من الكتاب ( 28 ) في كتابه عليه السلام الى معاوية :
وَ قُلْتَ إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ اَلْجَمَلُ اَلْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ وَ لَعَمْرُ اَللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ وَ مَا عَلَى اَلْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَ لاَ مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ وَ هَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا وَ لَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا أقول : قال ابن أبي الحديد : انّ النقيب قال : إنّه جواب كتاب كتبه معاوية إليه عليه السلام مع أبي امامة الباهلي 1 . قلت : بل مع أبي مسلم الخولاني . فروى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) : انّ معاوية كتب مع أبي مسلم الخولاني إليه عليه السلام مشيرا إلى أبي بكر و عمر و عثمان « فكلّهم حسدت ، و على كلّهم بغيت ، عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، و في قولك الهجر ، و في تنفّسك الصعداء ، و في إبطائك عن الخلفاء . تقاد إلى كلّ منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتّى تبايع و أنت كاره » إلخ 2 .
« و قلت : إنّي كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش » أي : جمل ادخل في عظم أنفه خشب ، و قد عرفت أنّ نصر بن مزاحم رواه « الفحل المخشوش » .
و في ( فقه لغة الثعالبي ) : « فصل في الهنة تجعل في أنف البعير إذا كانت من خشب فهي خشاش ، فإذا كانت من صفر فهي برة ، فاذا كانت من شعر فهي خزامة ، فإذا كانت من بقيّة حبل فهي عران » 3 .
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 457 .
-----------
( 2 ) وقعة صفين : 87 .
-----------
( 3 ) فقه اللغة : 259 .
[ 389 ]
« حتّى ابايع » أي : ابايع أبا بكر . روى الكشي عن الباقر عليه السلام قال : لمّا مرّوا بأمير المؤمنين عليه السلام و في رقبته حبل آل زريق ضرب أبو ذر بيده على الاخرى ثم قال : « ليت السيوف قد عادت بأيدينا ثانية » و قال المقداد : « لو شاء لدعا عليه ربّه عزّ و جلّ » و قال سلمان : « مولانا أعلم بما هو فيه » 1 .
و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في عنوان بيعة علي تفقد أبو بكر قوما تخلّفوا عن بيعته عند علي . فبعث إليهم عمر . فجاء فناداهم ، و هم في دار علي . فأبوا أن يخرجوا . فدعا بالحطب ، و قال : و الّذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لاحرّقنّها على من فيها . فقيل له : إنّ فيها فاطمة . فقال : و إن ، فخرجوا . فبايعوا إلاّ عليّا . فانّه زعم انّه قال : حلفت أن لا أخرج ، و لا أضع ثوبي على عاتقي حتّى أجمع القرآن فوقفت فاطمة على بابها فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم تركتم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم جنازة بين أيدينا ، و قطعتم أمركم بينكم لم تستامرونا ، و لم تردّوا لنا حقّا . فأتى عمر أبا بكر . فقال له : ألا تاخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة .
فقال أبو بكر لقنفذ مولى له قم فادع لي عليا . فذهب إليه و قال : يدعوك خليفة رسول اللّه . فقال علي : لسريع ما كذبتم على رسوله . فرجع فأبلغ الرسالة . فبكى أبو بكر طويلا . فقال له عمر : الثانية . لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة . فقال أبو بكر لقنفذ : عد إليه و قل : أمير المؤمنين يدعوك لتبايع . فجاء فأدّى . فرفع علي صوته و قال : سبحان اللّه إدّعى ما ليس له . فرجع قنفذ . فأبلغ الرسالة . فبكى أبو بكر طويلا ، ثم قام عمر و مشى معه جماعة حتّى أتوا بيت فاطمة ، فدقّوا الباب فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبه يا رسول اللّه ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب ، و ابن أبي قحافة . فلمّا سمع القوم صوتها و بكاءها انصرفوا باكين و كادت قلوبهم تتصدّع ، و بقي عمر و معه قوم فأخرجوا عليا
-----------
( 1 ) رواه الكشي في معرفة الرجال ، اختياره : 7 : 16 .
[ 390 ]
فمضوا به إلى أبي بكر ، و قالوا له بايع . فقال : إن انا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللّه الّذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك . قال : إذن تقتلون عبد اللّه و أخا رسوله . قال عمر :
أما عبد اللّه فنعم ، أما أخو رسوله فلا . و أبو بكر ساكت لا يتكلّم . فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك . فقال : لا اكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه . فلحق علي بقبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يصيح و ينادي : « يا ابن امّ إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني » 1 .
فهل أمر أبين من كون بيعته عليه السلام كرها و أنّهم أرادوا إحراق بيته عليه و على امرأته سيّدة نساء العالمين ، و على ابنيه سيّدى شباب أهل الجنّة لو لم يكن خرج ، و أرادوا ضرب عنقه مع كونه كنفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لو لم يبايع ،
و أنّه عليه السلام جعلهم في اتّباعهم لأبي بكر ، و تركهم له بمنزلة عابدي العجل .
و نفسه بمنزلة هارون . فكيف يصحّح إخواننا خلافة الرجل بإمضائه عليه السلام لها ،
و كيف يدّعون فيها الإجماع ، و لو صدق في هذا إجماع . فليقل لم يكن في العالم يوما نزاع .
ثمّ لو كان كلّ إجماع حجّة لكان إجماع امّة موسى على كون العجل إلههم حجة . مع أنّ في إجماع امّة موسى إنّما تخلّف هارون أخو موسى ، و بيعة أبي بكر لم تكن ابتداء إلاّ من عمر و أبي عبيدة لمواطأتهما معه ، و من بشير بن سعد لحسده ابن عمه سعد بن عبادة أن ينال أمارة ، ثم من الأوس بإشارة رئيسهم أسيد بن حضير ضغنا و رقابة للخزرج ، ثم باقي المؤلفة و الطلقاء طمعا في أن ينالوا امارة ، ثم من باقي الناس بضرب العصا و خبطا . مع أنّ امّة موسى الّذين أجمعوا على عبادة العجل كانوا من أولاد الأنبياء يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الّذين قال تعالى فيهم انّهم فضّلهم على العالمين ، و قال لهم
-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 12 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 391 ]
جدّهم يعقوب لما حضره الموت : ما تعبدون من بعدي قالوا : نعبد إلهك و إله آباءك ابراهيم و اسماعيل و إسحاق 1 و المبايعين لأبي بكر كانوا أعرابا جلفا شابوا لحاهم في عبادة الأوثان .
و إنّي لأعجب من ابن قتيبة و استحي له أنّ يقول بعد ما نقلناه عنه و بعد ذكره إتيان أبي بكر و عمر إلى العباس بجعله شريكا لو هي أمير المؤمنين عليه السلام بإشارة المغيرة ، و ردّ العباس على أبي بكر بأنّه إن كان الأمر حقّا لك . فلا حاجة لي فيه ، و إن كان حقّ المؤمنين . فليس لك أن تحكم عليهم ، و إن كان حقّنا لم نرض منك ببعض دون بعض « فلمّا تمّت البيعة لأبي بكر أقام ثلاثة أيّام يقيل الناس ، و يستقيلهم يقول قد أقلتكم في بيعتي هل من كاره ؟ هل من مبغض ؟
فيقوم علي في أوّل الناس فيقول : و اللّه لا نقيلك و لا نستقيلك أبدا قد قدّمك النبي لتوحيد ديننا من ذا الّذي يؤخّرك لتوجيه دنيانا » 2 .
فهل هو إلاّ كلام مضحك للثكلى ، و مسخرة للعقلاء . كيف يصدق أبو بكر في استقالته مع اخذه البيعة بإحراق أهل بيت نبيّه ، و قتل وصيّه ، و كيف يقول أمير المؤمنين عليه السلام في أبي بكر ما مر و يجعله عجل السامري . ثم يقول له ما قاله هنا ؟ هل يكون كذلك إلاّ من كان رذلا نذلا ، و انّما نسب إليه عليه السلام كلام عمر في السقيفة فإنّه لمّا كان هو و أبو بكر يتقارضان الخلافة و يقول أبو بكر : هذا عمر بايعوه أو بايعوا أبا عبيدة . قال له عمر : أنت الّذي قدّمك النبي لديننا فكيف لا نقبلك لدنيانا 3 .
مع أنّه كلام مغالطة : فإنّه جعل خلافة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عبارة عن سلطنة
-----------
( 1 ) البقرة : 133 .
-----------
( 2 ) الإمامة و السياسة 1 : 15 16 .
-----------
( 3 ) رواه عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 123 ، شرح الخطبة 26 ، و النقل بالمعنى .
[ 392 ]
دنيوية و أدون من امامة جماعة . فلم يكفّر اتباعهم الشيعة لانكارهم ائمتهم مع اعتراف فاروقهم بأنّ الخلافة مجرّد رياسة دنيوية .
و لازمه كون النبوّة أيضا رياسة دنيوية كما أفصح عنه من أسّسوا له الأمر في قوله :
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء و لا وحي نزل
و أمّا الإماميّة فإنّما يكفّرون من أنكر أمير المؤمنين عليه السلام لأنّهم يجعلون ولايته من اصول الدين كنبوّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لأنّهم يعتقدون كون الإمام كالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في كونه من قبل اللّه تعالى لا مجرّد إمارة ، و نحن لا ننكر تصدي خلفائهم للإمارة إن كان الأمر كما قال عمر .
و روى الثقفي مسندا عن عدي بن حاتم قال : ما رحمت أحدا رحمتي عليا حين اتي به ملبّبا ، فقيل له بايع ، قال : فإن لم أفعل . قالوا : إذن نقتلك ، قال : « اذن تقتلون عبد اللّه و أخا رسوله » ثم بايع كذا و ضمّ يده اليمنى 1 .
و عنه أيضا قال : إنّي جالس عند أبي بكر إذ جيء بعليّ عليه السلام فقال له أبو بكر : بايع . فقال له علي عليه السلام : فإن لم ابايع . قال : أضرب الّذي فيه عيناك . فرفع رأسه إلى السماء فقال : « اللّهمّ اشهد » ثم مدّ يده فبايعه 2 .
و يكفي في عدم صحّة خلافة صدّيقهم اعتراف معاوية الّذي هو أصل مذهبهم و فرعه و أوّله و آخره لا سيّما في ثالثهم الّذي حملهم على القول به ،
و إلاّ فالناس كانوا فيه بعد قتله بين مكفّر و مفجّر بأنّه عليه السلام قيد للبيعة كما يقاد الجمل المخشوش .
و نظير قوله هذا في كشف حقيقة الأمر منه ، قوله الآخر في ما كتب إليه عليه السلام أيضا : و أعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ، و يداك في يد
-----------
( 1 ) رواه عن الثقفي المرتضى في تلخيص الشافي ، 3 : 79 .
-----------
( 2 ) رواه عن الثقفي المرتضى في تلخيص الشافي ، 3 : 79 .
[ 393 ]
ابنيك الحسن و الحسين يوم بويع أبو بكر الصدّيق . فلم تدع أحدا من أهل بدر و السوابق إلاّ دعوتهم إلى نفسك ، و مشيت إليهم بامرأتك ، و أدليت إليهم بابنيك ، و استنصرتهم على صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فلم يجبك إلاّ أربعة أو خمسة 1 .
و صرّح بذلك أيضا الجبار الدوانيقي في ما كتب إلى محمّد بن عبد اللّه الحسني ، و رواه القتيبي 2 .
« و لعمر اللّه لقد أردت أن تذمّ فمدحت » بكوني مظلوما .
« و أن تفضح فافتضحت » بكون من جعلته حجتك ظالما .
و نظير ما قاله عليه السلام من كون معاوية أراد ذمّه عليه السلام بقيادته كالجمل المخشوش لبيعة أبي بكر فمدحه ، أنّ حجل بن نضلة ذكر عند النعمان بن المنذر معاوية بن شكل . فقال : إنّه لقعو الاليتين مقبل النعلين ، فحج الفخذين ،
مشّاء باقراء ، تبّاع اماء ، قتّال ظباء . فقال له النعمان : أردت أن تذمّه فمدحته .
و في ( الأغاني ) : خاصم رجل أبا دلامة في داره . فارتفعا إلى عافية القاضي . فأنشأ أبو دلامة يقول :
لقد خاصمتني دهاة الرجال
و خاصمتها سنة وافية
فما أدحض اللّه لي حجة
و لا خيّب اللّه لي قافية
و من خفت من جوره في القضاء
فلست اخافك يا عافية
فقال له عافية القاضي : لأشكونك إلى الخليفة ، و لاعلمنّه أنّك هجوتني .
قال : إذن يعزلك . قال : و لم ؟ قال : لأنّك لا تعرف المديح من الهجاء . فبلغ ذلك
-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 131 ، شرح الخطبة 26 .
-----------
( 2 ) أشار الى الكتاب ابن قتيبة في عيون الاخبار 1 : 209 ، و يوجد أيضا متن الكتاب في تاريخ الطبري 6 : 195 ، سنة 145 ، و انساب الاشراف 3 : 95 .
[ 394 ]
المنصور . فضحك و أمر لأبي دلامة بجائزة 1 و لمّا قال الأخطل لسويد بن منجوف :
و ما جذع سوء خرّق السوء وسطه
لما حملته وائل بمطيق
قال له سويد : هجوتني بزعمك . فمدحتني لأنّك جعلت وائلا حملتني أمرها ، و ما طمعت في بني تغلب منها .
و انبرى فتى للاخطل . فقال له : أردت أن تهجو حاتم بن النعمان الباهلي ،
و ان تصغّر من شأنه ، و تضع من شأنه ، و تضع منه . فقلت :
و سوّد حاتما أن ليس فيها
إذا ما أوقد النيران نار
فأعطيته السؤدد في الجزيرة و أهلها و منعته ما لا يضرّه .
و لمّا بسط يوسف بن عمر الثقفي العذاب على خالد بن عبد اللّه القسرى لم يكلّمه خالد حتّى قال له يوسف : يا ابن الكاهن يعني بالكاهن شقّ بن صعب فقال له خالد : إنّك لأحمق . تعيّرني بشرفي ، و لكنّك يا ابن السبّاء إنّما كان أبوك سبّاء الخمر : أى بيّاعه .
و عن علي بن المنذر قال : قال لي الحسن البصري : ما قول الشاعر :
لو لا جرير هلكت بجيله
نعم الفتى و بئست القبيله
أهجاه أم مدحه ؟ قلت : مدحه ، و هجا قومه . قال : ما مدح من هجا قومه .
و في ( المعجم ) كان الخليل النحوي العروضي يقطّع بيتا من الشعر فدخل عليه ابنه في تلك الحالة . فخرج إلى الناس ، و قال لهم : إنّ أبي قد جنّ .
فدخلوا عليه و هو يقطّع البيت فأخبروه بما قال ابنه . فقال لابنه :
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني
أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
-----------
( 1 ) الأغاني 10 : 257 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 395 ]
لكن جهلت مقالتي فعذلتني
و علمت أنّك جاهل فعذرتكا 1
أيضا :
عذلت على ما لو علمت ببعضه
فسحت مكان اللوم و العذل من عذر
و عكسه أنّ الأخطل أراد أن يمدح سماك بن مخرمة الأسدي . فقال فيه :
إنّ سماكا بنى مجدا لاسرته
و فعل الخير يبتدر
قد كنت أحسبه قينا و أخبره
فاليوم طيّر عن أثوابه الشرر
فقال سماك : ويحك ما أعياك أردت أن تمدحني فهجوتني . قال ذلك لأنّه كان من بني الهالك ، و كان الهالك أوّل من عمل الحديد ، و كان ولده يعيّرون بذلك .
و في ( الأذكياء ) مدح الخالديان سيف الدولة بن حمدان بقصيدة قالا فيها :
فوجه كله قمر
و سائر جسمه أسد
فاستحسنه سيف الدولة ، و جعل يردّد إنشاده . فدخل عليه الشيطمي الشاعر . فقال له : اسمع هذا البيت ، و أنشده إيّاه . فقال له الشيطمي : إحمد ربك فقد جعلك من عجائب البحر 2 .
« و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما » أي : ذلّة و منقصة .
« ما لم يكن شاكّا في دينه و لا مرتابا بيقينه » و أمّا لو ظلمه الناس فليس فيه غضاضة بل رفع درجة و علوّ منزلة .
و قال عليه السلام في مثل ذلك في موضع آخر « فإنّ المرء المسلم البريء من الخيانة ما لم يخش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت و تغرى بها لئام الناس ،
-----------
( 1 ) معجم الادباء 11 : 75 ، و النقل بتصرّف يسير .
-----------
( 2 ) الأذكياء لابن الجوزي : 152 ، و النقل بتلخيص .
[ 396 ]
كان كالفالج الياسر الّذي ينتظر اوّل فورة من قداحه توجب له المغنم ، و يرفع بها عنه المغرم » 1 و لبعضهم في نظيره :
لعمري ما بالموت عار على امرئ
إذا لم تصبه في الحياة المعائر
و للنابغة :
و عيّرتني بنو ذئبان رهبته
و هل علي بأن أخشاك من عار
و لآخر :
قالوا حبست فقلت ليس بضائري
حبسي و أيّ مهنّد لم يغمد
و الحبس ما لم تغشه لدنيّة
شنعاء نعم المنزل المستورد
و لقد أجاد من قال بالفارسية :
ما نداريم از قضاى حق گله
عار نايد شير را از سلسله
و روى ( الكافي ) : أنّ رجلا كان يدخل على الصادق عليه السلام في حجّه . فغبر زمانا لا يحجّ . فدخل عليه عليه السلام بعض معارفه . فسأله عنه . فجعل يضجع الكلام يظنّ أنّه عليه السلام يعني الميسرة و الدنيا فقال عليه السلام له : كيف دينه . فقال : كما تحب .
فقال : هو و اللّه الغنى 2 .
و عنه عليه السلام في قوله تعالى في مؤمن آل فرعون : فوقاه اللّه سيّئات ما مكروا 3 أما لقد بسطوا عليه و قتلوه ، و لكن أتدرون ما وقاه ؟ وقاه أن يفتنوه في دينه 4 .
« و هذه حجّتي إلى غيرك قصدها » قال عليه السلام لمعاوية ذلك لأنّ معاوية كان مصداق قوله تعالى : و لو أنّنا نزلنا إليهم الملائكة و كلّمهم الموتى و حشرنا
-----------
( 1 ) نهج البلاغة 1 : 60 ، الخطبة 23 .
-----------
( 2 ) الكافي 2 : 216 ح 4 .
-----------
( 3 ) غافر : 45 .
-----------
( 4 ) الكافي 2 : 215 ح 1 .
[ 397 ]
عليهم كلّ شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا 1 و إنّما قصده عليه السلام بحجّته من كان لقبولها أهلا .
« و لكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح » أي : عرض و لزمه المقام إتماما للحجّة .
« من ذكرها » فإنّه عليه السلام لو لم يجبه بأن قودي للبيعة لم يكن ذما لي بل لخصمي ، و من عاملني بذلك يمكن أن تؤثّر شبهته في القاصرين بأنّ المغلوبية في الدنيا تنافي كمال الدين أو لم يقل أهل الدنيا الّذين لم تكن لهم بصيرة في النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم 2 و لم انزل على يتيم أبي طالب .