29

الحكمة ( 311 ) و قال عليه السّلام لأنس بن مالك ، و قد كان بعثه إلى طلحة و الزبير لمّا جاء إلى البصرة يذكّرهما شيئا قد سمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم في معناهما ، فلوى عن ذلك فرجع إليه ، فقال : إنّي أنسيت ذلك الأمر ،

فقال عليه السّلام :

إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَضَرَبَكَ اَللَّهُ بِهَا بَيْضَاءَ لاَمِعَةً لاَ تُوَارِيهَا اَلْعِمَامَةُ قال : يعنى البرص فأصاب أنسا هذا الدّاء فيما بعد في وجهه ، فكان لا يرى إلا متبرقعا .

أقول : قال ابن أبي الحديد : المشهور أنّ عليّا عليه السّلام ناشد الناس اللّه في الرحبة بالكوفة . فقال : انشدكم اللّه رجلا سمع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول لي ، و هو منصرف من حجّة الوداع : « من كنت مولاه فعلي مولاه اللهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه » فقام رجال فشهدوا بذلك . فقال عليه السّلام لأنس بن مالك لقد حضرتها فما بالك ؟ فقال يا أمير المؤمنين كبرت سنّي ، و صار ما أنساه أكثر ممّا أذكره . فقال له : « إن كنت كاذبا فضربك اللّه بها بيضاء لا تواريها العمامة » فما مات حتّى أصابه البرص . فأمّا ما ذكره الرضي من أنّه بعث أنسا إلى طلحة

-----------
( 1 ) الرعد : 7 .

-----------
( 2 ) تفسير القمي 1 : 359 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 573 ]

و الزبير فغير معروف إلى أن قال و قد ذكر ابن قتيبة حديث البرص ،

و الدعوة الّتي دعا بها أمير المؤمنين عليه السّلام على أنس في كتاب ( المعارف ) في باب البرص من أعيان الرجال ، و ابن قتيبة غير متّهم في حقّ عليّ عليه السّلام على المشهور من انحرافه عنه 1 .

قلت : الأمر كما ذكر ابن أبي الحديد من كون دعائه على أنس بالبرص لإنكاره حديث غدير خم . فروى المفيد في ( إرشاده ) عن إسماعيل بن عمير قال : حدّثني مسعر بن كدام . قال : حدّثنا طلحة بن عميرة . قال : أنشد عليّ عليه السلام الناس في قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » فشهد اثنا عشر رجلا من الأنصار ، و أنس بن مالك في القوم لم يشهد . فقال له عليّ عليه السلام : يا أنس قال : لبيّك . قال : ما يمنعك أن تشهد ، و قد سمعت ما سمعوا ؟ قال : يا أمير المؤمنين كبرت و نسيت . فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : « اللهم إن كان كاذبا فاضربه ببياض أو بوضع لا تواريه العمامة » . قال طلحة : فأشهد باللّه لقد رأيتها بيضاء بين عينيه 2 .

و رواه الكشيّ في ( رجاله ) مع زيادة شهود البراء بن عازب ، و عدم شهادته و دعائه عليه السّلام عليه بالعمى . فقال : روى عبد اللّه بن ابراهيم ، عن أبي مريم الأنصاري ، عن المنهال بن عمرو ، عن زرّ بن جيش . قال : خرج عليّ عليه السّلام من القصر . فاستقبله ركبان متقلّدون بالسيوف عليهم العمائم . فقالوا : « السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته . السلام عليك يا مولانا » فقال عليّ عليه السّلام من ها هنا من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم . فقام خالد بن زيد أبو أيوب ،

و خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، و قيس بن سعد بن عبادة ، و عبد اللّه بن بديل

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 4 : 388 .

-----------
( 2 ) الارشاد : 185 .

[ 574 ]

بن ورقاء فشهدوا جميعا أنّهم سمعوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعلي مولاه » . فقال عليّ عليه السّلام لأنس بن مالك ، و البراء بن عازب : « ما منعكما أن تقوما فتشهدا فقد سمعتما كما سمع القوم » ؟ ثم قال : « اللهمّ إن كانا كتماها معاندة فابتلهما » فعمي البراء بن عازب ، و برص قدما أنس بن مالك .

فحلف أنس ان لا يكتم منقبة لعليّ عليه السّلام ، و لا فضلا أبدا ، و أمّا البراء فكان يسأل عن منزله فيقال هو في موضع كذا و كذا . فيقول : كيف يرشد من اصابته الدعوة 1 .

قلت : « و قدما أنس بن مالك » : فيه مصحّف « و قدّام رأس أنس بن مالك » من النسخة . فمثله فيها كثير كما برهنّا عليه في رجالنا .

و رواه الصدوق في ( خصاله ) و في ( أماليه ) مع زيادة البراء ، و نفرين آخرين الأشعث ، و خالد البجلي . و في خبره : ثم أقبل على أنس . فقال : إن كنت سمعت النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : « من كنت مولاه فعلي مولاه » ثم لم تشهد لي اليوم .

فلا أماتك اللّه حتّى يبتليك ببرص لا تغطّيه العمامة . قال جابر الأنصاري : و اللّه لقد رأيت أنسا ، و قد ابتلي ببرص يغطّيه بالعمامة فما تستره . الخبر 2 .

و رواه ابن قتيبة في ( معارفه ) قال : أنس بن مالك : كان بوجهه برص ،

و ذكر قوم أنّ عليا عليه السّلام سأله عن قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : « اللهمّ و ال من والاه و عاد من عادا » فقال كبرت سنّي و نسيت . فقال له عليّ عليه السّلام : « إن كنت كاذبا فضربك اللّه ببيضاء لا تواريها العمامة » 3 .

و رواه ابن أبي الحديد في شرح قوله عليه السّلام « أما إنّه سيظهر عليكم رجل

-----------
( 1 ) اختيار معرفة الرجال : 45 ح 95 .

-----------
( 2 ) الخصال 1 : 219 ح 44 ، باب الأربعة ، و الأمالي : 106 ح 1 ، و المجلس 26 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 3 ) المعارف : 580 .

[ 575 ]

رحب البلعوم » عن شيوخ البغداديّين . قالوا : ناشد عليّ عليه السّلام الناس برحبة القصر : أيّكم سمع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » الخ 1 .

و قال ابن ميثم : روى عثمان بن مطرف أنّ رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن عليّ عليه السّلام . فقال : إنّي آليت أن لا أكتم حديثا سئلت عنه في عليّ بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتّقين يوم القيامة سمعته و اللّه من نبيّكم 2 .

و بالجملة ، المشهور عند العامة و الخاصّة أنّ دعاءه عليه السّلام على أنس بالبرص كان لإنكاره قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم في غدير خم : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » و نقل الرضي كونه لمّا أنكر شيئا سمعه من النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم في طلحة و الزبير كما مرّ ، و روى ( الأمالي ) كونه لمّا أنكر حديث الطير يوم الدار فروى عن أبي هدبة قال : رأيت أنس بن مالك معصوبا بعصابة . فسألته عنها فقال :

هي دعوة عليّ . فقلت له : و كيف كان ذلك عليه السّلام قال : اهدي إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم طائر مشوي . فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير . فجاء عليّ عليه السّلام فقلت له : النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم عنك مشغول ، و أحببت أن يكون رجلا من قومي إلى أن قال فلمّا كان يوم الدار استشهدني عليّ فكتمته فقلت : إنّي نسيته . فرفع عليّ عليه السّلام يده إلى السماء فقال : اللهمّ ارم أنسا بوضح لا يستره ثم كشف العصابة عن رأسه فقال : هذه دعوة عليّ ، هذه دعوة علي 3 .

و في ( المناقب ) : نظم ذلك الحميري فقال :

نبّئت أن أبانا كان عن أنس
يروي حديثا عجيبا معجبا عجبا

في طائر جاء مشويّا به بشر
يوما و كان رسول اللّه محتجبا

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 362 ، شرح الخطبة 57 .

-----------
( 2 ) بل رواه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 362 ، شرح الخطبة 57 .

-----------
( 3 ) أمالي الصدوق : 521 ح 3 ، المجلس 94 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

[ 576 ]

إلى أن قال :

فقد دعا ربّه المحجوب في أنس
بأن يحلّ به سقم حوى كربا

فناله السوء حتّى كان يرفعه
في وجهه الدهر حتّى مات منتقبا 1

و حيث إنّ كلاّ من الخبرين متواتر يمكن استشهاده عليه السّلام من أنس مرة لهذا و اخرى لذاك ، و يكون أنس أنكر كليهما فدعا عليه السّلام عليه ، و يكون ظهر أثر الدعاء بعد الثاني ، و لكن الاستشهاد لخبر الغدير مشهور مستفيض كما عرفت ، و لخبر الطير خبر واحد مثل الاستشهاد لما سمع في طلحة و الزبير إلاّ أنّ خبر الطير واحد مسند ، و للأخير خبر مرفوع .

هذا ، و قد عرفت من خبر الكشي أنّ البراء بن عازب أيضا لم يشهد لخبر الغدير لما استنشده عليه السّلام فدعا عليه بالعمى .

و روى ( الإرشاد ) : أن زيد بن أرقم أيضا لم يشهد . فدعا عليه السّلام عليه بالعمى أيضا .

فقال : روى أبو اسرائيل عن الحكم بن أبي سليمان المؤذن عن زيد بن أرقم قال : أنشد عليّ عليه السّلام الناس في المسجد . فقال : انشد اللّه رجلا سمع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : « من كنت مولاه فعلي مولاه اللهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه » فقام اثنا عشر بدريا ، ستّة من الجانب الأيمن ، و ستّة من الجانب الأيسر . فشهدوا بذلك فقال زيد بن أرقم : و كنت أنا في من سمع ذلك فكتمته فذهب اللّه ببصري و كان يندم على ما فاته من الشهادة و يستغفر اللّه 2 .

و روى الجزري في ( اسد غابته ) كتمان عبد الرحمن بن مدلج ، و يزيد بن وديعه و دعاءه عليه السّلام عليهما بالعمى أيضا ، فروى عن أبي إسحاق . قال : حدّثني

-----------
( 1 ) مناقب السروي 2 : 283 .

-----------
( 2 ) الإرشاد : 185 .

[ 577 ]

عمرو بن ذي مر ، و يزيد بن نثيع ، و سعيد بن وهب ، و هاني بن هانى ، و حدّثني من لا أحصي أنّ عليا عليه السّلام نشد النّاس في الرحبة من سمع قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم « من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ ، و ال من والاه و عاد من عاداه » ، فقام نفر فشهدوا أنّهم سمعوا ذلك من النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ، و كتم قوم ، فما خرجوا من الدنيا حتّى عموا ، و أصابتهم آفة ، منهم يزيد بن وديعة و عبد الرحمن بن مدلج 1 .

و ممّن روى استنشاده عليه السّلام ، يعلى بن مرّة . روى أيضا ( أسد الغابة ) عن عمر بن عبد اللّه بن يعلى بن مرّة عن أبيه عن جدّه قال : سمعت النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : « من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه » ، فلمّا قدم عليّ عليه السّلام الكوفة نشد الناس من سمع ذلك من النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فانتشد له بضعة عشر رجلا فيهم عامر بن ليلي الغفاري 2 .

و روى الخبر في عنوان زيد بن شراحيل الأنصاري ، و عدّه في من شهد و رواه في عنوان ناجية بن عمرو الخزاعي و عدّه في من شهد 3 .

و ممّن روى استنشاده عليه السّلام : الأصبغ بن نباتة . روى الجزري أيضا في ( اسده ) بإسناده عنه . قال : نشد عليّ عليه السّلام الناس في الرحبة : من سمع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يوم غدير خم ما قال إلاّ قام قال : و لا يقوم إلاّ من سمع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : فقام بضعة عشر رجلا فيهم أبو أيّوب الأنصاري ، و أبو عمرة بن محصن ، و أبو زينب ، و سهل بن حنيف ، و خزيمة بن ثابت ، و عبد اللّه ابن ثابت الأنصاري ، و حبشي بن جنادة السلولي ، و عبيد بن عازب الأنصاري ،

و النعمان بن عجلان الأنصاري ، و ثابت بن وديعة الأنصاري ، و أبو فضالة

-----------
( 1 ) اسد الغابة 3 : 321 .

-----------
( 2 ) اسد الغابة 3 : 93 .

-----------
( 3 ) اسد الغابة 2 : 233 و 5 : 6 .

[ 578 ]

الأنصاري ، و عبد الرحمن بن عبد رب الأنصاري ، فقالوا : نشهد أنّا سمعنا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : « ألا إنّ اللّه عزّ و جلّ وليّي و أنا وليّ المؤمنين ، ألا فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ و ال من والاه ، و عاد من عاداه ، و أحبّ من أحبّه ،

و أبغض من أبغضه ، و أعن من أعانه » 1 .

و من هذا الخبر يظهر كون أبي أيوب ، و أبي عمرة ، و أبي زينب ، و سهل بن حنيف ، و ذي الشهادتين ، و عبد اللّه بن ثابت ، و حبشي السلولي ، و عبيد الأنصاري و النعمان الأنصاري ، و ثابت الأنصاري ، و أبي فضالة الأنصاري ،

و عبد الرحمن الأنصاري ممّن سمع قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم في غدير خم .

كما يظهر من الخبر السابق سماع يعلى بن مرة ، و عامر بن ليلى الغفاري ، و زيد بن شراحيل الأنصاري ، و ناجية بن عمرو الخزاعي أيضا ،

قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم ، من الأخبار الآتية سماع جمع آخر .

و ممّن روى استنشاده عليه السّلام أبو الطفيل فروى الجزري في ( الاسد ) أيضا عنه قال : كنّا عند عليّ عليه السّلام . فقال : انشد اللّه تعالى من شهد يوم غدير خم إلاّ قام .

فقام سبعة عشر رجلا منهم أبو قدامة الأنصاري . فقالوا : نشهد أنّا أقبلنا مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم من حجّة الوداع ، حتى إذا كان الظهر خرج فأمر بشجرات فشددن و ألقي عليهنّ ثوب . ثم نادى الصلاة فخرجنا فصلّينا ، ثم قام فحمد اللّه تعالى و أثنى عليه . ثم قال : أيّها الناس أتعلمون أنّ اللّه عزّ و جلّ مولاي و أنا مولى المؤمنين ، و أنا أولى بكم من أنفسكم ؟ يقول ذلك مرارا قلنا : نعم . و هو آخذ بيدك يقول : « من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه » ثلاث مرّات 2 .

-----------
( 1 ) اسد الغابة 3 : 307 .

-----------
( 2 ) اسد الغابة 5 : 276 .

[ 579 ]

و منهم زاذان فروى ( مسند أحمد بن حنبل ) ، و ( سنن الترمذي ) كما في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) عن زاذان قال : سمعت عليّا عليه السّلام يقول في الرحبة ،

و هو ينشد الناس يقول : انشد اللّه رجلا سمع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » فقام ثلاثة عشر رجلا من الصحابة .

فشهدوا أنّهم سمعوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول ذلك .

و زاد الثاني في قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : « اللّهم وال من والاه ، و عاد من عاداه ،

و أدر الحقّ معه كيفما دار ، و حيث دار » و حكم بكون الحديث حسنا 1 .

و منهم بريدة . فروى ( فضائل أحمد بن حنبل ) كما في ( التذكرة ) أيضا عن بريدة قال : لمّا أنشد عليّ عليه السّلام الناس في الرحبة ، قام خلق كثير فشهدوا له بذلك . و في لفظ « فقام ثلاثون رجلا فشهدوا » 2 .

و منهم عمرو بن ذي مر ، و يزيد بن نثيع ، و سعيد بن وهب ، و هاني بن هاني و قد مرّ في رواية ( اسد الغابة ) عن أبي إسحاق عنهم ، و عن جمع آخر لا يحصيهم رواية ذلك .

و منه يظهر تواتر استنشاده عليه السّلام كتواتر أصل قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم . و في ( الأغاني ) مسندا عن يزيد بن عيسى بن مروق قال : كنت بالشام زمن ولي عمر بن عبد العزيز فجئته فقال لي : ممّن أنت ؟ قلت : من أهل الحجاز . قال : من أيّهم ؟

قلت : من المدينة قال : من أيّهم ؟ قلت : من قريش قال : من أيّهم ؟ قلت : من بني هاشم . قال : من أيّ بني هاشم ؟ قلت : مولى عليّ . قال : من عليّ : فسكتّ . قال :

من ؟ قلت : ابن أبي طالب . و كان متّكئا على إزار و كساء من صوف ، فجلس

-----------
( 1 ) رواه عنهما السبط في التذكرة : 28 ، و الحديث في مسند أحمد 1 : 84 ، و سنن الترمذي 5 : 633 ح 3713 ، و لفظ الترمذي « من كنت مولاه فعليّ مولاه » بلا زيادة .

-----------
( 2 ) تذكرة الخواص : 29 .

[ 580 ]

و طرح الكساء ثم وضع يده على صدره و قال : أنا و اللّه مولى عليّ . ثم قال :

أشهد على عدد ممّن أدرك النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم : من كنت مولاه فعليّ مولاه الخبر 1 .

و كما برص أنس ، و عمى البراء بن عازب ، و زيد بن أرقم ، و يزيد بن وديعة ، و عبد الرحمن بن مدلج ، و جمع آخر لادّعائهم النسيان كذبا ، كذلك نزل العذاب على الفهري الّذي أنكر على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قوله ذلك عنادا . فروى الثعلبي في تفسير قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قال ما قال في عليّ عليه السّلام طار في الأقطار ، و شاع في البلاد و الأمصار . فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري . فأتاه على ناقة له فأناخها على باب المسجد ثم عقلها ،

و جاء فدخل المسجد . فجثا بين يدي النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقال : يا محمّد إنّك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، و أنّك رسوله . فقبلنا ذلك منك ، و أمرتنا أن نصلّي في اليوم و الليلة خمس صلوات ، و أن نصوم شهر رمضان ، و نحجّ البيت ، و نزكّي أموالنا . فقبلنا منك ذلك . ثم لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبع ابن عمك ، و فضّلته على الناس و قلت : « من كنت مولاه فعلي مولاه » فهذا شي‏ء منك أو من اللّه ؟

فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قد احمرّت عيناه : « و اللّه الّذي لا إله إلاّ هو إنّه من اللّه و ليس منّي » قالها ثلاثا . فقام الحرث و هو يقول : « اللهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا فأرسل علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذا أليم » فو اللّه ما بلغ ناقته حتّى رماه اللّه من السماء بحجر فوقع على هامته فخرج من دبره و مات ، و أنزل تعالى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من اللّه ذي المعارج 2 .

-----------
( 1 ) الاغاني 9 : 263 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) رواه عن الثعلبي ، السبط في تذكرة الخواص : 30 ، و الآيات 1 3 من سورة المعارج .

[ 581 ]

و لو أردنا استقصاء رواياته لاحتجنا إلى مجلّدات ضخام قال السروي في ( مناقبه ) : ذكر حديث غدير خم محمّد بن إسحق صاحب المغازي ،

و البلاذري ، و مسلم ، و أبو نعيم الاصبهاني ، و الدار قطني ، و ابن مردويه ، و ابن شاهين ، و الباقلاني ، و الجويني ، و الثعلبي ، و الخركوشي ، و السمعاني ، و ابن أبي شيبة ، و ابن الجعد ، و شعبة ، و الأعمش ، و ابن عياش ، و الشعبي ، و الزهري ،

و ابن البيع و ابن ماجة ، و ابن عبد ربه ، و الاسكافي ، و أبو يعلى الموصلي .

قال : و رواه أحمد بن حنبل من أربعين طريقا ، و ابن بطة من ثلاث و عشرين طريقا ، و ابن جرير الطبري من نيّف و سبعين طريقا في ( كتاب الولاية ) ، و ابن عقدة من مئة و خمسة طرق ، و الجعابي من مئة و خمسة عشر طريقا .

قال : و صنّف عليّ بن هلال المهلّبي كتاب ( الغدير ) ، و ابن عقدة كتاب ( من روى غدير خم ) ، و مسعود الشجري كتاب ( رواة خبر الغدير ) . و استخرج منصور الرازي في كتابه أسماء رواته على حروف المعجم 1 .

و إخواننا يقولون : لو كان لم يحتجّ به أمير المؤمنين عليه السّلام يوم السقيفة ،

فقد عرفت في المتواتر احتجاجه به أيّام خلافته . فأنكره جمع حتّى دعا عليهم كما مرّ .

و مع كونه فوق التواتر فقد أنكره بعضهم ، رأسا قال الحموي في ادبائه في عنوان محمّد بن جرير الطبري : قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خم ، و قال : إنّ عليّا كان باليمن في الوقت الّذي كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بغدير خم ، و بلغ ذلك الطبري فابتدأ بالكلام في فضائل

-----------
( 1 ) مناقب السروي 3 : 25 .

[ 582 ]

عليّ عليه السّلام ، و ذكر طريق حديث خم 1 .

و روى ( أمالي المفيد ) عن ابن عقدة قال : قال محمّد بن نوفل الصيرفي :

كنت عند الهيثم بن حبيب الصيرفي ، فدخل علينا أبو حنيفة . فذكرنا عليّا عليه السّلام ،

و دار بيننا كلام . فقال أبو حنيفة : قلت لأصحابنا : لا تقرّوا لهم بحديث غدير خم فيخصموكم فتغيّر وجه الهيثم و قال : لم لا تقرّون به ؟ أما هو عندك ؟ قال : بلى و قد رويته . قال : فلم لا تقرّون به ، و قد حدّثنا به حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم أنّ عليّا عليه السّلام نشد الناس في الرحبة من سمعه .

فقال أبو حنيفة : أفلا ترون أنّه قد جرى في ذلك حوض حتّى نشد عليّ الناس لذلك ؟ فقال الهيثم : فنحن نكذّب عليا أو نردّ قوله ؟ فقال أبو حنيفة : ما نكذّب عليّا و لا نردّ قولا قاله ، و لكنّك تعلم أنّ الناس قد غلا منهم قوم . فقال الهيثم : يقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و يخطب به ، و نشفق نحن و نتّقيه بغلوّ غال أو قول قال ؟ ثم جاء من قطع الكلام 2 .

ترى انّ إمامهم أبا حنيفة أقرّ بإنكارهم لخبر غدير خم تعمّدا في قبال الشيعة لئلاّ يغلبوهم ، كاليهود الذين كانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا :

أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم أفلا تعقلون ، أولا يعلمون أنّ اللّه يعلم ما يسرّون و ما يعلنون .

و عمل أئمّة لغتهم و بلدانهم بقول أبي حنيفة و وصيّته ، كالجوهري ،

و الفيروز آبادي ، و الجزري ، و الحموي في كتبهم ، فسكتوا عن الإشارة إلى شي‏ء من ذلك في « غدير » و « خم » 3 كأن لم يكن شيئا : يريدون أن يطفئوا

-----------
( 1 ) معجم الادباء 18 : 84 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) أمالي المفيد : 26 ح 9 ، المجلس 3 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 3 ) كذا فعل الجوهري في صحاح اللغة 2 : 767 و 5 : 1916 ، و الفيروز آبادي في القاموس 2 : 100 و 4 : 109 ، و الجزري في النهاية 3 : 344 ، و 2 : 81 ، و الحموي في معجم البلدان 2 : 389 ، و 4 : 188 ، نعم ذكر الحموي في خم : « عنده

[ 583 ]

نور اللّه بأفواهم و يأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره و لو كره الكافرون 1 ، « و إنّما قال ابن دريد منهم في ( جمهرته ) في « خم » : « و خم غدير معروف ، و هو الموضع الّذي قام فيه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم خطيبا بفضل أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام » 2 و إن كان هو أيضا لوّح و لم يصرّح .

و من العجب أنّ ذاك الشيخ البغدادي الناصبي قال في قصيدته في إنكار الغدير :

ثم مررنا بغدير خم
كم قائل فيه بزور جم

على عليّ و النبيّ الامّي

فهل أراد إن مرّ في عصره على الغدير أن يرى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قائما إلى زمانه آخذا بيد عليّ عليه السّلام قائلا فيه ذاك القول . فإذا كان ذلك مستندا لإنكاره فلينكر مقام إبراهيم . فإنّه إذا مرّ عليه لم ير إبراهيم ثمة .

و بعضهم حمل أخباره على أنّه كان قضيّة خاصّة في واقعة ، و أنّه وقع بينه و بين زيد بن حارثة مخاصمة . ففي ( العقد الفريد ) : أنّ المأمون لمّا جمع أربعين من أجلّة علماء العامة ، و فيهم يحيى بن أكثم قاضي القضاة ، و كان متكلّمهم إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حمّاد بن زيد ليسجّل عليهم أفضلية أمير المؤمنين عليه السّلام ، و أنّه كان أولى الناس بالخلافة بعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال لإسحاق في ما قال : « هل تروي حديث الولاية ؟ قال : نعم . قال : إروه ، ففعل .

فقال له : أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر و عمر ما لم يوجب لهما عليه ؟ فقال : إنّ الناس ذكروا انّ الحديث إنّما كان بسبب زيد بن حارثة لشي‏ء ،

خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم .

-----------
( 1 ) التوبة : 32 .

-----------
( 2 ) جمهرة اللغة 1 : 71 .

[ 584 ]

جرى بينه و بين علي ، و أنكر ولاء عليّ . فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : « من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه » فقال له المأمون : في أيّ موضع قال هذا ؟ أليس قاله بعد منصرفه من حجّة الوداع ؟ قال : أجل . قال المأمون : فإنّ زيدا قتل بموته قبل الغدير . ثم كيف رضيت بهذا لنفسك ، أرأيت لو أنّ إبنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول مولاي مولى ابن عمّي ،

فاعلموا أيّها الناس ذلك ، أكنت منكرا عليه تعريفه الناس ما لا يجهلون ؟ فقال إسحاق : اللهمّ نعم . فقال له المأمون : أفتنزّه ابنك عمّا لا تنزّه عنه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ؟ و يحكم لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم . إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه : إتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللّه 1 لم يصلّوا لهم ، و لا صاموا ، و لا زعموا أنّهم أرباب ، و لكن أمروهم فأطاعوا أمرهم 2 .

و بعضهم أنكر دلالته بأنّ المولى مجمل لاشتراكه بين معان منها ابن العم كقول الشاعر :

مهلا بني عمّنا
مهلا موالينا 3 .

و هو ليس بأقل خبطا من سابقه فهل كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم مجنونا يخبر بالامور الّتي يعلمها كلّ أحد مع أنّه كما أكذب السابق موت زيد قبل قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ذاك . كذلك يبطل هذا أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان ابن عم الطالب و عقيل و جعفر ، و لم يكن أمير المؤمنين عليه السّلام ابن عمّهم بل أخاهم . فلا تصدق الجملة .

مع أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقل ذاك الكلام بدون المقدّمة ، بل قرّرهم أوّلا كرارا بأنّي ألست أولى بكم من أنفسكم حيث جعل اللّه تعالى ذلك لي في

-----------
( 1 ) التوبة : 31 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 5 : 324 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) أورده لسان العرب 15 : 408 ، مادة ( ولي ) .

[ 585 ]

القرآن : فقالوا في كلّ مرّة : بلى ، ثم أخذ بعضد أمير المؤمنين عليه السّلام و قال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » فيكون الكلام صريحا في أنّ كلّ من كنت أولى منه بنفسه فعليّ أولى منه بنفسه .

و كيف لم يكن الكلام صريحا ، و قد نظم القصّة حسّان بن ثابت . فقال :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم
بخمّ فأسمع بالرسول مناديا

و قال فمن مولاكم و وليّكم ؟
فقالوا و لم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا و أنت وليّنا
و مالك منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا علي فإنّني
رضيتك من بعدي إماما و هاديا

قال سبط ابن الجوزي : روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا سمع حسّانا ينشد هذه الأبيات . قال له : لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا و نافحت عنّا بلسانك .

و كيف ليس بصريح ، و قد نظم القصّة قيس بن سعد بن عبادة . فقال :

و عليّ إمامنا و إمام لسوانا
به أتى التنزيل

يوم قال النبيّ من كنت مولاه
فهذا مولاه خطب جليل

و انّ ما قاله النبيّ على الامّة
حتم ما فيه قال و قيل 1

و كيف ليس بصريح و قد أوضح كتاب اللّه تعالى فقال : إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون 2 و لا ريب في انّ الآية نزلت لمّا أعطى أمير المؤمنين خاتمه في الصلاة في الركوع سائلا سأل 3 .

و كيف يكون مجملا ، و قد لقي فاروقهم أمير المؤمنين عليه السّلام بعد قول

-----------
( 1 ) تذكرة الخواص : 33 .

-----------
( 2 ) المائدة : 55 .

-----------
( 3 ) رواه جمع كثير ، و أورد بعض طرقه السيوطي في الدر المنثور 2 : 293 و 294 ، و المجلسي في بحار الانوار 35 :

183 ، باب 4 .

[ 586 ]

النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيه على ما رواه ( فضائل أحمد بن حنبل ) فقال : هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة 1 .

هب أولئك الرؤساء لبّسوا لرياستهم . فما بال هؤلاء الأذناب يشرون آخرتهم بدنيا غيرهم ؟ و إلاّ فأيّ حقّ أوضح من كون أمير المؤمنين عليه السّلام أحقّ و قد دلّ عليه محكم الكتاب و السنّة القطعية ، و العقل السليم ، و الإجماع المحقّق .

و قال الصادق عليه السّلام : نعطي حقوق الناس بشهادة شاهدين ، و ما أعطي أمير المؤمنين عليه السّلام حقّه بشهادة عشرة آلاف نفس يعني الغدير 2 .

و قال سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) : حدّثنا شيخي عمرو بن صافي الموصلي : أنشد بعضهم أبيات الكميت في الغدير :

نفى عن عينك الأرق الهجوعا
و همّا تمتري عنه الدموعا

لدى الرحمن يشفع بالمثاني
فكان له أبو حسن شفيعا

و يوم الدوح دوح غدير خمّ
أبان له الولاية لو اطيعا

و لكنّ الرجال تبايعوها
فلم أر مثلها خطرا منيعا

و بات مفكّرا ، فرأى عليّا عليه السّلام في المنام فقال له أعد عليّ أبياتك للكميت فأنشده إلى قوله « فلم أر مثلها خطرا منيعا » فأنشده عليّ من قوله بيتا آخر زيادة فيها .

فلم أر مثل ذاك اليوم يوما
و لم أر مثله حقّا أضيعا

فانتبه الرجل مذعورا 3 .

نعم . من كان يكتم تقيّة كان معذورا . فروى ( فضائل أحمد بن حنبل ) : أنّ

-----------
( 1 ) رواه عنه السبط في تذكرة الخواص : 29 .

-----------
( 2 ) أخرجه السروي في مناقبه 3 : 26 .

-----------
( 3 ) تذكرة الخواص : 33 34 .

[ 587 ]

عبد الملك العوفي . قال لزيد بن أرقم : إنّ ختنا لي حدّثني عنك بحديث في شأن علي عليه السّلام يوم الغدير ، و أنا أحبّ أن أسمعه منك . فقال : إنّكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم . فقال : ليس عليك منّي بأس . فقال : نعم . كنّا بالجحفة . فخرج النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ظهرا ، و هو آخذ بعضد عليّ عليه السّلام فقال : « أيّها الناس ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ فقالوا : بلى ، فقال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » قالها أربع مرّات 1 .

قول المصنّف و قال عليه السّلام « لأنس بن مالك » و هو أخو البراء بن مالك المقتول بتستر في فتحها .

« و قد كان بعثه إلى طلحة و الزبير لما جاء » يعني : أمير المؤمنين عليه السّلام .

« إلى البصرة » من المدينة .

« يذكرهما » يعني أنسا .

« شيئا قد سمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم في معناهما » : أي هما المقصودان به و الظاهر ان المراد شي‏ء سمعه أنس من النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم في قيام طلحة و الزبير في الجمل بغيا عليه عليه السّلام .

و كيف كان فقول من النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم للزبير في أمر الجمل متواتر ، ذكره جميع أهل السير . كقوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم لعائشة في نبح كلاب الحوأب عليها في شخوصها إلى الجمل . ففي ( الطبري ) : قال قتادة : سار عليّ عليه السّلام من الزاوية يريد طلحة و الزبير و عائشة ، و ساروا من الفرضة يريدون عليّا عليه السّلام . فالتقوا عند موضع قصر عبيد اللّه بن زياد . فلمّا تراءى الجمعان قال عليّ عليه السّلام لطلحة و الزبير : « لقد أعددتما سلاحا و خيلا و رجالا إن كنتما أعددتما عند اللّه عذرا فاتّقيا اللّه سبحانه و لا تكونوا كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا » . فقال له

-----------
( 1 ) رواه عنه السبط في التذكرة : 29 ، و أخرجه أحمد في مسنده 4 : 368 ، و الصحيح « عبد الملك عن عطية العوفي » .

[ 588 ]

طلحة : ألببت الناس على عثمان . فقال علي عليه السّلام : يومئذ يوفّيهم اللّه دينهم الحقّ ، و يعلمون أنّ اللّه هو الحقّ المبين . يا طلحة أ تطلبني بدم عثمان ؟ فلعن اللّه قتلة عثمان يعني منّي و منكما و يا زبير أ تذكر يوم مررت مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم في بني غنم فنظر إليّ فضحك إليّ ، و ضحكت إليه . فقلت : لا يدع ابن أبي طالب زهوه . فقال لك النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : « صه . إنّه ليس به زهو و لتقاتلنّه ،

و أنت له ظالم » فقال : « اللهمّ نعم ، و لو ذكرت ما سرت مسيري هذا ، و اللّه لا اقاتلك أبدا » 1 .

« فلوى عن ذلك » : من « لواه بدينه ليّا و ليّانا » أي : مطله . قال ذو الرمة في الليّان :

تطيلين ليّاني و أنت ملية
و أحسن يا ذات الوشاح التقاضيا 2

« فرجع إليه . فقال : إنّي انسيت ذلك الأمر » : الّذي قلت اذكّرهما .

و مما عرفت من معنى « فلوى عن ذلك » يظهر لك ما في اعتراض ابن أبي الحديد على المصنّف بأنّ ما ذكره من انّه عليه السّلام بعث أنسا إلى طلحة و الزبير فغير معروف ، و لو كان قد بعثه ليذكّرهما بكلام يختصّ بهما من النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم لما أمكنه أن يرجع فيقول : إنّي انسيته ، لأنّه ما فارقه متوجّها نحوهما إلاّ و قد أقرّ بمعرفته و ذكره ، فكيف يرجع بعد ساعة أو يوم . فيقول : إنّي انسيته فينكر بعد الإقرار ؟ هذا ممّا لا يقع 3 .

فمن أين أنّ المصنّف قال : إنّ أنسا أقرّ أوّلا ، بل قال : أو لا « انّه لوى عن ذلك » فكان يمكن أنسا بعد ليّه أو لا أن يقول أخيرا في عذر ليّه بأنّه نسيه .

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 513 ، سنة 36 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) أورده لسان العرب 15 : 263 ، مادة ( لوي ) .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 4 : 388 .

[ 589 ]

و غاية ما يمكن الاعتراض على المصنّف أنّ حديث دعائه عليه السّلام على أنس بالبرص صحيح ، لكن المعروف كون دعائه عليه السّلام على برص أنس لإنكاره حديث غدير خمّ في رحبة الكوفة كما مرّ ، و لعلّ المصنّف وقف على رواية لم نقف عليها ، و يحتمل انّه اعتمد على باله بدون مراجعة كتاب فوهم .

« فقال عليه السّلام » هكذا في النسخ 1 ، و هو زائد بعد قوله أوّلا « و قال عليه السلام لأنس » و يمكن حمله على التأكيد اللفظي لحصول الفصل الكثير بين القول و المقول .

« إن كنت كاذبا » في ادّعائك النسيان .

« فضربك اللّه بها » أي : بتلك البليّة المفهومة من المقام كقوله تعالى : كلاّ إذا بلغت التراقي 2 .

« بيضاء لامعة » بيضاء سوء ، و كان جذيمة الأبرش أبرص فبدّلوا لفظ الأبرص بالأبرش لكونه ملكا يخاف عقابه .

« لا تواريها العمامة » دعا عليه السّلام عليه ببرص لا يمكنه ستره .

و مرّ دعاؤه عليه السّلام على البراء و زيد بن أرقم ، و يزيد بن وديعة ، و عبد الرحمن بن مدلج و غيرهم .

و دعا عليه السّلام على عبد الرحمن بن عوف لمّا انتخب عثمان في حكمية عمر له في الشورى . فروى عوانة في ( شوراه ) عن الشعبي أنّه لمّا بايع عثمان قال له علي عليه السّلام : إنّما آثرته بها لتنالها بعده ، دقّ اللّه بينكما عطر منشم 3 .

و قال أبو هلال العسكري في أوائله : استجيبت دعوة عليّ عليه السّلام في

-----------
( 1 ) كذا في نهج البلاغة 4 : 74 ، و شرح ابن أبي الحديد 4 : 388 ، و شرح ابن ميثم 5 : 398 .

-----------
( 2 ) القيامة : 26 .

-----------
( 3 ) رواه عنه و النقل بتصرف يسير 2 : 391 ، شرح الخطبة 137 .

[ 590 ]

عثمان و عبد الرحمن فما ماتا إلاّ متهاجرين متعاديين 1 .

و دعا عليه السّلام على رجل من عبس استخفّ به عليه السّلام فروى ( الإرشاد ) و ( ابن أبي الحديد ) عن حكيم بن جبير قال : شهدنا عليّا عليه السّلام على المنبر يقول : « أنا عبد اللّه و أخو رسول اللّه ، ورثت نبي الرحمة ، و نكحت سيّدة نساء أهل الجنّة ،

و أنا سيّد الوصيين ، و آخر أوصياء النبيّين ، لا يدّعي ذلك غيري إلاّ أصابه اللّه بسوء » فقال رجل من عبس كان جالسا بين القوم : « من لا يحسن أن يقول هذا :

أنا عبد اللّه و أخو رسول اللّه ؟ » فلم يبرح من مكانه حتى تخبّطه الشيطان فجرّ برجله إلى باب المسجد ، فسألنا قومه عنه فقلنا : هل تعرفون به عرضا قبل هذا ؟ قالوا : اللهمّ لا 2 .

و دعا عليه السّلام على بسر بن أرطأة لمّا قتل ابني عبيد اللّه بن العباس باليمن .

ففي ( مروج المسعودي ) : كان عليّ عليه السّلام حين أتاه خبر قتل بسر لابني عبيد اللّه دعا على بسر ، فقال : « اللهمّ اسلبه دينه و عقله » فخرف بسر حتّى ذهب عقله ،

و اشتهر بالسيف . فكان لا يفارقه ، فجعل له سيف من خشب ، و جعل في يديه زقّ منفوخ كلّما تخرّق أبدل ، فلم يزل يضرب ذلك الزقّ بذلك السيف حتّى مات ذاهل العقل يلعب بخرئه ، و ربما كان يتناول منه ثم يقبل على من يراه ، فيقول :

انظروا كيف يطعمني هذان الغلامان ابنا عبيد اللّه ، و كان ربّما شدّت يداه إلى وراء منعا من ذلك ، فأنجا ذات يوم في مكانه ، ثم أهوى بفيه فتناول منه فبادروا إلى منعه . فقال : أنتم تمنعوني و الغلامان قثم و عبد الرحمن يطعماني .

مات في أيّام الوليد بن عبد الملك 3 .

-----------
( 1 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 65 ، شرح الخطبة 3 .

-----------
( 2 ) رواه المفيد في الارشاد : 186 ، و ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 208 ، شرح الخطبة 37 .

-----------
( 3 ) مروج الذهب 3 : 163 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 591 ]

و دعا عليه السّلام على رجل كان يرفع اخباره إلى معاوية . روى ( الإرشاد ) عن جميع ابن عمير قال : اتّهم علي عليه السّلام رجلا يقال له العيزار برفع أخباره إلى معاوية . فأنكر ذلك و جحده فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : أتحلف أنّك ما فعلت ؟ قال : نعم . و بدر . فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : « إن كنت كاذبا أعمى اللّه بصرك » فما دارت الجمعة حتّى اخرج أعمى يقاد قد أذهب اللّه بصره 1 .

و دعا عليه السّلام على أحد أجداد أبي العيناء الّذي كان في عصره عليه السّلام بعماه و عمى ولده . قال ياقوت الحموي في ( معجم ادبائه ) في عنوان أبي العيناء : لقي جدّه الأكبر عليّا عليه السّلام . فأساء المخاطبة بينه و بينه . فدعا عليه بالعمى له و لولده بعده . فكلّ من عمي من ولد جدّه فهو صحيح النسب 2 .

و دعا عليه السّلام على رجل كذّبه بالعمى . فعن فضائل العشرة قال زاذان :

كذّب عليا عليه السّلام رجل في حديثه . فقال عليه السّلام : أدعو عليك إن كنت كذّبتني أن يعمي اللّه بصرك . قال : نعم . فدعا عليه السّلام عليه . فلم ينصرف حتّى ذهب بصره 3 .

و عنه أيضا : مرّ عليّ عليه السّلام على دار في مراد و هم يبنونها . فسقطت عليه قطعة فشجّته فدعا عليه السّلام أن لا يتمّ بناؤها فما وضعت عليها لبنة 4 إلى غير ذلك ممّا لو اريد استقصاؤها لا حتيج إلى كتاب مستقل .

« يعني البرص » هذا و روى ( عيون ابن قتيبة ) : أنّ الناس انتهبوا ورسا من الحسين عليه السّلام يوم قتل . فما تطيّبت منه امرأة إلاّ برصت 5 .

و في ( الطبري ) : أنّ إسحاق الحضرمي سلب قميص

-----------
( 1 ) الارشاد : 184 .

-----------
( 2 ) معجم الادباء 18 : 289 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) رواه عنه السروي في مناقبه 2 : 279 .

-----------
( 4 ) رواه عنه السروي في مناقبه 2 : 281 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 5 ) عيون الاخبار 1 : 212 .

[ 592 ]

الحسين عليه السّلام فبرص بعد 1 .

و في ( عمدة الطالب ) في ذكر الأرقط و هو محمّد بن عبد اللّه الباهر أخي الباقر عليه السّلام . قال أبو نصر البخاري : من يطعن فيه لا يطعن فيه من حيث النسب ،

و إنّما يطعنون فيه بشي‏ء جرى بينه و بين جعفر بن محمّد عليه السّلام ، يقال إنّه بصق في وجهه ، فدعا عليه فصار أرقط الوجه به رعش كريه المنظر 2 .

هذا ، و في ( الطبري ) : قال هشام : كان زرادشت في ما زعم قوم من علماء أهل الكتاب من أهل فلسطين خادما لبعض تلامذة إرميا النبيّ ، خاصّا به ، أثيرا عنده فخانه ، فكذب عليه ، فدعا اللّه عليه فبرص . فلحق ببلاد آذربيجان فشرع بها دين المجوسية . ثم خرج منها متوجها نحو بشتاسب و هو ببلخ .

فأعجبه . فقسر الناس على الدخول في دينه . فقتل في ذلك منهم مقتلة عظيمة 3 .

« فأصاب أنسا هذا الداء في ما بعد في وجهه فكان لا يرى إلاّ متبرقعا » و « مبرقعا » في ( المصرية ) تصحيف .

و استجابة دعائه عليه السّلام أبدا ، دلالة إمامته كالنصوص عليه ، و كسائر فضائله الجليلة الّتي لم توجد واحدة منها في غيره كالنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم .