من الخطبة ( 87 ) بعد كلامه عليه السّلام في بعثة النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم :
فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اَللَّهِ وَ اُذْكُرُوا تِيكَ اَلَّتِي آبَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ وَ عَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ وَ لَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَ لاَ بِهِمُ اَلْعُهُودُ وَ لاَ خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمُ اَلْأَحْقَابُ وَ اَلْقُرُونُ وَ مَا أَنْتُمُ اَلْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ كُنْتُمْ فِي أَصْلاَبِهِمْ بِبَعِيدٍ . وَ اَللَّهِ مَا أَسْمَعَكُمُ ؟ اَلرَّسُولُ ؟ شَيْئاً إِلاَّ وَ هَا أَنَا ذَا اَلْيَوْمَ مُسْمِعُكُمُوهُ وَ مَا أَسْمَاعُكُمُ اَلْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالْأَمْسِ وَ لاَ شُقَّتْ لَهُمُ اَلْأَبْصَارُ وَ لاَ جُعِلَتْ لَهُمُ اَلْأَفْئِدَةُ فِي ذَلِكَ اَلْأَوَانِ إِلاَّ وَ قَدْ أُعْطِيتُمْ
-----------
( 1 ) النساء : 78 و 79 .
-----------
( 2 ) يأتي في العنوان 24 من هذا الفصل .
[ 547 ]
مِثْلَهَا فِي هَذَا اَلزَّمَانِ وَ اَللَّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ وَ لاَ أُصْفِيتُمْ بِهِ وَ حُرِمُوهُ وَ لَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ اَلْبَلِيَّةُ جَائِلاً خِطَامُهَا رِخْواً بِطَانُهَا فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ اَلْغُرُورِ فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ « فاعتبروا عباد اللّه و اذكروا تيك » : أي : تلك . قال الجوهري : « تا » : اسم يشار به إلى المؤنث ، فإن خاطبت جئت بالكاف فقلت : « تيك » 1 .
« التي آباؤكم و إخوانكم » الذين مضوا .
« بها » الآن .
« مرتهنون » كلّ نفس بما كسبت رهينة 2 ، كلّ امرىء بما كسب رهين 3 .
« و عليها » أي : على تلك الأعمال .
« محاسبون » و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه 4 و أما من اوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم اوت كتابيه و لم أدر ما حسابيه ياليتها كانت القاضية 5 .
« و لعمرى ما تقادمت » أي : ما صارت قديمة .
« بكم و لا بهم العهود » أي : الأعصار من قولهم : « كان ذلك على عهد فلان » أي عصره .
« و لا خلت » أي : مضت .
-----------
( 1 ) صحاح اللغة 6 : 2547 ، مادة ( تا ) ، و النقل بتقطيع .
-----------
( 2 ) المدثر : 38 .
-----------
( 3 ) الطور : 21 .
-----------
( 4 ) البقرة : 284 .
-----------
( 5 ) الحاقة : 25 27 .
[ 548 ]
« في ما بينكم و بينهم الأحقاب » أي : الدهور .
« و القرون » أي : الأزمنة . قال الشاعر :
إذا ذهب القرن الّذي أنت فيهم
و خلّفت في قرن فأنت غريب 1
« و ما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد » قال تعالى حاكيا عن شعيب : و يا قوم لا يجر منّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح و ما قوم لوط منكم ببعيد 2 .
« و اللّه ما أسمعهم الرسول » هكذا في ( المصرية ) ، و سقط منها بعده : « صلى اللّه عليه و آله » كما يشهد له ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) 3 .
« شيئا » فقال لهم في حجّة الوداع : « ما من شيء يقرّبكم من الجنّة و يباعدكم من النّار الاّ و قد أمرتكم به » 4 .
« الا و ها انا ذا اليوم مسمعكموه » ففي ( تفسير الثعلبي ) كما نقل عنه ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) قال زاذان : سمعت عليّا عليه السّلام يقول : و الّذي فلق الحبّة ، و برأ النسمة لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوارتهم ، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، و بين أهل الزبور بزبورهم ، و بين أهل الفرقان بفرقانهم ،
و الّذي نفسي بيده ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي إلاّ و أنا أعرف له آية تسوقه إلى الجنّة أو تقوده إلى النار . فقال له رجل : فما آيتك الّتي انزلت فيك ؟ فقال عليه السّلام : أ فمن كان على بيّنة من ربّه و يتلوه شاهد منه 5
-----------
( 1 ) اورده لسان العرب 13 : 334 ، مادة ( قرن ) .
-----------
( 2 ) هود : 89 .
-----------
( 3 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 134 لكن في شرح ابن ميثم 2 : 309 ايضا نحو المصرية .
-----------
( 4 ) أخرجه في ضمن الخطبة الكليني في الكافي 2 : 74 ، ح 2 و عاصم بن حميد في أصله : 23 و غيرهما .
-----------
( 5 ) هود : 17 .
[ 549 ]
فالنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم على بيّنة و أنا شاهد منه 1 .
« و ما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالأمس » فإنّ السامعة الّتي أعطيت اولئك أعطاهم مثلها .
« و لا شقّت لهم الأبصار و لا جعلت » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب :
« و جعلت » بدون لا ، كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) 2 .
« لهم الأفئدة في ذلك الأوان » أي : الزمان .
« إلاّ و قد اعطيتم مثلها » من الأبصار و الأفئدة .
« في هذا الزمان » أي : فكيف سمعوا و أبصروا و عقلوا ، و أنتم لا تسمعون و لا تبصرون و لا تعقلون .
« و اللّه » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب « و و اللّه » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) 3 .
« ما بصّرتم بعدهم شيئا جهلوه ، و لا اصفيتم به » أي : اوثرتم به . من :
أصفيته بالشيء إذا آثرت به .
« و حرموه » بأن يدّعوا أنّا لا نعمل كعملهم لأنّا بصّرنا شيئا كانوا هم جاهلين به ، و اصفينا بشيء كانوا محرومين منه .
قال ابن أبي الحديد : يمكن أن يجيبه عليه السّلام مجيب بأنّ المخاطبين ، و إن كانوا متساوين إلاّ أنّ المخاطبين مختلفون . فانّك و إن كنت ابن عمّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و أخاه و لحمه و دمه ، و فضائلك مشتّقة من فضائله ، و أنت قبس من نوره إلاّ أنّك لم ترزق القبول الّذي رزقه ، و لا انفعك لك النفوس انفعالها له ،
-----------
( 1 ) تذكرة الخواص : 16 .
-----------
( 2 ) يوجد « لا » ايضا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 134 و شرح ابن ميثم 2 : 310 .
-----------
( 3 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 134 لكن في شرح ابن ميثم 2 : 310 مثل المصرية أيضا .
[ 550 ]
و تلك خاصية النبوّة الّتي امتاز بها عنك . فإنّه لا يسمع كلامه أحد إلاّ أحبّه و مال إليه ، و لذلك كانت قريش تسمّى المسلمين قبل الهجرة الصابئة ،
و يقولون : تخاف أن يصبو الوليد بن المغيرة إلى دين محمّد ، و لئن صبا الوليد ،
و هو ريحانة قريش ، لتصبونّ قريش بأجمعها ، و قالوا فيه : ما كلامه إلاّ السحر ،
و إنّه ليفعل بالألباب فوق ما يفعل الخمر ، و نهوا صبيانهم عن الجلوس إليه لئلاّ يستميلهم بكلامه و شمائله ، و كان إذا صلّى في الحجرة و جهر ، يجعلون أصابعهم في آذانهم ، و يستغشون ثيابهم ، و لذا أسلم الناس بمجرد سماع كلامه و رؤيته ، و مشاهدة روائه و منظره ، و هذا من أعظم معجزاته ، و هو القبول الّذي منحه اللّه تعالى ، و الطاعة الّتي جعلها في قلوب الناس له ، و ذلك على الحقيقة سرّ النبوّة الّتي تفرّد به النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم فكيف انتظر عليه السّلام من الناس أن يكونوا معه كما كان آباؤهم و إخوانهم مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم 1 ؟ قلت : ليس الفرق بينهما ما ذكر ، و إنّما الفرق أنّ الناس في أوّل الأمر كان من تبع منهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم تبعه طلبا للحقيقة و رفضا للخرافات و منكرات الجاهلية ، و ليس في يدهم من الدنيا شيء ، و في عصره عليه السّلام قست قلوبهم و كانت الدنيا أقبلت عليهم من كلّ وجه .
و ما ذكره من تأثير كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم إنّما كان من القرآن الّذي يقرأه عليهم فلمّا سألت قريش الوليد عن القرآن أي شيء هو ؟ قال لهم : إن هذا إلاّ سحر يؤثر إن هذا إلاّ قول البشر 2 و لم يكن من خاصية النبوّة ، و إلاّ فقد قال تعالى : يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزؤن 3 .
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 135 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) المدثر : 24 ، 25 .
-----------
( 3 ) يس : 30 .
[ 551 ]
و مقصوده عليه السّلام من خطابه و عتابه أنّه كنفس النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم و فعل بهم ما فعل و قال لهم ما قال : و أتمّ عليهم الحجّة كما أتمّ ، و ليست الخصوصيات بدخيلة ، و إلاّ فجماعة غلوا في حقّه عليه السّلام لم يكونوا غلوا في حقّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ،
و إنّما كان عليه السّلام يدعوهم إلى الحق المحض و الآخرة الخالصة ، و لا يقنع لهم باللسان كما كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقنع فنفروا عنه . فورد في تفسير قوله تعالى :
إنّما أنت منذر و لكلّ قوم هاد » 1 انه عليه السّلام كان الهادي 2 .
و لو كان مجرّد المتابعة من خصوصيات النبوّة لكان أهل الدنيا أولى بالنبوّة . فإنّ الناس يميلون إليهم ، و لو كانوا في غاية الفظاظة ، و قد قال تعالى لنبيه صلى اللّه عليه و آله و سلّم : و لو كنت فظّا غليظ القلب لا نفضوا من حولك 3 .
و لقد كانت المؤلّفة قلوبهم و المنافقون في كمال الموافقة مع الثلاثة المتقدّمين عليه عليه السّلام مع بغضهم للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و دخولهم في الدين كرها .
و الوليد شخصه لم يكن ريحانة قريش بل قالوا مخزوم و هو منهم ريحانة قريش ، و لا معنى لإتيان حكم الكلّ للجزء ، و إن كانا كليّا و جزئيا .
ثم ما قاله من القبول الّذي منحه اللّه تعالى نبيّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم . و الطاعة الّتي قال جعلها اللّه له في قلوب الناس لم نرهما في صدّيقه و فاروقه في جيش اسامة و في وصيته صلى اللّه عليه و آله و سلّم .
« و لقد نزلت بكم البلية » أي : البلاء .
« جائلا » أي : مضطربا .
« خطامها » أي : زمامها .
-----------
( 1 ) الرعد : 7 .
-----------
( 2 ) أخرجه جمع كثير منهم ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم و الديلمي و ابن عساكر و ابن النجار و الضياء المقدسي عنهم الدر المنثور 4 : 45 .
-----------
( 3 ) آل عمران : 159 .
[ 552 ]
« رخوا بطانها » أي : الحزام الّذي يجعل تحت بطن البعير يقال : التقت حلقتا البطن إذا اشتد الأمر .
قال عليه السّلام ذلك لقيام معاوية في قباله ، و اشتداد أمره بانحياز المنافقين إليه ، و كونه ملاذا للمنحرفين عنه عليه السّلام ، فمن أراد عليه السّلام أخذه بالحقّ ، لحق بمعاوية ، و قد كان المتقدّمون عليه أسّسوا ذلك له .
« فلا يغرّنكم ما أصبح فيه أهل الغرور . فانّما هو ظلّ ممدود إلى أجل معدود » قال تعالى : يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم و اخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده و لا مولود هو جاز عن والده شيئا إنّ وعد اللّه حقّ فلا تغرّنكم الحياة الدنيا و لا يغرنكم باللّه الغرور 1 .
و مراده عليه السّلام أن لا ينظر أصحابه إلى أهل الدنيا الذين يتركونه و يلحقون بمعاوية . قال عدي بن حاتم بعد رفع أهل الشام المصاحف : « أيّها الناس إنّه و اللّه لو غير عليّ عليه السّلام دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه ، و لا وقع بأمر قطّ إلاّ و معه من اللّه برهان ، و في يده من اللّه سبب ، و انّه وقف عن عثمان بشبهة ،
و قاتل أهل الجمل على النكث ، و أهل الشام على البغي . فانظروا في اموركم و أمره . فإن كان له عليكم فضل و ليس لكم مثله فسلّموا له ، و إلاّ فنازعوا عليه .
و اللّه لئن كان إلى العلم بالكتاب و السنّة ، إنّه لأعلم الناس بهما ، و إن كان إلى الاسلام إنّه لأخو نبي اللّه ، و الرأس في الاسلام ، و لئن كان إلى الزهد و العبادة ،
إنّه لأظهر الناس زهدا ، و أنهكهم عبادة ، و لئن كان إلى العقول و النحائز ، إنّه لأشدّ الناس عقلا ، و أكرمهم نحيزة ، و لئن كان إلى الشرف و النجدة ، إنّه لأعظم الناس شرفا و نجدة 2 .
-----------
( 1 ) لقمان : 33 .
-----------
( 2 ) الإمامة و السياسة 1 : 121 .
[ 553 ]
و في ( البيان ) : قال رجل للحسن البصري : بلغنا أنّك تقول : لو كان عليّ بالمدينة يأكل من حشفها لكان خيرا له ممّا صنع . فقال له : يالكع أما و اللّه لقد فقدتموه سهما من مرامي اللّه . غير سؤوم لأمر اللّه ، و لا سروقة لمال اللّه ، أعطى القرآن عزائمه في ما عليه و له . فاحلّ حلاله ، و حرّم حرامه ، حتّى أورده ذلك رياضا مونقة ، و حدائق مغدقة ، ذلك علي بن أبي طالب ، يالكع 1 .