من الخطبة ( 26 ) و منها :
فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَوْتِ وَ أَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى وَ شَرِبْتُ عَلَى اَلشَّجَا وَ صَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ اَلْكَظَمِ وَ عَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ اَلْعَلْقَمِ من الخطبة ( 170 ) منها :
وَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ يَا ؟ اِبْنَ أَبِي طَالِبٍ ؟ لَحَرِيصٌ فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ وَ اَللَّهِ لَأَحْرَصُ وَ أَبْعَدُ وَ أَنَا أَخَصُّ وَ أَقْرَبُ وَ إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَ أَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي اَلْمَلَإِ اَلْحَاضِرِينَ هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى ؟ قُرَيْشٍ ؟ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ من الخطبة ( 215 ) و من كلام له عليه السلام :
اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى ؟ قُرَيْشٍ ؟ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ أَكْفَئُوا إِنَائِي وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي وَ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَ لاَ ذَابٌّ وَ لاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَنِيَّةِ فَأَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى
[ 429 ]
وَ جَرِعْتُ رِيقِي عَلَى اَلشَّجَا وَ صَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ اَلْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ اَلْعَلْقَمِ وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ اَلشِّفَارِ و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة إلا أني ذكرته هاهنا لاختلاف الروايتين من الكتاب ( 36 ) في كتابه عليه السلام إلى عقيل :
فَدَعْ عَنْكَ ؟ قُرَيْشاً ؟ وَ تَرْكَاضَهُمْ فِي اَلضَّلاَلِ وَ تَجْوَالَهُمْ فِي اَلشِّقَاقِ وَ جِمَاحَهُمْ فِي اَلتِّيهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ قَبْلِي فَجَزَتْ ؟ قُرَيْشاً ؟ عَنِّي اَلْجَوَازِي فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ سَلَبُونِي سُلْطَانَ اِبْنِ أُمِّي أقول : الأصل في الثلاثة الاولى هو كتاب كتبه عليه السلام للناس ليخطب به عبيد اللّه بن أبي رافع لمّا سأله الناس عن قوله في أبي بكر و عمر و عثمان بعد فتح معاوية لمصر ، و قتله محمّد بن أبي بكر . شرح عليه السلام في كتابه ذاك الأمر من بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى وفاته ، و أيام أبي بكر و عمر و عثمان . ثم بيعة الناس له .
ثم قيام الناكثة والقاسطة و المارقة عليه . ثم غارات معاوية ، و خذلان الناس له .
و العناوين الثلاثة الأول كلامه عليه السلام من ذاك الكتاب في بيان حال قريش يوم الشورى ، و اتّفاقهم على صرف الأمر عنه عليه السلام إلى عثمان . ذكر ذاك الكتاب الثقفي في ( غاراته ) ، و القتيبي في ( خلفائه ) ، و الكليني في ( رسائله ) . و ابن رستم الطبري في ( مسترشده ) 1 .
قال الثقفي و القتيبي في جملة نقلهما الكتاب « فجعلني الثاني سادس ستّة . فما كانوا لولاية أحد أشد كراهية منهم لولايتي عليهم فكانوا يسمعوني
-----------
( 1 ) جاء في الغارات للثقفي 1 : 302 ، و الإمامة و السياسة 1 : 154 ، و رسائل الكليني ، عنه كشف المحجة : 174 .
[ 430 ]
عند وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم احاجّ أبا بكر و أقول : يا معشر قريش إنّا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ القرآن و يعرف السنّة ، و يدين دين الحق . فخشي القوم إن أنا ولّيت عليهم ألاّ يكون لهم في الأمر نصيب ما بقوا .
فأجمعوا إجماعا واحدا فصرفوا الولاية عنّي الى عثمان ، و أخرجوني منها رجاء أن ينالوها و يتداولوها ، إذ يئسوا أن ينالوها من قبلي . ثم قالوا : هلمّ فبايع و إلاّ جاهدناك . فبايعت مستكرها ، و صبرت محتسبا . فقال قائلهم : يا ابن أبي طالب إنّك على هذا الأمر لحريص . فقلت : أنتم أحرص منّي و أبعد . أأنا أحرص اذا طلبت تراثي ، و حقّي الّذي جعلني اللّه و رسوله أولى به ، أم أنتم ؟
تضربون وجهي دونه ، و تحولون بيني و بينه . فبهتوا ، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين . اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش . فإنّهم قطعوا رحمي و أصغوا إنائي ،
و صغّروا عظيم منزلتي ، و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به منهم فسلبونيه . ثم قالوا : ألاّ إنّ في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه . فاصبر كمدا متوخما . أو مت متأسفا حنقا . فنظرت فإذا ليس معي رافد و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي . فضننت بهم عن الهلاك . فأغضيت على القذى ، و تجرّعت ريقي على الشجا ، و صبرت من كظم الغيظ على امرّ من العلقم و في الأوّل آلم للقلب من حزّ الشفار و في الثاني و آلم للقلب من حزّ الحديد .
و قال محمّد بن يعقوب « و لم يكونوا لولاية أحد منهم أكره منهم لولايتي . كانوا يسمعون و أنا احاجّ أبا بكر و أقول : يا معشر قريش أنا أحقّ بهذا الأمر منكم . ما كان منّا من يقرأ القرآن و يعرف السنّة ، و يدين دين اللّه الحق ، و إنّما حجّتي أنّي وليّ هذا الأمر من دون قريش ، أنّ نبيّ اللّه قال « الولاء لمن أعتق » فجاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعتق الرقاب من النار ، و أعتقها من الرقّ . فكان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ولاء هذه الامّة ، و كان لي بعده ما كان له . فما جاز لقريش من
[ 431 ]
فضلها عليها بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم جاز لبني هاشم على قريش ، و جاز لي على بني هاشم بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم غدير خم « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » إلاّ أن تدّعي قريش فضلها على العرب بغير النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإن شاءوا فليقولوا ذلك فخشى القوم إن أنا ولّيت عليهم أن آخذ بأنفاسهم ، و اعترض في حلوقهم ، و لا يكون لهم في الأمر نصيب . فأجمعوا علي إجماع رجل واحد منهم حتّى صرفوا الولاية عنّي إلى عثمان رجاء أن ينالوها و يتداولوها فيما بينهم .
فبيناهم كذلك إذ نادى مناد لا يدرى من هو ، و أظنّه جنيّا فأسمع أهل المدينة ليلة بايعوا عثمان . فقال :
يا ناعي الاسلام قم فانعه
قد مات عرف و بدا منكر
ما لقريش لا علا كعبها
من قدّموا اليوم و من أخّروا
إنّ عليّا هو أولى به
منه فولّوه و لا تنكروا
فكان لهم في ذلك عبرة ، و لو لا أنّ العامّة قد علمت بذلك لم أذكره فدعوني إلى بيعة عثمان ، فبايعت مستكرها ، و صبرت محستبا ، و علّمت أهل القنوت أن يقولوا : « اللّهمّ لك أخلصت القلوب ، و إليك شخصت الأبصار و أنت دعيت بالألسن ، و إليك تحوكم في الأعمال . فافتح بيننا و بين قومنا بالحق .
اللهم إنّا نشكوا اليك غيبة نبيّنا ، و كثرة عدوّنا ، و قلّة عددنا ، و هواننا على الناس ،
و شدّة الزمان ، و وقوع الفتن بنا . اللّهمّ ففرّج ذلك بعدل تظهره ، و سلطان حق تعرفه » .
فقال عبد الرحمن بن عوف : يا ابن أبي طالب إنّك على هذا الأمر لحريص .
فقلت : لست عليه حريصا . إنّما أطلب ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و حقّه ، و أنّ ولاء أمّته لي من بعده ، و أنتم أحرص عليه منّي إذ تحولون بيني و بينه ، و تصرفون وجهي دونه بالسيف . اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش . فإنّهم قطعوا رحمي ،
[ 432 ]
و أضاعوا أيّامي ، و دفعوا حقّي ، و صغّروا قدري ، و عظيم منزلتي ، و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به منهم فاستلبونيه ثم قالوا : إصبر مغموما أو مت متأسّفا . و ايم اللّه لو استطاعوا أن يدفعوا قرابتي كما قطعوا سببي فعلوا ،
و لكنّهم لا يجدون إلى ذلك سبيلا إلى أن قال :
فقال ( لي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ) : يا ابن أبي طالب لك ولاء امّتي . فإن ولّوك في عافية و أجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم . و إن اختلفوا عليك فدعهم و ما هم فيه . فإنّ اللّه سيجعل لك مخرجا . فنظرت فإذا ليس لي رافد ، و لا معي مساعد ، إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الهلاك ، و لو كان لي بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم عمّي حمزة ، و اخي جعفر ، لم ابايع كرها ، و لكنّني بليت برجلين حديثي عهد بالاسلام العباس و عقيل . فأغضيت عيني على القذى ، و تجرّعت ريقي على الشجا ، و صبرت على أمرّ من العلقم و آلم للقلب من حزّ الشفار . و مثله قال ابن رستم الطبري مع اختلاف يسير .
و أما العنوان الرابع فذكره ابن قتيبة في جواب كتاب أخيه عقيل ، و قد كان وصل إليه كتابه في الطريق لمّا شخص عليه السلام من المدينة إلى البصرة .
و في كتاب عقيل إليه عليه السلام و انّي خرجت معتمرا فلقيت عائشة معها طلحة و الزبير و ذووهما و هم متوجّهون إلى البصرة . قد أظهروا الخلاف ،
و نكثوا البيعة ، و ركّبوا عليك قتل عثمان ، و تبعهم على ذلك كثير من الناس من طغاتهم و أوباشهم . ثم مرّ عبد اللّه بن أبي سرح في نحو من أربعين راكبا من أبناء الطلقاء من بني اميّة . فقلت لهم و عرفت المنكر في وجوههم أ بمعاوية تلحقون عداوة للّه ، و اللّه إنّها منكم ظاهرة غير مستنكرة تريدون بها اطفاء نور اللّه و تغيير أمر اللّه إلى أن قال :
فكتب علي عليه السلام في جوابه : « تذكر في كتابك انّك لقيت ابن أبي سرح في
[ 433 ]
أربعين من أبناء الطلقاء من بني اميّة متوجّهين إلى الغرب ، و ابن أبي سرح يا أخي طالما كاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و صدّ عن كتابه و سنته و بغاهما عوجا . فدع ابن أبي سرح و قريشا و تركاضهم في الضلال . فإنّ قريشا قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبل اليوم ، و جهلوا حقّي ،
و جحدوا فضلي و نصبوا لي الحرب ، و جدّوا في إطفاء نور اللّه . اللّهمّ فاجز قريشا عنّي بفعالها ، فقد قطعت رحمي ، و ظاهرت علي ، و سلبتني سلطان ابن عمّي ، و سلّمت ذلك لمن ليس في قرابتي ، و حقّي فى الاسلام ، و سابقتي الّتي لا يدّعي مثلها مدّع إلاّ أن يدّعي ما لا أعرف ، و لا أظن اللّه يعرفه » 1 .
و نقله ( الأغاني ) في عنوان ذكر الخبر في مقتل ابني عبيد اللّه بن العباس راويا له باسناده عن أبي مخنف ، عن سليمان بن أبي راشد ، عن ابن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد 2 .
و رواه ( غارات الثقفي ) كما نقله ابن أبي الحديد عند ذكر خطبته عليه السلام « أيّها الناس المجتمعة أبدانهم » 3 .
قوله عليه السلام في العنوان الأوّل « فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي .
فضننت بهم عن الموت » . و في العنوان الثالث « فنظرت فإذا ليس لي رافد ، و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي . فضننت بهم عن المنية » الأصل فيهما واحد و قد عرفت أنّه عليه السلام قاله لمّا اتفق قريش الطلقاء مع عبد الرحمن بن عوف حكم عمر على صرف الامر عنه عليه السلام إلى عثمان ، و أنّهم قالوا له إن لا تبايع عثمان نقاتلك ،
و قد كان عمر أيضا دعا قبل موته أبا طلحة الأنصاري ، و قال له : كن في
-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 54 56 ، و النقل بتلخيص .
-----------
( 2 ) الأغاني 16 : 268 .
-----------
( 3 ) الغارات 2 : 428 ، و شرح ابن أبي الحديد 1 : 155 ، شرح الخطبة 29 .
[ 434 ]
خمسين رجلا من قومك فاقتل من أبى من ستّة الشورى حكمي و حكمية ابن عوف ، و قد كان علم أنّ الآبي منهم إنّما هو أمير المؤمنين عليه السلام فنظر عليه السلام فلم ير له رافدا و معينا ، و لا ذابّا و مدافعا عنه ، و لا مساعدا له و ناصرا إلاّ أهل بيته . فان أرادوا الدفاع عنه عليه السلام قتلوا كما قتل أهل بيت الحسين عليه السلام يوم الطف لمّا ساعدوه . فضنّ عليه السلام أي بخل بهم لنفاسهتم عن المنية أي الموت ، و الأصل في الضنّة البخل عن شيء نفيس يقال « علق مضنّة » : أي شيء نفيس علق القلب به فلا يرضى ببذله .
و نفاسة أهل بيته عليهم السلام معلومة ، و قد أخبر اللّه سبحانه عن نفاستهم في قوله عزّ اسمه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا 1 .
و كذلك أخبر رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن نفاستهم في قوله « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق » 2 ، و في قوله « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض و إن تمسّكتم بهما لن تضلوا أبدا » 3 .
و لأنّ بهم قوام الأرض كما بالكواكب قوام السماء ، و لو هلكوا لهلك أهل الأرض ، و لأنّهم كانوا حججه على عباده ، و لا يخلي عزّ اسمه أرضه من حجّة طرفة عين .
و قوله عليه السلام في الأوّل « و أغضيت على القذى » و أمّا ما في ( المصرية )
-----------
( 1 ) الاحزاب : 33 .
-----------
( 2 ) حديث السقيفة أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 343 ، و ابو يعلى في مسنده ، و عنه المطالب العالية 4 : 75 ح 4003 و 4004 ، و غيرهم عن أبي ذر و علي عليه السلام و ابن عباس و أبي سعيد و غيرهم .
-----------
( 3 ) حديث الثقلين أخرجه مسلم في صحيحه 4 : 1873 و 1874 ح 36 ، و 37 و الترمذي في سننه 5 : 663 ، ح 3788 و الحاكم في المستدرك 3 : 148 ، و جماعة كثيرة اخرى .
[ 435 ]
« عن القذى » بدل « على القذى » فتصحيف 1 .
« و شربت على الشجا ، و صبرت على أخذ الكظم ، و على أمرّ من طعم العلقم » و في ( ابن ميثم ) الّذي نسخته بخط مصنّفه « من العلقم » بدل « من طعم العلقم » 2 و قوله عليه السلام في الثالث : « فأعضيت على القذى ، و جرعت ريقي على الشجار و صبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم ، و آلم للقلب من حزّ الشفار » أيضا الأصل فيهما واحد كما عرفت .
و الإغضاء على القذى الّذي معناه غضّ البصر على ما دخل فيه من التراب كرها ، و كان عليه السلام في إكراههم له على بيعة عثمان مصداق ما قيل « الكريم ربّما أغضى و بين جنبيه نار الغضا » « و الشرب على الشّجا » و « جرع الريق على الشجا » معناه أن يكون اعترض في حلقه شيء حتى يجفّ لعابه .
فيكون شربه ، و طلب الرطوبة لحلقه حتّى يتنفّس في غاية الشدّة و كان عليه السلام في ذلك مصداق ما قيل « عليك بالكظم ، و ان شجيت بالعظم » .
و صبر عليه السلام من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم و العلقم شجر مرّ و يقال للحنظل و كلّ شيء مرّ علقم . و قال في ذلك السيّد الحميري :
لم يشكروا لمحمّد إنعامه
أفيشكرون لغيره إن أنعما
اللّه منّ عليهم بمحمّد
و هداهم و كسا الجلود و أطعما
ثم انهروا لوصيّه و وليّه
بالمنكرات فجرّعوه العلقما
و صبر عليه السلام في ذلك على ما هو آلم للقلب من حزّ الشفار : أي قطع السكّين . روى الجوهري و الثقفي في ( سقيفتيهما ) و عوانة في ( شوراه ) عن الشعبي عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال : كنت جالسا بالمسجد حين
-----------
( 1 ) لفظ نهج البلاغة 1 : 67 ، و شرح ابن أبي الحديد 1 : 122 ، و شرح ابن ميثم 2 : 26 ، « على القذى » .
-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم 2 : 26 .
[ 436 ]
بويع عثمان فجئت إلى المقداد . فسمعته يقول : « و اللّه ما رأيت مثل ما اتى إلى أهل هذا البيت » و كان عبد الرحمن بن عوف جالسا فقال : و ما أنت و ذاك يا مقداد . قال المقداد : « إنّي و اللّه احبّهم بحبّ رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّي لأعجب من قريش و تطاولهم بفضل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و انتزاعهم سلطانه من أهله » قال عبد الرحمن : اما و اللّه لقد أجهدت نفسي لكم . قال المقداد : « أما و اللّه لقد تركت رجلا من الّذين يأمرون بالحقّ و به يعدلون ، أما و اللّه لو أنّ لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي ايّاهم ببدر واحد » فقال له عبد الرحمن : ثكلتك امّك لا يسمعنّ هذا الكلام الناس . فإنّي أخاف أن تكون صاحب فتنة و فرقة . و تربدّ وجهه . ثم قال : « لو أعلم أنّك إيّاي تعني لكان لي و لك شأن . قال المقداد : « إيّاي تهدّد يا ابن ام عبد الرحمن ؟ » ثم قام فانصرف . قال جندب : فاتّبعته و قلت له : يا عبد اللّه أنا من أعوانك . فقال : رحمك اللّه إنّ هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان و لا الثلاثة فدخلت من فوري ذلك على علي عليه السلام . فلمّا جلست إليه قلت : يا أبا الحسن و اللّه ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك . فقال : صبر جميل و اللّه المستعان . فقلت : و اللّه انّك لصبور قال : فإن لم أصبر فماذا أصنع . قلت : « إنّي جلست إلى المقداد و عبد الرحمن بن عوف ، فقالا كذا و كذا ، ثم قام المقداد فاتّبعته فقلت له كذا فقال لي كذا » . فقال علي عليه السلام : صدق المقداد . فما اصنع ؟
فقلت : « تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك و تخبرهم أنّك أولى بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك . فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين . فإن دانوا لك فذاك و إلاّ قاتلتهم ، و كنت أولى بالعذر قتلت أو بقيت و كنت عند اللّه على حجّة » . فقال « أ ترجو يا جندب أن يبايعني من كلّ عشرة واحد » ؟ قلت : أرجو ذلك . قال « لكنّي لا أرجو ذلك لا و اللّه ، و لا من المائة واحد ، و ساخبرك أنّ الناس إنّما ينظرون إلى قريش فيقولون : هم قوم
[ 437 ]
محمّد و قبيلته ، و أمّا قريش فتقول : إنّ آل محمّد يرون على الناس بنبوّته فضلا يرون أنّهم أولياء هذا الأمر دون قريش ، و دون غيرهم من الناس ، و أنّهم إن ولّوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا ، و متى كان في غيرهم تداولته قريش بينها . لا و اللّه لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا » . فقلت : جعلت فداك يا ابن عم رسول اللّه ، لقد صدعت قلبي بهذا القول . أفلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك ، و أدعو الناس إليك . فقال : يا جندب ليس هذا زمان ذاك ،
فانصرفت إلى العراق فكنت أذكر فضل علي عليه السلام على الناس . فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره ، و أحسن من أسمعه قولا من يقول : دع عنك هذا و خذ في ما ينفعك فاقول : « إنّ هذا مما ينفعني و ينفعك » . فيقوم عنّي و يدعني .
و زاد الجوهري في خبره : « حتّى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة أيّام ولينا فبعث إلىّ فحبسني حتّى كلّم فيّ فخلّى سبيلي » 1 .
و في ( سقيفة الجوهري ) و ( شورى عوانة ) عن الشعبي بعد ذكر بيعة ابن عوف لعثمان و أقبل عمّار ينادي :
يا ناعي الاسلام قم فانعه
قد مات عرف و بدا نكر
أما و اللّه لو أنّ لي أعوانا لقاتلتهم ، و اللّه لئن قاتلهم واحد لأكونن له ثانيا .
فقال علي عليه السلام « يا ابا اليقظان و اللّه لا أجد عليهم أعوانا ، و لا احبّ أن أعرضكم لما لا تطيقون » و بقي عليه السلام في داره ، و عنده نفر من أهل بيته ، و ليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان 2 .
و روى الخليل بن أحمد أنّ أعرابيا ورد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك
-----------
( 1 ) رواه الجوهري في السقيفة : 88 ، و الثقفي ، و عنه امالي المفيد : 169 ح 5 ، المجلس 21 ، و عوانة في الشورى ، و عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 391 ، شرح الخطبة 137 ، و النقل بتصرف .
-----------
( 2 ) رواه الجوهري في السقيفة : 87 ، و عوانة في الشورى ، و عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 391 ، شرح الخطبة 137 .
[ 438 ]
إلى أن قال بعد ذكره لمقامات علي عليه السلام طلب منه الوليد هجاءه . فقال له : أمثل هذا يستحق الهجاء ، و عزمه الحاذق ، و قوله الصادق ، و سيفه الفالق و إنّما يستحق الهجاء من سامه عليه ، و أخذ الخلافة ، و أزالها من الوراثة ، و صاحبها ينظر إلى فيئه ، و كأنّ الشبادع تلسعه الخبر و الشبادع : العقارب .
قول المصنّف : « و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدّمة إلاّ أنّي كرّرته هنا لاختلاف الروايتين » أقول : لم يمض الكلام كله في موضع واحد بل صدره : « اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش إلى و في الحق أن تمنعه » مضى في ذيل العنوان الثاني ، و ذيله « فنظرت » إلخ مضى في العنوان الأوّل .
قوله عليه السلام في الثاني : « و قد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ما في ( ابن ميثم ) و كذا ( ابن أبي الحديد و الخطيّة ) « و قال لي قائل إنّك يا ابن أبي طالب على هذا الأمر لحريص » 1 .
قال ابن أبي الحديد : قال عليه السلام : هذا الكلام يوم الشورى ، و القائل الّذي قال له « إنّك على هذا الأمر لحريص » سعد بن أبي وقاص مع روايته فيه « أنت بمنزلة هارون من موسى » و هذا عجب ، و قالت الامامية : قال يوم السقيفة و القائل أبو عبيدة بن الجراح 2 .
قلت : كيف نسب ما قاله إلى الامامية ، و قد روى محمّد بن يعقوب الكليني و محمّد بن جرير بن رستم الطبري و هما من قدماء الامامية : إنّه عليه السلام قاله يوم الشورى ، و قد عرفت من خبرهما أنّ القائل كان عبد الرحمن بن عوف لا أبو عبيدة الّذي قال .
-----------
( 1 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 2 : 475 ، و شرح ابن ميثم 3 : 329 ، أيضا نحو المصرية .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 475 ، و النقل بتلخيص .
[ 439 ]
ثم أيّ شيء يغني عنه في كونه كلامه عليه السلام يوم الشورى في صحة أمر يوم السقيفة ، و قد تضمّن قوله عليه السلام يوم الشورى بطلان أمر السقيفة ، و أنّه الأساس فمرّ في رواياتهم عن الثقفي ، و ابن قتيبة قوله عليه السلام يوم الشورى « فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي ، لأنّهم كانوا يسمعونني و أنا أحاجّ أبا بكر فأقول : يا معشر قريش ، إنّا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم إلى آخر ما مرّ 1 .
ثم لم ادر إلى أي شيء استند في قوله : إن القائل كان سعدا ، و خبر الثقفي الوارد من طريقهم و قد نقله نفسه في شرح قوله عليه السلام « و من كلام له عليه السلام لمّا قلّد محمّد بن أبي بكر مصر » خال من اسم القائل كخبر ابن قتيبة ، و المجمل يحمل على المفصل خبر الكليني و الطبري المصرّح بعبد الرحمن 2 .
و أيضا الجريء منهم على أن يقول له هذا الكلام ، و يخاطبه بذاك الخطاب إنّما كان عبد الرحمن لكونه حكم عمر في اختيار من شاء منهم .
« فقلت : بل انتم و اللّه أحرص و أبعد ، و أنا أخص و أقرب » إنّما قال عليه السلام « بل أنتم » مع أنّ القائل له « انّك لحريص » إنما كان واحدا لقوله عليه السلام قبل « و قال لي قائل » لكون باقيهم على رأيه . فيصحّ النسبة إلى جميعهم كما في قوله تعالى :
فعقروها 3 مع أنّ العاقر كان واحدا .
ثم الأصل في قول عبد الرحمن له عليه السلام « انّك على هذا الأمر لحريص » قول فاروقهم فقال له عليه السلام في مال قال للستّة كما قال ابن قتيبة « و ما يمنعني
-----------
( 1 ) مر في اوائل هذا العنوان .
-----------
( 2 ) جاء في الغارات 1 : 318 ، و عنه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 36 ، شرح الخطبة 69 ، و الإمامة و السياسة 1 : 155 ،
و رسائل الكليني ، عنه كشف المحجة : 179 .
-----------
( 3 ) الشمس : 14 .
[ 440 ]
منك يا علي إلاّ حرصك عليها » 1 .
و رماه بالرياء أيضا كما عابه بصغر السنّ . فرووا عن ابن عباس أنّه قال : دخلت على عمر يوما . فقال : يا ابن عباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتّى نحلته رياء . قلت : من هو ؟ قال : ابن عمّك . قلت : و ما يقصد بالرياء قال : يرشّح نفسه للخلافة . قلت : و ما يصنع بالترشيح ؟ قد رشّحه لها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فصرفت عنه . قال : كان شابّا حدثا فاستصغرت العرب سنّة ، و قد كمل الآن . ألم تعلم انّ اللّه لم يبعث نبيّا إلاّ بعد أربعين . قلت : أمّا أهل الحجى و النهى ما زالوا يعدّونه كاملا منذ رفع اللّه منار الاسلام ، و لكنّهم يعدّونه محروما مجدودا . فقال : أمّا إنّه سيليها بعد هياط ثم تزلّ قدمه ، و لا يقضي منها اربه ، و لتكونن شاهدا ذلك . ثم يتبين الصبح لذي عينين ، و تعلم العرب صحّة رأي المهاجرين الأوّلين الّذين صرفوها عنه بادئ بدء فليتني أراكم بعدي يا عبد اللّه إنّ الحرص محرمة و إنّ دنياك كظلّك 2 .
و أقول : أما قوله « يجتهد رياء للخلافة » فابن عباس أجابه باستخلاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له و إنّما أخّره هو و صاحبه ، و قد اعترف بذلك معاوية في كتابه إلى محمّد بن أبي بكر .
و أما قوله « بصغر سنّه » فأجابه أيضا بانّه عند أهل المعرفة كان من أوّل الاسلام الّذي كان يومئذ ابن عشر كاملا . فلا يضرّه طعن الأجلاف ،
و اولي الغلّ و الحقد مثله ، و من كان على رأيه .
و أجابه في موضع آخر بأنّ اللّه تعالى و رسوله ما استصغراه حيث أمراه بأخذ سورة البراءة من صاحبه .
-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 25 .
-----------
( 2 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 115 ، شرح الخطبة 226 ، و النقل بتلخيص .
[ 441 ]
و أما قوله بعدم استقرار الأمر له « فتعلم العرب صحّة رأي المهاجرين الأوّلين الّذين صرفوها عنه » فيقال له : أنت و صاحبك زلزلت أمره بمساعدة المنافقين و الطلقاء ، و قد ولّيت الأمر عثمان و بني اميّة أعداء النبي حتّى لا ثتبت له قدم إن ولي يوما ، و تبيّن الصبح لذي عينين بعملك ، و لا غرو ان لم يبصر الأعمى .
و كل أقواله صار منشأ لجرأة جمع و شبهة فريق حتّى سمّى كثير منهم خلافته فتنة كخلافة ابن الزبير ، و نحن لا نسوء من ذلك فيكفيهم ثلاثتهم ،
و يكفينا هو و أحد عشر من عترته الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا .
و من المضحك حديثه « ما بعث اللّه نبيّا إلاّ بعد أربعين » أو لم يسمع قوله تعالى في يحيى و آتيناه الحكم صبيا 1 و حكايته عن عيسى عليه السلام في مهده إنّي عبد اللّه آتاني الكتاب و جعلني نبيّا 2 .
كما أنّ من المضحك وعظه لأمير المؤمنين برسالة ابن عباس « إنّ الحرص محرمة » أو لم يقل ذلك لنفسه حيث أراد إحراق أهل بيت نبيّه ، و قتل من كان بمنزلة نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حرصا على نيل الامارة ، و لعمر اللّه و إن قال لصاحبه مغالطة « قدّمك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لديننا في أمرك بالصلاة لنا أفلا نرضاك لدنيانا للخلافة » 3 إلاّ أنّه ما أراد بذلك أن يصلّوا و يصوموا بل ليتأمّر عليهم مثل معاوية إلاّ أنّ معاوية أظهر ، و هو أسرّ ، و لكنّه إن لم يصرّح أفصح بما جرى على لسانه « أ فلا نرضاك لدنيانا » .
-----------
( 1 ) مريم : 12 .
-----------
( 2 ) مريم : 30 .
-----------
( 3 ) رواه عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 123 ، شرح الخطبة 26 ، و النقل بالمعنى .
[ 442 ]
« و إنّما طلبت حقّا لي ، و انتم تحولون بيني و بينه ، و تضربون وجهي دونه » أي : أنتم معشر قريش مع رأسكم فاروقكم الّذين نسبتموني إلى الحرص على هذا الأمر لم تفهموا معنى الحرص و مورد استعماله . فالحرص يقال لمن طلب شيئا لم يكن له ، و أما من طالب بحقّه الثابت الواضح عند الكلّ إذا طلبه من المتغلبين عليه لا يقال له إنّه حريص عليه و لو كان جادّا .
مع أنّه عليه السلام إنّما طلب وقتا أمكنه الطلب ، و هو يوم السقيفة و يوم الشورى دون قيام عمر بنصب أبي بكر له بقدر إتمام الحجّة ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة .
و كيف نسبوا إليه عليه السلام الحرص مع أنّه رضي بترك حقّه الثابت لما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف بيعته له بشرط عمله بسنّة الشيخين .
فأنكر عليه السلام عليه ذلك و طوى عنه كشحا مع زعمهم حرصه عليه السلام عليه دلالة على بطلان سنّتهما .
هذا ، و قال ابن حاطب : ابن الزبير طالما حرص على الامارة قيل له :
كيف ؟ قال : أمر أبو بكر أغيلمة من أبناء المهاجرين أنا فيهم بقتل لصّ . فقال ابن الزبير : أمّروني عليكم فأمّرناه ثم انطلقنا به فقتلناه .
قلت : و كان من حرصه على الامارة أنّه صار في من نصر عثمان مع كون أبيه في من قتل عثمان ، و مع كونه مثل أبيه في بغض عثمان إلاّ أنّه علم أنّ عثمان يقتل و علم أنّ الأمر يصير إلى أمير المؤمنين عليه السلام . فأراد أن يكون له مستمسك لادعاء الخلافة إن اتّفق يوم يمكنه القيام بأنّه لمّا نصر عثمان جعله وصيّه . فهكذا ادّعى يوم قيامه بعد يزيد و منّ يوما على معاوية بأنّه نصر عثمان . فقال له معاوية و كان يعرف الناس حق المعرفة فو اللّه لو لا شدّة بغضك لابن أبي طالب لجررت برجل عثمان مع الضبع .
[ 443 ]
« فلمّا قرعته بالحجّة » القرع بالحجّة استعارة . فالأصل في القرع ضرب الرأس بالعصا .
« في الملأ الحاضرين » الملأ : الجماعة في محلّ قيل لهم الملأ لا متلاء المحلّ بهم .
« هبّ كأنّه بهت لا يدري ما يجيبني به » هكذا في ابن أبي الحديد 1 و لكن في ( ابن ميثم ) : « بهت كأنّه لا يدري ما يجيبني به » و جعل « هبّ » رواية 2 ، و معنى هبّ استيقظ .
و وجه بهته و عدم درايته لجواب ، أنّ كلّهم كانوا مشاهدين لاستخلاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له ، و عارفين بسوابقه و مقاماته ، و أحقيّته بأقربيّته إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من كلّ أحد . فإذا ذكّرهم ذلك لا بدّ أن يبهتوا لعدم جواب لهم .
كما أنّ إبراهيم عليه السلام لما قال للملك الّذي يدّعي الربوبية إنّ اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب 3 بهت و لم يدر ما يجيبه .
هذا ، و ممّا ذكروا من الجواب المسكت للخصم أنّ ثابت بن عبد اللّه بن الزبير نظر إلى أهل الشام . فقال : إنّي لأبغض هذه الوجوه . فقال له سعيد بن عمرو بن عثمان : تبغضهم لأنّهم قتلوا أباك . قال : صدقت و لكنّ أباك قتله المهاجرون و الأنصار .
و أنّ معاوية قال يوما : أيّها الناس إنّ اللّه فضّل قريشا بثلاث . فقال :
و انذر عشيرتك الأقربين 4 فنحن عشيرته ، و قال : و انّه لذكر لك
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 475 .
-----------
( 2 ) في شرح ابن ميثم 3 : 329 ، نقلا عن نسختين « هبّ » و « بهت » .
-----------
( 3 ) البقرة : 258 .
-----------
( 4 ) الشعراء : 214 .
[ 444 ]
و لقومك 1 و نحن قومه و قال : لإيلاف قريش إلى آخر السورة 2 ، و نحن قريش . فأجابه رجل من الأنصار فقال : على رسلك يا معاوية فإنّ اللّه يقول :
و كذّب به قومك 3 و أنتم قومه ، و قال : و لمّا ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدّون 4 و أنتم قومه ، و قال : و قال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجورا 5 و أنتم قومه ثلاثة بثلاثة ، و لو زدتنا لزدناك ،
فأفحمه .
قلت : و افترى معاوية في كونه عشيرته ، و إنّما عشيرته بنو هاشم ، و لذا جمعهم حسب بعد نزول الآية ، و أنذرهم ، و الأخيران لا مدح فيهما مع أنّ معاوية كان مصداق قوله تعالى : و لو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة و كلمهم الموتى و حشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا 6 فأيّ أثر لإنذاره ،
و أيّ وقت كان القرآن ذكرا له .
و قالوا : كان عدي بن حاتم فقئت عينه يوم الجمل . فقال له ابن الزبير يوما : متى فقئت عينك ؟ قال : يوم قتل أبوك ، و هربت عن خالتك ، و أنا للحقّ ناصر و أنت له خاذل .
قوله عليه السلام في ذيل الثاني « اللّهمّ إنّي استعديك على قريش و من أعانهم فإنّهم قطعوا رحمي ، و صغّروا عظيم منزلتي ، و أجمعوا على منازعتي أمرا هو لي . ثم قالوا :
الا إنّ في الحق أن تأخذه و في الحق أن تتركه » و قوله عليه السلام في صدر الثالث « اللّهمّ إنّي
-----------
( 1 ) الزخرف : 44 .
-----------
( 2 ) قريش : 1 .
-----------
( 3 ) الانعام : 66 .
-----------
( 4 ) الزخرف : 57 .
-----------
( 5 ) الفرقان : 30 .
-----------
( 6 ) الانعام : 111 .
[ 445 ]
أستعديك على قريش ، و من أعانهم . فإنّهم قد قطعوا رحمي و أكفؤوا إنائي ، و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري ، و قالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه و في الحق أن تمنعه » أيضا الأصل فيهما واحد كما عرفت .
ثم قوله في الثالث « و من أعانهم » إنّما نقله ابن أبي الحديد 1 و ليس في ( ابن ميثم ) 2 و لا بد أنّه لم يكن في النهج حيث إنّ نسخته بخط مصنّفه ، و لا بدّ أنّه كان في نسخة ابن أبي الحديد حاشية اخذا من الثاني خلط بالمتن .
و أمّا قوله في الثاني : « ان تأخذه » و قوله : « أن تتركه » بالتاء فيهما . فكذا في ( المصرية ) ، و نقل ابن أبي الحديد 3 الأول « نأخذه » بالنون ، و الثاني « تتركه » بالتاء ، و قال معناه « قالوا له الحق أخذنا و تركك » و نقل « ثم » عن خط الرضيّ كونهما بالنون ، و قال معناه « قالوا له نتصرف بالأخذ و الترك دونك » 4 .
كما أنّ قوله في الثالث : « أن تأخذه » و « أن تمنعه » بالتاء فيهما هو في ( المصرية ) و قال ابن أبي الحديد : قال الراوندي في خط الرضيّ تأخذه بالتاء و قيل : إنّه بالنون 5 .
و كيف كان ، فالصواب أن « نأخذه » فيهما بالنون و « تتركه » و « تمنعه » فيهما بالتاء ، و المراد أنّ قريشا قالوا مكابرة في قبال حجّته عليه السلام أخذنا حقّ ، و تركك و منعك حق ، و يشهد لما قلنا رواية الثقفي ،
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 36 .
-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم 4 : 49 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 475 .
-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 3 : 331 .
-----------
( 5 ) كذا قال ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 37 ، لكن الراوندي في شرحه 2 : 152 ، ذكر كونه بقاء و لم يوجد فيه نسبة إلى خط الرضي .
[ 446 ]
و رواية ابن قتيبة للكلام المتقدّمتان 1 .
هذا و قال ابن أبي الحديد بعد الثالث : « لم يؤرخ الوقت الّذي قال عليه السلام هذا الكلام ، و حمله أصحابنا على أنّه قاله يوم الشورى » 2 و قال ابن ميثم يشبه أن يكون صدور هذا الكلام منه عليه السلام حين خروج طلحة و الزبير 3 .
قلت : قد عرفت من أسانيده الأربعة أنّه جزء كلامه عليه السلام بعد قتل محمّد بن أبي بكر ، و فتح مصر . قال : الكلام كله لمّا سألوه عن رأيه عليه السلام في حقّ الخلفاء و الثلاثة فكتب لهم ما مرّ .
و حمل أصحاب ابن أبي الحديد له على أنّه قاله يوم الشورى غير مفيد لهم لأنّه كما تضمن شكايته عليه السلام من الشورى تضمن شكايته من السقيفة ،
و هل مؤسس الشورى و مؤسس السقيفة غير فاروقهم مع أنّ مراده عليه السلام بقوله « اللّهمّ انّي أستعينك أو أستعديك على قريش » عمومهم حتّى صدّيقهم و فاروقهم . فإنّه عليه السلام لم يقل « أستعينك على اولئك » : أي الّذين حكى إجبارهم له على بيعة عثمان بل قال « على قريش » : أي : هؤلاء و من أسّس لهم .
و ممّا يوضح إرادته العموم كلام المقداد لابن عوف لمّا بايع عثمان « ما رأيت مثل ما أتي على أهل هذا البيت بعد نبيّهم . إنّي لأعجب من قريش إنّهم تركوا رجلا ما أقول إنّ أحدا أعلم و لا أقضى منه بالعدل ، و إنّي لأعجب من تطاولهم بفضل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ثم انتزاعهم سلطانه من أهله لو أنّ لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي إيّاهم ببدر و احد » 4 .
-----------
( 1 ) كذا في الغارات 1 : 309 ، و بفرق في الإمامة و السياسة 1 : 155 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 37 ، و النقل بالمعنى .
-----------
( 3 ) شرح ابن ميثم 4 : 50 .
-----------
( 4 ) رواه الجوهري في السقيفة : 88 ، و الطبري في تاريخه 3 : 279 ، سنة 23 ، و المسعودي في مروج الذهب 2 : 343 ،
و غيرهم و النقل بالمعنى .
[ 447 ]
قوله عليه السلام في الثالث : « اللّهمّ إنّي استعينك على قريش و من أعانهم » روى أبو مخنف في جمله عنه عليه السلام قال : « ما لي و لقريش أما و اللّه لقد قاتلتهم كافرين و لأقتلنّهم مفتونين إلى أن قال و اللّه لأبقرن الباطل حتّى يظهر الحق من خاصرته فقل لقريش فلتضجّ ضجيجها » 1 .
و في ( معجم الادباء ) قرأت بخط الازهري ، قال المازني : لم يصحّ عندنا تكلّم علي عليه السلام بشيء من الشعر غير قوله :
تلكم قريش تمنّانى لتقتلني
و لا وجدّك ما برّوا و لا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمّتي لهم
بذات روقين لا يعفو لها أثر
« بذات روقين » أي : بداهية عظيمة 2 .
و في أمثال أبي عكرمة الضبي يقال : إنّ عليّا عليه السلام تمثّل بقول الشاعر في المثل لظالمية الحيّة .
لعمري إنّي لو اخاصم حيّة
إلى فقعس ما أنصفتني فقعس
فو اللّه ما أدري و إنّي للابس
لكم لبسة أيّ النسيجين ألبس
ألبسة بقيا لا بقاء على الّذي
تريدون بي أم أستمرّ فأعبس 3
قوله عليه السلام « فانهم قطعوا رحمي » في ( إرشاد المفيد ) : روى العبّاس بن عبد اللّه العبدي ، عن عمرو بن شمر عن رجاله قالوا : سمعنا عليّا عليه السلام يقول : ما رأيت منذ بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم رخاء و الحمد للّه . و اللّه لقد خفت صغيرا ،
و جاهدت كبيرا اقاتل المشركين ، و اعادي المنافقين حتّى قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فكانت الطامّة الكبرى 4 .
-----------
( 1 ) رواه عن أبي مخنف في الجمل ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 78 ، شرح الخطبة 6 .
-----------
( 2 ) جاء في معجم الادباء 14 : 43 .
-----------
( 3 ) الأمثال لأبي عكرمة الضبي : 69 70 .
-----------
( 4 ) الارشاد : 151 .
[ 448 ]
« و صغّروا عظيم منزلتي » في ( صفين نصر ) ، و ( مروج المسعودي ) ،
و غيرهما : كتب معاوية إلى محمّد بن أبي بكر في جواب كتابه و كان في كتاب محمد بن أبي بكر إليه « فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي ، و هو وارث رسوله ، و وصيه ، و أبو ولده ، أوّل الناس له اتّباعا ، و أقربهم به عهدا . يخبره بسرّه ، و يطلعه على أمره ، و أنت عدوّه و ابن عدوّه » إلى أن قال « ذكرت في كتابك فضل ابن أبي طالب ، و قديم سوابقه ، و قرابته إلى الرسول ، و مواساته إيّاه في كلّ هول و خوف . فكان احتجاجك علي و عيبك لي إلى أن قال فقد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب ، و حقّه لازما لنا مبرورا علينا . فلمّا اختار اللّه لنبيّه ما عنده ، و أتمّ له ما وعده و أظهر دعوته و ابلج حجته قبضه اللّه إليه فكان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزّه حقّه ، و خالفه على أمره . على ذلك اتّفقا و اتّسقا ، ثم إنّهما دعواه إلى بيعتهما فابطأ عنهما ، و تلكّأ عليهما فهمّا به الهموم ،
و أرادا به العظيم . ثم إنّه بايع لهما و سلّم لهما ، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ،
و لا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضهما اللّه إلى أن قال :
مشيرا إلى نفسه و قيامه في قباله عليه السلام مهّد أبوك مهاده و بنى له ملكه و شاده . فإن يك ما نحن فيه صوابا . فأبوك أوّله ، و إن يكن جورا ، فأبوك أسّسه ،
و نحن شركاؤه ، و بهديه أخذنا ، و بفعله اقتدينا ، و لو لا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب و سلّمنا له ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك . فاحتذينا بمثاله ،
و اقتدينا بفعاله . فعب أباك أو دع » 1 .
« و أكفؤوا إنائي » أي : اكبّوه ، و قلبوه . روت العامّة أنّ عمر قال لابن عباس :
أنتم أهل رسول اللّه و آله و بنو عمّه ، فما تقول في منع قومكم منكم ؟ قال : لا
-----------
( 1 ) رواه ابن مزاحم في وقعة صفين : 119 ، و المسعودي في مروج الذهب 3 : 12 ، و البلاذري في انساب الاشراف 2 :
393 ، و اللفظ للمسعودي .
[ 449 ]
أدري علّتها ، و اللّه ما أضمرنا لهم إلاّ خيرا » قال : اللّهمّ غفرا . إنّ قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوّة و الخلافة فتذهبوا في السماء شمخا و بذخا ، و لعلكم تقولون إنّ أبا بكر أوّل من أخّركم أما إنّه لم يقصد ذلك ، و لكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم ممّا فعل ، و لو لا رأي أبي بكر فيّ لجعل لكم من الأمر نصيبا ،
و لو فعل ما هنّأكم مع قومكم انّهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره 1 .
قلت : إنّ اللّه جلّ و علا جمع لهم النبوّة و الخلافة . ألم يقل نبيّهم لهم « من كنت مولاه و أولى به من نفسه . فعليّ مولاه و أولى به من نفسه » ؟
و أما كراهة قومهم ذلك فقد قال عزّ اسمه ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل اللّه فأحبط أعمالهم 2 و لقد أجاب ابن عباس عمر بذلك في خبر آخر 3 .
و رووا أيضا عن أمير المؤمنين عليه السلام قال مشيرا إلى أبي بكر و عمر « اصغيا باناءنا و حملا الناس على رقابنا » 4 .
« و أجمعوا على منازعتي أمرا هو لي أو حقّا كنت أولى به من غيري » روى أبو هلال في ( أوائله ) : انّ أبا الهيثم بن التيّهان و هو اوّل من ضرب على يد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم للبيعة في أوّل نبوّته قام خطيبا بين يدي علي عليه السلام . فقال : إنّ حسد قريش إيّاك على وجهين : أمّا خيارهم فتمنّوا أن يكونوا مثلك منافسة في الملأ و ارتفاع الدرجة ، و أمّا أشرارهم فحسدوا حسدا أثقل القلوب ، و أحبط الأعمال ، و ذلك أنّهم رأوا عليك نعمة قدّمك اليها الحظّ ، و أخّرهم عنها الحرمان .
فلم يرضوا أن يلحقوك حتّى طلبوا أن يسبقوك ، فبعدت عليهم و اللّه الغاية ،
و أسقط المضمار . فلمّا تقدّمتهم بالسبق ، و عجزوا عن اللحاق . بلغوا منك ما
-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 94 ، شرح الخطبة 226 .
-----------
( 2 ) محمد : 9 .
-----------
( 3 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 107 ، شرح الخطبة 226 .
-----------
( 4 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 476 ، شرح الخطبة 170 .
[ 450 ]
رأيت ، و كنت و اللّه أحقّ قريش بشكر قريش . نصرت نبيّهم حيّا ، و قضيت عنه الحقوق ميّتا ، و اللّه ما بغيهم إلاّ على أنفسهم ، و لا نكثوا إلاّ بيعة اللّه . يد اللّه فوق أيديهم فها نحن معاشر الأنصار ، أيدينا و ألسنتنا لك ، فأيدينا على من شهد ،
و ألسنتنا على من غاب 1 .
« ثم قالوا في الحق أن ناخذه و في الحقّ أن تتركه أو أن تمنعه » روى الزبير بن بكار كما في ( أمالي المفيد ) انّ ابن عباس حضر مجلس معاوية فأقبل عليه معاوية . فقال له : إنّكم تريدون أن تحرزوا الإمامة كما اختصصتم بالنبوّة و اللّه لا يجتمعان أبدا . إنّ حجّتكم في الخلافة مشتبهة على الناس . إنّكم تقولون : نحن أهل بيت النبوّة فما بال خلافة النبي في غيرنا و هذه شبهة لانّها تشبه الحق و بها مسحة من العدل و ليس الأمر كما تظنون . إنّ الخلافة تتقلب في أحياء قريش برضى العامّة و شورى الخاصة و لسنا نجد الناس يقولون ليت بني هاشم ولونا و لو ولونا كان خيرا لنا في دنيانا و آخرتنا ، و لو كنتم زهدتم فيها أمس كما تقولون ما قاتلتم عليها اليوم ، و و اللّه لو وليتموها يا بني هاشم لما كانت ريح عاد و صاعقة ثمود باهلك للناس منكم .
فقال له ابن عباس : امّا قولك : إنّا نحتجّ بالنبوّة في استحقاق الخلافة فهو و اللّه كذلك ، و إن لم تستحقّ الخلافة بالنبوّة فبم تستحق .
و امّا قولك : انّ النبوة و الخلافة لا تجتمعان لأحد ، فأين قوله عزّ و جلّ :
أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما 2 فالكتاب هو النبوّة و الحكمة هي السنّة و الملك هو الخلافة ، فنحن آل ابراهيم و الحكمة جارية فينا إلى يوم القيامة .
-----------
( 1 ) الاوائل : 176 .
-----------
( 2 ) النساء : 54 .
[ 451 ]
و امّا دعواك على حجّتنا أنّها مشتبهة فليس كذلك ، فإنّ حجّتنا أضوأ من الشمس ، و أنور من القمر ، كتاب اللّه معنا ، و سنّة نبيّه فينا ، و انّك لتعلم ذلك و لكن شيء عطفك و صعّرك ، قتلنا أخاك و جدك و خالك و عمّك . فلا تبك على أعظم حائلة و أرواح في النار هالكة ، و لا تغضبوا لدماء أراقها الشرك ، و أحلّها الكفر ، و وضعها الدين .
و امّا ترك تقديم الناس لنا في ما خلا و عدولهم عن الاجماع علينا فما حرموا منّا أعظم ممّا حرمنا منهم ، و كل أمر إذا حصل ثبت حقّه و زال باطله .
و أمّا قولك : إنّا لو ملكنا كان ملكنا أهلك للناس من ريح عاد و صاعقة ثمود فقوله تعالى : و ما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين 1 يكذّبك ، فنحن أهل بيته الأدنون ، و رحمة اللّه بنا خلقه ، كرحمة اللّه بنبيّه خلقه 2 .
و أقول : و صدق معاوية ، لو وليها بنو هاشم ، أي أمير المؤمنين عليه السلام ،
كانوا أهلك من ريح عاد و صاعقة ثمود ، لكن لمعاوية و أضرابه أحزاب الشيطان ، و أمّا للمؤمنين فكانوا رحمة اللّه الواسعة ، و نعمته السابغة . قال تعالى : أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم 3 .
و قالت سيّدة نساء العالمين لمّا غصبوا الخلافة من أمير المؤمنين عليه السلام في خطبتها في فدك : « و ما نقموا من أبي الحسن عليه السلام إلاّ تنمّره و شدّة و طأته في ذات اللّه » 4 .
و في زيارته عليه السلام : « كنت على الكافرين عذابا صبّا و نهبا ،
-----------
( 1 ) الانبياء : 107 .
-----------
( 2 ) امالي المفيد : 14 ح 4 ، المجلس 2 ، و النقل بتصرف .
-----------
( 3 ) الفتح : 29 .
-----------
( 4 ) رواه عن سقيفة الجوهري الاربلي في كشف الغمة 2 : 111 ، و غيره ، و النقل بالمعنى .
[ 452 ]
و للمؤمنين غيثا و خصبا » 1 .
« فاصبر مغموما أو مت متأسّفا » كتب معاوية إليه عليه السلام : « عرفنا ذلك في نظرك الشّزر ، و في قولك الهجر ، و في تنفسك الصّعداء » 2 .
و مرّ قوله عليه السلام لجندب : « و اللّه لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا » ،
و مرّ قوله عليه السلام له : « فإن لم أصبر فما ذا أصنع ؟ » ، و مرّ قول جندب له عليه السلام يا ابن عمّ رسول اللّه لقد صدعت قلبي بهذا القول 3 .
و قال المدائني : قال عبد اللّه بن جنادة : قدمت من الحجاز اريد العراق في أوّل أمارة علي عليه السلام . فمررت بمكّة . فاعتمرت . ثم قدمت المدينة . فدخلت مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذ نودي : الصلاة جامعة . فاجتمع الناس ، و خرج علي عليه السلام متقلّدا سيفه . فشخصت الأبصار نحوه . فحمد اللّه و صلّى على رسوله . ثم قال :
أمّا بعد فإنّه لمّا قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قلنا : نحن أهله و ورثته ، و عترته و أولياؤه دون الناس . لا ينازعنا سلطانه أحد ، و لا يطمع في حقّنا طامع إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا ، فصارت الإمرة لغيرنا ، و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف و يتعزز علينا الذليل . فبكت الأعين منّا لذلك ، و خشنت الصدور ،
و جزعت النفوس . و أيم اللّه لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، و أن يعود الكفر و يبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم الخبر 4 .
قوله عليه السلام في الرابع : « فدع عنك قريشا و تركاضهم في الضّلال » في ( الصحاح ) الركض : تحريك الرجل قال تعالى اركض برجلك 5 و ركضت
-----------
( 1 ) رواه المجلسي في بحار الأنوار 100 : 322 ، و بفرق يسير في المصدر 100 : 376 ، ضمن زيارة عن عدة مصادر .
-----------
( 2 ) رواه ابن مزاحم في وقعة صفين : 87 ، و ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 457 ، شرح الكتاب 28 .
-----------
( 3 ) مرّ في هذا العنوان .
-----------
( 4 ) رواه عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 101 ، شرح الخطبة 22 .
-----------
( 5 ) ص : 42 .
[ 453 ]
الفرس برجلي إذا استحثثته ليعدو ، ثم كثر حتّى قيل ركض الفرس إذا عدا .
و الصواب ركض الفرس مجهولا فهو مركوض 1 .
قلت : و يفسّر التركاض بالفارسية بقولهم « تاخت كردن » .
« و تجوالهم » أي : تطوافهم . و تجوال كتركاض للمبالغة ففي الجمهرة « رجل تكلام كثير الكلام ، و رجل تلقام : عظيم اللقم ، و تلعاب : كثير اللعب » و قد عقد لما جاء على تفعال بابا 2 .
« في الشقاق » أي : الخلاف و العداوة .
« و جماحهم في التيه » قال الجوهري : الجموح : الّذي يركب هواه فلا يمكن ردّه 3 ، و التيه المفازة يتاه فيها . و تاه في الأرض : أي : ذهب متحيرا .
« فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبلي » قال الصادق عليه السلام في قوله تعالى : أ لم تر إلى الّذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا 4 عنى اللّه تعالى بهم قريشا الذين عادوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و جحدوا وصية وصيّه 5 .
و قال الباقر عليه السلام على رواية العامة عنه عليه السلام : ما لقينا من ظلم قريش إيّانا ، و تظاهرهم علينا ، و ما لقي شيعتنا و محبّونا من الناس ، أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبض ، و قد أخبر أنّا أولى الناس بالناس . فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، و احتجّت على الأنصار بحقّنا و حجّتنا .
ثم تداولتها قريش ، واحدا بعد واحد حتّى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ،
-----------
( 1 ) صحاح اللغة 3 : 1079 ، مادة ( ركض ) .
-----------
( 2 ) جمهرة اللغة 3 : 388 .
-----------
( 3 ) صحاح اللغة 1 : 360 ، مادة ( جمح ) .
-----------
( 4 ) ابراهيم : 28 .
-----------
( 5 ) رواه الكليني في الكافي 1 : 217 ح 4 .
[ 454 ]
و نصبت الحرب لنا الخبر 1 .
و في ( ذيل الطبري ) : عن عبد المطلب بن ربيعة الهاشمي قال : دخل العباس على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو مغضب و أنا عنده . فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : ما أغضبك ؟ فقال : يا رسول اللّه ما لنا و لقريش إذا تلاقوا تلاقوا بوجوه مستبشرة ، و إذا لقونا لقونا بغير ذلك ؟ فغضب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتى احمرّ وجهه حتّى استدرّ عرق بين عينيه و كان إذا غضب استدرّ فلمّا سرّي عنه قال :
« و الّذي نفس محمّد بيده لا يدخل قلب امرئ من الايمان أبدا حتّى يحبّكم للّه و لرسوله » 2 .
و أمّا إجماعهم على حرب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فمعلوم ، و في ( الطبري ) : قال سعد بن معاذ بعد أن حكم في بني قريظة بما حكم اللّهمّ إنّك قد علمت أنّه لم يكن قوم أحبّ إليّ أن اقاتل أو اجاهد من قوم كذّبوا رسولك ، اللّهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فابقني لها ، و إن كنت قد قطعت الحرب بينه و بينهم فاقبضني إليك إلى أن قال فلمّا انصرف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الخندق قال « الآن نغزو قريشا و لا يغزونا » فكان كذلك حتّى فتح اللّه على رسوله مكّة 3 .
و الرجلان و إن لم يحارباه ظاهرا بل صارا من تبعه إلاّ أنّه كان ضررهما على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أكثر من ضرر محاربيه . فمنعاه من الوصية ،
و تخلّفا عن جيش أكّد تجهيزه حتّى لعن المتخلّف عنه ، و بنتاهما تظاهرا عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أشدّ تظاهر حتّى أخبر جلّ و علا عن عملهما في قوله : و إن
-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 15 ، شرح الخطبة 208 .
-----------
( 2 ) منتخب ذيل الهذيل : 49 .
-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 2 : 253 ، سنة 25 .
[ 455 ]
تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير 1 .
و قريش كانوا أشد قريش عداوة له صلّى اللّه عليه و آله و سلم ظاهرا و باطنا ، و هم بنو اميّة .
فعلوا ما فعلوا بتوسطهما . فجعل الثاني رئيسهم خليفته .
« فجزت قريشا عنّي الجوازي » قال كعب بن مالك الأنصاري في حرب قريش كانت قريش : لأكلها السخينة و هي طعام يتّخذ من الدقيق دون العصيدة في الرقة سمّيت بسخينة :
زعمت سخينة أن ستغلب ربّها
و ليغلبنّ مغالب الغلاّب
و تمثّل به الكاظم عليه السلام لما هدّده موسى الهادي العباسي بالقتل . فعجّل اللّه تعالى هلاكه 2 .
« فقد قطعوا رحمي ، و سلبوني سلطان ابن امّي » هو نظير قول هارون لموسى يا ابن امّ إنّ القوم استضعفوني 3 إلاّ أنّ هارون و موسى كانا بنفسيهما من امّ واحدة ، و أمير المؤمنين عليه السلام و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أبواهما كانا من امّ واحدة هي فاطمة المخزومية ، و باقي أعمامه غير الزبير كانت امّهم غير امّ أبي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
و أما قول ابن ميثم : قيل إنّه عليه السلام قال : « و سلبوني سلطان ابن امّي » لأنّ امّه فاطمة بنت أسد كانت تربّي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين كفّله أبو طالب يتيما فهي كالامّ له فأطلق عليه البنوّة لها مجازا 4 ، فبعيد عن لحن اللغة العربية و خطاباتهم . قال تعالى : و إلى عاد أخاهم هودا و إلى ثمود أخاهم
-----------
( 1 ) التحريم : 4 .
-----------
( 2 ) رواه ابن طاووس في مهج الدعوات : 219 .
-----------
( 3 ) الاعراف : 150 .
-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 50 : 80 .
[ 456 ]
صالحا 1 و إنّما كانا من قوم عاد و ثمود .
و كان بنو زهرة يعدّون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ابن اختهم لأنّ امّه كانت منهم ،
و عدّ الضبابي العباس عليه السلام ، و إخوته من امّه بني اختهم لأنّ امّهم كانت من عشيرتهم .
و إنّما قال عليه السلام لأخيه عقيل « فدع عنك قريشا و تركاضهم في الضلال و تجوالهم في الشقاق ، و جماحهم في التيه » لأنّهم سمّوا تارة طلبه عليه السلام لحقه حرصا و عدّوا عزّة نفسه و قد جعل اللّه العزّة للمؤمنين ، و هو أميرهم حقّا كبرا و عجبا ، و ثالثة : بشره الّذي هو من صفات المؤمن و هو اوّل مؤمن باللّه بعد رسوله دعابة ، و رابعة : خلوصه الّذي شهد له تعالى في هل أتى 2 رياء ، و تشكّكوا في سبق إيمانه بعدم بلوغه مع أنّ لازمه عدم عرفان اللّه تعالى و عرفان رسوله حيث قبلاه ، و تشكّكوا في نصب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له بخمّ مع تواتر الروايات به من طريقهم ، تارة بانكاره رأسا ، و اخرى على أنّ المراد كونه ابن عمه أو مولى معتق زيد بن حارثة ، و ثالثة بإخفائه حتّى استنشدهم أمير المؤمنين عليه السلام ذلك بأنّ من شهد ذاك اليوم يشهد . فاعتذر بعضهم بنسيانه . فدعا عليهم بالعمى و البرص و غير ذلك . فابتلوا بما دعا ، و بهتوا عليه بخطبته بنت أبي جهل ، و موجدة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليه بذلك ، مع أنّه لو فرض صحته كان اعتراضا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حيث أنكر ما أحلّته شريعته .
و عبّروا عنه عليه السلام تحقيرا من جهالتهم بأبي تراب كما عيّروه بذلك ما عيّر ابليس آدم بكونه من تراب ، و عبّروا عن شيعته بالترابية لذلك ، كما أنّهم عبّروا عنهم تلبيسا بالسبائية . فكانوا يعبّرون عن حجر بن عدى ، و عمرو بن
-----------
( 1 ) هذا تلفيق بين آيتي الاعراف : 73 و 65 .
-----------
( 2 ) الانسان : 1 .
[ 457 ]
الحمق و صعصعة بن صوحان ، و نظرائهم الّذين لا يعتقدون بسواه حتّى بأبي بكر و عمر فضلا عن عثمان بذلك ليموّهوا على الناس بأنّهم كعبد اللّه بن سبأ 1 من الغلاة و تبع قريشا اولئك مؤرّخوهم كالجاحظ و ابن قتيبة و ابن عبد ربه و غيرهم . فإنّهم عنونوا في كتبهم الشيعة ، و لم يذكروا غير الغلاة و خلّطوا و لبّسوا ، و نسبوا إلى أبيه عليه السلام الكفر مع تفادياته تلك الّتي لم يأت أحد بمثلها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلاّ ابنه أمير المؤمنين عليه السلام و مع أبياته المصرّح فيها بحقيّة دينه .
و بالجملة دين إخواننا من يوم السقيفة لأبي بكر إلى يوم الشورى لعثمان دين قريش الّذين كانوا مسلمين ظاهرا و كافرين باطنا ، و إنّما أسرّوا كفرهم بعد قهر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لهم في حياته . فلمّا وجدوا بعده أعوانا أظهروه .
أما في السقيفة فقد أقرّ فاروقهم بأنّ نصب صدّيقهم كان من قبل اولئك فقال لابن عباس كما في ( الطبري ) و غيره « أ تدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا . قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة و الخلافة .
فتجحفوا الناس جحفا فنظرت قريش لأنفسهما فاختارت ، و وفّقت فأصابت » فقال له ابن عباس : أمّا قولك : إنّ قريشا كرهت ، فانّ اللّه تعالى قال لقوم :
ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل اللّه فأحبط أعمالهم 2 و أمّا قولك : إنّ قريشا اختارت فإنّ اللّه تعالى يقول : و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة 3 و قد علمت أنّ اللّه اختار لذلك من اختار . فلو نظرت قريش من
-----------
( 1 ) عبد اللّه بن سبأ لا وجود له ، كما أثبت ذلك العلاّمة السيّد مرتضى العسكري في كتابه « اسطورة عبد اللّه بن سبأ » فراجع .
-----------
( 2 ) محمد : 9 .
-----------
( 3 ) القصص : 68 .
[ 458 ]
حيث نظر اللّه لها لوفّقت و أصابت 1 .
و امّا يوم الشورى ، ففي ( الطبري ) و غيره قال عبد الرحمن بن عوف :
اشيروا علي . فقال عمّار : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّا . فقال المقداد : صدق عمّار . إن بايعت عليّا قلنا سمعنا و أطعنا . فقال ابن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان . فقال عبد اللّه بن أبي ربيعة : صدق ابن أبي سرح إن بايعت عثمان قلنا سمعنا و أطعنا . فشتم عمّار ابن أبي سرح ،
و قال : متى كنت تنصح المسلمين . فتكلّم بنو هاشم و بنو اميّة . فقال عمّار : أيّها الناس إنّ اللّه عزّ و جلّ أكرمنا بنبيه ، و أعزّنا بدينه ، فانّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم . فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا ابن سمية ،
و ما أنت و تأمير قريش لأنفسها . فقال سعد لعبد الرحمن : افرغ قبل أن يفتتن الناس 2 .
فترى انّ عمارا و مقدادا و جلالهما في الاسلام و شموخ مقامها معلوم جعلا قريشا مقابلة للمسلمين كما ترى أنّ الداعي إلى عثمان لميل قريش إليه ابن أبي سرح و نظراؤه الّذين نزل القرآن بكفرهم .
و في ( المروج ) بعد ذكر قول أبي سفيان لمّا بويع عثمان « يا بني اميّة تلقفوها تلقف الكرة . فو الّذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ،
و لتصيرن إلى صبيانكم وراثة » . فانتهره عثمان و ساءه ما قال و نمي هذا القول و غيره من الكلام إلى المهاجرين و الأنصار و غير ذلك فقام عمّار في المسجد . فقال : يا معشر قريش أمّا إذ صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم
-----------
( 1 ) رواه الطبري في تاريخه 3 : 289 ، سنة 23 ، و ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 107 ، شرح الخطبة 226 ، و النقل بالمعنى .
-----------
( 2 ) رواه الطبري في تاريخه 3 : 297 ، سنة 23 ، و الجوهري في السقيفة 5 : 84 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 459 ]
ها هنا مرّة ، و ها هنا مرّة . فما أنا بآمن أن ينزعه اللّه منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله و وضعتموه في غير أهله ، و قام المقداد . فقال : ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيّهم فقال له عبد الرحمن : و ما أنت و ذاك يا مقداد . فقال : إنّي و اللّه لاحبّهم لحبّ رسوله ، و انّ الحق معهم و فيهم . يا عبد الرحمن أعجب من قريش ، و من تطوّلهم على الناس بفضل أهل هذا البيت .
قد اجتمعوا على نزع سلطان الرسول من بعده من أيديهم . أما و أيم اللّه يا عبد الرحمن لو أجد على قريش انصارا لقاتلتهم كقتالي ايّاهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم بدر 1 .
فتراه دالاّ على كون قريش في قبال أمير المؤمنين عليه السلام يوم الشورى ككونهم في قبال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم بدر ، و أنّهم و على رأسهم عبد الرحمن بن عوف كأبي جهل و عتبة و شيبة و نظرائهم يجب الجهاد ضدّهم لو وجد أعوان و المقداد و عمّار ممّن أجمع على جلالهما و أنّهما من أربعة لم يكن أحد فوقهم في الصحابة .
هذا و قال ابن أبي الحديد بعد العنوان الأوّل : و اعلم أنّ الآثار و الأخبار في هذا الباب كثيرة جدا ، و من تأمّلها و أنصف علم أنّه لم يكن هناك نص صريح و مقطوع به تختلجه الشكوك و لا يتطرق اليه الاحتمالات كما تزعم الامامية . فإنّهم يقولون : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نصّ على أمير المؤمنين عليه السلام نصّا صريحا جليا ليس بنص يوم الغدير ، و لا خبر المنزلة و لا ما شابههما من الأخبار الواردة من طرق العامّة ، و غيرها بل نصّ عليه بالخلافة و بإمرة المؤمنين ، و أمر المسلمين أن يسلّموا عليه بذلك . فسلموا عليه بها ، و صرّح لهم في كثير من المقامات بأنّه خليفة عليهم من بعده ، و أمرهم بالسمع و الطاعة له ،
-----------
( 1 ) مروج الذهب 2 : 343 .
[ 460 ]
و لا ريب في أنّ المصنف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يعلم قطعا انّه لم يكن هذا النص ، و لكن قد يسبق إلى النفوس و العقول انّه قد كان هناك تعريض و تلويح ، و كناية و قول غير صريح و حكم غير مبتوت ، و لعلّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه ، و مصلحة يراعيها أو وقوف مع اذن اللّه تعالى في ذلك 1 .
قلت : هل نصّ يوم الغدير ، و خبر المنزلة ، و ما أشبههما ممّا ورد من طرقهم متواترا لا يكفي في استخلافه ؟ إن لم يكفيا فأيّ لفظ يكفي ؟ ألم يقرّرهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بأنّي أولى بكم من أنفسكم فاقروا . فقال عند ذلك « من كنت مولاه أي : أولى به من نفسه فعلي مولاه » أي : أولى به من نفسه ؟ أليس هذا صريحا في كونه كنفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مضافا إلى نصّ اللّه تعالى في قوله جلّ و علا :
و أنفسنا و أنفسكم 2 و إنّه عليه السلام أولى بهم من أنفسهم كالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فهل فوق هذا شيء ؟
و كذلك خبر المنزلة و كونه عليه السلام من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كهارون من موسى عليه السلام إلاّ في أصل النبوّة .
و لصراحة دلالتهما أنكرهما كثير منهم مع تواترهما ، كما أنّ بعضهم أوّلهما بتأويلات مضحكة . كما أنّ بعضهم حظر التكلم في ذلك ، و قال : لا ينبغي لأحد أن يخوض في ذكر الصحابة و ما جرى بينهم من تنازع و اختلاف ،
و ان استطاع أن لا يسمع شيئا من الأخبار الواردة به فيفعل . فإنّه إن خالف هذه الوصاية فقد أبدع ، و التصنيف في السقيفة و مقتل عثمان و الجمل و صفّين ضلال .
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 135 .
-----------
( 2 ) آل عمران : 61 .
[ 461 ]
و اما قوله « يقول الشيعة إنّه نصّ عليه بالخلافة و بإمرة المؤمنين ، و أمر المسلمين أن يسلّموا عليه بذلك » فغريب فقد روى ذلك أئمّة العامّة كابن مردويه في ( مناقبه ) ، و الخوارزمي ، و الخطيب ، و عثمان السماك ، و جمع آخر منهم حتّى صنّف علي بن طاووس في ذلك كتابا سمّاه كتاب اليقين 1 .
كقوله إنّ الشيعة قالوا : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم صرّح في كثير من المقامات بأنّه خليفته بعده و أمرهم بالسمع و الطاعة له . فقد اتّفق العامة ، و منهم الطبري في ( تاريخه ) في نزول قوله تعالى : و أنذر عشيرتك الأقربين 2 أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم دعا بني عبد المطلب ، و هم يومئذ أربعون فيهم أعمامه أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب ، و قال : « يا بني عبد المطّلب إنّي و اللّه ما أعلم شابّا جاء في قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة ،
و قد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ، و وصيي و خليفتي فيكم » فأحجم القوم عنها جميعا ، و قام علي عليه السلام و قال : أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ برقبته . ثم قال « إنّ هذا أخي ، و وصيي ، و خليفتي فيكم فاسمعوا له و اطيعوا » فقام القوم يضحكون ،
و يقولون لأبي طالب : لقد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع 3 .
و لو لم يكن في استخلافه إلاّ هذا لكفى . فهل كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يكذب في حديثه ، و يخلف في وعده ، و يخدع في دينه كالملوك الدنيوية .
و هل الدليل على وجود الصانع ، و على نبوّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أكثر من الأدلّة العقلية و النقلية على امامته . فهل أراد خصومنا أن ينزّل اللّه تعالى على كلّ أحد
-----------
( 1 ) اليقين : 9 ، 18 ، 19 ، 20 و غيره .
-----------
( 2 ) الشعراء : 214 .
-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 2 : 62 ، و غيره و النقل بتلخيص .
[ 462 ]
منهم كتابا يقرؤه أنّ علي بن أبي طالب خليفة محمّد بن عبد اللّه ، و الاّ فقد أنزل على عامّتهم كتابا يقرؤونه ليلا و نهارا إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون 1 . و لا ريب في نزوله فيه عليه السلام 2 .
و قول ابن أبي الحديد : « و لا ريب في أنّ المنّصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يعلم قطعا انّه لم يكن هذا النص » 3 يقال في جوابه : و لا ريب في أنّ من كان له لبّ و لم يكن مكابرا و لا سوفسطائيا إذا سمع لهم ما جرى لهم في مرض موت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من حثّه على تجهيز جيش اسامة مرّة بعد مرّة ، و كلّما أفاق من غشيته حتّى لعن المتخلف منهم ، و على رأسهم صدّيقهم و فاروقهم ، و منعهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من كتابة وصيّته و قالوا : إنّه ليهجر و لا نحتاج إلى وصيّته ، و يكفينا القرآن ، و المتصدي لذلك فاروقهم حتّى اغضبوه . فأخرجهم من عنده ، و كان ابن عباس يبكي من ذلك بكاء الثكلى و يقول : لا رزية فوق هذا أن يحولوا بين نبيّنا و وصيته و ينسبوا الهجر إلى من قال تعالى في حقه و ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى 4 و بعد قبض روحه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقوم فاروقهم لعدم حضور صاحبه تلك الساعة و يقول :
ما مات محمّد بل غاب كما غاب موسى و يرجع و يفتح كنوز كسرى و قيصر كما وعدنا ، و من قال مات لأفعلن به كذا و كذا ، و ما جرى لهم في السقيفة من السب و الشتم و الضرب و الوطء إلى غير ذلك يعلم قطعا أنّ مع وجود النص
-----------
( 1 ) المائدة : 55 .
-----------
( 2 ) رواه جمع كثير من أهل الأثر أورد بعض طرقه السيوطي في الدر المنثور 2 : 293 و 294 ، و المجلسي في البحار 35 : 183 ، باب 4 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 135 .
-----------
( 4 ) النجم : 3 .
[ 463 ]
القطعي الذي ذكرنا وجوده في مواضع متعددة لو كان نبيّهم من ساعة بعثته إلى حين وفاته يكرر دائما « علي خليفتي علي خليفتي » ما كانوا يقبلونه .
و قد احتجّ أمير المؤمنين عليه السلام في زمان خلافته و بسط يده بنصوص يوم الغدير ، و استشهد جمعا لم يكن لهم ادّعاء في قباله . فأنكره كثير منهم حتّى دعا عليهم . روى ابن الأثير في اسد الغابة في عبد الرحمن بن مدلج مسندا عن أبي إسحاق حدّثه جمع لا يحصيهم أنّ عليّا عليه السلام نشد الناس في الرحبة من سمع قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه « من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه » فقام نفر فشهدوا أنّهم سمعوا ذلك من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و كتم قوم . فما خرجوا من الدنيا حتى عموا ، و أصابتهم آفة ، منهم يزيد بن وديعة ،
و عبد الرحمن بن مدلج 1 .
و في ( معارف ابن قتيبة ) : أن أنس بن مالك كان بوجهه برص ، و ذكر قوم أنّ عليّا عليه السلام سأله عن قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه » فقال : كبرت سنّي ، و نسيت فقال له علي عليه السلام : « إن كنت كاذبا فضربك اللّه بيضاء لا تواريها العمامة » 2 .
فكيف يحتجّ في زمن مقهوريته في قبال من يريد حيازة مقامه بالنص عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و كانوا ردّوا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نفسه فلا بدّ أن يحتجّ في قبال ادّعائهم بكونهم من قومه بكونه من عترته و بمنزلة نفسه .
و قد قال عليه السلام في هذه الخطبة بالرواية الّتي نقلنا أنّ قريشا لو استطاعوا إنكار قرابته كما أنكروا سببه من سوابقه و فضائله ، و ما قاله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه مقاما بعد مقام ، لفعلوا .
-----------
( 1 ) اسد الغابة 3 : 321 .
-----------
( 2 ) المعارف : 580 .
[ 464 ]
أو ليس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا عقد الاخوّة بين كل نفرين من أصحابه لم يعقد بينه و بين أحد و قال له : « تركتك لنفسي » 1 و ثبت في المتواتر أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال له عليه السلام في مقامات مختلفة : « أنت أخي » 2 و قد أنكر ذلك فاروقهم مكابرة .
ففي ( خلفاء ابن قتيبة ) في أخذ البيعة منه عليه السلام لأبي بكر : أخرج عمر و معه قوم عليا فمضوا به إلى أبي بكر . فقالوا له : بايع . فقال : إن أنا لم أفعل فمه . قالوا : إذن و اللّه الّذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك . قال : إذن تقتلون عبد اللّه ، و أخا رسوله . قال عمر : « أمّا عبد اللّه فنعم ، و أمّا أخو رسوله فلا » 3 .
و أمّا قول ابن أبي الحديد : « و لكن قد يسبق إلى النفوس و العقول أنّه قد كان هناك تعريض و تلويح ، و كناية و قول غير صريح » 4 فالأصل فيه فاروقهم أيضا فروى الخطيب عن ابن عباس قال : دخلت على عمر في أوّل خلافته ، و قد القي له صاع من تمر على خصفة . فدعاني إلى الأكل . فأكلت تمرة واحدة . و أقبل يأكل حتّى أتى عليه ثم شرب من جرّ كان عنده و استلقى على مرفقة له ، و طفق يحمد اللّه ، و يكرّر ذلك . ثم قال : من أين جئت يا عبد اللّه ؟ قلت : من المسجد . قال : كيف خلّفت ابن عمك فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر قلت :
خلّفته يلعب مع أترابه . قال : لم أعن ذلك ، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت . قلت :
خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان ، و هو يقرأ القرآن . قال : يا عبد اللّه عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟ قلت :
نعم . قال : أيزعم انّ النبي نصّ عليه . قلت : نعم و أزيدك ، سألت أبي عمّا يدّعيه .
-----------
( 1 ) أخرجه ابو يعلي في مسنده ، عنه منتخب كنز العمال 5 : 45 ، و احمد في فضائله ، عنه تذكرة الخواص : 20 ،
و غيرهما .
-----------
( 2 ) جاء هذا المعنى ضمن حديث يوم الدار و حديث المؤاخاة و موارد اخر جاء تخريجه في مواضعه .
-----------
( 3 ) الإمامة و السياسة 1 : 13 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 135 .
[ 465 ]
فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أمره ذرو من قول لا يثبت حجّة ، و لا يقطع عذرا ، و لقد كان يربع في أمره وقتا مّا ، و لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه . فمنعت من ذلك إشفاقا ، و حيطة على الاسلام . لا و ربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا ، و لو وليها لا نتقضت عليه العرب من أقطارها فعلم النبي أنّي علمت ما في نفسه فأمسك ، و أبى اللّه إلاّ إمضاء ما حتم 1 .
فيقال لفاروقهم في قوله « لقد كان من النبي في امره ذرو من قول لا يثبت حجّة و لا يقطع عذرا » : لو لم يكن من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قول فيه عليه السلام إلاّ قوله يوم خيبر لمّا ولّيت أنت و صاحبك الدبر و انهزمتما من اليهود ، و صرتما عارا على المسلمين : « لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله كرّارا غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه » 2 ، لكفى في إتمام الحجّة في خلافته ، و كشف الحقيقة في كونك مع صاحبك غير محبّين للّه و لرسوله ، و عدم حبّ اللّه و رسوله لكما و كونكما فرّارين غير كرّارين .
و أمّا قوله « أراد ( النبي ) في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الاسلام » فهل كان أشفق على الاسلام من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لعمر اللّه إنّه أشفق على عدم نيله و نيل صاحبه الرياسة لو نصّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على امير المؤمنين بالكتابة لعدم تأتّي إنكاره لنصّه الكتابي كإنكاره لنصوصه الشفاهية في يوم غدير و غيره .
و تعالوا اسمعوا الغرائب . يقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « إيتوني بدواة و قلم أكتب لكم ما لن تضلّوا بعدي أبدا » و يقول فاروقهم : إنّه ليهجر . انّي
-----------
( 1 ) رواه عن الخطيب ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 97 ، شرح الخطبة 226 .
-----------
( 2 ) حديث الراية أخرجه جماعة منهم مسلم في صحيحه 4 : 1871 ح 32 ، و الترمذي في سننه 5 : 638 ح 3724 ، و ابن ماجه في سننه 1 : 45 ح 121 .
[ 466 ]
أشفق على الاسلام من وصيته 1 .
و أمّا قوله : « لا و ربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبدا » فيقال له : عدم اجتماع قريش أعداء اللّه و أعداء دينه لم يكن يضرّه ، و لم يجتمع قريش على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلاّ بعد مقهوريتهم .
و أمّا قوله : « و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها » فيقال له : إنّا رأينا أنّه عليه السلام وليها و لم ينتقض عليه العرب من قطر ، و إنّما انتقض عليه قريش طلحة و الزبير من قطر ، و معاوية من قطر بتدبيرك لهم في جعل الشورى ،
و جعل طلحة و الزبير منهم ، و ابن عوف حكمهم حتّى يصير الأمر بتوسطه إلى عثمان ، و من عثمان إلى بني اميّة ، و حتّى يعدّ طلحة و الزبير نفسيهما في قباله ،
و لو لم تقم أنت و صاحبك بما قمت بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من مساعدة قريش ،
و صار الأمر إليه عليه السلام أوّلا لاجتمع عليه قريش قهرا كما اجتمعوا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كذلك أخيرا ، و الأصل في ضغن قريش لأمير المؤمنين عليه السلام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإنّه فعل ما فعل معهم من قبله .
و أما قوله « فأمسك ( النبي ) » فأتى بالإجمال ، و إلاّ فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم غضب ،
و أخرجهم من عنده و قال : لا ينبغي التنازع عندي .
و يقول تعالى : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي 2 و يردّ فاروقهم قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و يجعلون قول فاروقهم فوق قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
و أمّا قوله : « و أبى اللّه إلاّ إمضاء ما حتم » فمغالطة . فإلقاء إبراهيم عليه السلام في النار و ذبح يحيى كان ممّا حتم . فهل ذلك عذر لفاعلي ذلك .
و أمّا قول ابن أبي الحديد : « و لعلّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يصدّه عن التصريح بذلك
-----------
( 1 ) هذا الحديث أخرجه جمع منهم البخاري في صحيحه 1 : 32 و 4 : 7 و 271 ، و مسلم في صحيحه 3 : 1259 ح 22 .
-----------
( 2 ) الحجرات : 2 .
[ 467 ]
أمر يعلمه » فكلام وقيح . فلو كانت نصوصه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليه عليه السلام قولا و عملا قالبا حسيّا لملأت بين السماء و الأرض ، و لو جمع منها ما نقله نفسه في مطاوي شرحه لصار كتابا متعارفا .
مع أنّه لو فرض كون أمير المؤمنين عليه السلام مثل باقي أصحابه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ،
و لم يكن له ذلك العلم و لا العمل ، و لا تلك العصمة كان نصب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له في الحكمة واجبا لئلا ينتقم منه ما فعل من قبله في أيّامه فقال ابن أبي الحديد نفسه قرأت خبر سقيفة الجوهري المشتمل على أنّ الحباب بن المنذر قال لقريش « منّا أمير و منكم أمير انّا لا ننفس هذا الأمر عليكم ، و لكن نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم و آباءهم و إخوانهم على النقيب » ، فقال : لقد صدقت فراسة الحباب 1 ، و أنّ الّذي خافه يوم الحرة و اخذ من الانصار ثار المشركين يوم بدر ، و من هذا خاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ايضا على ذريته و أهله . فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان وتر الناس و علم أنّه إن مات و ترك ابنته و ولدها سوقة و رعية تحت أيدي الولاة كانوا بعرض خطر عظيم . فما زال يقرّر لابن عمّه قاعدة الأمر بعده حفظا لدمه و دماء أهل بيته . فانّهم إذا كانوا ولاة الأمر كانت دماؤهم أقرب إلى الصيانة و العصمة ممّا إذا كانوا سوقة تحت يد وال من غيرهم فلم يساعده القضاء و القدر ، و كان من الأمر ما كان . ثم أفضى ذرّيته في ما بعد إلى ما قد علمت .
و قال ابن أبي الحديد أيضا بعد العنوان الأوّل : « فأمّا امتناع علي عليه السلام من البيعة حتّى أخرج على الوجه الّذي أخرج عليه . فقد ذكره المحدّثون ، و رواه أهل السير ، و قد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب ، و هو من رجال الحديث من الثقات المأمونين ، و قد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة . فأمّا
-----------
( 1 ) قاله ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 133 ، و الحديث في سقيفة الجوهري : 57 .
[ 468 ]
الامور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة عليها السلام ، و أنّه ضربها بالسوط . فصار في عضدها كالدملج ، و بقي أثره إلى أن ماتت ، و أنّ عمر ضغطها بين الباب و الجدار . فصاحت : يا أبتاه يا رسول اللّه ،
و ألقت جنينا ميتا ، و جعل في عنق علي عليه السلام حبل يقاد به ، و هو يعتل ، و فاطمة خلفه تصرخ و تنادي بالويل و الثبور ، و ابناه الحسن و الحسين معهما يبكيان ،
و انّ عليا عليه السلام لما أحضر سلموه البيعة . فامتنع فتهدّد بالقتل . فقال : إذن تقتلون عبد اللّه ، و أخا رسول اللّه . فقالوا أما عبد اللّه فنعم ، و أما أخو الرسول فلا ، و انّه طعن في أوجههم بالنفاق ، و ستر صحيفة الغدر الّتي اجتمعوا عليها ، و بأنّهم أرادوا أن ينفروا ناقة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليلة العقبة . فكلّه لا أصل له عند أصحابنا ،
و لا يثبته أحد منهم و لا رواه أهل الحديث ، و لا يعرفونه ، و انّما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله 1 .
قلت : عدم نقل العامة جميع ما نقله الشيعة ليس بدليل على عدم صحة ما تفرّدوا به مع انّ ما شاركوهم فيه يكفي في كون أئمّتهم جبابرة .
مع أنّ ما نسبه إلى تفرد الشيعة به ليس كذلك . فالنظّام استاد الجاحظ من شيوخ المعتزلة قال : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة عليها السلام يوم البيعة حتّى ألقت الجنين من بطنها ، و كان عمر يصيح أحرقوها بمن فيها ، و ما كان في الدار غير علي و فاطمة و الحسن و الحسين 2 .
و عامّة العامة رووا حلف عمر إحراق أهل البيت لو لم يخرج علي للبيعة فخرج و تصميمه كان كالعمل . فكان يحرقهم لو لم يكن خرج أمير المؤمنين 3 .
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 135 .
-----------
( 2 ) نقله الشهرستاني في الملل و النحل 1 : 59 .
-----------
( 3 ) حديث الاحراق رواه الجوهري في السقيفة : 38 و 50 و 71 ، و الطبري في تاريخه 2 : 443 ، سنة 11 ، و غيرهما .
[ 469 ]
و في ( المروج ) : كان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد اللّه بن الزبير اذا جرى ذكر بني هاشم ، و حصره ايّاهم في الشعب ، و جمعه لهم الحطب لتحريقهم و يقول : انّما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته ، كما أرهب بنو هاشم و جمع لهم الحطب لإحراقهم إذ هم أبو البيعة في ما سلف 1 .
و اما تهديد هم له عليه السلام بالقتل و قوله عليه السلام « إذن تقتلون عبد اللّه و أخا رسوله » فقد عرفت أنّ ابن قتيبة منهم رواه ، و كتاب معاوية إليه عليه السلام « و كنت تقاد للبيعة كما يقاد الجمل المخشوش » 2 من رواياتهم معروف .
و لو لم يكن أمر الصحيفة ، و ليلة العقبة صحيحا لما تخلّفوا عن جيش اسامة مع تأكيداته بتجهيزه حتّى لعن المتخلّف عنه ، و لما منعوه عن الوصيّة ،
و نسبوا إليه الهجر .
و قال ابن أبي الحديد أيضا بعد العنوان الثاني : « و اعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه عليه السلام بنحو من هذا القول نحو قوله : « ما زلت مظلوما منذ قبض اللّه رسوله حتّى يوم الناس هذا » ، و قوله عليه السلام : اللهم اجز قريشا فانها منعتني حقي و غصبتني أمري ، و قوله فجزى قريشا عني الجوازي فانّهم ظلموني حقّي و اغتصبوني سلطان ابن امّي ، و قوله عليه السلام : و قد سمع صارخا ينادي أنا مظلوم فقال هلمّ فلنصرخ معا فإنّي ما زلت مظلوما ، و قوله عليه السلام : و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، و قوله عليه السلام : أرى تراثي نهبا ، و قوله عليه السلام أصغيا بإنائنا و حملا الناس على رقابنا » ، و قوله : إنّ لنا حقّا إن نعطه نأخذه ، و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل ، و إن طال السرى ، و قوله عليه السلام : ما زلت مستأثرا علي
-----------
( 1 ) مروج الذهب 3 : 77 .
-----------
( 2 ) رواه بفرق يسير ابن مزاحم في وقعة صفين : 87 ، و الشريف الرضي في نهج البلاغة 3 : 457 ، الكتاب 28 ، و ابن أبي الحديد 3 : 457 ، شرح الكتاب 28 .
[ 470 ]
مدفوعا عمّا أستحقّه و أستوجبه .
و أصحابنا يحملون ذلك كلّه على ادّعائه الأمر بالأفضلية و الأحقيّة ،
و هو الحق و الصواب . فإنّ حمله على الاستحقاق بالنص تكفير أو تفسيق لوجوه المهاجرين و الأنصار ، و لكنّ الإمامية و الزيدية حملوا هذه الأقوال على ظواهرها و ارتكبوا بها مركبا صعبا ، و لعمري إنّ هذه الألفاظ موهمة مغلبة على الظن ما يقوله القوم لكن تصفّح الأحوال يبطل ذلك الظن ، و يدرأ ذلك الوهم ، فوجب أن يجري مجرى الآيات المتشابهات الموهمة ما لا يجوز على الباري تعالى فإنا لا نعمل بها و لا نعوّل على ظواهرها ، لأنا لمّا تصفّحنا أدلة العقول اقتضت العدول عن ظاهر اللفظ ، و ان تحمل على التأويلات المذكورة في الكتب 1 .
قلت : الكبرى صحيحة في اقتضاء أدلّة العقول العدول عن ظاهر الآيات المتشابهات كقوله تعالى يد اللّه فوق أيديهم 2 لكنّ الكلام في كون أقواله عليه السلام في ظلم المتقدّمين عليه إيّاه صغرى لها ، و من أين أنّها ليست كآيات محكمات أنكر اللّه تعالى فيها على من جعل الأصنام شريكة له تعالى و مقرّبة إليه جل و علا . و قد قال معزّ الدولة الديلمي لشيخنا الصدوق محمّد بن علي بن بابويه ، لم لا يمكن الجمع بين أمير المؤمنين عليه السلام و الثلاثة ؟ قال له : كما لا يمكن الجمع بين اللّه تعالى و الأصنام 3 .
و كيف يتاوّل قوله عليه السلام « و الّذي فلق الحبّة ، و برأ النسمة لقد عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم اليّ انّ الامّة ستغدر بك من بعدي » 4 .
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 476 .
-----------
( 2 ) الفتح : 10 .
-----------
( 3 ) رواه التستري في مجالس المؤمنين : 197 ، المجلس 5 ، و النقل بالمعنى و الملك هو ركن الدولة لا معز الدولة .
-----------
( 4 ) أخرجه المفيد في الجمل : 92 ، و الحاكم في المستدرك 3 : 140 ، و 142 ، و غيرهما .
[ 471 ]
و ما يفعل بآيات اللّه تعالى في تقدمه عليه السلام الّتي احال عزّ و جلّ فيها إلى العقل كقوله جلّ ثناؤه : هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنّما يتذكر اولو الألباب 1 .
و قوله عزّ اسمه : أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون 2 .
و قوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون 3 و قد كان عليه السلام مؤمنا بالاجماع و قد كان ثالثهم وقت قتله فاسقا بإجماع المسلمين ،
و اما الاموية و اتباعهم فلم يكونوا من المسلمين .
و بالجملة فإنّ الجمع بين الثلاثة و بينه عليه السلام كما تدّعيه العامّة المتسمّون بالسنة كالجمع بين الضدين و القول بالمتناقضين ، و لعمر اللّه لقد انصف إسماعيل الحنبلي في ما نقل عنه ابن أبي الحديد بعد ما مرّ فقال : « و حدّثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي المعروف بابن عالية ساكن قطفتا بالجانب الغربي من بغداد ، و أحد الشهود المعدلين بها ، قال : كنت حاضرا عند الفخر إسماعيل بن علي الفقيه المعروف بغلام ابن المتي و كان إسماعيل هذا مقدّم الحنابلة في الفقه و الخلاف ، و يشتغل بشيء في علم المنطق ، و كان حلو العبارة ، و قد رأيته أنا و حضرت عنده و سمعت كلامه . توفي سنة ( 610 ) و نحن عنده نتحدّث إذ دخل شخص من الحنابلة قد كان له دين على بعض أهل الكوفة . فانحدر إليه يطالبه ، و اتّفق ان حضرت زيارة الغدير ، و هو بالكوفة يجتمع بمشهده عليه السلام من الخلائق جموع عظيمة يجاوز حدّ الإحصاء قال ابن
-----------
( 1 ) الزمر : 9 .
-----------
( 2 ) يونس : 35 .
-----------
( 3 ) السجدة : 18 .
[ 472 ]
عالية : فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص ما فعلت و ما رأيت ، و ذلك الشخص يجاوبه حتّى قال له : يا سيّدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير ،
و ما يجري عند قبر علي بن أبي طالب من الفضائل و الأقوال الشنيعة و سبّ الصحابة جهارا بأصوات مرتفعة من غير مراقبة و لا خيفة فقال إسماعيل أيّ ذنب لهم و اللّه ما جرّأهم على ذلك ، و لا فتح لهم هذا الباب إلاّ صاحب ذلك القبر .
فقال الرجل : و من صاحب ذاك القبر ؟ قال : علي بن أبي طالب قال : يا سيّدي هو الّذي سنّ لهم ذلك ، و علّمهم ايّاه و طرقهم إليه . قال : نعم و اللّه قال : يا سيّدي فان كان محقّا فمالنا نتولّى فلانا و فلانا ، و ان كان مبطلا فمالنا نتولاّه . ينبغي أن نبرأ منهما قال ابن عالية : فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه و قال : لعن اللّه إسماعيل الفاعل ابن الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة و دخل دار حرمه و قمنا فانصرفنا » 1 .
و روى الثقفي ، عن محمّد بن يحيى ، عن يحيى بن حماد القطان ، عن أبي محمّد الحضرمي ، عن أبي علي الهمداني أنّ عبد الرحمن بن أبي ليلى قام إلى علي عليه السلام فقال : إنّي سائلك لآخذ عنك ، و قد انتظرنا أن تقول من أمرك شيئا فلم تقله ، ألا تحدّثنا عن أمرك هذا ، أكان بعهد من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أو بشيء رأيته ؟ فإنّا قد أكثرنا فيك الأقاويل ، و أوثقه عندنا ما سمعناه من فيك . إنّا كنّا نقول : لو رجعت اليكم بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم ينازعكم فيها أحدا ، و اللّه ما أدري إذا سئلت ما أقول ؟ أزعم أنّ القوم كانوا أولى بما كانوا فيه منك ، فعلام نصبك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد حجّة الوداع ، فقال : « أيّها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه » ؟
و إن تك أولى منهم فعلام نتولاّهم ؟ فقال عليه السلام « إنّ اللّه تعالى قبض نبيّه ، و أنا يوم قبضه أولى بالناس منّي بقميصي » إلى أن قال فقال ابن أبي ليلى : فأنت
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 476 ، شرح الخطبة 170 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 473 ]
يا أمير المؤمنين لعمرك كما قال الأوّل :
لعمري لقد أيقظت من كان نائما
و أسمعت من كانت له اذنان 1
و قال ابن أبي الحديد في موضع آخر : « قلت ليحيى بن زيد النقيب : إنّي لأعجب من علي عليه السلام كيف بقي تلك المدّة الطويلة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و ما فتك به مع تلظّي الأكباد عليه فقال : إنّه أخمل نفسه ، و اشتغل بالعبادة و الصلاة ،
و النظر في القرآن ، و خرج عن ذلك الزيّ الأوّل ، و ذاك الشعار ، و نسي السيف ،
و صار كالفاتك يتوب ، و يصير سائحا في الأرض أو راهبا في الجبال ، فلمّا أطاع القوم الّذين ولوا الأمر تركوه و سكتوا عنه ، و لم تكن العرب لتقدم إلاّ بمواطاة من متولّي الأمر ، و باطن في السرّ منه ، فلمّا لم يكن لولاة الأمر باعث و داع إلى قتله ، وقع الامساك عنه ، و لو لا ذلك لقتل . ثم الأجل بعد ، معقل حصين .
فقلت له : أحقّ ما يقال في حديث خالد ؟ فقال : إنّ قوما من العلوية يذكرون ذلك و قد روي أنّ رجلا جاء إلى زفر بن هذيل ( صاحب أبي حنيفة ) فسأله عمّا يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام و الفعل الكثير ، فقال : إنّه جائز ، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال . فقال الرجل : و ما الّذي قاله أبو بكر ؟ قال : لا عليك . فأعاد عليه السؤال ثانية و ثالثة . فقال : أخرجوه اخرجوه قد كنت أحدّث أنّه من أصحاب أبي الخطاب 2 .
و قال ابن أبي الحديد أيضا بعد العنوان الثالث بعد ذكر تظلّماته عليه السلام :
« و كلّ هذا إذا تأمّله المصنف علم أنّ الشيعة أصابت في أمر ، و أخطات في أمر ،
أمّا الّذي أصابت أنه عليه السلام امتنع و تلكّأ و أراد الأمر لنفسه ، و أمّا الّذي أخطأت أنّه
-----------
( 1 ) رواه عن الثقفي المفيد في أماليه : 233 ح 2 ، المجلس 26 ، و النقل بتلخيص ، و سند الثقفي عن المسعودي عن محمد بن كثير عن يحيى بن حماد القطان .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 287 ، شرح الخطبة 238 .
[ 474 ]
كان منصوصا عليه نصّا جليّا بالخلافة تعلمه الصحابة كلّها أو أكثرها ، و أنّ ذلك النصّ خولف طلبا للرياسة الدنيوية ، و إيثارا للعاجلة ، و أنّ حال المخالفين للنصّ لا تعدو أحد أمرين إمّا الكفر أو الفسق فإنّ قرائن الأحوال لا تدلّ على ذلك بل على خلافه ، و هذا يقتضي أنه عليه السلام كان في مبتدأ الأمر يظنّ أن العقد لغيره كان عن غير نظر في المصلحة ، و أنه لم يقصد به إلاّ صرف الأمر عنه و الاستيثار عليه ، فظهر منه ما ظهر من الامتناع ، و القعود في بيته إلى أن صحّ عنده و ثبت في نفسه أنّهم أصابوا في ما فعلوه ، و أنّهم لم يميلوا إلى هوى ، و لا أرادوا الدنيا ، و انّما فعلوا الأصلح في ظنونهم ، لأنّه رأى من بغض الناس له ،
و انحرافهم عنه و ميلهم عليه ، و ثوران الأحقاد الّتي كانت في أنفسهم ، و احتدام النيران الّتي كانت في قلوبهم ، و الترات الّتي و ترهم في ما قبل بها ، و الدماء الّتي سفكها منهم و أراقها ، و تعلّل طائفة اخرى منهم للعدول بصغر سنّه ،
و استهجانهم تقديم الشبّان على الكهول و الشيوخ ، و تعلّل طائفة أخرى بكراهة الجمع بين النبوّة و الخلافة في بيت واحد فيتكبّرون على الناس كما قاله من قاله ، و استصعاب قوم منهم شكيمته ، و خوفهم شدّته ، و علمهم بأنّه لا يحابي و لا يراقب في الدين ، و انّ الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه ، و يعمل بموجب استصلاحه ، و انحراف قوم آخرين عنه للحسد الّذي كان عندهم له في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بشدّة اختصاصه له و تعظيمه ايّاه ، و ما قال فيه فأكثر من النصوص الدالّة على رفعة شأنه ، و علوّ مكانه ، و ما اختصّ به من مصاهرته و اخوّته ، و نحو ذلك من أحواله معه ، و تنكّر قوم آخرين له لنسبتهم إليه العجب و التيه كما زعموا ، و احتقاره العرب و استصغاره الناس كما عدّدوه عليه ، و ان كانوا عندنا كاذبين ، و لكنه قول قيل و أمر ذكر ، و حال نسبت إليه ، و أعانهم عليها ما كان يصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا نحو قوله « فإنّا صنائع ربّنا ،
[ 475 ]
و الناس بعد صنائع لنا » ما صحّ به انّ الأمر لم يكن ليستقيم له يوما واحدا ، و لا ينتظم و لا يستمر ، و انّه لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقا يكون فيه استيصال شافة الاسلام ، و هدم أركانه فأذعن بالبيعة ، و جنح إلى الطاعة ،
و أمسك عن طلب الإمرة ، و إن كان على مضض و رمض .
و قد روي عنه عليه السلام انّ فاطمة عليها السلام حرّضته يوما على النهوض و الوثوب فسمع صوت المؤذن : « أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه » فقال لها : أيسرّك زوال هذا النداء من الأرض ؟ قالت : لا . قال : فإنه ما أقول لك .
و هذا المذهب أقصد المذاهب ، و عليه متأخرو بغدادي أصحابنا و به نقول .
و اعلم أنّ حال علي عليه السلام في هذا المعنى أشهر من أن تحتاج في الدلالة عليها إلى الاطناب . فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها حين بويع بالخلافة بخمس و عشرين سنة بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و في دون هذه المدّة تنسى الاحقاد و تموت الترات ، و تبرد الأكباد الحامية ، و تسلو القلوب الواجدة ،
و يعدم قرن من الناس ، و يوجد قرن و لا يبقى من أرباب تلك الشحناء إلاّ الأقل .
فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنّها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من إظهار ما في النفوس و هيجان ما في القلوب ،
حتّى انّ الاخلاف من قريش ، و الأحداث و الفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه ،
و فتكاته في اسلافهم و آبائهم ، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله و تقاعست عن بلوغ شأوه . فكيف كانت حاله لو جلس على منبر الخلافة ، و سيفه يقطر دما من مهج العرب . لا سيما من قريش الذين كان ينبغي لو دهمه خطب أن يعتضد بهم ، و عليهم كان يجب أن يعتمد ، إذن كانت تدرس اعلام الملّة ، و تعفى رسوم الشريعة ، و تعود الجاهلية الجهلاء إلى حالها ،
[ 476 ]
و يفسد ما أصلحه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ثلاث و عشرين سنة في شهر واحد . فكان من عناية اللّه تعالى بهذا الدين أن ألهم الصحابة ما فعلوه و اللّه متم نوره و لو كره الكافرون 1 .
قلت : و نزيد هنا على ما تقدم في إنكاره النص الواضح في قوله « و امّا الّذي أخطأت الشيعة أنّه كان منصوصا عليه نصّا جليا إلى قوله بل تدلّ القرائن على خلافه » 2 بأنّ الواجب من النصّ ما يتمّ به الحجّة . فأخبر جلّ و علا ان نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان مكتوبا عند أهل الكتاب في توراتهم و إنجيلهم ، و نعلم قطعا انّه لم يكن مكتوبا كتبا واضحا بحيث لا يمكن إنكاره بدليل أنّ أهل الكتاب ينكرون ذلك و لو كانوا لا ينكرونه لأسلموا و ما بقوا على دينهم .
و لو كان الوضوح بتلك المثابة شرطا ، فليضرب على كثير مما قامت عليه البراهين القطعية . فإنّ وجود الصانع للعالم أوضح من الشمس عند العقل مع انكار الدهريّين له .
و ليس الشرط في الدليل على شيء أن يكون كما ذكر بسنة اللّه تعالى ،
و إلاّ لجسّم نفسه حتّى يشاهده الكل ، و لا يبقى غير موحد ، و ينزل الملائكة من السماء و يجعل الموتى يكلّمهم ، و يحشر عليهم كلّ شيء قبلا بحقيّة دين الاسلام ، و لو كان فعل ذلك لسقط البلاء الّذي يبلو به تعالى عباده ، و صارت الدنيا كالآخرة في الاضطرار إلى الإقرار به تعالى ، و بأنبيائه و رسله و ما جاءوا به من عنده ، و لم يبق فرق حينئذ بين سلمان و أبي جهل .
مع أنّه لو لم يكونوا لبسوا ، كانت النصوص عليه عليه السلام بذاك الوضوح ،
حيث دل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليه عليه السلام من مبدأ أمره في إنذار عشيرته إلى منتهاه ،
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 38 ، شرح الخطبة 215 ، و النقل بتصرف يسير . و الآية 8 من سورة الصف .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 38 .
[ 477 ]
و من مبعثه إلى احتضاره في ارادته صلّى اللّه عليه و آله و سلم تسجيل خلافته عليه السلام في كتاب وصيته فصدّوه عنه ، و لا سيّما في الغدير الّذي صنّفت الخاصّة و العامّة مجلّدات في طرق خبره .
و يوضح ما قلنا من تلبيسهم الواضح الّذي لا مرية فيه أصلا ، قياس مراجعة الانسان عصره في تلبيس الملوك و أرباب الدنيا أمورا محسوسة يشهدها آلاف من الناس على العامة ، و خوف الخواصّ من التكلم : على ذاك العصر .
و أمّا قوله : « و هذا يقتضي أنّه عليه السلام كان في مبتدأ الأمر يظن أنّ العقد لغيره كان عن غير نظر في المصلحة إلى قوله إلى أن صحّ عنده أنّهم أصابوا » فممّا كان يضحك الثكلى . أكان باب مدينة علم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم يعلم الأصلح للإسلام و يعلمه من كان لم يعرف معنى الأبّ ، و من لم يعرف ما يعرف ربّات الحجول من أمر الصداق ؟
و ليست هذه الأقوال من إخواننا بعجب في جعل الرجلين أعرف بمصالح الإسلام ممّن كان بمنزلة نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بنص القرآن 1 . ألم يقولوا إنّهما كانا أعرف بمصالح الاسلام من نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حيث إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمرهما بالتجهّز في جيش أسامة ، و أكّد و شدّد حتّى لعن المتخلّف ،
و مع ذلك تخلّفا و قالا : كيف نتجهّز و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم شديد مرضه ، و أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الوصيّة ، فلم ير فاروقهم ذلك صلاحا ، و جعل كلامه هجرا .
و الأصل في الاعتذار الّذي قال أعداء أهل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كأبي عبيدة بن الجراح ، و معاوية بن أبي سفيان ، و نظرائهما . ففي ( خلفاء ابن قتيبة ) : « أنّ عليّا لمّا قال لأهل السقيفة : « نحن أولى برسول اللّه حيّا و ميّتا انصفونا إن كنتم
-----------
( 1 ) بالنظر الى قوله تعالى انفسنا و انفسكم آل عمران : 61 .
[ 478 ]
تؤمنون و إلاّ فبوءوا بالظلم و أنتم تعلمون » فقال له عمر : لست متروكا حتّى تبايع . قال له أبو عبيدة بن الجراح : يا أبا الحسن إنّك حديث السنّ ، و هؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم و معرفتهم بالأمور ، و لا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك ، و أشدّ احتمالا » الخ 1 .
و في ( مقاتل أبي الفرج ) و غيره أنّ الحسن عليه السلام بعد قيامه بعد أبيه عليه السلام لما كتب إلى معاوية « فاليوم فليعجب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف ، و لا أثر في الاسلام محمود ، و أنت ابن حزب من الأحزاب ، و ابن أعدى قريش للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، كتب معاوية إليه « و الحال في ما بيني و بينك اليوم مثل الحال الّتي كنتم عليها أنتم و أبو بكر بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و لو علمت أنّك أضبط منّي للرعيّة ، و أحوط على هذه الأمّة ،
و أحسن سياسة ، و أقوى على جمع الأموال ، و أكيد للعدو ، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ، و رأيتك لذلك أهلا . و لكنّي قد علمت أنّي أطول منك ولاية ، و أقدم منك لهذه الامة تجربة ، و أكثر منك سياسة » 2 .
و حينئذ فليقل : إنّ خلافة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إن كانت سلطنة دنيوية محضة كما ادّعاه فاروقهم . فقال لصدّيقهم : « إنّ النبي رضيك في صلانك بنا لأمر ديننا أفلا نرضاك لدنيانا بأن نبايعك و نولّيك خلافته » 3 و لازمه كون أصل النبوة أيضا كذلك كما صرّح به خالهم للمغيرة في تأسّفه من عدم استطاعته رفع اسم ذاك الرجل الهاشمي : أي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من المأذنات ، و ابنه في قوله :
لعبت هاشم بالملك كان الأمر كما قال الشارح من كون تصدّى أبي بكر للأمر
-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 11 ، و النقل بتلخيص .
-----------
( 2 ) رواه أبو الفرج في المقاتل : 35 و 37 ، و المدائني ، و عنه شرح ابن أبي الحديد 4 : 9 ، شرح الكتاب 31 .
-----------
( 3 ) رواه عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 123 ، شرح الخطبة 26 ، و النقل بالمعنى .
[ 479 ]
أصلح ، و كان خلافة عن رسول ربّ العالمين في ما يفعل ، و يقول كما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في جواب أبي عبيدة عن كلامه المتقدّم : « نحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القاري لكتاب اللّه . الفقيه في دين اللّه . العالم بسنن رسول اللّه . المضطلع بأمر الرعيّة . الدافع عنهم الامور السيّئة . القاسم بينهم بالسويّة . و اللّه انّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل اللّه . فتزدادوا من الحق بعدا » فكلامه كما ترى .
و من المضحك قول الشارح : إلى أن صحّ عنده و ثبت في نفسه أنّهم أصابوا في ما فعلوه إلى قوله : فأذعن بالبيعة الخ . فهل كانت شكايته عليه السلام يوم السقيفة فقط ، مع أنّ من المتواتر شكايته عليه السلام منهم إلى آخر عمره .
و في خطبته لمّا سألوه عن رأيه في أبي بكر و عمر بعد فتح معاوية لمصر في جملة كلامه عليه السلام في ذكر يوم الشورى : « فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي ، لأنّهم كانوا يسمعونني و أنا احاجّ ابا بكر فأقول : « يا معشر قريش أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان منّا من يقرأ القرآن ، و يعرف السنّة » فخشوا أن ولّيت عليهم ألاّ يكون لهم في هذا الأمر نصيب . فبايعوا إجماع رجل واحد حتّى صرفوا الأمر عنّي لعثمان . فأخرجوني منها رجاء أن يتداولوها حين يئسوا أن ينالوها » الخ 1 .
فإنّه صريح في أنّه عليه السلام في ذاك الوقت الّذي كان قرب وفاته كان معتقدا أنّ الخلافة لغيره ، و غير أهل بيته غير صحيحة ، و انّ الخلافة ليست بجعل جاعل ، و إنّما هي كالنبوة أمر من قبل اللّه تعالى .
و هو عقيدة أهل بيته أهل بيت العصمة و الطهارة ففي كتاب الحسن عليه السلام إلى معاوية و قد رواه أبو الفرج : « فلمّا صرنا أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أولياؤه
-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 307 ، و غيره .
[ 480 ]
إلى محاجّتهم ، و طلب النصف منهم ، باعدونا و استولوا بالاجتماع على ظلمنا و مراغمتنا و العنت منهم لنا ، فالموعد اللّه و هو الولي النصير . و قد تعجّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا ، و سلطان نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم . . . » 1 .
و مثله كتب الحسين عليه السلام من مكة إلى أهل البصرة في ما رواه الطبري 2 ، و قد هدّد معاوية الحسن عليه السلام باظهاره عقيدته عند العوام . فكتب إليه : « رأيتك صرّحت في كتابك بتهمة أبي بكر الصّديق ، و عمر الفاروق ،
و أبي عبيدة الأمين و حواري النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و صلحاء المهاجرين ، و الأنصار فكرهت ذلك لك . فإنّك امرؤ عندنا و عند الناس غير ظنين و لا المسيء و لا اللئيم ، و أنا أحبّ لك القول السديد و الذكر الجميل . . . » 3 .
و إخواننا أخذوا دينهم عن معاوية . فكتب إلى الحسن عليه السلام في كتابه ذاك « انّ هذه الامّة لمّا اختلفت بعد نبيّها لم تجهل فضلكم ، و لا سابقتكم و لا قرابتكم من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لا مكانتكم في الاسلام و أهله ، فرأت الامّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيّها ، و رأى صلحاء الناس من قريش و الأنصار ،
و غيرهم من سائر الناس ، و عامّتهم أن يولّوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما و أعلمها باللّه و أحبّها له ، و أقواها على أمر اللّه و اختاروا أبا بكر ، و كان ذلك رأي ذوى الحجى و الدين و الفضيلة ، و الناظرين للأمة ، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة ، و لم يكونوا بمتّهمين ، و لا في ما أتوا بمخطئين ، و لو رأى المسلمون فيكم من يغني غناءه أو يقوم مقامه أو يذبّ عن حريم المسلمين ذبّه ، ما عدلوا بذلك الأمر إلى غيره رغبة عنه ، و لكنهم عملوا في ذلك بما رأوه
-----------
( 1 ) رواه أبو الفرج في المقاتل : 35 .
-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 4 : 266 ، سنة 60 .
-----------
( 3 ) رواه أبو الفرج في المقاتل : 36 .
[ 481 ]
صلاحا للاسلام و أهله ، فاللّه يجزيهم عن الاسلام و أهله خيرا » 1 .
قال معاوية في قبال دفع ابن بنت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الّذي شهد اللّه تعالى بعصمته ، و صرّح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بكونه سيّد شباب أهل الجنّة عن مقامه الّذي جعله اللّه تعالى له ، أنّ صلحاء الناس اختاروا أبا بكر لكونه أقدمهم سلما ،
و أعلمهم باللّه و أقواهم . لكن لمّا أراد استخلاف ابنه يزيد ، و ادّعى عبد اللّه بن عمر ، و عبد اللّه بن الزبير أنّهما أحق قال : « انّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنّهم أهل رسول اللّه فلمّا مضي رسول اللّه ولّى الناس أبا بكر و عمر من غير معدن الخلافة و الملك غير أنّهما سارا بسيرة جميلة . ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف . فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، و قد أخرجك اللّه يا ابن الزبير و أنت يا ابن عمر منها » 2 فان كان كلام معاوية حجّة لهم فلم اقتصروا على كلامه الأوّل .
مع أنّ قوله عليه السلام الأوّل دالّ على بقاء أهل البيت على إنكارهم إلى الأبد و أمّا بيعته عليه السلام أخيرا بعد إتمام الحجّة و استقرار الملك ، فلئلاّ يقتل كما قتل سعد بن عبادة ، كما انّه عليه السلام لم يتكلّم ايّام قيام عمر لئلاّ يقتل ، و انّما استطاع أن يتكلّم يوم الشورى فتكلّم .
و لقد أغرب في تعليلاته في قوله : « لأنّه رأى من بغض الناس له » إلى آخر ما عدّد ، فهل ما عدّد امور يصحّح خلافة المتقدّمين أو يبطلها فإنّما هي أسباب لدفعهم له عليه السلام عن حقّ جعله اللّه تعالى له ، فإذا كان ذلك مصحّحا لخلافة المتقدّمين عليه كان قتل يحيى بن زكريا لكونه ينهى الملك الباغي عن البغاء صحيحا . فإنّه خلط بين سبب وقوع شيء ، و سبب جوازه و صحّته .
-----------
( 1 ) رواه أبو الفرج في المقاتل : 36 .
-----------
( 2 ) مناظرة ابن الزبير و معاوية رواها ابن عبد ربه في العقد الفريد 4 : 88 ، بتفصيل و غيره .
[ 482 ]
كما أنّ قوله عليه السلام : « إنّا صنائع ربّنا ، و الناس بعد صنائع لنا » لم يكن سببا لتأخيره بل لتقديمه فهو بنص القرآن كنفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم 1 و معلوم شموخ مكان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن سائر الناس .
و أما قوله : « و انّه لو ولي الأمر لفتقت على العرب » و قوله : « فقد رأيت انتقاض العرب عليه العرب حين بويع بعد خمس و عشرين سنة . . . » ، فمغالطة .
فلو كان عليه السلام ولي لاتّفقت عليه الامّة عربهم و عجمهم لكونه من بيت الرسالة .
فقال لهم سلمان كما روى ( سقيفة الجوهري ) : « لو جعلتموها في أهل بيت نبيكم ما اختلف عليكم اثنان و لأكلتموها رغدا » 2 .
و قال عبد اللّه بن جعفر لمعاوية لما قدم المدينة لأخذ البيعة ليزيد كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) : « و أيم اللّه لو ولّوه ( أمير المؤمنين عليه السلام ) بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه لحقّه و صدقه و لأطيع الرحمن ، و عصي الشيطان ، و ما اختلف في الامة سيفان » 3 .
و إنّما صار تصدّي أبي بكر للأمر سببا لخروج من خرج و ارتداد من ارتدّ ، و قيام الأنصار ، و غير ذلك كما صرّح به في تاريخ ابن أعثم الكوفي و غيره 4 .
فالمناسب أن يقال للرجل : « إقلب تصب » ، بل نقول : لو كان عليه السلام ولي بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لدانت له قريش و بنو اميّة قهرا كما دانوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قهرا بعد فتحه لمكّة ، و الأصل في بغضهم له عليه السلام بغضهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم . أفلم يقل ابن رئيس قريش و بني امية يزيد بن معاوية .
-----------
( 1 ) بالنظر إلى قوله تعالى انفسنا و انفسكم آل عمران : 61 .
-----------
( 2 ) السقيفة : 43 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 3 ) الإمامة و السياسة 1 : 173 .
-----------
( 4 ) هذا استنباط الشارح من كلام ابن أعثم في الفتوح 1 : 2 7 .
[ 483 ]
لست من خندف إن لم أنتقم
من بني أحمد ما كان فعل ؟
و أمّا ما قاله « من انتشار الأمر عليه يوم قيامه » فإنّما كان سببه فاروقهم ، و لم ينتقض عليه عرب و لا عجم ، و إنّما انتقض عليه طلحة و الزبير لجعل فاروقهم لهما قرينين له عليه السلام يوم الشورى مع مساعدة ابنة صدّيقهم لهما ، و انتقض عليه معاوية لأنّ فاروقهم جعله واليا في عصره على جميع بلاد الشام ، و فوّض الأمر إلى جميع بني اميّة باسم عثمان .
مع أنّه لو كان الأمر كما قال من عدم صلاح تصدّيه عليه السلام للأمر بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بما لفّق ، لم يكن تصدّيه عليه السلام بعد عثمان أيضا صلاحا ، فلم جعلوه من خلفائهم ، فلا بدّ أن يصير إلى قول من عدّ قيامه فتنة ، و كفاهم بذلك خزيا .
و أما قوله : « فكيف كانت تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة ، و سيفه بعد يقطر دما من مهج العرب إلى قوله إذن كانت تدرس أعلام الملّة » فقد عرفت أنّه ليس كذلك لو لم يكن صدّيقهم و فاروقهم تواطئا أوّلا مع أعداء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فعصياه في الخروج في جيش اسامة ، و المنع عن الوصية ، و أخذ البيعة منه عليه السلام بإحراق بيته و أهل بيته فاطمة و الحسنين ، و ضرب عنقه لو لم يخرج ، و لم يبايع .
نعم لو كان عليه السلام قام مع تلك الكيفية بتواطئهما مع الطلقاء ، لدرست أعلام الملّة ، و لفسد ما أصلحه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بمساعدته عليه السلام في ثلاث و عشرين سنة ، فرضي عليه السلام بمسالمتهم لئلاّ يضمحلّ الدّين ، فخطب عليه السلام في أوّل خلافته و قال : « إنّ اللّه تعالى لمّا قبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قلنا نحن أهل بيته لا ينازعنا في سلطانه منازع ، إذ نفر المنافقون فانتزعوا سلطان نبيّنا منّا و ولّوه غيرنا ، و أيم اللّه لولا مخافة الفرقة بين المسلمين ، و أن يعودوا إلى الكفر ، لكنّا
[ 484 ]
غيرنا ذلك ما استطعنا . . . » 1 .
كما أنّ ابنه الحسين رضي بقتل نفسه ، و أعزّته ، و أسرحرمه و عترته بعدم المسالمة مع يزيد لئلاّ يضمحلّ الدّين حسب اقتضاء وقته . فكان عليه السلام يقول : « لو لم يبق في الأرض ملجأ لي لم أبايع يزيد ، و لو بايعته فعلى الاسلام السلام » 2 .
و أمّا قول ابن أبي الحديد : « فكان من عناية اللّه تعالى بهذا الدين أن ألهم الصّحابة ما فعلوه » فإنّي استحي عوضه من كلامه . فهل كان سبب حدوث هذه المذاهب الفاسدة ، و صدور جنايات الجبابرة من الاموية و العباسية ،
و قتل أهل بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالسيف و السم ، و حبسهم ، و نهبهم و أسرهم في كلّ عصر و تفصيلها مذكورة في مقاتل أبي الفرج الاصبهاني و شنائع أخر سوّدت وجه التاريخ إلاّ ما فعل اولئك الصحابة ، و انّما أرادوا إطفاء نور اللّه بما فعلوا و لكنّ الحق ظهر و تبيّن بما تحمّل عليه السلام ، و يأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره و لو كره المشركون .
و لو كان ابن أبي الحديد قال : « و كان من عقوبة اللّه لاولئك الصحابة ،
و باقي الناس الّذين رضوا بفعلهم و لم ينكروا ، أن ولاّهم اللّه أيام عثمان بني امية ، فاتّخذوا دين اللّه دغلا ، و عباده خولا ، و مال اللّه دولا ، و ولاّهم معاوية و يزيد ، و المروانيّة و أن حرمهم من نعمة أهل بيت نبيّهم أهل بيت الرحمة إلاّ أياما معدودة في قيامه عليه السلام ، و قد قال فيها : « لو لا حضور الحاضر ، و قيام الحجّة بوجود الناصر لسقيت آخرها بكأس أوّلها ، و لألقيت حبلها على غاربها » 3 كان في محله .
-----------
( 1 ) رواه المدائني ، و عنه شرح ابن أبي الحديد 1 : 101 ، شرح الخطبة 22 ، و النقل بتصرف في اللفظ .
-----------
( 2 ) أقرب الألفاظ ما أخرجه الخوارزمي في مقتل الحسين 1 : 188 .
-----------
( 3 ) هذه فقرات من الخطبة الشقشقية رواها الشريف الرضيّ في نهج البلاغة 1 : 36 ، الخطبة 3 .
[ 485 ]