهم ، و بعضهم لكراهية اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد ، و بعضهم للخوف من شدّة و طأته ، و شدّته في دين اللّه ، و بعضهم لرجاء تداول قبائل العرب الخلافة إذا لم يقتصر بها على بيت واحد مخصوص فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتا مستمرا ،
[ 181 ]
و بعضهم يبغضه لبغضهم من قرابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هم المنافقون من الناس ،
و من في قلبه زيغ من أمر النبوة . فأصفق الكل إصفاقا واحدا على صرف الأمر لغيره فقال رؤساؤهم : بانّا خفنا الفتنة ، و علمنا انّ العرب لا تطيعه و تتركه ،
و تأوّلوا عند أنفسهم و قالوا : لا ننكر النص انه لنصّ و لكن يرى الحاضر ما لا يرى الغائب ، و أعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادّعائهم الأمر ،
و إخراجهم سعد بن عبادة من بيته و هو مريض لينصبوه خليفة في ما زعموا ،
و اختلط الناس ، و كثر الخبط ، و كادت الفتنة أن تضطرم نارا فوثب رؤساء المهاجرين فبايعوا أبا بكر ، و كانت فلتة كما قال قائلهم ، و زعموا انهم أطفأوا نائرة الأنصار . فمن سكت من المسلمين و أغضى و لم يتعرض ، فقد كفاهم أمر نفسه ، و من قال سرّا أو جهرا إنّ فلانا قد ذكره النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أو نصّ عليه أو أشار إليه ، أسكتوه في الجواب بأنّا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة ،
و اعتذروا عنده ببعض ما تقدم : إمّا أنه حديث السن أو تبغضه العرب لأنه و ترها و سفك دماءها أو لأنّه صاحب زهو و تيه ، أو كيف تجتمع النبوة و الخلافة في مغرس واحد ، بل قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا و أوكد ، قالوا :
أبو بكر أقوى ، منه على هذا الأمر لا سيّما و عمر يقصده و يساعده ، و العرب تحبّ أبا بكر ، و يعجبها لينه و رفقه ، و هو شيخ مجرّب للامور لا يحسده أحد ،
و لا يحقد عليه احد ، و لا يبغضه احد ، و ليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه ، و لا ذي قربى فيدلّ بقربه ، و دع ذاكله فإنه فضل مستغنى عنه .
قالوا : لو نصبنا عليّا ارتدّ الناس عن الاسلام ، و عادت الجاهلية كما كانت ، فأيّما أصلح في الدين ، الوقوف مع النص المفضي إلى ارتداد الخلق و رجوعهم إلى الأصنام و الجاهلية ، أم العمل بمقتضى الأصلح ، و استبقاء الاسلام ، و استدامة العمل بالدين و ان كان فيه مخالفة النص .
[ 182 ]
قال رحمه اللّه و سكت الناس عن الانكار لانّهم كانوا متفرّقين ، فمنهم من هو مبغض شانئ لعليّ عليه السلام فالّذي تمّ من صرف الأمر عنه قرّة عينه ، و برد فؤاده ،
و منهم ذوو الدين ، و صحّة اليقين . إلاّ انه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر عنه ظنّ أنّهم إنّما فعلوا ذلك خلاف النص من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بنسخ ما كان سمعه من النص علي أمير المؤمنين عليه السلام لا سيما ما رواه ابو بكر من قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم « الأئمة من قريش » فإنّ كثيرا من الناس توهّموا أنه ناسخ للنص الخاص ، و أنّ معنى الخبر أنّكم مباحون في نصب إمام من قريش من أيّ بطون قريش كان فانّه يكون اماما ، و أكّد أيضا في نفوسهم رفض النص الخاص ، ما سمعوه من قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن » و قوله : « سألت اللّه ألاّ يجمع امّتي على ضلال فأعطانيها » فأحسنوا الظن بعاقدي البيعة ، و قالوا : هؤلاء أعرف بأغراض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من كل أحد .
فامسكوا و كفّوا عن الإنكار ، و منهم فرقة اخرى و هم الأكثرون أعراب و جفاة و طغام ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح . فهؤلاء مقلّدون لا يسألون ، و لا ينكرون ، و لا يبحثون ، و هم مع امرائهم و ولاتهم ، لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها فلذلك امحق النص ، و خفي ، و درس ، و قويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر ، و قوّاها زيادة على ذلك اشتغال علي عليه السلام و بني هاشم بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إغلاق بابهم عليهم ، و تخليتهم الناس يعملون ما شاءوا و أحبّوا من غير مشاركة لهم في ما هم فيه ، لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات ، و هيهات الفائت لا رجعة له ، و أراد علي عليه السلام بعد ذلك نقض البيعة فلم يتمّ له ذلك ، و كانت العرب لا ترى الغدر ، و لا تنقض البيعة صوابا كانت أو خطأ ،
و قد قالت له الأنصار و غيرها : أيّها الرجل لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحدا ، و لكنّا بايعنا فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها .
[ 183 ]
قال النقيب : و مما جرّأ عمر على بيعة أبي بكر ، و العدول عن علي عليه السلام مع ما كان يسمعه من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أمره أنّه أنكر مرارا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم امورا اعتمدها فلم ينكر عليه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنكاره بل رجع في كثير منها إليه ،
و أشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته . فأطمعه ذلك في الإقدام على اعتماد كثير من الامور الّتي كان يرى فيها المصلحة بما هي خلاف النص ، و ذلك نحو انكاره في الصلاة على عبد اللّه بن أبيّ المنافق ، و إنكاره فداء اسارى بدر ، و إنكاره عليه تبرّج نسائه للناس ، و إنكاره قضيّة الحديبية ،
و إنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب ، و إنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة ، و إنكاره أمره بالنداء « من قال لا إله إلاّ اللّه دخل الجنّة » و إنكاره أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بذبح النواضح ، و إنكاره على النساء بحضرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و آله هيبتهن له دون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى غير ذلك من امور كثيرة يشتمل عليها كتب الحديث ، و لو لم يكن إلاّ إنكاره قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مرضه « آتوني بدواة و كتاب أكتب لكم ما لا تضلّون بعدي » و قوله ما قال و سكوت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عنه لكفى . و أعجب الأشياء انه قال ذلك اليوم : « حسبنا كتاب اللّه » فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار و بعضهم يقول : « القول ما قال النبي » و بعضهم يقول : « القول ما قال عمر » فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قد كثر اللغط و علت الأصوات : « قوموا عنّي فما ينبغي لنبي ان يكون عنده هذا التنازع » فهل بقي للنبوّة مزيّة أو فضل اذا كان الاختلاف وقع بين القولين ، و مثّل المسلمون بينهما فرجّح قوم هذا و قوم هذا أفليس ذلك دالاّ على انّ القوم سوّوا بينه و بين عمر و جعلوا القولين مسألة خلاف ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام فينصر قوم هذا و ينصر ذاك آخرون . فمن بلغت قوّته و همّته إلى هذا كيف ينكر منه أن يبايع أبا بكر
[ 184 ]
لمصلحة رآها ، و يعدل عن النص ، و من الذي كان ينكر عليه ذلك ، و هو في القول الذي قاله للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في وجهه غير خائف من الانصار ، و لا أنكر عليه أحد لا النبي و لا غيره ، و هو أشدّ من مخالفة النص في الخلافة و أفظع و أشنع .
قال النقيب : على انّ الرجل ما أهمل أمر نفسه بل اعدّ أعذارا و أجوبة ،
و ذلك لأنّه قال لقوم عرّضوا له بحديث النص : إن النبي رجع عن ذلك باقامة أبي بكر مقامه في الصلاة ، و أوهمهم أنّ ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافة ،
و قال يوم السقيفة « ايّكم يطيب نفسا ان يتقدم قدمين قدّمهما النبي في الصلاة » ثم أكّد ذلك بأن قال لأبي بكر و قد عرض عليه البيعة « أنت صاحب رسول اللّه في المواطن كلها شدّتها و رخاها رضيك لديننا أفلا نرضاك لدنيانا » .
قال ثم عاب عليا عليه السلام بخطبة بنت أبي جهل فأوهم أنّ النبي كرهه لذلك و وجد عليه ، و أرضاه عمرو بن العاص ، فروى حديثا افتعله ، و اختلعه على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : سمعته يقول « إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنّما وليي اللّه و صالح المؤمنين » فجعلوا ذلك كالناسخ لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم « من كنت مولاه فهذا مولاه » .
قلت للنقيب : أيصحّ النسخ في مثل هذا ؟ أليس هذا نسخا للشيء قبل تقضي وقت فعله ؟ فقال : سبحان اللّه من أين تعرف العرب هذا و أنّى لها ان يتصوّره فضلا عن أن يحكم بعدم جوازه فهل يفهم حذّاق الاصوليّين هذه المسألة فضلا عن حمقى العرب هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة ،
و يستمالون بأضعف سبب و يبنى الأمر معهم على ظواهر النصوص ، و أوائل الأدلّة ، و هم أصحاب جمل و تقليد لا أصحاب تفصيل و نظر .
قال : ثمّ أكد حسن ظنّ الناس بهم أنّهم ظلفوا أنفسهم عن الأموال ،
[ 185 ]
و زهدوا في متاع الدنيا و زخرفها ، و سلكوا مسلك الرفض لزينتها و الرغبة عنها ، و القناعة بالطفيف النزر منها ، و أكلوا الخشن ، و لبسوا الكرابيس ، و لمّا ألقت الدنيا إليهم أفلاذ كبدها وفّروا الأموال على الناس ، و قسّموها بينهم ، و لم يتدنّسوا منها بقليل و لا كثير . فمالت إليهم القلوب ، و أحبّتهم النفوس ، و حسنت فيهم الظنون ، و قال من كان في نفسه شبهة منهم أو وقفة في أمرهم : لو كان هؤلاء قد خالفوا النص لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا ، و لغلب عليهم الميل إليها ، و الرغبة فيها ، و الاستيثار بها ، و كيف يجمعون على أنفسهم بين مخالفة النص ، و ترك لذات الدنيا فيخسرون الدنيا و الآخرة ، و هذا لا يفعله عاقل و القوم عقلاء ذوو الباب ، و آراء صحيحة . فلم يبق عند أحد شك في أمرهم ، و لا ارتياب لفعلهم ، و ثبتت العقائد على ولايتهم ، و تصويب أفعالهم ، و نسوا لذّة الرياسة ،
و انّ أصحاب الهمم العالية لا يلتفتون إلى المأكل و المشرب و المنكح ، و انما يريدون الحكم و الرياسة و نفوذ الأمر كما قال الشاعر :
و قد رغبت عن لذة المال أنفس
و ما رغبت عن لذة النهي و الأمر
قال : و الفرق بين الرجلين ، و بين الثالث ما اصيب الثالث ، و قتل تلك القتلة و خلعه الناس ، و حصروه و ضيّقوا عليه بعد ان توالى إنكارهم أفعاله في وجهه ، و فسّقوه ، و ذلك لأنه استأثر هو و أهله الأموال ، و انغمسوا فيها و استّبدوا بها ، فكانت طريقته و طريقتهم مخالفة لطريق الأوّلين ، فلم تصبر العرب على ذلك ، و لو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد ، و جمع الناس ،
و ردع الامراء و الولاة عن الأموال ، و تجنّب استعمال أهل بيته ، و وفّر أعراض الدنيا و ملاذها و شهواتها على الناس ، زاهدا فيها تاركا لها معرضا عنها ، لما ضرّه شيء قط ، و لا أنكر عليه أحد قطّ ، و لو حوّل الصلاة من الكعبة إلى بيت المقدس ، بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس و اقتنع منهم بأربع ،
[ 186 ]
و ذلك لأنّ همم أهل الدنيا مصروفة إلى الدنيا و الأموال . فإذا وجدوها سكتوا ،
و إذا فقدوها هاجوا و اضطربوا . ألست ترى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كيف قسّم غنائم هوازن على المنافقين ، و على أعدائه الّذين يتمنّون قتله و موته و زوال دولته .
فلمّا أعطاهم أحبّوه إمّا كلّهم ، و إمّا أكثرهم ، و من لم يحبّه منهم بقلبه جامله و داراه ، و كفّ عن اظهار عداوته و الاجلاب عليه ، و لو أنّ عليّا عليه السلام صانع أصحابه بالمال ، و أعطى الوجوه و الرؤساء المال ، لكان أمره إلى الانتظام و الاطراد أقرب ، و لكنّه رفض جانب التدبير الدنيوي ، و آثر لزوم الدين ،
و تمسّك بأحكام الشريعة ، و الملك أمر آخر غير الدين ، فاضطرب عليه أصحابه ، و هرب كثير منهم إلى عدوّه 1 .
نقلنا الكلامين بطولهما لكون الاول متكفلا لبيان وجوب وجود النص في العقل و الحكمة ، و كون الثاني متحمّلا لبيان دفع الاستبعاد في مخالفة الصحابة للنص على أمير المؤمنين عليه السلام كما تعلق به الخصم بما يقنع المنصف ، و ان كان في كلامه الثاني ، مخلّطا بين الغثّ و السمين إمّا مما شاة و جدلا ، و إمّا لما قاله من ابن أبي الحديد عدم كون الرجل إماميا و لا يبرأ من السلف ، فذكر في كلامه الثاني أحاديث موضوعة ، و ألبس لباس المناقب و جعل القدح مدحا ، فلنتكلّم على بعض فقراته دفعا للالتباس .
أمّا قوله أوّلا « إنّ القوم لم يكونوا يذهبون إلى أنها من معالم الدين » فنقول : إنّ قول عمر يوم السقيفة لأبي بكر : « ابسط يدك ابايعك ،
رضيك النبي لديننا أفلا نرضاك لدنيانا » ، لفظه و ان دلّ على ما ذكر من كون الخلافة رياسة دنيوية الاّ ان عملهم يضاده ، حيث انّهم حكموا بارتداد من أنكر خلافة أبي بكر ، و سوّوا بين المنكرين لخلافته و المنكرين
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 115 119 ، شرح الخطبة 226 .
[ 187 ]
لأصل الإسلام كمسيلمة ، و طليحة و الأسود العنسي . ففي ( تاريخ أعثم الكوفي ) ، و هو من رجالهم ، و قد ذكره كشف الظنون 1 : « انّ في يوم دبا قتل عكرمة بن أبي جهل رجالهم و بعث بنسائهم و اسرائهم إلى أبي بكر فجعل نساءهم إماء ، و أراد قتل الرجال فشفع إليه عمر بأنهم يشهدون بالشهادتين ، و يقيمون الصلاة فحبسهم مدّة خلافته ثم أطلقهم عمر في أيّامه » 2 .
و قال ابن الاثير في ( تاريخه الكامل ) في قصة مالك بن نويرة ، و قتل خالد بن الوليد له « و قيل : إنّ المسلمين لمّا غشوا مالكا و أصحابه ليلا أخذوا السلاح ، فقالوا : نحن المسلمون فقال أصحاب مالك : و نحن المسلمون . قالوا لهم : ضعوا السلاح ، فوضعوه ثم قتلوا . و كان ( خالد بن الوليد ) يعتذر في قتله انه قال : « ما اخال صاحبكم إلاّ قال كذا و كذا » فقال له « او ما تعدّه لك صاحبا » ثم ضرب عنقه 3 .
و كذلك اتباعهم هل يكفّرون شيعة أمير المؤمنين عليه السلام الّذي هو من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بمنزلة هارون من موسى بل بمنزلة نفسه بنص الكتاب ، و شيعة أهل بيته الّذين هم بمنزلة سفينة نوح في عدم النجاة إلاّ بهم ، واحد الثقلين اللذين خلّفهما النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في امّته لئلا يضلّوا الاّ لرفضهم شيخيهما مع انه كان مغالطة من عمر نظير مغالطته في قوله : « حسبنا كتاب اللّه و الرجل يهجرو لا نحتاج إلى وصيته » 4 و مغالطته بقوله : « ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما مات و انه انّما
-----------
( 1 ) كشف الظنون 2 : 1239 .
-----------
( 2 ) الفتوح لابن اعثم 1 : 74 ، و النقل بتلخيص .
-----------
( 3 ) الكامل لابن الاثير 2 : 359 ، سنة 11 .
-----------
( 4 ) هذا الحديث أخرجه جماعة منهم البخاري في صحيحه 1 : 32 و 4 : 7 و 271 ، و مسلم في صحيحه 3 : 1259 ح 22 .
[ 188 ]
غاب عن قومه كما غاب موسى عن قومه » 1 غالط كل هذه المغالطات لتنفيذ أغراضه .
و كيف لا يكون قوله : « رضيك النبي لديننا أفلا نرضاك لدنيانا » مغالطة و خليفة كل رجل لا بدّ أن يكون نظيره حتى يتمكن من عمل أعماله ، و قد قال تعالى في شموخ مقام النبوّة و خليفته مثله اللّه أعلم حيث يجعل رسالته 2 .
و اما قوله : « الا ترى كيف نصّ على إخراج أبي بكر و عمر في جيش اسامة ، و لم يخرجا لمّا رأيا أنّ في مقامهما مصلحة » فمن أعجب العجب و اذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا انما نحن مصلحون 3 فهل منشأ الاختلافات الواقعة في الاسلام ، و حدوث المذاهب الباطلة فيه ، و قتل النفوس ،
و نهب الأموال ، و هتك الأعراض ، و عزّة المنافقين ، و ذلّة المؤمنين كان إلاّ من بقائهما في المدينة ، و تصديهما لما تصدّيا ؟ و كيف يكونان أعرف بالمصالح ممّن قال تعالى في حقه : و ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى 4 و ما يفعل بلعنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم للمتخلف عن الجيش ؟
و كذلك إنكار الثاني وصيته صلّى اللّه عليه و آله و سلم فهل كان حدوث جميع المفاسد الحادثة في الاسلام إلاّ لذاك الانكار ، و لذا كان ابن عباس يبكي من تذكّره بكاء الثكلى و يتأسّف تأسّف الحرّى ، و ما يفعل بنسبته الهجر إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟
و أما نزوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم في بدر منزلا ، و استصلاح الانصار منزلا آخر فلم يكن مخالفة لقوله ، كيف و الأصل فيه أنّ الحباب بن المنذر كما في ( الطبري )
-----------
( 1 ) أخرجه البخاري في صحيحه 2 : 290 و 3 : 94 ، و أحمد في مسنده 3 : 196 ، و 6 : 219 ، و ابن سعد في الطبقات 2 ق 2 : 53 57 و غيرهم .
-----------
( 2 ) الانعام : 124 .
-----------
( 3 ) البقرة : 11 .
-----------
( 4 ) النجم : 3 و 4 .
[ 189 ]
قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه اللّه فيه ليس لنا أن نتقدّمه و لا نتأخره ، أم هو الرأي و الحرب و المكيدة ؟ قال : بل هو الرأي و الحرب و المكيدة فقال : « يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإنّ هذا ليس لك بمنزل ، فانهض بالناس حتّى نأتي أدنى مأمن القوم فتنزله ثم تغوّر ما سواه من القلب ، ثم تبني عليه حوضا فتملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب و لا يشربون » فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لقد أشرت بالرأي 1 .
فأين هذا الأدب و المعرفة و الديانة من تلك الجلافة و الجسارة ، و عدم الاكتراث باللّه و رسوله .
و أمّا قوله : « و انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : لا تؤبّروا النخل » الخ فمضمون حديث خبيث من أحاديثهم ، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يجب أن يكون أعرف بأمر الدين و الدنيا من جميع الناس ، و على تسليم كون علم الدنيا خارجا عن وظيفته فالعاقل الحكيم لا يأمر بما لا يعرف ، و التعرض لمثل ذلك شأن المغفّلين ،
و وضعوا ذلك لبيان انّ تخلف الرجلين عن الخروج في جيش اسامة ، و منع الثاني له عن الوصيّة ، و دفعه و دفع صاحبه وصيّه عليه السلام عن مقامه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّما كان لكونهما أعرف من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، لكن لازم ذلك كونهما أعرف من اللّه تعالى حيث أوحى الى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بتلك الامور ، و اللّه سبحانه يفضح المبطل و الكاذب .
و أمّا ما عدّد من إنكارات الثاني على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من صلاته على ابن ابّي ، و فداء اسارى بدر ، و قصّة الحديبية ، و أمان أبي سفيان ، و واقعة أبي حذيفة فنشأت من حوزته الخشناء و كلها من مطاعنه ، و لو كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يفعل ما يراه الرجل لا نفضّوا من حوله ، و ما استقرّ للاسلام عمود .
-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 144 ، سنة 2 .
[ 190 ]
و ما ذكره من نزول القرآن بموافقته من مجعولاتهم الّتي أمر بوضعها معاوية كقوله بانكاره على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم تبرّج نسائه للناس .
مع أنّ في جميع ذلك رووا خلافه بل رووا في الأخير عكسه ، فروى الحميدي في ( الجمع بين الصحيحين ) من المتفق عليه مسند عائشة قالت : كان ازواج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يخرجن ليلا الى قبل المصانع فخرجت سودة بنت زمعة .
فرآها عمر و هو في المجلس فقال : عرفتك يا سودة ، و في رواية فنزل الحجاب عقيب ذلك 1 و هو كما ترى دالّ على انّ الحجاب نزل بسبب عمل عمر و هتكه ، و إنما النواصب بدّلوه بموافقته ، كما أنّ في قضية الحديبية اتفقت الروايات على تصريح عمر بشكّه في الدين و كفره .
و نزيد على ما قاله النقيب من تدليسه للناس بصلاة أبي بكر ، أنّ أصل إقامته للصلاة أيضا كان تلبيسا . فلم يكن بأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إلاّ لم خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بنفسه مع شدّة مرضه ، و تأخيره أبا بكر ؟ كان عمله صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهيا عمليا غير قابل للانكار ، أتمّ به الحجّة ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، و يحيى من حيّ عن بيّنة .
و أمّا ما قاله من أنّه عاب عليا عليه السلام بخطبته بنت أبي جهل ، و أرضاه عمرو بن العاص بما افتعل له من الخبر . فأصل وقوع الخطبة أيضا كان افتعالا منه و لو كان صحيحا كان طعنا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حيث أنكر حلال اللّه .
ثم لنتكلّم على الأخبار الّتي نقلها : أمّا الخبر الأوّل ، و قول عمر « انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أراد أمرا و أراد اللّه غيره » فمغالطة ، و لو كان ما قال عذرا لكان للناس في كل جيل أن يقولوا لأنبيائهم أنتم تريدون إيماننا و اللّه يريد كفرنا .
-----------
( 1 ) رواه عن الحميدي ابن طاووس في الطرائف 2 : 445 ، و الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 3 : 177 ، و مسلم في صحيحه 4 : 1709 ح 17 و 18 .
[ 191 ]
و في ( عيون ابن قتيبة ) : صاحب رجل من القدرية مجوسيا في سفر فقال له : يا مجوسي مالك لا تسلم قال : حتّى يشاء اللّه قال : قد شاء اللّه ذلك ،
و لكنّ الشيطان لا يدعك . قال المجوسي : فأنا مع أقواهما 1 .
و أمّا الخبر الثاني فناقش فيه ابن أبي الحديد و قال : أجدر بعد الخبر أن يكون موضوعا لتضمنه إتيان عمر عليّا عليه السلام و الأخبار الكثيرة متضمنة بأنّه ما زال يدعوه ، و لتضمنه تكنيته عليه السلام لعمر ، و كتب الحديث و السّير متضمنة مخاطبته بأمير المؤمنين ، و لانه لم يسند الى كتاب معيّن و راو معيّن 2 .
قلت : أمّا إنكاره إتيان عمر أمير المؤمنين عليه السلام فإنكار منه لفضل لعمر ،
فانّا لا ننكر له إنصافا في بعض المقامات ، و انه كان لا تمنعه رياسته عن عمله بهذه القاعدة الفطرية انّ « في بيته يؤتى الحكم » و في اخبارنا إنكاره على أبي بكر في مقامات أراد إحضار أمير المؤمنين عليه السلام لكشف معضلة لهم بهذه القاعدة .
و اما ما قاله من انه عليه السلام دائما يخاطب عمر بأمير المؤمنين فلا نسلّم أصله ، و ما قاله من الكتب لم نتحققه مع أنه غفل عن نكات قالوها في علم المعاني من اختلاف المقتضيات باختلاف المقامات . فلمّا كان عمر قال له عليه السلام « و اللّه أرادك الحق ، و لكن أبى قومك » كان المناسب أن يقول في جوابه « خفّض عليك أبا حفص » لا « خفّض عليك أمير المؤمنين » فانه كان باردا و في غير مورد ، و قد رووا أنّ عمر قال لعلي و العباس لما حاكما إليه في ميراث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم « فجئت أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك ، و يطلب هذا ميراث امرأته من أبيها » حتّى قال عبد الرزاق الصنعاني « ألا يقول الأنوك : رسول اللّه »
-----------
( 1 ) عيون الاخبار 2 : 142 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 115 ، شرح الخطبة 226 ، و النقل بالمعنى .
[ 192 ]
نقل الخبر الحموي في ( بلدانه ) في « صنعاء » 1 .
و أمّا عدم إسناده ، فربّ مرسل صحيح بالشواهد ، و مسند باطل بالدلائل ، مع أنّه رواه علي بن طاووس في كتابه : « التشريف بالمنن » عن « مجموع محمّد بن الحسين المرزبان » و فيه تفصيل تلك النازلة الّتي نزلت على عمر هكذا : « قال شريح : كنت أقضي لعمر ، فأتاني يوما رجل فقال : إنّ رجلا أو دعني امرأتين احداهما حرّة مهرة و الاخرى سرّية . فجعلتهما في دار ،
و قد ولدتا غلاما و جارية ، و كلتا هما تدّعي الغلام و تنتفي من الجارية الى أن قال بعد ذكر إتيان عمر إليه عليه السلام لكشف الأمر كما في ذاك الخبر فأخذ عليه السلام بيده من الأرض شيئا ثم قال : « الحكم فيها أهون من هذا » . ثم استحضر المرأتين و أحضر قدحا ثم دفعه الى إحداهما فقال : إحلبي فيه . فحلبت ثم وزن القدح ، و دفعه الى الاخرى . فقال : إحلبي فيه فحلبت ثم وزنه فقال لصاحبة اللبن الخفيف خذي ابنتك ، و لصاحبة اللبن الثقيل خذي ابنك . الخبر 2 .
و أمّا الخبر الثالث فنسبة عمر إليه عليه السلام الريا مع وصف اللّه له بصالح المؤمنين في تظاهر ابنته مع صاحبتها ابنة صاحبه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
و وصفه له بوليّ المؤمنين بعده و بعد رسوله يكفيه خزيا .
و من العجب قوله : إن اللّه لم يبعث نبيا إلاّ بعد الأربعين . أو ما قرأ قوله تعالى في يحيى عليه السلام و آتيناه الحكم صبيا 3 و في عيسى عليه السلام حكاية عنه في المهد قال إنّي عبد اللّه آتاني الكتاب و جعلني نبيا 4 ؟
و قوله : « و تعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأوّلين » فرأت بالعيان
-----------
( 1 ) معجم البلدان 3 : 429 .
-----------
( 2 ) رواه ابن طاووس في التشريف بالمتن و هو كتاب الملاحم و الفتن : 186 ، و النقل بتلخيص .
-----------
( 3 ) مريم : 12 .
-----------
( 4 ) مريم : 30 .
[ 193 ]
كون رأي اولئك المهاجرين موجبا لإفساد الدين ، و إذلال العرب ، و تحقير الأنصار و استيصال أهل بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، فاتّخذوا عباد اللّه خولا ، و مال اللّه دولا و قد قتلوا سادات العرب عامة أ لم يقتلوا سعد بن عبادة باسم الجن ؟
أ لم يقتلوا مالك ابن نويرة باسم الارتداد ؟ أ لم يقتلوا حجر بن عدي باسم الإخلال في الملك ؟ و لقت الأنصار أثرة خاصة فوسموا على أكفهم و أذلّوهم كل اذلال ، و قد اعترف بما قلنا ابنه عبد اللّه بن عمر فقال : لما سمعت قول سلمان يوم السقيفة « كردند و نكردند » أبغضته ، لكن لمّا رأيت بعد ذلك مروان على منبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم صدّقته 1 . أو لم يكف في فساد رأيهم وقعة الطف ، و قتلهم سيد شباب أهل الجنة عطشانا ، و سبيهم بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ أو لم يكف فيه تبديل الشجرة الطيبة بالشجرة الخبيثة ، و تبديل أهل بيت أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا بالشجرة الملعونة في القرآن .
و قد شرح في بعض زياراتهم بعض مفاسد عملهم ذاك ، و هذا لفظه « يا سادتي يا آل رسول اللّه انّي بكم أتقرب الى اللّه تعالى بالخلاف على الّذين غدروا بكم ، و نكثوا بيعتكم ، و جحدوا ولايتكم ، و أنكروا منزلتكم ، و خلعوا ربقة طاعتكم ، و هجروا أسباب مودّتكم ، و تقربوا الى فراعنتهم بالبراءة منكم ،
و الإعراض عنكم ، و منعوكم من إقامة الحدود ، و استيصال الجحود ، و شعب الصدع ، و لمّ الشعث ، و سدّ الخلل ، و تثقيف الأود ، و إمضاء الأحكام ، و تهذيب الاسلام ، و قمع الآثام ، و أرهجوا عليكم نقع الحروب و الفتن ، و انحوا عليكم سيوف الأحقاد ، و هتكوا منكم الستور ، و ابتاعوا بخمسكم الخمور ، و صرفوا صدقات المساكين الى المضحكين و الساخرين ، و ذلك بما طرّقت لهم الفسقة الغواة ، و الحسدة البغاة ، أهل النكث و الغدر ، و الخلاف و المكر ، و القلوب المنتنة
-----------
( 1 ) رواه الطوسي في تلخيص الشافي 3 : 93 ، و النقل بتصرف في اللفظ .
[ 194 ]
من قذر الشرك ، و الأجساد المشحنة من درن الكفر ، أضبّوا على النفاق ، و أكبّوا على علائق الشقاق ، فلمّا مضى المصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلم اختطفوا الغرّة ، و انتهزوا الفرصة ، و انتهكوا الحرمة ، و غادروه على فراش الوفاة ، و أسرعوا لنقض البيعة ، و مخالفة المواثيق المؤكّدة ، و خيانة الأمانة المعروضة على الجبال الراسية ، و أبت أن تحملها و حملها الإنسان الظلوم الجهول . ذو الشقاق و العزّة بالآثام المولمة ، و الأنفة عن الانقياد لحميد العاقبة . فحشر سفلة الأعراب ،
و بقايا الأحزاب الى دار النبوّة و الرسالة ، و مهبط الوحي و الملائكة ، و مستقر سلطان الولاية ، و معدن الوصية و الخلافة و الإمامة ، حتى نقضوا عهد المصطفى في أخيه علم الهدى ، و المبيّن طريق النجاة من طرق الردى ،
و جرحوا كبد خير الورى في ظلم ابنته ، و اضطهاد حبيبته ، و اهتضام عزيزته ،
بضعة لحمه ، و فلذة كبده ، و خذلوا بعلها ، و صغّروا قدره ، و استحلّوا محارمه ،
و قطعوا رحمه ، و أنكروا اخوّته ، و هجروا مودّته ، و نقضوا طاعته ، و جحدوا ولايته ، و أطمعوا العبيد في خلافته ، و قادوه الى بيعتهم ، مصلتة سيوفها مقذعة أسنّتها ، و هو ساخط القلب ، هائج الغضب ، شديد الصبر ، كاظم الغيظ ،
يدعونه الى بيعتهم التي عمّ شؤمها الإسلام ، و زرعت في قلوب أهلها الآثام ،
و عقّت سلمانها ، و طردت مقدادها ، و نفت جندبها ، و فتقت بطن عمّارها ،
و حرّفت القرآن ، و بدّلت الأحكام ، و غيرّت المقام ، و أباحت الخمس للطلقاء ،
و سلّطت أولاد اللعناء على الفروج ، و خلطت الحلال بالحرام ، و استخّفت بالإيمان و الاسلام ، و هدمت الكعبة ، و أغارت على دار الهجرة يوم الحرّة ،
و أبرزت بنات المهاجرين و الأنصار للنكال و السوءة ، و ألبستهن ثوب العار و الفضيحة ، و رخّصت لأهل الشبهة في قتل أهل بيت الصفوة ، و إبادة نسله و استيصال شافته ، و سبي حرمه ، و قتل أنصاره ، و كسر منبره ، و قلب مفخره ،
[ 195 ]
و إخفاء دينه ، و قطع ذكره . يا مواليّ فلو عاينكم المصطفى و سهام الامة مغرقة في أكبادكم ، و رماحهم مشرعة في نحوركم ، و سيوفها مولعة في دمائكم .
يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، و غيظ الكفر من إيمانكم ، و أنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، و شهيد فوق الجنازة قد شكّت أكفانه بالسهام ، و قتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ، و مكبّل في السجن قد رضّت بالحديد أعضاؤه ، و مسموم قد قطّعت بجرع السمّ أمعاؤه ، و شملكم عباديد ، تفنيهم العبيد ، و أبناء العبيد . فهل المحن يا سادتي إلاّ التي لزمتكم الخ 1 .
و لو لم يكن رأي اولئك المهاجرين لكانت العرب لأهل بيت نبيّهم صلّى اللّه عليه و آله و سلم في غاية التمكين . قال عبد اللّه بن جعفر لمعاوية لمّا أراد البيعة لابنه كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) « و ايم اللّه لو ولّوه ( أي : عليّا عليه السلام ) بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه و صدقه ، و لأطيع الرحمن و عصي الشيطان ، و ما اختلف في الامة سيفان 2 .
و اما الخبر الرابع و قول كعب الأحبار فيه « نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة و اثنين من أصحابه الى أعدائه » فهل كان السبب في انتقال الأمر الى أعداء صاحب الشريعة إلاّ هو و صاحبه ، و لا سيما في تدبير الشورى و دستوره في رجالها . فلم استرجع ؟ هل كان استرجاعه إلاّ استهزاء ؟
و اما الخبر الرابع و قوله فيه : « كرهناه على حداثة السنّ ، و حبّه بني عبد المطلب » فردّ منه و منهم على اللّه و رسوله ، و لم يكره عثمان ، و عينه معينا بعده مع علمه بانّه يولّي بني اميّة ، و هم يهدمون الدين ، و يذلّون المؤمنين ،
-----------
( 1 ) رواه المجلسي في بحار الأنوار 102 : 165 ، عن مصباح الزائر و المزار الكبير ضمن زيارة طويلة .
-----------
( 2 ) الإمامة و السياسة 1 : 173 .
[ 196 ]
و يعزّزون المنافقين ، و لو لا بغضه لأمير المؤمنين عليه السلام ، و بهتانه على أيّ حبّ أظهر عليه السلام لبنيّ عبد المطلب و قد عمل مع أخيه لمّا طلب منه صاعا من البر زائدا على حقه ما عمل من إحراقه بحديدة محماة . تعالوا أهل العالم ابصروا كلام هذا الرجل و فهم اتباعه .
قول المصنف « و من كلام له عليه السلام لبعض أصحابه ، و قد سأله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به » سأل أبو زيد النحوي خليل بن أحمد العروضي . لم هجر الناس عليا عليه السلام و قرباه ، من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قرباه و موضعه من المسلمين موضعه ، و عناه في الاسلام عناه ؟ فقال « بهر و اللّه نوره أنوارهم ، و غلبهم على صفو كل منهل ، و الناس الى أشكالهم أميل . أما سمعت قول الأول يقول :
و كل شكل لشكله آلف
أما ترى الفيل يألف الفيلا
قال : و انشدنا الرياشي في معناه عن العباس بن أحنف :
و قائل كيف تهاجرتما
فقلت قولا فيه إنصاف
لم يك من شكلي فهاجرته
و الناس أشكال و الاف 1
و سأله أيضا في مقام آخر فقال : ما بال أصحاب النبي كأنّهم بنو امّ واحدة ، و علي عليه السلام كأنه ابن علّة ؟ فقال : تقدّمهم إسلاما ، و بذّهم شرفا ، وفاقهم علما ، و رجحهم حلما ، و كثرهم هدى ، فحسدوه ، و الناس الى أمثالهم و أشكالهم أميل 2 .
و قيل للسجّاد عليه السلام : ما أشدّ بغض قريش لجدّك علي عليه السلام قال : لأنّه أورد أوّلهم النار ، و ألزم آخرهم العار 3 .
-----------
( 1 ) رواه الصدوق في علل الشرائع 1 : 145 ح 1 .
-----------
( 2 ) رواه السروي في مناقبه 3 : 213 .
-----------
( 3 ) رواه ابن عساكر في ترجمة علي عليه السلام 2 : 229 ح 741 ، و السروي في مناقبه 3 : 220 ، و النقل بالمعنى .
[ 197 ]
و سأل الحسن بن فضال الرضا عليه السلام : كيف مال الناس عن أمير المؤمنين عليه السلام الى غيره و قد عرفوا فضله و سابقته ، و مكانه من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ قال : إنّما مالوا عنه الى غيره لأنه كان قتل من آباءهم و أجدادهم و أعمامهم ، و أخوالهم ، و اقرباءهم المحاربين للّه و لرسوله عددا كثيرا ، فكان حقدهم عليه لذلك في قلوبهم فلم يحبّوا ان يتولّى عليهم ، و لم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك لانه لم يكن له في الجهاد بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مثل ما كان له 1 .
و روى الزبير بن بكار في ( موفّقياته ) خبرا طويلا و قد نقله ابن أبي الحديد في عنوان قوله عليه السلام للمغيرة بن أخنس « يا ابن اللعين الابتر » و فيه انّ عثمان قال لابن عباس : و لقد علمت أنّ الأمر لكم ، و لكن قومكم دفعوكم عنه ،
و اختزلوه دونكم فو اللّه ما أدري أرفعوه عنكم أم رفعوكم عنه الى أن قال فقال ابن عباس : فأمّا صرف قومنا عنّا الأمر فعن حسد قد و اللّه عرفته ، و بغي قد و اللّه علمته . فاللّه بيننا و بين قومنا ، و أمّا قولك إنك لا تدري أرفعوه عنّا أم رفعونا عنه فلعمري أنك لتعرف أنّه لو صار إلينا هذا الأمر ما ازددنا به فضلا الى فضلنا ، و لا قدرا الى قدرنا ، و انّا لأهل الفضل و أهل القدر ، و ما فضل فاضل إلاّ بفضلنا ، و لا سبق سابق إلاّ بسبقنا ، و لو لا هدينا ما اهتدى أحد ، و لا أبصروا من عمى 2 .
و روى الواقدي في ( شوراه ) و قد نقله ابن أبي الحديد أيضا ثمة عن ابن عباس في خبر قال : فقال عثمان له عليه السلام : فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لك فقد رأيناك حين توفّي نازعت . ثم أقررت ، فإن كانا لم
-----------
( 1 ) رواه الصدوق في علل الشرائع 1 : 146 ح 3 .
-----------
( 2 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 375 ، شرح الخطبة 133 .
[ 198 ]
يركبا من الأمر جددا فكيف أذعنت لهما بالبيعة و نجعت بالطاعة إلى أن قال فقال علي عليه السلام : . . . و اما عتيق ، و ابن الخطاب فان كانا أخذا ما جعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لي فأنت أعلم بذلك و المسلمون ، و مالي و لهذا الأمر و قد تركته منذ حين الخبر 1 .
قلت : يكفيهم لإتمام الحجّة عليهم ادعاؤه ، و نزاعه أوّلا ، و أما إقراره أخيرا فكان عن اضطرار لعدم حصول أنصار له بعد تكرر الاستنصار منه .
و روى الجوهري في ( سقيفته ) و قد نقله ابن أبي الحديد ثمة أيضا عن محمّد بن قيس الأسدي عن معروف بن سويد قال : كنت بالمدينة ايّام بويع عثمان . فرأيت في المسجد رجلا جالسا و هو يصفق بإحدى يديه على الاخرى و الناس حوله و يقول : و اعجبا من قريش و استيثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت معدن الفضل ، و نجوم الأرض ، و نور البلاد ، و اللّه إنّ فيهم لرجلا ما رأيت رجلا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أولى منه بالحق ، و لا أقضى بالعدل ، و لا آمر بالمعروف ، و لا أنهى عن المنكر .
قال : فسألت عنه فقيل : هذا المقداد . فتقدّمت إليه ، و قلت : أصلحك اللّه من الرجل الّذي تذكر ؟ قال ابن عم نبيّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم علي بن أبي طالب . قال :
فلبثت ما شاء اللّه ثم إني لقيت أباذر فحدّثته ما قال المقداد فقال : صدق . قلت :
فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم ؟ قال : أبى ذلك قومهم الخبر 2 .
و قال ابن قتيبة في ( خلفائه ) بعد ذكره انّ عديّ بن حاتم الطائي دعا طيئا قومه الى نصرته عليه السلام لما أراد حرب الجمل ، و قال لهم « قد أظلّكم علي عليه السلام
-----------
( 1 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 377 ، شرح الخطبة 133 .
-----------
( 2 ) رواه الجوهري في السقيفة : 81 ، و عنه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 380 ، شرح الخطبة 133 ، و اللفظ لابن أبي الحديد .
[ 199 ]
و الناس معه من المهاجرين و البدريين و الأنصار فكونوا أكثرهم عددا فإنّ هذا سبيل للحيّ فيه الغنى و السرور ، و للقتيل فيه الحياة و الرزق » فصاحت طيء نعم . حتّى كاد أن يصمّ من صياحهم أنه عليه السلام لمّا أقدم على طيء أقبل شيخ من طيّئ هرم من الكبر فرفع له من حاجبيه ، فنظر الى علي عليه السلام فقال له :
أنت ابن أبي طالب ؟ قال : نعم قال : مرحبا بك و أهلا ، قد جعلناك بيننا و بين اللّه ،
و عدي بن حاتم بيننا و بينك ، و نحن بينه و بين الناس ، لو أتيتنا غير مبايعين لك لنصرناك لقرابتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أيّامك الصالحة ، و لئن كان ما يقال فيك من الخير حقّا إنّ في أمرك و أمر قريش لعجبا اذ أخّروك و قدّموا غيرك ،
سر فو اللّه لا يتخلّف عنك من طيّئ إلاّ عبد أو دعيّ 1 .
و قال ابن عبد ربه في ( عقده ) : قال ابن عباس ، ماشيت عمر بن الخطاب يوما فقال لي : يا ابن عباس ما يمنع قومكم منكم ، و أنتم أهل البيت خاصّة ؟
قلت : لا أدري قال : لكنّي أدري . انّكم فضّلتم بالنبوّة فقالوا : إن فضّلوا بالخلافة لم يبقوا لنا شيئا و انّ أفضل النصيبين بأيديكم بل ما أخالها إلاّ مجتمعة لكم ،
و ان نزلت على رغم أنف قريش 2 .
و روى ابن ديزيل و قد نقله ابن أبي الحديد عند قوله عليه السلام لمّا اشاروا عليه بالاستعداد للشام ، مسندا عن زيد بن أرقم قال : قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ألا أدّلكم على ما إن تسالمتم عليه لم تهلكوا ؟ إنّ وليّكم اللّه و إمامكم علي بن أبي طالب فناصحوه و صدّقوه فإنّ جبرئيل أخبرني بذلك 3 .
و قال ابن أبي الحديد بعد نقله : فإن قلت : هذا نص صريح في الإمامة فما
-----------
( 1 ) جاء في الإمامة و السياسة 1 : 57 و 58 .
-----------
( 2 ) روى ابن عبد ربه في العقد الفريد 5 : 22 ، مناظرة بين ابن عباس و عمر لكن بغير هذا المتن و المناظرة بينهما جاءت في الكتب بألفاظ مختلفه .
-----------
( 3 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 255 ، شرح الخطبة 43 .
[ 200 ]
الّذي تصنع المعتزلة بذلك ؟ قلت : يجوز أن يريد أنّه إمامهم في الفتاوى و الأحكام الشرعية لا في الخلافة ، و قال إنّ قول شيوخه البغداديين إنّ الإمامة كانت له إن رغب فيها نازع عليها ، و أمير المؤمنين لم ينازع الأئمة الثلاثة ، و لا جرّد السيف فدل ذلك على إقراره لهم فلذلك تولّيناهم 1 .
قلت : فإن كان هذا الدين ، فالحق للملحدين ، و إن كان هؤلاء عقلاء ،
فأقوالهم ضحكة المجانين . فنازع يوم السقيفة حتّى أرادوا إحراقه مع امرأته و ابنيه و كتب إليه معاويه « كنت تقاد لبيعة أبي بكر كما يقاد الجمل المخشوش » 2 و نازع يوم الشورى حتى هدّدوه بقتله بالسيف حسب دستور عمر في من لم يقبل دستوره ، و لم يتكلّم يوم عمر لأنّه لم يقدر على التكلم في قبال سلطنة مستقرة ، و هل يقدر رجل واحد أو بيت واحد أن يجرّد السيف في وجه حكومة قاهرة ؟ إلاّ أنّهم كما أنكروا النص المتواتر لا غرو أن ينكروا نزاعه و قد عرفت خبر ( كتاب شورى الواقدي ) أنّ عثمان قال له « فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله النبي لك . فلقد رأيناك حين توفى نازعت ثم أقررت » و لمّا أراد عثمان اغراء العامة به بأن يقول عليه السلام في أبي بكر و عمر شيئا قال عليه السلام له : « ما لي و لهذا الأمر و قد تركته منذ حين » .
و رووا أنّ عمر قال لابن عباس و قد نقله ابن أبي الحديد عند شرح قوله عليه السلام للّه بلاد فلان أنتم أهل رسول اللّه و آله و سلم و بنو عمّه . فما تقول في منع قومكم منكم . قال « لا أدري علّتها ، و اللّه ما أضمرنا لهم إلاّ خيرا » قال : اللّهم غفرا . إنّ قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوّة ، و الخلافة فتذهبوا في السماء
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 255 ، شرح الخطبة 43 .
-----------
( 2 ) جاء هذا المعنى في رواية ابن مزاحم في وقعة صفين : 87 ، و الشريف الرضي في نهج البلاغة 3 : 33 ، الكتاب 28 ،
و ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 33 ، شرح الكتاب 28 ، و غيرهم و اقرب الألفاظ لفظ ابن مزاحم .
[ 201 ]
شمخا و بذخا ، و لعلكم تقولون انّ أبا بكر أوّل من أخّركم ، أما إنّه لم يقصد ذلك ،
و لكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم ممّا فعل ، و لو لا رأي أبي بكر فيّ لجعل لكم من الأمر نصيبا ، و لو فعل ما هنأكم مع قومكم أنّهم ينظرون إليكم نظر الثور الى جازره » 1 .
و روى إبراهيم الثقفي في كتابه عن عبد الرحمن بن أبي ليلي أنّه لمّا كثر أقاويل الناس في أمير المؤمنين عليه السلام و في المتقدّمين عليه قال له عليه السلام : ما أدري ما أقول إذا سئلت عن المتقدمين عليك . فإن قلت : إنّهم كانوا أولى منك . فعلام نصبك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حجّة الوداع ، و قال ما قال ، و انت كنت أنت أولى فعلام نتولّى اولئك ؟ فقال عليه السلام : انّ اللّه تعالى قبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أنا يوم قبضه أولى بالناس منّي بقميصي هذا ، و إنّه كان من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إليّ عهد لو خزمتموني بأنفي لأقررت سمعا و طاعة إلى أن قال فقال عبد الرحمن له عليه السلام أنت يا أمير المؤمنين كما قال الأول .
لعمري لقد أيقظت من كان نائما
و أسمعت من كانت له اذنان 2
« فقال يا أخا بني أسد » كان الرجل من دودان بن أسد بن خزيمة . فقد عرفت أنّ المفيد نقله « يا ابن دودان » و الصدوق نقله « يا أخا بني دودان » 3 و بنو أسد في العرب اثنان أحدهما من مضر و هو « اسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر » و الآخر من ربيعة و هو « أسد بن ربيعة بن نزار » .
هذا ، و في ( عيون ابن قتيبة ) قال المساور أي : العبسي للمرار أي :
الأسدي .
-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 94 ، شرح الخطبة 226 .
-----------
( 2 ) رواه عن الثقفي المفيد في اماليه : 223 ح 2 ، مجلس 26 ، و النقل بتلخيص .
-----------
( 3 ) الارشاد : 156 ، و علل الشرائع 1 : 146 ، و امالى الصدوق : 495 .
[ 202 ]
ما سرّني أنّ امّي من بني أسد
و أنّ ربّي ينّجيني من النار
و أنّهم زوّجوني من بناتهم
و أنّ لي كلّ يوم ألف دينار
فأجابه المرار :
فلست للام من عبس و من أسد
و إنّما أنت دينار ابن دينار
و ان تكن أنت من عبس و أمّهم
فإنّ امّكم من جارة الجار
قال دينار ابن دينار عبد ابن عبد و جارة الجار الاست و الجار الفرج 1 .
« انّك لقلق الوضين » قال في النهاية بعد نقل كلامه عليه السلام أراد أنّه سريع الحركة يصفه بالخفة ، و قلّة الثبات كالحزام إذا كان رخوا و هو بطان منسوج بعضه على بعض يشدّ به الرحل على البعير كالحزام للسرج 2 .
« ترسل في غير سدد » قالوا : أي : تطلق الدابة في غير استقامة ، و قد عرفت أنّ الصدوق ، و المفيد روياه « ترسل غير ذي مسد » 3 و المسد حبل من ليف أو خوص ، و قد يكون من جلود الابل أو أوبارها أي تطلق مركبا غير ذي حبل فلا تقدر على أخذه إذا أردت أخذه و المراد تتكلم في موضع لا ينبغي التكلم فيه لعدم قدرتك على جبران ما يحدث منه لأنه عليه السلام كان في أصعب موقف بصفين كما عرفت من رواية الصدوق ، و أكثر أصحابه كانوا غير مستبصرين فيه ، و كيف و كانت منهم الخوارج الّذين أحدثوا في أمره بمجرد رفع معاوية المصاحف على القناة . فأجبروه على التحكيم ثم كفّروه فكيف امكنه عليه السلام الشكاية منهم ، و نسبة الظلم الى صدّيقهم و فاروقهم .
ذاكر رجل مع الباقر عليه السلام شيئا من أمرهما فقال عليه السلام « ضربوكم على دم
-----------
( 1 ) عيون الاخبار 4 : 13 .
-----------
( 2 ) النهاية 5 : 199 ، مادة و ضن و النقل بتصرف .
-----------
( 3 ) كذا في الارشاد : 156 ، و لفظ العلل 1 : 146 ، « ترسل في غير سدد » و لفظ الامالي : 495 ، « ترسل عن ذي مسد » .
[ 203 ]
عثمان ثمانين سنة ، و هم يعلمون أنه كان ظالما فكيف إذا ذكرتم صنميهم 1 .
« و لك بعد ذمامة » أي : حرمة .
« الصهر » قال ابن أبي الحديد و يروى « ماتّة الصهر » أي : وسيلته قال :
قال عليه السلام ذلك لأنّ زينب بنت جحش زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كانت أسدية ، و هي بنت جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة و أمّها اميمة بنت عبد المطلب فهي بنت عمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ،
و المصاهرة المشار إليها هي هذه ، و لم يفهم الراوندي فقال « كان عليه السلام تزوّج في بني اسد » 2 و لم يصب فانّه عليه السلام لم يتزوج فيهم . ثم ذكر ابن أبي الحديد أولاده عليه السلام و امّهاتهم لبيان عدم تزوجه فيهم 3 .
قلت : إنّ مدّعاه و ان كان صحيحا إلاّ أنّ دليله أعم فللخصم أن يقول تزوج بأسدية لم تكن ذات ولد . ثم يمكن أن يريد عليه السلام بالمصاهرة ما ذكره من زينب زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هي أول من مات من أزواجه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعده ، و كانت قبله عند زيد بن حارثة مولاه ، و يمكن أن يريد عليه السلام بالمصاهرة كون أنّ جحشا و هو أسدي تزوج عمته عليه السلام اميمة ، و يمكن أن يريد عليه السلام بالمصاهرة كون أم كلاب الثالثة و كلاب جدّ عبد مناف جدّ جدّه عليه السلام هند بنت دودان بن أسد ، و امّ لؤيّ بن غالب الثالثة و لؤيّ أبو جدّ كلاب تماضر بنت الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ، و ام تلك رهم بنت كاهل بن أسد بن خزيمة كما صرّح به كاتب الواقدي في ( طبقاته ) في امّهات آباء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم 4 ، و الصهر يعمّ أقرباء الزوجين . قال الجوهري : « و كلّ شيء من قبل الزوج مثل الأب و الأخ فهم
-----------
( 1 ) رواه الكليني في الكافي 8 : 189 ح 215 .
-----------
( 2 ) شرح الراوندي 2 : 123 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 454 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 4 ) طبقات ابن سعد 1 ق 1 : 34 .
[ 204 ]
الأحماء ، و كلّ شيء من قبل المرأة فهم الاختان و الصهر يجمع هذا كلّه » 1 .
و رعاية ذمامة الصهر كرعاية ذمامة الرحم قال تعالى : و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا 2 و كانت عداوة يزيد بن عبد الملك مع يزيد ابن المهلّب لأنّه كان عذّب أصهاره آل أبي عقيل ، فكانت عنده بنت محمّد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف ، و هي امّ ابنه الوليد . فعذّبهم أيّام سليمان بن عبد الملك بعداوة سليمان مع الحجاج لأنّه كان حمل الوليد أخاه على خلعه ، فكان يزيد بن عبد الملك حلف لئن أمكن من يزيد بن المهلّب ليقطعنّ منه طابقا . فكان ذلك سببا لفراره من سجن عمر بن عبد العزيز ، و خروجه حتّى قتل مع أهل بيته .
و في ( الطبري ) أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا قسّم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث لثابت بن قيس أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسها و ذكر أنّها جاءت الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و استعانت به على كتابتها و أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لها : فهل لك في خير من ذلك ؟ أقضي كتابتك ، و أتزوجك قالت : نعم قال : قد فعلت ، و خرج الخبر الى الناس أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم تزوج جويرية بنت الحارث .
فقال الناس اصهار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأرسلوا ما بأيديهم . فاعتق بتزوجه إيّاها مائة أهل بيت من بني المصطلق . فما علم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها 3 .
« و حقّ المسألة » روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام قال : قرأت في كتاب علي عليه السلام أنّ اللّه تعالى لم يأخذ على الجهّال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على
-----------
( 1 ) صحاح اللغة 2 : 717 ، مادة صهر .
-----------
( 2 ) الفرقان : 54 .
-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 2 : 263 ، سنة 6 ، و النقل بتلخيص .
[ 205 ]
العلماء عهدا ببذل العلم للجهّال لأنّ العلم كان قبل الجهل 1 .
« و قد استعلمت فاعلم اما الاستبداد » أي : التقدم .
« علينا بهذا المقام » أي : الخلافة و السلطنة .
« و نحن الاعلون نسبا » ممّن تقدم علينا قال الباقر عليه السلام : كان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم صديقان يهوديان قد آمنا بموسى عليه السلام و أتيا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم سمعا منه و كانا قد قرءا التوراة . و صحف ابراهيم و موسى عليه السلام و علما علم الكتب الأولى . فلمّا قبض اللّه تعالى رسوله أقبلا يسألان عن صاحب الأمر بعده ، و قالا : إنّه لم يمت نبيّ قط الاّوله خليفة يقوم بالأمر في امّته بعده ، قريب القرابة إليه من أهل بيته ،
عظيم الخطر جليل الشأن . فقال أحدهما لصاحبه : هل تعرف صاحب هذا الأمر من بعد النبي . قال الآخر : لا أعلمه إلاّ بالصفة التي أجدها في التوراة . هو الأصلع المصفرّ قال : فلمّا نظرا الى أبي بكر قالا : ليس هذا صاحبنا ، ثم قالا له : ما قرابتك من النبي قال : إنّي رجل من عشيرته و هو زوج ابنتي عائشة قالا : ليس غير هذا ؟ قال : لا . قالا : ليست هذه بقرابة . قالا : فأخبرنا أين ربك ؟ قال : فوق سبع سماوات . قالا : هل غير هذا قال : لا . قالا : دلّنا على من هو أعلم منك . فأرشدهما الى عمر إلى أن قال :
فأرشدهما عمر الى علي عليه السلام فلمّا نظرا إليه قال أحدهما : إنّه الرجل الّذي نجد صفته في التوراة . إنّه وصي هذا النبي و خليفته ، و زوج ابنته و ابو السبطين و القائم بالحق بعده ، فلمّا سألاه قالا : هذه القرابة الفاخرة و المنزلة القريبة ، و هذه الصفة التي نجدها في التوراة و قال عليه السلام في جواب سؤالهما إن شئتما أنبأتكما بالذي كان على عهد نبيّكما ، و إن شئتما أنبأتكما
-----------
( 1 ) أخرجه الكليني في الكافي 1 : 41 ح 1 .
[ 206 ]
بالّذي كان على عهد نبيّنا الخبر 1 .
« و الأشدّون بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم نوطا » أي : لصوقا ، و يكفي في شدّة نوطهم بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم 2 فجعل عزّ و جلّ ابني أمير المؤمنين عليه السلام أبناء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و امرأة أمير المؤمنين عليه السلام نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و نفس أمير المؤمنين عليه السلام نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
قال المأمون يوما لأبي الحسن الرضا عليه السلام أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام يدلّ عليها القرآن .
فقال الرضا عليه السلام : هو في المباهلة قال اللّه تعالى فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين 3 فدعا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الحسن و الحسين عليهما السلام فكانا ابنيه ، و دعا فاطمة عليها السلام فكانت في هذا الموضع نساءه ، و دعا أمير المؤمنين عليه السلام فكان نفسه بحكم اللّه عزّ و جلّ ،
و قد ثبت أنّه ليس أحد من خلق اللّه أجلّ من النبي و أفضل ، فوجب أن لا يكون أحد أفضل ممّن هو نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم بحكم اللّه عزّ و جلّ .
فقال المأمون : أليس اللّه قد ذكر الأبناء بلفظ الجمع ، و إنما دعا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ابنيه خاصة ، و ذكر النساء بلفظ الجمع و انما دعا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ابنته وحدها فلم لا جاز ان يذكر الدعاء لمن هو نفسه ، و يكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون له ما ذكرت من الفضل .
فقال الرضا عليه السلام : ليس بصحيح ما ذكرت ، و ذلك أنّ الداعي إنّما يكون
-----------
( 1 ) أخرجه الصدوق في التوحيد : 180 ح 15 ، النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) آل عمران : 61 .
-----------
( 3 ) آل عمران : 61 .
[ 207 ]
داعيا لغيره كما يكون الآمر آمرا لغيره ، و اذ لم يدع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم رجلا في المباهلة إلاّ أمير المؤمنين عليه السلام ثبت أنّه نفسه التي عناها اللّه تعالى في كتابه ،
و جعل حكمه ذلك في تنزيله .
فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط سؤال 1 .
« فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم » قال ابن أبي الحديد : يعني به على قولنا نفوس أهل الشورى ، و على قول الامامية نفوس أهل السقيفة 2 .
قلت : يشهد لقول الامامية قوله عليه السلام في كتابه الى عثمان بن حنيف في أمر فدك « فشحّت عليها نفوس قوم » 3 فلا ريب أنّ الآخذين لفدك إنّما كانوا أهل السقيفة و هل يوم الشورى إلاّ فرع يوم السقيفة ، و لو لا أثر يوم السقيفة لم يوجد يوم شورى و مؤسس يوم الشورى أيضا كان رجال أهل السقيفة ، و هل كان يوم السقيفة يوما لا يشكا منه ، و قد أرادوا إحراقه و إحراق أهل بيته ، و هل كان يوم السقيفة يوما تخفى سوأته حتى يواريه ، و لقد أجاد أبو بكر بن قريعة القاضي في أبياته في ذاك اليوم و ما ترتب عليه .
يا من يسائل دائبا
عن كلّ معضلة سخيفه
لا تكشفن مغطّا
فلربما كشفت عن جيفه
و لربّ مستور بدا
كالطبل من تحت القطيفه
إنّ الجواب لحاضر
لكنّني أخفيه خيفه
لو لا اعتداء رعية
ألقى سياستها الخليفه
و سيوف أعداء بها
هاماتنا أبدا تقيفه
-----------
( 1 ) رواه الشريف المرتضى في الفصول المختاره 1 : 17 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 457 ، و النقل بالمعنى .
-----------
( 3 ) نهج البلاغة 3 : 71 ، الكتاب 45 .
[ 208 ]
لنشرت من أسرار آ
ل محمّد جملا لطيفه
تغنيك عمّا قد روا
ه مالك و أبو حنيفه
و أريتكم أنّ الحسين
أصيب من يوم السقيفه
و لأيّ حال الحدت
بالليل فاطمة الشريفه
و لما حمت شيخيكم
عن وطأ حجرتها الشريفه
اوه لبنت محمّد
ماتت بغصّتها أسيفه
و هل شكاياته عليه السلام من أهل السقيفة أمر غير متحقق حتّى يتشكك فيه ،
و مع تقيته عليه السلام منهم أمر متواتر . روى ابن بكير الغنوي عن حكيم بن جبير قال : حدّثنا من شهد عليا عليه السلام بالرحبة يخطب فقال في ما قال : « أيّها الناس انكم قد أبيتم إلاّ أن أقول . أما و رب السماء و الأرض لقد عهد الىّ خليلي انّ الامة ستغدر بك من بعدي » 1 .
و روى إسماعيل بن سالم عن ابن أبي ادريس الأودي قال : سمعت عليا يقول : انّ في ما عهد الي النبي الامي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّ الامّة ستغدر بك من بعدي 2 .
و قد روى العباس بن عبد اللّه العبدي عن عمرو بن شمر عن رجاله عن علي عليه السلام قال في كلام : « حتّى قبض اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فكانت الطامّة الكبرى » 3 . إلاّ أنّ دأب إخواننا التشكيك في البديهيات .
هذا ، و من أسباب شحّ نفوس قوم و هم قريش عليه عليه السلام بنيل الأمر إليه أنّهم علموا أنّه لو صار الأمر إليه لا يرى غيره مستحقا لكون الإمامة عنده كالنبوة أمرا من قبل اللّه تعالى ، فلا يدع رجوع الأمر إليهم يوما ، و لذا شحّوا عليه عليه السلام يوم الشورى أيضا كالسقيفة فقال عليه السلام كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) « فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي ، لأنّهم كانوا يسمعونني و أنا
-----------
( 1 ) رواها المفيد في الارشاد : 151 .
-----------
( 2 ) رواها المفيد في الارشاد : 151 .
-----------
( 3 ) رواها المفيد في الارشاد : 151 .
[ 209 ]
احاجّ أبا بكر ، فأقول : يا معشر قريش أنّا احقّ بهذا الأمر منكم ما كان منّا من يقرأ القرآن و يعرف السنّة ، فخشوا إن وليت عليهم أن لا يكون لهم في هذا الأمر نصيب » إلى آخره 1 .
و العجب أنّ بعض العامّة كانوا يقولون : إنّ مذهب الشيعة كان سياسة من بعض الملوك مع أنّ أصل اختيار قريش لأبي بكر كان سياسة منهم حتّى يحصل لهم شركة في الأمر ، فقال المغيرة بن شعبة لأبي بكر و عمر يوم السقيفة حاثّا لهما على ادعاء الامر « ا تريدون أن تنظروا خيل الحبلة من أهل هذا البيت وسّعوها في قريش تتّسع » 2 .
و قال أمير المؤمنين عليه السلام يوم السقيفة لعمر كما في ( الطبري ) و غيره « امّرت أبا بكر اليوم ليؤمّرك غدا » 3 و قال عليه السلام لعبد الرحمن بن عوف يوم الشورى لما بايع عثمان مثل ذلك 4 ، و لمّا كان عمار يوم السقيفة يحضّ عليه عليه السلام انتهره بنو مخزوم و سبّوه ، و قالوا له : ما أنت و الدخالة في أمر قريش و هنا قول المقداد يوم السقيفة صافقا إحدى يديه على الاخرى : و اعجبا من قريش و استيثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت معدن الفضل و نجوم الأرض الخ 5 و مرّ قول عمر و عثمان لابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم 6 .
-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 155 .
-----------
( 2 ) رواه الجوهري في السقيفة : 68 .
-----------
( 3 ) جاء في الإمامة و السياسة 1 : 11 ، و في السقيفة : 60 ، و غيرها ، لكن لم يوجد الحديث في اخبار السقيفة في تاريخ الطبري .
-----------
( 4 ) رواه الطبري في تاريخه 3 : 297 ، سنة 23 ، و المفيد في الارشاد : 152 .
-----------
( 5 ) رواهما الجوهري في السقيفة : 81 و 85 ، و الأمران وقعا في يوم الشورى لا السقيفة .
-----------
( 6 ) مر كلاهما في هذا العنوان .
[ 210 ]
و انّما مذهب لا يجامع السياسة مذهب الشيعة حيث لا يرون لغير أمير المؤمنين عليه السلام و أحد عشر من عترته حقّا و لا أهل حق و السياسة ليست قائلة بحق ، فمذهب الشيعة بالضد ممّا قالوا لم يمنع من نشره الاّ السياسة ،
و لمّا أنشأ المعتضد كتابا بلعن معاوية مستدلاّ فيه بالكتاب و السنّة و الحجج الجليّة و أراد نشره ، قال له قاضيه يوسف بن يعقوب : أخاف أن تضطرب العامّة فقال المعتضد : ان تحرّكت العامة أو نطقت وضعت فيهم سيفي . قال له :
« فما تصنع بالطالبيين الّذين هم في كل ناحيه يخرجون و يميل إليهم كثير من الناس بقرابتهم من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و بمآثرهم ، و في هذا الكتاب اطراؤهم ، و اذا سمع الناس ذلك كانوا إليهم أميل و كانوا أبسط ألسنة ، و أثبت حجّة منهم اليوم » فأمسك المعتضد عن جوابه و لم يردّ عليه شيئا ، و لم يأمر في الكتاب بشيء 1 .
و ملوك آل بويه كانوا شيعة متدينين ، و كانوا متمكنين من خلع العباسيين و نصب العلويين كالرضي و المرتضى ، و لم يفعلوا ذلك سياسة .
و كيف لا يشحّون عليه عليه السلام فمع علمهم بأنّه لو صار الأمر إليه عليه السلام لم يدع صيرورته إليهم أبدا ، علموا أنّهم لو صرفوا النظر عن وصول الأمر إليهم لم يدعهم اذا وصل الأمر إليه و هو أهم لتنمّره في ذات اللّه كما أفصحت عنه سيدّة نساء العالمين فقالت : ما نقموا منه عليه السلام إلاّ تنمّره في ذات اللّه 2 .
و قد كان عمر بن عبد العزيز مع انه انما كان صالحا بالنسبة الى بني اميّة لا بالنسبة الى الواقع لم يقدر سليمان بن عبد الملك على نصبه لهواه فيه حتّى دبّر في أمره بجعل أخيه يزيد بن عبد الملك بعده ، و لما أراد
-----------
( 1 ) رواه الطبري في تاريخه 8 : 189 ، سنة 284 .
-----------
( 2 ) رواه عن السقيفة للجوهري الاربلي في كشف الغمة 2 : 118 ، و رواه جماعة اخرى ايضا .
[ 211 ]
العمل بالحق في الجملة ، قتلوه .
قال الطبري في الخارجة الذين خرجوا على عمر بن عبد العزيز في سنة ( 100 ) و أرسلوا رجلين لمناظرته فقالا له : أخبرنا عن يزيد لم تقرّه خليفة بعدك قال : صيّره غيري . قالا : أفرأيت لو ولّيت مالا لغيرك ثم وكلته الى غير مأمون عليه أتراك كنت ادّيت الأمانة الى من ائتمنك ؟ فقال : أنظراني ثلاثا فخرجا من عنده و خاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم ، و ما في أيديهم من أموال ، و أن يخلع يزيد ، فدسّوا إليه من سقاه سمّا فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلاّ ثلاثا حتّى مات 1 .
و كما أنّ السياسة أخفت مذهب الشيعة مع كون حقيقته كالشمس في رابعة النهار فهل خليفة النبي إلاّ من كان مثله علما و حلما و فضلا و تقوى ؟ أم بالضد نشرت و شهرت مذهب السنة مع كون بطلانه واضحا لاشتماله على الجمع بين الضدين و انكار المتواترات ، و غير ذلك من خلاف مقتضى العقول .
قال الطبري : قال الرشيد لعبد اللّه بن مصعب الزبيري ، ما تقول في الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه فهم أنواع الشيع و أهل البدع ، و أنواع الخوارج ، أمّا الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة الى اليوم فقال له : ما أحتاج أن أسأل بعد هذا اليوم عن هذا .
و سأله أيضا عن منزلة أبي بكر و عمر من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال له : كانت منزلتهما في حياته منه منزلتهما في مماته فقال : كفيتني ما أحتاج إليه 2 .
أفلم يكن هارون عارفا بحقيقة الأمر ؟ أكان عاميا يغفّل بمثل هذه الكلمات ؟ إلاّ انّه لو كان لم يقبل قوله يقال له : و ما أنت و هذا الأمر
-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 5 : 311 ، سنة 100 .
-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 6 : 534 ، سنة 193 .
[ 212 ]
فكان مضطرا إلى قبول قوله .
ثم كيف سمّى المتفرقين عن عثمان أهل الشيع و أهل البدع و أبوه أي أبو مصعب الزبيري قائل الكلام و هو حواريّهم ، و صاحبه طلحة أحد عشرتهم و ستّتهم ، كانا ممّن تفرق عنه بل من المؤلّبين عليه ، و ابن عوف حكم عمر الذى نصبه مات متهاجرا له .
و كيف سمّاهم أهل البدع ، و عمّار المتّفق على جلاله حتّى من أعدائه أحد قتلته . قال له عمرو بن العاص في صفين : ما ترى في قتل عثمان ؟ فقال عمار : قتله فتح لكم باب كل سوء قال عمرو : فعليّ قتله ؟ قال عمار : بل اللّه ربّ علي قتله ، و علي معه . قال له عمرو : أكنت في من قتله ؟ قال : كنت مع من قتله ،
و أنا اليوم اقاتل معهم . قال له عمرو : لم قتلتموه ؟ قال عمار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه . فقال عمرو لأهل الشام : ألا تسمعون ؟ قد اعترف بقتل عثمان قال عمار : و قد قالها قبلك فرعون لقومه : ألا تستمعون 1 .
و كذلك استدلاله للأوّل و الثاني ، و منزلتهما بقرب قبريهما ، ألم يعلم هارون أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر في مرضه بإخراجهما من المدينة بتأكيد في تجهيز جيش اسامة لئلاّ يشهدا موته فيحدثا فتنة ؟ ألم يمنعه الثاني من الوصية لئلاّ يضلّوا بعده ، و قال إنّه ليهجر ، و لم يخرجا في جيش اسامة مع لعنه المتخلّف و إعراضه عنهما لما حضراه في احتضاره ؟
« و سخت عنها نفوس آخرين و الحكم اللّه » قال ابن أبي الحديد : « سخت :
يعني جادت » 2 قلت : « سخت به » بمعنى جادت ، و اما « سخا عنه » كما هنا فبمعنى تركه . قال الجوهري : « سخيت نفسي عن الشيء » إذا تركته 3 .
-----------
( 1 ) رواه ابن مزاحم في وقعة صفين : 338 ، و النقل بتصرف يسير ، و الآية 25 من سورة الشعراء .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 454 .
-----------
( 3 ) صحاح اللغة 6 : 2373 ، مادة سخا .
[ 213 ]
و قال ابن أبي الحديد أيضا : « يعني عليه السلام بقوله و سخت عنها نفوس آخرين : نفسه » و تبعه الخوئي أيضا 1 .
قلت : بل أراد عليه السلام بقوله « نفوس آخرين » نفوس المهاجرين و الأنصار غير الشيخين و اتباعهما ، كما أنّ المراد بقوله عليه السلام : « شحّت عليها نفوس قوم » الشيخان و أتباعهما من قريش .
و نظير كلامه عليه السلام هذا ، قول زوجته سيّدة نساء العالمين عليها السلام لما انصرفت من مجلس أبي بكر : هذا ابن أبي قحافة قد ابتزّني نحلة أبي ، و بلغة ابنيّ و اللّه لقد اجدّ في ظلامتي ، و ألدّ في خصامي حتّى منعتني قيلة نصرها ،
و المهاجرة و صلها ، و غضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا مانع و لا دافع » 2 و الحكم بيننا و بين الشاحين عليها و الساحين عنها اللّه الذي يجري كل نفس بما كسبت .
« و المعود إليه يوم القيامة » هكذا في ( ابن أبي الحديد ) 3 و ( المصرية ) ،
و لكن في ( ابن ميثم و الخطيّة ) 4 : « و المعود إليه القيامة » .
و في كلام الصّديقة لأبي بكر في ذلك برواية أحمد بن أبي طاهر البغدادي في ( بلاغاته ) أأبتزّ ارث أبي ، أفي الكتاب أن ترث أباك ، و لا أرث أبي ؟
لقد جئت شيئا فريا ، فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم اللّه ، و الزعيم محمّد ، و الموعد القيامة و عند الساعة يخسر المبطلون ،
و لكلّ نبأ مستقر و سوف تعلمون 5 .
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 454 ، و شرح الخوئي 4 : 275 .
-----------
( 2 ) رواه الطبرسي في الاحتجاج 1 : 107 ، و النقل بتصرف في اللفظ .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 454 .
-----------
( 4 ) لفظ شرح ابن ميثم 3 : 292 ، ايضا نحو المصرية .
-----------
( 5 ) بلاغات النساء : 26 .
[ 214 ]
« و دع عنك نهبا صيح في حجراته » إقتصر في ( المصرية ) من هذا البيت ،
و هو بيت امرئ القيس على صدره هذا ، و فيها سقط ، فالنهج كان مشتملا على عجزه و هو . « و لكن حديثا مّا حديث الرواحل » 1 لاشتمال ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 عليه و اما قول ابن أبي الحديد : روي ان أمير المؤمنين عليه السلام لم يستشهد إلاّ بصدره فقط و اتمه الرواة 3 ، فلم يدلّ إلاّ على أنّ النهج و ان كان مشتملا عليه إلاّ أنّ أصل كلامه عليه السلام كان خاليا منه ،
و إنّما زاده الرواة فأخذ منهم المصنّف ، و قد عرفت أنّ روايه الصدوق كانت خالية منه ، و رواية المفيد كانت خالية من أصله 4 .
قال ابن أبي الحديد : و كان من قصّة هذا الشعر أنّ امرأ القيس لمّا تنقّل في أحياء العرب بعد قتل أبيه نزل على رجل من جديلة طي يقال له : طريف بن مل فأجاره و أكرمه و أحسن إليه ، فمدحه و أقام عنده ، ثم انه لم يوله نصيبا في الجبلين أجأ و سلمى فخاف أن لا يكون له منعة ، فتحوّل و نزل على خالد بن سدوس بن أسمع النبهاني فاغارت بنو جديلة على امرئ القيس و هو في جوار خالد بن سدوس فذهبوا بإبله . و كان الّذي أغار عليه منهم باعث بن حويص ، فلما أتى امرأ القيس الخبر ذلك ذلك لجاره فقال له : أعطني رواحلك ألحق عليهم القوم فأردّ عليك إبلك ، ففعل فركب خالد في أثر القوم حتى أدركهم فقال : يا بني جديلة أغرتم على إبل جاري . فقالوا : ما هو لك بجار . قال : بلى ، و هذه رواحله . قالوا : كذلك ؟ قال : نعم . فرجعوا إليه فانزلوه عنهن و ذهبوا بهن و بالابل و قيل بل انطوى خالد على الابل فذهب بها فقال
-----------
( 1 ) في ديوان امرئ القيس : 93 ، « دع عنك . . . » بلا واو .
-----------
( 2 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 454 ، و شرح ابن ميثم 3 : 294 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 455 .
-----------
( 4 ) كذا في العلل 1 : 146 ، و الامالي : 495 ، و الارشاد : 156 .
[ 215 ]
امرؤ القيس دع عنك نهبا . . . البيت 1 .
قلت : و الذي رواه أبو الفرج في ( الاغاني ) هكذا : نزل امرؤ القيس في أرض طيء برجل من بني جديلة يقال له المعلّى بن تيم فقال فيه :
كأنّى إذ نزلت على المعلّى
نزلت على البواذخ من شمام
فما ملك العراق على المعلّى
بمقتدر و لا ملك الشآم
فلبث عنده ، و اتخذ إبلا هناك فعدا قوم من بني جديلة يقال لهم بنو زيد فطردوا الابل و كانت لامرئ القيس رواحل مقيّدة عند البيوت خوفا من ان يدهمه امر ليسبق عليهن ، فخرج حينئذ فنزل ببني نبهان من طيء فخرج نفر منهم فركبوا الرواحل ليطلبوا له الإبل فأخذتهن جديلة فرجعوا إليه بلا شيء ،
فقال :
و أعجبني مشي الحزقة خالد
كمشي اتان حلّئت بالمناهل
فدع عنك نهبا صيح في حجراته
و لكن حديثا ما حديث الرواحل
ففرّقت عليه بنو نبهان فرقا من معزى يحلبها الخبر 2 .
و رواه ابن الأثير في ( كامله ) هكذا : « نزل ( امرؤ القيس ) على المعلّى بن تيم الطائي فأقام عنده و اتّخذ إبلا هناك . فعدا قوم من جديلة يقال لهم بنو زيد عليها فأخذوها فأعطاه بنو نبهان معزى يحلبها فقال :
إذا ما لم يكن إبل فمعزى
كانّ قرون جلّتها العصيّ 3
و في ( اشتقاق ابن دريد ) : أنّ من رجال طيء في الجاهلية باعث بن
حويص ، و هو الذي أغار على ابل امرئ القيس فقال :
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 455 .
-----------
( 2 ) الاغاني 9 : 94 ، و النقل بتلخيص .
-----------
( 3 ) كامل ابن الاثير 1 : 518 .
[ 216 ]
تلاعب باعث بذمة خالد
و اودى دثار في الخطوب الاوائل
و دثار راعي امرئ القيس 1 .
و أمّا لغة البيت : فحجرات بالفتح جمع حجرة مثل جمرة و جمرات و معنى حجراته نواحيه ، و أما تركيبه فقال ابن أبي الحديد : ما في « حديثا ما » يحتمل أن تكون ابهامية ، و هي التي إذا اقترنت باسم نكرة زادته إبهاما و شياعا كقولك أعطني كتابا ما . تريد أيّ كتاب كان ، و يحتمل أن تكون صلة مؤكدة كالّتي في قوله تعالى فبما نقضهم ميثاقهم 2 إلى أن قال و جاز أن يجعل « ما » موصولة بمعنى الذي ، وصلتها الجملة ، أي : الذى هو حديث الرواحل ، ثم حذف صدر الجملة كما حذف في : ( تماما على الذي أحسن ) و يجوز أن يجعل ما استفهامية بمعنى أيّ 3 .
و تبعه الخوئي 4 و قد أخذه ابن أبي الحديد من الزمخشري في قوله تعالى : مثلا مّا 5 و التحقيق أنّ ما هذه إبهامية لكنّها لا تزيد النكرة إبهاما ،
بل تقلّل إبهامها حتّى تقرّبها الى المعرفة ، لأنّها في المعنى الوصف لها ،
و الوصف إمّا حقير كما في قوله تعالى انّ اللّه لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها 6 و إمّا عظيم كما في المثل : « لأمر مّا جدع قصير أنفه » 7 و كما هنا ، و أمّا الصلة المؤكدة مثل ما في ما قال ، فلا وجه له ، لأنّ شرطه أن يستغني المعنى عنه . فيصح أن يقال في : فبما نقضهم ميثاقهم 8
-----------
( 1 ) الاشتقاق : 384 .
-----------
( 2 ) النساء : 155 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 456 ، و شرح الخوئي 4 : 274 .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 456 ، و شرح الخوئي 4 : 274 .
-----------
( 5 ) الكشاف للزمخشري 1 : 114 .
-----------
( 6 ) البقرة : 26 .
-----------
( 7 ) اورده الميداني في مجمع الامثال 2 : 196 ، و الزمخشري في المستقصى 2 : 240 .
-----------
( 8 ) النساء : 155 .
[ 217 ]
« فبنقضهم ميثاقهم » و هنا لا يستغني عن ما لأنّه يفوت بفوتها الوصف المحتاج إليه ، و أما الموصولة فلا يصحّ من حيث أنّه معرفة فكيف يكون وصفا للنكرة لأنّه في تقدير « حديثا الذي » و أمّا الاستفهامية فإنّما تصح لو كان قال أوّلا « حديث الرواحل » ثم يقول « ما حديث الرواحل » كقوله تعالى :
الحاقّة ما الحاقّة 1 ثم جميع ما أوردناه على ابن أبي الحديد يرد على الزمخشري الذي هو الأصل لكلامه .
و قال ابن أبي الحديد أيضا : في « و لكن حديثا انتصب حديثا » بإضمار فعل . أي : هات حديثا أو حدّثني حديثا و يروى « و لكن حديث » أي : و لكن مرادي أو غرضي حديث فحذف المبتدأ 2 .
و تبعه الخوئي 3 أيضا . قلت : مع النصب يجوز أن يكون اسم لكن فقد جوّز يونس و الأخفش عمل لكن مخفّفا . فلا يحتاج الى تقدير فعل ، و مع الرفع يجوز أن يكون مبتدأ و سوّغ الابتداء به الوصف المقدر الذي يفهم من ( ما ) كما عرفت و « حديث الرواحل » خبره أو بالعكس و لا يحتاج الى تقدير أيضا .
و قال ابن أبي الحديد أيضا بجواز نصب « حديث الرواحل » بكونه بدلا من « حديثا ما » 4 و هو كما ترى فإنه يخرج الكلام عن كونه تاما مع أنّ ظاهر السياق كون الإسناد بين الحديثين ، و يحوجه الى تقدير مخالف للأصل .
و الرواحل : جمع الراحلة ، و الراحلة الإبل المختصة بالركوب ، و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « الناس كابل ماة لا تجد فيها راحلة » 5 .
-----------
( 1 ) الحاقة : 1 2 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 456 ، و شرح الخوئي 4 : 274 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 456 ، و شرح الخوئي 4 : 274 .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 456 .
-----------
( 5 ) أخرجه بهذا اللفظ القاضي القضاعي في الشهاب : 66 ح 155 و باختلاف يسير في اللفظ ، مسلم في صحيحه 4 :
1973 ح 232 ، و غيره .
[ 218 ]
« و هلّم » أي : تعال . قال الجوهري : قال الخليل : أصله لمّ من قولهم « لمّ اللّه شعثه » أي : جمعه كانّه أراد لمّ نفسك إلينا أي : أقرب ، و ها للتنبيه و انّما حذفت ألفها لكثرة الاستعمال جعلا اسما واحدا يستوي فيه و الواحد و الجمع و التأنيث في لغة أهل الحجاز قال تعالى : و القائلين لإخوانهم هلمّ الينا 1 .
« الخطب » قالوا : الخطب سبب الأمر .
« في ابن أبي سفيان » في مقابلته مع كونه ممّن حارب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الى أن أسره الاسلام بفتح مكة .
و نظير كلامه عليه السلام كلام ابنه الحسن عليه السلام ففي ( مقاتل أبي الفرج ) : « كتب الحسن عليه السلام الى معاوية بعد ذكره عليه السلام محاجّة قريش العرب بأنّهم أقرب من العرب الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلمّا صرنا أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أولياؤه الى محاجّتهم وطلب النصف منهم باعدونا و استولوا بالاجتماع على ظلمنا و مراغمتنا و العنت منهم لنا فالموعد اللّه ، و هو الولي النصير ، و قد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا ، و سلطان نبيّنا ، و ان كانوا ذوي فضيلة و سابقة في الاسلام . فأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون و الأحزاب بذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده . فاليوم فليعجب المتعجب من توثّبك يا معاوية على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف و لا أثر في الاسلام محمود ، و أنت ابن حزب من الاحزاب ، و ابن أعدى قريش لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و لكنّ اللّه خيّبك 2 . و يقال لأمير المؤمنين عليه السلام أنّ الأمر و إن كان كما ذكرت من كون الخطب في ابن أبي سفيان ، إلاّ انّ تصدّي تيم وعدي و تدبير الثاني لابن أبي
-----------
( 1 ) صحاح اللغة 5 : 2060 ، مادة ( هلم ) ، و الآية 18 من سورة الأحزاب .
-----------
( 2 ) مقاتل الطالبيين : 35 .
[ 219 ]
العاص هو الذي أطمع ابن أبي سفيان في الأمر . كما قال الفرزدق في ولاية ابن هبيرة :
و لقد علمت لئن فزارة امّرت
أن سوف تطمع في الإمارة أشجع
من خلق ربك ما هم و لمثلهم
في مثل ما نالت فزارة يطمع
و كما قال دعبل في تولّي ابراهيم بن المهدي المغنّي للخلافة .
فلئن صلحت لإبراهيم
فلتصلحن من بعده لمخارق
و قد كتب معاوية الى الحسن عليه السلام جواب كتابه بأنّ مثلي مثل أبي بكر في تقدّمه عليكم بقوّته على هذا الأمر 1 .
و قال ابن أبي الحديد في موضع آخر بعد نقل مكاتبات بينه عليه السلام و بين معاوية : « أعجب و أطرف ما جاء به الدهر ، و إن كانت عجائبه و بدائعه جمّة ، أن يفضي أمر علي عليه السلام إلى أن يصير معاوية ندّا له و نظيرا مماثلا يتعارضان الكتاب و الجواب إلى أن قال فليت محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان شاهد ذلك ليرى عيانا لا خبرا أنّ الدعوة التي قام بها و قاسى أعظم المشاقّ في تحمّلها ، و كابد الأهوال في الذبّ عنها ، و ضرب السيوف عليها لتأييد دولتها ، و شيّد أركانها ،
و ملأ الآفاق به خلصت صفوا عفوا لأعدائه الذين كذّبوه لمّا دعا إليها ،
و أخرجوه عن أوطانه لمّا حضّ عليها رموا وجهه ، و قتلوا عمّه و أهله ، فكأنّه كان يسعى لهم ، و يدأب لراحتهم . كما قال ابو سفيان في أيام عثمان و قد مرّ بقبر حمزة و ضربه برجله و قال : يا أبا عمارة إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس ، في يد غلماننا اليوم يتلعبون به الخ 2 .
قلت : الأمر كما ذكر ابن أبي الحديد لكن أيّ تعيير لمعاوية :
-----------
( 1 ) مقاتل الطالبيين : 37 ، و النقل بالمعنى .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 4 : 51 : شرح الكتاب 32 .
[ 220 ]
بأبه اقتدى عدى في الكرم
و من يشابه أبه فما ظلم
إقتدى معاوية بصدّيقهم و فاروقهم كما صرّح به معاوية نفسه في جواب كتابه الى محمد بن أبي بكر و أفصح فيه عن الحقيقة إذ قال فيه مخاطبا محمّد بن أبي بكر : « ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، و قديم سوابقه ، و قرابته الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و مواساته إيّاه في كل هول و خوف إلى أن قال .
و قد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب ، و حقّه لازما لنا ،
مبرورا علينا ، فلمّا اختار اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما عنده ، و أتمّ له ما وعده ، و أظهر دعوته و أبلج حجّته و قبضه اللّه إليه . فكان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزّه حقّه و خالفه على أمره ، على ذلك اتفقا و اتّسقا ، ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما ، و تلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، و أرادا به العظيم ، ثم إنه بايع لهما و سلّم لهما ، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ، و لا يطلعانه على سرّهما ، حتى قبضهما اللّه إلى أن قال في قيامه بالامر في قباله عليه السلام .
أبوك مهّد مهاده ، و بنى لملكه و ساده ، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك استبدّ به و نحن شركاؤه ، و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، و لسلّمنا إليه ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله ، فعب أباك بما بدا لك أو دع ذلك .
و كتاب معاوية في جواب محمّد بن ابى بكر هو الكتاب الذي اعتذر الطبري في ( تاريخه ) عن نقله بانه كتاب لا تحتمله العامة و نقله المسعودي و غيره 1 و يقال للطبري : ان هذا الكتاب لا يحتمله إلاّ من انسلخ عن الانسانيّة .
ثم هل زمان ذي نوريهم الذي قال فيه أبو سفيان ما قال كان أحسن من
-----------
( 1 ) رواه المسعودي في مروج الذهب 3 : 12 ، و ابن مزاحم في وقعة صفين : 119 ، و البلاذري في انساب الاشراف 2 :
396 ، و أشار إليه الطبري في تاريخه 3 : 557 ، سنة 36 .
[ 221 ]
زمان معاوية بل يزيد أيضا ، فكيف يقبل عثمان بالإمامة و لا يقبل معاوية ؟
فهل السلطان في زمان عثمان إلاّ مروان و أبو سفيان و غلمان بني اميّة ؟ و لم يصلّ عامل من عمّال معاوية ، و يزيد صلاة الفجر بالناس في حال السكر أربعا مع إنشاد أبيات في العربدة فيها .
و من العجب أن عامّة العامة قتلوا النسائي أحد أئمة حديثهم ، و صاحب أحد صحاحهم الستة لأنه أنكر فضل معاوية قال ابن خلكان : سئل النسائي عن معاوية و فضائله فقال : ما أعرف له فضيلة إلاّ قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه : « لا أشبع اللّه بطنك » فما زالوا يدفعون في حضنيه و داسوه ثم حمل الى الرملة فمات بها 1 .
و مما يضحك الثكلى ، و يبدّل البكاء بالضحك عجبا انّ المتسمّين بالعلم منهم جعلوا من لم يكن فساد في الأرض الاّ عمل به حتّى كفّره من نصبه ،
و استباحوا دمه ، و حرّموا تجهيزه ، أفضل ممّن قال رسول ربّ العالمين في حقه : « لو لا أن تقول الناس فيك بالالوهية لقلت فيك ما إن لا تمرّ في طريق إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك » ؟ 2 .
فهل للجزاف حدّ ؟ و هل يتفوّه أحد بأفضلية الظلمات من النور ، و في تاريخ بغداد قال ابو عبيد القاسم بن سلام : فعلت بالبصرة فعلتين أرجو بهما الجنّة ، أتيت يحيى القطّان و هو يقول أبو بكر و عمر و علي فقلت : معي شاهدان من أهل بدر يشهدان أن عثمان أفضل من علي . قال : بمن ؟ قلت : أنت حدّثتنا عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال : خطبنا عبد اللّه بن
-----------
( 1 ) وفيات الاعيان 1 : 77 ، و النقل بتلخيص .
-----------
( 2 ) اخرجه ابن أبي حاتم في علل الحديث 1 : 313 ، و الثقفي في المعرفة ، و عنه إعلام الورى : 186 ، و الصدوق في امالية : 86 ح 1 ، مجلس 21 ، و غيرهم عن جابر ، و روي عن علي عليه السلام و ابن رافع أيضا و النقل بالمعنى .
[ 222 ]
مسعود فقال : أميرنا خير من بقي و لم نال قال : و من الآخر ؟ قلت : « الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن المسوّر بن مخرمة قال : سمعت عبد الرحمن بن عوف يقول : شاورت المهاجرين الأوّلين و امراء الأجناد و أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم أر أحدا يعدل بعثمان » قال : فترك قوله و قال ابو بكر و عمر و عثمان 1 .
قبّح اللّه دينا هذا أساسه ، مع أنّ شاهديه من أهل بدر و ما رواه عنهما رواية لم تعلم صحتها ، و الذي نعلم بالدراية أنّ ذينك الشاهدين هجراه و فجّراه و كفّراه . و قوله في خبره الثاني : « شاورت المهاجرين و أمراء الأجناد » فلا بد أنّه أراد بالمهاجرين الأوّلين مثل المغيرة بن شعبة جعله فاروقهم من المهاجرين الأوّلين لمّا أراد منع زياد عن أداء شهادته في زناه حتى يبطل حدّ اللّه فيه ، كما أنّه لا بدّ من أراده معاوية بن أبي سفيان بأمراء الأجناد .
و من الغريب أنّ إمامهم الثالث و ذا نوريهم يقول لأمير المؤمنين عليه السلام في خبر إخراجه لأبي ذر من المدينة الى الربذة و مشايعته عليه السلام لأبي ذر مع حظر عثمان عن مشايعته ، و إرادة مروان منعه عليه السلام عن ذلك و شتمه له عليه السلام « لم لا يشتمك كانّك خير منه » 2 فأنكر أن يكون من كان بمنزلة نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم خيرا من ذاك اللعين ابن اللعين على لسان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
و نقل ابن قتيبة في ( مختلف ) أخباره في جملة ما ذكره متكلّموهم في محدّثيهم أنّهم يقدحون في الشيخ يسوّي بين علي و عثمان أو يقدّم عليّا عليه السلام عليه 3 .
-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 12 : 409 .
-----------
( 2 ) رواه الجوهري في السقيفة : 78 ، و المسعودي في مروج الذهب 2 : 342 .
-----------
( 3 ) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : 10 .
[ 223 ]
هذا ، و نظير كلامه عليه السلام في الأدب أنه لمّا ولّي خالد بن عبد اللّه القسرى بعد ابن هبيرة الفزاري الذي قال فيه الفرزدق مخاطبا يزيد بن عبد الملك الذي ولاّه :
أولّيت العراق و رافديه
فزاريا أحذّ يد القميص
قال شاعر أسدي :
عجب الفرزدق من فزارة أن رأى
عنها أمية بالمشارق تنزع
فلقد رأى عجبا و أحدث بعده
أمر تضجّ له القلوب و تفزع
بكت المنابر من فزارة شجوها
فاليوم من قسر تذوب و تجزع
و ملوك خندف أسلمونا للعدى
للّه درّ ملوكنا ما تصنع
كانوا كتاركة بنيها جانبا
سفها و غيرهم تصون و ترضع
« فلقد اضحكني الدهر » في قيام ابن أبي سفيان في قبالي .
« بعد ابكائه » بقيام الاولين .
و مما يبدّل البكاء بالضحك عجبا في أمر معاوية أنّ بعض النصّاب حرّف قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه : « إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » من القتل بقوله : « فاقبلوه » من القبول أو لم ير أن الحسن البصري الذي رواه قال بعد الخبر : « فما فعلوا و لا أفلحوا » ، و روى أيضا بلفظ « اذا رأيتم معاوية على منبرى فاضربوا عنقه » 1 .
و كيف و روى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : « انّ معاوية في تابوت في الدرك الاسفل من النار و لو لا كلمة فرعون « انا ربكم الأعلى » ما كان أحد أسفل من معاوية » 2 .
-----------
( 1 ) اخرجه عن طريق الحسن ، ابن مزاحم في وقعة صفين : 216 و 221 ، و جماعة اخرى ، و روى عن ابن مسعود و ابي سعيد و حذيفة و ابن جذعان أيضا .
-----------
( 2 ) وقعة صفين : 217 ، و الحديث موقوف عن ابن عمر و لم يرفعه الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
[ 224 ]
و روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيضا قال : « شر خلق اللّه خمسة : إبليس ، و ابن آدم الذي قتل أخاه ، و فرعون ذو الأوتاد ، و رجل من بني اسرائيل ردّهم عن دينهم ، و رجل من هذه الامّة يبايع على كفره عند باب لدّ » 1 ، و روى أنّ رجلا شاميا سمع ذلك من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلمّا رأى معاوية بويع عند باب لدّ ، ذكر قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلحق بعليّ عليه السلام 2 .
« و لا غرو » أي : لا عجب .
« فيا له خطبا » في ( المصباح ) : الخطب : الأمر الشديد ينزل 3 .
« يستفرغ العجب » قال ابن أبي الحديد : أي : يستنفذه و يفنيه . يقول : قد صار العجب لا عجب لأنّ هذا الخطب استغرق التعجب فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب ، و هذا من باب الاغراق و المبالغة في المبالغة إلى أن قال قال ابن هاني المغربي :
قد سرت في الميدان يوم طرادهم
فعجبت حتى كدت أن لا أعجبا 4
قلت : لم يعلم استعمال الاستفراغ بمعنى الافراغ ، و ما قاله ركيك ، و انما معنى « يستفرغ العجب » لا يدّخر منه شيئا من قولهم « فرس مستفرغ » لا يدّخر من عدوه قال الشاعر
« مستفرغ كاهله اشمّ »
5 .
روى ابن عبد ربه في ( عقده ) عن الشعبي قال : دخلت بكارة الهلاليه على معاوية بالمدينة و كانت قد اسنّت و عشي بصرها ، و ضعفت قوّتها . فقال لها معاوية : قد غيّرك الدهر قالت : كذلك هو ذو غير ، من عاش كبر ، و من مات قبر فقال عمرو بن العاص : هي و اللّه القائلة :
-----------
( 1 ) وقعة صفين : 217 .
-----------
( 2 ) وقعة صفين : 217 .
-----------
( 3 ) المصباح المنير 1 : 210 ، مادة خطب .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 456 .
-----------
( 5 ) اورده في اساس البلاغة : 340 ، مادة فرغ .
[ 225 ]
يا زيد دونك فاحتفر من درانا
سيفا حساما في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة
فاليوم أبرزه الزمان مصونا
فقال مروان و هي القائلة :
أ ترى ابن هند للخلافة مالكا
هيهات ذاك و ان أراد بعيد
منّتك نفسك في الخلاء ضلالة
أغراك عمرو للشقا و سعيد
فقال سعيد بن العاص هي القائلة :
قد كنت أطمع أن اموت و لا أرى
فوق المنابر من أميّة خاطبا
فاللّه أخّر مدّتي فتطاولت
حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم للزمان خطيبهم
بين الجميع لآل أحمد عائبا 1
و في السير : لمّا دخل المعتضد برأس صاحب الزنج بغداد دخل في جيش لم ير مثله ، و اشنق أسواق بغداد ، و الرأس بين يديه . فلما صار بباب الطريق صاح قوم من درب من تلك الدروب « رحم اللّه معاوية » و زاد حتى علت اصوات العامّة بذلك ، فتغير وجه المعتضد ، و قال للعلاء بن صاعد : ألا تسمع ؟
ما اعجب هذا و ما الّذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت ؟ و اللّه لقد بلغ أبي الى الموت ، و ما أفلتّ أنا إلاّ بعد مشارفته ، و لقينا كلّ جهد و بلاء حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوّهم و حصّنا حرمهم و أولادهم ، فتركوا أن يترحّموا على العباس ، و عبد اللّه بن العباس ، و من ولد من الخلفاء ، و تركوا الترحم على علي بن ابي طالب ، و حمزة و جعفر و الحسن و الحسين ، و اللّه لا برحت أو أؤثّر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعودون بعد هذا اليوم لفعل مثله .
ثم أمر بجمع النفّاطين ليحرق الناحية فقيل له : أيّها الأمير إنّ هذا اليوم من أشرف أيّام الإسلام فلا تفسده بجهل عامة لاخلاق لهم
-----------
( 1 ) العقد الفريد 1 : 293 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 226 ]
و لم يزل يدارونه حتى سار 1 .
و قال الطبري : تقدّم ( المعتضد ) الى الشرّاب و الذين يسقون الماء في الجامعين ان لا يترحّموا على معاوية ، و لا يذكروه بخير الى آخر ما ذكر 2 .
فهل عجب فوق هذا ؟ هل كان السقاة و الشرّاب يترحمون عليه لأنّ جروه قتل سيد شباب أهل الجنة عطشانا ؟
« و يكثر » من الاكثار .
« الاود » أي : الاعوجاج .
« حاول القوم » أي : أرادوا .
« اطفاء نور اللّه من مصباحه » أي : سراجه .
روى ( قرب اسناد الحميري ) عن البزنطي قال : قال لي الرضا عليه السلام : إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور اللّه حين قبض اللّه تعالى رسوله ، و أبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره ، و قد جهد علي بن أبي حمزة على إطفاء نور اللّه حين مضى ابو الحسن عليه السلام فأبى اللّه إلاّ أن يتم نوره ، و قد هداكم اللّه لأمر جهله الناس الخبر 3 .
و روى ( أمالي ) محمّد بن محمّد بن النعمان عن أبي الحسن علي بن محمّد البصري ، عن أبي بشر أحمد بن ابراهيم ، عن زكريا بن يحيى الساجي ،
عن عبد الجبار ، عن سفيان ، عن الوليد بن كثير ، عن ابن الصياد ، عن سعيد بن المسيّب قال : لمّا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ارتجّت مكة بنعيه ، فقال أبو قحافة : ما هذا ؟ قالوا : قبض رسول اللّه ، قال : فمن ولي الناس بعده ؟ قالوا : إبنك . قال : فهل
-----------
( 1 ) رواه الآبي في نثر الدرّ عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 340 ، شرح الخطبة 126 .
-----------
( 2 ) رواه الطبري في تاريخه 8 : 182 ، سنة 284 .
-----------
( 3 ) قرب الاسناد : 151 .
[ 227 ]
رضيت بنو عبد شمس و بنو المغيرة ؟ قالوا : نعم . قال : لا مانع لما أعطى اللّه ، و لا معطي لما منع اللّه . ما أعجب هذا الأمر تنازعون النبوة ، و تسلّمون الخلافة إنّ هذا لشيء يراد 1 .
و في ( مروج المسعودي ) عن ( موفقيات الزبير بن بكار ) الذي صنّفه للموفق عن المدائني قال : قال مطرف بن المغيرة بن شعبة : وفدت مع أبي الى معاوية فكان أبي يأتيه يتحدّث عنده ثم ينصرف إليّ فيذكر معاوية و يذكر عقله و يعجب مما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، فرأيته مغتما فانتظرته ساعة و ظننت أنّه لشيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له : ما لي أراك مغتما منذ الليلة ؟ قال : يا بني جئت من عند أخبث الناس . قلت له : و ما ذاك ؟ قال :
قلت له و قد خلوت به إنّك قد بلغت منّا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فإنك قد كبرت ، و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم . فو اللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه فقال لي : هيهات هيهات ملك أخو تيم فعدل و فعل ما فعل فو اللّه ما عدا أن هلك ، فهلك ذكره إلاّ ان يقول قائل أبو بكر ، ثم ملك أخو عديّ فاجتهد و شمّر عشر سنين . فو اللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل و عمل به . فو اللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره و ذكر ما فعل به . و إنّ أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرّات : أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه . فأيّ عمل يبقى مع هذا لا امّ لك ؟ و اللّه إلاّ دفنا دفنا 2 .
و صرح في كتابه الى محمد بن ابي بكر أنّ المؤسس له ذلك ، الصدّيق و فاروقه ، و لم يكن المقام مقام افتراء ، و إلاّ لكذّبه محمّد بن أبي بكر ، مع أنّه
-----------
( 1 ) امالي المفيد : 90 ح 7 ، المجلس 10 .
-----------
( 2 ) مروج الذهب 3 : 454 .
[ 228 ]
يشهد له الاعتبار الذي كالعيان .
« و سد فواره » مصدر فار الماء ، نبع و جرى .
« من ينبوعه » و الينبوع : عين الماء . قال تعالى : حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا 1 .
روى أخطب خوارزم في ( مناقبه ) : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لعلي عليه السلام : اتّق الضغائن التي لك في صدور من لا يظهرها إلاّ بعد موتي ، اولئك يلعنهم اللّه و يلعنهم اللاعنون ثم بكى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقيل له ممّ بكاؤك قال : أخبرني جبرئيل أنّهم يظلمونه ، و يمنعونه حقّه ، و يقاتلونه ، و يقاتلون ولده و يظلمونهم بعده الخبر 2 .
و في ( عيون ابن قتيبة ) بعد ذكر جعل معاوية جعالة لمن قتل العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم قال علي عليه السلام : ( و اللّه لودّ معاوية أنّه ما بقي من هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه إطفاء لنور اللّه ،
و يأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره و لو كره الكافرون ) 3 .
« و جدحوا بيني و بينهم شربا و بيئا » في ( النهاية ) : الجدح أن يحرّك السويق بالماء ، و يخوض حتى يستوي ، و كذلك اللبن و نحوه ، و المجدح : عود مجنّح الرأس تساط به الأشربة ، و ربما يكون له ثلاث شعب . و منه حديث علي عليه السلام « جدحوا بيني ، و بينهم شربا و بيئا » 4 .
و في ( المصباح ) : « الوباء بالهمز ، مرض عام يمدّ و يقصر ، و يجمع الممدود على أوبئة مثل متاع و أمتعة ، و المقصور على أوباء مثل سبب
-----------
( 1 ) الاسراء : 90 .
-----------
( 2 ) يوجد بلفظ قريب منه في مناقب الخوارزمي : 26 .
-----------
( 3 ) عيون الاخبار 1 : 180 .
-----------
( 4 ) النهاية 1 : 242 ، مادة جدع .
[ 229 ]
و أسباب » 1 ، و عن أبي عبيدة « الشرب بالفتح مصدر ، و بالخفض و الرفع اسمان من شربت » 2 .
روى ابن بابويه عن النضر بن مالك قال : قلت للحسين عليه السلام حدّثني عن قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم 3 قال : نحن و بنو اميّة اختصمنا في اللّه تعالى قلنا : صدق اللّه ، و قالوا : كذب اللّه ، فنحن و إيّاهم الخصمان يوم القيامة 4 .
و روى الشيخ عن قيس بن سعد بن عبادة ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال :
أنا أوّل من يجثو بين يدي اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة للخصومة 5 .
« فان ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى » حسب سنّة اللّه تعالى في امتحان عباده .
روى محمّد بن بابويه في خصاله عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن محمّد بن الحنفية قال : أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان و هو جالس في مسجد الكوفة فقال له : إنّي أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبي أو وصي نبي . قال : سل عمّا بدا لك يا أخا اليهود .
قال : انّا نجد في الكتاب انّ اللّه عزّ و جلّ إذا بعث نبيّا أوحى إليه أن يتّخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمّته بعده و أن يعهد إليهم فيه عهدا يحتذى عليه ، و أنّ اللّه عزّ و جلّ يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء و بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن اللّه
-----------
( 1 ) المصباح المنير 2 : 362 ، مادة وبا .
-----------
( 2 ) رواه عنه ابن منظور في لسان العرب 1 : 487 ، مادة شرب .
-----------
( 3 ) الحج : 19 .
-----------
( 4 ) اخرجه الصدوق في الخصال 1 : 42 ح 25 ، باب الاثنين .
-----------
( 5 ) رواه ابو علي الطوسي في اماليه 1 : 83 ، جزء 3 ، و البخاري في صحيحة 3 : 5 و 161 ، و الحاكم في المستدرك 2 :
386 ، و غيرهم .
[ 230 ]
الأوصياء في حياة الأنبياء ، و كم يمتحنهم بعدهم ، و إلى ما يصير آخر أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم ؟ فقال عليه السلام : لئن اجبتك لتسلمنّ . قال : نعم .
فقال عليه السلام له : إنّ اللّه يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم و محنتهم أمر الأنبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم و أوصياء بعد وفاتهم ، و يصيّروا طاعة الأوصياء في أعناق الامم ممن يقول بطاعة الأنبياء ، ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء و قد أكمل لهم السعادة . قال : صدقت .
فأخبرني كم امتحنك اللّه في حياة محمّد ، و كم امتحنك بعد وفاته ، و إلى ما يصير آخر أمرك ؟
قال : فأخذ علي عليه السلام بيده و قال : إنهض بنا انبّئك بذلك . فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : أنبئنا بذلك معه . فقال : إنّي أخاف أن لا تحتمله قلوبكم .
قالوا : و لم ؟ قال : لامور بدت لي من كثير منكم . فقام إليه الأشتر فقال : أنبئنا بذلك ، فو اللّه إنّا لنعلم ما على ظهر الأرض وصيّ نبيّ سواك ، و إنّا لنعلم أنّ اللّه لا يبعث بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم نبيّا سواه ، و أنّ طاعتك في أعناقنا موصولة بطاعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم فجلس علي عليه السلام و أقبل على اليهودي فقال :
يا أخا اليهود إنّ اللّه عزّ و جلّ امتحنني في حياة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة اللّه له مطيعا . أمّا أوّلهن :
فإنّ اللّه تعالى أوحى الى نبيّنا و أنا أحدث أهل بيتي سنّا أخدمه بين يديه و أسعى في قضاء أمره ، فدعا صغير بني عبد المطلب و كبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه فامتنعوا من ذلك ، و هجروه ، و نابذوه ، و اعتزلوه ، و سائر الناس مقصين له ، و مخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم ممّا لم تحتمله
[ 231 ]
قلوبهم ، و لم تدركه عقولهم فأجبت نبيّنا وحدي الى ما دعا إليه مسرعا مطيعا لم يتخالجني في ذلك شك . فمكثنا بذلك ثلاث حجج و ما على وجه الأرض خلق يصلّي أو يشهد للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بما أتاه غيره و غير ابنة خويلد رحمها اللّه ، و قد فعل ، ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أما الثانية : فإنّ قريشا لم تزل تجيل الآراء و تعمل الحيل في قتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك ، يوم دار الندوة ، و إبليس حاضر في صورة أعور ثقيف . فلم تزل تضرب أمرها ظهرا لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كلّ فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه . ثم يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو نائم على فراشه ، فيضربونه بأسيافهم جميعا ضربة واحد فيقتلوه ، و إذا قتلوه منعت قريش رجالها ، و لم تسلمها ،
فيمضي دمه هدرا . فهبط جبرئيل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأنبأه بذلك ، و أخبره بالليلة الّتي يجتمعون فيها ، و الساعة التي يأتون فراشه فيها ، و أمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه الى الغار . فأخبرني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و أمرني أن أضطجع في مضجعه ، و أقيه بنفسي ، فأسرعت الى ذلك مطيعا له ، مسرورا بأن أقتل دونه . فمضى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لوجهه ، و اضطجعت في مضجعه ،
و أقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فلمّا استوى بي و بهم البيت الذي أنا فيه ، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي ما قد علمه اللّه و علمه الناس . ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أمّا الثالثة يا أخا اليهود : فإنّ ابني ربيعة و ابن عتبة و كانوا فرسان قريش دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق ، فأنهضني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع صاحبيّ رضي اللّه عنهما ، و قد فعل و أنا أحدث أصحابي سنّا ،
و أقلّهم للحرب تجربة ، فقتل اللّه بيدي وليدا و شيبة ، سوى من قتلت من
[ 232 ]
جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، و سوى من أسرت ، و كان منّي أكثر ممّا كان من أصحابي ، و استشهد ابن عمي رحمة اللّه عليه في ذلك اليوم . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أما الرابعة يا أخا اليهود : فان أهل مكّة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم ، قد استجلبوا من يليهم من قبائل العرب و قريش ، طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأنبأه بذلك ، فذهب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عسكر بأصحابه في سدّ أحد ، و أقبل المشركون إلينا فحملوا حملة رجل واحد ، و استشهد من المسلمين من استشهد ، و كان من بقي من المنهزمة ، و بقيت مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و مضى المهاجرون و الأنصار الى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي ، و قتل أصحابه . ثم ضرب اللّه تعالى وجوه المشركين ، و قد جرحت بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نيّفا و سبعين جراحة منها هذه و هذه ، ثم ألقى عليه السلام رداءه و أمرّ يده على جراحاته ، و كان منّي في ذلك ما على اللّه عزّ و جلّ ثوابه إن شاء . ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا :
بلى .
فقال عليه السلام : و أمّا الخامسة يا أخا اليهود : فإنّ قريشا و العرب تجمّعت و عقدت بينها عقدا و ميثاقا لا ترجع من وجهها حتّى تقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و تقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدّها و حديدها حتّى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها في ما توجّهت له . فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأنبأه بذلك . فخندق على نفسه و من معه . فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوّة و فينا الضعف ، ترعد و تبرق ،
و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يدعوها الى اللّه عزّ و جلّ و يناشدها بالقرابة و الرحم فتأبى ، و لا يزيدها ذلك إلاّ عتوّا ، و فارسها و فارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود يهدر
[ 233 ]
كالبعير المغتلم . يدعو الى البراز و يرتجز ، و يخطر برمحه مرّة ، و بسيفه مرّة لا يقدم عليه مقدم ، و لا يطمع فيه طامع . فأنهضني إليه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عمّمني بيده ، و أعطاني سيفه هذا و ضرب بيده الى ذي الفقار فخرجت إليه و نساء أهل المدينة تأنين إشفاقا علي من ابن عبد ود فقتله اللّه بيدي ، و العرب لا تعدّ لها فارسا غيره ، و ضربني هذه الضربة و أومأ بيده الى هامته فهزم اللّه قريشا و العرب بذلك و بما كان منّي فيهم من النكاية . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال :
أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال : و أما السادسة يا أخا اليهود : فإنّا وردنا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود و فرسانها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل و الرجال و السلاح ، كلّ ينادي و يبادر الى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلاّ قتلوه ، حتّى إذا احمرّت الحدق ، و دعيت الى النزال ، و أهمّت كلّ امرئ نفسه ، و التفت بعض أصحابي الى بعض ، و كلّ يقول : يا أبا الحسن انهض ، فأنهضني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الى دارهم ، فلم يبرز اليّ أحد منهم إلاّ قتلته ، و لا يثبت لي فارس إلاّ طحنته ، ثم شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتّى أدخلتهم جوف مدينتهم مسددا عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتّى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، و أسبي من أجد من نسائها ، حتّى افتتحتها وحدي ، و لم يكن لي فيها معاون إلاّ اللّه وحده . ثمّ التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أما السابعة يا أخا اليهود : فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لما توجّه لفتح مكّة أحبّ أن يعذر إليهم ، و يدعوهم الى اللّه عزّ و جلّ آخرا كما دعاهم أوّلا .
فكتب إليهم كتابا يحذّرهم فيه ، و ينذرهم عذاب اللّه ، و يعدهم الصفح ، و يمنّيهم مغفرة ربّهم ، و نسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم . ثم عرض على
[ 234 ]
جميع أصحابه المضيّ به . فكلّهم يرى التثاقل فيه ، فلمّا رأى ذلك ندب منهم رجلا فوجّهه به . فأتاه جبرئيل فقال : يا محمّد لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك فأنبأني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بذلك ، و وجّهني بكتابه و رسالته الى أهل مكّة ، فأتيت مكّة ، و أهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلاّ و لو قدر أن يضع على كلّ جبل منّى إربا لفعل ، و لو أن يبذل في ذلك نفسه و أهله و ولده و ماله . فبلّغتهم رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قرأت عليهم كتابه ، فكلّهم يلقاني بالتهديد و الوعيد ، و يبدي لي البغضاء ، و يظهر الشحناء من رجالهم و نسائهم ، فكان منّي في ذلك ما قد رأيتم . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيها ربي عزّ و جلّ مع نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فوجدني فيها كلّها بمنّه مطيعا ، ليس لأحد فيها مثل الذي لي ،
و لو شئت لو صفت ذلك ، و لكن اللّه عزّ و جلّ نهى عن التزكية فقالوا : صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين ، لقد أعطاك اللّه عزّ و جلّ الفضيلة بالقرابة من نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و أسعدك بأن جعلك أخاه تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ،
و فضّلك بالمواقف الّتي باشرتها ، و الأهوال التي ركبتها ، و ذخر لك الذي ذكرت و أكثر منه ممّا لم تذكره ، ممّا ليس لأحد من المسلمين مثله . يقول ذلك من شهدك منّا مع نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و من شهدك بعده . فأخبرنا بما امتحنك اللّه عزّ و جلّ بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم فاحتملته و صبرت ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علما منّا به ، إلاّ أنّا نحبّ أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك اللّه به في حياته فأطعته فيه .
فقال عليه السلام : يا أخا اليهود إنّ اللّه عزّ و جلّ امتحنني بعد وفاة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في سبعة مواطن فوجدني فيهنّ من غير تزكية لنفسي بمنّه و نعمته صبورا .
أما أوّلهنّ يا أخا اليهود : فإنّه لم يكن لي خاصّة دون المسلمين عامة أحد
[ 235 ]
آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه أو أتقرب به غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
ربانّي صغيرا و بوّأني كبيرا ، و كفاني العيلة و جبرني من اليتم ، و أغناني عن الطلب ، و وقاني المكسب ، و عال لي النفس و الولد و الأهل . هذا في تصاريف أمر الدّنيا مع ما خصّني به من الدرجات التي قادتني الى معالي الحقّ عند اللّه عزّ و جلّ فنزل بي من وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما لم أكن أظنّ الجبال لو حملت عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي بين جازع لا يملك جزعه ، و لا يضبط نفسه ، و لا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره و أذهل عقله ، و حال بينه و بين الفهم و الافهام ، و القول و الاستماع ، و سائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معزّ يأمر بالصبر و بين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم ، و حملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت ،
و الاشتغال بما أمرني به من تجهيزه ، و تغسيله و تحنيطه ، و الصلاة عليه و وضعه في حفرته ، و جمع كتاب اللّه و عهده الى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بارز دمعة ، و لا هائج زفرة ، و لا لاذع حرقة ، و لا جليل مصيبة ، حتى أدّيت في ذلك الحق الواجب للّه تعالى و لرسوله علي ، و بلغت منه الذي أمرني به ،
و احتملته صابرا محتسبا . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا :
بلى فقال عليه السلام .
و أما الثانية يا أخا اليهود : فإنّ رسول اللّه أمّرني في حياته على جميع أمّته ، و أخذ على جميع من حضره منهم البيعة ، و السمع و الطاعة لأمري ،
و أمرهم أن يبلّغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدّي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمره أنّي الأمير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمر في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و لا بعد وفاته ، ثمّ أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بتوجيه الجيش الذي وجّهه مع اسامة بن زيد عند الذي أحدث اللّه
[ 236 ]
به المرض الذي توفّاه فيه ، فلم يدع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أحدا من أفناء العرب ، و لا من الأوس و الخزرج و غيرهم من ساير الناس ممّن يخاف علي نقضه و منازعته ،
و لا أحدا ممّن يراني بعين البغضاء ممّن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ،
إلاّ وجّهه في ذلك الجيش ، لتصفوا قلوب من يبقى معي ، و لئلاّ يقول قائل شيئا ممّا أكرهه ، و لا يدفعني دافع من الولاية ، و القيام بأمر رعيّته من بعده ، ثمّ كان آخر ما تكلّم به في شيء من أمر أمّته أن يمضي جيش اسامة ، و لا يتخلّف عنه أحد ممّن أنهض معه ، و تقدّم في ذلك أشدّ التقدّم ، و أو عز فيه أبلغ الايعاز ، و أكّد فيه أكثر التأكيد ، فلم أشعر بعد أن قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلاّ برجال من بعث أسامة و أهل عسكره قد تركوا مراكزهم ، و أخلوا مواضعهم ، و خالفوا أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ما أنهضهم له و أمرهم به ، و تقدّم إليه من ملازمة أميرهم ،
و السير معه تحت لوائه حتّى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلّفوا أميرهم مقيما في عسكره ، و أقبلوا يتبادرون على الخيل ركضا الى حلّ عقدة عقدها اللّه عزّ و جلّ لي و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أعناقهم فحلّوها ، و نبذ عهد عاهدوا اللّه و رسوله عليه فنكثوه ، و عقدوا لأنفسهم عقدا ضجّت به أصواتهم ، و اختصّت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منّا بني عبد المطّلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي . فعلوا ذلك و أنا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مشغول ،
و بتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنّه كان أهمّها و أحقّ ما بدئ به منها ،
فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي من الذي أنا فيه من عظيم الرزّية ، و فاجع المصيبة ، و فقد من لا خلف منه إلاّ اللّه تعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها ، على تقاربها و سرعة اتّصالها . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أما الثالثة يا أخا اليهود : فإنّ القائم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان
[ 237 ]
يلقاني معتذرا في كلّ أيّامه ، و يلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقّي ، و نقض بيعتي ، و يسألني تحليله فكنت أقول : تنقضي أيّامه ثم يرجع إليّ حقّي الذي جعله اللّه لي عفوا هنيئا من غير أن أحدث في الإسلام ، مع حدوثه و قرب عهده بالجاهليّة ، حدثا في طلب حقّي بمنازعة لعلّ فلانا يقول فيها : نعم ، و فلانا يقول فيها : لا . فيؤول ذلك من القول الى الفعل ، و جماعة من خواصّ أصحاب محمّد عليه السلام أعرفهم بالنصح للّه و لرسوله و لكتابه و دينه يأتوني عودا و بدءا ،
و علانية و سرّا ، فيدعونني إلى أخذ حقّي ، و يبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدّوا إليّ بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويدا و صبرا قليلا لعل اللّه يأتيني بذلك عفوا ، بلا منازعة و لا اراقة دماء فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و طمع في الأمر بعده من ليس له بأهل . فقال كلّ قوم : منّا أمير ،
و ما طمع القائلون في ذلك إلاّ لتناول غيري الأمر ، فلمّا دنت وفاة القائم و انقضت أيامه صيّر ، الأمر بعده لصاحبه ، و كانت هذه اخت أختها ، و محلّها منّي مثل محلّها ، و أخذا منّي ما جعله اللّه لي ، فاجتمع إليّ من أصحاب محمّد ممّن مضى و ممّن بقي ممّن أخّره اللّه من اجتمع . فقالوا لي فيها مثل الّذي قالوا في اختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الأوّل ، صبرا و احتسابا ، و اشفاقا من أن تفنى عصبة تألّفهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم باللّين مرة ، و بالشدة اخرى ، و بالإنذار مرّة ،
و بالسيف اخرى ، حتّى لقد كان من تألّفه أحسن الناس في المسكن ، و الشبع و الرّي و اللباس ، و الوطاء و الدثار ، و نحن أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم لا سقوف لبيوتنا ، و لا أبواب و لا ستور إلاّ الجرائد و ما أشبهها ، و لا وطاء لنا و لا دثار علينا ، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، و نطوي اللّيالي و الأيّام عامّتنا ،
و ربّما أتانا الشيء ممّا أفاءه اللّه علينا و صيّره لنا خاصّة دون غيرنا و نحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أرباب النعم و الأموال تألّفا منه
[ 238 ]
لهم فكنت أحقّ من لم يفرّق هذه العصبة التي ألّفها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و من لم يحملها على الخطّة التي لا خلاص لها منها دون بلاغها أو فناء آجالها ، لأنّي لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا منّي و في أمري على احدى منزلتين : إمّا متّبع مقاتل ، و إمّا مقتول ان لم يتّبع الجميع ، و إمّا خاذل يكفر بخذلانه إن قصّر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي ، و قد علم اللّه أنّي منه بمنزلة هارون من موسى يحلّ بهم مخالفتي و الإمساك عن نصرتي ما أحلّ قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون و ترك طاعته . فرأيت تجرّع الغصص ، و ردّ أنفاس الصعداء ، و لزوم الصبر حتّى يفتح اللّه لي ، أو يقضي بما أحبّ ، أزيد لي في حظّي ، و ارفق بالعصابة التي و صفت أمرهم ، و كان أمر اللّه قدرا مقدورا ،
و لو لم أتّق هذه الحالة ثم طلبت حقّي لكنت أولى ممّن طلبه لعلم من مضى من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و من بحضرتك منهم بأنّي كنت أكثر عددا ، و أعزّ عشيرة ، و أمنع رجالا ، و أطوع أمرا ، و أوضع حجّة ، و أكثر في هذا الدّين مناقب و آثارا ، لسوابقي و قرابتي و وراثتي فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، و البيعة المتقدمة في أعناقهم ممّن تناولها ، و قد قبض محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّ ولاية الامّة في يده و في بيته لا في يد الألى تناولوها و لا في بيوتهم ، و أهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا ، أولى بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
قال : و اما الرابعة يا أخا اليهود : فإنّ القائم بعد صاحبه كان يشاورني في الامور فيصدرها عن أمري ، و يناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ،
لا أعلمه أحدا و لا يعلمه أصحابي ، يناظره في ذلك غيري ، و لا يطمع في الأمر بعده سواي . فلمّا أتته منيّته على فجأة بلا مرض كان قبله ، و لا أمر كان أمضاه
[ 239 ]
في صحّة من بدنه لم أشكّ أنّي قد استرجعت حقّي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، و العاقبة التي كنت ألتمسها ، و أنّ اللّه سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت ، و أفضل ما أمّلت ، و كان من فعله أن ختم أمره بأن سمّى قوما أنا سادسهم ، و لم يسوّني بواحد منهم ، و لا ذكر لي حالا في وراثة الرسول ، و لا قرابة و لا صهر و لا نسب ، و لا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ، و لا أثر من آثاري ، و صيّرها شورى بيننا ، و صيّر ابنه فيها حاكما علينا ، و أمره أن يضرب أعناق النفر الستّة الذين صيّر الأمر فيهم إن لم ينفذوا أمره ، و كفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبرا ، فمكث القوم أيّامهم كلّها كلّ يخطب نفسه ، و أنا ممسك حتّى سألوني عن أمري فناظرتهم في أيّامي و أيّامهم ، و آثاري و آثارهم ،
و أوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، و ذكّرتهم عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إليهم ، و تأكيد ما أكّده من البيعة لي في أعناقهم ، فدعاهم حبّ الإمارة ، و بسط الأيدي و الألسن في الأمر و النهي ، و الركون الى الدّنيا ،
و الاقتداء بالماضين قبلهم ، الى تناول ما لم يجعل اللّه لهم ، فإذا خلوت بواحد ذكّرته أيّام اللّه ، و حذّرته ما هو قادم عليه و صائر إليه ، التمس منّي شرطا أن أصيّرها له بعدي فلمّا لم يجدوا عندي إلاّ المحجّة البيضاء ، و الحمل على كتاب اللّه عزّ و جلّ و وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إعطاء كلّ امرئ منهم ما جعله اللّه له ،
و منعه مما لم يجعله اللّه له ، أزالها عنّي الى ابن عفّان طمعا في الشحيح .
ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتّى ظهرت ندامتهم ، و نكصوا على أعقابهم ، و أحال بعضهم على بعض ، كلّ يلوم نفسه و يلوم أصحابه ، ثم لم تطل الأيام بالمستبدّ بالأمر حتّى أكفروه ، و تبرّءوا منه . فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من اختها و أفظع فنالني منها الّذي لا يبلغ و صفه ، و لم يكن عندي إلاّ الصبر على ما هو أمضّ منها ، و لقد أتاني الباقون من الستّة من يومهم كلّ
[ 240 ]
راجع عمّا كان ركب منّي يسألني خلع ابن عفّان ، و الوثوب عليه و أخذ حقّي ،
و يعطيني صفقته و بيعته على الموت تحت رايتي ، أو يرد اللّه عزّ و جلّ علي حقي ، فو اللّه يا أخا اليهود ما منعني منها إلاّ الذي منعني من اختيها قبلها ،
و رأيت الإبقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي و آنس لقلبي من فنائها ، و علمت أنّي إن حملتها على دعوة الموت ركبته . فأمّا نفسي فقد علم من حضر ممّن ترى و من غاب من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّ الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحرّ من ذي العطش الصديّ ، و لقد كنت عاهدت اللّه عزّ و جلّ أنا و عمّي حمزة و أخي جعفر و ابن عمّي عبيدة عهدا وفينا به للّه عزّ و جلّ و لرسوله ، فتقدّمني أصحابي و تخلّفت بعدهم لما أراد اللّه عزّ و جلّ فأنزل اللّه تعالى فينا رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدّلوا تبديلا 1 حمزة و جعفر و عبيدة من قضى نحبه و أنا و اللّه المنتظر ، و ما بدّلت تبديلا و ما سكّتني عن ابن عفان و حثّني على الإمساك عنه إلاّ أنّي عرفت من و أخي جعفر و ابن عمّي عبيدة عهدا و فينا به للّه عزّ و جلّ و لرسوله ، فتقدّمني أصحابي و تخلّفت بعدهم لما أراد اللّه عزّ و جلّ فأنزل اللّه تعالى فينا رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدّلوا تبديلا 2 حمزة و جعفر و عبيدة من قضى نحبه و أنا و اللّه المنتظر ، و ما بدّلت تبديلا و ما سكّتني عن ابن عفان و حثّني على الإمساك عنه إلاّ أنّي عرفت من أخلاقه في ما اختبرت منه بما لن يدعه حتّى يستدعي الأباعد إلى قتله و خلعه ، فضلا عن الأقارب ، و أنا في عزلة . فصبرت حتّى كان ذلك ، لم أنطق فيه بحرف من « لا » و لا « نعم » ثمّ أتاني القوم و أنا علم اللّه كاره ، لمعرفتي بما تطامعوا به من اعتقاد الأموال و المرح في الأرض ،
-----------
( 1 ) الاحزاب : 23 .
-----------
( 2 ) الاحزاب : 23 .
[ 241 ]
و علمهم بأنّ تلك ليست لهم عندي و شديد عادة منتزعة فلمّا لم يجدوا عندي تعلّلوا الأعاليل . ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه . فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام و أما الخامسة : فإنّ المتابعين لي لمّا لم يطمعوا في تلك منّي ،
و ثبوا بالمرأة علي ، و أنا وليّ أمرها و الوصي عليها ، فحملوها على الجمل ،
و شدّوها على الرحال ، و أقبلوا بها تخبط الفيافي و تقطع البراري ، و تنبح عليها كلاب الحوأب . و تظهر لهم علامات الندم في كلّ ساعة ، و عندي كلّ حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاولى في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، حتّى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم ، طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم ، عازبة آراؤهم .
فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم ، و يرمون بسهامهم بغير فهم ،
فوقعت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محله المكروه ، ممّن إن كففت لم يرجع و لم يعقل ، و إن كنت أقمت قد صرت إلى الّتي كرهت ، فقدّمت الحجّة بالإعذار و الإنذار ، و دعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها ، و القوم الّذين حملوها إلى الوفاء ببيعتهم لي و الترك لنقض عهد اللّه عزّ و جلّ فيّ ، و أعطيتهم من نفسي كلّ الّذي قدرت عليه ، و ناظرت بعضهم فرجع ، و ذكرته فذكر ، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك ، فلم يزدادوا إلاّ جهلا و تماديا و غيّا ، فلّما أبوا إلاّ هي ركبتها منهم فكانت عليهم الدبرة و بهم الهزيمة ، و لهم الحسرة ، و فيهم الفناء و القتل ،
و حملت نفسي على الّتي لم أجد بدّا ، منها و أظهرته آخرا مثل الّذي و سعني منه أوّلا من الأغضاء و الإمساك ، و رأيتني إن أمسكت كنت معينا لهم علي بإمساكي على ما صاروا إليه و طمعوا فيه ، من تناول الأطراف ، و سفك الدماء ،
و قتل الرعية ، و تحكيم النساء النواقص العقول و الحظوظ على كلّ حال ، كعادة بني الأصفر و من مضى من ملوك سبأ و الامم الخالية . فأصير إلى ما كرهت أوّلا و آخرا ، و قد أهملت المرأة و جندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من
[ 242 ]
الناس ، و لم أهجم على الأمر إلاّ بعد ما قدمت و أخرت ، و تأنيت و راجعت ،
و أرسلت و سافرت ، و أعذرت و أنذرت ، و أعطيت القوم كلّ شيء يلتمسوه بعد ان عرضت عليهم كلّ شيء لم يلتمسوه ، فلمّا أبوا إلاّ تلك أقدمت عليها ، فبلغ اللّه بي و بهم ما أراد ، و كان بي عليهم بما كان منّي إليهم شهيدا . ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أما السادسة يا أخا اليهود : فمحاربة ابن آكلة الأكباد ، و هو طليق ابن طليق ، معاند للّه عزّ و جلّ و لرسوله و للمؤمنين ، منذ بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى أن فتح اللّه عليه مكّة عنوة ، فأخذت بيعته و بيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم و في ثلاثة مواطن بعده ، و أبوه بالأمس أوّل من سلّم علي بإمرة المؤمنين ، و جعل يحثّني على النهوض في أخذ حقّي من الماضين قبلي ، يجدّد لي بيعته كلّما أتاني ، و أعجب العجب انّه لمّا رأى ربي تعالى قد ردّ إليّ حقّي و أقرّه في معدنه ، و انقطع طعمه أن يصير في دين اللّه رابعا ، و في أمانة اللّه حاكما ، كرّ على العاصي ابن العاص طمعه فاستماله فمال علي ، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر ، و حرام عليه أن يأخذ من الفيء دون قسمه درهما ، و حرام على الراعي إيصال درهم إليه فوق حقّه ، فأقبل يخبط البلاد بالظلم ، و يطأها بالفتن ، فمن تابعه أرضاه ، و من خالفه ناواه ثم توجّه إليّ ناكثا علينا ، مغيرا في البلاد شرقا و غربا و يمينا و شمالا ، و الأنباء تأتيني ، و الأخبار ترد علي بذلك ،
فأتاني أعور ثقيف فأشار علي أن أولّيه البلاد الّتي هو بها لا داريه بما أولّيه منها ، و في الّذي أشار به الرأي في أمر الدنيا لو وجدت عند اللّه عزّ و جلّ في توليته لي مخرجا ، و أصبت لنفسي في ذلك عذرا . فأعملت الرأي في ذلك ،
و شاورت من أثق بنصيحته للّه عزّ و جلّ و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم ولي و للمؤمنين ،
فكان رأيه في ابن آكلة الأكباد كرأيي ، ينهاني عن توليته ، و يحذّرني أن أدخل
[ 243 ]
في أمر المسلمين يده ، و لم يكن اللّه ليراني متّخذ المضلّين عضدا . فوجّهت إليه أخا بجيلة مرّة ، و أخا الأشعريّين اخرى ، كلاهما ركن إلى الدّنيا ، و تابع هواه في ما أرضاه ، فلمّا لم أره يزداد في ما انتهك من محارم اللّه إلاّ تماديا ، شاورت من معي من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم البدريّين ، و الّذين ارتضى اللّه عزّ و جلّ أمرهم و رضي عنهم بعد بيعتهم ، و غيرهم من صلحاء المسلمين و التابعين ، فكل يوافق رأيه رأيي في غزوته و محاربته و منعه ممّا نالت يده ، و إني نهضت إليه بأصحابي ، و أنفذ إليه من كلّ موضع كتبي ، و اوجّه إليه رسلي أدعوه إلى الرجوع عمّا هو فيه و الدخول في ما فيه الناس معي . فكتب يتحكم علي و يتمنّى علي الأماني ، و يشترط علي شروطا لا يرضاها اللّه تعالى و رسوله و لا المسلمون ، و يشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواما من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أبرارا فيهم عمّار بن ياسر و أين مثل عمّار و اللّه لقد رأيتنا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ما يعدّ منّا خمسة إلاّ كان سادسهم ، و لا أربعة إلاّ كان خامسهم ، اشترط دفعهم إليه ليقتلهم و يصلبهم بما انتحل دم عثمان ، و لعمر اللّه ما ألّب على عثمان و لا جمع الناس على قتله إلاّ هو و أشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن ، فلمّا لم أجب إلى ما اشترط من ذلك ، كرّ مستعليا في نفسه لطغيانه و بغيه ، بحمير لا عقول لهم و لا بصائر ، فموّه لهم أمرا فاتّبعوه ، و أعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه ، فناجزناهم ، و حاكمناهم إلى اللّه عزّ و جلّ بعد الإعذار و الإنذار . فلمّا لم يزده ذلك إلاّ تماديا و بغيا ، لقيناه بعادة اللّه التي عوّدناه من النصر على أعدائه ، و راية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بأيدينا ، لم يزل اللّه يفل حزب الشيطان بها حتّى يقضي الموت ، و هو معلم رايات أبيه الّتي لم أزل اقاتلها مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في كلّ المواطن . فلم يجد من الموت منجى إلاّ الهرب . فركب فرسه ، و قلب رايته ، لا يدري كيف يحتال . فاستعان برأي ابن العاص فأشار
[ 244 ]
عليه بإظهار المصاحف ، و رفعها بأعلى الأعلام و الدعاء إلى ما فيها و قال : إنّ ابن أبي طالب و حزبه أهل بصائر و رحمة ، و قد دعوك إلى كتاب اللّه أولا و هم مجيبوك إليه آخرا ، فأطاعه في ما أشار به عليه ، إذ رأى انّه لا منجى له من القتل أو الهرب غيره ، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه ، فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم ، و جهدهم في جهاد أعداء اللّه على بصائرهم ، و ظنّوا أنّ ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه ،
فأصغوا إلى دعوته ، و أقبلوا بأجمعهم في إجابته ، فأعلمتهم أنّ ذلك مكر منه و من ابن العاص ، و أنّهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ،
و لم يطيعوا أمري ، و أبوا إلاّ إجابته ، كرهت أم هويت ، شئت أو أبيت ، حتّى أخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم يفعل فألحقوه بابن عفّان أو ادفعوه إلى ابن هند برمته ، فجهدت علم اللّه جهدي ، و لم أدع غلّة في نفسي إلاّ بلغتها في أن يخلّوني و رائي فلم يفعلوا ، و راودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس ، فلم يجيبوا ، ما خلا هذا الشيخ و أشار بيده إلى الأشتر و عصبة من أهل بيتي ، فو اللّه ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان و أومأ بيده إلى الحسن و الحسين عليهما السلام فيقطع نسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ذرّيته من امّته ، و مخافة أن يقتل هذا و هذا و أومأ بيده إلى عبد اللّه بن جعفر و محمّد بن الحنفية فإني أعلم لو لا مكاني لم يقفا ذلك الموقف ،
فلذلك صبرت على ما أراد القوم ، مع ما سبق فيه من علم اللّه عزّ و جلّ .
فلمّا رفعنا عن القوم سيوفنا ، تحكّموا في الامور ، و تخيّروا الأحكام و الآراء ، و تركوا المصاحف ، و ما دعوا إليه من حكم القرآن ، و ما كنت أحكّم في دين اللّه أحدا إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شكّ فيه و لا امتراء ، فلمّا أبوا إلاّ ذلك أردت أن أحكّم رجلا من أهل بيتي ، أو رجالا ممّن أرضى رأيه و عقله ،
[ 245 ]
و أثق بنصيحته و مودّته و دينه ، و أقبلت لا أسمّي أحدا إلاّ امتنع منه ابن هند ، و لا أدعوه إلى شيء من الحقّ إلاّ أدبر عنه ، و أقبل ابن هند يسومنا عسفا ، و ما ذلك إلاّ باتّباع أصحابي له على ذلك ، فلمّا أبوا إلاّ غلبتي على التحكيم ، تبرّأت إلى اللّه تعالى منهم ، و فوّضت ذلك إليهم ، فقلّدوه امرأ ، فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض و غربها ، و أظهر المخدوع عليه ندما .
ثمّ أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
قال عليه السلام : و أما السابعة يا أخا اليهود : فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان عهد إلي أن أقاتل في آخر الزمان من أيّامي قوما من أصحابي يصومون النهار ، و يقومون الليل ، و يتلون الكتاب ، يمرقون بخلافهم علي ، و محاربتهم إيّاي من الدّين مروق السهم من الرمية ، فيهم ذو الثديّة ، يختم لي بقتلهم بالسعادة . فلمّا انصرفت إلى موضعي هذا أقبل بعض القوم على بعض باللاّئمة في ما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجا إلاّ أن قالوا : كان ينبغي لأميرنا أن لا يبايع من أخطأ ، و أن يقضي بحقيقة رأيه على نفسه و قتل من خالفه منّا ، فقد كفر بمتابعته إيّانا و طاعته لنا في الخطأ ، و أحلّ لنا بذلك قتله و سفك دمه فتجمّعوا على ذلك ، و خرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم : لا حكم إلاّ للّه ، ثم تفرّقوا فرقة بالنخيلة ، و اخرى بحروراء ، و اخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقا حتّى عبرت دجلة ، فلم تمرّ بمسلم إلاّ امتحنته ، فمن تابعها استحيته ، و من خالفها قتلته ، فخرجت إلى الأوليين واحدة بعد اخرى ، أدعوهم إلى طاعة اللّه عزّ و جلّ و الرجوع إليه ، فأبيا إلاّ السيف ، فلمّا أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى اللّه عزّ و جلّ فقتل اللّه هذه و هذه ،
و كانوا يا أخا اليهود لو لا ما فعلوا لكانوا ركنا قويّا و سدّا منيعا ، فأبى اللّه إلاّ ما صاروا إليه ، ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة و وجّهت رسلي تترى و كانوا من
[ 246 ]
جلّة أصحابي ، و أهل التعبّد منهم و الزهد في الدنيا ، فأبت إلاّ اتّباع اختيها ،
و الاحتذاء على مثالهما ، و أسرعت في قتل من خالفها من المسلمين ، و تتابعت إليّ الأخبار بفعلهم ، فخرجت حتّى قطعت إليهم دجلة ، اوجّه السفراء و النصحاء ، و أطلب العتبى بجهدي ، بهذا مرّة و بهذا مرّة و أومأ بيده إلى الأشتر و الأحنف بن قيس و سعيد بن قيس الأرحبيّ و الأشعث بن قيس الكندي فلمّا أبوا إلاّ تلك ، ركبتها منهم فقتلهم اللّه يا أخا اليهود عن آخرهم ،
و هم أربعة آلاف أو يزيدون ، حتّى لم يفلت منهم مخبر ، فاستخرجت ذا الثديّة من قتلاهم بحضرة من ترى له ثديّ كثديّ المرأة .
ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : فقد وفيت سبعا و سبعا ، و بقيت الاخرى و أوشك بها . فقالوا :
أخبرنا بالاخرى . فقال : أن تخضب هذه و أومأ بيده إلى لحيته من هذه و أومأ بيده إلى هامته و ارتفعت أصوات الناس بالضجّة و البكاء حتّى لم يبق بالكوفة دار إلاّ خرج أهلها فزعا ، و أسلم رأس اليهود على يديه من ساعته ، و لم يزل مقيما معه عليه السلام حتّى قتل عليه السلام و أخذ ابن ملجم ، فأقبل رأس اليهود فقال للحسن عليه السلام : اقتله قتله اللّه ، فإنّي رأيت في الكتب الّتي انزلت على موسى عليه السلام :
أنّ هذا أعظم جرما من ابن آدم قاتل أخيه ، و من قيدار عاقر ناقة ثمود 1 .
قلت : و هو خبر متين لكن كأنّه وقع في بعض مواضعها تقديم و تأخير و في بعضها خلط . فلم يذكر في التاريخ إرساله عليه السلام أشعريا إلى معاوية .
« احملهم من الحقّ على محضه » قال المفيد : و قوله عليه السلام « فان ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه » أدلّ دليل على انّه عليه السلام لم
-----------
( 1 ) أخرجه الصدوق في الخصال 2 : 364 ح 58 ، باب السبعة ، بالسند المذكور و بسنده عن جابر الجعفي عن الامام الباقر عليه السلام ، و النقل بتصرف في اللفظ .
[ 247 ]
يستقرّ به الأمر ، و لم يتمكن من إنفاذ حكم من الأحكام 1 .
قلت : و قد أقر عمر بكونه عليه السلام لو كان له تمكن يحمل الناس على محض الحق فقال حين وفاته مخاطبا له عليه السلام من ستّة الشورى « و أنّك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ المبين و الصراط المستقيم » 2 .
« و ان تكن الاخرى » و لم ترتفع المحن ، و لم أتمكن من حملهم على الحق .
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات انّ اللّه عليم بما يصنعون اقتباس من قوله تعالى في الآية الثامنة من سورة فاطر .
روى ( الكافي ) : أنّه عليه السلام خطب الناس بالمدينة . فقال : أيّها الامة الّتي خدعت فانخدعت ، و عرفت خديعة من خدعها ، فأصرّت على ما عرفت ،
و اتبعت أهواءها و ضربت في عشواء غوايتها ، و قد استبان لها الحق فصدّت عنه ، و الطريق الواضح فتنكّبته إلى أن قال عمّا قليل تحصدون جميع ما زرعتم ، و تجدون و خيم ما اجترمتم و ما اجتلبتم الخبر 3 .
و في ( تاريخ اليعقوبي ) : أتى قيس بن سعد بن عبادة معاوية . فقال له معاوية : بايع ، فقال قيس : إن كنت لأكره مثل هذا اليوم يا معاوية لقد حرصت أن افرّق بين روحك و جسدك قبل ذلك ، فأبى اللّه يا ابن أبي سفيان إلاّ ما أحبّ .
ثم أقبل قيس على الناس فقال : ( يا معشر الناس لقد اعتضتم الشرّ من الخير ،
و استبدلتم الذلّ من العزّ ، و الكفر من الايمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين ، و سيّد المرسلين ، و ابن عمّ رسول ربّ العالمين ، قد وليكم الطليق ابن الطليق ، يسومكم الخسف ، و يسير فيكم بالعسف ، فكيف تجهل ذلك
-----------
( 1 ) نقله عن العيون و المحاسن للمفيد الشريف المرتضى في الفصول المختاره 1 : 47 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) جاء في الامامه و السياسة 1 : 25 ، و غيره .
-----------
( 3 ) أخرجه الكليني في الكافي 8 : 32 ح 5 ، في ضمن الخطبة الطالوتية .
[ 248 ]
أنفسكم ؟ أم طبع اللّه على قلوبكم و أنتم لا تعقلون ) . فجثا معاوية على ركبتيه ثم أخذ بيده و قال : أقسمت عليك . ثم صفق على كفّه و نادى الناس بايع قيس فقال : كذبتم و اللّه ما بايعت 1 .
هذا ، و قال البحتري في قتل بني حميد :
و لا عجب للأسد أن ظفرت بها
كلاب الأعادي من فصيح و أعجم
فحربة وحشي سقت حمزة الردى
و موت علي من حسام ابن ملجم
و الظاهر أنّ قوله « من فصيح و أعجم » متعلّق بقوله « و لا عجب » .