31

الخطبة ( 3 ) و من خطبة له ع و هي المعروفة بالشقشقية أَمَا وَ اَللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي اَلْعَيْنِ قَذًى وَ فِي اَلْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ اَلْأَعْشَى :

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا
وَ يَوْمُ ؟ حَيَّانَ ؟ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ

[ 2 ]

مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ اَلْعِثَارُ فِيهَا وَ اَلاِعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ اَلنَّاسُ لَعَمْرُ اَللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اِعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ اَلْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ اَلْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اِعْتَرَضَ اَلرَّيْبُ فِيَّ مَعَ اَلْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ اَلنَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ اَلْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ اَلْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ إِلَى أَنِ اِنْتَكَثَ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ وَ اَلنَّاسُ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ اَلْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ اَلْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اَللَّهَ حَيْثُ يَقُولُ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 1 16 28 : 83 بَلَى وَ اَللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَوْ لاَ حُضُورُ اَلْحَاضِرِ وَ قِيَامُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ

[ 3 ]

قالوا : و قام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا ، فأقبل ينظر فيه . قال له ابن عباس رضى الله عنه يا أمير المؤمنين لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت . فقال : هيهات يا ابن عباس . تلك شقشقة هدرت ثم قرت . قال ابن عباس : فو الله ما أسفت على كلام قطّ كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السّلام بلغ منه حيث أراد .

قوله : « كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم ، و إن أسلس لها تقحم » : يريد أنّه إذا شدّد عليها في جذب الزمام ، و هي تنازعه رأسها خرم أنفها ، و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها . تقحمت به فلم يملكها . يقال « أشنق الناقة » إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه « و شنقها » أيضا ذكر ذلك ابن السكّيت في « إصلاح المنطق » و إنّما قال « أشنق لها » و لم يقل « أشنقها » لأنّه جعل في مقابل قوله : « أسلس لها » فكأنّه عليه السّلام قال : إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها .

أقول : و رواها الصدوق في ( علل شرائعه ) ، و ( معاني أخباره ) ، و المفيد في كتاب ( إرشاده ) و كتاب ( جمله ) ، و الشيخ الطوسي في ( أماليه ) ، و الراوندي في ( شرحه ) و الطبرسي في ( احتجاجه ) ، و سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) ،

و جمع آخر من العامّة و الخاصّة من المتقدّمين و المتأخرين كابن قبة و أبي القاسم البلخي ، و أبي عمرو الزاهد غلام ثعلب ، و أبي أحمد العسكري و غيرهم 1 .

أما الصدوق . فروى في ( علله ) عن محمّد بن علي ماجيلويه ، عن محمّد

-----------
( 1 ) رواها الصدوق في علل الشرائع 1 : 150 و 153 ح 12 و 13 ، و في معاني الأخبار : 360 ح 1 ، و المفيد في الارشاد :

152 ، و في الجمل : 62 ، و ابو علي الطوسي في أماليه 1 : 382 ، جزء 13 ، و الراوندي في شرحه 1 : 131 و الطبرسي في الاحتجاج 1 : 191 و السبط في التذكرة : 124 ، و رواها عن ابن قبة ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 206 ، و غيره و عن البلخي ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 205 ، و عن أبي عمر و الزاهد الكيندري في شرحه 1 : 193 ، و غيره ، و عن العسكري الصدوق في علل الشرائع 1 : 152 ، و معاني الاخبار : 362 ، و غيرهم .

[ 4 ]

بن أبي القاسم ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن أبان بن عثمان عن أبان بن تغلب ، عن عكرمة عن ابن عباس .

و رواه في ( معانيه ) مثله و زاد إسنادا آخر محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ، عن عبد العزيز بن يحيى الجلودي ، عن أحمد بن عمّار بن خالد ، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن عيسى بن راشد ، عن علي بن خزيمة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال : « و الله لقد تقمّصها أخو تيم ، و انّه ليعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنه السيل ، و لا يرتقي إليه الطير . فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا ،

و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخيّة عمياء . يشيب فيها الصغير ، و يهرم فيها الكبير ، و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى اللّه . فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى . فصبرت و في العين قذى ، و في الحلق شجا . أرى ترائي نهبا ،

حتّى إذا مضى الأوّل لسبيله . عقدها لأخي عدي بعده . فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته . إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، فصيّرها و الله في حوزة خشناء يخشن مسّها ، و يغلظ كلمها ، و يكثر العثار و الاعتذار . فصاحبها كراكب الصعبة ان عنف بها حرن ، و إن سلس بها غسق . فمني الناس بتلوّن و اعتراض ، و بلوا مع هن ، و هنّي . فصبرت على طول المدّة و شدّة المحنة . حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي منهم ، فيا لله لهم و للشورى ، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أقرن بهذه النظائر . فمال رجل بضبعه ، و أصغى آخر لصهره ، و قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله و متعلفه ، و قام معه بنو أبيه يهضمون مال الله هضم الإبل نبتة الربيع . حتّى أجهز عليه عمله . فما راعني إلاّ و الناس إليّ كعرف الضبع ، قد أنثالوا عليّ من كلّ جانب حتّى لقد و طئ الحسنان ، و شقّ عطافي ، حتىّ إذا نهضت بالأمر نكثت

[ 5 ]

طائفة ، و فسقت اخرى و مرق آخرون كأنّهم لم يسمعوا قول الله تعالى : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتّقين 1 بلى و اللّه لقد سمعوا ، و لكن أحلولت الدنيا في أعينهم ، و راقهم زبرجها . و الّذي فلق الحبّة و براء النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر ، و ما أخذ الله تعالى على العلماء أن لا يقرّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها ،

و لألفيت دنياكم أزهد عندي من عفطة عنز قال و ناوله رجل من أهل السواد كتابا . فقطع كلامه و تناول الكتاب . فقلت : لو اطردت مقالتك إلى حيث بلغت .

فقال : هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت . . . » .

و رواها ( العلل ) أخيرا بالسند الثاني في متنه مثل المتن : « إن أشنق لها خرم و أن أسلس لها تقحم » .

و أمّا المفيد فقال في ( إرشاده ) : روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال : كنت عند أمير المؤمنين عليه السّلام بالرحبة . فذكرت الخلافة و تقدّم من تقدم عليه . فتنفّس الصعداء ثم قال : « أم و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة . . . . » و فيه بدل « حتّى مضى الأول إلى بعده » « إلى أن حضره أجله فأدلى بها إلى عمر » و فيه بعد « ضرعيها » الشعر ثم « فصيرها و الله في ناحية خشناء يجفو مسّها و يغلظ كلمها ، صاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها عسف ، يكثر فيها العثار و يقل منها الإعتذار » .

و قال في جملة : فأمّا خطبته عليه السّلام الّتي رواها عبد الله بن عباس فهي أشهر من أن تدلّ عليها لشهرتها ، و هي الّتي يقول عليه السّلام في أوّلها : « و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة . . . » .

-----------
( 1 ) القصص : 83 .

[ 6 ]

و أما الشيخ ، فروى في ( أماليه ) : عن الحفّار ، عن أبي القاسم الدعبلي ، عن أبيه ، عن أخيه دعبل ، عن محمّد بن سلامة الشامي ، عن زرارة ، عن أبي جعفر محمّد بن علي ، عن ابن عباس ، و عن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال : « و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة . . . » .

و فيه : « يضيع فيها الصغير و يدبّ فيها الكبير » و فيه : « أرى تراث محمّد صلّى اللّه عليه و آله نهبا إلى أن حضرته الوفاة فأدلى بها إلى عمر » .

و أما الراوندي ، فروى في ( شرحه ) عن أبي نصر الحسن بن محمّد بن إبراهيم ، عن الحاجب أبي الوفاء محمّد بن بديع و أحمد بن عبد الرحمن ، عن الحافظ أبي بكر بن مردويه ، عن الطبراني ، عن أحمد بن علي الأبّار ، عن إسحق بن سعيد أبي سلمة الدمشقي ، عن خليد بن دعلج ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : كنّا مع عليّ عليه السلام بالرحبة . فجرى ذكر الخلافة ، و من تقدّم عليه .

فقال : . . . إلى آخر الخطبة .

و أما الطبرسي ، فقال : روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال : كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام بالرحبة فذكرت الخلافة ، و تقدّم من تقدّم عليه فتنفّس الصعداء ثم قال : « أما و الله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة . . . » .

و أما سبط ابن الجوزي ، فقال : أخبرنا بها شيخنا أبو القاسم النفيس الأنباري بإسناده عن ابن عبّاس . قال : لمّا بويع أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة ناداه رجل من الصف ، و هو على المنبر ما الّذي أبطأبك إلى الآن ؟ فقال بديها :

« و الله لقد تقمّصها أخو تيم أو ابن أبي قحافة أو فلان و هو يعلم انّ محلّي منها محل القطب من الرحى . ينحدر عنّي السيل ، و لا يرقى إليّ الطير ، و لكنّي سدلت دونها ثوبا ، و طويت عنها كشحا ، و طفقت امثّل بين أن أصول بيد جذاء ماضية ، أو أصبر على ظلمة طخياء يوضع منها الكبير ، و يدبّ فيها الصغير

[ 7 ]

( و في رواية ) طفقت أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ، و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه . فرأيت الصبر أجدر ، فصبرت و في العين قذى ، و في الحق شجا إلى أن حضرت الأوّل الوفاة ( و في رواية ) فصبرت إلى أن مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده و في رواية ( فأدلى بها إلى الثاني ) فيا لله العجب بينا هو يستقيلها في حال حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته فعقدها في ناحية خشناء . يصعب مسّها ،

و يغلظ كلمها ، و يكثر فيها العثار ، و يقلّ منها الاعتذار . فمني الناس بمن عقدها له حتّى مضى لسبيله و في رواية « بينا هو يقتال منها في حياته إذ عقدها لآخر بعد مماته لشدّ ما تشطّر أضرعها في حوزة خشناء . فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم ، و إن أسلس لها تقحّم و في رواية فمنى الناس بخبط و شماس و تكوّر و اعتراض ، فصبرت حتّى إذا مضى لسبيله ، جعلها شورى بين ستّة زعم أنّي أحدهم ، فيا لله و للشورى ، فيم و ممّ و بم و لم يعرض عنّي ، و لكنّي أسففت معهم حين أسفّوا ، و طرت معهم حيث طاروا ، و صبرت لطول المحنة و أنقضاء المدّة إلى أن قام الثالث و في رواية « فيا لله و الشورى متى اعترض الريب فيّ حتّى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، فصغا رجل منهم لضغنه ، و مال الآخر لصهره . مع هن و هن إلى أن قام الثالث نافجا حضنيه بين نثيله و معتلفه ، و بنو امية يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبت الربيع ، حتّى إذا أجهز عليه عمله ، و أسلمه إلى الهلاك أجله ، و كبت به مطيته فما راعني إلاّ و الناس أرسالا إليّ كعرف الفرس ، و يسألوني البيعة ، و انثالوا عليّ انثيالا ،

حتّى لقد و طئ الحسنان و هما عطفاي و في رواية « و شقّ عطفاي » و هم مجتمعون حولي كربيضة الغنم ، فلمّا نهضت بالأمر ، نكثت طائفة ، و فسقت شرذمة ، و مرقت اخرى ، و قسط قوم ، كأنّهم لم يسمعوا قول اللّه تعالى : تلك

[ 8 ]

الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتّقين 1 بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها ، و لكن راقتهم دنياهم ، و أعجبهم رونقها ، أما و الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة لو لا ما أخذ الله على الأولياء لألقيت حبلها على غاربها ، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها و أنشد :

شتان ما يومي على كورها
و يوم حيّان أخي جابر

و في رواية و الّذي فلق الحبة ، و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر ،

و قيام الحجّة بوجود الناصر ، و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ، و لا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها و في رواية و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز .

هذا الّذي وقفت عليه من أسانيد العنوان ، و أمّا ما عن رابع عشر ( البحار ) عن بعض مؤلّفات القدماء ، عن القاضي الطبري ، عن سعيد المقدسي ، عن المبارك ، عن خالص بن أبي سعيد ، عن وهب الجمّال ، عن عبد المنعم بن سلمة عن وهب الأسدي عن يونس بن ميسرة ، عن الشيخ المعتمر الرقي رفعه إلى ميثم قال : كنت بين يدي مولاى أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أن قال ركب السحابة ، و قال لعمّار اركب معي إلى أن قال في رجوعه بعد ساعة في مسجد الكوفة صعد المنبر ، و أخذ بالخطبة المعروفة بالشقشقية الخ 2 فهي رواية تخليطية من الغلاة و الحشوية ، و إن تبجّح بها الخوئي 3 و سرّ بها .

قول المصنّف : « و من خطبة له عليه السّلام » ظاهر خبر ( العلل ) و ( الإرشاد ) و ( الأمالي ) و ( الراوندي ) كونه كلاما في غير خطبة لتضمنها أنّه ذكر الخلافة

-----------
( 1 ) القصص : 83 .

-----------
( 2 ) رواه المجلسي في بحار الانوار 57 : 344 ح 36 .

-----------
( 3 ) شرح الخوئي 1 : 285 .

[ 9 ]

عنده عليه السّلام . فقال هذا الكلام ، لكن الصواب كونه خطبة كما صرّح به في ( المعاني ) و ( الجمل ) كالمصنّف و يشهد له رواية ابن الجوزي من كون ذكر الخلافة عنده عبارة عن أنّه قيل له عليه السّلام : ما الّذي أبطأ بك عن تصدّي الأمر ؟

و كان على المنبر فقال بديها ما قال .

« و هي » : هكذا في ( المصرية ) ، و الكلمة زائدة لعدم وجودها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) 1 .

« المعروفة بالشقشقية » : و في ابن أبي الحديد : « تعرف بالشقشقية » ،

و في ابن ميثم مثل المتن لكن زاد : « و تعرف بالمقمصة » 2 و نسخته بخطّ المصنّف فإن صحت النسبة فوجهه اشتمال الخطبة على قوله عليه السّلام : « لقد تقمّصها » و يأتي وجه معروفيتها بالشقشقية في آخر الخطبة .

و لبعض خطبه عليه السلام اسم غير هذا أيضا مثل الخطب المعروفة بالأشباح ،

و التوحيد ، و الهداية ، و الملاحم ، و اللؤلؤ ، و الغرّاء ، و القاصعة ، و الافتخار ،

و الدّرة اليتيمة ، و الزهراء ، و الأقاليم ، و الوسيلة ، و الطالوتية ، و القصبية ،

و النخيلة و السليمانية ، و الناطقة ، و الدامغة ، و الفاضحة ، و البالغة ، و المونقة ،

و هي الخالية عن الألف ، و بعضها مذكور في الكتاب و بعضها في غيره .

قوله عليه السّلام : « أما و الله لقد تقمّصها » قال ابن أبي الحديد : الضمير للخلافة ،

و لم يذكرها للعلم بها كقوله سبحانه حتى توارت بالحجاب 3 .

قلت : لم يراجع أسانيد الخطبة ، و إلاّ فقد عرفت أنّ كلّها اشتمل على أنّه ذكر عنده عليه السلام الخلافة ، و تقدّم من تقدّم عليه فيها . فقال ما قال .

ثم تشبيه الخلافة و السلطنة بقميص يلبس ، أمر معروف . خطب

-----------
( 1 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 50 ، و شرح ابن ميثم 1 : 249 ، مثل المصرية أيضا .

-----------
( 2 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 50 ، و شرح ابن ميثم 1 : 249 ، مثل المصرية أيضا .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 50 .

[ 10 ]

المنصور بعد قتله لأبي مسلم ، فقال : من نازعنا هذا القميص أجززناه خبئ هذا الغمد و أشار إلى غمد سيفه .

و كما شبّهها عليه السّلام بقميص ، أثبت بعض الشعراء لها سربالا . فقال في المعتز أبن المتوكل :

خلافة كنت حقيقا بها
فضّلك الله بسربالها

« فلان » و بدّله ابن أبي الحديد : بقوله « إبن أبي قحافة » 1 و الصواب : كون النهج بلفظ « فلان » و إن كان أكثر أسانيد الخطبة بلفظ « ابن أبي قحافة » لتصديق ابن ميثم 2 الّذي نسخته بخطّ المصنّف ، و قد عرفت أنّ الصدوق بدّله في كتابيه بقوله « أخو تيم » 3 كما عرفت أنّ سبط ابن الجوزي قال في نقله :

« فلان أو ابن أبي قحافة أو أخوتيم » 4 .

و لنتكلّم على كلّ من الثلاثة : أمّا فلان . فقالوا : فلان و فلانة يكنّى بهما عن الآدمييّن قال تعالى : و يوم يعضّ الظالم على يديه إلى يا ويلتى ليتني لم أتّخذ فلانا خليلا 5 و الفلان و الفلانة يكنّى بهما عن غير الآدميّين . صرّح بذلك ابن السكّيت و غيره 6 .

و أمّا « إبن أبي قحافة » فكان أبو قحافة في قريش خاملا من حيث الشخص و من حيث العشيرة . ففي أنساب البلاذري لمّا غز النبي صلّى اللّه عليه و آله الطائف رأى قبر أبي أحية مشرفا . فقال أبو بكر : لعن اللّه صاحب هذا القبر ،

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 50 .

-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم 1 : 249 .

-----------
( 3 ) العلل 1 : 150 ، و المعاني : 361

-----------
( 4 ) التذكرة : 124 .

-----------
( 5 ) الفرقان : 27 .

-----------
( 6 ) نقله عنه و عن غيره ابن منظور في لسان العرب 13 : 324 ، مادة ( ظن ) .

[ 11 ]

فإنّه كان ممّن يحادّ اللّه و رسوله . فقال إبناه عمر و أبان ( و كانا من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ) : لعن اللّه أبا قحافة . فإنّه لا يقري الضيف ، و لا يدفع الضيم 1 .

و في ( طرائف ابن طاووس ) عن ( مثالب ابن الكلبي ) : كان أبو قحافة ،

و سفيان بن عبد العزيز يناديان على طعام عبد اللّه بن جدعان . قال أمية بن أبي الصلت في رثاء ابن جدعان :

له داع بمكّة مشمعلّ
و آخر فوق دارته ينادي

قال : المراد بالمشمعلّ سفيان ذاك و بقوله « و آخر » أبو قحافة 2 .

و قال الإسكافي في ( نقض عثمانيته ) : كان أبو قحافة أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان 3 .

و في ( معارف ابن قتيبة ) : أسلم أبو قحافة يوم فتح مكّة و أتى به إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و كأن رأسه ثغامة ( أي نبت جبلي يبيض إذا يبس يقال له بالفارسية درمنه اسبيد ) فأمرهم أن يغيّروه و بايعه 4 .

و رواه الإسكافي في نقض عثمانيته و زاد إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رآه نفر منه و قال : غيّروا هذا فخضبوه ثم جاءوا به مرّة اخرى فأسلم 5 .

و من الغريب أنّ الجاحظ الصليب الوجه في ( الجعل ) قال : أقبل أبو بكر في الفتح بأبيه ، و هو يومئذ شيخ مكفوف له غديرتان حتّى هجم به على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال له : أتيتك بأبي . فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : « هلاّ تركت الشيخ في

-----------
( 1 ) أنساب الاشراف 1 : 142 .

-----------
( 2 ) الطرائف 2 : 406 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 3 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 278 ، شرح الخطبة 190 .

-----------
( 4 ) المعارف : 167 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 5 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 277 ، شرح الخطبة 190 .

[ 12 ]

رحله حتّى آتيه ، ثم مسح يده على صدره ، و دعاه إلى الإسلام . . . » 1 .

هب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان كالامراء الدنيوية ، هل كان أبو قحافة ذا شرف دنيوي حتىّ يأتيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله .

و أما كونه أخاتيم . ففي ( المروج ) قال المدائنى : رئى بالبصرة رجل مصطلم الأذن فسئل عن قصّته . فذكر أنّه خرج يوم الجمل ينظر إلى القتلى .

فنظر إلى رجل منهم يخفض رأسه و يرفعه و هو يقول :

لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا
فلم ننصرف إلاّ و نحن رواء

أطعنا بني تيم لشقوة جدّنا
و ما تيم إلاّ أعبد و إماء

فقلت : سبحان اللّه أتقول هذا عند الموت . قل : لا إله إلاّ الله . فقال : يا ابن اللخناء إيّاى تأمر بالجزع عند الموت . فولّيت عنه متعجبّا . فصاح بي أدن منّي لقّنّى الشهادة . فصرت إليه . فلمّا قربت منه استدناني ثم التقم اذني فذهب بها ،

فجعلت ألعنه و أدعو عليه . فقال : إذا صرت إلى أمّك فقالت : من فعل بك هذا . فقل :

عمير بن الأهلب الضبي مخدوع المرأة التّي أرادت أن تكون أمير المؤمنين 2 .

و في ( دلائل الإعجاز ) : و روى أنّ سودة أنشدت

« عدي و تيم تبتغي من
تحالف »

و جرى بينهنّ كلام في هذا المعنى . فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فدخل عليهنّ ،

و قال : « يا ويلكنّ ليس في عديّكنّ ، و لا تيمكنّ قيل هذا ، و إنّما قيل هذا في عديّ تميم و تيم تميم 3 .

قلت : الظاهر أنّ سودة عرّضت بهما تمثّلا بالبيت ، و هما أيضا علمتا أنّها

-----------
( 1 ) أخرج الحديث أحمد في مسنده 3 : 160 ، و الحاكم في المستدرك 3 : 244 و 245 ، و ابن حبّان في صحيحه ، و عنه الاصابة 2 : 461 ، و ابن هشام في السيرة 4 : 35 ، و أبو عوانة في مسنده و ابن النجار في تاريخه و عبد الرزاق في جامعه ، و عنهم منتخب كنز العمال 5 : 239 .

-----------
( 2 ) مروج الذهب 2 : 370 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) دلائل الاعجاز : 17 .

[ 13 ]

تمثّلت به تعريضا ، و إنّما أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قطع نزاعهن .

و في ( أمثال الكرماني ) : قال المفضل : أوّل من قال « البلاء موكّل بالمنطق » أبو بكر قال ابن عباس : قال عليّ عليه السّلام : لمّا أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج و أنا معه و أبو بكر ، فدفعنا إلى مجلس .

فتقدّم أبو بكر ، و كان نسّابة . فقال : ممّن القوم ؟ قالوا : من ربيعة . فقال : أمن هامتها أم لهازمها ؟ قالوا : من هامتها العظمى . قال : فأيها أنتم ؟ قالوا : ذهل الأكبر . قال : أفمنكم عوف الّذي يقال له « الاحرّ بوادي عوف » ؟ قالوا : لا . قال :

أفمنكم بسطام ذو اللواء و منتهى الأحياء ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم جسّاس بن مرّة حامي الذمار و مانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : أفنكم الحوفزان قاتل الملوك ،

و سالبها أنفسها ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟

قالوا : لا . قال : أ فأنتم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا : لا . قال : فلستم ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر . فقام إليه غلام قد بقل وجهه يقال له دغفل فقال :

إنّ على سائلنا أن نسأله
و العب‏ء لا تعرفه أو تحمله

يا هذا إنّك سألتنا فلم نكتمك شيئا . فمن الرجل ؟ قال : من قريش ، قال :

بخ بخ أهل الشرف و الرياسة . فمن أيّ قريش ؟ قال : من تيم بن مرّة ، قال :

أمكنت و الله الرامي من صفاء الثغرة . أفمنكم قصيّ الّذي جمع القبائل من فهر و كان يدعى مجمّعا ؟ قال : لا . قال : أفمنكم هاشم الّذي هشم الثريد لقومه ، و رجال مكّة مسنتون عجاف ؟ قال : لا . قال : أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الّذي كان وجهه قمرا مضيئا يضي‏ء ليل الظلام الداجي ؟

قال : لا . قال : أفمن المفيضين بالناس أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل الندوة أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا و اجتذب أبو بكر زمام ناقته ، و رجع . فقال : دغفل « صادف درء السيل درء يصدعه » أما و اللّه

[ 14 ]

لو ثبت لأخبرتك أنّك من زمعات قريش .

قلت : و ما قاله المفضل من أن أبا بكر أوّل من قال ذاك المثل ، ليس كذلك .

فروي أن الأصل فيه عبيد بن شربة الجرهمي في الجاهلية ، و انما تمثّل به أبو بكر لمّا أراد إظهار إطّلاعه بالأنساب عند دغفل فأخزاه .

و لم يكن في تيم شريف إلاّ ابن جدعان الّذي مرّ انّ أبا قحافة كان ينادي على طعامه ، و يطرد الذباب عن مائدته ، و مع ذلك كان كسب ابن جدعان من بعث جواريه للزنا ، و بيع أولادهن كما صرّح به ابن قتيبة في ( معارفه ) 1 .

و في ( أمثال الكرماني ) أيضا : ارتدّ الأشعث بن قيس الكندي في جملة أهل الردّة . فأتى به أبا بكر أسيرا . فأطلقه ، و زوّجه اخته فروة رغبة منه في شرفه فخرج من عند أبي بكر ، و دخل السوق ، فاخترط سيفه . ثم لم تلقه ذات أربع إلاّ عرقبها من بعير و فرس و بقر ، و مضى فدخل دارا من دور الأنصار .

فصار الناس حشد إلى أبي بكر . فقالوا : هذا الأشعث قد ارتدّ ثانية . فبعث أبو بكر إليه فأشرف إلى السطح ، و قال : يا أهل المدينة إنّي غريب في بلدكم . و قد أولمت بما عرقبت . فليأكل كلّ انسان ما وجد وليغد عليّ كلّ من كان له قبلي حقّ ، فلم يبق دار من دور المدينة إلاّ دخلها من ذلك اللحم ، و لا رئي أشبه بيوم الأضحى من ذاك اليوم ، فضرب أهل المدينة به المثل فقالوا : أو لم من الأشعث 2 . و قال الأصبغ بن حرملة الليثي متسخّطا لهذه المصاهرة مخاطبا أبا بكر :

أتيت بكندي قد ارتدّ و انتهى
إلى غاية من نكث ميثاقه كفرا

فكان ثواب النكث إحياء نفسه
و كان ثواب الكفر تزويجه البكرا

-----------
( 1 ) المعارف : 576 .

-----------
( 2 ) انظر ايضا : الاصابة لابن حجر 1 : 51 .

[ 15 ]

و لو أنّه يأبى عليك نكاحها
و تزويجها منه لأمهرته مهرا

و لو أنّه رام الزيادة مثلها
لأنكحته عشرا و أتبعته عشرا

فقل لأبي بكر لقد شنت بعدها
قريشا و أخملت النباهة و الذكرا

أما كان في تيم بن مرّة واحد
تزوّجه لو لا أردت به الفخرا

و لو كان لمّا أن أتاك قتلته
لأحرزتها ذكرا و قدّمتها ذخرا

فأضحى يرى ما قد فعلت فريضة
عليك فلا حمدا حويت و لا أجرا

و في ( موفقيات الزبير بن بكار ) و قد نقله ابن أبي الحديد في شرح قوله : « و اعتبروا بحال ولد إسماعيل » أنّ أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري : ما حملك على أن و أدت ؟ قال : مخافة أن يخلف عليهنّ مثلك 1 .

و في ( نقض عثمانية الاسكافي ) : روى الواقدي و غيره : أنّ عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين ، معروق الخدّين . غائر العينين . أجنى لا يمسك إزاره فقالت : ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا قال الاسكافي بعد نقل الرواية ردّا لقول الجاحظ : « كان لأبي بكر وجه عتيق » « فلا نراها دلّت على شي‏ء من الجمال في صفته » 2 .

و حيث انّ البكر الفتيّ من الإبل و به كني أبو بكر قال أبو سفيان لمّا بويع أبو بكر : يا بني عبد مناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل الرذل ابن الرذل ؟ 3 .

و كانت هوازن تسمّيه ذا الجلال . فلمّا أتاهم بيعته قالوا : لا نبايع ذا

-----------
( 1 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 243 ، شرح الخطبة 190 .

-----------
( 2 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 276 ، شرح الخطبة 190 .

-----------
( 3 ) روى هذا المعنى عن أبي سفيان ، الجوهري في السقيفة : 38 ، و الطبري في تاريخه 2 : 449 ، سنة 11 ، و غيرهما .

[ 16 ]

الجلال و إنّما سمّوه بذلك لأنّه كان له كساء فدكي يحله عنه إذا ركب و يلبسه إذا نزل .

و لكسائه ذاك سمّاه أهل نجد ذا العباءة . ففي ( سيرة ابن هشام ) : لمّا أتاهم بيعة أبي بكر قالوا : أ نحن نبايع ذا العباءة ؟ قال : كان أبو بكر في غزوة ذات السلاسل الّتي أمّر عليه و على صاحبه عمرو بن العاص عليه عباءة له فدكية يبسطها إذا نزل و يلبسها إذا ركب ، ثمّ يشكّها عليه بخلال له 1 . و في ( شعراء ابن قتيبة ) : قال الحطيئة :

أطعنا رسول الله إذا كان حاضرا
فيالهفتي ما بال دين أبي بكر

أ يورثها بكرا إذا مات بعده
و تلك و بيت الله قاصمة الظهر 2

و في ( ادباء الحموي ) قال الناشي : قال لي الراضي : أنشدني من شعرك في بني هاشم فأنشدته :

بني العباس إنّ لكم دماء
أراقتها اميّة بالذحول

فليس بها شمي من يوالي
اميّة و اللعين أبا زبيل

فقال : ما بينك و بين أبي زبيل ، فقلت : أمير المؤمنين أعلم . فابتسم 3 .

و في ( بلدانه ) في عنوان حضر موت قال حارثة بن سراقة :

أطعنا رسول اللّه ما دام بيننا
فيا قوم ما شأني و شأن أبي بكر

أ يورثها بكرا إذا مات بعده
فتلك لعمر اللّه قاصمة الظهر 4

و روى محمّد بن محمّد بن النعمان في ( أماليه ) أنّ أبا قحافة لما سمع أنّ ابنه ولي الأمر قال : أرضيت بذلك بنو المغيرة و بنو عبد شمس ؟ قالوا : نعم .

-----------
( 1 ) سيرة ابن هشام 4 : 200 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) الشعر و الشعراء : 110 .

-----------
( 3 ) معجم الادباء 13 : 284 .

-----------
( 4 ) معجم البلدان 2 : 271 .

[ 17 ]

قال : أ ينكرون النبوّة و يقرّون بالخلافة إن هذا لشي‏ء يراد 1 ؟ و في خطبة أمير المؤمنين عليه السّلام الطالوتية المروية في روضة الكافي قال عليه السّلام : لو أنّ لي رجالا ينصحون لله و لرسوله ( و كان عليه السلام مرّ على ثلاثين شاة ) بعدد هذه الشياه لأزلت أبن آكلة الذّباب عن ملكه 2 .

و في كتاب سليم بن قيس قال أمير المؤمنين عليه السلام لعمر : يا ابن صهاك أليس لنا فيها حق ، و هي لك ، و لابن آكلة الذباب ؟ فقال عمر : إنّ العامّة رضوا بصاحبي و لم يرضوا بك فما ذنبي ؟ فقال عليه السّلام : و لكنّ الله و رسوله لم يرضيا إلاّ بي 3 .

قال ابن أبي الحديد : اسم أبي بكر القديم عبد الكعبة . فسمّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عبد الله و اختلفوا في عتيق . فقيل : كان اسمه في الجاهلية ، و قيل : بل سمّاه به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله 4 .

قلت : أهل بيته أعرف به سئل عبد الرحمن بن القاسم بن محمّد بن أبي بكر عن اسمه . فقال : إسمه عتيق . كان بنو أبي قحافة معتق و عتق و عتيق .

« و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها » أي : من الخلافة بعد مشاهدته مقاماته و سماعه من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استخلافه .

« محلّ القطب من الرحى » قال الجوهري : « يجوز في قطب الرحى ضمّ القاف و فتحها و كسرها » 5 ، و قال ابن دريد : « قطب الرحى : الحديدة

-----------
( 1 ) أمالي المفيد : 60 ح 7 ، المجلس 10 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) الكافي 8 : 33 ح 5 .

-----------
( 3 ) كتاب سليم : 91 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 52 .

-----------
( 5 ) صحاح اللغة 1 : 204 ، مادة ( قطب ) .

[ 18 ]

التي تدور فيها » 1 .

و روي عنه عليه السلام هذا المعنى بلفظ آخر هكذا : « و إنّه و الله ليعلم أنّي أولى بها منّي بقميصي » 2 .

قال دعبل :

حللت محلاّ يقصر الطرف دونه
و يعجز عنه الطيف أن يتجشّما

و لقد أجاد الناشى‏ء فقال فيه عليه السّلام :

و صارمه كبيعته بخم
مقاصدها من الخلق الرقاب

و لقد أجاد وفائي التستري فيه عليه السلام بالفارسية :

جز بتو آراستن سرير خلافت
نسبت افسر بمستحق فسار است

و روى الكنجي الشافعي في ( مناقبه ) عن سعيد بن المسيب قال : قلت لسعد أبن أبي وقاص : إنّي أريد أن أسألك عن شي‏ء و إنّي أتّقيك . قال : سل عمّا بذالك . فإنّما أنا ابن عمّك . قلت : مقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيكم يوم الغدير . قال : نعم قام فينا بالظهيرة فأخذ بيد علي بن أبي طالب . فقال : « من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره » فقال أبو بكر و عمر : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن و مؤمنة 3 .

و روى الجزري في ( اسده ) في وهب بن حمزة مسندا عنه قال : صحبت عليا عليه السّلام من المدينة إلى مكّة . فرأيت منه بعض ما أكره . فقلت : لئن رجعت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأشكونك إليه . فلمّا قدمت لقيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقلت : رأيت من عليّ

-----------
( 1 ) جمهرة اللغة 1 : 308 ، مادة ( بطق )

-----------
( 2 ) رواه المفيد في اماليه : 153 ح 5 ، المجلس 19 ، و لفظه : « قد علم و الله انى اولى الناس بهم مني بقميصي » و رواه غيره أيضا .

-----------
( 3 ) كفاية الطالب : 16 .

[ 19 ]

كذا و كذا . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : لا تقل هذا فهو أولى الناس بعدي 1 .

و في ( مروج المسعودي ) : لمّا صرف عليّ عليه السّلام قيس بن سعد بن عبادة عن مصر وجّه مكانه محمّد بن أبي بكر . فلمّا وصل إليها كتب إلى معاوية « من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر إلى أن قال فكان أوّل من أجاب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أناب ، و آمن و صدّق ، و أسلم و سلّم أخوه و ابن عمّه عليّ بن أبي طالب صدّقه بالغيب المكتوم ، و آثره على كلّ حميم ، و وقاه بنفسه كلّ هول ، و حارب حربه و سالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل و النهار ، و الخوف و الجزع حتّى برز سابقا لا نظير له في من اتّبعه ، و لا مقارب له في فعله ، و قد رأيتك تساميه ، و أنت أنت ، و هو هو أصدق الناس نيّة ، و أفضل الناس ذرّية ، و خير الناس زوجة ، و أفضل الناس ابن عم ، و أخوه الشاري بنفسه يوم موته ، و عمّه سيد الشهداء يوم احد ، و أبوه الذابّ عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و عن حوزته ، و أنت اللعين أبن اللعين ، لم تزل أنت و أبوك تبغيان لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله الغوائل ، و تجهدان في إطفاء نور الله . تجمعان على ذلك الجموع ، و تبذلان فيه المال ، و تؤلّبان عليه القبائل . على ذلك مات أبوك و عليه خلفته ، و الشهيد عليك من تدني ، و يلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ، و رؤساء النفاق ،

و الشاهد لعلي مع فضله المبين القديم أنصاره الّذين معه الّذين ذكرهم الله و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار ، و هم كتائب ، و عصائب يرون الحق في اتباعه ، و الشقاء في خلافه . فكيف يا ويلك تعدل نفسك بعليّ عليه السّلام ، و هو وارث رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه ، و أبو ولده أوّل الناس له اتّباعا ، و أقربهم به عهدا يخبره بسره ، و يطلعه على أمره ، و أنت عدّوه و ابن عدّوه . فتمتّع في دنياك بباطلك ، و ليمددك ابن العاص في غوايتك إلى أن قال

-----------
( 1 ) اسد الغابة 5 : 94 .

[ 20 ]

فكتب إليه معاوية : « من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر . أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته و قدرته . و ما اصطفى به رسوله ، مع كلام كثير لك فيه تضعيف ، و لأبيك فيه تعنيف ، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، و قديم سوابقه ، و قرابته إلى الرسول ، و مواساته إيّاه في كلّ هول و خوف فكان احتجاجك عليّ و عيبك بفضل غيرك لا بفضلك .

فاحمد ربّا صرف هذا الفضل عنك ، و جعله لغيرك . فقد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب و حقّه ، لازما لنا مبروما علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده ،

و أتمّ له ما وعده ، و أظهر دعوته و أفلج حجّته ، و قبضه إليه ، كان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزه حقّه ، و خالفه على أمره . على ذلك اتفقا و اتّسقا . ثم إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطا عنهما ، و تلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، و أرادا به العظيم ثمّ انّه بايع لهما ، و سلّم لهما ، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ، و لا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضهما إليه . ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما ، و سار بسيرهما . فعبته أنت ، و صاحبك . حتّى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ،

فطلبتما له الغوائل ، و أظهرتما عداوتكما حتى بلغتما فيه مناكما . فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، و قس شبرك بفترك . تقصر أن توازي أو تساوي من يزن الجبال بحلمه ، لايلين لمن قسر قناته ، و لا يدرك ذو مقال أناته ، مهّد أبوك مهاده و بنى ملكه و شاده ، فإن يك ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أسسّه و نحن شركاؤه ،

و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، و لسلّمنا إليه ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا . فأخذنا بمثله . فعب أباك بما بدالك أو دع ذلك 1 .

و رواه نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) ، و فيه : « فإن يكن ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أوّله ، و إن يك جورا ، فأبوك اسّسه ، و نحن شركاؤه ، و بهديه

-----------
( 1 ) مروج الذهب 3 : 11 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 21 ]

أخذنا ، و بفعله اقتدينا و لو لا ما سبقنا إليه أبوك ، ما خالفنا ابن أبي طالب و أسلمنا له ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك . فاحتذينا بمثاله ، و اقتدينا بفعاله . فعب أباك ما بدا لك أو دع » 1 .

و من العجب أن الطبري قال : لم أجز نقل هذا الكتاب لعدم احتمال العامّة له 2 . فيقال له : لا يحتمله إلاّ من انسلخ عن الإنسانية ، و جوّز التناقض و التضاد ،

و إنكار المتواترات ، و عدم بطلان الملزوم مع بطلان اللازم في دين الاسلام ،

و لازم صحّة خلافة أبي بكر و عمر و عثمان كون معاوية على الحق و هو هو و عليّ عليه السلام على الباطل و هو هو . أفّ لهم و لما يعبدون من دون اللّه .

و نقل ( طرائف ابن طاووس ) عن ( أنساب البلاذري ) : انّ الحسين عليه السلام لما قتل كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية : أما بعد فقد عظمت الرزيّة ،

و جلّت المصيبة ، و حدث في الإسلام حدث عظيم ، و لا يوم كيوم الحسين .

فكتب إليه يزيد : يا أحمق فانّا جئنا إلى بيوت متخذة ، و فرش ممهّدة ، و وسائد منضّدة . فقاتلنا عليها ، فان يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، و ان يكن الحق لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا و آثر و استأثر بالحق على أهله 3 .

و لازم صحّة خلافة أبي بكر كون قتل يزيد السكّير القمّير للحسين سيّد شباب أهل الجنّة بالتواتر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و ابن الرسول صلى الله عليه و آله بقوله جلّ و علا و أبناءنا و أبناءكم 4 و من أهل بيت العصمة بنصّ القرآن انّما يريد

-----------
( 1 ) وقعة صفين : 120 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 3 : 557 ، سنة 36 .

-----------
( 3 ) رواه ابن طاووس في الطرائف 1 : 248 ح 348 ، لكن لم يوجد في ترجمة الامام الحسين عليه السلام و لا يزيد بن معاوية من انساب الاشراف .

-----------
( 4 ) آل عمران : 61 .

[ 22 ]

اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا 1 حقّا ، و كفاهم بذلك خزيا .

و في ( الطبري ) : لما كتب عبيد اللّه بن زياد مع مالك بن النسير البديّ الكندي إلى الحرّ « جعجع بالحسين حين يبلغك كتابي » نظر إليه أبو الشعثاء الكندي من أصحاب الحسين عليه السلام و قال له : ثكلتك أمّك ماذا جئت فيه ؟ قال :

أطعت إمامي و وفيت بيعتي . قال له أبو الشعثاء : كسبت العار و النار ، قال الله عزّ و جلّ : و جعلناهم أئمّة يدعون إلى النار و يوم القيامة لا ينصرون 2 .

و في ( الطبري ) : أن الشيعة الّذين كانوا أصحاب جعفر بن محمّد قالوا لزيد بن عليّ لمّا أراد الخروج : ما قولك في أبي بكر و عمر ؟ قال : إنّ أشدّ ما أقول إنّا كنّا أحقّ بسلطان رسول الله صلى الله عليه و آله من الناس أجمعين ، و إنّ القوم استأثروا علينا ، و دفعونا عنه ، و لم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا قالوا : فلم يظلمك هؤلاء إذا كان اولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين ؟ 3 و قولهم عين الحق . فإنّ المؤسس لبني اميّة هم الثلاثة أليس الثاني أحدث شورى لاختيار الثالث ؟ أليست خلافة الثالث عين سلطنة بني اميّة ؟

ثم الظاهر انّ زيدا اتّقى باقي أصحابه ، فروى عنه أيضا انّه سأله رجل عن الرجلين ، فلم يجبه . فلمّا وقع السهم في جبينه دعا الرجل ، و قال : لم يرمني بهذا السهم إلاّ الرجلان 4 .

و روى محمّد بن الحسن الصفار في ( بصائره ) عن الباقر عليه السلام في قوله جلّ و علا : انّا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن

-----------
( 1 ) الاحزاب : 33 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 4 : 308 ، سنة 61 ، و النقل بتلخيص . و الآية 41 من سورة القصص .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 15 : 498 ، سنة 122 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 4 ) روى هذا المعنى الهمداني في الالفاظ الكتابية : 143 .

[ 23 ]

يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان انّه كان ظلوما جهولا 1 : الأمانة :

الولاية حملها أبو فلان ، و أبت السماوات و الأرض و الجبال حملها 2 .

و قال الزبير بن بكار : روى محمد بن اسحق انّ أبا بكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرّة ، و كان عامّة المهاجرين ، و جلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّا عليه السّلام هو صاحب الأمر بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله . فقال الفضل بن العباس : يا معشر قريش ،

و خصوصا يا بنى تيم إنّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوّة ، و نحن أهلها دونكم إلى أن قال و انّا لنعلم انّ عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه 3 .

و روى الواقدي في ( شوراه ) كما نقله ابن أبي الحديد عند قوله عليه السّلام :

« و من كلام له عليه السّلام و قد وقع بينه و بين عثمان مشاجرة » عن ابن عباس قال :

شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السّلام إلى أن قال قال عثمان لعلي عليه السّلام : فإن كنت تزعم انّ هذا الأمر جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت إلى أن قال فقال له عليّ عليه السّلام : و امّا عتيق و ابن الخطاب . فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لي . فأنت أعلم بذلك و المسلمون 4 .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) و ( الطبري في تاريخه ) في سيرة عمر ، عن عبد الله بن عمر قال : كنت عند أبي يوما ، و عنده نفر من الناس . فجرى ذكر الشعر فقال : من أشعر العرب ؟ فقالوا : فلان و فلان . فطلع ابن عباس . فقال عمر : جاء الخبير . من أشعر الناس يا عبد الله ؟ قال : زهير ابن أبي سلمى . قال :

فأنشدني مما تستجيده له . فقال : انّه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنوسنان .

فقال فيهم :

-----------
( 1 ) الاحزاب : 72 .

-----------
( 2 ) بصائر الدرجات : 96 ح 3 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 3 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 8 ، شرح الخطبة 65 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 377 ، شرح الخطبة 133 .

[ 24 ]

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

قوم سنان ابوهم حين تنسبهم
طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا

انس اذا آمنوا جنّ اذا فزعو
مرزؤن بها ليل إذا جهدوا

محسّدون على ما كان من نعم
لا ينزع اللّه عنهم ماله حسدوا

فقال عمر : قاتله اللّه لقد أحسن ، و لا أرى هذا المدح يصلح إلاّ لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول اللّه . فقال له ابن عباس : و فّقك اللّه . فلم تزل موفّقا .

قال : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا . قال : لكنّي أدري . قال :

ما هو ؟ قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة و الخلافة فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ، و وفّقت فأصابت . فقال ابن عباس :

أتميط عنيّ غضبك فأقول ؟ قال : قل ما تشاء . قال : أمّا قولك إن قريشا كرهت فإن الله تعالى قال لقوم ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم 1 ،

و اما قولك إنّا كنّا نجحف بالخلافة فلو جحفنا بالقرابة ، و لكنّا قوم أخلاقنا مشتقّة من خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي قال تعالى له : و انّك لعلى خلق عظيم 2 و قال تعالى له صلّى اللّه عليه و آله : و اخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين 3 و اما قولك : انّ قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول : و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة 4 ، و قد علمت انّ اللّه تعالى اختار من خلقه لذلك من اختار . فلو نظرت قريش لنفسها من حيث نظر الله لها لوفّقت و أصابت . فقال عمر : « على رسلك يا ابن عباس . أبت قلوبكم يا بنى هاشم إلاّ غشّا في أمر قريش لا يزول و حقدا عليها لا يحول » .

-----------
( 1 ) محمد : 9 .

-----------
( 2 ) القلم : 4 .

-----------
( 3 ) الشعراء : 215 .

-----------
( 4 ) القصص : 68 .

[ 25 ]

فقال ابن عباس : « مهلا ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغشّ . فإنّ قلوبهم من قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي طهّره اللّه ، و زكّاه ، و هم أهل البيت الّذين قال تعالى فيهم إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا 1 و أما قولك : حقدا ، فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، و يراه في يد غيره . فقال عمر : « أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي » قال : و ما هو ؟ اخبرني . فإن يك باطلا فمثلي يميط الباطل عن نفسه ، و إن يك حقّا فإنّ منزلتي عندك لا تزول به . قال عمر : بلغني أنّك لا تزال تقول اخذ هذا الأمر منّا حسدا و ظلما . قال : أمّا قولك حسدا فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنّة . فنحن بنو آدم المحسود ، و امّا قولك ظلما فأنت تعلم صاحب الحقّ من هو . ثم قال : ألم تحتجّ العرب على العجم بحقّ رسول اللّه ، و احتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ فنحن أحقّ برسول اللّه من سائر قريش . فقال عمر : قم الآن فارجع إلى منزلك . فقام ، فلمّا ولى هتف به عمر أيّها المنصرف إنّي على ما كان منك لراع حقّك . فالتفت ابن عباس فقال : انّ لي عليك ، و على كلّ المسلمين حقّا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ ، و من أضاعه فحقّ نفسه أضاع . ثم مضى . فقال عمر لجلسائه : و اها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلاّ خصمه 2 .

و أقول : لله در ابن عباس أدّى حقّ الكلام ، و هل ما قاله لعمر إلاّ عين ما تقوله الإمامية للسنّة من أنّ قريشا ، و في رأسهم صدّيقهم و فاروقهم ، كرهوا ما أنزل اللّه تعالى من استخلاف أمير المؤمنين عليه السّلام فأحبط اللّه أعمالهم ، و أنّهم

-----------
( 1 ) الاحزاب : 33 .

-----------
( 2 ) رواه الزبير بن بكار في الموفقيات ، و عنه شرح ابن أبي الحديد 3 : 106 ، شرح الخطبة 226 ، و الطبري في تاريخه 3 :

288 ، سنة 23 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 26 ]

علموا من اختاره اللّه تعالى فتركوه عمدا ، و أنه ما كان لهم اختيار الإمام بل لله تعالى كاختيار النبيّ ، و أن أمير المؤمنين ، و أهل بيته عليه السّلام هم الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس ، و طهّرهم تطهيرا ، و أن أخلاقهم كأخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلوبهم كقلبه و أنهم حسدوهم ، و ظلموهم .

و أقول لعمر ، زيادة على ما قال ابن عباس : لم لا تقول : « أصابت قريش و وفّقت في اختيارها » و لو لم يكن فعلها لما كنت أنت و صاحبك تؤمّران على العالم .

و يا للّه من عرّ عمر . تارة ينسب إلى بني هاشم و مغزى كلامه و مرماه أمير المؤمنين عليه السّلام الغشّ ، و قد أخذه عنه معاوية ، و اخرى العجب و الجحف ،

و قد أخذ ذلك عنه ابن الزبير ، فكان لا يصلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في صلاته و خطبته و يقول : لئلا يشمخ أهله بآنافهم . و ثالثة الحرص و أخذه عنه ابن عوف يوم الشورى ، و رابعة الدعابة أخذه ابن النابغة . فكان يزعم ذلك لأهل الشام .

و روى الجوهري في ( سقيفته ) عن ابن عباس قال : تفرّق الناس ليلة الجابية عن عمر . فسار كلّ واحد مع إلفه . ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكا إليّ تخلّف عليّ عليه السلام عنه إلى أن قال قال عمر : يا ابن عباس أوّل من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر أنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة ، قلت : لم ذاك ألم تنلهم خيرا ؟ قال : بلى ، و لكنّهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا 1 .

قلت : سبحان اللّه إعتقد عمر أنّ خلافة الإسلام بيد جمع أنكروا نبوّة نبي الإسلام حتّى قهرهم بالسيف ، فأسرّوا كفرهم به و أظهروه بعد وفاته .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) عن ابن عباس قال : إني لأماشي

-----------
( 1 ) السقيفة : 52 ، و النقل بتلخيص .

[ 27 ]

عمر بن الخطاب في سكّة من سكك المدينة إذ قال لي : يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلاّ مظلوما . فقلت في نفسي : و اللّه لا يسبقني بها . فقلت : فاردد إليه ظلامته . فانتزع يده من يدي ، و مضى يهمهم ساعة . ثم وقف فلحقته . فقال : يا ابن عباس ما أظنّ منعهم عنه إلاّ انّه استصغره قومه . فقلت في نفسي : هذه شرّ من الاولى . فقلت : و اللّه ما استصغره اللّه و رسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك . فأعرض عنّي و أسرع . فرجعت عنه 1 .

و في ( فهرست ابن النديم ) : قال هشام بن الحكم : ما رأيت مثل مخالفينا عمدوا إلى من ولاّه اللّه من سمائه فعزلوه ، و إلى من عزله من سمائه فولّوه 2 .

و روى الزبير بن بكار أيضا في ( الموفّقيات ) : عن ابن عباس قال : كنت عند عمر . فتنفّس نفسا ظننت أنّ أضلاعه قد انفرجت . فقلت له : ما أخرج هذا النفس منك إلاّ هم شديد . فقال أي : و الله يا ابن عباس إنّي افتكرت فلم أدر في من أجعل هذا الأمر من بعدي . ثم قال : لعلّك ترى صاحبك لها أهلا قلت : و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه ، قال : صدقت و لكنّه امرؤ فيه دعابة إلى أن قال قال عمر : من ان وليها يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم لصاحبك أما ان ولي أمرهم حملهم على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم 3 .

قلت : سبحان اللّه مع اعترافه بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو ولي الأمر يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم ، و على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم كيف دبّر الأمر لعثمان الّذي كان يعرف أنّه لو ولي يردّهم إلى

-----------
( 1 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 105 ، شرح الخطبة 226 .

-----------
( 2 ) تكملة الفهرس : 224 .

-----------
( 3 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 106 ، شرح الخطبة 226 ، لكن لا عن الزبير بن بكار بل روى حديثا آخر قبل هذا عن موفقيات الزبير بن بكار و النقل بتصرف يسير .

[ 28 ]

الجاهلية الاولى ؟ و كيف لا و ساعة جلوسه في الخلافة جاهر أبو سفيان في محضره : يا بني اميّة تداولوها تداول الكرة فلا جنّة و لا نار .

و أمّا رميه له عليه السلام بالدعابة ، فإنّما كان لأنّه عليه السلام لم يكن مثله عبوسا بصفة الجبّارين ، بل كان بشره في وجهه الّذي هو صفة المؤمنين .

و روى ابو عمر في ( استيعابه ) عن ابن عمر . قال : قال عمر لأهل الشورى : لله درّهم إن ولّوها الأصيلع كيف يحملهم على الحقّ ، و لو كان السيف على عنقه . فقلت : أتعلم ذلك منه و لا تولّيه . قال : إن لم أستخلف فأتركهم ، فقد تركهم من هو خير منّي 1 .

قلت : يالله للجواب ، و لحمق أتباعه ، لكن لا غرو . قال تعالى في فرعون :

فاستخفّ قومه فأطاعوه 2 ، و لو كان الأمر كما ذكروا من عدم لزوم تعيين النبي لخليفته و تكون بيعة الناس تجعل انسانا إماما يكون من خالفه خارجيا مباح الدم يلزم أن يصير ولي اللّه عدّوا لله ، و بالعكس لو بايع الناس مخالف الأول مع كون عملهما مع اللّه تعالى بعد ذلك عملهما معه جلّ و علا قبل بلا تغيير و لا تبديل ، و لا زيادة و لا نقصان .

و لمّا حارب المهلب مع الخوارج بسولاف من قبل مصعب بن الزبير ثمانية أشهر ثم قتل مصعب بلغ ذلك الخوارج ، و لم يبلغ المهلّب و أصحابه فناداهم الخوارج ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب ؟ قالوا : إمام هدى . قالوا :

فهو وليّكم في الدنيا و الآخرة . قالوا : نعم . قالوا : فما قولكم في عبد الملك بن مروان ؟ قالوا : ذلك اللعين ابن اللعين نحن إلى اللّه منه براء ، و هو عندنا أحلّ دما منكم . قالوا : فأنتم منه براء في الدنيا و الآخرة ، قالوا : نعم . كبراءتنا منكم . قالوا :

-----------
( 1 ) الاستيعاب 3 : 64 .

-----------
( 2 ) الزخرف : 54 .

[ 29 ]

و أنتم له أعداء أحياء و أمواتا . قالوا : نعم . نحن له أعداء كعداوتنا لكم . قالوا : فإنّ إمامكم مصعبا قد قتله عبد الملك ، و نراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم و أنتم لا تتبرّؤون منه و تلعنون أباه . قالوا : كذبتم يا أعداء اللّه . فلّما كان من الغد تبيّن لهم قتل مصعب . فبايع المهلّب الناس لعبد الملك . فأتتهم الخوارج فقالوا :

ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : يا أعداء اللّه لا نخبركم ما قولنا فيه ، و كرهوا أن يكذّبوا أنفسهم عندهم قالوا : فقد أخبرتمونا أمس أنّه وليّكم في الدنيا و الآخرة ، و أنّكم أولياؤه أحياء و أمواتا ، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك ؟

قالوا : ذاك إمامنا و خليفتنا و لم يجدوا إذ بايعوه بدّا من أن يقولوا هذا القول .

فقالت لهم الأزارقة : يا أعداء اللّه أنتم أمس تتبرؤون منه في الدنيا و الآخرة ،

و تزعمون أنّكم له أعداء أحياء و أمواتا . و هو اليوم إمامكم و خليفتكم ، و قد قتل إمامكم الّذي كنتم تتولّونه ، فأيهما المحق و أيهما المبطل ؟ و أيّهما المهتدي ،

و أيّهما الضالّ ؟ قالوا لهم : يا أعداء اللّه رضينا بذلك إذ كان وليّ أمورنا ،

و نرضى بهذا كما رضينا بذالك . قالوا لهم : لا و الله ، و لكنّكم إخوان الشياطين ،

و أولياء الظالمين ، و عبيد الدنيا .

و أقول للخوارج : إنّ ذلك يلزم عليكم بعد إقراركم بإمامة صديقكم و فاروقكم ، و خروجكم عن الإلتزام بلازمه لكونه واضح البطلان التزام بالتضاد و التناقض ، و خلاف المعقول . فمن أقرّ بملزوم لابد أن يقرّ بلازمه .

و أقول لفاروقهم قولك : « إن لم أستخلفهم فأتركهم فقد تركهم من هو خير منّي » مضحك للثكى . فكيف تركهم فقد أراد كتابة وصيّة و تعيين وصيّه كتابة حتّى لا يمكنك إنكاره ، و كنت تعرف ذلك كما أقررت به في اعتذارك عن منعه . فقلت : ان الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله ، مع عدم معرفتك بشي‏ء منه حتّى سخط و أخرجك من عنده .

[ 30 ]

ثم كيف تركتهم ، و قد استخلفت بني امية الشجرة الملعونة في القرآن 1 .

و في ( إيضاح الفضل بن شاذان ) : روى يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال : قال ابن عباس : لقي رجل من أهل الشام أبي بالجابية فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال : لست للمؤمنين بأمير و هو ذاك و أشار إلى عمر و كان بالقرب و انا و اللّه أحقّ بها منه ، فسمعها عمر . فقال له : أحقّ بها منّي و منك رجل خلّفناه في المدينة يعني عليّا عليه السّلام 2 .

قلت : نقلنا قصصا عن عمر في قوله عليه السّلام : « و إنّه ليعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » مع كون المراد به أبا بكر لأنّهما كانا كنفس واحدة ،

و لأنّه إنّما كان هو الناصب لأبي بكر كما اعترف به النظام ، نصبه ليردّ الأمر إليه كما صرّح به أمير المؤمنين عليه السلام مع انّه كان أيّام خلافة أبي بكر شريكه في الخلافة أيضا كما لا يخفى عند من كان له إلمام بالتاريخ .

ثم إنّه كما علم أبو بكر أوّل من تقمّص بها بكونه عليه السلام أولى بها من كلّ أحد كذلك كلّ من تصدّى لها إلى الآخر إلاّ أنّهم تبعوا الأول و تظاهروا به لكونه أسّس لهم رياسة و دنيا عظيمة . فخطب داود بن علي لمّا بويع السفّاح ، و قال :

« لم يصعد هذا المنبر بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حقّا إلاّ عليّ بن أبي طالب و السفّاح » .

و روى الطبري في أحوال المهدي : أنّ أبا عون عبد الملك بن يزيد مرض فعاده المهدي و سأله حاجته . فقال : حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون و تدعو به . فقد طالت موجدتك عليه . فقال : يا أبا عون إنّه على غير الطريق و على خلاف رأينا و رأيك ، إنّه يقع في الشيخين أبي بكر و عمر و يسيى‏ء القول

-----------
( 1 ) بالنظر الى قوله تعالى في الاسراء : 60 .

-----------
( 2 ) الايضاح : 90 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 31 ]

فيهما . فقال أبو عون : هو و اللّه على الأمر الّذي خرجنا عليه ، و دعونا إليه . فإن كان قد بدا لكم فمروا بما أحببتم حتى نطيعكم 1 .

و في ( الأغاني ) عن أبي سليمان الناجي قال : جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات أمر لهم بها و هو ولي عهد . فبدا ببني هاشم ثم بسائر قريش .

فجاء السيّد الحميري ، و دفع إلى الربيع رقعة مختومة و إذا فيها :

قل لابن عباس سميّ محمّد
لا تعطينّ بني عديّ درهما

و احرم بني تيم بن مرّة إنّهم
شرّ البرية آخرا و مقدما

إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة
و يكافئوك بأن تذمّ و تشتما

و لئن منعتهم لقد بدؤوكم
بالمنع إذ ملكوا فكانوا أظلما

منعوا تراث محمّد أعمامه
و بنيه و ابنيه عديلة مريما

و تأمّروا من غير أن يستخلفوا
و كفى بما فعلوا هنالك مأثما

لم يشكروا لمحمّد إنعامه
أفيشكرون لغيره ان أنعما

و اللّه منّ عليهم بمحمّد
و كسا الجنوب و أطعما

ثم انبروا لوصيّه و وليّه
بالمنكرات فجرّعوه العلقما

فرمى بها إلى عبيد اللّه الوزير ثم أمر بقطع العطاء فانصرف الناس و أدخل السيّد عليه . فلمّا رآه ضحك ، و قال : قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل . . .

و يأتي كلام الناصر العباسي 2 .

و أمّا قول أبي بكر في إظهاره الشكّ في احتضاره . فقد قال كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) : « ليتني سألته ( أي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ) لمن هذا الأمر من بعده فلا ينازعه فيه أحد » 3 فيقال له في قوله « ليتني سألته لمن هذا الأمر من بعده » ليت

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 6 : 400 ، سنة 169 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) الأغاني 7 : 243 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 3 ) رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة 1 : 19 ، و الطبري في تاريخه 2 : 620 ، سنة 13 ، و غيرهما .

[ 32 ]

صاحبك خلاّه يقول ذلك ، لكن الرزية كلّ الرزية كما قال ابن عباس و كان كلّما ذكر ذلك قال ذلك و يبكي بكاء الثكلى منع صاحبك له عن ذلك مع أنّه يكفي في خزي اتباعه شكّ متبوعهم في أمر نفسه .

و روى محمّد بن يعقوب الكليني عن الأصبغ قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، و عدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب ؟ ثم تلا هذه الآية : ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و أحلّوا قومهم دار البوار جهنّم 1 ثم قال : نحن النعمة الّتي أنعم اللّه بها على عباده ، و بنا يفوز من فاز يوم القيامة 2 .

هذا . و في ( روضة المناظر ) : اتّفق الملك العادل أبو بكر أخو السلطان صلاح الدين ، و الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين على أخذ دمشق من الملك الأفضل علي بن صلاح الدين ، و حاصراه . فدخل أبو بكر من باب توما ،

و عثمان من باب العرج ، فسار علي إلى صرخد ، و كتب إلى الخليفة الناصر العباسي يشكو من عمّه و أخيه :

مولاي إنّ أبا بكر و صاحبه
عثمان قد أخذا بالجور حقّ علي

فانظر إلى حظّ هذا الأسم كيف لقي
من الأواخر ما لقى من الاوّل

فأجابه الخليفة الناصر العباسي :

غصبوا عليّا حقّه إذ لم يكن
بعد النبّي له بيثرب ناصر

فاصبر فإنّ غدا عليه حسابهم
و ابشر فناصرك الإمام الناصر 3

« ينحدر » أي : ينهبط .

-----------
( 1 ) إبراهيم : 28 و 29 .

-----------
( 2 ) الكافي 1 : 217 ح 1 .

-----------
( 3 ) روضة المناظر 2 : 106 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

[ 33 ]

« عنّي السيل » من سال الماء .

« و لا يرقى » أي : لا يصعد .

« إلى الطير » شبّه عليه السّلام علوه المعنوي بجبل عال لا يقدر الطير من كثرة علوه أن يصعد إليه ، و قال الشاعر

« عال يقصّر دونه اليعقوب »

و اليعقوب ذكر الحجل ، و قال الأعشى :

في مجدل شيّد بنيانه
يزلّ عنه ظفر الطائر

و قال امرؤ القيس :

نيافا تزلّ الطير عن قذفاته

هذا ، و قال كعب الأشقري في فتح يزيد بن المهلّب قلعة نيزك بباد غيس و كانت في غاية الإرتفاع ، و كان نيزك يعظّمها حتّى إذا رآها سجد لها :

نفى نيزكا عن باد غيس و نيزك
بمنزلة أعيى الملوك أغتصابها

محلّقة دون السماء كأنّها
غمامة صيف زلّ عنها سحابها

و لا يبلغ الأروى شماريخها العلى
و لا الطير إلاّ نسرها و عقابها

و ما خوّفت بالذئب ولدان أهلها
و لا نبحت إلاّ النجوم كلابها

نقل الصدوق في ( معاني أخباره ) عن أبي أحمد العسكري قال : معنى قوله عليه السّلام « ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير » أنّ الخلافة ممتنعة على غيري ، و لا يتمكّن منها ، و لا تصلح له 1 .

قلت : ما قاله إنّما هو معنى قوله عليه السلام قبل ذلك : « انّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » و امّا هذا الكلام فمعناه علوّ مقامه بحيث لا يمكن لأحد أن يناله .

و علو مقامه هو أحد أسباب إعراض الناس عنه عليه السّلام ، قال أبو زيد

-----------
( 1 ) معانى الاخبار : 362 ، و علل الشرائع 1 : 152 .

[ 34 ]

النحوي : قلت للخليل العروضي : لم هجر الناس عليّا عليه السّلام و قرباه ، من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرباه ، و موضعه من الإسلام موضعه ؟ فقال : « و اللّه بهر نوره أنوارهم ، و غلبهم على صفو كلّ منهل ، و الناس إلى أشكالهم أميل . أما سمعت قول الأوّل :

و كلّ شكل لشكله ألف
أما ترى الفيل يألف الفيلا ؟ 1

و قال يونس النحوي أيضا قلت للخليل : ما بال أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأنّهم بنو أمّ واحدة ، و علي كأنّه ابن علّة ؟ قال : تقدّمهم إسلاما ، و بذّهم شرفا و فاقهم علما ، و رجحهم حلما و كثرهم هدى فحسدوه ، و الناس إلى أمثالهم و أشكالهم أميل 2 .

و في ( عيون المفيد ) : اتفق الناس على النقل عن أمير المؤمنين عليه السّلام رجزه في صفّين :

أنا علي صاحب الصمصامة
و صاحب الحوض لدى القيامة

أخو نبي اللّه ذي العلامة
قد قال إذ عمّمني العمامة

أنت أخي و معدن الكرامة
و من له من بعدي الإمامة 3

و كيف لا يكون مقامه عليه السلام بذالك الشموخ ، و كتاب اللّه تعالى في تنزيله جعله نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و النبي صلّى اللّه عليه و آله جعل في المتواتر عنه يوم احد لمّا قال جبرئيل عليه السلام له صلّى اللّه عليه و آله تعجبا من حمايته عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله نفسه منه عليه السّلام فقال صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل : « كيف لا يواسيني علي ، و هو منّي و أنا منه » كما جعل جبرئيل نفسه منه عليه السّلام كما جعلها منه صلّى اللّه عليه و آله فقال للنبي صلّى اللّه عليه و آله بعد

-----------
( 1 ) رواه الصدوق في علل الشرائع 1 : 145 ح 1 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) رواه السروي في مناقبه 3 : 213 ، و السائل هنا ايضا ابو زيد .

-----------
( 3 ) رواه عنه الشريف المرتضى في الفصول المختاره 2 : 234 .

[ 35 ]

كلامه ذاك « و أنا منكما » 1 .

« فسدلت » أي : أرخيت .

« دونها » أي : دون الخلافة .

« ثوابا » و الكلام كناية عن إعراضه عنها ، كمن يضرب الحجاب بينه و بين من يعرض عنه .

و في ( إيضاح الفضل ) : قال المأمون لفقهاء العامة : قال عليّ عليه السّلام : قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و أنا أولى بمجلسه مني بقميصي ، و لكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفّارا 2 .

« و طويت عنها كشحا » قال ابن أبي الحديد : أي : حرمتها قالوا : لأنّ من كان إلى جانبك الأيمن مثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه و الكشح ما بين الخاصرة و الجنب . و عندي انّهم أرادوا غير ذلك ، و هو أنّ من أجاع نفسه . فقد طوى كشحه كما أنّ من أكل و شبع فقد ملأ كشحه ، فكانّه أراد انّي اجعت نفسي عنها و لم ألتهمها 3 .

قلت : إنّما يجي‏ء « طوى بطنه » بمعنى الجوع كما في الخبر « و اترك أهل الصفّة تطوى بطونهم » 4 و أما « طوى كشحه » فلا يجي‏ء إلاّ بمعنى الإعراض إذا عدي بعن كما في كلامه عليه السّلام ، أو بتقديرها كما في قول الشاعر :

أخ قد طوى كشحا
و أبّ ليذهبا

و قال آخر :

و صاحب لي طوى كشحا فقلت له
إنّ انطواءك هذا عنك يطويني

-----------
( 1 ) رواه جمع كثير منهم ابن هشام في السيرة 3 : 43 ، و الكليني في الكافي 8 : 110 ح 90 ، غيرهما .

-----------
( 2 ) لم يوجد في الايضاح ، بل رواه الصدوق في عيون الاخبار 2 : 186 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 50 .

-----------
( 4 ) النهاية 3 : 146 ، مادة ( طوي ) .

[ 36 ]

و أمّا إذا عدّي بعلى فبمعنى الإخفاء كما قال زهير في حصين بن ضمضم في حرب داحس و الغبراء .

و كان طوى كشحا على مستكنّة
فلا هو أبداها و لم يتجمجم

و في ( اللسان ) : أراد « بالمستكنّة » عداوة أكنّها في ضميره 1 .

و بالجملة قوله عليه السّلام : « و طويت عنها كشحا » كقوله عليه السّلام : « و سدلت دونها ثوبا » ، كناية عن إعراضه عليه السلام عن الخلافة و تصدّي الأمر ، و ابن أبي الحديد خلط بين طيّ البطن و طيّ الكشح .

ثم طيّ الكشح لا يختصّ بمن كان على أيمنك فطويت أيسرك عنه كما قال ابن أبي الحديد بل يجي‏ء للعكس أيضا بل قوله : فطويت أيسرك عنه غير صحيح . فمن كان على أيمنك تطوى أيمنك أولا عنه إذا أعرضت عنه ، و بطيّ الأيمن يحصل طي الأيسر .

ثم انّه عليه السّلام أعرض عن الخلافة ، و سدل دونها ثوبا ، و طوى عنها كشحا لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخبره بكيفيّة معاملة الناس معه عليه السّلام بعده فقال له « انّ الامّة ستغدر بك بعدي » 2 .

و روي انّ الأشعث بن قيس قاله له : ما منعك يا ابن أبي طالب حين بويع أخو بني تيم ، و أخو بني عدي ، و أخو بني أميّة أن تقاتل و تضرب بسيفك ، و أنت لم تخطبنا خطبة مذ كنت قدمت العراق إلاّ قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر « و الله إنّي لأولى الناس ، و ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله » فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك ؟

قال : يا ابن قيس إسمع الجواب . لم يمنعني من ذلك الجبن ، و لا كراهة

-----------
( 1 ) لسان العرب 15 : 19 ، مادة ( طوي )

-----------
( 2 ) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 : 140 و 142 ، و الثقفي ، و عنه تلخيص الشافي 3 : 50 51 ، و جمع آخر غيرهما .

[ 37 ]

للقاء ربيّ ، و لكن منعني من ذلك أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عهده إليّ . أخبرني بما الامّة صانعة بعده . فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم به ، و لا أشدّ استيقانا منّي به قبل ذلك . فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إليّ إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم و جاهدهم ، و إن لم تجد أعوانا . فكفّ يدك ، و احقن دمك حتى تجد على إقامة الدين و كتاب الله و سنّتي أعوانا ، و أخبرني أنّ الامة ستخذلني و تبايع غيري ، و أخبرني أنّي منه بمنزلة هارون من موسى ، و أنّ الامّة سيصيرون بعده بمنزلة هارون ، و من تبعه ، و العجل و من تبعه إذ قال له موسى : يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتّبعن أفعصيت أمري قال يا ابن ام لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي 1 الخبر 2 .

و لم يحضر عليه السّلام السقيفة كما حضروا لأمرين :

أحدهما : انّه كان مشتغلا بدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكانوا يقولون له عليه السّلام بعد سماع احتجاجه عليهم : « لو سمعت الأنصار كلامك قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك » فكان عليه السّلام يقول : « أ فكنت أدع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله في بيته لم أدفنه ،

و أخرج أنازع الناس بسلطانه » 3 .

و الثاني : أنّ الإمام بمنزلة الكعبة يجب على الناس أن يأتوها لا أن تأتيهم هي .

« و طفقت » طفق : من أفعال الشروع قال تعالى : و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة 4 .

-----------
( 1 ) طه : 92 .

-----------
( 2 ) رواه سليم بن قيس في كتابه : 126 و 127 .

-----------
( 3 ) رواه الجوهري في السقيفة : 1 ، و ابن قتيبة في الامامة و السياسة 1 : 12 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 4 ) الاعراف : 22 .

[ 38 ]

« ارتئي بين أن أصول » : من الصولة بمعنى الحملة .

« بيد جذاء » أي : مقطوعة قال تعالى : فجعلهم جذاذا إلاّ كبيرا لهم 1 .

و قال جل و علا : عطاء غير مجذوذ 2 .

و يحتمل أن يكون « بيد جدّاء » بالمهملة أيضا بذلك المعنى كقولهم :

« أرض جدّاء » أي : لا ماء بها « و شاة جداء » لا لبن لها ، و كقول الشاعر :

أبى حبّي سليمى أن يبيدا
و أمسى حبلها خلقا جديدا 3

و أمّا كونه : « بيد حذّاء » بالحاء كما احتمله ابن أبي الحديد 4 و جعله بذلك المعنى فلا وجه له . فإنّه بمعنى السريع الخفيف يقال : « سيف أحذّ » أي : سريع القطع « و ناقة حذّاء » : سريعة السير ، « و قطاة حذّاء » : سريعة الطيران ، « و حاجة حذّاء » : سريعة النفاذ و النجح ، « و عزيمة حذّاء » : ماضية لا يلوي صاحبها على شي‏ء . قال الراعي :

و طوى الفؤاد على قضاء عزيمة
حذّاء و اتّخذ الزمان خليلا

و أمر أحذ ينفلت من كلّ أحد لا يقدر على تداركه . قال الطرمّاح :

يقري الامور الحذّ ذا أربة
في ليّها شزرا و أمرارها

و رجل أحذّ أي : خفيف اليد . قال الفرزدق :

بعثت على العراق و رافديه
فزاريا أحذّ يد القميص

و قلب أحذّ : سريع الإدراك . قال طرفة :

و أروع نبّاض أحذّ ململم
كمرداة صخر في صفيح منضّد 5

-----------
( 1 ) الانبياء : 58 .

-----------
( 2 ) هود : 108 .

-----------
( 3 ) أورده لسان العرب 3 : 111 ، مادة ( جديد ) .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 51 .

-----------
( 5 ) أورد الشواهد الأربعة في الأساس : 77 ، مادة ( حذّ ) .

[ 39 ]

و في كلامه عليه السّلام : « انّ الدنيا قد ولّت حذّاء » 1 أي : سريعة خفيفة ، و حينئذ فلو جعل هنا قوله عليه السّلام : « بيد حذّاء » بالحاء يصير المعنى عكس المراد كما لا يخفى .

قال ابن قتيبة في ( خلفائه ) : خرج عليّ كرّم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة . فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، و لو أنّ زوجك و ابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به . فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، و لقد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم 2 .

و في خطبته عليه السّلام الطالوتية : أما و الله لو كان لي عدّة أصحاب طالوت ، أو عدّة أهل بدر ، و هم أعداؤكم لضربتكم بالسيف حتّى تؤولوا إلى الحق ، و تنيبوا للصدق إلى أن قال و الله لو أنّ لي رجالا ينصحون لله و لرسوله بعدد هذه الشياه و أشار إلى ثلاثين شاة لأزلت ابن آكلة الذباب عن ملكه الخبر 3 .

« أو اصبر على طخية عمياء » قال أبو أحمد العسكري في تفسير الخطبة :

للطخية موضعان : أحدهما : الظلمة ، و الآخر : الغمّ و الحزن ، و هو هاهنا يجمع الظلمة و الغمّ و الحزن 4 .

قلت : الظاهر أنّه إنّما قال ههنا يجمعهما لوصفها بعمياء فكانّه قال طخية بجميع معانيها .

قال ابن أبي الحديد : انّ في الكلام تقديما و تأخيرا ، و تقديره : و لا يرقى إليّ الطير فطفقت ارتئي بين كذا و كذا فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فسدلت

-----------
( 1 ) نهج البلاغة 1 : 93 ، الخطبة 42 .

-----------
( 2 ) الإمامة و السياسة 1 : 12 .

-----------
( 3 ) رواه الكليني في الكافي 8 : 32 و 33 .

-----------
( 4 ) العلل 1 : 152 ، و المعاني : 362 ، و النقل بتلخيص .

[ 40 ]

دونها ثوبا و طويت عنها كشحا ثم و صبرت و في العين قذى إلى آخر القصة لأنّه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا و يطوي عنها كشحا ثم يطفق يرتئي بين أن ينابذهم أو يصبر إلى أن قال و التقديم و التأخير طريق لاحب و سبيل مهيع في لغة العرب قال تعالى : الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا قيما أي أنزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا 1 .

قلت : بل لا تقديم و لا تأخير ، و انما الكلام من باب الاجمال و التفصيل فأجمل عليه السّلام أوّلا إعراضه بقوله : « فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا » و فصّل ثانيا بقوله : « و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو اصبر على طخية عمياء » .

فشرع عليه السّلام يفكّر فرأى أمره دائرا بين محذورين صولة غير منتجة ،

و غمضة مؤلمة ، و المحذور الثاني أقرب إلى العقل فاختاره .

و لو لاه لما كان لإعراضه وجه ، و لذا لم يعرض عليه السّلام بعد عثمان و قام و قاتل و قال في قتاله مخالفيه « لم يسعني إلاّ القتال أو الكفر بما نزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله » 2 .

و التقديم و التأخير في لغة العرب و إن كان كثيرا حتّى عقد له الثعالبي في ( سرّ عربيّته ) 3 بابين لكنّه طريق آخر ليس مثل ما قال في كلامه ، و لا اختصاص له بلغة العرب بل سائر في جميع اللغات ، و أمّا ما لفّقه في بيان ترتيب كلامه عليه السّلام فهو خارج عن طريق المحاورة عند الكلّ .

« يهرم فيها الكبير ، و يشيب فيها الصغير » قال ابن أبي الحديد : يمكن أن

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 51 .

-----------
( 2 ) رواه المفيد في اماليه : 154 ح 5 ، المجلس 19 ، و لفظ : « ثم لم اجد إلا قتالهم او الكفر بالله » رواه غيره ايضا .

-----------
( 3 ) انظر كتاب الثعالبي : « فقه اللغة و سر العربية » .

[ 41 ]

يكون من باب الحقائق يعني به طول ولاية المتقدّمين عليه ، و من باب المجازات يعني به صعوبة تلك الأيام حتّى أن الكبير يكاد يهرم و الصغير يشيب من أهوالها 1 .

قلت : قوله عليه السّلام « يهرم . . . » : صفة لقوله عليه السّلام « طخية عمياء » و حينئذ فالمراد شرح حاله عليه السلام في أوّل الأمر يوم تصدّى أبي بكر للأمر فيتعيّن أنّ كلامه عليه السلام من باب الاستعارة .

قال عليه السّلام ذلك لأن أبا بكر فعل أفعالا شنيعة حتى ان بعضها لم يرضها عمر منها قتل خالد بن الوليد و اليه لمالك بن نويرة بتهمة الإرتداد ، و زناه بامرأته ليلة قتله . فترك أبو بكر الحدّ و القود عليه . قال الجزري في ( كامله ) : لمّا قدم خالد البطاح بعث السرايا و أمرهم بداعية الإسلام ، و أن يأتوه بكلّ من لم يجب ، و إن امنتع ان يقتلوه إلى أن قال بعد ذكر قتله مالكا و وطيه امرأته ،

و بلوغ خبره إلى المدينة قال عمر لأبي بكر : إنّ سيف خالد فيه رهق ، و أكثر عليه في ذلك فقال : يا عمر تأوّل خالد فأخطأ . فارفع لسانك عنه . فإنّي لا أشيم سيفا سلّه اللّه على الكافرين ، و ودى مالكا ، و كتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل و دخل المسجد و عليه قباء ، و قد غرز في عمامته سهما . فقام إليه عمر . فنزعها و حطّمها و قال له : « قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته ، و الله لأرجمنّك بأحجارك » و خالد لا يكلّمه يظّن أنّ رأى أبي بكر مثله ، و دخل على أبي بكر .

فأخبره الخبر ، و اعتذر إليه فعذره و تجاوز عنه ، و عنّفه في التزويج الّذي كانت عليه العرب من كراهة أيام الحرب . فخرج خالد و عمر جالس . فقال له خالد :

« هلّم إليّ يا ابن أمّ شملة » فعرف عمر أنّ أبا بكر رضي عنه . فلم يكلّمه ، و قيل :

إن المسلمين لمّا غشوا مالكا و أصحابه ليلا أخذوا السلاح ، فقالوا : نحن

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 51 ، و النقل بتلخيص .

[ 42 ]

المسلمون . فقال أصحاب مالك : و نحن المسلمون . قالوا لهم : ضعوا السلاح .

فوضعوه ثم صلّوا . و كان خالد يعتذر في قتله لمالك أنّه قال : ما أخال صاحبكم إلاّ قال كذا و كذا فقال له : أو ما تعدّه لك صاحبا ثم ضرب عنقه ، و قدم أخوه متمم بن نويرة على أبي بكر يطلب بدم أخيه ، و يسأله أن يردّ عليه سبيهم ، فأمر أبو بكر بردّ السبي ، و ودى مالكا من بيت المال 1 .

و قال الجزري أيضا في ( كامله ) : كان أوّل كتاب كتبه عمر لمّا ولي بتولية أبي عبيدة جند خالد ، و بعزل خالد لأنّه كان ساخطا عليه في خلافة أبي بكر كلّها لوقعته بمالك بن نويرة ، و ما كان يعمل في حربه ، و أوّل ما تكلّم به عزل خالد ، و قال : لا يلي لي عملا أبدا . و كتب إلى أبي عبيدة إن أكذب خالد نفسه فهو الأمير على ما كان عليه ، و إن لم يكذب نفسه ، فأنت الأمير على ما هو عليه ،

إنزع عمامته عن رأسه ، و قاسمه ماله . فذكر أبو عبيدة ذلك لخالد ، فاستشار خالد اخته ، و كانت عند الحرث بن هشام . فقالت : و الله لا يحبّك عمر أبدا ، و ما يريد إلاّ أن تكذب نفسك ثم ينزعك . فقبل رأسها ، و قال : صدقت . فأبى أن يكذب نفسه . فأمر أبو عبيدة بنزع عمامة خالد الخ 2 .

و روى أنّ عمر قال يوما في خلافته لخالد : أنت الذي قتلت مالكا . فقال ان كنت قتلت خالدا لهنات كانت بيني و بينه ، فقد قتلت لكم سعد بن عبادة لهنات كانت بينكم و بينه 3 .

و في ( كامل المبرد ) : لمّا صلّى أبو بكر ، قام متمّم بن نويرة أخو مالك الّذي قتله خالد بحذاء أبي بكر ، و اتّكأ على سية قوسه ، و أومى إلى أبي بكر ، و قال :

-----------
( 1 ) رواه ابن الاثير في الكامل 2 : 358 ، سنة 11 ، و روى بعضه الطبري في تاريخه 2 : 502 سنة 11 .

-----------
( 2 ) رواه ابن الاثير في الكامل 2 : 427 ، سنة 11 ، و الطبري في تاريخه 2 : 624 ، سنه 11 .

-----------
( 3 ) رواه ابوالقاسم الكوفي في الاستغاثة : 10 ، و المجلسي في فتن البحار : 257 .

[ 43 ]

أدعوته بالله ثم غررته
لو هو دعاك بذمّة لم يغدر

فقال أبو بكر : و الله ما دعوته و لا غررته ( و أقول : لعمر الله صدق متمم ،

و كذب أبو بكر . فهل فعل عامله إلاّ فعله مع رضائه به و إمضائه له ، و لو كان صدق لتبرأ من فعل خالد و لأقاد متمّما من خالد . نعم هنا لم يكن عمر شريكه حيث أنكره غاية الإنكار الّذي سمعته ) إلى أن قال ثم بكى متممّ و انحطّ على سية قوسه ، و كان أعور . فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء . فقام إليه عمر . فقال : لوددت أنّي رثيت أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك مالكا 1 .

و أقول لأبي بكر في قوله لعمر : « لم أكن لأشيم سيفا سلّه الله على الكافرين » .

بل لم تكن لتشيم سيفا سللته على المسلمين لتتظاهر بذلك على أمير المؤمنين عليه السّلام .

و يالله لإخواننا في تبجّحهم بهذا الرجل بكونه صاحب الغار ، و يقتل عامله برضاه جمعا من المسلمين غدرا ، و يقطع هو و جنده رؤوسهم ،

و يجعلونها أثافيّ قدورهم .

قال الطبري : كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شَعرا ، و انّ أهل العسكر أثفوا برؤوسهم القدور . فما منهم رأس إلاّ وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكا . فإن القدر نضجت و ما نضج رأسه من كثرة شعره 2 .

فهل ينبغي أن يقال له في عمله ذاك إلاّ صاحب العار مع أنّ كونه صاحب الغار أيضا كان عارا حيث صار سببا لاضطراب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتى أنزل الله سكينته على رسوله و أبقاه في عواره ، و سمّوه الصديق ، و هل ذاك

-----------
( 1 ) رواه المبرد في الكامل 8 : 231 و 232 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 2 : 503 ، سنة 11 .

[ 44 ]

العمل عمل صدّيق أم زنديق .

و من الغريب أنّ من مسلّماتهم كون خالد سيف الله ، و لعمر الله إن كان الاّ سيف أبي بكر . فإن كان أبو بكر إلههم فهو سيف إلههم لا سيف الله .

و من المضحك أنّهم وضعوا له أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وصفه بذلك إلاّ أنّ الله تعالى الذي يخزي الكاذب فضحهم بأن قالوا لقّبه النبي بذلك لمّا كان بمؤتة وجعلوا الراوي لذلك أبا قتادة . فقال الطبري : قال أبو قتادة : بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله جيش الامراء . فقال : عليكم زيد بن حارثة . فإن اصيب فجعفر ، فإن اصيب جعفر فعبد الله بن رواة . فوثب جعفر فقال : يا رسول الله ما كنت أذهب إن تستعمل زيدا عليّ ، قال : إمض فإنّك لا تدري أيّ ذلك خير . فانطلقوا إلى أن قال فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : أخبركم عن جيشكم إلى أن قال بعد ذكر الأخبار عن شهادة عبد اللّه بن رواحة قال النبيّ : ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ، و لم يكن من الامراء هو أمر نفسه . ثم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : « اللهمّ انّه سيف من سيوفك فأنت تنصره » فمنذ يومئذ سمّي خالد سيف الله 1 .

مع أنّ خالدا لما رجع من مؤتة مع الجيش جعل الناس يحثون التراب على خالد و جيشه ، و يقولون : « يا فرّار في سبيبل اللّه » فهل يقولون لسيف اللّه فرار في سبيل الله ؟

و ان أبا قتادة كان من منكري خالد ، و عاهد الله تعالى ان لا يشهد معه حربا فكيف يمكن أن يكون سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سمّاه سيف الله كما وضعوا على لسانه و يعاهد الله تعالى ألا يشهد مع خالد حربا .

اما انّ خالدا و جيشه لمّا رجعوا كان الناس يقولون لهم : يا فرّار . فقال الطبري قال عروة بن الزبير حين انصرف خالد بن الوليد بالناس قافلا : لمّا

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 322 ، سنة 8 .

[ 45 ]

دنوا من دخول المدينة تلّقاهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون ، و جعل الناس يحثون على الجيش التراب ، و يقولون : يا فرّار في سبيل الله و قالت ام سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة : ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قالت : و الله ما يستطيع أن يخرج ، كلّما خرج صاح الناس أفررتم في سبيل الله 1 .

و اما أنّ أبا قتادة عاهد الله تعالى ان لايشهد حربا مع خالد . ففي ( الطبري ) :

أنّ أبا قتادة ممّن شهد لمالك بن نويرة بالاسلام ، و خاصم خالدا و تركه ،

و جاء إلى المدينة ، و أخبر الناس بغدر خالد بمالك ، و عاهد الله تعالى أن لا يشهد مع خالد حربا » 2 .

لكن تلقيب صدّيقهم له بسيف الله محقّق . فقد عرفت انّه قال لعمر : « لم أكن لأشيم سيفا سلّه الله على الكافرين » إلاّ أنّ فاروقهم حكم بضدّه ، و قال له : انّ خالدا سيف فيه رهق ، و سيف الله لا يمكن أن يكون فيه رهق .

و من الغريب أنّهم تارة يقولون إن النبيّ جعل خالدا سيف الله ، و اخرى لما أرادوا أن يضعوا لعبد الرحمن بن عوف و أمثاله فضائل ، يروون ما يدلّ على انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن يحسب خالدا من المسلمين حيث لم يجعله من أصحابه ، و كلّ أصحابه مسلمون . فروى الطبري في قصّة غدر خالد في زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببني جذيمة الّذين قتلوا عمّه في الجاهلية كما قتلوا عوفا والد عبد الرحمن بن عوف عن ابن أبي سلمة قال : كان بين خالد و عبد الرحمن بن عوف فيما بلغني كلام في ذلك . فقال له ( عبد الرحمن ) : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام . فقال : خالد إنّما ثأرت بأبيك . فقال عبد الرحمن :

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 323 ، سنة 8 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 2 : 502 ، سنة 11 ، و النقل بالمعنى .

[ 46 ]

كذبت قد قتلت قاتل أبي و لكنك إنّما ثأرت بعمّك الفاكه حتى كان بينهما شي‏ء .

فبلغ ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال : مهلا يا خالد دع عنك أصحابي . فو الله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي و لا روحته 1 .

ثمّ من العجب أنّهم لم يعنونوا مالكا في كتبهم في الصحابة مع أنّهم يعنونون المنافقين فلم يذكره أبن مندة في كتابه ، و لا أبو نعيم في كتابه ،

و لا أبو عمر في استيعابه و لا غيرهم ممّن كتب في الصحابة .

و قد تعجّب ابن الأثير الذي جمع أقوال أولئك الثلاثة في كتابه ( اسد الغابة ) مع شدّة نصبه من ذلك . فعنونه من نفسه ، و نقل ترجمته من ( تاريخ الطبري ) ، و قال : « هذا يدلّ على انّ مالكا لم يرتدّ ، و قد ذكروا في الصحابة أبعد من هذا فتركهم هذا عجب ، و عمر يقول لخالد : « قتلت امرأ مسلما » .

و أبو قتادة يشهد أنّهم أذنوا و صلّوا ، و أبو بكر يرد السبي و يعطي ديّة مالك من بيت المال . فهذا جميعه يدلّ على أنّه مسلم ، و وصف متمّم أخاه مالكا .

فقال « كان يركب الفرس الحرون ، و يقود الجمل الثقال و هو بين المزادتين النضوحتين في الليلة القرّة ، و عليه شملة فلوت معتقلا رمحا خطيّا . فيسري ليلته ثم يصبح وجهه ضاحكا كأنّه فلقة قمر » 2 .

و أقول للجزري : لاتلم أصحابك في ذلك . فإنّهم أرادوا إخفاء عار صاحب غارهم ، و هل كان جوابه لأخيه في قوله : « أ دعوته بالله ثم غررته » « و الله ما دعوته و لا غررته » جوابا ؟ هل قال له : أنت بشخصك فعلت كذا حتى يجيبه بما أجاب ؟ و هل جوابه إلاّ جواب مكابر ؟

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 342 ، سنة 8 .

-----------
( 2 ) اسد الغابة 4 : 296 .

[ 47 ]

كما أنّهم وضعوا له أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سمّاه صدّيقا لكونه صدّق خبر إسرائه إلى بيت المقدس . فإن كان كذلك . فالمسلمون كلّهم صدّقوا ذلك .

فيلزم أن يكونوا كلّهم صدّيقين .

ثم لازم ذلك عدم تصديق فاروقهم ، و ذي نوريهم لإسرائه إلى بيت المقدس و كان إسراؤه قبل هجرته بسنة ، و قد نطق بإسرائه القرآن 1 فيلزم ان يكونا كافرين .

مع ان في خبرهم : أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل عليه السّلام : إنّ قومي لا يصدّقوني فقال جبرئيل « يصدّقك أبو بكر و هو الصدّيق » 2 و لا ربط للجواب . فإنّ مراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقومه قريش الكفّار فأيّ فائدة لتصديق أبي بكر له ، و هو أحد أصحابه .

و الدليل على ان المراد بقومه قريش الكفّار قوله تعالى : و قال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجورا 3 ، و قوله تعالى : و كذّب به قومك و هو الحق 4 ، و قوله تعالى : و لمّا ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدّون 5 .

فإن كانت الألقاب جزافا كألقاب العباسيّة المتوكل على الله ، و المعتصم بالله ، و غير ذلك فلا مشاحّة ، فكم اسم ليس تحته مسمّى ، بل كم اسم مسمّاه بالضّد كما قيل بالفارسية :

بر عكس نهند نام زنگى كافور

-----------
( 1 ) انظر الآية الاولى من الاسراء .

-----------
( 2 ) اخرجه ابن سعد في الطبقات 3 ق 1 : 120 .

-----------
( 3 ) الفرقان : 30 .

-----------
( 4 ) الانعام : 66 .

-----------
( 5 ) الزخرف : 57 .

[ 48 ]

و ان كانت عن حقيقة ، فلا بد ان يعاين في الملقّب علائم المعنى كما قال الذي نجا من صاحبي يوسف عليه السّلام له عليه السّلام لمّا كان شاهد في السجن صدقه في أعماله و أقواله يوسف ايّها الصدّيق أفتنا في سبع بقرات الآية 1 .

و الرجل لم يكن صادقا فضلا عن كونه صدّيقا . فللصادق أوصاف ذكرها الله تعالى في قوله و لكنّ البرّ من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبّه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس اولئك الذين صدقوا 2 .

أثبتوا وجود واحد من هذه الأوصاف فيه بالبرهان لا بما بذل معاوية الأموال في الوضع و الجعل له و لصاحبه ، تضعيفا لأمر حجّة الله .

و كيف و فقدانه لكثير منها بالعيان . فلم يصبر في البأساء و الضرّاء إذ كان في الغار حتى نهاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الجزع ، و بقي مضطربا لتخصيص الله تعالى إنزال السكينة بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله .

و لم يصبر حين البأس . فأخذ هو كصاحبه الراية في خيبر و رجع منهزما يجبّن أصحابه و يجبّنه أصحابه حتىّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : « لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ الله و رسوله و يحبّه الله و رسوله » فأعطاها أمير المؤمنين عليه السّلام 3 .

و في كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا إشارة لمن ألقى السمع و هو شهيد انّ الرجل

-----------
( 1 ) يوسف : 46 .

-----------
( 2 ) البقرة : 177 .

-----------
( 3 ) حديث الراية أخرجه جمع كثير منهم مسلم في صحيحه 4 : 1871 ح 32 ، و الترمذي في سننه 5 : 638 ح 3724 ،

و ابن ماجه في سننه 1 : 45 ح 121 .

[ 49 ]

و صاحبه كانا لا يحبّان الله و رسوله ، و لا يحبّهما الله و رسوله .

و يوم حنين قال : « اليوم لن نغلب عن قلّة » ثم انهزم في من انهزم . فأنزل تعالى فيه : و يوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضافت عليكم الأرض بما رحبت ثم ولّيتم مدبرين . ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها 1 .

و أخرجه تعالى هنا أيضا كآية الغار ممّن أنزل عليه السكينة حيث غيّر الخطاب ، و قال : على المؤمنين و لم يقل : « و عليكم » فيفهم اخراجه عن المؤمنين أيضا .

و من العجب انّهم لم يصفوا أمير المؤمنين عليه السّلام بالصدّيق مع كونه أوّل من صدّق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالعيان . قال الإسكافي في ( نقض سفيانية الجاحظ ) :

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : لقد صلّت الملائكة علي و على علي سبع سنين ، و ذلك أنّه لم يصلّ معي رجل فيها غيره .

و قال عبّاد بن عبد الله الأسدي أيضا : سمعت عليا عليه السّلام يقول : أنا عبد اللّه و أخو رسوله ، و أنا الصدّيق الأكبر ، لا يقولها غيري إلا كذّاب . و لقد صلّيت قبل الناس سبع سنين 2 .

و في ( الطبري ) عن أمير المؤمنين قال : لمّا نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و انذر عشيرتك الأقربين 3 دعاني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال : ان الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا و عرفت أنّي متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمتّ عليه حتى جاءني جبرئيل و قال : إن لا تفعل

-----------
( 1 ) رواه الواقدي في المغازي 2 : 890 ، و غيره . و الآيات 25 26 من سورة التوبة .

-----------
( 2 ) رواهما عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 261 262 ، شرح الخطبة 190 .

-----------
( 3 ) الشعراء : 214 .

[ 50 ]

ما تؤمر به يعذّبك ربّك فاصنع يا علي لنا صاعا من طعام ، و اجعل عليه رجل شاة ، و املأ لنا عسّا من لبن ، ثم أجمع لي بني عبد المطلب حتّى اكلّمهم و ابلّغهم ما امرت به . ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له ، و هم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب ، و حمزة و العباس و أبو لهب ، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الّذي صنعت لهم ، فجئت به . فلمّا وضعته تناول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حذية من اللحم فشقّها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال : خذوا بسم الله . فأكل القوم حتّى مالهم بشي‏ء حاجة ،

و ما أرى إلاّ موضع أيديهم ، و أيم الله الّذي نفس عليّ بيده و إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم . ثم قال : إسق القوم . فجئتهم بذلك العسّ . فشربوا حتى رووا منه جميعا ، و أيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . فلمّا أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يتكلّم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال :

« لقد سحركم صاحبكم » فتفرّق القوم . و لم يكلّمهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال في الغد :

يا علي انّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول . فتفرّق القوم قبل أن أكلّمهم . فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت . ثم اجمعهم إليّ . ففعلت ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام ، فقرّبته لهم . ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتّى ما لهم بشي‏ء حاجة . ثم قال : إسقهم . فجئتهم بذلك العسّ . فشربوا حتّى رووا جميعا . ثم تكلّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله . فقال : يا بني عبد المطلب إنّي و الله ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به . إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة ، و قد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه . فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم . فأحجم القوم عنها جميعا ، و قلت و أنا لأحدثهم سنّا و أرمصهم عينا ، و أعظمهم بطنا ، و أحمشهم ساقا : أنا يا نبيّ الله أكون و زيرك عليه . فأخذ برقبتي ثم قال : إنّ هذا أخي و وصيّي ، و خليفتي

[ 51 ]

فيكم . فاسمعوا له و أطيعوا . فقام القوم يضحكون ، و يقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع . و روي خبر آخر بمضمونه 1 .

و من العجب أنهم ينقلون استخلاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له في أوّل أمره فضلا عن باقي أيّامه ثم ينكرونه . فهل كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثل الامراء الدنيوية يعدون من يؤازرهم مقاما فاذا استقرّ أمرهم لم يفوالهم ؟

و لو لم يكن نصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أمير المؤمنين عليه السّلام إلاّ هذا لكفاه بعد صراحته . فقد عرفت أنّ القوم قاموا يستهزئون بأبي طالب بأنّ ابن أخيك أوجب عليك طاعة ابنك .

مع انّ النصوص عليه عليه السّلام لا تحصى . فان لم يثبت استخلافه بها كما زعمه إخواننا لم يثبت شي‏ء في العالم .

كما أنّهم نقلوا أنّ بعض من قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله : أؤازرك على أمرك على أن أكون خليفتك بعدك أنكر عليهم ذلك . و قال لهم : انّ هذا أمر بيد الله لا بيدي .

فكيف جعلوا استخلاف أبي بكر بيد الناس . ففي ( تفسير الثعلبي ) في قوله تعالى : له معقّبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله 2 انّ عامر بن الطفيل جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال : ما لي إن أسلمت ؟ قال : لك ما للمسلمين ،

و عليك ما عليهم . فقال : تجعل لي الأمر من بعدك . فقال : « ليس ذلك إليّ إنّما ذلك إلى الله عزّ و جلّ يجعله حيث يشاء » 3 .

و في ( الطبري ) : لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعرض نفسه على القبائل جاء إلى بني كلاب . فقالوا : نبايعك على أن يكون لنا الأمر بعدك . فقال : « الأمر للّه فإن شاء

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 62 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) الرعد : 11

-----------
( 3 ) رواه عنه ابن طاووس في الطرائف 2 : 395 .

[ 52 ]

كان فيكم أو في غيركم » فمضوا ، و لم يبايعوه ، و قالوا : لا نضرب لحربك بأسيافنا ثم تحكّم علينا غيرنا 1 .

و في ( الطبري ) أيضا قال الزهري : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى اللّه و عرض عليهم نفسه . فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : و الله لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب .

ثم قال له : « أ رأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ » قال : « الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء » فقال له :

« أ فنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا ؟ » 2 .

و قد قال تعالى : و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة 3 و خليفة النبيّ لا بد أن يكون من سنخ النبيّ للفرق بين النبوّة و الملك : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته 4 .

« و يكدح » أي : يكدّ « فيها مؤمن » .

« حتى يلقى ربّه » : عرف عليه السّلام « الصغير » و « الكبير » و نكّر « مؤمن » إمّا لإرادة التكثير بالصغير و الكبير ، و التقليل بالمؤمن . فإنّ المؤمن إنّما كان هو عليه السلام و أصحابه ، و المستفاد من الأخبار أنّ أصحابه عليه السلام بعد النبيّ صلى الله عليه و آله انّما كانوا ثلاثة : سلمان و أبو ذر و المقداد . ثم صاروا إلى حين وفاة الصدّيقة سبعة ، و لم يبلغوا إلى يوم صفّين أربعين ، و إمّا لأنّ المراد بالصغير و الكبير الجنس ، و بمؤمن الشخص أي : نفسه عليه السّلام .

-----------
( 1 ) لم أجده كذلك في تاريخ الطبري ، نعم روى حديث دعاء النبي صلّى اللّه عليه و آله بني عامر بن صعصعة بهذا السياق الطبري في تاريخه 2 : 83 ، و ابن هشام في السيرة 2 : 51 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 2 : 84 ، و سيرة ابن هشام 2 : 51 .

-----------
( 3 ) القصص : 68 .

-----------
( 4 ) الانعام : 124 .

[ 53 ]

« فرأيت أنّ الصبر على هاتا » أي : هذه الأخيرة و هي الصبر على طخية عمياء يشيب فيها الصغير ، و يهرم فيها الكبير ، و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه .

« أحجى » أي : أجدر و أخلق بالعقل و الشرع من الاولى ، و هي الصولة بيد جذّاء لأنّه القاء للنفس إلى التهلكة باليد ، و قد نهى الله تعالى عنه و لأنّه يؤدّي إلى رجوع الناس إلى الكفر . فروى الكلبي و قد نقله ابن أبي الحديد : انّه عليه السّلام لمّا أراد المسير إلى البصرة خطب فقال : انّ الله لما قبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله استأثرت علينا قريش بالأمر ، و دفعتنا عن حق نحن أحقّ به من الناس كافّة ، فرأيت انّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، و سفك دمائهم ، و الناس حديثو عهد بالإسلام ، و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى و هن ، و يعكسه أقلّ خلق 1 .

« فصبرت و في العين قذى » و القذى : ما يقع في العين من الأذى .

روى ( سنن أبي داود ) عن حذيفة قال : قلت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله : هل بعد هذا الخير شرّ . قال : فتنة و شر . قلت : هل بعد هذا الشرّ خير . قال : « يا حذيفة تعلّم كتاب الله و اتّبع ما فيه » ثلاث مرار قلت : يا رسول اللّه هل بعد هذا الشرّ خير ؟

قال : هدنة على دخن ، و جماعة على أقذاء فيها أو فيهم . قلت : يا رسول اللّه الهدنة على الدخن ما هى ؟ قال : لا ترجع قلوب أقوام على الّذي كانت عليه الخبر 2 .

و بمضمون قوله « و في العين قذى » قول الشاعر :

يكلّفني إغضاء عيني على القذى
زمان غبيّ جائر الحكم جابره

و قال الهذلي في بنيه :

-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 102 ، شرح الخطبة 22 .

-----------
( 2 ) أخرجه ابو داود في سننه 4 : 96 ح 4246 .

[ 54 ]

فالعين بعدهم كأن حداقها
كحلت بشوك فهي عورى تدمع

و قال أيضا :

كأنّ عيني فيها الصاب مدبوج

و الصاب : عصارة شجر مرّ .

و قال آخر :

و كان العين خالطها قذاها
بعوّار فلم تقض كراها

و قالت الأدباء المتأخّرون في الكناية عن الثقيل : « هو بين الجفن و العين قذاة ، و بين الأخمص و النعل حصاة » .

« و في الحلق شجا » الشجا : ما ينشب في الحلق من عظم و غيره قال :

و يراني كالشجا في حلقه
عسرا مخرجه ما ينتزع 1

صبر عليه السّلام أيّام أبي بكر صبر من في عينه قذى و في حلقه شجا لما يرى من أمر اختلاط امور الشريعة غير غصب خلافته . فكان من بدعه أخذه الناس بحمل زكواتهم إليه ، و ترك فقرائهم محتاجين ، و تسمية من خالفه في ذلك مرتدّا . مع انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر بصرف زكاة كلّ موضع إلى محتاجيه .

و قد عمل بذلك عمر بن عبد العزيز ، فقالوا في سيرته انّه كتب إلى عدي بن أرطاة : « إنّي كنت كتبت إلى عمرو بن عبد اللّه أن يقسّم ما وجد بعمّان من عشور التمر ، و الحبّ في فقراء أهلها ، و من سقط إليها من أهل البادية ،

و من اضافته إليها الحاجة و المسكنة ، و انقطاع السبيل . فكتب إليّ انّه سأل عاملك قبله عن ذلك الطعام و التمر . فذكر انّه باعه ، و حمل إليك ثمنه .

فاردد إلى عمرو ما كان حمل إليك عاملك على عمّان من ثمن التمر و الحبّ

-----------
( 1 ) أورده لسان العرب 14 : 423 ، مادة ( شجا ) ، و أساس البلاغة : 230 مادة ( شجو ) .

[ 55 ]

ليضعه في المواضع التي أمرته بها » 1 .

و نقل ابن أبي الحديد في موضع آخر عن شيخه أبي جعفر النقيب أنّ أبا بكر كان يقضي بقضاء . فينقضه عليه أصاغر الصحابه كبلال و صهيب و نحوهما ، و قد روى في ذلك عدّة قضايا 2 .

و روى محمد بن يعقوب الكليني في ( كافيه ) عن أبي عبد الله عليه السلام قال : لقد قضى أمير المؤمنين عليه السلام بقضية ما قضى بها أحد قبله ، و كان أوّل قضية قضى بها بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله . فلمّا قضى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أفضى الأمر إلى أبي بكر أتى برجل قد شرب الخمر ، فقال له : أشربت الخمر ؟ قال : نعم . قال : و لم و هي محرّمة ؟ قال : إنّي أسلمت بين ظهراني قوم يستحلّون الخمر ، و لو علمت أنّها حرام لاجتنبتها . فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال له : ما تقول في أمره ؟ قال : عمر معضلة و أبو الحسن لها . فقال أبو بكر : يا غلام ادع لنا عليّا .

فقال عمر : يؤتى الحكم في منزله فأتوه و عنده سلمان الفارسي . فأخبروه بقصّة الرجل . فقال عليه السلام لأبي بكر : « ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار . فمن كان تلا عليه آية التحريم . فليشهد عليه . فإن لم تكن تليت عليه فلا شي‏ء عليه » ففعل أبو بكر بالرجل ما قال عليه السّلام . فلم يشهد عليه أحد فخلىّ سبيله . فقال سلمان له عليه السّلام : لقد أرشدتهم . فقال عليه السّلام : إنّما أردت أن اجدّد تأكيد هذه الآية فيّ و فيهم أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدي إلاّ أن يهدى فمالكم كيف تحكمون 3 .

و روى محمّد بن الحسن الطوسي في ( تهذيبه ) ، عن القاسم بن محمّد بن

-----------
( 1 ) رواه البلاذري في فتوح البلدان : 88 .

-----------
( 2 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 4 : 459 ، شرح الحكمة 405 ، بعد تمام كلام النقيب .

-----------
( 3 ) الكافي 7 : 249 ح 4 ، و الآية 35 من سورة يونس .

[ 56 ]

أبي بكر : أنّ رجلا توفّى على عهد أبي بكر ، و ترك جدّتين : أمّ امّه ، و امّ أبيه فورّث أبو بكر امّ امّه ، و ترك الاخرى ، فاعترض عليه أنصاري . فورثها .

و روى فيه عن قبيصة بن ذؤيب قال : جاءت الجدّة إلى أبي بكر . فقالت : انّ ابن ابني مات . فاعطني حقّي . فقال : ما أعلم لك في كتاب اللّه شيئا و سأسأل الناس . فشهد لها المغيرة بن شعبة ، فقال : انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطاها السدس .

فقال : من سمع معك . فقال : محمّد بن مسلمة . فأعطاها السدس . قال : فجاءت أمّ الامّ . فقالت : إنّ ابن ابنتي مات . فأعطني حقّي . فقال : ما أنت التي شهد لها أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطاها السدس . فان اقتسمتموه بينكما . فأنتم أعلم 1 .

و قال محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد في ( ارشاده ) : رووا أنّ أبا بكر سئل عن قوله تعالى : و فاكهة و أبّا 2 فلم يعرف معنى الأبّ من القرآن . فقال : أيّ سماء تظلّني أم أيّ أرض تقلّني أم كيف أصنع إن قلت في كتاب اللّه بما لا أعلم ؟ أمّا الفاكهة فنعرفها ، و أمّا الأبّ فالله أعلم به ، فبلغ أمير المؤمنين عليه السّلام مقاله ذلك في ذلك فقال : يا سبحان الله أما علم أنّ الابّ هو الكلاء و المرعى 3 فقال تعالى بعده : متاعا لكم و لأنعامكم 4 .

و سئل أبو بكر عن الكلالة . فقال : أقول فيها برأيي . فإن أصبت فمن الله و إن أخطأت فمن نفسي و من الشيطان . فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام . فقال : ما أغناه عن الرأي في هذا المكان أما علم أنّ الكلالة هم الاخوة و الأخوات من قبل الأب و الام ، و من قبل الأب على انفرداه ، و من قبل الام أيضا على حدتها قال الله تعالى : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد

-----------
( 1 ) رواهما الطوسي في التهذيب 9 : 314 ح 48 ، و في الاستبصار 4 : 163 ح 14 .

-----------
( 2 ) عبس : 31 .

-----------
( 3 ) الارشاد : 107 .

-----------
( 4 ) عبس : 32 .

[ 57 ]

و له اخت فلها نصف ما ترك 1 و قال تعالى و ان كان رجل يورث كلالة أو امرأة و له أخ أو أخت فلكلّ واحد منهما السدس فان كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث 2 .

و قال : و جاءت الرواية انّ بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال :

أنت خليفة نبيّ هذه الأمّة ؟ قال : نعم . قال : فإنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم اممهم . فاخبرني عن الله أين هو أفي السماء أم في الأرض .

فقال أبو بكر : هو في السماء على العرش . فقال اليهودي : فأرى الأرض خالية منه ، و أراه على هذا القول في مكان دون مكان . فقال له أبو بكر : هذا كلام الزنادقة أعزب عنّي و إلاّ قتلتك . فولّى الحبر متعجبا يستهزى‏ء بالإسلام . فاستقبله أمير المؤمنين عليه السّلام فقال : يا يهودي عرفت ما سألت عنه ،

و ما أجبت به . انّا نقول : إنّ الله عزّ و جلّ أيّن الأين . فلا أين له ، و جلّ عن أن يحويه مكان ، و هو في كلّ مكان بغير مماسّة و لا مجاورة ، يحيط علما بما فيها ، و لا يخلو شي‏ء منها من تدبيره ، و انّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدّق ما ذكرته لك . فإن عرفته أتؤمن ؟ قال : نعم . قال عليه السّلام : ألستم تجدون في بعض كتبكم انّ موسى بن عمران عليه السلام كان ذات يوم جالسا إذا جاءه ملك من المشرق . فقال له موسى عليه السّلام : من أين أقبلت . قال : من عند الله عزّ و جلّ ، ثم جاءه ملك من المغرب . فقال له من أين جئت فقال : من عند الله عزّ و جلّ ، ثم جاءه ملك . فقال له : جئتك من السماء السابعة من عند اللّه عزّ و جلّ ، و جاءه ملك آخر . فقال له : قد جئتك من الأرض السفلى السابعة من عند اللّه عزّ و جلّ ، فقال موسى عليه السّلام : سبحان من لا يخلو منه مكان ،

-----------
( 1 ) النساء : 176 .

-----------
( 2 ) الإرشاد : 107 ، و الآية 12 من سورة النساء .

[ 58 ]

و لا يكون له إلى مكان أقرب من مكان .

فقال اليهودي : أشهد أنّ هذا هو الحقّ ، و أنّك أحقّ بمقام نبيّك ممّن استولى عليه 1 .

هذا ، و في ( ألفاظ كتابيّة الهمداني ) : « يقال في التصبّر و الاحتمال تجرع الغصّة و غصّ بالجرعة ، و شرق بالريق ، و أطرق على المضض ، و أغضى على القذى ، و أساغ الشجا 2 .

هذا و قالوا : يقال لحصين بن يزيد الحارثي الّذي رأس مئة سنة بني الحارث بن كعب : ذو الغصّة لأنّه كان في حلقه شبه الحوصلة . لا يبين بها الكلام و من قبله صارت الغصّة في ولد يحيى بن سعيد بن العاص .

« أرى تراثي » أي : ميراثي من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله .

« نهبا » بين تيم و عدي و اميّة .

قال المغيرة بن شعبة لمّا مات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأبي بكر و عمر : وسّعوها في قريش تتّسع . و في ( سنن أبي داود ) : عن جبير بن مطعم قال : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يقسم لبنى عبد شمس ، و لا لبنى نوفل من الخمس شيئا كما قسم لبنى هاشم و بنى المطلب ، و كان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله غير أنّه لم يكن يعطي قربى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما كان يعطيهم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله 3 .

و عن الزهري أنّ نجدة الحروري لمّا حجّ في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى ، و يقول : لمن تراه ؟ قال ابن عباس : لقربى

-----------
( 1 ) الارشاد : 108 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) الالفاظ الكتابية : 272 ، و النقل بتقطيع .

-----------
( 3 ) سنن أبي داود 3 : 145 ح 2979 .

[ 59 ]

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قسّمه لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقّنا فرددناه عليه و أبينا أن نقبله 1 .

و قال الكميت مشيرا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته كما في ( شعراء ابن قتيبة ) :

يقولون لم يورث و لو لا تراثه
لما شاركت فيه بكيل و ارحب

و لا انتشلت عضوين منها يحابر
و كان لعبد القيس عضو مؤرب 2

و من قول الحميري في قصيدته للمهدي :

منعوا تراث محمّد أعمامه
و بنيه و ابنته عديلة مريما

و في ( طبقات كاتب الواقدي ) : أنّ الحسين عليه السّلام جاء يوما إلى عمر و هو يخطب على منبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال له : انزل عن منبر أبي . فأخذه فأقعده إلى جنبه ، و قال : و هل أنبت الشعر على رؤوسنا إلاّ أبوك 3 .

و رواه الخطيب هكذا قال له : انزل عن منبر أبي ، و اذهب إلى منبر أبيك . فقال :

لم يكن لأبي منبر ، و لمّا نزل قال له : من علّمك . قال : ما علّمني أحد 4 .

و في ( الطبقات ) أيضا : قال علي بن الحسين عليه السّلام : أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ان كانوا يذبّحون ابناءنا ، و يلعنون سيّدنا و شيخنا على المنابر و يمنعونا حقّنا 5 .

و قال الباقر عليه السّلام كما رواه ابن أبي الحديد في عنوان اختلاف الخبر : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبض ، و قد أخبر أنّا أولى الناس بالناس . فما لات علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه ، و احتجّت على الأنصار بحقّنا و حجّتنا ثم

-----------
( 1 ) سنن أبي داود 3 : 146 ح 2982 .

-----------
( 2 ) الشعر و الشعراء : 227 .

-----------
( 3 ) رواه عن الطبقات السبط في تذكرة الخواص : 234 .

-----------
( 4 ) تاريخ بغداد 1 : 141 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 5 ) طبقات ابن سعد 5 : 162 ، و النقل بتلخيص .

[ 60 ]

تداولتها قريش واحدا بعد واحد 1 .

و روى الطبري و غيره عن ربيعة بن ناجد أنّ رجلا قال لعليّ عليه السّلام : بم ورثت ابن عمك دون عمّك . فقال عليه السّلام هاؤم ثلاث مرّات حتّى اشرأبّ الناس ،

و نشروا آذانهم ثم قال عليه السّلام : دعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بني عبد المطلب منهم رهطه كلّهم يأكل الجذعة ، و يشرب الفرق . فصنع لهم مدّا من طعام . فأكلوا حتّى شبعوا و بقي الطعام كما هو كأنّه لم يمسّ . ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا ، و بقي الشراب كأنّه لم يمسّ و لم يشربوا . ثم قال : « يا بني عبد المطلب إنّي بعثت إليكم بخاصّة ، و إلى الناس بعامّة ، و قد رأيتم من هذا الأمر ما قد رأيتم . فأيكم يبايعني على أن يكون أخي و صاحبي و وارثي » فلم يقم إليه أحد . فقمت إليه و كنت أصغر القوم . فقال : إجلس . ثم قال ( ما قال أوّلا ) ثلاث مرّات كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي : إجلس حتّى كان في الثالثة .

فضرب بيده على يدي . فبذلك و رثت ابن عمّي دون عمّي 2 .

و سأل السلطان سنجر بن ملكشاه ، سنائي الشاعر عن مذهبه . فقال قصيدة بالفارسية في جوابه ، و من أبياتها :

از پى سلطان ملكشاه چون نميدارى روا
تاج و تخت پادشاهى جز كه سنجر داشتن

از پى سلطان دين چون هميدارى روا
جز على و عترتش محراب و منبر داشتن

هذا ، و في ( الاستيعاب لابن عبد البر ) : قدم الحتاب بن يزيد التميمي على

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 15 ، شرح الخطبة 208 .

-----------
( 2 ) رواه الطبري في تاريخه 2 : 63 ، و النسائي في الخصائص : 86 ، و ابن عساكر في ترجمة علي عليه السّلام 1 : 97 ح 134 ،

و غيرهم .

[ 61 ]

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في وفد بني تميم فأسلموا ، و آخى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بين حتات و معاوية ، و لمّا صار معاوية خليفة قدم عليه الحتات و جارية بن قدامة ،

و الأحنف بن قيس ، و هما أيضا من تميم ، و هما من أصحاب عليّ عليه السلام ، و كان حتات عثمانيا فأعطاهما معاوية أكثر ممّا أعطى الحتّات . فرجع إليه ، و قال :

فضّلتهما عليّ . قال : إشتريت منهما دينهما ، و وكلتك إلى هواك في عثمان . قال :

و أنا أيضا إشتر مني ديني . فأتمّها له ، و ألحقه بهما . فلم يأت عليه اسبوع حتّى مات عنده فورثه معاوية بتلك الاخوة ، فقال الفرزدق : قلت و كان أيضا من تميم :

أبوك و عمّي يا معاوي أورثا
تراثا فيختار التراث أقاربه

فما بال ميراث الحتات أكلته
و ميراث صخر جامد لك دائبه 1

قلت : و كان المناسب أن يقول معاوية لحتات في قوله « و أنا أيضا اشتر مني ديني » بأن الشراء منك دينك إمّا تحصيل للحاصل ، و إما شراء معدوم ،

و كلاهما محال لكنّه سامحه لقلّة شعوره .

هذا ، و مما يناسب قوله عليه السّلام « أرى تراثي نهبا » قول نهيك بن اساف الأنصاري :

تقسّم جيراني حلوبي كأنّما
تقسّمها ذؤبان زور و منور

و « زور » و « منور » جبلان ذوا ذؤبان شديدة لا حيّان من أعداء نهيك كما توهّمه اللسان في « حلب » 2 .

« حتّى مضى الأوّل لسبيله » قال ابن قتيبة : اختلفوا في مرض أبي بكر الّذي مات فيه ، و في اليوم الّذي مات فيه . قال ابو اليقظان عن سلام بن أبي مطيع : إنّه

-----------
( 1 ) الاستيعاب 1 : 396 و 397 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) لسان العرب 1 : 328 ، مادة ( حلب ) .

[ 62 ]

سمّ فمات يوم الإثنين في آخره ، و قال غيره : إنّه كان سبب موته أنّه اعتلّ في يوم بارد فحمّ و مرض خمسة عشر يوما ، و قال ابن إسحاق : توفّي يوم الجمعة لتسع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة . فكانت خلافته سنتين و ثلاثة أشهر و تسع ليال ، و أوصى ان تغسله أسماء بنت عميس امرأته 1 .

و في ( المسترشد ) : كان يقول في احتضاره : ليتني كنت لبنة أو تبنة 2 .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : قال أبو بكر في مرض موته : ليتني تركت بيت عليّ و إن كان أعلن علي الحرب 3 .

« فأدلى بها » أي : دفع الخلافة ، و أرسلها من « أدلى دلوه » أرسلها .

« إلى فلان بعده » هكذا في ( المصرية ) ، و يصدّقها ابن ميثم الّذي نسخته كانت بخطّ المصنّف و نقله ابن أبي الحديد « إلى ابن الخطاب بعده » و رواية المعاني بدّلت الفقرة بقوله : « عقدها لأخي عدي بعده » 4 .

أما « فلان » كما في ( ابن ميثم ) ففي تفاسير الإمامية في قوله تعالى :

و يوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتى ليتني لم اتّخذ فلانا خليلا . لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني و كان الشيطان للإنسان خذولا 5 . ما كنّى اللّه في كتابه إلاّ في قوله فلانا و الظالم الاوّل و فلانا الثانى 6 .

و عن ( الاستدراك ) للمتوكل : أنّ أبا الحسن يعني الهادي عليه السلام يفسّر

-----------
( 1 ) قاله ابن قتيبة في المعارف : 170 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) جاء في المسترشد : 77 ، بلفظ « ليتني تبنة في لبنة » .

-----------
( 3 ) الإمامة و السياسة 1 : 18 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 54 ، و شرح ابن ميثم 1 : 257 ، و معاني الاخبار : 361 .

-----------
( 5 ) الفرقان : 27 29 .

-----------
( 6 ) رواه القمي في تفسيره 2 : 113 .

[ 63 ]

قوله تعالى يوم يعضّ الظالم 1 إلى آخر الآية في الأوّل و الثاني . قال : فكيف الوجه في أمره ؟ قالوا : تجمع له الناس و تسأله بحضرتهم . فإن فسّرها بهذا كفاك الحاضرون أمره ، و ان فسّرها بخلاف ذلك افتضح عند أصحابه . فوجّه إلى القضاة و بني هاشم و الأولياء ، و سئل عليه السلام فقال : هذان رجلان كنّى اللّه عنهما ، و منّ بالستر عليهما أفيحبّ الخليفة كشف ما ستره اللّه ؟ فقال : لا أحب 2 .

و في ( الأغاني ) : قال إبراهيم بن المهدي : رأيت عليّا في النوم . فقلت له : انّ الناس قد أكثروا فيك ، و في أبي بكر و عمر . فما عندك في ذلك . فقال لي : إخسأ و لم يزدني على ذلك 3 .

و في ( المروج ) أن إبراهيم بن المهدي كان قال :

فصّل على النبيّ و صاحبيه
و زيريه و جاريه برسمه

في قبال قول المأمون :

فجدّد عنده ذكرى علي
و صلّ على النبيّ و آل بيته 4

و روى ابن المغازلي في قوله تعالى : و اتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة 5 أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال : من ظلم عليّا مقعدي هذا بعد وفاتي ، فكأنّما جحد نبوّتي و نبوّة الأنبياء قبلي 6 .

-----------
( 1 ) الفرقان : 27 .

-----------
( 2 ) رواه عنه المجلسي في فتن البحار : 214 .

-----------
( 3 ) الاغاني 10 : 126

-----------
( 4 ) مروج الذهب 3 : 417 .

-----------
( 5 ) الانفال : 25 .

-----------
( 6 ) أخرجه الحسكاني في شواهد التنزيل 1 : 206 ح 269 ، و لم يروه ابن المغازلي في مناقبه و الخلط حصل للشارح من كيفية رواية ابن طاووس عن الحسكاني في الطرائف 1 : 35 .

[ 64 ]

و روى أبو الفرج في ( أغانيه ) عن محمّد بن سهل صاحب الكميت قال :

دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السّلام . فقال له : جعلت فداك أ لا أنشدك ؟ قال : إنّها أيّام عظام . قال : إنّها فيكم . قال : هات ، و بعث إلى بعض أهله فقرب فأنشده فكثر البكاء بهذا البيت :

يصيب به الرامون عن قوس غيرهم
فيا آخرا أسدى له الغيّ أوّل

فرفع يديه ، و قال : اللهمّ اغفر للكميت ما قدّم و ما أخّر ، و ما أعلن و ما أسرّ 1 .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في عنوان « كيفية بيعة عليّ » : تفقد أبو بكر قوما تخلّفوا عن بيعته عند علي ، فبعث إليهم عمر . فجاء فناداهم ، و هم في دار علي .

فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب ، و قال : و الّذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها . فقيل له : انّ فيها فاطمة . قال : و إن . فخرجوا فبايعوا إلاّ عليّا فإنّه زعم أنّه قال : « حلفت أن لا أخرج ، و لا أضع ثوبي على عاتقي حتّى أجمع القرآن » . فوقفت فاطمة على بابها . فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جنازة بين أيدينا ، و قطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا ، و لم تردّوا لنا حقّا . فأتى عمر أبا بكر فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة . فقال أبو بكر لقنفذ مولى له : أدع لي عليّا ، فذهب إليه ،

و قال : يدعوك خليفة رسول الله . فقال : لسريع ما كذبتم على رسول الله . فرجع .

فأبلغ الرسالة . فبكى أبو بكر طويلا فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة . فقال أبو بكر لقنفذ : عد إليه فقل له : أمير المؤمنين يدعوك لتبايع فجاءه قنفذ . فأدّى ما أمر به . فرفع على صوته . فقال : سبحان اللّه لقد ادّعى ما ليس له . فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة ، فبكى أبو بكر طويلا . ثم قام عمر . فمشى

-----------
( 1 ) الأغاني 17 : 24 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 65 ]

معه جماعة حتّى أتوا بيت فاطمة . فدقوا الباب . فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها يا أبه يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من أبن الخطاب ، و ابن أبي قحافة ، فلمّا سمع القوم صوتها و بكاءها انصرفوا باكين ، و كادت قلوبهم تتصدّع ، و أكبادهم تتفطّر ، و بقي عمر و معه قوم . فأخرجوا عليّا . فمضوا به إلى أبي بكر . فقالوا له : بايع فقال : إن أنا لم أفعل فمه ، قالوا : إذن و اللّه الّذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك ، قال : إذن تقتلون عبد اللّه و أخا رسوله . قال عمر : أمّا عبد اللّه فنعم ، و أمّا أخو رسول اللّه فلا . و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك ، فقال : لا أكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه . فلحق علي بقبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصيح و ينادي : « يا ابن امّ إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلوني » .

فقال عمر لأبي بكر : إنطلق بنا إلى فاطمة ، فإنّا قد أغضبناها . فانطلقا جميعا . فاستأذنا على فاطمة . فلم تأذن لهما . فأتيا عليّا . فكلّماه . فأدخلهما . فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط . فسلما عليها . فلم تردّ عليهما السلام فتكلّم أبو بكر . فقال : يا حبيبة رسول الله و اللّه إنّ قرابة رسول اللّه أحبّ إليّ من قرابتي أفتراني أعرفك . و أعرف فضلك و أمنعك حقّك و ميراثك من رسول الله إلاّ أنّي سمعت أباك يقول : لا نورّث ما تركنا فهو صدقة . فقالت : أرأيتكما ان حدّثتكما حديثا عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله تعرفانه تقولان به ؟ قالا : نعم . فقالت :

نشدّتكما باللّه ألم تسمعا رسول اللّه يقول : « رضى فاطمة من رضاي ، و سخط فاطمة من سخطي فمن أرضى فاطمة ابنتي فقد أرضاني ، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني » ؟ فقالا : نعم . سمعناه من رسول اللّه . فقالت : « فإنّي اشهد الله و ملائكته أنّكما أسخطتماني و ما أرضيتماني ، و لئن لقيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأشكونّكما إليه » فقال أبو بكر : « أنا عائذ باللّه تعالى من سخطه ، و سخطك يا

[ 66 ]

فاطمة » ثم انتحب يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق ، و هي تقول : « و اللّه لأدعونّ اللّه عليك في كلّ صلاة اصلّيها » 1 .

و قال النظام كما في ( ملل الشهرستاني ) و هو أحد شيوخ المعتزلة ،

و استاذ الجاحظ إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نصّ على عليّ كرّم اللّه وجهه في مواضع ،

و أظهره إظهارا لم يشتبه على الجماعة إلاّ أنّ عمر كتم ذلك ، و هو الّذي تولّى بيعة أبي بكر يوم السقيفة ، و هو الّذي ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتّى ألقت الجنين من بطنها ، و كان يصيح « أحرقوها بمن كان فيها » و ما كان في الدار غير علي و فاطمة و الحسن و الحسين 2 .

و قال ابن أبي الحديد : و عمر هو الّذي شيّد بيعة أبي بكر ، و وقم المخالفين فيها ، فكسر سيف الزبير لمّا جرّده ، و دفع في صدر المقداد ، و وطأ في السقيفة سعد بن عبادة ، و قال : اقتلوا سعدا قتل الله سعدا ، و حطّم أنف الحبّاب بن المنذر الّذي قال يوم السقيفة : أنا جذيلها المحك و عذيقها المرجّب ،

و توعّد من لبجأ إلى دار فاطمة عليها السلام من الهاشميين ، و أخرجهم منها ، و لولاه لم يثبت لأبي بكر أمر ، و لا قامت له قائمة 3 .

و قال : و روى أبو مخنف عن الكلبي و أبي صالح ، و عن رجاله عن زائدة بن قدامة ، قال : كان جماعة من الأعراب قد دخلوا المدينة ليمتاروا منها . فشغل الناس عنهم بموت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فشهدوا البيعة و حضروا الأمر . فانفذ إليهم عمر و استدعاهم ، و قال لهم : خذوا بالحظ من المعونة على بيعة خليفة رسول اللّه ، و اخرجوا إلى الناس ، و احشروهم ليبايعوا . فمن امتنع فاضربوا رأسه

-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 12 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) الملل و النحل 1 : 59 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 58 ، شرح الخطبة 3 .

[ 67 ]

و جنبيه . و اللّه لقد رأيت الأعراب قد تحزّموا و اتشحوا بالازر الصنعانية ،

و أخذوا بأيديهم الخشب ، و خرجوا حتّى خبطوا الناس خبطا ، و جاءوا بهم مكرهين إلى البيعة 1 .

و قال البراء بن عازب ، و رواه ابن أبي الحديد في موضع آخر : لم أزل لبني هاشم محبّا ، فلمّا قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكنت أتردّد إلى بني هاشم و هم عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الحجرة ، وافقد وجوه قريش . فانّي كذلك إذ فقدت أبا بكر و عمر و إذا قائل يقول : القوم في سقيفة بني ساعدة ، و إذا قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر فلم ألبث ، و إذا أنا بأبي بكر قد أقبل و معه عمر و أبو عبيدة ، و جماعة من أصحاب السقيفة ، و هم محتجزون بالازر الصنعانية ، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه و قدّموه ، و مدّوا يده . فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى .

فأنكرت عقلي و خرجت اشتدّ حتى انتهيت إلى بني هاشم ، و الباب مغلق ،

فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا ، و قلت : قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة .

فقال العباس : تربت أيديهم إلى آخر الدهر فمكثت اكابد ما في نفسي و رأيت في الليل المقداد و سلمان و أباذر ، و عبادة بن الصامت ، و أبا الهيثم بن التيهان و حذيفة و عمارا ، و هم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ، و بلغ ذلك إلى أبي بكر و عمر ، فأرسلا إلى أبي عبيدة ، و المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي . فقال المغيرة : الرأي أن تلقوا العباس ، فتجعلوا له و لولده في هذا الأمر نصيبا لتقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب . فانطلقوا

-----------
( 1 ) رواه عن أبي مخنف المفيد في الجمل : 59 ، و لم أجده في شرح ابن أبي الحديد .

[ 68 ]

حتّى دخلوا على العباس و ذلك في الليلة الثانية من وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أن قال فقال أبو بكر للعباس : قد خلّى النبيّ على الناس امورهم ليختاروا لأنفسهم متّفقين غير مختلفين . فاختاروني عليهم واليا إلى أن قال قال أبو بكر : و ما انفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامّة المسلمين يتّخذكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع ، فإمّا دخلتم في ما دخل فيه الناس أو صرفتموهم عمّا مالوا إليه . فقد جئناك و نحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا ، و لمن بعدك من عقبك إذ كنت عمّ النبيّ ، و ان كان المسلمون قد رأوا مكانك منه ، و مكان أهلك ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم ، و على رسلكم بني هاشم . فإن النبي منّا و منكم ، فاعترض كلامه عمر و قال أي : و الله ، و اخرى أنّا لم نأتكم حاجة إليكم ، و لكن كرهنا أن يكون الطعن في ما اجتمع عليه المسلمون منكم فيتفاقم الخطب بكم و بهم ، فانظروا لأنفسكم و لعامّتهم إلى أن قال فقال العباس لأبي بكر : فإن كنت برسول الله صلّى اللّه عليه و آله طلبت ، فحقّنا أخذت ،

و ان كنت أخذت بالمؤمنين فنحن منهم ما تقدّمنا في أمركم فرطا ، و لا حللنا وسطا ، و لا نزحنا شحطا . فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنّا كارهين ، و ما أبعد قولك إنّهم طعنوا عليك من قولك إنّهم مالوا إليك ، و أمّا ما بذلت لنا ، فإن يكن حقّك أعطيتناه فأمسكه عليك ، و إن يكن حقّ المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، و إن يكن حقّنا لم نرض منك ببعض دون بعض ، و ما أقول هذا أروم صرفك عمّا دخلت فيه ، و لكن للحجّة نصيبها من البيان ، و أما قولك يا عمر : إنّك تخاف الناس علينا ، فهذا الّذي قدّمتموه أوّل ذلك 1 .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 73 ، شرح الخطبة 5 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 69 ]

و قلنا : إن أبي الحديد نقل كلامه عليه السّلام « فأدلى بها إلى ابن الخطاب » و في السير : إنّ عمر لمّا بعث محمّد بن مسلمة إلى عمرو بن العاص بمصر لتشطير ماله لمّا كان و اليه عليها قال عمرو بن العاص : لعن اللّه زمانا صرت فيه عاملا لعمر . و اللّه لقد رأيته و أباه على كلّ واحد منهما عباءة قطوانية لا يجاوز مأبض ركبيته ، و على عنقه حزمة حطب ، و العاص بن وائل في مزرّرات الديباج 1 .

و قال ابن أبي الحديد : قدم عمرو بن العاص على عمر من مصر . فقال له :

في كم سرت قال : في عشرين . قال عمر : لقد سرت سير عاشق . فقال عمرو :

إنّي و الله ما تأبّطتني الإماء ، و لا حملتني النساء في غبرات المآلي أراد خرق الحيض قال ابن أبي الحديد : و سألت النقيب عن الخبر فقال : فخر عمرو على عمر لأنّ أم الخطاب كانت زنجيّة تعرف بباطحلى تسمىّ بصهاك 2 .

و قال ابن أبي الحديد أيضا : ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب حديثه أنّ رجلا أتى عمر يسأله إلى أن قال ثم أنشأ عمر يحدّث عن نفسه .

فقال : لقد رأيتني واختا لي نرعى على أبوينا ناضحا لنا . قد ألبستنا أمّنا نقبتها و زودتنا يمنيتها هبيدا ، فنخرج بناضحنا فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى اختي ، و خرجت أسعى عريانا فنرجع إلى امّنا و قد جعلت لنا لفتية من ذلك فأحصيناه 3 . الهبيد و « الهبيد » : حبّ الحنظل ، و « اللفتية » ضرب من البطيخ كالحساء 4 .

قال : حجّ عمر . فلمّا كان بضجنان قال : أذكر و أنا أرعى إبل الخطاب بهذا

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 58 ، شرح الخطبة 3 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 102 ، شرح الخطبة 226 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 97 ، شرح الخطبة 226 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 110 ، شرح الخطبة 226 ، و النقل بتلخيص .

[ 70 ]

الوادي في مدرعة صوف ، و كان فظّا يتعبني إذا عملت ، و يضربني إذا قصّرت 1 .

و في ( الطرائف ) : قال مؤلّف كتاب ( نهاية الطلب ) : الحنبلي كان عمر قبل الإسلام نخّاس الحمير ، و قال هشام الكلبي في ( مثالبه ) : كانت صهاك أمّة حبشية لهاشم بن عبد مناف . فوقع نضلة بن هاشم عليها . ثم وقع عليها عبد العزّى بن رباح فجاءت بنفيل جدّ عمر .

و كان أبو سفيان يكنّى عمرا أبا حجر لبخله كما كان يكنّى أبا بكر أبا فصيل . فقال لعثمان لمّا ولي : « بأبي أنت ، أنفق و لا تكن كأبي حجر » 2 .

و روى القمي في تفسير قوله تعالى : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم 3 أنّ صفيّة بنت عبد المطلّب مات ابن لها فأقبلت . فقال لها عمر :

غطّي قرطك . فإنّ قرابتك من النبيّ لا تنفعك شيئا . فقالت : و هل رأيت لي قرطا يا ابن اللخناء . ثم دخلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته بذلك ، و بكت فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نادى : الصلاة جامعة . فاجتمع الناس فقال : لا يسألني اليوم أحد من أبوه إلاّ أخبرته . فقام رجل فقال من أبي ؟ فقال : غير الّذي تدعى إليه ، أبوك فلان بن فلان ، فقام آخر فقال . من أبي ؟ قال : الّذي تدعى إليه . ثم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله . ما بال الّذي يزعم أنّ قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه . فقام إليه عمر و قال : أعوذ باللّه من غضب رسوله . أعف عنّي . الخبر 4 .

و قال ابن أبي الحديد في موضع آخر : ان هذا الخبر ( أي خبر قول عمر على المنبر إيّاكم و ذكر العيوب و البحث عن الاصول ، فلو قلت لا يخرج اليوم

-----------
( 1 ) الطرائف 2 : 468 و 469 ، و النقل بتصرف .

-----------
( 2 ) المائدة : 101 .

-----------
( 3 ) تفسير القمي 1 : 188 ، و النقل بتصرف .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 3 : 24 ، شرح الخطبة 212 .

[ 71 ]

من هذه الأبواب إلاّ من لا وصمة فيه لم يخرج منكم أحد ) رواه المدائني في كتاب ( امّهات الخلفاء ) و قال : إنّ ذاك الخبر روي عند جعفر بن محمد عليه السّلام بالمدينة فقال : لا تلمه يا ابن أخي إنّه أشفق أن يخدج بقصّة نفيل بن عبد العزى ، و صهاك أمّة الزبير بن عبد المطلب 1 .

قلت : و الأصل في قول المدائني مارواه الكليني في ( روضته ) : أنّ رجلا من ولد عمر تعرّض لجارية رجل من ولد عقيل . فقالت الجارية لمولاها : إنّ هذا العمري قد آذاني . فقال لها : عديه و أدخليه الدهليز . فأدخلته . فشدّ مولاها عليه فقتله و ألقاه في الطريق . فاجتمع البكريون و العمريون و العثمانيون و قالوا : ما لصاحبنا كفو يقتل به إلاّ جعفر بن محمّد ، و ما قتل صاحبنا غيره ، و كان عليه السّلام قد مضى نحو قبا . فلقيه سماعة بما اجتمعوا عليه . فقال : دعهم فلمّا جاءوا وثبوا عليه ، و قالوا : ما قتل صاحبنا أحد غيرك ، و ما نقتل به غيرك . فقال :

ليكلّمني منكم جماعة ، فاعتزل قوم منهم . فأخذ بأيديهم ، و أدخلهم المسجد .

فخرجوا و هم يقولون : شيخنا أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد معاذ الله أن يكون مثله يفعل هذا أو يأمر به . فانصرفوا .

فقال له سماعة : جعلت فداك ، ما أقرب رضاهم من سخطهم . قال : قلت لهم : أمسكوا و إلاّ أخرجت الصحيفة . إنّ امّ الخطاب كانت أمة للزبير بن عبد المطلب ، فشطر بها نفيل فأحبلها . فطلبه الزبير . فخرج هاربا إلى الطائف . فخرج الزبير خلفه فبصرت به ثقيف . فقالوا : ما تفعل هاهنا . قال : جاريتي شطر بها نفيلكم . فهرب منها إلى الشام ، و خرج الزبير في تجارة إلى الشام . فدخل على ملك الدومة فقال له : الملك لي إليك حاجة . قال و ما هي ؟ قال : رجل من أهلك أخذت ولده ، فأحبّ أن تردّه عليه . قال : ليظهر لي لأعرفه . فلما كان الغد دخل

-----------
( 1 ) الكافي 8 : 258 ح 372 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 72 ]

على الملك . فلمّا رآه الملك ضحك ، و قال له : ما أظنّ هذا الرجل و لدته عربية .

فلمّا رآك قد دخلت لم يملك استه . فقال للملك : إذا دخلت مكّة قضيت حاجتك .

فلمّا قدم تحمّل عليه نفيل ببطون قريش كلّها أن يدفع إليه ابنه فأبى إلى أن قال .

فقال لهم الزبير : إنّ الشيطان له دولة ، و إن ابن هذا ابن الشيطان ، و لست آمن من أن يترأس علينا ، و لكن أدخلوه من باب المسجد على أن أحمي له حديدة و أخطّ في وجهه خطوطا ، و أكتب عليه و على ابنه ألاّ يتصدّر في مجلس ، و لا يتأمّر في أولادنا ، و لا يضرب هنا بسهم . ففعلوا و خطّ وجهه بالحديدة ، و كتب عليه الكتاب ، و ذلك الكتاب عندنا ، فقلت لهم إن امسكتم ، و إلاّ أخرجت الكتاب و فيه فضيحتكم الخبر 1 .

هذا و ذكر ( أنساب قريش مصعب الزبيري ) ، و ( العقد الفريد ) ،

و ( استيعاب ) أبي عمر نسب الخطاب « ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي » و ذكره ابن قتيبة و المسعودي « ابن عبد العزى بن قرط بن رياح بن عبد الله بن رزاح بن عدي » 2 .

و ام عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ،

و قال المسعودي و ابن قتيبة : بنت هشام بن المغيرة ، و هو خطأ فقالوا امّه كانت بنت عمّ أبي جهل بن هشام و على قولهما تصير اخته 3 .

و لعلهما رأيا أنّهم قالوا : إنّ عمر قتل ببدر خاله العاص بن هشام أخا أبي جهل الّذي عدوّه في الحمقى ، و كان أبو لهب اتّخذه عبدا . ففي ( عيون ابن قتيبة ) :

-----------
( 1 ) ذكره مصعب الزبيري في نسب قريش : 346 347 ، ابن عبد ربه في العقد الفريد 5 : 20 ، و ابن عبد البر في الاستيعاب 2 : 458 ، و الثاني ذكره ابن قتيبة في المعارف : 179 ، و المسعودي في مروج الذهب 2 : 305 .

-----------
( 2 ) ذكره المؤلفون في المصادر المذكورة .

-----------
( 3 ) عيون الاخبار 2 : 41 .

[ 73 ]

« من حمقى قريش ، العاص بن هاشم أخو أبي جهل ، و كان أبو لهب قامره فقمره ماله ثم داره ثم قليله ثم كثيره ، و أهله و نفسه . فاتّخذه عبدا و أسلمه قينا .

فلمّا كان يوم بدر بعث به عن نفسه ، فقتل ببدر كافرا ، قتله عمر و كان خاله » 1 .

إلاّ أن التعبير بكونه خاله على قاعدة العرب من التعبير عن رجل كان من قبيلة أنّه أخوهم ، و عن مرأة كانت من قبيلة أنّها اختهم ، و لذا قالوا : ان بني زهرة أخوال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لكون امّه منهم ، و سمّى شمر بني أمير المؤمنين عليه السّلام من ام البنين بني اخته ، و انّما كانت من قبيلته لا اخته .

هذا و قال ابن عبد البر : هاشم أبو حنتمة هو ذو الرمحين و تبعه ( القاموس ) 2 ، و هو أيضا و هم ، فصرّح الزبيري في ( أنسابه ) : أنّ ذا الرمحين هو أبو ربيعة جدّ عمر بن أبي ربيعة ، و هو عمر بن بحير بن أبي ربيعة أشتهر بالنسبة إلى جدّه ، و قال : مدح ابن الزبعري أباه بحيرا . فقال :

بحير بن ذي الرمحين قرّب مجلسي
يروح علينا فضله غير عاتم

و قال : قاتل ذو الرمحين يوم شرب برمحين فسمّى ذا الرمحين و اسمه عمرو 3 .

مع انّ القاموس ناقض . فقال في « حنتم » ذو الرمحين أبو ام عمر بن الخطاب 4 ، و قال في « رمح » : « ذو الرمحين عمر بن المغيرة سمّي لطول رجليه » 5 و قد عرفت أنّ وجه تسمية عمر والد عمر بن أبي ربيعة به هو قتاله برمحين .

-----------
( 1 ) الاستيعاب 2 : 459 ، و القاموس 4 : 102 ، ماده حنتم .

-----------
( 2 ) جاء ذكره في نسب قريش : 300 و 317 ، بفرق .

-----------
( 3 ) القاموس المحيط 4 : 102 ، مادة ( حنتم ) .

-----------
( 4 ) القاموس المحيط 1 : 223 ، مادة رمح ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 5 ) القاموس المحيط 4 : 102 ، مادة ( حنتم ) .

[ 74 ]

كما أنّه أراد استقصاء المسمّيات بحنتمة ، و لم يستقص . فقال « حنتمة اسم ام عمر بن الخطاب ، و اسم بنت عبد الرحمن بن الحارث » 1 مع انّ منهنّ حنتمة بنت شيطان ام عمارة بن الوليد بن المغيرة الّذي بعثته قريش مع عمرو بن العاص إلى النجاشي لردّ جعفر بن أبي طالب .

و أما كونه « أخا عدي » كما في رواية ( معاني الأخبار ) للخطبة . ففي ( عين العبرة ) أنّ أبا بكر حضّ الناس على الجهاد . فتثاقلوا . قال عمر « لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتّبعوك » فقال له خالد بن سعيد بن العاص : يا ابن ام عمر ألنا تضرب أمثال المنافقين و اللّه لقد أسلمت و ان لبني عدي صنما إذا جاعوا أكلوه ، و إذا شبعوا استأنفوه 2 .

و في ديوان حسّان بن ثابت : « و قال يهجو بني عديّ بن كعب » :

قوم لئام أقلّ اللّه خيرهم
كما تناثر خلف الراكب البعر

كأنّ ريحهم في الناس إذ خرجوا
ريح الحشاش إذا ما بلّها المطر 3

و في ( نسب قريش ) مصعب الزبيري : كان آل عبد مناف قد كثروا ، و آل عبد الدار بن قصي قد قلّوا . فأراد آل عبد مناف انتزاع الحجابة من بني عبد الدار . فاختلفت في ذلك قريش . فكانت طائفة مع هؤلاء ، و اخرى مع اولئك .

فأخرجت ام حكيم بنت عبد المطلب توأمة أبي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جفنة فيها طيب .

فوضعتها في الحجر ، و قالت من كان منّا فليدخل يده في هذا الطيب . فادخلت بنو عبد مناف ، و بنو أسد بن عبد العزى ، و بنو زهرة ، و بنو تيم ، و بنو الحارث بن فهر أيديهم فيها فسمّوا المطيبين ، فعمدت بنو سهم بن عمرو فنحرت

-----------
( 1 ) التوبة : 42 .

-----------
( 2 ) عين العبرة : 18 .

-----------
( 3 ) ديوان حسان 1 : 351 .

[ 75 ]

جزورا و قالوا . من كان منّا فليدخل يده في هذه الجزور ، فأدخلت عبد الدار ،

و سهم ، و جمح ، و مخزوم ، و عدّي أيديهم فيها فسمّوا الأحلاف ، ثم قام الأسود بن حارثة العدوي . فأدخل يده في الدم ثم لعقها . فلعقت بنو عديّ كلّها بأيديها فسمّوا لعقة الدم 1 .

و عن ( ربيع أبرار الزمخشري ) : أنزل تعالى في الخمر : يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير 2 إلى آخر الآية فكان المسلمون بين شارب و تارك إلى أن شربها رجل و دخل في صلاته فهجر ، فنزل : يا أيها الّذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى 3 فشربها من شربها من المسلمين حتّى شربها عمر . فأخذ لحى بعير فشجّ رأس عبد الرحمن بن عوف . ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر :

و كاين بالقليب قليب بدر
من القينات و الشرب الكرام

أيوعدنا ابن كبشة إن تنحىّ
و كيف حياة أصداء و هام

أيعجز أن يردّ الموت عنّي
و ينشرني إذا بليت عظامي

ألا من مبلغ الرحمن عنّي
بأنّي تارك شهر الصيام

فقل لله يمنعني شرابي
و قل للّه يمنعنى طعامي

بلغ ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فخرج مغضبا يجرّ رداءه . فرفع شيئا كان في يده ليضربه . فقال : أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله . فأنزل اللّه تعالى انّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر إلى آخر الآية 4 .

-----------
( 1 ) نسب قريش : 382 .

-----------
( 2 ) البقرة : 219 .

-----------
( 3 ) النساء : 43 .

-----------
( 4 ) رواه عنه البحراني في البرهان 1 : 370 ح 7 ، و الآية 91 من سورة المائدة .

[ 76 ]

هذا و قال ابن أبي الحديد : إن قوله عليه السّلام « فأدلى بها إلى ابن الخطاب » من قوله تعالى : و تدلوا بها إلى الحكّام 1 أي تدفعوها إليهم رشوة و أصله من أدليت الدلو في البئر أرسلتها . فإن قلت فإنّ أبا بكر إنّما دفعها إلى عمر حين مات ، و لا معنى للرشوة عند الموت ؟ قلت : لمّا كان عليه السّلام يرى أن العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق شبّه ذلك بإدلاء الإنسان بماله إلى الحاكم . فإنّه اخراج للمال على غير وجهه فكان ذلك من باب الإستعارة 2 .

قلت : كلامه كلّه خبط و خلط فإنّ الإدلاء إنّما هو بمعنى مطلق الدفع ،

و إنّما صار المراد بتدلوا في الآية الرشوة بالقرينة ، و هي إضافة إلى الحكّام ،

و معلوم أنّ من يدفع ماله إلى الحكّام يدفعها رشوة ، و قبله : و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و بعده ، لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم 3 فهذه تجعل الكلام صريحا في إرادة الرشوة .

كما أنّ مجرّد الإخراج إلى غير جهة الإستحقاق لا يصحّح الإستعارة كما لا يخفى ، و كيف يصحّ أن يقال : إنّ أبا بكر رشا عمر بالخلافة ، و إنما عمر رشا أبا بكر بالخلافة أي : بتمهيدها له بشرح مرّ ، ليردّ عليه بعده . ففي ( خلفاء ابن قتيبة ) بعد ذكر احتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام عليهم لمّا جاءوا به للبيعة قال علي : « فأنصفونا إن كنتم مؤمنين و إلاّ فبؤوا بالظلم و أنتم تعلمون » . فقال له عمر : إنّك لست متروكا حتّى تبايع . فقال له علي : « إحلب حلبا لك شطره ،

و اشدد له اليوم يردده عليك غدا » 4 .

و في ( الخلفاء ) أيضا : لمّا كتب أبو بكر عهده قال لعمر : خذ هذا الكتاب ،

-----------
( 1 ) البقرة : 188 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 54 .

-----------
( 3 ) البقرة : 188 .

-----------
( 4 ) الإمامة و السياسة 1 : 11 .

[ 77 ]

و اخرج به الى الناس ، و أخبرهم أنّه عهدي ، و سلهم عن سمعهم و طاعتهم .

فخرج عمر بالكتاب ، و أعلمهم ، فقالوا : سمعا و طاعة . فقال له رجل : ما في الكتاب يا أبا حفص ؟ قال : لا أدري ، و لكنّي أول من سمع و أطاع . قال : لكنّي و اللّه أدري ما فيه أمرته عام أوّل و أمّرك العام 1 .

و إنما رشا عثمان عمر بأن كتب في غشوة أبي بكر إسم عمر في عهده ليردّه إليه بعده . فقال ابن أبي الحديد : أحضر أبو بكر عثمان و هو يجود بنفسه ، فأمره أن يكتب عهدا و قال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله بن عثمان إلى المسلمين أما بعد ثم أغمى عليه و كتب عثمان : قد استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب ، و أفاق أبو بكر فقال : إقرأ ، فقرأ فكبّر أبو بكر و سرّ و قال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي . قال : نعم . قال جزاك اللّه خيرا عن الإسلام 2 .

و أقول : لو كان أبو بكر قال لعثمان « جزاك عمر عن عملك بتوليتك و ان كان فيه هدم الإسلام » حيث انّ سلطانه سلطان بني اميّة أعداء الإسلام لكان قد قال مطلبا حقّا .

و لقد جزاه عمر بتدبير الشورى ، و جعل عبد الرحمن حكما ، و لما بايع عبد الرحمن عثمان قال أمير المؤمنين عليه السّلام لعبد الرحمن : و اللّه ما امّلت منه إلاّ ما أمّل صاحبك من صاحبه ، دقّ اللّه بينكما عطر منشم 3 .

« ثم تمثّل بقول الأعشى » و الأعشى : هذا هو ميمون بن قيس من قيس بن ثعلبة ، و يكنّى أبا بصير ، و كان يقال لأبيه قتيل الجوع لأنّه دخل غارا يستظلّ

-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 20 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 55 .

-----------
( 3 ) رواه المفيد في الارشاد : 152 ، و الجوهري في السقيفة : 187 و غيرهما .

[ 78 ]

فيه من الحرّ . فوقعت صخرة عظيمة من الجبل . فسدّت فم الغار فمات فيه جوعا .

و قال يونس النحوي : أشعر الناس أمرؤ القيس إذا غضب ، و النابغة إذا رهب ، و زهير إذا رغب ، و الأعشى إذا طرب 1 .

و في ( الأغاني ) : أراد الأعشى الوفود على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال قصيدة في مدحه منها :

نبي يرى ما لا ترون و ذكره
أغار لعمري في البلاد و أنجدا

فرصدته قريش على طريقه ، و قالوا : هذا صنّاجة العرب . فقالوا له : أين أردت ؟ قال : صاحبكم هذا لأسلم . قالوا : انّه ينهاك عن خلال كلّها لك موافق قال :

و ما هنّ ؟ قال أبو سفيان : الزنا قال الأعشى : لقد تركني الزنا و ما تركته . ثم ماذا ؟ قال : القمار . قال لعلّي إن لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار . ثم ماذا ؟

قالوا : الربا . قال : ما دنت ، و لا أدنت . ثم ماذا ؟ قالوا : الخمر . قال : اوّه أرجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس فأشربها . فقال له أبو سفيان : هل لك في خير مما هممت به ؟ قال : و ما هو ؟ قال : نحن و هو الآن في هدنة . فتأخذ مئة من الإبل ،

و ترجع إلى بلدك سنتك هذه ، و تنظر ما يصير إليه أمرنا . فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا ، و ان ظهر علينا أتيته . فقال : ما أكره ذلك . فقال أبو سفيان : يا معشر قريش هذا الأعشى و الله لئن أتى محمّدا أو اتّبعه ليضر منّ عليكم نيران العرب بشعره ، فاجمعوا له مئة من الإبل . ففعلوا . فأخذها و انطلق إلى بلده . فلمّا كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله 2 .

هذا و في ( الصحاح ) : الأعشى ، من يبصر بالنهار ، و لا يبصر بالليل 3 .

-----------
( 1 ) رواه ابو الفرج في الاغاني 9 : 108 .

-----------
( 2 ) الأغاني 9 : 125 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 3 ) صحاح اللغة 6 : 2427 ، مادة ( عشى )

[ 79 ]

هذا و كان غير هذا جمعا آخر عدّهم القاموس . فقال أعشى باهلة ،

عامر ، و أعشى بني نهشل ، أسود بن يعفر ، و أعشى همدان ، عبد الرحمن ،

و بني أبي ربيعة ، و طرود ، و بني الحرماز ، و بني أسد ، و عكل ، كهمس ،

و ابن معروف خيثمة ، و بني عقيل و بني مالك ، و بني عوف ضابى‏ء ، و بني ضوزة عبد اللّه ، و بني جلاّن سلمة بني قيس ، أبو بصير ، و الأعشى التغلبي ،

النعمان : شعراء 1 .

« شتان ما يومي على كورها
و يوم حيان أخي جابر »

قال ابن أبي الحديد : قاله الأعشى في معاقرة علقمة بن علاثة ، و عامر بن الطفيل و أوّلها :

علقم ما أنت إلى عامر
الناقض الأوتار و الواتر

و قبل البيت :

و قد أسلّي الهم إذ يعتري
بحسرة دوسرة عاقر

زيّافة بالرحل خطّارة
تلوي بشرخي ميسة فاتر

و بعد البيت :

أرمي بها البيداء إذ هجّرت
و أنت بين القرو و العاصر

في مجدل شيد بنيانه
يزلّ عنه ظفر الطائر

و كان حيّان صاحب شراب و معاقرة خمر ، و كان نديم الأعشى ، و كان أخوه جابر أصغر سنا منه . فيقال : إنّ حيان قال للأعشى : نسبتني إلى أخي .

و هو أصغر سنّا منّي . فقال : إنّ الرويّ اضطرنّي إلى ذلك . فقال : و الله لأناز عنّك كأسا أبدا ما عشت ، و حيان ابن السمين الحنفي 2 .

-----------
( 1 ) القاموس المحيط 4 : 363 ، مادة ( عشي ) .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 55 .

[ 80 ]

قلت : و روى ( الأغاني ) و ( ديوان المعاني ) معاقرتهما مفصّلة و قال الأوّل قال الأعشى :

علقم ما أنت إلى عامر
الناقض الأوتار و الواتر

ان تسد الحوص فلم تعدهم
و عامر ساد بني عامر

عهدي بها في الحيّ قد درّعت
صفراء مثل المهرة الضامر

قد حجم الثدي على نحرها
في مشرق ذي بهجة ناضر

لو أسندت ميتا إلى نحرها
عاش و لم ينقل إلى قابر

حتى يقول الناس ممّا رأوا
يا عجبا للميّت الناصر 1

و روي انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ربّما حدّث أصحابه ، و ربما تركهم يتحدّثون ،

و يصغي إليهم ، و يتبسّم . فبينا هم يوما على ذلك يتذاكرون الشعر و أيّام العرب إذ سمع حسّان بن ثابت ينشد هجاء أعشى قيس لعلقمة ، و مدحه عامر بن الطفيل :

علقم ما أنت إلى عامر
الناقض الأوتار و الواتر

ان تسد الحوص و لم تعدهم
فعامر ساد بني عامر

ساد و ألفى قومه سادة
و كابرا سادوك عن كابر

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كفّ عن ذكره يا حسّان . فإنّ أبا سفيان لمّا شعث مني عند هرقل ردّ عليه علقمة . فقال حسّان : من نالتك يده ، وجب علينا شكره 2 .

و مثله في ( كنايات الثعالبي ) إلاّ أنّه قال : أنشد حسّان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من هجاء حسّان لعلقمة :

-----------
( 1 ) الاغاني 16 : 281 .

-----------
( 2 ) هذا المعنى أخرجه ابو نعيم و الخطيب و ابن عساكر ، عنهم شواهد المغني 2 : 907 ، و ابن أبي الدنيا و ابو عوانة ، عنهما الاصابة 2 : 503 .

[ 81 ]

كلا أبويكم كان فرعا دعامة
و لكنهم زادوا و أصبحت ناقصا

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم
و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا 1

و قال الثاني : قال الأعشى :

حكّمتموه فقضى بينكم
أبلج مثل القمر الزاهر

لا يأخذ الرشوة في حكمه
و لا يبالي غبن الخاسر

علقم ما أنت إلى عامر
ألناقض الأوتار و الواتر

و اللامس الخيل بخيل إذا
ثار عجاج الكبة الثائر

ساد و ألفى رهطه سادة
و كابرا سادوك عن كابر 2

و ممّا نسب إليه في تلك القصيدة :

ما يجعل الجد الظنون الّذي
جنّب صوب اللجب الماطر

مثل الفراتي إذا ما طما
يقذف بالبوصي و الماهر

و من القصيدة :

قد قلت شعري فمضى فيكما
و اعترف المنفور للنافر

قالوا : و نذر علقمة دمه . فخرج الأعشى يريد وجها فأخطأ به الدليل فأخذوه و أتوه به . فقال الأعشى :

علقم قد صيّرتني إليك الامور
و ما أنت لي منقص

فهب لي ذنبي فدتك النفوس
و لا تزال تنمو و لا تنقص

فعفا عنه . فقال الأعشى :

علقم يا خير بني عامر
للضيف و الصاحب و الزائر

و الضاحك السّن على همّه
و الغافر العثرة للعاثر

-----------
( 1 ) رواه الثعالبي في كتاب النهاية في الكناية ، منتخبه : 209 .

-----------
( 2 ) ديوان المعاني 1 : 172 .

[ 82 ]

قال ابن ميثم في قوله : « و يوم حيان » كان حيّان صاحب الحصن باليمامة و كان سيّدا مطاعا يصله كسرى في كلّ سنة ، و كان في نعمة و رفاهية مصونا من و عثاء السفر 1 .

قلت : و في ( أمثال العسكري ) : من أمثالهم « انعم من حيّان » كان حيّان رجلا منعما ، و فيه قال الأعشى : « شتان ما يومي » البيت 2 .

و اما قوله : « أخي جابر » ففي ( فتوح البلاذري ) : قال أبو مسعود : حمّام أعين في الكوفة نسب إلى أعين مولى سعد بن أبي وقاص ، و سمعت انّ الحمّام قبله كان لرجل من العباد يقال له : جابر أخو حيان الّذي ذكره الأعشى ، و هو صاحب مسنّاة جابر بالحيرة 3 هذا و قالوا في الأعشى :

فلا تلوماني و لو ما جابرا
فجابر كلّفني الهواجرا

ان المراد بجابر فيه الخبز . قال ابن السكيت : يقال للخبز جابر بن حبّة و كنّوه أيضا أبا جابر 4 .

قال ابن أبي الحديد : يقال « شتان ماهما » و « شتّان هما » و لا يجوز « شتّان ما بينهما » 5 .

قلت : الأصل في كلامه قول الأصمعي ، ففي ( الصحاح ) قال الأصمعي : لا يقال شتّان ما بينهما ، و قول الشاعر :

-----------
( 1 ) شرح ابن ميثم 1 : 257 .

-----------
( 2 ) جمهرة الامثال : 200 .

-----------
( 3 ) فتوح البلدان : 280 ، و النقل بتصرف .

-----------
( 4 ) نقله الجوهري في صحاح اللغة 2 : 608 ، مادة ( جبر ) ، و الفيروز آبادي في القاموس 1 : 385 ، مادة ( جبر ) ، بلا تصريح باسم ابن السكيت .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 56 .

[ 83 ]

لشتّان ما بين اليزيدين في الندي
يزيد سليم و الأغر ابن حاتم

( يعني يزيد بن أسيد السلمي ، و يزيد بن حاتم المهلبي ) ليس بحجّة إنّما هو مولّد ، و الحجّة قول الأعشى شتان ما يومي البيت 1 .

إلاّ أنّ قول الاصمعي هنا غلط ككثير من أقواله في مواضع اخر ، و منها إنكاره « أرعد و أبرق » كما يأتي عند قوله عليه السّلام في أصحاب الجمل « و قد أرعدوا و أبرقوا » 2 .

ففي ( الأغاني ) : قيل لأبي زيد النحوي : إنّ الأصمعي قال : لا يقال ( شتّان ما بينهما ) و إنّما يقال : ( شتّان ما هما ) كقول الأعشى . فقال : كذب الأصمعي ،

يقال ( شتّان ما هما ) و ( شتّان ما بينهما ) و أنشد لربيعة الرقي ، و احتجّ به ( لشتّان ما بين اليزيدين ) البيت 3 .

و أقول : الأشعار و الكلام المنثور ممّن قوله حجّة في العربية كثيرة ،

و منها قول أبي الأسود في جار يؤذيه على ما في ( الأغاني ) :

و شتّان ما بيني و بينك أنّني
على كلّ حال أستقيم و تضلع 4

و منها قول ابن عباس لما بلغه و فاة أخيه قثم بسمرقند على ما في ( فتوح البلاذري ) : « شتان ما بين مولده و مقبره » 5 .

و في خطبة أبي حمزة الخارجي الّذي خرج بالمدينة سنة ( 131 ) :

« فشتّان لعمر الله ما بين الغي و الرشد » ، و قال البعيث و هو الّذي يهاجي جريرا :

لشتّان ما بيني و بين ابن خالد
اميّة في الرزق الّذي الله قاسم

-----------
( 1 ) نقله الجوهري في الصحاح 1 : 255 ، مادة ( شتت ) ، عن أبي عمرو و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) يأتي في عنوان 13 ، من الفصل الحادي و الثلاثون .

-----------
( 3 ) لم اجده في مظانه من الاغاني لكن جاء هذا المعنى في الكتب اللغوية .

-----------
( 4 ) الأغاني 12 : 319 .

-----------
( 5 ) فتوح البلدان : 402 .

[ 84 ]

و في ( النهج ) : « شتان ، بين عملين عمل تذهب لذته ، و تبقى تبعته ، و عمل تذهب مؤونته ، و يبقى أجره » 1 .

و في ( دعاء الصباح ) المروي في ( المصباح ) عن الهادي عليه السّلام : « انّك أنت الربّ الجليل و أنا العبد الذليل ، و شتّان ما بيننا يا حنّان يا منّان » 2 .

و في ( السير ) : أنّ الحجاج اتخذ ابن جعدة الشيباني و كان يرى رأي الخوارج سميرا لأدبه . فكتب إليه قطري أيام حربه مع المهلّب :

لشتّان ما بين ابن جعد و بيننا
إذا نحن رحنا في الحديد المظاهر

نجاهد فرسان المهلّب كلّنا
صبور على وقع السيوف البواتر

و راح يجرّ الخرّ عند أميره
أمير بتقوى الله غير آمر

فلمّا قرأ الكتاب لحق بقطري ، و طلبه الحجاج فلم يقدر عليه .

و في ( وزراء الجهشياري ) : صحب المختم الراسبي الشاعر محمّد بن منصور الّذي كان الرشيد لقّبه فتى العسكر و كان كريما فأفاد معه مئة ألف درهم . فمات محمّد بن منصور . فاتّصل بمحمّد بن يحيى البرمكي ، و كان بخيلا فانفقها معه . فقال :

شتّان بين محمّد و محمّد
حيّ أمات و ميّت أحياني

فصحبت حيّا في عطايا ميّت
و بقيت مشتملا على الخسران 3 .

و بالجملة فإنّ بيت الأعشى غاية ما يدلّ عليه عدم لزوم الإتيان بكلمة بين ، و أمّا لزوم تركها فلا ، و يفهم من موارد استعمال « شتان » جواز استعماله مع ما بدون « بين » كبيت الأعشى المتقدّم ، و كما في بيت نصر بن قدامة

-----------
( 1 ) نهج البلاغة 4 : 28 ، الحكمة 121 .

-----------
( 2 ) مصباح المتهجد : 205 .

-----------
( 3 ) الوزراء للجهشياري : 241 ، و النقل بتلخيص .

[ 85 ]

التميمي لمّا هاجر أخوه صفوان مع ابنيه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أبى قومه و بنو أخيه أن يهاجروا :

تحمّل صفوان فأصبح غاديا
بأبنائه عمدا و خلّى المواليا

طلاب الذي يبقى و آثرت غيره
فشتّان ما يفنى و ما كان باقيا

و كقول شاعر :

شتّان ما قبلة التلاق
و قبلة ساعة الفراق

و مع بين ، كبيت أبي الأسود ، و بيت قطري ، و بيت البعيث ، و بيت ربيعة الرقي ، و كلام ابن عباس ، و كلام أبي حمزة الخارجي ، و فقرة دعاء الصباح و قد تقدّم كلها ، و بدون « ما » مع « بين » كما في كلامه عليه السلام في القصار ، و كما في كلام المختم الراسبي ، و بدون « ما » و « بين » كما في قول لقيط بن زرارة يوم شعب جبلة :

شتّان هذا و العناق و النوم
و المضجع البارد في ظلّ الدوم

و قول كعب بن مالك في قتلى بدر و احد من المسلمين و المشركين .

شتّان من هو في جهنّم ثاو أبدا
و من هو في الجنان مخلّد

و قول شاعر آخر ذكره ( أساس الزمخشري ) :

شتّان خلو نائم
و هو على سهر مكب 1

و قول شاعر لما عزل يزيد بن المهلّب عن خراسان و كان لأبيه المهلّب بن أبي صفرة سوابق و آثار في حروبه مع الخوارج و وليها قتيبة بن مسلم و كان أبو قتيبة ، مسلم بن عمرو الباهلي نديما ليزيد بن معاوية يشرب معه و يغنّيه كما في ( أنساب البلاذري ) :

-----------
( 1 ) أساس البلاغة : 229 ، مادة ( شتت ) .

[ 86 ]

شتّان من بالصبح أدرك و الّذي
بالسيف أدرك و الحروب تسعر 1

هذا ، و لبعض المتأخّرين في طبيب غير حاذق مسمى بعيسى :

شتّان ما بين عيسى و عيسى المسيح
فذاك محيي موات و ذا مميت الصحيح

هذا و قد عرفت انّ الصدوق في كتابيه لم ينقل التمثل بالبيت ، و اتّفق غيره على نقله إلاّ أن المفيد و الشيخ ، و الطبرسي نقلوه بعد قوله عليه السّلام : « لشدّ ما تشطرا ضرعيها » و يسبط ابن الجوزي بعد قوله عليه السلام : « و لسقيت آخرها بكأس أوّلها » و الظاهر أصحية نقل الشيخين له ، و هو المفهوم من المرتضى حيث قال في بيان مراده عليه السّلام من التمثيل كما نقل ابن ميثم عنه انّ القوم لمّا فازوا بمقاصدهم و ظفروا بمطالبهم و هو عليه السّلام في أثناء ذلك كلّه محقق في حقه مكذّب في نصيبه كما أشار إليه بقوله « و في العين قذى و في الحق شجا » كان بين حالهم و حاله بعد بعيد ، و افتراق شديد 2 .

و أمّا على نقل المصنّف البيت هنا ، فلابدّ أن يكون المراد به انّه عليه السّلام قال :

شتّان بين يومي مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و يومي مع الرجلين ، و قد عرفت أنّ معاوية كتب في جواب محمّد بن أبي بكر : « فقد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب ، و حقّه لازما لنا مبرورا علينا . فلما قبضه اللّه إليه كان أبوك و فاروقه أوّل من ابتّزه حقّه و خالفه على ذلك اتّفقا و اتسقا » 3 .

و في المثل : « العنوق بعد النوق » 4 يضرب للشدّة بعد السعة .

-----------
( 1 ) أنساب الأشراف 4 ق 2 : 11 ، لكن الشاعر ليس مسلم الباهلي .

-----------
( 2 ) كذا في العلل 1 : 151 ، و المعاني : 362 ، و الارشاد : 153 ، و أمالي الطوسي 1 : 383 ، و الاحتجاج 1 : 192 ، و التذكرة :

125 ، و نقلا عن المرتضى في شرح ابن ميثم 1 : 257 .

-----------
( 3 ) رواه المسعودي في مروج الذهب 3 : 12 ، و غيره و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 4 ) أورده الميداني في مجمع الأمثال 2 : 12 .

[ 87 ]

و لمّا ملك الذر مملوك شهاب الدين الغوري غزنة في سنة ( 602 ) بعد سيده شهاب الدين ألزم وزيره مؤيد الملك أن يكون وزيره . فأجابه على كره فهنّاه صديق له . فقال له : بماذا تهنئني بركوب الحمار بعد الجواد بينا يأتي الذر الف مرّة على بابي حتى آذن له في الدخول اصبح على بابه .

قال ابن أبي الحديد : و قريب من تمثّله عليه السّلام تمثّل الفضل بن الربيع بأبيات البعيث في حرب الأمين و المأمون ، و رخاوة الأوّل و شدّة الثاني .

لشتّان ما بيني و بين ابن خالد
اميّة في الرزق الّذي الله يقسم

يقارع أتراك بن خاقان ليلة
إلى أن يرى الاصباح لا يتلعثم

و آخذها حمراء كالمسك ريحها
لها أرج من دنّها يتنسّم

فيصبح من طول الطراد و جسمه
نحيل و أضحى في النعيم أصمم 1

قلت : البيت الثالث لا ربط له بما قبله و ما بعده ، و قد نقل الطبري الأبيات و لم ينقله فيها 2 .

و تمثّل الرشيد بقول ربيعة الرقي : « شتان ما بين اليزيدين في الندى » البيت المتقدّم لمّا حجّ و لقيه قبل دخول مكّة رجلان من قريش فتكلّم أحدهما فأحسن ، و تكلّم الآخر فلم يأت بشي‏ء .

و عرض نخّاس جاريتين على ابن يزيد سليم الّذي هجا أبوه بالبيت .

فقال له : أيّهما أحسن . فقال له : بينهما كما قال الشاعر ، و أنشد البيت . فأمر بجرّ رجله و إخراجه معهما .

« فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته » أمّا استقالة أبي بكر بعد تصدّيه . فتواتر عنه أنّه قال : « اقيلوني فلست بخيركم » 3 .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 56 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 7 : 27 ، سنة 196 .

-----------
( 3 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 56 ، و بعض آخر لكن كونه متواترا من الغريب .

[ 88 ]

و معنى كلامه عليه السّلام : أنّ أبا بكر رأى عدم صلاحية نفسه للخلافة فكيف عقدها لعمر بعده . ثم كيف خالف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في زعمه تركه الناس بلا تعيين خليفة .

و قال سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) : قال صاحب ( بيت العلوم ) ،

و صاحب ( عقلاء المجانين ) : قال أبو الهذيل العلاّف : سافرت مع المأمون إلى الرقّة ، فبينا أنا أسير في الفرات إذ مررنا بدير فوصف لي مجنون يتكلّم بالحكمة ، فدخلت الدير و إذا برجل وسيم نظيف فصيح و هو مقيّد . فسلّمت عليه . فردّ السلام . ثم قال : قلبي يحدّثني أنّك لست من أهل هذه المدينة القليل عقول أهلها يعني الرقة قلت : نعم . أنا من أهل العراق . فقال : إنّي أسألك فافهم ما أقول ، فقلت : سل ، فقال أخبرني عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله هل أوصى ؟ قلت : لا . قال :

فكيف ولي أبو بكر مجلسه من غير وصيّة ؟ فقلت : إختاره المهاجرون و الأنصار و رضي به الناس . فقال ، كيف أجازه المهاجرون ، و قد قال الزبير بن العوام : لا ابايع إلاّ علي بن أبي طالب ، و كذا العباس ، و كيف اختاره الأنصار ،

و قد قالت : منّا أمير و منكم أمير ، و ولّوا سعد بن عبادة يوم السقيفة ، و قال عمر :

اقتلوا سعدا قتله الله ؟ و كيف تقول : رضي به الناس و قد قال سلمان الفارسي :

« كرديد و نكرديد » أي فعلتموها . فوجئت عنقه ، و قال أبو سفيان بن حرب لعليّ : « مدّ يدك لابايعك و ان شئت ملأتها خيلا و رجلا » ثم قعد بنو هاشم عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر . ثم لمّا ولى أبو بكر الخلافة قال : « وليتكم و لست بخيّركم » ؟ و كيف يتقدّم المفضول على الفاضل ؟ و لمّا ولى عمر قال : « وددت أنّي شعرة في صدر أبي بكر » ، ثم قال بعد ذلك : « كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه الامّة شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه » ثم إنّ عمر ردّ السبي الّذي سباه خالد بن الوليد في أيام أبي بكر . فانّ خالدا تزوّج امرأة مالك بن نويرة فردّها

[ 89 ]

عمر بعدما ولدت منه . ثمّ ولّى عمر صهيبا على أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو عبد لنبي نمر بن قاسط و كلّ هذا تناقض ؟

و أخبرني عن عبد الرحمن بن عوف حين ولّى عثمان الخلافة و اختاره ،

هل ولاّه إلاّ و هو يعرفه ؟ قلت : نعم . قال : فقد قال عبد الرحمن بعد ذلك ما كنت أحبّ أن أعيش حتّى يقول لي عثمان : يا منافق فمعرفة عثمان حين نسبه إلى النفاق كمعرفة عثمان إيّاه إذ ولاّه الخلافة .

و أخبرني عن عائشة لمّا كانت تحرّض الناس على عثمان يوم الدار و تقول : « اقتلوا نعثلا قتله الله فقد كفر » فلمّا ولي عليّ عليه السلام الخلافة قالت : وددت أن هذه سقطت على هذه . تعني السماء على الأرض ثم خرجت من بيتها تقاتل عليّا عليه السّلام مع طلحة و الزبير على دم عثمان و الله تعالى يقول : و قرن في بيوتكن و لا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاولى 1 و هذه مخالفة لله تعالى ، و لمّا قتل عثمان جاء المسلمون و الصحابة أرسالا إلى علي عليه السّلام ليبايعوه . فلم يفعل حتّى قالوا له : و الله لئن لم تفعل لنلحقنّك بعثمان ، فأخبرني أيّما آكد ، من ضرب سعدا و وجا عنق سلمان كمن جاء الناس يكرهونه على البيعة ؟ قال أبو الهذيل فلم أحر جوابا و سقط في يدي .

ثم قال : في كم يجب القطع في السرقة ؟ قلت : في ربع دينار . فقال : كم أعطاك الّذي جئت معه إلى هاهنا ؟ يعني المأمون قلت : خمسمئة دينار ، فقال :

يجب أن تقطّع أعضاؤك بحساب ما أخذت . قلت : و لم ؟ قال : لأنّك سرقت مال المسلمين . فقلت : الخليفة أعطاني من ماله . فقال : و أين ماله ؟ المال لله تعالى و لعامّة المسلمين ، و والله إنّك لأحقّ بهذا السعوط الّذي به كلّ يوم أسعط ،

و أحقّ بالقيد منّي . قال : أبو الهذيل فخرجت من عنده و أنا خجل . فحدّثت

-----------
( 1 ) الاحزاب : 33 .

[ 90 ]

المأمون حديثه فاستطرفه و بقي زمانا يستعيده منّي 1 .

و من تناقضاته كاستقالته لنفسه و عقده لغيره أنّه قال للعباس : إنّ الناس اختاروني عليهم واليا ، و ما انفكّ يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامّة المسلمين ، يتّخذكم لجأ . فقال : له العباس : ما أبعد قولك إنّهم طعنوا عليك من قولك إنّهم اختاروك و مالوا إليك ، و ما أبعد تسميتك خليفة رسوله تعالى من قوله خلّى رسوله على الناس امورهم ليختاروا فاختاروك 2 .

و يا عجبا بينا هو و صاحبه يطعنان على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تأمير اسامة عليهما و يتخلّفان عن جيشه مع حثّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على تجهيزه ، و لعنه المتخلّف عنه ينفذه من قبله باسم إجراء أمر النبيّ . قال الجزري : بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في محرم سنة ( 11 ) بعثا إلى الشام ، و أمرهم اسامة بن زيد مولاه ، و أمره أن يوطى‏ء الخيل تخوم البلقاء و الداروم من أرض فلسطين . فتكلّم المنافقون في إمارته ، و قالوا : أمّر غلاما على جلّة المهاجرين و الأنصار . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : إن تطعنوا في إمارته . فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، و إنّه لخليق للإمارة ، و كان أبوه خليقا لها ، و أوعب مع اسامة المهاجرون الأولون منهم أبو بكر و عمر فبينما الناس على ذلك ابتدأ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله مرضه الخ 3 .

و هو و إن أجمل الطاعن إلاّ أن المراد معلوم . فالمنافقون لم يكن لهم اعتقاد بالله و رسوله . فكيف يكون لهم اعتقاد بالمهاجرين و الأنصار ، و إنّ الرجلين إذا كانا في مقام التسليم لله و رسوله كيف يغضب لهما غيرهما .

و قال الجزري أيضا بعد ذكر بيعة أبي بكر و ارتداد جمع ، و إرادته إنفاذ

-----------
( 1 ) تذكرة الخواص : 60 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) رواه اليعقوبي في تاريخه 2 : 125 ، و الجوهري في السقيفة : 47 48 ، و غيرهما و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) رواه ابن الاثير في الكامل 2 : 317 ، سنة 11 ، و ايضأ الطبري في تاريخه 2 : 429 ، سنة 11 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 91 ]

جيش اسامة قال الناس لأبي بكر : ان هؤلاء يعنون جيش اسامة جند المسلمين ، و العرب على ما ترى قد انتقضت بك ، فلا ينبغي أن تفرّق جماعة المسلمين عنك . فقال : و الّذي نفسي بيده لو ظننت أنّ السباع تختطفني لأنفذت جيش اسامة كما أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله . فخاطب الناس و أمرهم بالتجهز للغزو ،

و أن يخرج كلّ من هو من جيش اسامة إلى معسكره بالجرف . فخرجوا كما أمرهم ، و جيش أبو بكر من بقي من تلك القبائل التّي كانت لهم الهجرة في ديارهم . فصاروا مسالح حول قبائلهم و هم قليل . فلمّا خرج الجيش إلى معسكرهم بالجرف ، و تكاملوا أرسل أسامة عمر ، و كان معه في جيشه إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس ، و قال : إنّ معي وجوه الناس و جلّتهم ، و لا آمن على خليفة رسول الله و حرم رسول اللّه و المسلمين أن يتخطفهم المشركون ، و قال من مع اسامة من الأنصار لعمر : أبلغ الخليفة عنّا و اطلب إليه أن يولّي أمرنا أقدم سنّا من اسامة . فخرج عمر بأمر اسامة إلى أبي بكر .

فأخبره بما قال اسامة . فقال : لو خطفتني الكلاب و الذئاب لأنفذته كما أمر به النبيّ ، و لا أردّ قضاء قضى به النبي ، و لو لم يبق في القرى غيري . فقال عمر : إن الأنصار تطلب رجلا أقدم سنّا من اسامة . فوثب أبو بكر ، و كان جالسا و أخذ بلحية عمر ، و قال : ثكلتك امّك يا ابن الخطاب إستعمله النّبي ، و تأمرني أن أعزله ، ثم خرج أبو بكر حتّى أتاهم و أشخصهم ، و شيّعهم . و هو ماش و اسامة راكب إلى أن قال فلمّا أراد أن يرجع ، قال لاسامة : أرأيت أن تعينني بعمر .

فاذن له الخ 1 .

و لعمر الله هل هذه إلاّ صفات أهل النفاق و أين كان هذا التصلّب منه في

-----------
( 1 ) رواه ابن الأثير في الكامل 2 : 334 ، سنة 11 ، و أيضا الطبري في تاريخه 2 : 461 462 ، سنة 11 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 92 ]

اجراء حكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في وقت حكمه صلّى اللّه عليه و آله فإنّه صلّى اللّه عليه و آله انّما حكم بتجهيز جيش اسامة في حياته ، و هو و صاحبه كانا من جيشه ، و الإنسان قد يأمر بشي‏ء لغرض في وقت ، و بعد ذاك الوقت لا يريده لعدم حصول غرض منه ،

و من أين انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يكن غرضه من بعث اسامة في شدّه مرضه ،

و حثّه عليه كلّما أفاق ، و لعنه من تخلّف عنه ، خروج الرجل و خروج صاحبه حين وفاته حتى لا يبقى حين وفاته في المدينة مخالف لأمير المؤمنين عليه السّلام ؟

و من العجب أنّ ابن أبي الحديد قال : و تزعم الشيعة انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يعلم موته و انّه سيّر أبا بكر و عمر في بعث اسامة لتخلو دار الهجرة منهما .

فيصفو الأمر لعليّ عليه السلام و يبايعه من تخلّف من المسلمين بالمدينة على سكون و طمأنينة . فإذا جاءهما الخبر بموت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بيعة الناس لعليّ عليه السلام بعده كانا عن المنازعة و الخلاف أبعد لأنّ العرب كانت تلتزم باتمام تلك البيعة ،

و يحتاج في نقضها إلى حروب شديدة . فلم يتمّ له ما قدّر ، و تثاقل اسامة بالجيش أيّاما مع شدّة حثّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على نفوذه و خروجه بالجيش حتى مات صلّى اللّه عليه و آله و هما بالمدينة فسبقا عليّا عليه السلام إلى البيعة و جرى ما جرى .

قال ابن أبي الحديد : و هذا عندي غير منقدح لأنّه إن كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعلم موته فهو أيضا يعلم انّ أبا بكر سيلي الخلافة ، و ما يعلمه لا يحترس منه ،

و إنّما يتمّ هذا و يصحّ إذا فرضنا انّه عليه السلام كان يظنّ موته ، و لا يعلمه حقيقة ،

و يظنّ انّ أبا بكر و عمر يتمالآن على ابن عمّه ، و يخاف وقوع ذلك منهما و لا يعلمه حقيقة ، فيجوز ان كانت الحال هكذا ان ينقدح هذا التوهم ، و يتطرّق هذا الظّن 1 .

فانّ جوابه ممّا يضحك الثكلى . فان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فعل ما كان عليه لإتمام

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 54 .

[ 93 ]

الحجّة من الأمر بخروجهما ، كما إنّه فعل ما كان واجبا عليه من الأمر بإتيانه بقلم و صحيفة ليكتب لهم كتاب وصيّة لئلاّ يضلّوا بعده . فإن منعه الثاني عن الكتابة و تخلّف هو و صاحبه عن الخروج في جيش اسامة أي شي‏ء يرد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله .

ثم لو أراد أبو بكر إنفاذ أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعده لم لم يخرج بنفسه ، و كان في جملتهم كما صرّح به ابن سعد كاتب الواقدي مع نصبه و جهده في ستر ما يرد به عار على صدّيقه حتى إنه اقتصر في ذكر بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له للحج و لم يذكر بعثه لتبليغ البراءة ليخفي عزله عن الله تعالى .

و كان من أهمية المطلب أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع مرضه عقد اللواء بيده كما صرّح به ابن سعد أيضا 1 ، و لم لم يخلّ عمر ، و كان مأمورا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالحركة في ذاك الجيش بالإتفاق لا من اسامة ، و إذا كان بيد اسامة حيث طلب منه ترك عمر له فاسامة أراد ترك ذاك الأمر كلّه فلم أنكر عليه .

و انّما أراد أبو بكر بإنفاذ جيش اسامة أمرين : التباس الأمر على العامة بكلماته التي لفّقها من قوله : « لو ظننت ان السباع تختطفني لأنفذت جيش اسامة كما أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله » 2 و الثاني : ان يتجلّد للعرب . قال الجزري : و كان إنفاذ جيش اسامة أعظم الامور نفعا للمسلمين ، فان العرب قالوا : لو لم تكن بهم قوّة لما أرسلوا هذا الجيش . فكفّوا عن كثير ممّا كانوا يريدون أن يفعلوه 3 .

ثم لم لم يستخلف أبو بكر اسامة و قد امّره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و انّما خدعه هو

-----------
( 1 ) طبقات ابن سعد 2 ق 1 : 121 و 136 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 2 : 461 ، سنة 11 .

-----------
( 3 ) الكامل 2 : 336 ، سنة 11 .

[ 94 ]

و صاحبه بان كانا يخاطبانه بأيّها الأمير مادام حياتهما .

ثم و اعجبا من ابن قتيبة في ( خلفائه ) يقول في عنوان : كيف كانت بيعة علي « قام عمر مع جماعة فمشوا حتى أتوا بيت فاطمة فدقّوا الباب فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبه يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب و ابن أبي قحافة إلى أن قال فلحق علي بقبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يصيح و يبكي و ينادي : « يا ابن امّ إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني » 1 .

و هل معنى ذلك إلاّ جعل أمير المؤمنين عليه السّلام لأبي بكر و عمر كالعجل و السامري ، و مبايعي أبي بكر كعابدي العجل ، و ان الرجلين و اتباعهما أرادوا قتل أمير المؤمنين عليه السّلام لإنكاره أمرهم و بيعتهم لأبي بكر . ثم يقول ابن قتيبة في آخر كلامه : « فلمّا تمّت البيعة لأبي بكر أقام ثلاثة أيام يقيل الناس و يستقيلهم يقول قد أقلتكم في بيعتي هل من كاره هل من مبغض فيقوم عليّ في أول الناس فيقول و اللّه لا نقيلك و لا نستقيلك أبدا قد قدّمك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتوحيد ديننا من ذا الّذي يؤخرك لتوجيه دنيانا » 2 .

فهل كان أمير المؤمنين عليه السّلام شطّارا يقول الأمس ما مر و يقول اليوم ما قال أنا أستحي لهذا الرجل من هذا التناقض أوّلا و أخيرا ، و إن ما نسبه إليه عليه السّلام هو كلام عمر لأبي بكر . فلمّا أراد عقد البيعة له قال له « قدّمك النبيّ لديننا يعني في صلاته بالناس أفلا نرضاك لدنيانا يعني خلافة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله » 3 .

و من العجب أنّ ابن أبي الحديد قال : و من الناس من أنكر استقالة أبي بكر ، و قال إنّما قال أبو بكر « ولّيتكم و لست بخيركم » 4 هب جحدوا و أنكروا

-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 13 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) الإمامة و السياسة 1 : 16 .

-----------
( 3 ) رواه عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 123 ، شرح الخطبة 26 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 56 .

[ 95 ]

النصّ على أمير المؤمنين عليه السلام كيف يجحدون ما قاله صدّيقهم في الملأ ، و على رؤوس الأشهاد . فياللّه لهؤلاء تارة ينكرون أصل ما تواتر عن أوّلهم ،

و اخرى يضعون انّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يقبل منه استقالته .

و كيف يقول ابن أبي الحديد ما قال و قد روى ابن قتيبة مع نصبه استقالة أبي بكر مرّتين ثانيتهما بعد ذكر عيادته مع صاحبه عمر لسيّدة نساء العالمين و ذكر أخذها عليها السّلام إقرارهما بقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيها : « سخط فاطمة من سخطي و سخطي سخط الله » و ذكر قولها عليها السلام لأبي بكر : « لأدعونّ اللّه عليك في كلّ صلاة اصليها قال : فخرج أبو بكر باكيا و قال : لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي » 1 .

« لشدّ ما تشطرا ضرعيها » الضرع للحيوان كالثدي للمرأة ، و الشطر النصف قال فضالة بن شريك في أعور من بني شطير :

لنصف امرى‏ء من نصف حي يسبّني
لعمري لقد لاقيت خطبا من الخطب

جعله نصف امرى‏ء لكونه أعور ، و من نصف حيّ لكونه من بني شطير .

و يقال « ولد فلان شطره » أي : نصف ذكور و نصف إناث ، و يقال « شعر شطران » أي : نصفه أسود و نصفه أبيض . و معنى كلامه عليه السلام ان كلا من الأوّل و الثاني أخذ بالشدّة ضرعا من ضرعي الخلافة .

ثم الظاهر أن « ما » في « شد ما » للتعجب فيكون « شدّ ما » في معنى « ما أشدّ » . و قال ابن أبي الحديد « شدّ ما » أي صار شديدا كما انّ حبّذا معناه صار حبيبا 2 .

و هو كما ترى فانّ معنى « شدّ ما » ان الشي‏ء كان في غاية الشدّة يشهد

-----------
( 1 ) الإمامة و السياسة 1 : 14 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 57 ، و النقل بالمعنى .

[ 96 ]

له موارد استعماله من كلامه عليه السّلام و كلام آخرين . فقالوا في قصّة بهرا مجور و جاريته التي اقترحت عليه أشياء صعبة انّه أخذها و ضرب بها الأرض و قال لها « لشدّ ما اشتطت عليّ لإظهار عجزي » .

و في ( الأغاني ) : أعطى عبد اللّه بن الحشرج لمّا كان أمير خراسان الناس كلّ شي‏ء له حتّى منشفة عليه و فراشه و لحافه ، فقالت له امرأته : لشدّ ما يتلاعب بك الشيطان 1 .

و في ( الطبري ) : بعث المنصور باقياد لتقييد بني الحسن ، و فيها قيد ثقيل كلّما قرب من واحد منهم استعفى . فقال علي بن الحسن المثنى « لشدّ ما جزعتم » و مد رجليه فقيّد به 2 .

و في ( أنساب البلاذري ) : كان مسلم بن عمرو الباهلي أبو قتيبة بن مسلم نديما ليزيد بن معاوية يشرب معه و يغنّيه . فقال الشاعر حين عزل يزيد بن المهلب ( و كان أبوه ذا سابقة في الحروب مع الخوارج ) عن خراسان و وليها قتيبة :

شتّان من بالصبح أدرك و الّذي
بالسيف أدرك و الحروب تسعّر 3

و لما أوفد سعد بن أبي وقاص عمرو بن معد يكرب بعد فتح القادسية إلى عمر ، و أثنى عليه في كتابه . فسأله عمر عن سعد ، فأثنى عمرو عليه فقال له عمر لشدّ ما تقار ضتما الثناء .

و قال الأشعث بن قيس لشريح القاضي في كلام دار بينهما : لشدّ ما ارتفعت .

-----------
( 1 ) الاغاني 12 : 26 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 6 : 174 ، سنة 144 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 3 ) انساب الاشراف 4 ق 2 : 11 .

[ 97 ]

و لمّا قرأ يزيد كتابا للحسين عليه السلام في معنى حجر و عمرو بن الحمق إلى معاوية قال لأبيه : لشدّ ما فخر عليك الحسين . و قال الشاعر :

لشدّ ما نال منيّ الدهر و اعتلقت
يد الزمان و أوهت من قوى مرري

و قال اعرابي :

فلما كتمت الحبّ قالت لشدّ ما
صبرت و ما هذا بفعل شجى القلب

و قال الفضل بن سهل لطاهر بن الحسين لشدّ ما سموت .

هذا و قريب من قوله عليه السّلام : « لشدّ ما تشطّرا ضرعيها » قول رجل من ولد ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس لمروان الحمار :

مريت يا مروان أطباءها
حتى استمرّت بدم حائل

و قول السلولي :

و ذمّوا لنا الدنيا و هم يرضعونها
أفاويق حتّى ما يدرّ لها ثعل

و الثعل بالضم : خلف زائد لا يدرّ ، و انما ذكره مبالغة و الخلف حملة الضرع .

روى المفيد في ( أماليه ) عن الربيع بن المنذر قال : سمعت الحسن بن عليّ عليه السلام يقول : إنّ أبا بكر و عمر عمدا إلى هذا الأمر و هو لنا كلّه فأخذاه دوننا ،

و جعلا لنا فيه سهما كسهم الجّدة . أما و الله لتهمنّهما أنفسهما يوم يطلب الناس فيه شفاعتنا 1 .

و الظاهر انّ المراد بقوله عليه السّلام : « كسهم الجدّة » أنّهما جعلا لهم من الخلافة و باقي حقوقهم مجرّد طعمة كالجدّة مع الوالدين .

« فصيّرها في حوزة خشناء » قال الزبير بن بكار : كان عمر إذا غضب على

-----------
( 1 ) أمالي المفيد : 48 ح 8 ، المجلس 6 .

[ 98 ]

بعض أهله لم يسكن غضبه حتى يعضّ يده عضّا شديدا و يدميها 1 .

و قالوا : كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج 2 ، و كان الحجاج يتشبه بزياد ، و كان زياد يتشبّه بعمر .

و لمّا أراد عمر منع زياد عن إقامة الشهادة على المغيرة ، وراه أقبل صاح به صيحة حكاها المشاهد للراوي كما رواه أبو الفرج الاصبهاني فكاد أن يغشى عليه 3 .

و جعله أبو بكر قاضيا في خلافته . فمكث سنة لم يخاصم إليه أحد .

و جاءت إليه سريّة لابنه عبيد الله . فقالت له : ألا تعذرني من أبي عيسى قال : و من أبو عيسى . قال : ابنك عبيد الله ، قال : ويحك و قد تكنى بأبي عيسى ، و دعاه و قال : و يحك إكتنيت بأبي عيسى . فحذر و فزع . فأخذ يده .

فعضّها حتّى صاح ثم ضربه ، و قال : و يلك هل لعيسى أب ؟ أما تدري ما كنّى العرب ؟ أبو سلمة ، أبو حنظلة ، أو عرفطة ، أبو مرّة 4 .

و في ( الخلفاء ) : قال عمرو بن ميمون : شهدت عمر بن الخطاب يوم طعن فما منعني أن أكون في الصفّ الأوّل إلاّ هيبته . فكنت في الصفّ الذي يليه و كان عمر لا يكبّر حتى يستقبل الصفّ المتقدّم بوجهه . فإن رأى رجلا متقدّما من الصفّ أو متأخّرا ضربه بالدرّة . فذلك الذي منعني من التقدم . فأقبل لصلاة الصبح و كان يغلّس بها . فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة فطعنه . الخ 5 .

و عدّ ( معارف ابن قتيبة ) في « عنوان من كان على دين قبل مبعث

-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 104 ، شرح الخطبة 226 ، لكن لم اجده في موفقيات الزبير بن بكار .

-----------
( 2 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 113 ، شرح الخطبة 226 .

-----------
( 3 ) رواه ابو الفرج في الاغاني 16 : 98 .

-----------
( 4 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 104 ، شرح الخطبة 226 .

-----------
( 5 ) الإمامة و السياسة 1 : 12 .

[ 99 ]

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله » زيد بن عمرو بن نفيل . قال : كان رغب عن عبادة الأوثان و طلب الدين ( فأولع به عمر ، و كان ابن عمّه ، و سلّط عليه سفهاء مكّة . فآذوه فخرج إلى الشام ) فقتله النصارى بالشام 1 .

و في ( سيرة ابن هشام ) في حديث ام عبد اللّه عن اسلام عمر قال لها زوجها : اطمعت في إسلام عمر ؟ قالت : نعم ، قال : فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب قالت : قال ذلك يأسا منه عن الإسلام لما كان يرى من غلظته و قسوته 2 .

و في ( اسد الغابة ) : روى مجاهد عن ابن عباس قال : سألت عمر عن إسلامه فقال : خرجت بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام فإذا فلان المخزومي ، و كان قد أسلم . فقلت : تركت دين آبائك و اتّبعت دين محمّد ؟ قال : إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقّا منّي . قلت : من هو ؟ قال : اختك و ختنك . قال : فانطلقت .

فوجدت الباب مغلقا ، و سمعت همهمة . ففتح الباب . فدخلت فقلت : ما هذا الذي أسمع ؟ قالت : ما سمعت شيئا . فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني فضربته فأدميته . الخ 3 .

و في ( سيرة ابن هشام ) : مرّ أبو بكر بجارية بني مؤمل حىّ من بني عدي بن كعب و كانت مسلمة ، و عمر يعذّبها لتترك الإسلام ، و هو يومئذ مشرك و هو يضربها حتّى إذا ملّ قال إني أعتذر إليك أنّي لم أتركك إلاّ ملالة .

فتقول : كذلك فعل الله بك 4 .

و فيه مسندا عن عمر قال : مررت بهشام بن حكيم بن حزام ، و هو يقرأ

-----------
( 1 ) المعارف : 59 ، و ما بين القوسين ليس في نسختنا .

-----------
( 2 ) سيرة ابن هشام 1 : 295 .

-----------
( 3 ) اسد الغابة 5 : 519 .

-----------
( 4 ) سيرة ابن هشام 1 : 278 .

[ 100 ]

الفرقان في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإذا هو يقرأ على حروف لم يقرئنيها النبيّ ،

فكدت أساوره في الصلاة . فنظرت حتّى سلّم . فلبّبته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة . قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : فقلت له ، كذبت إنّه أقرأني هذه السورة .

فانطلقت أقوده إلى النبيّ . فقلت : إنّي سمعت هذا يقرأ السورة على حروف لم تقرئنيها . فقال النبيّ : أرسله يا عمر . إقرأ يا هشام . فقرأ . فقال النبي : هكذا انزلت .

الخ 1 .

و في ( الاستيعاب ) : لمّا مات سعد بن معاذ جعلت امّه تبكي . فقال لها عمر : انظري ما تقولين . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : دعها يا عمر ، كلّ باكية مكثرة إلاّ امّ سعد ما قالت من خير فلن تكذب 2 .

و في ( العقد الفريد ) : مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنسوة من الأنصار يبكين ميّتا فزجرهن عمر . فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : دعهن يا عمر . فإن النفس مصابة و العين دامعة ، و العهد قريب 3 .

و رووا أيضا : أنّ عمر سمع صوت بكاء في بيت فدخل و بيده الدرّة .

فمال عليهم ضربا حتّى بلغ النائحة فضربها حتّى سقط خمارها . ثم قال لغلامه : إضرب النائحة ، و يلك اضربها . فإنّها نائحة لا حرمة لها ، إنّها لا تبكي بشجوكم ، إنّها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم . إنّها تؤذي أمواتكم في قبوركم ، و أحياءكم في دورهم ، إنّها تنهى عن الصبر ، و قد أمر اللّه به ، و تأمر بالجزع ، و قد نهى اللّه عنه 4 .

-----------
( 1 ) أخرجه البخاري في صحيحه 2 : 61 و 3 : 226 و 234 ، و 4 : 198 و 308 ، و مسلم في صحيحه 1 : 560 561 ح 270 271 ، و جمع آخر لكن لم يوجد في سيرة ابن هشام .

-----------
( 2 ) الاستيعاب 4 : 396 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) العقد الفريد 3 : 168 .

-----------
( 4 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 111 ، شرح الخطبة 226 .

[ 101 ]

قلت : لم ينته الرجل بنهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فآذى المصابات المرحومات ،

و قوله « تؤذي أمواتكم » خلاف قوله تعالى : و لا تزر وازرة وزر اخري 1 و كيف و قد أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالبكاء على عمّه حمزة ، و بكى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نفسه على إبراهيم ابنه و قال « يحرق القلب ، و تدمع العين ، و لا نقول ما يسخط الربّ » 2 و كسب النائحة إذا لم يكن من النوح الباطل حلال .

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : لما مات عبد اللّه بن أبيّ بن سلول حضر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جنازته فقال له عمر : ألم ينهك اللّه أن تقوم على قبره ؟ فسكت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله . فقال عمر ثانية : ألم ينهك الله أن تقوم على قبره ؟ ، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : ويلك ، و ما يدريك ما قلت ؟ إنّي قلت : « اللهمّ احش جوفه نارا و املأ قبره نارا » فأبدى عمر من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان يكره ابداءه 3 .

قلت : و من الغريب أنّ العامّة نقلوا هذه القصّة هكذا : « إنّ عبد الله بن أبيّ لما توفيّ جاء ابنه و أهله إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و سألوه أن يصلّي عليه . فقام بين يدي الصفّ يريد ذلك فجاء عمر . فجذبه من خلفه ، و قال له : ألم ينهك اللّه أن تصلّى على المنافقين . فقال : إنّي خيّرت فاخترت فقيل لي : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تسغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر اللّه لهم 4 و لو أعلم اني إذ أزدت على السبعين غفر له لزدت . ثمّ صلىّ عليه و مشى معه ، و قام على قبره ،

فعجب الناس من جرأة عمر على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يلبث الناس أن نزل قوله تعالى : و لا تصلّ على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره 5 فلم يصلّ

-----------
( 1 ) فاطر : 18 .

-----------
( 2 ) اخرجه مسلم في صحيحه 3 : 1807 ح 62 ، و ابو داود في سننه 3 : 193 ح 3126 ، و غيرهما .

-----------
( 3 ) أخرجه القمي في تفسيره 1 : 302 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 4 ) التوبة : 80 .

-----------
( 5 ) التوبة : 84 .

[ 102 ]

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أحد من المنافقين 1 .

فأرادوا تبديل قدحه بمدح إلاّ أنّهم لم يتفطنوا لتناقض صدر كلامهم و ذيله فيقولون أوّلا : انّ عمر جذب النبيّ من خلفه في صلاته على الرجل ، و قال له : ألم ينهك الله عن ذلك في قوله : و لا تصل على أحد منهم و يقولون أخيرا :

انّه نزل قوله و لا تصلّ على أحد منهم تصديقا لعمر .

و نظيره ما رووا له أنّه لمّا أسر النبي صلّى اللّه عليه و آله في بدر سبعين من المشركين استشار جمعا من أصحابه فيهم أبو بكر و عمر في أمرهم . فقال أبو بكر : هؤلاء بنو العمّ و العشيرة و الإخوان ، أرى أن تأخذ منهم الفدية ،

فيكون ما أخذنا منهم قوّة لنا على المشركين ، و عسى اللّه أن يهديهم بعد اليوم .

فيكونوا لنا عضدا . فقال النبي لعمر ما تقول أنت ؟ قال : أرى أن تمكّنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه ، و تمكّن عليّا من عقيل . فيضرب عنقه ،

و تمكّن حمزة من أخيه العباس . فيضرب عنقه حتى يعلم اللّه انّه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين اقتلهم فأنهم صناديدهم و قادتهم ، فلم يهو النبيّ ما قاله عمر و هوى ما قاله أبو بكر . فأخذ منهم الفدية ، و خلّى سبيلهم فأنزل عليه ما أنزل .

قال عمر : فجئت إلى النبي . فوجدته قاعدا و أبو بكر يبكيان . فقلت : ما يبكيكما حدّثناني . فإن وجدت بكاء بكيت و إلاّ تباكيت . فقال النبي : أبكى لأخذ الفداء . لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة . لشجرة قريبة قال ابن عمر : قال النبيّ : كدنا أن يصيبنا شرّ في مخالفة عمر 2 .

فإنّه إذا كان عمر هو الّذي وافق مراده مراد اللّه ، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خالفه

-----------
( 1 ) أخرجه مسلم في صحيحه 4 : 2141 ح 3 و 4 ، و اورد بعض طرقه السيوطي في الدر المنثور 3 : 264 و 266 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) رواه الطبري في تاريخه 2 : 169 ، سنة 2 .

[ 103 ]

كان عمر أولى بالنبوّة ، و لم يكن قوله تعالى : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته 1 بحق ، و أيضا لم يقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعمر عرض عليّ عذابكم و كان الواجب عليه أن يقول له عذابي و عذاب امّتي غيرك .

و كذا ما رووا أنّ أبا هريرة قال : كنّا قعودا حول النبيّ فقام من بين أظهرنا . فأبطأ علينا . فخشينا أن يقتطع دوننا ففزعنا ، و كنت أوّل من فزع فخرجت ابتغيه حتى أتيت حائطا لقوم من بني النجار فلم أجد للحائط بابا إلاّ ربيعا أي جدولا ، فدخلت في جوف الحائط بعد أن احتفرته . فإذا النبي . فقال : ما شأنك قلت : كنت بين أظهرنا . فقمت و أبطأت فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا ،

و كنت أوّل من فزع فأتيت هذا الحائط . فاحتفرت كما يحتفر الثعلب ، و الناس ورائي فقال : اذهب بنعليّ هاتين فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد ألا إله إلاّ اللّه مستيقنا بها قلبه بشرّته بالجنّة إلى أن قال قال أبو هريرة فضرب عمر في صدري فخررت لاستى ، و قال : إرجع إلى النبيّ . فأجهشت بالبكاء راجعا إلى أن قال فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إذا عمر ، فقال : ما حملك يا عمر على ما فعلت ؟ فقال عمر : أنت بعثت أبا هريرة بكذا ؟ قال : نعم . قال : فلا تفعل فإني أخشى أن يتّكل الناس عليها فيتركوا العمل . خلّهم يعملون فقال النبيّ : خلهم يعملون 2 .

فلم يتفطنوا أنّ ما وضعوه للرجل يكذب الله تعالى في قوله جلّ و علا :

و ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحى يوحى 3 و يستلزم أن يكون عمر أعرف بمصالح الناس و مفاسدهم من الله تعالى و رسوله .

هب ذلك كلّه ، لم ضرب أبا هريرة ضربا خرّ لاسته و أجهش بالبكاء ؟ هل

-----------
( 1 ) الانفال : 124 .

-----------
( 2 ) أخرجه مسلم في صحيحه 1 : 59 ح 52 ، و غيره و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) النجم : 3 4 .

[ 104 ]

فعل أبو هريرة ما فعل إلاّ بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على نقلهم ؟ و لِمَ لم يطلب منه الكفّ بلا أذية حتى يراجع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله .

و كذا روى الغزالي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا و عنده جوار يتغنين و يلعبن فجاء عمر فاستأذن . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اسكتن فسكتن ، فدخل عمر فقضى حاجته ثم خرج فقال لهنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عدن إلى الغناء . فقلن : يا رسول اللّه من هذا الذي لمّا جاء قلت : اسكتن ، و لمّا خرج قلت : عدن إلى الغناء قال : هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل 1 .

فيا الله من هذه الأحاديث الخبيثة التي غرستها الشجرة الامويّة الملعونة في القرآن في قلوب هؤلاء . فيجعلون عمر أورع و أعرف و أفضل من رسول ربّ العالمين .

ثم الغريب انّهم تارة يروون كونه أفضل من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اخرى يروون كفره و ارتداده . فقالوا : لمّا كتب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الحديبية كتاب الصلح بينه و بين سهيل بن عمرو على ان من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد و من خرج من المشركين إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يردّ اليهم ، غضب عمر ، و قال لأبي بكر : ما هذا أ يرد المسلمون إلى المشركين ثم جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجلس بين يديه ، و قال : ألست رسول اللّه حقّا ؟ قال : نعم . قال : و نحن المسلمون حقا ؟ قال :

نعم . قال : و هم الكافرون ؟ قال : نعم . قال فعلام نعطي الدنيّة في ديننا ؟ فقال النبيّ : أنا رسول اللّه أفعل ما يأمرني الله به ، و لن يضيّعني . فقام عمر مغضبا ،

و قال : و اللّه لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنيّة أبدا ، و جاء إلى أبي بكر . فقال له : أو ما وعدنا انّه سيدخل مكّة . فأين ما وعدنا به . فقال له أبو بكر : أقال لك : إنّه العام يدخلها . قال : لا . قال : فسيدخلها . قال : فما هذه الصحيفة التي كتبت ، و كيف

-----------
( 1 ) يوجد قريب من بهذا المضمون في احياء العلوم 2 : 245 .

[ 105 ]

نعطي الدنية من أنفسنا . فقال أبو بكر : يا هذا إلزم غزره . فو اللّه انّه لرسوله ان اللّه لا يضيعه . فلمّا كان يوم الفتح ، و أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مفاتيح الكعبة . قال : ادعوا لي عمر . فجاء . فقال : هذا الذي كنت وعدتكم 1 .

إلاّ أنّ الأولى روايات مفتعلة يكذّبها العقل ، و الأخيرة روايات صحيحة يشهد لها الدراية ، و لذا قال النظام كما نقله ملل الشهرستاني أنّ قول عمر ذاك شكّ في الدين ، و وجدان خرج في النفس مما قضى و حكم . بل هو نفسه أقرّ بشكّه في ذاك اليوم كما رووا 2 .

و في ( الطبري ) : إنّ عمر خطب ام أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته ،

و قالت : يغلق بابه ، و يمنع خيره ، يدخل عابسا و يخرج عابسا 3 .

و فيه : خطب عمر إلى عائشة ام كلثوم بنت أبي بكر . فقالت ام كلثوم : لا حاجة لي فيه . فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته . فقال : أنا أكفيك .

فأتى عمر . فقال : بلغنى خبر اعيذك بالله منه . قال : و ما هو ؟ قال : خطبت ام كلثوم بنت أبي بكر . قال : نعم أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عنّي ؟ قال : و لا واحدة ، و لكنها حدثة نشأت تحت كنف عائشة في لين و رفق ، و فيك غلظة ،

و نحن نهابك ، و ما نقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك ، فكيف بها إن خالفتك في شي‏ء فسطوت بها كنت قد خلّفت أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك الخ 4 .

و في ( صحيح البخاري ) عن عائشة قالت : إنّ أزواج النبيّ كنّ يخرجن بالليل إذا تبرّزن إلى المناصع و هو صعيد أفيح فكان عمر يقول

-----------
( 1 ) رواه البخاري في صحيحه 2 : 205 ، و مسلم في صحيحه 3 : 1411 ح 94 ، و غيرهما و النقل بتصرف في اللفظ .

-----------
( 2 ) قول النظام في الملل و النحل 1 : 59 ، و اعتراف عمر بشكه رواه الواقدي في المغازي 1 : 607 ، و الثعلبي في تفسيره ،

عنه الطرائف 2 : 441 .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 3 : 270 ، سنة 23 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 4 ) المصدر نفسه .

[ 106 ]

للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله : احجب نساءك . فلم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يفعل . فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة من الليالي عشاء و كانت طويلة ، فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل اللّه آية الحجاب 1 .

قلت : على ما اصلحوا له الخبر بكون عمله ذاك حرصا على نزول الحجاب كان عمر أعلم بالحكم من الله تعالى فضلا عن رسوله .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : ان المهاجرين و الأنصار دخلوا على أبي بكر حين بلغهم انّه استخلف عمر . فقالوا : نراك استخلفت علينا عمر ، و قد عرفته ،

و علمت بوائقه فينا و أنت بين أظهرنا . فكيف إذا و ليت عنّا و أنت لاقى اللّه عزّ و جلّ فسائلك . فما أنت قائل . فقال أبو بكر : لئن سألني اللّه لأقولن له استخلفت عليهم خيرهم في نفسي 2 .

قلت : جواب أبي بكر للمهاجرين و الأنصار كجواب معاوية لعائشة لمّا قالت له : ما تقول لله إذا سألك عن قتل حجر بن عدي مع مقامه في العبادة ؟ قال لها : دعيني و حجرا حتى نلقى ربنا ، إنّي رأيت قتله صلاحا للامّة .

و في ( عيونه ) : تقدّمت امرأة الى عمر ، فقالت « يا أبا عمر حفص اللّه لك » ( أرادت أن تقول « يا أبا حفص عمرك اللّه » ) فقال عمر : مالك أعقرت أي :

دهشت ؟ قالت : « صلعت فرقتك » ( أرادت أن تقول « فرقت صلعتك » ) 3 .

و في ( الطبري ) : لمّا أتى كتاب أبي بكر إلى خالد بن الوليد بالحيرة أن يمدّ أهل الشام ، قال : هذا عمل الاعيسر ابن ام شملة يعني عمر حسدني أن يكون فتح العراق على يدي 4 .

-----------
( 1 ) صحيح البخاري 1 : 40 .

-----------
( 2 ) الإمامة و السياسة 1 : 19 .

-----------
( 3 ) عيون الاخبار 1 : 12 .

-----------
( 4 ) تاريخ الطبري 2 : 608 ، سنة 13 .

[ 107 ]

و في ( الطبري ) : قال الفضل بن العباس : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في مرضه : أيّها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له . فقام رجل فقال : يا رسول اللّه إن من شي‏ء إلاّ و قد جئته ، فقام عمر فقال : أيّها الرجل فضحت نفسك . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة . اللهم صيّر أمره إلى خير 1 .

و في ( أدب كاتب الصولي ) : أقطع أبو بكر طلحة ارضا ، و كتب له كتابا ،

و أشهد له ناسا فيهم عمر . فأتى طلحة عمر بالكتاب ليختمه ، فقال : هذا كلّه لك دون الناس لا أختم هذا فرجع طلحة مغضبا إلى أبي بكر . فقال : أنت الخليفة أم عمر 2 ؟

و فيه ، و أقطع أبو بكر لعيينة بن حصن الفزاري قطيعة ، و كتب له بها كتابا فأتى عيينة عمر فاعطاه الكتاب فبصق فيه و محاه 3 .

« يغلظ كلمها » قال الجوهري : الكلم : الجراحة ، و قرأ بعضهم دابة من الأرض تكلمهم أي : تجرحهم 4 .

و لأبي سعيد الخوارزمي في وصف رجل « جعل لسانه سنانه ، و أشفار عينيه الصلبة شفاره . فإذا تكلّم كلم بلسانه أكثر مما يكلم بسنانه ، و إذا لمح ببصره جرح القلوب بلحظه أشدّ مّما جرح الآذان بلفظه ، يظهر للناس في زي مظلوم و انّه لظالم ، و يشكوا إليهم وجع السليم و هو سالم » .

و في ( لسان العرب ) : يروى انّ عمر رأى جارية متكمكمة . فسأل عنها فقالوا : أمة آل فلان ، فضربها بالدّرة . و قال : يالكعاء أتشبّهين بالحرائر قال :

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 434 ، سنة 11 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) أدب الكاتب : 211 .

-----------
( 3 ) أدب الكاتب : 211 .

-----------
( 4 ) صحاح اللغة 5 : 2023 ، مادة ( كلم ) .

[ 108 ]

ارادوا متكمّمة فضاعفوا ، و اصله من الكمة ، و هي القلنسوة فشبّه قناعها بها 1 .

و في ( كامل الجزري ) : إرتد أبو شجرة السلمي ، و هو ابن الخنساء في من ارتدّ من سليم و قال ابياتا منها .

فروّيت رمحي من كتيبة خالد
و إنّي لأرجو بعدها أن اعمّرا

ثم إنه اسلم . فلمّا كان زمن عمر قدم المدينة فرآه يقسم في المساكين .

فقال : أعطني فإنّي ذو حاجة فقال : و من أنت ؟ قال : أنا أبو شجرة . قال : أي عدوّ الله لا و اللّه أ لست القائل « فروّيت رمحي » البيت ؟ و جعل يعلو رأسه بالدرة ،

فسبقه عدوا إلى ناقته . فركبها و لحق بقومه ، و قال :

ضنّ علينا أبو حفص بنائله
و كلّ مختبط يوما له ورق 2

و في ( استيعاب ) أبي عمر : كان سواد بن قارب يتكهنّ في الجاهلية . فقال له عمر يوما : ما فعلت كهانتك يا سواد ؟ فغضب سواد ، و قال : ما كنّا عليه نحن و أنت يا عمر من جاهليتنا و كفرنا شرّ من الكهانة . فمالك تعيرني بشي‏ء تبت منه 3 ؟ و في ( الطبري ) في غزوة هوازن : « و لمّا سمع بهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث إليهم عبد اللّه بن أبي حدرد الأسلمي و أمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتّى يأتيه بخبر منهم و يعلم من علمهم . فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم فأقام معهم حتّى سمع و علم ما قد أجمعوا له من حرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و علم أمر مالك و أمر هوازن و ما هم عليه ثم أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبره الخبر . فدعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عمر ، فأخبره خبر ابن أبي حدرد . فقال عمر : كذب . فقال ابن

-----------
( 1 ) لسان العرب 12 : 527 ، مادة ( كمم ) .

-----------
( 2 ) رواه ابن الأثير في الكامل 2 : 351 ، سنة 11 ، و أيضا الطبري في تاريخه 2 : 493 ، سنة 11 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 3 ) الاستيعاب 2 : 123 .

[ 109 ]

أبي حدرد : ان تكذّبني فطال ما كذّبت بالحق يا عمر 1 .

« و يخشن مسّها » في ( عيون ابن قتيبة ) عن عمّ الأصعمي قال : كلّم الناس عبد الرحمن بن عوف أن يكلّم عمر في أن يلين لهم . فإنّه قد أخافهم حتّى إنّه قد أخاف الابكار في خدورهن . فقال عمر : إنّي لا أجد لهم إلاّ ذلك ، إنّهم لو يعلمون ما لهم عندي لأخذوا ثوبي عن عاتقي 2 .

و في ( خلفائه ) : خطب عثمان فقال : لقد عبتم علىّ أشياء ، و نقمتم امورا قد أقررتم لابن الخطاب ، مثلها ، و لكنّه و قمكم و قمعكم ، و لم يجترئ أحد يملأ بصره منه ، و لا يشير بطرفه إليه » 3 .

« و يكثر العثار فيها » قال النظام و هو أحد شيوخ المعتزلة إبداع عمر التروايح و نهيه عن متعة الحج ، و مصادرته العمّال ، و تغريبه نصر بن الحجّاج من المدينة إلى البصرة كلّ ذلك إحداث 4 .

و في ( حلية أبي نعيم ) : قدم سلمان الفارسي من سفر فتلقّاه عمر فقال له :

أرضاك للّه عبدا . قال : فبرّ حاجتي . فسكت عنه . فقال له سلمان : أترضاني للّه عبدا ، و لا ترضاني لنفسك 5 ؟

و في ( استيعاب أبي عمر ) : أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم اشترى سلمان من قوم يهود بكذا و كذا درهما ، و على أن يغرس لهم كذا و كذا من النخيل يعمل فيها سلمان حتّى تدرك . فغرس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله النخل كلّه إلاّ نخلة واحدة غرسها عمر .

فأطعم النخل كلّه إلاّ تلك النخلة . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : من غرسها ؟ فقالوا : عمر .

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 346 ، سنة 8 .

-----------
( 2 ) عيون الاخبار 1 : 12 .

-----------
( 3 ) الامامة و السياسة 1 : 28 .

-----------
( 4 ) رواه عنه الملل و النحل 1 : 59 ، و النقل بتصرف .

-----------
( 5 ) حلية الاولياء 1 : 186 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

[ 110 ]

فقلعها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و غرسها بيده فأطعمت من عامها 1 .

و روي العياشي عن أبي بكر بن حزم : أنّ رجلا توضّأ فمسح على خفيّه فصلّى . فجاء عليّ عليه السلام فوطأ على رقبته . فقال : ويلك تصلّي على غير وضوء فقال أمرني عمر . فأخذ بيده فانتهى به إليه فقال : انظر ما يروي هذا عليك و رفع صوته فقال : نعم أنا أمرته أنّ النبيّ مسح قال : قبل المائدة أو بعدها ؟

قال : لا أدري . قال : فلم تفتي ، و أنت لا تدري ؟ سبق الكتاب الخفين 2 .

و روى الخطيب في ( تاريخ بغداد ) : أنّ عمر خطب الناس بالجابية فقال :

« إنّ اللّه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء » فقال قسّ من تلك القسوس : ما يقول أميركم هذا ؟ قالوا : يقول : ان اللّه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء فقال القسّ برقست ، اللّه أعدل من أن يضلّ أحداً . فبلغ ذلك عمر . فبعث إليه . فقال : بل اللّه أضلّك ، و لو لا عهدك لضربت عنقك 3 .

قلت : اللفظ و إن ورد في القرآن ، إلاّ انّه من الآيات المتشابهة التي لا يجوز الأخذ بظاهرها ، و يجب تأويلها بدلالة العقل ، و قد دلّ اللّه تعالى على المراد بعده بقوله : و ما يضلّ به إلاّ الفاسقين . الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل و يفسدون في الأرض اولئك هم الخاسرون 4 .

و في ( أخبار حكماء القفطي ) : كان يحيى النحوي دخل على عمرو بن العاص لمّا فتح مصر و الاسكندرية ، و سمع منه عمرو كلامه في إبطال التثليث الّذي يعتقده يعقوبية النصارى أعجبه فلازمه . فقال له يحيى يوما : إنك أحطت

-----------
( 1 ) الاستيعاب 2 : 57 .

-----------
( 2 ) تفسير العياشي 1 : 297 ح 46 .

-----------
( 3 ) تاريخ بغداد 11 : 290 .

-----------
( 4 ) البقرة 26 27 .

[ 111 ]

بحواصل الاسكندرية . فما كان لك به انتفاع لا اعارضك ، و أما ما لا نفع لكم به فنحن أولى به . فقال له عمرو : و ما الّذي تحتاج إليه قال : كتب الحكمة في الخزائن الملوكية . ثم ذكر له قصّة جمعها فعجب منه عمرو ، و قال له : لا يمكنني أن آمر فيها بأمر إلاّ بعد استيذان عمر . فكتب إلى عمر ، و عرّفه قول يحيى . فكتب إليه عمر : « أمّا الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب اللّه .

ففي كتاب اللّه عنه غني ، و إن كان فيها ما يخالفه فلا حاجة إليها فتقدم بإعدامها » فشرع عمرو في تفريقها على حمّامات الاسكندرية و إحراقها في مواقدها ، و ذكروا أنها استنفدت في مدة ستة أشهر . فاسمع ما جرى و اعجب 1 .

قلت : كتب الطب ، و كثير من الفنون ليست مخالفة القرآن و لا موافقته لاختلاف موضوعها ، إلاّ أنّ الرجل لم يكن له علم بكتاب اللّه و لا بكتاب آخر .

و روى الخطيب في ( عنوان الهياج ) عن الخدري قال : خطبنا عمر فقال :

إنّي لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم ، و آمركم بأشياء لاتصلح لكم ، و إنّ من آخر القرآن نزولا آية الربا إنّه قد مات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يبيّنها لنا 2 قلت : قوله هذا يكذّب قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم 3 .

و في ( أذكياء ابن الجوزي ) قال عمر : لا تزيدوا في مهر النساء على أربعين اوقية و إن كانت بنت ذي الغصة ، يعني يزيد بن الحصين ( الّذي رأس بني الحارث مئة سنة ) فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال . فقالت امرأة من صفّ النساء طويلة في أنفها فطس : ما ذاك لك ؟ قال : و لم ؟ قالت : لأنّ اللّه عزّ

-----------
( 1 ) أخبار العلماء بأخبار الحكماء : 232 و 233 ، و النقل بتصرف .

-----------
( 2 ) رواه الخطيب في تاريخ بغداد 14 : 81 ، و المراد بآية الربا الايتان 275 276 من سورة البقرة .

-----------
( 3 ) المائدة 3 .

[ 112 ]

و جلّ قال : و آتيتم إحداهنّ قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا و إثما مبينا 1 قال عمر : إمرأة أصابت ، و رجل أخطأ 2 .

و رواه ابن أبي الحديد و في روايته . فقال عمر : كل الناس أفقه من عمر ،

حتّى ربّات الحجال . ألا تعجبون من إمام أخطأ ، و امرأة أصابت ، فاضلت إمامكم ففضلته 3 .

و قال ابن أبي الحديد : إنّ عمر مرّ يوما بشاب من فتيان الأنصار ، و هو ظمان فاستسقاه فجدح له ماء بعسل فلم يشربه ، و قال : إنّ الله تعالى يقول :

أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا 4 فقال له الفتى : إنها ليست لك و لا لأحد من أهل هذه القبلة . إقرأ ما قبلها و يوم يعرض الّذين كفروا على النار أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا 5 فقال عمر : كلّ الناس أفقه من عمر 6 .

و قال ابن أبي الحديد أيضا : و قيل : إنّ عمر كان يعسّ بالليل . فسمع صوت رجل و امرأة في بيت فارتاب فتسوّر الحائط ، فوجد امرأة و رجلا و عندهما زق خمر . فقال : يا عدوّ اللّه أكنت ترى أنّ الله يسترك و أنت على معصيته ؟ قال : إن كنت أخطأت في واحدة ، فقد أخطأت في ثلاث :

قال اللّه تعالى : و لا تجسّسوا 7 و قد تجسست ، و قال : و أتوا البيوت من أبوابها 8 و قد تسوّرت ، و قال : فإذا دخلتم بيوتا فسلّموا 9

-----------
( 1 ) النساء : 20 .

-----------
( 2 ) الاذكياء : 207 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 63 .

( 4 و 5 ) الاحقاف : 20 .

-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 63 .

-----------
( 7 ) الحجرات : 12 .

-----------
( 8 ) البقرة : 189 .

-----------
( 9 ) النور : 61 .

[ 113 ]

و ما سلّمت 1 .

و قال ابن أبي الحديد أيضا : كان الناس بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلّون عندها . فقال عمر : أراكم أيّها الناس رجعتم إلى العزّى ، ألا لا اوتى منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلاّ قتلته بالسيف كما يقتل المرتد . ثم أمر بها فقطعت 2 .

قلت : و على ما رأى تكون الصلاة في مقام إبراهيم عليه السّلام رجوعا إلى اللات و مناة .

و روى الواحدي في ( تفسيره الوسيط ) و أبو نعيم في ( حليته ) عن أبي عسيب مولى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال : خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلا فدعاني فخرجت إليه .

ثم مرّ بأبي بكر فدعاه فخرج إليه . ثم مرّ بعمر فدعاه فخرج إليه . ثم انطلق يمشي ، و نحن معه حتّى دخل حائطا لبعض الأنصار . فقال لصاحب الحائط أطعمنا بسرا . فجاء بعذق فوضعه . فأكل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه ثم دعا بماء فشرب . ثم قال : إنّكم لمسؤولون عن هذا يوم القيامة ، فأخذ عمر العذق فضرب به الأرض حتّى تناثر البسر بين يدي رسول اللّه ثم قال : إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة قال : نعم إلاّ عن ثلاث : خرقة يواري الرجل بها عورته ، أو كسرة يسدّ بها جوعته ، أو جحر يدخل فيه من الحرّ و البرد 3 .

و عن جمع ( صحيحي الحميدي ) من ( مسند عائشة ) قالت : إعتم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالعشاء حتّى ناداه عمر للصلاة فقال : نام الصبيان و النساء و في رواية ابن شهاب أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال : « و ما كان لكم أن تقرروا رسول

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 63 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 59 .

-----------
( 3 ) أخرجه الواحدي في الوسيط ، و عنه عين العبرة : 23 ، و أبو نعيم في حلية الاولياء 2 : 27 ، و أحمد في مسنده 5 : 81 ،

و رواه عن عدة طرق أخر السيوطي في الدر المنثور 6 : 389 .

[ 114 ]

الله على الصلاة » و ذلك حين صاح عمر بن الخطاب 1 .

و روى الخطيب في محمد بن علي السجستاني عن فاطمة بنت قيس الفهرية قالت : طلّقني زوجي ثلاثا . فلم يجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لي سكنى و لا نفقة ،

فرفع ذلك إلى عمر فقال : لا ندع كتاب اللّه لقول امرأة لعلّها نسيت 2 .

و أقول : الكتاب إنّما جعل السكنى و النفقة للرجعية تكون عنده لعل اللّه يحدث بعد ذلك امرا . فيراجعها و ترجع إليه لا التي لا تحل له حتّى تنكح زوجا غيره ، و لكن الرجل لم يكن من أهل فهم الكتاب فلم ردّ السنّة ؟

و ام مؤمنيهم أيضا كذّبتها كفاروقهم ، و كذّبها مروان تبعا لهما فاحتجّت بالأية . فكانت أفقه من إمامهم و من صديقتهم . روى ذلك ( سنن أبي داود ) 3 .

و روى ( الكافي ) : أنّ موضع مقام إبراهيم عليه السّلام كان عند جدار البيت ،

فحوّله أهل الجاهليّة إلى المكان الّذي هو فيه اليوم . فلمّا فتح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مكّة ردّه إلى الموضع الّذي وضعه فيه إبراهيم عليه السّلام ، فلمّا ولى عمر ردّه إلى مكان أهل الجاهلية 4 .

و قال أبو موسى كما في ( اسد الغابة ) : روى ابن شاهين باسناده ، عن ابن إسحاق ، عن ابن شهاب قال : حدّثت عن المغيرة . قال : قدمت على عمر .

فوجدته ، لا يورّث الجدّتين ام الأم و لا أم الأب قال : فقلت له : يا أمير المؤمنين قد عرفت خصماء أتوا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله يعني في الجدّة فورثها قال و وجدته لا

-----------
( 1 ) رواه عن الحميدي ابن طاووس في الطرائف 2 : 442 ، و الحديث في صحيح مسلم 1 : 441 ح 218 .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 3 : 71 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

-----------
( 3 ) أخرجه أبو داود بطرق في سننه 2 : 285 289 ، و أيضا البخاري في صحيحه 3 : 282 ، و مسلم في صحيحه 2 :

1116 1121 ، و غيرهم .

-----------
( 4 ) الكافي 4 : 223 ح 2 ، و النقل بالمعنى .

[ 115 ]

يورّث الورثة من الدية شيئا . فقلت يا أمير المؤمنين كان حمل بن مالك الهذلي تحته امرأتان إحداهما حبلى ، و إنّ امرأته الاخرى قتلت الحلبي . فرفع أمرهما إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقضى أن يعقل عن القاتلة عصبتها ، و ان يرث المقتولة ورثتها و ذكر الحديث فأقبل رجل من هذيل يقال له شريك بن وائلة إلى عمر فقصّ عليه حديث امرأتي حمل 1 .

و في ( لسان العرب ) : كان عمر جعل الثلث للإخوة للأم ، و لم يجعل للإخوة للأب و الأم شيئا . فراجعه الإخوة للأب و الأم ، و قالوا له : هب أنّ أبانا كان حمارا فأشركنا بقاربة امّنا فأشرك بينهم . فسمّيت الفريضة مشركة 2 و في ( الطبري ) : انّ وفد مصر أتوا عثمان . فقالوا له : ادع بالمصحف .

فدعابه . فقالوا له : افتح السابعة و كانوا يسمّون سورة يونس السابعة فقرأها إلى قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا قل الله اذن لكم أم على الله تفترون 3 فقالوا له : قف أرايت ما حميت من الحمى الله إذن لك أم على اللّه تفتري . قال : انّ عمر حمى قبلي لابل الصدقة . فلمّا وليت زادت ابل الصدقة فزدت في الحمي لما زادت ابل الصدقة 4 .

قلت : فعل عمر لم يكن حجّة لعثمان ، و الآية تتوجّه بعمومها عليهما و الزيادة و النقصان لا مدخليّة لهما في المشروعية و عدمها .

« و الاعتذار منها » قال ابن أبي الحديد : لمّا مات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و شاع بين الناس موته طاف عمر على الناس قائلا : « إنّه لم يمت ، و لكنّه غاب عنّا كما غاب موسى عن قومه ، و ليرجعنّ فليقطعنّ أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنّه مات »

-----------
( 1 ) اسد الغابة 2 : 398 .

-----------
( 2 ) لسان العرب 10 : 449 ، مادة ( شرك ) .

-----------
( 3 ) يونس : 59 .

-----------
( 4 ) تاريخ الطبري 3 : 390 ، سنة 35 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 116 ]

فجعل لا يمرّ بأحد يقول إنه مات إلاّ و يخبطه ، و يتوعدّه حتّى جاء أبو بكر . فقال :

أيّها الناس من كان يعبد محمدا فإنّ محمّدا قد مات ، و من كان يعبد ربّ محمّد ،

فإنه حيّ لم يمت . ثم تلا قوله تعالى : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم 1 قالوا فو اللّه لكان الناس ما سمعوا هذه الآية حتىّ تلاها أبو بكر .

و قال عمر : لمّا سمعته يتلوها هويت إلى الأرض و علمت أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد مات 2 .

قلت : و لهم اعتذارات عن هذا كالعذرات منها لعمر نفسه . فروى محمد بن اسحق عن الزهري عن أنس قال : لمّا بويع أبو بكر في السقيفة ، و كان الغد جلس أبو بكر على المنبر . فقام عمر فتكّلم قبل أبي بكر . فقال : أيّها الناس إنّي كنت قلت لكم مقالة بالأمس ما كانت إلاّ عن رأي و ما وجدتها في كتاب الله ، و لا كانت بعهد من النبيّ . و لكنيّ كنت أرى أنّ الرسول مستدبر أمرنا حتىّ يكون آخرنا موتا ، و في خبر آخر قال عمر لابن عباس : إنه أوّل آية و كذلك جعلناكم امّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا 3 على أنّ النبي سيبقى بعد امّته حتىّ يشهد عليها بآخر أعمالها 4 .

قلت : كيف ظنّ ذلك و قد منعه من الوصيّة ؟ و هل الوصيّة إلاّ لما بعد الموت ؟

و منها للشارح ابن أبي الحديد فقال : لم ينكر عمر ذلك على وجه الاعتقاد ، بل على الاستصلاح و للخوف من ثوران الفتنة قبل مجي‏ء أبي بكر فلمّا جاء أبو بكر قوي به جأشه فسكت عن هذه الدعوى لأنّه قد أمن

-----------
( 1 ) آل عمران : 144 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 60 .

-----------
( 3 ) البقرة : 143 .

-----------
( 4 ) نقله عنه ابن هشام في السيرة 4 : 228 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

[ 117 ]

بحضوره من خطب بحدث أو فساد ، فقد روى جميع أرباب السير أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما توفّي كان أبو بكر في منزله بالسنح 1 .

قلت : الامر كما قال ، إلاّ أنه دال على أنّ عمله كان عملا نفاقيا و سياسة دنيوية منقطعة عن الدين ، أراد بذلك إحكام الأمر له و لصاحبه . فلم سمّاه استصلاحا ؟ و اذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون 2 و لم قال : للخوف من ثوران الفتنة ، و عمله كان أوّل الفتن و سببا لآخرها ألا في الفتنة سقطوا 3 .

و منها لبعضهم أنّه غلب على عمر شدّة حال المصيبة فخرج عن حال العلم و المعرفة . قلت : و لعلّ لشدّة مصيبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليه بتلك الدرجة أراد إحراق أهل بيته فاطمة و الحسنين و علي عليهم صلوات اللّه .

و قال ابن أبي الحديد : قال عمر : « متعتان كانتا على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنا محرّمهما و معاقب عليهما ، متعة النساء و متعة الحج » قال : و هذا الكلام و إن كان ظاهره منكرا فله عندنا مخرج و تأويل 4 .

قلت : تأويلهم له كتأويل يحيى بن أكثم قوله تعالى : أو يزوّجهم ذكرانا و إناثا 5 بأنّ المراد تحليل اللواط .

و في ( تاريخ بغداد ) : أنّ المأمون أمر في طريق الشام بتحليل المتعة ، و كان يقول مغتاظا على قول عمر : « متعتان كانتا على عهد رسول اللّه و على عهد أبي بكر و أنا أنهى عنهما » : « من أنت يا أحول حتّى

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 129 ، شرح الخطبة 26 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) البقرة : 11 .

-----------
( 3 ) التوبة : 49 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 61 .

-----------
( 5 ) الشورى : 50 .

[ 118 ]

تنهى عمّا فعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله » 1 .

و روى ( سنن أبي داود ) : أنّ المغيرة تكنّى بأبي عيسى . فقال له عمر : أما يكفيك أن تكنّى بأبي عبد اللّه ؟ فقال : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كنّاني . فقال عمر : « إنّ النبي قد غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر ، و انّا في جلجتنا » 2 : أي ضيق كضيق الحباب على ما في النهاية 3 .

قلت : أي ربط لقوله : إنّ النبيّ قد غفر له ، إلاّ أنّه اخطأ في فعله ، و انّ ذلك كان ذنبا منه ، و ان وعده تعالى بالغفران ، مع أنّ كلّ أحد يعلم انّ فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله حجّة .

و روى أيضا عن أبي موسى الأشعري أنّه أتى عمر فاستأذن ثلاثا .

فقال : يستأذن أبو موسى ، يستأذن الأشعري ، يستأذن عبد اللّه بن قيس . فلم يؤذن له . فرجع . فبعث إليه عمر ما ردّك ؟ قال : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : يستأذن أحدكم ثلاثا فإن أذن له و إلاّ فليرجع . قال : إيتني ببينة على هذا . فذهب ثم رجع فقال : هذا أبيّ فقال ابيّ : يا عمر لا تكن عذابا على أصحاب رسول اللّه .

و روى في خبر آخر . فانطلق بأبي سعيد الخدري فشهد له . فقال عمر :

أخفي عليّ هذا من أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ؟ ألهاني الصفق بالأسواق 4 .

و رووا أنّ عمر أوّل من زاد في الأذان « الصلاة خير من النوم » مع كون العبادات توقيفية 5 .

و قال ابن أبي الحديد : و كان في أخلاق عمر و ألفاظه جفاء و عنجهية

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 14 : 199 .

-----------
( 2 ) أخرجه أبو داود في سننه 4 : 291 ح 4963 ، و الحاكم في المستدرك 3 : 450 ، و غيرهما .

-----------
( 3 ) النهاية 1 : 283 ، مادة ( جلج ) .

-----------
( 4 ) الحديثان أخرجهما أبو داود في سننه 4 : 346 ح 5181 و 5182 .

-----------
( 5 ) رواه مالك في الموطا : 57 .

[ 119 ]

ظاهرة يحسبه السامع لها انّه أراد بها ما لم يكن قد أراد ، و يتوهّم من تحكي له أنّه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده ، فمنها الكلمة التي قالها في مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و معاذ اللّه أن يقصد بها ظاهرها ، و لكنّه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته ، و لم يتحفّظ منها ، و كان الأحسن أن يقول مغمور أو مغلوب بالمرض ، و حاشاه أن يعني بها غير ذلك ، و لجفاة الأعراب من هذا الفن كثير .

سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط .

ربّ العباد ما لنا و مالكا
قد كنت تسقينا فما بدا لكا

انزل علينا لقطر لا أبا لكا

فقال سليمان : « أشهد أنّه لا أب له و لا صاحبة و لا ولد » فأخرجه أحسن مخرج 1 .

قلت : كان سليمان بن عبد الملك مع كفر بني اميّة قاطبة الشجرة الملعونة في القرآن آدب من عمر .

ثم إنه و إن أوّل قول عمر مشيرا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم « إنّ الرجل ليهجر » تأويلا هجرا كتوصية الجاحظ لصديق أبي العيناء و شكره على توصيته . فما يقول في منعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الوصيّة ، و ضلال الامة بسببه ؟ و ما يفعل في إغضابه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتىّ أخرجه من عنده ؟ فعقد ابن سعد مع نصبه في ( طبقاته ) بابا لذلك .

و روى في إسناد عن سعيد بن جبير قال : جعل ابن عباس يبكي ، و يقول :

يوم الخميس و ما يوم الخميس إشتدّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم وجعه . فقال : إيتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده ابدا فقال بعض من كان عنده :

إنّ نبيّ اللّه ليهجر فقيل له : ألا نأتيك بما طلبت ؟ قال : أو بعد ماذا ؟ فلم يدع به .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 61 .

[ 120 ]

و في إسناد آخر قال ابن عباس : يوم الخميس و ما يوم الخميس ، إشتدّ بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم وجعه في ذلك اليوم . فقال : إيتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا ، فسارعوا و لا ينبغي عندي تنازع . فقالوا : ما شأنه اهجر استفهموه ؟ فذهبوا يعيدون عليه . فقال : دعوني . فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه . الخبر .

و روى عن جابر الأنصاري قال : لمّا كان في مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم الّذي توفّى فيه دعا بصحيفة ليكتب فيها لامّته كتابا لا يضلّون و لا يضلّون . فكان في البيت لغط و كلام ، و تكلّم عمر بن الخطاب فرفضه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

و عن عبيد اللّه بن عبد الله بن عتبة قال : قال ابن عباس : لما حضر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الوفاة و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : هلم أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده . فقال عمر : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد غلبه الوجع ،

و عندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه . فاختلف أهل البيت ، و اختصموا فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و منهم من يقول ما قال عمر . فلمّا كثر اللغط ، و الاختلاف و غمّوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : قوموا عنّي . قال عبيد اللّه : فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزيّة كلّ الرزية ما حال بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم و لغطهم .

و روى عن عمر قال : كنّا عند النبيّ ، و بيننا و بين النساء حجاب . فقال :

إيتوني بصحيفة و دواة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا . فقال النسوة : إيتوا النبيّ بحاجته . فقلت : اسكتن . فإنكنّ صواحبه إذا مرض عصرتن اعينكن ، و اذا صحّ أخذتن بعنقه . فقال النبيّ : هنّ خير منكم .

و روى عن ابن عباس ، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مرضه الّذي مات فيه :

إيتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا . فقال عمر : من

[ 121 ]

لفلانة و فلانة مدائن الروم إنّ النبي ليس بميّت حتىّ نفتتحها ، و لو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو اسرائيل موسى . فقالت زينب زوج النبي : ألا تسمعون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يعهد اليكم . فلغطوا . فقال : قوموا عنّي فلمّا قاموا قبض مكانه 1 .

و روى الطبري أنّ عمران بن سودة قال لعمر : عابت امّتك اربعا . فوضع رأس درّته في ذقنه ، و اسفلها على فخذه . ثم قال : هات قال : ذكروا أنك حرّمت العمرة في أشهر الحج ، و لم يفعل ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لا أبو بكر و هي حلال .

فقال : لو أنّهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية عن حجّهم ، فكانت قائبة قوب عامها فقرع حجهم و هو بهاء من بهاء اللّه و قد أصبت . قال : و ذكروا أنّك حرّمت متعة النساء ، و قد كانت رخصة من اللّه يستمتع بقبضة ، و يفارق عن ثلاث . قال : إنّ النبيّ أحلّها في زمان ضرورة . ثم رجع الناس إلى سعة . ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها و لا عاد إليها . فالآن من شاء نكح بقبضه ،

و فارق عن ثلاث ، و قد أصبت . قال : و أعتقت الامة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها . قال : ألحقت حرمة بحرمة ، و ما أردت إلاّ الخير . قال : و تشكو منك نهر الرعية و عنف السياق . قال : فشرع الدرّة ثم مسحها 2 .

« فصاحبها كراكب الصعبة » أي : فمصاحب تلك الحوزة الخشناء الغليظ كلمها ، الخشن مسها ، الكثير العثار فيها و الاعتذار منها ، كراكب دابة صعبة و المصعب جمل لم يركب و لم يمسسه حبل . قال الشاعر :

كأنّ راكبها غصن بمروحة
إذا تدلّت به أو شارب ثمل

-----------
( 1 ) هذا الحديث أخرجه جمع كثير عن ابن عباس منهم ابن سعد في الطبقات 2 ق 2 : 36 و 37 ، و البخاري في صحيحه 1 : 32 ، و 2 : 178 و 202 ، و 3 : 91 ، و 4 : 271 ، و مسلم في صحيحه 3 : 1257 و 1259 ح 20 22 ، و أخرجه عن جابر ابن سعد في الطبقات 2 ق 2 : 36 و 37 ، و أحمد في مسنده 3 : 346 ، و عن عمر ابن سعد في الطبقات 2 ق 2 : 37 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 3 : 290 ، سنة 23 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 122 ]

و مروحة موضع تخترق فيه الريح .

قال ابن قتيبة في ( خلفائه ) : لمّا قعد عمر في الخلافة أتاه رجل فقال : أدنو منك . فإنّ لي حاجة . قال : لا . قال الرجل : إذن أذهب . فيغنيني اللّه عنك . فولىّ ذاهبا . فاتبعه عمر ببصره ثم قام فأخذ بثوبه و قال له : ما حاجتك قال : بغضك الناس و كرهك الناس . قال : و لم ويحك فقال : للسانك و عصاك 1 .

و قال ابن قتيبة أيضا : كان أهل الشام قد بلغهم مرض أبي بكر ،

و استبطؤوا الخبر . فقالوا : إنّا نخاف أن يكون الخليفة قد مات ، و ولي بعده عمر فان كان عمر هو الوالي فليس لنا بصاحب ، و إنّا نرى خلعه . فقال بعضهم : فابعثوا رجلا ترضون عقله . فانتخبوا لذلك . فقدم على عمر ،

و كان عمر قد استبطأ خبر الشام . فقال له : كيف الناس ؟ قال : صالحون ،

و هم لولايتك كارهون ، و من شرك مشفقون فأرسلوني أحلو أنت أم مر الخ 2 ؟

و من المضحك أنّ ابن قتيبة قال بعد نقل القضيتين : إنّ عمر دعا لحبّ الناس له فاستجيب له 3 .

قلت : و استجابة دعائه في ذلك كاستجابة دعائه حين موته بعد تعيينه ستّة الشورى . فقال في دعائه : « اللهمّ ألّفهم و لا تردّهم على أعقابهم ، و ولّ أمر أمّة محمّد خيرهم » فاستجيب دعاؤه فصار الأمر إلى بني امية الذين لا يعتقدون ثوابا و لا عقابا ، و كانوا يلعبون بالدين لعب الأطفال بالكرات .

هذا ، و في ( تاريخ بغداد ) : قال إسماعيل حماد بن أبي حنيفة : كان لنا جار طحّان رافضي و كان له بغلان سمّى أحدهما أبا بكر ، و الآخر عمر فرمحه ذات ليلة أحدهما فقتله فأخبر أبو حنيفة فقال : انظروا البغل الّذي رمحه الّذي سمّاه

-----------
( 1 ) الامامة و السياسة 1 : 20 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) الامامة و السياسة 1 : 20 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) الامامة و السياسة 1 : 20 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 123 ]

عمر . فنظروا فكان كذلك 1 .

قلت : و لا غرو و نظيره نقل عن الحجاج ففي ( العقد ) : أقبل رجل إلى يزيد بن أبي مسلم و كان كاتب الحجاج ، و ولاّه الوليد بعد موته مكانه فقال له : إني كنت رأيت الحجاج في المنام فقلت : ما صنع اللّه بك ؟ فقال « قتلني بكل قتيل قتلته قتلة » ثم رأيته بعد حول فقلت : ما صنع اللّه بك ؟ فقال يا عاض بظر امّه أما سألتني عن هذا عام أوّل ؟ فقال : يزيد أشهد أنّك رأيته حقا 2 .

« إن أشنق لها خرم » قد عرفت انّ المصنّف فسّره بمعنى إذا شدّد على الصعبة في جذب الزمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها : أي : خرقه ، و في ( النهاية ) : يقال « شنق لها و شنق لها » 3 .

هذا ، و في ( المقاتل ) : إنّ محمّدا و إبراهيم أبني عبد اللّه بن الحسن المثنى كانا عند أبيهما فوردت إبل لمحمّد فيها ناقة شرود لا يردّ رأسها شي‏ء . فجعل ابراهيم يحدّ النظر إليها . فقال له محمد : كأنّ نفسك تحدّثك أنّك رادّها . قال :

نعم ، قال : فإن فعلت فهي لك . فوثب إبراهيم فجعل يتغيّر لها و يتستّر بالإبل حتّى إذا أمكنته جاءها و أخذ بذنبها . فاحتملته و أدبرت تمخض بذنبها حتّى غاب عن عين أبيه . فأقبل على محمد و قال له : قد عرّضت أخاك للهلكة . فمكث هويّا . ثم أقبل مشتملا بإزاره حتّى وقف عليهما . فقال له محمد : كيف رأيت ؟

زعمت انّك رادّها ، و حابسها ، فألقى ذنبها و قد أنقطع في يده . فقال : ما أعذر من جاء بهذا 4 .

« و إن أسلس لها تقحم » قد عرفت أنّ المصنّف قال : معناه أنّه إن أرخى لها

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 13 : 364 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 5 : 288 .

-----------
( 3 ) النهاية 1 : 506 ، مادة ( شنق )

-----------
( 4 ) مقاتل الطالبيين : 211 .

[ 124 ]

شيئا مع صعوبتها تقحّمت به : أي : أدخلته في المهالك .

و تقول العرب : الجمل النّاد إذا سميّ أبوه يسكن ، و الناقة النادة إذا سميّت امّها تسكن . أنشد ابن الأعرأبي :

أقول و الناقة بي تقحم
و أنا منها مكلئزّ معصم

ويحك ما اسم امّها يا علكم 1

و ممّا قيل في التشبيه بمركوب سوء قول شاعر :

و صاحب السوء كالداء العياء إذا
ما ارفضّ في الخوف يجري متهاونا

كمهر سوء إذا رفعت سرته
رام الجماح و إن خفضته حرنا

و قال عمرو بن سعيد الأشدق في وصف يزيد بن معاوية « فهو ان عضّ نهش ، و ان سطا فرس » .

لقيت خولة بنت حكيم التي نزلّت فيها قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها 2 عمر حين خرج و يده على المعلى بن جارود فقالت : كنّا نعرفك مدّة عميرا . ثم صرت من عمير عمر ثم صرت من بعد عمر أمير المؤمنين .

فاتق اللّه يا ابن الخطاب ، و انظر في امور الناس 3 .

و في ( معارف ابن قتيبة ) عن سماك بن حرب : كان عمر أروح 4 ،

و الأروح الّذي إذا مشى تتباعد صدور قدميه و تتدانى عقباه و كان خالد بن الوليد يسمّيه الأعيسر ، و الأعسر الّذي يعمل بيساره .

« فمني الناس » أي : ابتلوا .

« لعمر اللّه » قال الجوهري : إذا جئت باللام مع عمر بالفتح رفع لأنّ التقدير

-----------
( 1 ) أورده لسان العرب 12 : 464 ، مادة ( قحم ) ، و أساس البلاغة : 356 ، مادة ( قحم ) .

-----------
( 2 ) المجادلة : 1 .

-----------
( 3 ) اخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 4 : 291 ، و ابن حجر في الاصابة 4 : 290 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 4 ) المعارف : 181 .

[ 125 ]

« لعمر اللّه قسمي » و بدونها نصبت نصب المصادر تقول : « عمر اللّه ما فعلت » و معناهما أحلف ببقاء اللّه و دوامه 1 .

قلت : و الصواب أن يقال : إنّ الثاني منصوب بنزع الخافض لأنّ الأصل في عمر اللّه بعمر اللّه . قال عمر بن أبي ربيعة :

قالت لتربيها بعمركما
هل تطمعان بأن نرى عمرا 2

نعم إذا قيل « عمرك الله » ينصب بالمصدر قال عمر بن أبي ربيعة :

أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يجتمعان 3

لأنّه حينئذ للدعاء و الأصل عمرك اللّه عمرا .

« بخبط » يقال : خبط عشواء للناقة التي في بصرها ضعف فتضرب بيدها الأرض إذا مشت لا تتوقى شيئا .

و يقال لمن لا شي‏ء له : « ما له خابط و لا ناطح » أي : بعير و لا ثور ، و الخبط ضرب الشجر لتناثر ورقة .

و الرجل كان مختبطا في الجاهلية ، و خابطا في الاسلام أما اختباطه في الجاهلية . ففي ( نهاية الجزري ) : قال عمر : « لقد رأيتني بهذا الجبل أحتطب مرّة ،

و أختبط اخرى » أي : أضرب الشجر لينتثر الخبط منه 4 .

و أمّا خبطه في الاسلام . فقال عبيدة السلماني على نقل الجاحظ عن النظام عنه : إنّي لأحفظ من عمر مئة قضيّة في الحدّ كلها ينقض بعضها بعضا ،

مع أنّه قال : أجرأكم على الحد أجرأكم على النار 5 .

-----------
( 1 ) صحاح اللغة 2 : 756 ، مادة ( عمر ) ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) أورده أساس البلاغة : 313 ، مادة ( عمر ) .

-----------
( 3 ) اورده لسان العرب 4 : 601 ، مادة ( عمر ) .

-----------
( 4 ) النهاية 2 : 8 ، مادة ( خبط ) .

-----------
( 5 ) رواه عنه الشريف المرتضى في الفصول المختارة 1 : 160 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 126 ]

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : أنّ عمر قال لابنه لمّا قال له الطبيب بعد ضربه : لا أرى أن تمسي : ناولني الكتف . فلو أراد اللّه أن يمضي ما فيه أمضاه ، فمحاها بيده و كان فيها فريضة الجد 1 .

و قال النظام : و ليس يشبه رأي عمر صنيعه حين خالف أبيّ بن كعب و ابن مسعود في الصلاة في ثوب واحد لأنّه حين بلغه ذلك خرج مغضبا حتىّ أسند ظهره إلى حجرة عائشة و قال : إختلف رجلان من أصحاب النبيّ ممّن يؤخذ عنه لا أسمع أحدا يختلف في الحكم بعد مقامي هذا إلاّ فعلت به و صنعت . أفترى أنّ عمر نسبي اختلاف قوله في الأحكام حتّى أنكر ما أظهر من الاختلاف بين الرجلين ؟ كلاّ ، و لكنّه كان يناقض و يخبط خبط عشواء 2 .

و من خبطاته مشاطرته عمّاله ، و عدّها النظام من أحداثه 3 ، و في ( تاريخ اليعقوبي ) : شاطر عمر جماعة من عمّاله ، سعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة ، و عمرو بن العاص عامله على مصر ، و أبا هريرة عامله على البحرين إلى أن قال و يعلى بن منية عامله على اليمن ، و امتنع أبو بكرة من المشاطرة ،

و قال لعمر : و اللّه لئن كان هذا المال للّه ، فلا يحلّ لك أن تأخذ بعضا و تترك بعضا ، و إن كان لنا ، فمالك أخذه إلى أن قال و لم يكن يموت لمعاوية عامل إلاّ شاطر ورثته ماله . فكان يكلّم في ذلك فيقول هذه سنّة سنّها عمر 4 .

و من خبطه ما قالوا : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال يوم بدر في أوّل الوقعة : « لا يقتل أحد من بني هاشم فإنهم اخرجوا كرها ، و من لقي العباس بن عبد المطلب عمّي لا يقتله إنّما اخرج مكرها » فقال أبو حذيفة بن عتبة : « أ يقتل آباؤنا

-----------
( 1 ) الامامة و السياسة 1 : 21 .

-----------
( 2 ) رواه عنه الشريف المرتضى في الفصول المختارة 1 : 160 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) رواه عنه الشهرستاني في الملل و النحل 1 : 59 .

-----------
( 4 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 157 و 222 .

[ 127 ]

و أبناؤنا و إخواننا و عشائرنا ، و نترك العباس ، و اللّه لئن لقيته لالحمنه السيف » فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعمر : « أ يضرب وجه عم رسول اللّه بالسيف » ؟ فقال عمر :

« دعني أضرب عنق أبي حذيفة بالسيف فو اللّه لقد نافق » 1 .

مع أنّه بعد ختم بدر جاء عمر نفسه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال له : « أطعني في ما اشير به عليك فإنّي لا آلوك نصحا . قدّم عمك العباس فاضرب عنقه بيدك . و قدّم عقيلا إلى عليّ أخيه يضرب عنقه » فكره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قوله الخ 2 فنسي قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أوّل الوقعة . فأراد ضرب عنق أبي حذيفة لأنّه لم يكترث بقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « لا تقتلوا عمّي فإنّه كان مكرها على الخروج » ثم يقول للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : إضرب عنقه .

و يحلف أنّ أبا حذيفة نافق مع أنه كان مسلما ، و إنما قال ما قال عن العاطفة البشرية بلا قصد ، فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قتل أباه و أخاه و عمه في تلك الغزوة . فقال ما قال ، و كان في عمره يقول : ما أنا بآمن من تلك الكلمة ، و لا أزال خائفا أبدا .

و كان قول أبي حذيفة ذاك نظير قول سودة زوج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا رأت اسارى قومها : « أعطيتم بأيديكم ؟ ألا متّم كراما ؟ » فقال لها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : يا سودة « أ على اللّه و رسوله ؟ » فقالت : و الذي بعثك بالحق . ما ملكت نفسي حين رأيتهم 3 .

و من خبطه و خبط صاحبه أنّهما لم يقبلا قول فاطمة عليها السلام إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أعطاها فدك مع شهادة اللّه تعالى لها بالعصمة في قوله جلّ و علا :

-----------
( 1 ) رواه ابن اسحاق في المغازي و عنه شرح ابن أبي الحديد 3 : 356 ، شرح الكتاب 9 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) المصدر نفسه .

-----------
( 3 ) رواه الواقدي في المغازي 1 : 118 ، و ابن هشام في السيرة 2 : 209 .

[ 128 ]

إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا 1 و كونها أقرب الخلق إليه تعالى من النساء في قوله عزّ اسمه : و نساءنا و نساءكم و شهادة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بجلالها و كونها سيّدة نساء العالمين ، و أنّ رضاها رضاه و سخطها سخطه ، و كانا يقبلان قول كل من ادّعى أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم وعده وعدا .

ففي ( فتوح البلاذري ) : أمر المأمون في سنة ( 210 ) بردّ فدك إلى ولد فاطمة عليها السلام ، و كتب إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة : « أمّا بعد فإنّي بمكاني من دين اللّه ، و خلافة رسوله و القرابة به أولى من استنّ سنّته ، و نفذ أمره ،

و سلّم لمن منحة منحة ، و تصدّق عليه بصدقة ، منحته و صدقته ، و باللّه توفيقي و عصمتي ، و إليه في العمل بما يقرّبني إليه رغبتي ، و قد كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أعطى فاطمة بنته فدك و تصدّق بها عليها ، و كان ذلك أمرا ظاهرا معروفا لا اختلاف فيه بين آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فرأيت أن اردّها إلى ورثتها ، و اسلّمها إليهم ،

تقرّبا إلى اللّه تعالى بإقامة حقّه و عدله و إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم بتنفيذ أمره و صدقته . فأمرت بإثبات ذلك في دواويني ، و الكتاب به إلى عمّالي فلأن كان ينادى في كلّ موسم بعد أن قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يذكر كلّ من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله و ينفذ عدته إنّ فاطمة لأولى أن يصدّق قولها في ما جعل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم لها ، و قد كتبت إلى المبارك الطبري مولاي أمرته بردّ فدك على ورثتها . الخ 2 .

و أقول للمأمون : لا تعجب من عملهما في قبول كلّ من أدّعى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم صدقة أو هبة أو عدة و عدم قبول قول بنته مع ذاك المقام . فأرادا

-----------
( 1 ) الاحزاب : 33 .

-----------
( 2 ) فتوح البلدان : 46 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 129 ]

بما عملا مع الناس بأن يقولا نحن ننجز عدات النبي و نقضي ديونه في مقابل أمير المؤمنين عليه السّلام الّذي كان مأمورا بذلك من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و أرادا بما عملا معها استيصال أهل البيت عليه السّلام كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام في شكايته « بلى كانت في أيدينا فدك إلى قوله و نعم الحكم اللّه » 1 .

و من خبطه أنّه يقول للزبير بعد جعله في الشورى و ذكر عيوبه : « أنت يوما انسان و يوما شيطان ، فمن يكون إمام الناس يوم تكون شيطانا ؟ » 2 مع أنّ أبابكر الّذي نصبه هو أقرّ بأنّ له شيطانا يعتريه ، و رأى ذلك منه عيانا في قصّة مالك بن نويره و غدر خالد بن الوليد عامله به ، و قتله له مع اسلامه و زناه بامرأته و مداهنة أبي بكر في ذلك .

و من خبطه أنه يقول لطلحة بعد تعيينه في الشورى : « أما إنّي أعرفك منذ اصيبت اصبعك بالبأ و الّذي أحدث لك ، و لقد مات النبي ساخطا عليك للكلمة التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب » 3 قال الجاحظ : يعني عمر أنّ آية الحجاب لمّا نزلت قال طلحة : « ما الذي يغنيه حجابهن اليوم ، و سيموت غدا فننكهحن » فنقل ذلك عنه للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

قال الجاحظ : « لو قال قائل لعمر » أنت قلت أوّلا : « إنّ النبي مات و هو راض عن هؤلاء طلحة و غيره » و تقول ثانيا : « مات النبي ساخطا على طلحة لتلك الكلمة » لكان رماه بمشاقصه ، و لكن من كان يجسر أن يقول لعمر مادون هذا فكيف هذا 4 ؟

و من خبطه عدم تسويته في العطاء مع كونه خلاف الكتاب و السنة . قال

-----------
( 1 ) نهج البلاغة 3 : 71 ، الكتاب 45 .

-----------
( 2 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 62 ، شرح الخطبة 3 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 3 ) رواه الجاحظ في السفيانية ، و عنه شرح ابن أبي الحديد 1 : 62 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 62 .

[ 130 ]

الإسكافي في ( نقض عثمانيته ) : قال عليّ عليه السّلام لطلحة و الزبير : ألا تخبرانني أدفعتكما عن حق وجب لكما ظلمتكما إيّاه ؟ قالا : معاذ اللّه إلى أن قال فقال لهما : فما الّذي كرهتما من أمري حتّى رأيتما خلافي ؟ قالا : لخلافك على عمر ابن الخطاب في القسم . إنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا إلى أن قال فقال عليه السّلام لهما : و أما القسم و الاسوة : فإنّ ذلك لم أحكم فيه بادئ بدء ، فقد وجدت أنا و أنتما الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم يحكم بذلك ، و كتاب اللّه ناطق به و هو الكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 1 .

و من خبطه مخالفته النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في الصوم في السفر ، و في بقائه على حجّ الإفراد في حجّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع أمره الناس بالعدول إلى حجّ التمتع .

و من خبطه ردّه شهادة المملوكين . فقد روي عن الصادق عليه السّلام أنّه أوّل من فعل ذلك 2 ، و جمعه الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز ، ففي ( أوائل العسكري ) أنّه أوّل من فعل ذلك 3 .

و في ( الطبري ) في غزوة حنين : قال ابن إسحاق : لمّا سمع بهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعث إليهم عبد اللّه بن أبي حديد الأسلمي و أمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبر منهم و يعلم من علمهم . فانطلق ابن أبي حديد فدخل فيهم فأقام معهم حتّى سمع و علم ما قد أجمعوا له من حرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و علم أمر مالك و أمر هوازن و ما هم عليه ، ثم أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأخبره الخبر . فدعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم عمر فأخبره خبر ابن أبي حديد . فقال عمر :

كذب فقال ابن أبي حديد : ان تكذّبني فطالما كذبت بالحق يا عمر 4 .

-----------
( 1 ) لم يوجد في النسخة المطبوعة من النقض على العثمانية .

-----------
( 2 ) اخرجه الكليني في الكافي 7 : 389 ح 2 و الطوسي في التهذيب 6 : 248 ح 38 ، و في الاستبصار 3 : 15 ح 1 .

-----------
( 3 ) الأوائل : 133 .

-----------
( 4 ) تاريخ الطبري 2 : 346 ، سنة 8 .

[ 131 ]

و في ( استيعاب أبي عمر ) : « كان أبو خراش الهذلي ممن يعدو على قدميه . فيسبق الخيل . فأتاه نفر من أهل اليمن قدموا حجّابا ، و الماء منهم غير بعيد . فقال : يا بني عم ما أمسى عندنا ماء و لكن هذه برمة و شاة . فردوا الماء و كلوا شاتكم ثم دعوا برمتنا ، و قربتنا على الماء حتىّ نأخذها فقالوا : لا و اللّه ما نحن بسائرين في ليلتنا هذه . فلمّا رأى ذلك أبو خراش أخذ قربة و سعى نحو الماء تحت الليل حتىّ استقى . ثم استقبل صادرا . فنهشته حيةّ قبل أن يصل إليهم . فأقبل مسرعا حتىّ أعطاهم الماء ، و قال اطبخوا شاتكم و كلوا ، و لم يعلمهم ما أصابه . فباتوا على شاتهم يأكلون حتّى أصبحوا ، و أصبح أبو خراش في الموتى . فلم يبرحوا حتىّ دفنوه . فبلغ خبره عمر ، فغضب غضبا شديدا ، و قال : لو لا أن تكون سنّة لأمرت ألاّ يضاف يمان أبدا ، و لكتبت بذلك إلى الآفاق . ثم كتب إلى عامله باليمن بأن يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش الهذلي فيلزمهم ديته ، و يؤذيهم بعد ذلك بعقوبة يمسّهم بها جزاء لفعلهم » 1 فهل ما فعله إلاّ خبط خبيط ؟ فلم يلزمون الدية و لم يعاقبون .

و في ( كامل الجزري ) : « قال الواقدي : أوّل من جمع الناس على إمام يصلّى بهم التراويح في شهر رمضان ، و كتب به إلى البلدان و أمرهم به ،

عمر » 2 ، و قال اليعقوبي : « فقيل له : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم يفعله ، و إنّ أبا بكر لم يفعله فقال : إن تكن بدعة ، فما أحسنها من بدعة » 3 .

« و شماس » من قولهم : « بالفرس شماس » قال الجوهري : يقال : « شمس الفرس شموسا و شماسا : أي : منع ظهره ، و هو فرس شموس و به شماس » 4 ،

-----------
( 1 ) الاستيعاب 4 : 58 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) رواه ابن الأثير في الكامل 3 : 59 ، سنة 23 ، و أيضا الطبري في تاريخه 3 : 277 ، سنة 23 ، و لم يروه عن الواقدي .

-----------
( 3 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 140 .

-----------
( 4 ) صحاح اللغة 2 : 937 ، مادة ( شمس ) .

[ 132 ]

و قال ابن دريد : « و به سمّي الرجل شمّاسا » 1 .

في ( الطبري ) : قال الشعبي : لم يمت عمر حتىّ ملّته قريش ، و قد كان حصرهم بالمدينة فامتنع عليهم ، و قال : « إنّ أخوف ما أخاف على هذه الامّة انتشاركم في البلاد » فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو ، و هو ممّن حبس بالمدينة من المهاجرين ، و لم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكّة فيقول : قد كان في غزوك مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما يبلغك الخبر 2 .

و قال الحسن البصري : كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلاّ بإذن و أجل . فشكوه فبلغه . فقام فقال : « ألا إنّي قد سننت الاسلام سنّ البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيّا ثم رباعيا ثم سديسا ثم بازلا ، ألا فهل ينتظر بالبازل إلاّ النقصان ؟ ألاّ فإنّ الاسلام قد بزل .

ألا و إنّ قريشا يريدون أن يتّخذوا مال اللّه معونات دون عباده . ألا فأمّا و ابن الخطاب حيّ فلا . إنّي قائم دون شعب الحرّة ، آخذ بحلاقيم قريش و حجزها أن يتهافتوا في النار 3 .

قلت : إنّما منع المهاجرين من الجهاد المفروض في الاسلام في حياته لئلاّ يخلوا بسلطنته ، لكنّه جعل الأمر بعده بين ستّة حتّى لا يصفو الأمر لأمير المؤمنين عليه السّلام يوم يصير إليه كما دبّر لتأخيره .

و بشّر قريشا في قوله : « أما و ابن الخطاب حي فلا » أن من يستخلفه لهم يفعل لهم ما يريدون من اتخاذهم مال الله دون عباده .

و إنما شكت قريش منه لأنهم إنما حوّلوا الأمر عن معدنه إليه و إلى صاحبه ليكون ذلك وسيلة لهم إلى غرضهم في اتّخاذهم مال اللّه دون عباده

-----------
( 1 ) جمهرة اللغة 3 : 23 ، مادة ( شسم ) .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 3 : 426 ، سنة 35 .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 3 : 426 ، سنة 35 .

[ 133 ]

و قد مرّ أنّ عمر قال لابن عباس : « نظرت قريش في اختيارهم لهما فاختاروهما » .

و في ( تاريخ اليعقوبي ) : قال عبد الرحمن بن عوف لعمر : لم تمنعنا من الجهاد ؟ فقال له : « لأن أسكت عنك فلا اجيبك خير لك من أن اجيبك » ، ثم اندفع يحدّث عن أبي بكر حتّى قال : « كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه شرّها ، فمن عاد لمثلها فاقتلوه » 1 .

و يقال له : الأصل في خلافتك استخلاف أبي بكر لك ، و الأصل في خلافة ذاك بيعته . فإذا كانت فلتة و استحق من عاد لمثلها القتل . فبأي سبب تصديت للخلافة .

هذا ، و معنى قول عمر : « كانت بيعة أبي بكر فلتة » أنّ الدعوة إلى إنسان بالاتفاق عليه أمر غير ممكن عادة ، و إنما حصلت صدفة لأبي بكر بعدم حضور بني هاشم الذين كانوا أصحاب الأمر باشتغالهم بتجهيز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلما حضر أمير المؤمنين عليه السلام بعد ذلك ، و ادّعى حقّه قال له بشير بن سعد : لو كنت حضرت أوّلا ما تخلف عنك أحد من الأنصار .

و بحسد بشير بن سعد لشخص ابن عمّه سعد بن عبادة ، و بحسد الأوس للخزرج طائفة سعد بن عبادة ، و عدم وجود سابقة لقريش حتّى يمكنهم ادعاء الأمر لأنفسهم ، و لم يكن لهم بدّ إلاّ مساعدة أبي بكر حتّى يكون واسطة لهم في الأمر كما اعترف به عمر في قوله لابن عباس كما مر ، و وجود جدّ مثل جد عمر في قبال من خالف حتّى بإعمال ضرب الأعناق و الإحراق بالنار ، حتّى أنّ النظام قال : إنّما نصب أبابكر عمر فقط 2 .

-----------
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 158 .

-----------
( 2 ) نقله عنه الشهرستاني في الملل و النحل 1 : 59 .

[ 134 ]

و روى ( سنن أبي داود ) عن عبد اللّه بن كعب بن مالك الأنصاري أنّ جيشا من الأنصار كانوا بأرض فارس مع أميرهم ، و كان عمر يعقب الجيوش في كلّ عام فشغل عنهم ، فلمّا مرّ الأجل قفل أهل ذلك الثغر . فاشتدّ عليهم و توعّدهم ، و هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقالوا : يا عمر إنّك غفلت عنّا ،

و تركت فينا الّذي أمر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من إعقاب بعض الغزية بعضا .

و روى أيضا عن عبد الرحمن بن أبزي قال : كنت عند عمر فجاءه رجل .

فقال : إنّا نكون بالمكان الشهر و الشهرين . فقال عمر : أمّا أنا فلم أكن اصلّي حتّى أجد الماء . فقال له عمّار : أما تذكر إذ كنت أنا و أنت في الإبل فأصابتنا جنابة فأمّا أنا فتمعّكت . فأتينا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فذكرت ذلك له فقال : إنّما يكفيك الخبر و رواه بإسناد آخر و فيه « أ فلم تر عمر لم يقنع بقول عمّار » 1 .

« و تلّون » فكان في كل وقت بلون ، فكان لم يأخذ القصاص من الزبير مع عدم خوف الكفر عليه ، و اقتصّ من جبلة بن الأيهم من صنائع ملوك الروم مع قرب عهده بالاسلام و انتظار الارتداد منه .

فروى زيد بن أسلم عن أبيه قال : خلا عمر لبعض شأنه ، و قال : أمسك علي الباب . فطلع الزبير فكرهته حين رأيته . فأراد أن يدخل . فقلت : هو على حاجة ، فلم يلتفت إلىّ ، و أهوى ليدخل . فوضعت يدي في صدره فضرب أنفي فأدماه . ثم رجع فدخلت على عمر . فقال : من فعل بك هذا ؟ قلت : الزبير . فأرسل إلى الزبير ، فلمّا دخل جئت ، فقمت لأنظر ما يقول له ، فقال له : « ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس » فقال الزبير : يحكيه و يمطط في كلامه « ادميتني للناس » أتحتجب عنّا يا ابن الخطّاب . فواللّه ما احتجب عنّي النبي و لا أبو بكر .

-----------
( 1 ) أخرج الاحاديث أبو داود في سننه 1 : 87 89 ح 321 326 ، و 3 : 138 ح 2960 ، و النقل بتلخيص .

[ 135 ]

فقال عمر كالمعتذر : « إني كنت في بعض شأني » قال أسلم : فلمّا سمعته يعتذر إليه يئست من أن يأخذ لي بحقّي منه ، و خرج الزبير . فقال عمر : إنّه الزبير و آثاره ما تعلم 1 .

قلت : هل من كان له آثار يسقط التكليف عنه ، و له أن يعمل ما شاء ؟ و إنّما خاف عمر إذا اقتصّ منه تزلزل سلطنته و خروجه عليه .

و قصّة جبلة في لطمه رجلا من السوقة في المطاف و أمر عمر باقتصاص الرجل منه ، و ارتداد جبلة لذلك و لحوقه بملوك الروم ثانيا معروفة ، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان أعطى من غنائم حنين أبا سفيان و معاوية و عيينة و الأقرع و نظراءهم من المؤلفة مئة بعير ، و لم يعط الأنصار مع سوابقهم في الاسلام شيئا ، و اعتذر إليهم بأنّى تألّفت بما فعلت اولئك ،

و وكلتكم إلى إيمانكم .

و من تلوّنه أنه ضرب ابنه الحدّ ثانيا حتّى انجرّ إلى هلاكه مع إجراء عمرو بن العاص الحدّ عليه ، و أبطل حدّ الزنا في المغيرة ، و حدّ شرب الخمر في قدامة بن مظعون .

أمّا ضربه ابنه أي : عبد الرحمن بن عمر ، فرووا أنّه شرب فضربه عمرو بن العاص الحد في بيته . فأتاه كتاب عمر : « ويحك تضرب عبد الرحمن بن عمر في داخل بيتك ، و تحلق رأسه في داخل بيتك ؟ فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتّى يعرف سوء ما صنع » فكتب إليه عمرو بن العاص :

« إنّي ضربته في صحن الدار و باللّه الّذي لا يحلف بأعظم منه إنّه الموضع الّذي اقيم فيه الحدود على المسلمين إلى أن قالوا فادخل عليه في عباءة ، و هو لا يقدر على المشي ، من مركبه فقال : يا عبد الرحمن فعلت و فعلت . السياط

-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 105 ، شرح الخطبة 226 .

[ 136 ]

السياط . فكلّمه عبد الرحمن بن عوف ، و قال له : قد اقيم عليه الحدّ مرّة فلم يلتفت إليه و زبره ، فأخذ في الصياح ، أنا مريض ، و أنت و اللّه قاتلي . فلم يرقّ له حتّى استوفى الحدّ و حبسه . ثم مرض شهرا و مات 1 .

و أمّا تعطيله حدّ الزنا على المغيرة . ففي ( الأغاني ) : انّ المغيرة كان يخرج من دار الامارة في البصرة لمّا كان و اليا عليها من قبل عمر ، و كان أبو بكرة يلقاه فيقول : أين يذهب الأمير ، فيقول : إلى حاجة . فيقول له : إنّ الأمير يزار و لا يزور . و كانت المرأة التي يأتيها المغيرة جارة لأبي بكرة . فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أخويه نافع و زياد ، و رجل آخر يقال له شبل بن معبد ،

و كانت غرفة تلك المرأة بحذاء غرفة أبي بكرة . فضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته . فنظر القوم ، فإذا هم بالمغيرة ينكحها ، فقال أبو بكرة : هذه بلية ابتليتم بها ، فانظروا . فنظروا حتى أثبتوا ، فنزل أبو بكرة حتّى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له : إنّه كان من أمرك ما قد علمت ، فاعتزلنا إلى أن قال فجلس عمر و دعا بالمغيرة و الشهود . فتقدّم أبو بكرة فقال له : أرأيته بين فخذيها قال : نعم و اللّه لكأنّي أنظر تشريم جدري بفخذيها . فقال له المغيرة : لقد ألطفت النظر . فقال له : ألم أك قد أثبت ما يخزيك اللّه به . فقال له عمر : حتّى تشهد لقد رأيته يلج فيه كما يلج المرود في المكحلة . فقال : نعم .

أشهد على ذلك فقال له : إذهب مغيرة ذهب ربعك . ثم دعا نافعا فقال له : علام تشهد ؟ قال : على مثل شهادة أبي بكرة قال : لا . حتّى تشهد أنّه يلج فيه و لوج المرود في المكحلة فقال : نعم . حتّى بلغ قذذه . فقال : إذهب مغيرة ذهب نصفك .

ثم دعا الثالث فقال : علام تشهد ؟ قال : على مثل شهادة صاحبيّ . فقال :

عليّ عليه السّلام إذهب مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك إلى أن قال

-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد 3 : 123 ، شرح الخطبة 226 ، و ابن عبد البر في الاستيعاب 2 : 403 ، و غيرهما .

[ 137 ]

فلمّا رأى عمر زيادا مقبلا قال : إنّي لأرى رجلا لن يخزي اللّه على لسانه رجلا من المهاجرين إلى أن قال قال عبد الكريم بن رشيد قال أبو عثمان الهندي : لمّا شهد عند عمر الشاهد الأوّل على المغيرة تغيّر لذلك لون عمر . ثم جاء آخر . فشهد فانكسر انكسارا شديدا . ثم جاء رجل شاب يخطر بين يديه فرفع عمر رأسه إليه و قال له : ما عندك يا سلح العقاب ؟ قال ابن رشيد : و صاح أبو عثمان صيحة تحكي صيحة عمر لقد كدت ان يغشى عليّ ، و قال آخرون قال المغيرة : فقمت فقلت : يا زياد و الله لو كنت بين بطني و بطنها ما رأيت أين سلك ذكرى منها . فبرقت عينا زياد و احمرّ وجهه ، و قال لعمر : أما إنّ احقّ ما حقّ اليوم فليس ذلك عندي ، و لكنّي رأيت مجلسا قبيحا ، و سمعت أمرا حثيثا و انبهارا و رأيته متبطنها . فقال له : أرأيته يدخله كالميل في المحكلة ؟ فقال : لا .

و قال غير هؤلاء : إنّ زيادا قال له : رأيته رافعا برجليها ، و رأيت خصيتيه تتردان بين فخذيها ، و رأيت خفرا شديدا ، و سمعت نفسا عاليا . فقال له عمر : أرأيته يدخله و يخرجه كالميل في المكحلة ؟ فقال : لا فقال عمر « اللّه اكبر . قم يا مغيرة إليهم فاضربهم » إلى أن قال فقال أبو بكرة بعد أن ضرفإنّي أشهد أنّ المغيرة فعل كذا و كذا . فهمّ عمر بضربه . فقال له عليّ عليه السّلام إن ضربته رجمت صاحبك إلى أن قال .

فلمّا ضربوا الحد قال المغيرة : « الله أكبر ، الحمد لله الّذي أخزاكم » فقال له عمر : « أسكت . أخزى الله مكانا و اراك » إلى أن قال .

و وافقت ام جميل التي رمي بها المغيرة عمر بالموسم و المغيرة هناك فقال عمر للمغيرة : أتعرف هذه قال : نعم . هذه ام كلثوم بنت علي فقال له عمر « أ تتجاهل علي ، و اللّه ما أظنّ أبا بكرة كذب عليك و ما رأيتك إلاّ خفت أن ارمى بحجارة من السماء » إلى أن قال

[ 138 ]

قال أبو جعفر : قال عليّ عليه السّلام : « لئن لم ينته المغيرة لأتبعنه أحجاره » و قال غيره : « و قال عليّ عليه السّلام : لئن أخذت المغيرة لأتبعنه أحجاره » إلى أن قال .

و لمّا شخص المغيرة إلى عمر رأى في طريقه جارية فأعجبته فتزوجها . فلمّا قدم بها على عمر قال له : « إنّك لفارغ القلب طويل الشبق » 1 .

و إنما أبطل عمر حدّ المغيرة لاحتياجه إليه لدهائه ، و إلاّ فغير شهادة الشهود ، و ان منع زيادا من تكميل شهادته بتلك الكلمة كان المغيرة نفسه يقرّ ،

فلمّا قال أبو بكرة : لكأنّي أنظر إلى تشريم جدري بفخذ تلك المرأة قال له المغيرة : « لقد الطفت النظر » كما مرّ .

و قال لزياد : « و اللّه لو كنت بين بطني و بطنها ما رأيت أين سلك ذكري منها » فأيّ إقرار أصرح من هذا ؟ و من العجب أنّ إقراريه ذينك كانا بمحضر عمر .

ثم ليس مكالمة عمر و المغيرة لما قال له : أتعرف هذه و أشار إلى المرأة التي زنابها فقال : « نعم هذه ام كلثوم بنت علي » إلاّ مكالمة المنافقين في الاستهزاء بالدين ، و لو كانت امرأة عمر بدوية ما أجترأ المغيرة مع اطمينان خاطره من قبل عمر أن يقول له هذه أمرأتك إلاّ أنّه لمّا كان يعرف معاداته لأمير المؤمنين عليه السّلام لم يخف من ذاك القول .

و لقد صرّح بإبطال عمر الحدّ عمدا سيّد شباب أهل الجنة ، و من شهد له القرآن بعصمته ، و كونه أقرب الخلق إليه جلّ و علا كباقي الخمسة أهل الكساء الحسن بن عليّ عليه السّلام فقال للمغيرة في مجلس معاوية كما رواه الزبير بن

-----------
( 1 ) الأغاني 16 : 95 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

[ 139 ]

بكّار في ( مفاخراته ) : « لقد درأ عمر عنك حقّا اللّه سائله عنه » 1 .

و قد عرفت قول أمير المؤمنين عليه السّلام لعمر : « إن ضربت أبا بكرة رجمت صاحبك » و قوله عليه السّلام : « لئن لم ينته المغيرة أو لئن أخذت المغيرة لاتبعنه أحجاره » و في تعبيره عليه السّلام عن المغيرة بصاحبك دليل أيضا على أنّ عمر أبطل الحدّ عنه .

ثم لو لم يكن عمر عطّل حدّه عمدا لم يقل له : « ما رأيتك إلاّ خفت أن أرمى بحجارة من السماء » فإنّ الامام إذا لم يثبت عنده حدّ على حدّه ليس عليه في تركه مؤاخذة عند اللّه تعالى ، بل المؤاخذة عليه في إجرائه و لو مع علمه .

و مما يشهد أنّه عطّل الحدّ رعاية لجانب المغيرة أنّه بعد صدور هذا العمل عنه في البصرة ، و اشتهاره بين أهلها ، و خوضهم في ذلك ، غضب عليه في الظاهر فعزله عنها ، لكن رفع درجته في الباطن فجعله أمير الكوفة . فصار ذلك مثلا بين الناس . قال ابن قتيبة في ( عيونه ) : قال ابن سيرين : كان الرجل يقول غضب اللّه عليك كما غضب الخليفة على المغيرة ، عزله عن البصرة ،

و استعمله على الكوفة 2 .

و يقال لعمر في قوله للمغيرة : « إنك لفارغ القلب » في تزوجه بجارية في طريق الإتيان به لإقامة الحدّ عليه إنّ فراغ قلبه إنّما كان من قبلك ، و كيف لا و تاسّف عمر في كون مكان زناه مكشوفا ، فقال له : « أخزى اللّه مكانا و اراك » .

و أمّا تعطيله حدّ الشرب على قدامة بن مظعون و كانت اخت عمر تحته و اخت قدامة تحت عمر ففي ( الاستيعاب لأبي عمر ) : إستعمل عمر قدامة بن مظعون على البحرين ، فقدم الجارود سيّد عبد القيس على عمر من البحرين ،

-----------
( 1 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 104 ، شرح الخطبة 82 .

-----------
( 2 ) عيون الاخبار 1 : 216 .

[ 140 ]

و قال له : إنّ قدامة شرب فسكر ، و إنّي رأيت حدّا من حدود اللّه حقّا عليّ أن أرفعه إليك . فقال عمر : من يشهد معك ؟ قال : أبو هريرة . فدعي و قال له :

بم تشهد ؟ فقال : لم أراه يشرب ، و لكنّي رأيته سكران يقي‏ء . فقال عمر :

لقد تنطعت في الشهادة ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين .

فقدم . فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله . فقال عمر : أ خصيم أنت أم شهيد ؟ فقال : شهيد فقال : قد أدّيت شهادتك . فصمت الجارود . ثم غدا على عمر . فقال : أقم على هذا حدّ اللّه . فقال عمر : ما أراك إلاّ خصيما ، و ما شهد معك إلاّ رجل واحد . فقال الجارود : إنّي انشدك اللّه . قال عمر :

لتمسكّن لسانك أو لأسوءنّك . فقال : يا عمر ، أما و الله ما ذلك بالقّ أن يشرب الخرم ابن عمك ، و تسوؤني . فقال أبو هريرة : فإن كنت تشكّ في شهادتنا . فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها و هي امرأة قدامة . فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها . فأقامت الشهادة على زوجها . فقال عمر : لقدامة إنّي حادّك . فقال : لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تحدّوني فقال عمر :

لم ؟ قال قدامة : قال تعالى : ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح في ما طعموا 1 الآية 2 .

و الخبر إن تضمن حدّه له أخيرا إلاّ أنّه اضطرّ إلى حدّه بعد شهادة امرأته و لِمَ لم يحدّه أوّلا بعد شهادة رجلين بشربه . و لم يقل أحد إنّه يشترط في حدّ الشرب رجلان و أمرأة .

قلت : و قول الجارود لعمر : « يا عمر أما و اللّه ما ذلك بالحق . أن يشرب الخمر ابن عمك ، و تسوؤني » نظير قول المسور بن مخرمة لمّا بلغ يزيد بن

-----------
( 1 ) المائدة : 93 .

-----------
( 2 ) الاستيعاب 3 : 259 .

[ 141 ]

معاوية أنه قال : إنّ يزيد يشرب الخمر . فكتب إلى أمير المدينة أن يجلده الحدّ فجلده :

أ يشربها صرفا بفكّ ختامها
أبو خالد و يجلد الحدّ مسور

و إن شئت قلت قول المسوّر نظير قول الجارود لأنّه كان قبل و الأساس لما بعد .

ثم خبره و إن تضمّن أنّ عمر قال لقدامة بعد استناده إلى الآية في سقوط الحدّ عنه : « لقد أخطأت في التأويل » إلاّ أنّه كان ذلك منه بعد ارشاد أمير المؤمنين عليه السّلام له . فروى محمّد بن يعقوب في ( كافيه ) : أنّ قدامة لمّا قال لعمر لا يجب عليّ حدّ بالآية ، بلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام . فمشى إلى عمر فقال له : لم تركت الحدّ على قدامة ، و قد شرب ؟ فقال : إنّه تلا عليّ هذه الآية . فقال عليه السّلام :

قدامة ليس من أهل هذه الآية ، و لا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم اللّه . إنّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات لا يستحلّون حراما ، فاردد قدامة و استتبه ممّا قال : فإن تاب فأقم عليه الحدّ ، و إن لم يتب فاقتله . فقد خرج عن الملّة . فاستيقظ عمر لذلك ، و عرف قدامة الخبر ، فأظهر التوبة 1 .

و من تلّونه أنّه قال بعد جعله الخلافة شورى : « لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا ما جعلته شورى » 2 مع أنّه ردّ على الأنصار في ادّعائهم الأمر لسعد بن عبادة بأنّ النبيّ قال : « الأئمة من قريش » فكيف أراد أن يجعله في غير قريش . ثم يجعله في مولى لا في عربي مع انّهم كانوا يعاملون الموالي معاملة العبيد . قال ابن عبدالبر في ( استيعابه ) بعد نقل قول عمر في سالم كما مر :

-----------
( 1 ) أخرج حديث قدامة الكليني في موضعين من الكافي 7 : 215 ح 10 و : 401 ح 2 ، بمتنين غير هذا و الأم متن لما نقله الشارح ما أخرجه المفيد في الإرشاد : 108 .

-----------
( 2 ) أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 2 : 71 ، و الطبري في تاريخه 3 : 292 ، سنة 23 ، و غيرهما .

[ 142 ]

« و هذا عندي على أنّ عمر كان يصدر في الخلافة عن رأيه » 1 .

قلت : و منشأ رأي عمرو و داعيه إلى ذاك الرأى في سالم أنّ سالما و إن كان مولى إلاّ أنّه كان له أثر جليل عنده ، و عند صاحبه يوم السقيفة و قبله و بعده .

و من تلوّنه أنه قال لاهل الشورى كما في ( الاستيعاب ) : « للّه درهم ان و لّوها الاصيلع كيف يحملهم على الحقّ و لو كان السيف على عنقه » فقلت :

أتعلم ذلك منه و لا تولّيه ؟ قال : « إن لم أستخلف فأتركهم فقد تركهم من هو خير منّي » 2 .

قلت : يا للّه للجواب من الرجل فهو الّذي أجبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم على ترك الوصية ، و يا للّه لحمق أصحابه لكن لا غرو فقد قال تعالى في فرعون و قومه :

فاستخفّ قومه فأطاعوه 3 .

و من تلوّنه جعله قول الرجل لامرأته « أنت طالق ثلاثا » كتطليقها ثلاث مرّات خلافا للكتاب و السنّة : أما الكتاب . فقال تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان إلى فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجا غيره » 4 .

و أما السنة ففي ( سنن أبي داود ) مسندا عن طاووس ، أنّ رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال : أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أبي بكر و صدرا من إمارة عمر قال ابن عباس : و لما رأى عمر الناس تتابعوا

-----------
( 1 ) الاستيعاب 2 : 71 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) الاستيعاب 3 : 64 .

-----------
( 3 ) الزخرف : 54 .

-----------
( 4 ) البقرة : 229 و 230 .

[ 143 ]

فيها قال : « اجيزهنّ عليهم » . و روى أيضا خبرا آخر عنه قريبا منه ، و فيه :

« و ثلاثا من امارة عمر » 1 .

« و اعتراض » في ( النهاية ) : « الاعتراض ، الدخول في الباطل و الامتناع من الحق » 2 .

و مع ابتلاء الناس به باعتراض أيضا كما قال عليه السّلام ، كان هو يفتخر بأنه يصدّ الناس عن ذلك . فكان يقول : « و أضرب العروض » 3 : أي : من كان كالابل الّذي يأخذ يمينا و شمالا ، و لا يلزم المحجّة .

روى ( سنن أبي داود ) : أنّ عمر لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتّى شهد عبد الرحمن بن عوف أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أخذها من مجوس هجر 4 .

و روى عن سعيد بن المسيب : أنّ أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : لئن عدت سألتني القسمة لا اكلمك أبدا ،

و كل مالي في رتاج الكعبة . فقال عمر « انّ الكعبة لغنيّة عن مالك . كفّر عن يمينك و كلّم أخاك فإنّي سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول : « لا يمين عليك ، و لا نذر في معصية الرب و في قطيعة الرحم و لا في ما لا تملك » 5 .

فإذا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال ما نقل ، فلم أمره بالتكفير ، و قد رووا أنّ من حلف على شي‏ء تركه خير منه ، فتركه كفارته 6 .

-----------
( 1 ) أخرجه أبو داود في سننه 2 : 261 ح 2199 و 2200 ، و مسلم في صحيحه 2 : 199 ح 16 و 17 ، و غيرهما و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) النهاية 3 : 216 ، مادة ( عرض ) .

-----------
( 3 ) رواه ابن الأثير في النهاية 3 : 213 ، مادة ( عرض ) .

-----------
( 4 ) أخرجه أبو داود في سننه 3 : 168 ح 2043 ، و البخاري في صحيحه 2 : 200 ، و غيرهما و النقل بتلخيص .

-----------
( 5 ) أخرجه الحاكم في المستدرك 4 : 300 .

-----------
( 6 ) أخرجه ابن ماجة في سننه 1 : 682 ح 2111 ، و النقل بالمعنى .

[ 144 ]

و قال محيي الدين في الحديث ( 558 ) منه روى سعيد بن المسيب أنّ عمر كان يجعل في الإبهام خمس عشرة ، و في السبابة عشرا و في الوسطى عشرا ، و في البنصر تسعا ، و في الخنصر ستّا حتّى وجد كتابا عند آل عمرو بن حزم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّ الأصابع كلّها سواء . فأخذبه ، و كان يجعل في ما أقبل من الأسنان خمسة أبعرة ، و في الأضراس بعيرا بعيرا إلى أن قال و أجمع أهل العلم على أنّه لا تفضيل في الأصابع و الأسنان عملا بالحديث 1 .

و في ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) عن عايشة بنت عثمان بعد قتل أبيها : « فهلاّ علنت كلمتكم ، و ظهرت حسكتكم إذ ابن الخطاب قائم على رؤوسكم . ماثل في عرصاتكم يرعد و يبرق بإرعابكم يقمعكم غير حذر من تراجعكم الاماني بينكم ، و هلاّ نقمتم عليه عودا و بدءا إذ ملك إلى أن قالت يحكم في رقابكم و أموالكم . كأنّكم عجائز ضلع . و اماء قصع . فبدأ معلنا لابن أبي قحافة . بإرث نبيّكم على بعد رحمه ، و ضيق بلده ، و قلّة عدده ، فوقى اللّه شرّها زعم إلى أن قالت أو لم يخصم الأنصار بقريش ثم حكم بالطاعة لمولى أبي حذيفة ؟ يتمايل بكم يمينا و شمالا . قد خطب عقولكم ، و استمهر و جلكم ممتحنا لكم ، و معترفا اخطاركم ، و هل تسمو هممكم إلى منازعته و لولاتيك لكان قسمه خسيسا ، و سعيه تعيسا . لكن بدر الرأي . و ثنّى بالقضاء ،

و ثلّث بالشورى ثم غدا سامرا . مسلطا درته على عاتقه . فتطأطأتم له تطأطأ الحقّة ، و وليّتموه أدباركم حتّى علا أكتافكم . فلم يزل ينعق بكم في كلّ مرتع ،

و يشدّ منكم على كلّ محنق ، لا ينبعث لكم هتاف ، و لا يأتلف لكم شهاب . يهجم

-----------
( 1 ) اصل الحديث أخرجه أبو داود في سننه 4 : 188 ح 4558 ، و غيره عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « هذه و هذه سواء يعني الإبهام و الخنصر » و شرح الحديث أخرجه الشافعي و عبد الرزاق و ابن راهويه و البيهقي عن سعيد بن المسيب ، عنهم منتخب كنز العمال 6 : 157 .

[ 145 ]

عليكم بالسّراء و يتورط بالحوباء . عرفتم أو نكرتم لا تألمون ، و لا تستنطقون حتّى إذا عاد الأمر فيكم الخ 1 .

و في ( عيون ابن قتيبة ) : تنازع اثنان أحدهما سلطاني ، و الآخر سوقي فضربه السلطاني . فصاح و اعمراه . و رفع خبره إلى المأمون . فأمر بإدخاله عليه . و قال له : من أين أنت ؟ قال : من أهل فامية . قال : « إنّ عمر بن الخطاب كان يقول من كان جاره نبطيا . و احتاج إلى ثمنه فليبعه . فإن كنت تطلب سيرة عمر فهذا حكمه فيكم » و أمر له بألف درهم 2 .

و في ( عقد ابن عبد ربه ) : كان عمر قاعدا ، و الدّرة معه ، و الناس حوله إذ أقبل الجارود العامري . فقال رجل : هذا سيّد ربيعة . فسمعها عمر و من حوله .

و سمعها الجارود . فلمّا دنامنه خفقه بالدرّة فقال : مالي و لك لقد سمعتها . قال :

و سمعتها فمه ، قال : خشيت أن تخالط القوم ، و يقال : هذا أمير . فاحببت أن اطأطى‏ء منك 3 .

و فيه أيضا رأى عمر ناسا يتّبعون ابيّ بن كعب فرفع إليه الدرّة . فقال له أبيّ : إتّق اللّه . قال : فما هذه الجموع خلفك 4 ؟

و في ( صحيح مسلم ) و ( البخاري ) : أنّ عمر لمّا طعن أغمي عليه فصيح عليه . فلمّا أفاق قال : أما علمتم أنّ النبي قال : إنّ الميّت ليعذّب ببكاء الحيّ 5 ؟ و في ( سنن أبي داود ) : ذكر قول ابن عمر عن أبيه أنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه عند عائشة . فقالت ذهل : إنّما مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم على قبر يهودي فقال : إنّ صاحب هذا ليعذّب و أهله يبكون عليه . ثم قرأت عائشة :

-----------
( 1 ) بلاغات النساء : 100 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) عيون الاخبار 1 : 303 .

-----------
( 3 ) رواهما ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 111 و 112 ، شرح الخطبة 226 ، و لم يوجدا في العقد الفريد .

-----------
( 4 ) رواهما ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 111 و 112 ، شرح الخطبة 226 ، و لم يوجدا في العقد الفريد .

-----------
( 5 ) أخرجه بطرق مسلم في صحيحه 2 : 638 642 ، و البخاري في صحيحه 1 : 223 و 224 .

[ 146 ]

و لا تزر وازرة وزر اخرى 1 .

و في ( حياة حيوان الدميري ) : قال قبيصة بن جابر الأسدي : كنت محرما فرأيت ظبيا فرميته . فأصبته . فمات . فوقع في نفسي من ذلك شي‏ء . فأتيت عمر أسأله . فوجدت إلى جنبه رجلا أبيض رقيق الوجه . و إذا هو عبد الرحمن بن عوف . فسألت عمر . فالتفت إلى عبد الرحمن فقال : ترى شاة تكفيه . قال : نعم .

فأمرني أن أذبح شاة فلمّا قمنا من عنده قال صاحب لي : إنّ الخليفة لم يحسن أن يفتيك حتّى سأل الرجل . فسمع عمر بعض كلامه . فعلاه بالدرّة ضربا . ثم أقبل عليّ ليضربني فقلت له : إني لم أقل شيئا إنّما هو قاله فتركني 2 .

و في ( حيوان الجاحظ ) : تقامر رجلان على عهد عمر بديكين . فأمر عمر بالديكة أن تقتل . فأتاه رجل من الأنصار فقال : أمرت بقتل امّة من الامم تسبّح اللّه تعالى . فأمر بتركها 3 .

و رووا أنّ رجلا جاء إلى عمر ، و قال له : إنّ ضبيعا التميمي لقينا فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن فقال : اللهمّ أمكنّي منه . فبينا عمر كان يوما جالسا يغدّي الناس إذ جاءه الضبيع ، و عليه ثياب و عمامة فتقدّم فأكل حتّى إذا فرغ قال لعمر ما معنى قوله تعالى : و الذاريات ذروا . فالحاملات وقرا 4 فقال عمر : ويحك أنت هو ؟ فقام إليه فحسر عن ذراعيه . فلم يزل يجلده حتّى سقطت عمامته فإذا له ضفيرتان . فقال له :

-----------
( 1 ) أخرجه أبو داود في سننه 3 : 194 ح 3129 ، و البخاري في صحيحه 1 : 223 ، و مسلم في صحيحه 2 : 640 643 ح 22 27 ، و الآية 164 من سورة الأنعام .

-----------
( 2 ) رواه الدميري في حياة الحيوان 2 : 104 ، عن المستدرك ، و الحديث اخرجه الحاكم في المصدر 3 : 310 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) الحيوان 1 : 295 .

-----------
( 4 ) الذاريات : 1 و 2 .

[ 147 ]

و الذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك . ثم أمر به فجعل في بيت . ثم يخرجه كلّ يوم فيضربه مئة . فاذا برأ أخرجه فضربه مئة اخرى .

ثم حمله على قتب ، و سيّره إلى البصرة ، و كتب إلى أبي موسى أن يحرّم على الناس مجالسته ، و يقوم في الناس خطيبا ثم يقول : « إنّ ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه » فلم يزل وضيعا في قومه و عند الناس حتّى هلك ، و كان قبل سيّد قومه 1 .

و في ( الأغاني ) : قال أبو عمرو الشيباني : بعث عمر رجلا من قريش يقال له : أبو سفيان يستقرئ أهل البادية . فمن لم يقرأ شيئا من القرآن عاقبه . فأقبل حتّى نزل بمحلّة بني نبهان فاستقرأ ابن عم لزيد الخيل . يقال له : أوس بن خالد .

فلم يقرأ شيئا . فضربه فمات . فأقامت بنته المكنّاة ام أوس ماتما تندبه ، و أقبل حريث بن زيد الخيل . فأخبرته . فأخذ الرمح فشدّ على أبي سفيان فطعنه فقتله ،

و قتل ناسا من أصحابه ، ثم هرب إلى الشام ، و قال :

ألا بكّر الناعي بأوس بن خالد
أخي الشتوة الغبراء في الزمن المحل

فلا تجزعي يا أم أوس فإنّه
يلاقي المنايا كلّ حاف و ذي نعل

فان يقتلوا أوسا عزيزا فإنّني
تركت أبا سفيان ملتزم الرحل

و لو لا الأسى ما عشت في الناس بعده
و لكن إذا ماشئت جاوبني مثلي

-----------
( 1 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 122 ، شرح الخطبة 226 ، و الفريابي ، عنه الدر المنثور 6 : 111 ، و غيرهما .

[ 148 ]

أصبنا به من خيرة القوم سبعة
كراما و لم نأكل به حشف النخل 1

و لعمر الله كان فاروقا بين الحقّ و الباطل لكن باختياره الباطل أي باطل و تركه الحقّ أيّ حقّ .

« فصبرت على طول المدّة و شدّة المحنة » في ( معارف ابن قتيبة ) : كانت ولاية عمر عشر سنين و ستّة أشهر و خمس ليال 2 .

« حتّى إذا مضي لسبيله » فيه أيضا : توفي عمر لأربع بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث و عشرين ، و قد كان طعن لسبع بقين منه 3 .

في ( فصول المرتضى ) ، سئل هشام بن الحكم عما يرويه العامة من قول أمير المؤمنين عليه السّلام لما قبض عمر ، و قد دخل عليه مسبحي : « لوددت أن ألقى اللّه بصحيفة هذا المسبحي » فقال : هذا حديث غير ثابت و لا معروف الاسناد ، و إنّما حصل من جهة القصاص ، و أصحاب الطرقات ، و لو ثبت كان المعنى فيه معروفا ، و ذلك انّ عمر ، و اطأ أبا بكر و المغيرة ، و سالما مولى أبي حذيفة ، و أبا عبيدة على كتب صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنّه اذا مات النبي . لم يؤرثوا أحدا من أهل بيته ، و لم يولّوهم مقامه . فكانت الصحيفة لعمر اذ كان عماد القوم ، و الصحيفة التي ودّ أمير المؤمنين عليه السّلام و رجا أن يلقى اللّه بها هي هذه الصحيفة فيخاصمه بها و يحتجّ عليه بمتضمنها و الدليل على ذلك ما روته العامة عن ابيّ بن كعب أنّه كان يقول في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد أن أفضى الأمر إلى أبي بكر بصوت يسمعه أهل المسجد : « ألا هلك أهل العقدة ،

و اللّه ما آسي عليهم إنّما آسى على من يضلّون من الناس . فقيل له : يا صاحب

-----------
( 1 ) الأغاني 17 : 269 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) المعارف : 183 .

-----------
( 3 ) المعارف : 183 .

[ 149 ]

رسول اللّه من هؤلاء أهل العقدة ؟ و ما عقدتهم ؟ فقال : « قوم تعاقدوا بينهم إن مات النبي لم يورّثوا أحدا من أهل بيته ، و لا ولّوهم مقامه . أما و اللّه لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاما ابيّن به للناس أمرهم قال فما أتت عليه الجمعة 1 .

« جعلها » إنّما الجعل للّه تعالى . فكما أنّ جعل الرسالة منه عزّ و جلّ : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته 2 ، كذلك جعل الامامة و الخلافة من نبيه التي وظيفتها وظيفة النبوّة ، فلم يكن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيضا جعل لها من قبل نفسه فضلا عن غيره . قال جلّ و علا و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان اللّه و تعالى عما يشركون 3 فكيف كان لعمر جعل الامامة ؟ و في أسد الغابة في عنوان معاوية روى عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنّه قال :

هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم احد . ثم في احد بقي منهم احد ثم في كذا و كذا ، و ليس فيها لطليق ، و لا لولد طليق و لا لمسلمة الفتح شي‏ء 4 .

مع أنّه و إن قال بلسانه : « ليس للطلقاء منه شي‏ء » إلاّ أنّه بعمله عمل عملا وهبه بحذا فيره للطلقاء و جعلها خالصة لهم .

و في ( أنساب البلاذري ) عن حارثة بن مضرب قال : حججت مع عمر فسمعت الحادي يقول : « إنّ الأمير بعده ابن عفان » 5 .

« في جماعة » أوّلهم عثمان ، و ثانيهم طلحة ، و ثالثهم الزبير ، و رابعهم عبد الرحمن بن عوف ، و خامسهم سعد بن أبي وقاص ، و سادسهم هو عليه السّلام

-----------
( 1 ) الفصول المختارة 1 : 58 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) الانعام : 124 .

-----------
( 3 ) القصص : 68 .

-----------
( 4 ) اسد الغابة 4 : 387 .

-----------
( 5 ) انساب الاشراف 5 : 11 .

[ 150 ]

على ما في اثبات المسعودي 1 .

« زعم أنّي أحدهم » تعبيره عليه السّلام بزعم دالّ على أنّه جعله في اولئك الجماعة ظاهرا و أخرجه منهم باطنا . فقالوا « زعم مطية الكذب » .

و كان حجير مؤذّن مسيلمة يقول في أذانه : « أشهد أنّ مسيلمة يزعم أنّه رسول » فيقول له مسيلمة : « أفصح حجير » .

و في ( جمل المفيد ) : روى الحرث بن الفضل ، عن أبي عبد اللّه الأغرّ أنّ الزبير قال لابنه يوم الجمل لمّا أراد تركهم ، و قال له ابنه : أحسست برايات ابن أبي طالب : « ويلك لا تدعنا على حال أنت و الله قطعت بيننا و قرفت الفتنة بما بليت به من هذا المسير إلى أن قال فقال له ابنه ، أفتدع عليا يستولي على الأمر ، و أنت تعلم أنّه كان أخسّ أهل الشورى عند عمر ؟ و لقد أشار عمر ، و هو مطعون . و قال لأصحابه أهل الشورى : « ويلكم اطمعوا ابن أبي طالب فيها لا يفتق في الاسلام فتقا عظيما ، و منوّه حتّى تجمعوا على رجل سواه » 2 .

و فيه : أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أرسل ابن عباس إلى الزبير ليكلّمه إذا لم يكن ابنه بحاضر إلى أن قال فقال ابن الزبير لابن عباس : سئل عبد الرحمن بن عوف عن أصحاب الشورى فكان صاحبكم أخيبهم عنده ، و ما أدخله عمر في الشورى إلاّ و هو يقرفه ، و لكن خاف فتقه في الاسلام 3 .

قلت : الاسلام الّذي خاف عمر فتقه من أمير المؤمنين عليه السّلام إنّما كان خلافته و خلافة صاحبه ، و الأساس الّذي أسّساه لمن بعدهما ، و إلاّ فأمير المؤمنين عليه السّلام كان اسس الاسلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و بسيفه قام

-----------
( 1 ) اثبات الوصية : 125 .

-----------
( 2 ) الجمل : 155 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

-----------
( 3 ) الجمل : 169 و 170 ، و النقل بتلخيص .

[ 151 ]

الاسلام ، و بتركه التعرض لهم بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لئلاّ يرتدّ الناس جميعا بقي الاسلام كما صرّح هو عليه السّلام و أهل بيته كرارا ، و هم كانوا لا يبالون أن يمحى الاسلام إذا بقي لهم سلطانهم ، و مع أنّهم نالوا السلطنة و أكلوا الدنيا بواسطة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم كانوا يتلهفون على عدم قدرتهم على محو اسمه و خمول ذكره كما فعلوه بأهل بيته مدّة ، إلاّ أنّ اللّه تعالى يأبى إلاّ أن يتمّ نوره و لو كره المشركون .

و عن كتاب ( شورى عوانة ) ، و كتاب ( سقيفة الجوهري ) : قال الشعبي :

حدّثني من لا أتّهمه من الأنصار . قال : مشيت وراء علي بن أبي طالب حيث انصرف من عند عمر و العباس بن عبد المطلب يمشي في جانبه .

فسمعته يقول للعباس : ذهبت منّا و الله . فقال : كيف علمت ؟ قال : ألا تسمعه يقول : كونوا في الجانب الّذي فيه عبد الرحمن ، و إنّه ابن عم سعد ،

و عثمان صهره . فإذا اجتمع هؤلاء . فلو أنّ الرجلين الباقيين كانا معي لم يغنيا عني شيئا مع أنّي لست أرجو إلاّ لأحدهما و مع ذلك فقد احبّ عمر أن يعلمنا أنّ لعبد الرحمن عنده فضلا علينا . لا . لعمر اللّه ما جعل اللّه ذلك لهم علينا . كما لم يجعل لأولاهم على أولانا . أما و اللّه لئن عمر لم يمت لأذكّرنّه ما أتى إلينا قديما ، و لاعلمنّه سوء رأيه فينا ، و ما أتى إلينا حديثا ، و لئن مات و ليموتن ليجتمعن هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنّا و ليفعلن ليروني حيث يكرهون ، و اللّه ما بي رغبة في السلطان ، و لاحبّ الدنيا ،

و لكن لاظهار العدل ، و القيام بالكتاب و السنّة . ثم التفت فرآني وراءه فعرفت أنّه قد ساءه ذلك . فقلت : لا ترع أبا حسن . لا و الله لا يسمع أحد الّذي سمعت منك ما اصطحبنا في الدنيا . فواللّه ما سمعه منّي مخلوق

[ 152 ]

حتّى قبض اللّه عليّا إلى رحمته 1 .

قلت : الظاهر أنّ من قال عنه الشعبي حدّثني من لا اتّهمه من الأنصار هو أبو طلحة الأنصاري .

و في ( ارشاد ) محمّد بن محمّد بن النعمان ، روى يحيى الحمّاني ، عن يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه عن أبي صادق قال : لمّا جعلها عمر شورى في ستّة و قال : إن بايع اثنان لواحد ، و اثنان لواحد . فكونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن ، و اقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن ، خرج عليّ عليه السّلام من الدار ، و هو معتمد على يد عبد اللّه بن عباس و قال : يا ابن عباس إنّ القوم عادوكم بعد نبيّكم كمعاداتهم لنبيّكم في حياته ، و اللّه لا ينيب بهم إلى الحقّ إلاّ السيف . فقال له ابن عباس : و كيف ذاك ؟ قال : أما سمعت قول عمر ؟ قال : بلى .

قال : أو لم تعلم أنّ عبد الرحمن ابن عم سعد ، و أنّ عثمان صهر عبد الرحمن ؟

قال : بلى . قال : فإنّ عمر قد علم أنّ سعدا و عبد الرحمن و عثمان لا يختلفون في الرأي ، و انّه من بويع منهم كان اثنان معه ، و أمر بقتل من خالفهم ، و لم يبال أن يقتل طلحة اذا قتلني و قتل الزبير . أم و اللّه لئن عاش عمر لأعرفنه سوء رأيه فينا قديما و حديثا ، و لئن مات يجمعني و إيّاه يوم يكون فيه فصل الخطاب 2 .

و في ( العقد الفريد ) بعد ذكر الشورى فقال عليّ عليه السّلام لقوم معه من بني هاشم : إن اطيع فيكم قومكم فلن يؤمّروكم أبدا . و تلقّاه العباس فقال له : عدلت عنّا . قال : و ما أعلمك ؟ قال : قرن بي عثمان . ثم قال : إن رضي ثلاثة رجلا و ثلاثة رجلا ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن . فسعد لا يخالف ابن عمه

-----------
( 1 ) رواه عوانة في الشورى ، عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 389 ، شرح الخطبة 137 ، و الجوهري في السقيفة : 82 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) الإرشاد : 151 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 153 ]

عبد الرحمن ، و عبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون . فلو كان الآخران معي ما نفعاني 1 .

و بالجملة إنّما دبّر لعثمان لأنّه كان معهم من يوم أوّل . قال ابن أبي الحديد : روى كثير من الناس أنّ أبا بكر لمّا نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف ، فقال : أخبرني عن عمر . فقال : إنّه أفضل من رأيك إلاّ أنّ فيه غلظة . ثم دعا عثمان . فقال : أخبرني عن عمر . فقال : سريرته خير من علانيته ، و ليس فينا مثله . فقال لهما أبو بكر : لا تذكرا ممّا قلت لكما شيئا . و لو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان 2 .

و مرّ أنّ حداء حادي عمر في حجّه كان « إن الأمير بعده ابن عفان » .

و انّما لم يستخلفه صريحا كما استخلفه أبو بكر صريحا لأمرين :

أحدهما أنّ حماية عثمان لبني اميّة أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم كانت معلومة من أيّام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فكان يجير منهم من أباح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم دمه ، و يلجئه إلى عفوه عنهم فلو كان عيّنه إسما كان ذلك عارا عليه .

و الثاني : أنّه إذا كان عيّنه شخصا ثم يقتله الناس بأعماله اضطرارا يصفو الأمر لأمير المؤمنين عليه السّلام بخلاف ما إذا جعل الأمر لستّة فبعد عثمان كان الثلاثة الباقون طلحة و الزبير و سعد مزعزعين لأمره عليه السّلام ، و لا سيما الأوّلان فإنّ الثالث و ان لم يكن بايعه إلاّ أنّه لم يقاتله ، و هما قاتلاه ، و سبّبا تضعيف أمره حتّى قام معاوية في قباله .

و ممّا يشهد لأنّ عمر كان يعرف أنّ عثمان الّذي دبّر الأمر له يفعل ما يلجئ الناس إلى قتله ما قاله الجاحظ في ( سفيانيته ) بعد ذكر الشورى ،

-----------
( 1 ) العقد الفريد 5 : 27 .

-----------
( 2 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 55 ، و النقل بتلخيص .

[ 154 ]

و اقبال عمر على كلّ من الستة ثم أقبل عمر على عثمان . فقال : « كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك فحملت بنى اميّة و بنى أبي معيط على رقاب الناس و آثرتهم بالفي‏ء . فسارت اليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا . و اللّه لئن فعلوا لتفعلن و لئن فعلت ليفعلن » ثم أخذ بناصيته فقال :

فإذا كان ذلك فاذكر قولي 1 .

و لعمر الله إنّ سليمان بن عبد الملك مع كفر بني امية قاطبة كان أطيب نفسا من فاروقهم ، و أقرب إلى طلب الحقّ . فإنّه دبّر لأن يصير الخلافة بعده لعمر بن عبد العزيز لصلاحه من بينهم بجعل يزيد أخيه بعده . ففي الطبري قال سليمان ابن عبد الملك لرجاء بن حيوة : كيف ترى في عمر بن عبد العزيز فقال :

اعلمه و الله خيرا . فاضلا مسلما . فقال : هو و الله على ذلك ، و لكن و الله لئن ولّيته ،

و لم أوّل أحدا سواه لتكوننّ فتنة ، و لا يتركونه أبدا يلي عليهم إلاّ أن يجعل أحدهم بعده . فاجعل يزيد بن عبد الملك بعده . فإنّ ذلك ممّا يسكّنهم و يرضون به . فقال له رجاء : رأيك . فكتب « هذا كتاب من سليمان لعمر بن عبد العزيز إنّي قد وليّتك الخلافة من بعدي و من بعدك يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له و أطيعوا » 2 .

و لعمر اللّه أنّ عمر بتدبير الأمر لعثمان ولّى معاوية بن أبي سفيان اللعين ابن اللعين على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و باقي بنى امية الشجرة الملعونة في القرآن الوليد بن يزيد و غيره .

و لم يكره ذاك الفاروق تحمّل أوزار اولئك ، و انّما كره ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام ميتا كما كرهها حيّا كبنت صاحبه التي لم تستطع أن تذكر

-----------
( 1 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 62 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 5 : 307 ، سنة 99 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 155 ]

اسمه ، و كان إطباق السماء على الأرض عندها أحب من ولايته عليه السّلام و في ( العقد الفريد ) بعد ذكر طلب الناس كرارا من عمر استخلافه ،

و قوله لو كان أبو عبيدة أو سالم مولى أبي حذيفة حيين استخلفتهما قال عمر : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن اولّي رجلا أمركم أرجو أن يحملكم على الحقّ و أشار إلى علي ثم رأيت أن لا أتحمّلها حيّا و ميّتا 1 .

« فيالله » بفتح اللام .

« و للشورى » بكسر اللام و ضم الشين . قال الجوهري في قول الشاعر :

« يا للرجال ليوم الأربعاء » : أمّا اللامان جميعا للجر و لكنّهم فتحوا الاولى و كسروا الثانية ليفرّقوا بين المستغاث به و المستغاث له 2 .

روى أبو مخنف و نقله ابن أبي الحديد في موضع آخر انّ عمارا قال يوم الشورى :

يا ناعي الاسلام قم فانعه
قد مات عرف و أتى منكر

اما و اللّه لو أنّ لي أعوانا لقاتلتهم 3 .

و قال عمّار أيضا لأمير المؤمنين عليه السّلام و الله لئن قاتلتهم بواحد لأكونن ثانيا فقال عليه السّلام : و اللّه ما أجد عليهم أعوانا ، و لا أحبّ أن أعرّضكم لما لا تطيقون 4 .

و في ( العقد الفريد ) : ذكروا أنّ زيادا أوفد أبن حصين على معاوية . فأقام عنده ما أقام . ثم إنّ معاوية بعث إليه ليلا فخلابه . فقال له : يا ابن حصين بلغني أنّ عندك ذهنا و عقلا . فأخبرني عن شي‏ء أسألك عنه . قال : سلني عمّا بدا لك .

-----------
( 1 ) العقد الفريد 5 : 25 .

-----------
( 2 ) صحاح اللغة 5 : 2035 ، مادة ( لوم ) .

-----------
( 3 ) رواه عن أبي مخنف ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 172 ، شرح الخطبة 226 ، و الطوسي في تلخيص الشافي 4 : 45 .

-----------
( 4 ) رواه عن أبي مخنف ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 172 ، شرح الخطبة 226 ، و الطوسي في تلخيص الشافي 4 : 45 .

[ 156 ]

قال : أخبرني ما الّذي شتّت أمر المسلمين ، و خالف بينهم ؟ قال : قتل الناس عثمان . قال : ما صنعت شيئا . قال : فمسير طلحة و الزبير ، و عائشة ، و قتال على إيّاهم . قال : ما صنعت شيئا . قال : ما عندي غير هذا . قال : فأنا اخبرك به . إنّه لم يشتّت بين المسلمين و لا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستّة نفر ، و ذلك إذ قدّم النبي أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه لأمر دينهم و استخلف عمر ثم جعلها عمر و شورى بين ستّة نفر فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه و رجاها له قومه و تطلعت إلى ذلك نفسه ، و لو أنّ عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف 1 .

و أقول : معاوية نفسه ما صنع شيئا في ما هو الأصل من فعل عمر أوجب التشتّت بين المسلمين و تفريق أهوائهم . فإنّما الأصل إنّما هو منعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن كتابة وصية لامته لا يضلون و لا يضلّون .

ففي ( طبقات كاتب الواقدي ) : لمّا كان في مرض وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم الّذي توفي فيه دعا بصحيفة ليكتب فيها لأمّته كتابا لا يضلّون و لا يضلّون قال : فكان في البيت لغط و كلام ، و تكلّم عمر بن الخطاب قال فرفضه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم 2 .

و فيه : و قال عبد الله بن العباس : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : هلم أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده . فقال عمر : إن رسول اللّه قد غلبه الوجع ، و عندكم القرآن حسبنا كتاب الله . فاختلف أهل البيت فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله ،

و منهم من يقول ما قال عمر . فلمّا كثر اللغط و الاختلاف و غمّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال : قوموا عنّي 3 .

-----------
( 1 ) العقد الفريد 5 : 31 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) طبقات ابن سعد 2 ق 2 : 36 .

-----------
( 3 ) طبقات ابن سعد 2 ق 2 : 37 .

[ 157 ]

و إنّما كان معاوية متألّما من شوراه مع نيله السلطنة بواسطة شوراه بتدبير الأمر لعثمان كما مرّ ، و بإنهاض طلحة و الزبير للحرب معه ، و كتابه إليهما أنّكما ممّن رضيكما عمر ، و أنا أدعو أهل الشام إلى خلافتكما ليزلزلا أمر أمير المؤمنين عليه السّلام فيتمكّن مما يريد من قيامه في قباله عليه السّلام لأنّه أراد استخلاف ابنه يزيد ، و سعد بن أبي وقاص أحد ستّة شورى عمر كان حيّا ،

و كان لا يمكنه مع وجوده ذلك . فاضطر إلى قتله كما أنّه لمعاهدته الحسن عليه السّلام برّد الأمر إليه بعده اضطر إلى قتله بالسم ، و إنما انتظر معاوية أن يكون عمر يستخلف عثمان بالشخص كما استخلفه أبو بكر بالشخص ، و عثمان هو كان يستخلفه بلا ريب ، و كان عثمان يقول في أيّام قيام الناس عليه : إنّ معاوية ولي دمي لكن يقال لمعاويّة : إنّ صاحبك لو كان عمر استخلفه بالشخص ما كان يفيدك شيئا بعد كون سيرته تلك السيرة فكان الناس يقتلونه و تكون أبعد من مرامك ، و لم يكن لطلحة و الزبير عنوان حتّى تنهضهما في قباله عليه السّلام فيضعّفان أمره ، و تتمكن أنت مما تمكنت . فعمر في دهائه عمل عملين :

تأخيره عليه السّلام عن الخلافة ، و تزلزل أمره في خلافته التي تحصل له قهرا من هجوم الناس عليه بعد قتل عثمان .

و في ابن أبي الحديد في موضع آخر قال جعفر بن مكي الحاجب : قلت لمحمّد بن سليمان حاجب الحجّاب : ما تقول في هذا الاختلاف الواقع في أمر الإمامة من مبدأ الحال ؟ فقال : لا أعلم له أصلا إلاّ أمرين أحدهما أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أهمل أمر الأمّة فلم يصرّح فيه بأحد بعينه ، و إنما كان هناك رمز و إيماء ، و كناية و تعريض إلى أن قال و عادة الملوك إذا تمهّد ملكهم ، و أرادوا العقد لولد من أولادهم أو ثقة من ثقاتهم أن يصرّحوا بذكره و يخطبوا باسمه على أعنان المنابر و بين فواصل الخطب ، و يكتبوا بذلك إلى الآفاق البعيدة

[ 158 ]

عنهم ، و من كان منهم ذا سرير ضرب اسمه على صفحات الدنانير و الدراهم بحيث تزول الشبهة ، و ليس أمر الخلافة بهينّ ليترك في مظنّة الاشتباه ، و لعله كان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ذلك عذر إمّا خشية من إرجاف المنافقين بأنّها ليس بنبوّة ، و إنّما هي ملك أوصى بها لسلالته أو لغيره ، و لعلّه لم يعلم أنّه يموت يدلّ عليه . انّه لمّا نوزع في إحضار الدواة و الكتف ليكتب لهم ما لا يضلّون بعده غضب ، و قال اخرجوا عنّي ، و لم يجمعهم بعد ، بل أرجى الأمر إرجاء من يرتقب الإفاقة . فبتلك الكنايات المحتملة مثل حديث « خاصف النعل » و « منزلة هارون من موسى » و « من كنت مولاه » و « هذا يعسوب الدين » و « لا فتى إلاّ على » و « أحبّ خلقك اليك » و ما جرى هذا المجرى مما لا يسكت الخصم إلى أن قال و السبب الثاني جعل عمر الأمر شورى في الستّة . فبقي في نفس كلّ واحد انّه رشّح للخلافة إلى أن قال و لم يكن رجاء طلحة و الزبير بدون رجاء عليّ عليه السّلام ، بل كان أقوى لأنّ عليّا عليه السّلام دحضه الأوّلان و أسقطاه و كسرا ناموسه بين الناس فصار نسيا منسيا و لم يبق له مما يمتّ به إلاّ انّه ابن عم الرسول ، و زوج بنته ، و أبو سبطيه ،

و نسي ما وراء ذلك ، و اتّفق له من بغض قريش ما لم يتّفق لأحد إلى أن قال و هما : أي : طلحة و الزبير ، عند أنفسهما و عند الناس في أواخر أيّام عثمان خليفتان بالقوة لأنّ عمر نصّ عليهما و عمر نافذ الحكم في حياته و بعد وفاته . فلمّا فاتتهما فتقا ذلك الفتق العظيم من حرب الجمل . ثم كانت الجمل تمهيدا لصفّين . فإنّه لولا الجمل لم تكن صفّين . فأوهم معاوية أهل الشام أنّ عليّا فسق بمحاربة ام المؤمنين ، و انّه قتل طلحة و الزبير ، و هما من أهل الجنة فهو من أهل النار . ثم نشأ من فساد صفّين ، و ضلال معاوية كلّ ما جرى من الفساد ، و القبيح في أيّام بنى امية ، و نشأت فتنة ابن الزبير ، فرعا من فروع يوم

[ 159 ]

الدار لأنّه كان يقول : إنّ عثمان لمّا أيقن بالموت نصّ علي و لي شهود منهم مروان . أفلا ترى كيف تسلسلت هذه الامور فرعا على أصل ، و غصنا من شجرة ، و جذوة من ضرام ؟ هكذا يدور بعضه على بعض و كلّه من الشورى في الستّة 1 .

قلت : و يقال للرجل إذا لم تكن تلك الامور من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أمير المؤمنين عليه السّلام كافية لا سيما قوله : « من كنت أولى به من نفسه و ماله فعلي أولى به من نفسه و ماله » لأنّه ليس بعد قوله عليه السلام للناس : « أ لست أولى بكم من أنفسكم و أموالكم » معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعده « فمن كنت مولاه فعلي مولاه » إلاّ ذلك ، و إلاّ لكان قوله عليه السّلام أوّلا بلا ربط مع كلامه آخرا ، و يكون قول ذلك كفرا لأنّه من نسب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم التكلّم بلا ربط ، و عن هجر يكفر لم تكن ادلّة وجود الصانع كافية لأنّها مما لم تسكت الخصم الدهرية و الطبيعية كما لم تسكت تلك الامور الخصم العامة و أهل السنّة .

و يقال له : الملوك أهل الدنيا يهيئون أسباب مقاصدهم بأي وسيلة ، و لو بقتل نفوس و هتك أعراض ، و الأنبياء إنّما يكتفون بإتمام الحجّة ليهلك من هلك عن بيّنة ، و يحيى من حيّ عن بيّنة .

و كيف يقول « لم يجمعهم بعد و أرجى الأمر ارجاء من يرتقب الإفاقة » مع انّ في ( طبقات ابن سعد ) : انّه قيل له صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد : ألا نأتيك بما طلبت ؟ قال : أو بعد قول الرجل أنّي لأهجر 2 .

مع أنّه لو كان أراد ثانيا لمنعوه . فكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يقول :

كان ابن عباس يقول : « إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و كتابة

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 381 383 ، شرح الخطبة 133 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) طبقات ابن سعد 2 ق 2 : 36 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 160 ]

وصيته » و قال سعيد بن جبير : « كان ابن عباس يذكر ذلك و يبكي ، و كأنّي أنظر إلى دموعه على خدّه كأنّها نظام اللؤلؤ » 1 .

و أقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم يكن متمكّنا في حياته من كتابة وصية لامّته لئلاّ يضلّوا ، و عمر كان نافذ الحكم بعد مماته بأن يضربوا عنق أمير المؤمنين عليه السّلام لو خالف دستوره في جعل الأمر لبني اميّة اللاعبين بالدين و المنكرين لوجود رب العالمين .

و لمّا كانت تلك الشورى تدبيرا لانتقال الأمر إلى الشجرة الملعونة ،

و موجبا قتله لو خالف ، و قيام طلحة و الزبير في قباله في أيّامه و ما ترتب عليها من المفاسد من حدوث صفّين و النهروان ، و حدوث الخوارج و قتله عليه السّلام قال عليه السّلام « فياللّه و للشورى » .

و لا يكاد ينقضي العجب من دستور عمر في ضرب عنق من خالف دستوره أيّ دستور كان ، كما لا يكاد ينقضي العجب من الناس كيف كانوا حاضرين لاجرائه .

و روى ( الكافي ) : أنّ عمرو بن عبيد ، و واصل بن عطاء و ناسا من رؤساء المعتزلة دخلوا حدثان قتل الوليد بن يزيد ، و اختلاف أهل الشام بينهم على الصادق عليه السّلام فتكلّموا و أكثروا . فقال لهم : قد أكثرتم عليّ فأسندوا أمركم إلى رجل منكم يتكلّم بحججكم . فأسندوا إلى عمرو بن عبيد فتكلم ، و قال « قد قتل أهل الشام خليفتهم ، و شتّت اللّه أمرهم . فنظرنا رجلا له دين و عقل و مروة و موضع للخلافة ، و هو محمّد بن عبد الله بن الحسن فأردنا أن نبايعه . فمن بايعه فهو منّا ، و من اعتزلنا كففنا عنه ، و من نصب لنا جاهدناه على بغيه ، و قد

-----------
( 1 ) هذا الحديث أخرجه جماعة منهم البخاري في صحيحه 1 : 32 ، و 4 : 7 و 271 ، و مسلم في صحيحه 3 : 1259 ح 22 ، و غيرهما .

[ 161 ]

أحببنا أن تدخل معنا . فإنّه لا غنى بنا عن مثلك لموضعك ، و كثرة شيعتك . فلما فرغ قال عليه السّلام : أكلّكم على مثل ما قال ؟ قالوا : نعم . فقال عليه السّلام له : لو أنّ هذه الامّة قلّدتك أمرها بغير قتال و قيل لك : ولّها من شئت ، من كنت تولّيها ؟ قال : اجعلها شورى بين المسلمين قال : بين المسلمين كليهم ؟ قال : نعم قال عليه السلام : قريش و غيرهم و العرب و العجم ؟ قال : نعم ، قال له : أخبرني أتتولى أبا بكر و عمر أو تتبرأ منهما ؟ قال : بل أتولاّ هما قال : فقد خالفتهما . قد عمد عمر إلى أبي بكر فبايعه و لم يشاور فيه أحدا . ثم ردّها أبو بكر عليه ، و لم يشاور فيه احدا . ثم جعلها عمر شورى بين ستّة و أخرج منها جميع المهاجرين و الأنصار غير اولئك الستّة من قريش ، و أوصى فيهم شيئا لا أراك ترضى به أنت و أصحابك اذ جعلتها شورى بين جميع المسلمين قال : و ما صنع عمر ؟ قال : أمر صهيبا أن يصلّي بالناس ثلاثة أيّام ، و أن يشاور اولئك الستّة ليس معهم أحد إلاّ ابن عمر يشاورونه و ليس له من الأمر شي‏ء ، و أوصى من بحضرته من المهاجرين و الأنصار إن مضت ثلاثه أيّام قبل أن يفرغوا أو يبايعوا رجلا أن يضربوا أعناق اولئك الستّة جميعا . فإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيّام و خالف اثنان أن يضربوا أعناق الإثنين . أفترضون بهذا أنتم في ما تجعلون من الشورى في جماعة المسلمين قالوا : لا الخبر 1 .

و في ( مقاتل أبي الفرج الاصبهاني ) بأسانيد : أنّ المأمون وجّه إلى جماعة من آل أبي طالب . فحملهم إليه من المدينة ، و فيهم عليّ بن موسى الرضا . فأخذ بهم على طريق البصرة حتّى جاءوه بهم ، و كان المتولّي لاشخاصهم المعروف بالجلودي من أهل خراسان . فقدّم بهم على المأمون .

فأنزلهم دارا ، و أنزل على بن موسى الرضا دارا ، و وجّه إلى الفضل بن سهل .

-----------
( 1 ) أخرجه الكليني في الكافي 5 : 23 ح 1 ، و الطبرسي في الاحتجاج 2 : 362 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 162 ]

فأعلمه أنّه يريده أن يعقد له بعده ، و أمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك . فاجتمعا بحضرته ، و جعل الحسن يعظّم ذلك عليه ، و يعرّفه ما في إخراج الأمر من أهل بيته إليه . فقال : إنّي عاهدت اللّه أن اخرجها إلى أفضل آل أبي طالب إن ظفرت بالمخلوع ، و ما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل . فاجتمعا معه على ما أراد . فأرسلهما إليه فعرضا ذلك عليه فأبى . فلم يزالابه ، و هو يأبى ذلك ، و يمتنع منه إلى أن قال له أحدهما إن فعلت ، و إلاّ فعلنا كذا و كذا و تهدّداه ثم قال له أحدهما : و اللّه أمرني بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد . ثم دعا به المأمون فخاطبه في ذلك فامتنع . فقال له قولا شبيها بالتهديد ثم قال له : إنّ عمر جعل الشورى في ستّة أحدهم جدّك و قال : من خالف فاضربوا عنقه ، و لا بدّ من قبول ذلك . فأجابه 1 .

هذا ، و لمّا تخلّف ابن الزبير عن بيعة يزيد ، و استجار بالكعبة جعل الامر شورى بينه ، و بين المسور بن مخرمة ، و مصعب بن عبد الرحمن بن عوف ،

و في ( أنساب البلاذري ) : أصابت المسور شظية من حجر في و جنته فتوفي منها يوم جاء نعي يزيد في آخر النهار و مات مصعب أو قتل في حصار ابن نمير فلمّا شخص ابن نمير . بويع ابن الزبير . قال نافع : كنت تحت منبر ابن الزبير يوم دعا إلى نفسه بعد يزيد و كان قبل يدعو إلى الشورى 2 .

و فيه قال أبو حرّة مولى خزاعة مخاطبا لابن الزبير :

اخوانكم ان بلاء حلّ ساحتكم
و لا ترون لنا في غيره نسبا

نعاهد اللّه عهدا لا نخيس به
ان نقبل الدهر شورى بعد من ذهبا 3

-----------
( 1 ) مقاتل الطالبيين : 375 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) أنساب الأشراف 4 ق 2 : 56 و 58 ، و النقل بتصرف و تقطيع .

-----------
( 3 ) أنساب الأشراف 5 : 188 ، و النقل بتلخيص .

[ 163 ]

« متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت اقرن إلى هذه النظائر » فإنّ الأول ، و هو صديقهم إنّما كانت منقبته منحصرة في كونه صاحب الغار ،

و أنّه أمره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالصلاة في مرضه و لو كان له شي‏ء آخر لذكره له الثاني لمّا كان يحرّض الناس على بيعته .

مع أنّ كلا منهما إلى المثلبة أقرب . أما الاولى فتضمّن القرآن إيذاء صاحب الغار لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و أخرجه من وصف الإيمان حيث خصّ إنزال السكينة بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع أنّه في آيات اخر شرّك المؤمنين معه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ذلك ،

و أمّا الثانية فإنّما كانت من قبل بنته ، و خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع شدّة مرضه متكئا على نفرين لمنعه .

و أما هو عليه السّلام فمقاماته أكثر من أن تحصى ، و روى أحمد بن الحسن القطان من رجالهم باسناده عن جعفر بن محمّد ، عن آبائه أنّه لما كان من أمر أبي بكر ما كان لم يزل أبو بكر يظهر الانبساط لعلي ، و يرى منه أنقباضا إلى أن قال فقال له عليّ عليه السّلام : أخبرني عن الّذي يستحق هذا الأمر بما يستحقّه قال : بالنصيحة و الوفاء ، و رفع المداهنة ، و المحاباة ، و حسن السيرة ، و إظهار العدل و العلم بالكتاب و السنّة ، و فصل الخطاب مع الزهد في الدنيا ، و قلّة الرغبة فيها ، و انصاف المظلوم من الظالم القريب و البعيد . فقال له علي : انشدك الله أ في نفسك تجد هذه الخصال أم فيّ ؟ قال : بل فيك . قال : انشدك باللّه أنا المجيب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبل ذكران المسلمين أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : انشدك بالله إنّ الأذان لأهل الموسم بسورة براءة أنا أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنا وقيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بنفسي يوم الغار أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : انشدك بالله إنّ الولاية من اللّه مع ولاية رسوله في آيه زكاة الخاتم لي أم لك ؟ قال : بل لك . قال :

انشدك باللّه أنا المولى لكلّ مسلم بحديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم الغدير أم أنت ؟ قال :

[ 164 ]

بل أنت . قال : انشدك باللّه ألي الوزارة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و المثل من هارون من موسى أم لك ؟ قال : بل لك . قال : فانشدك باللّه أ بي برز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و بأهلي و ولدي في مباهلة المشركين من النصارى أم بك و بأهلك و ولدك ؟ قال : بل بكم . قال : فانشدك باللّه ألي و لأهلي و ولدي آية التطهير من الرجس أو لك و لأهل بيتك ؟ قال : بل لك ، و لأهل بيتك . قال : فانشدك باللّه أنا و ولدي و أهلي صاحب دعوة الرسول يوم الكساء « اللهّمّ هؤلاء أهلي إليك لا إلى النار » أم أنت ؟ قال : بل أنت و أهلك و ولدك . قال : فانشدك بالله أنا صاحب الآية : يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شرّه مستطيرا 1 أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال :

فانشدك باللّه أنا الفتى الّذي نودي من السماء « لا سيف إلاّ ذو الفقار و لا فتى إلاّ علي » أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنت الّذي حباه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم الراية يوم خيبر ، و قال : « لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله ، و يحبّه اللّه و رسوله » ففتح له أم أنا ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنت الّذي نفيت عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم كربه ، و عن المسلمين بقتل عمرو بن عبدود أم أنا ؟ قال : بل أنت .

قال : انشدك باللّه أنت الّذي طهّره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من السفاح من لدن آدم عليه السّلام إلى أبيه بقوله : « أنا و أنت من نكاح لاسفاح من آدم إلى عبد المطلب » أم أنا ؟ قال : بل أنت قال : فانشدك باللّه أنت الّذي اختاره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و زوّجه ابنته فاطمة ،

و قال له « زوّجك اللّه » أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنا والد الحسن و الحسين ، ريحانتيه اللذين قال فيهما : « هذان سيّدا شباب أهل الجنّة و أبوهما خير منهما » أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنا الّذي أخوه المزيّن بجناحين في الجنّة مع الملائكة أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنا ضمنت دين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ناديت في الموسم بإنجاز موعده أم أنت ؟ قال :

-----------
( 1 ) الانسان : 7 .

[ 165 ]

بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنا الّذي دعاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لطير عنده يريد أكله .

فقال : « اللّهمّ إيتني باحبّ خلقك إليك بعدي » أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه انا الّذي بشّره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين على تأويل القرآن » أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنا الّذي شهد آخر كلام رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ولي غسله و دفنه أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنا الّذي سبقت له القرابة من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك بالله أنا الّذي دلّ عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعلم القضاء بقوله علي أقضاكم أم أنت ؟

قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنا الّذي حباه الله تعالى بدينار عند حاجته ،

و باعه جبرئيل ، و أضاف محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ولده أم أنت ؟ فبكي أبو بكر و قال : بل أنت . قال : فانشدك بالله أنا الّذي حمله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم على كتفه في طرح صنم الكعبة و كسره حتّى لو شاء أن ينال افق السماء لنالها أم أنت ؟ قال : بل أنت .

قال : انشدك باللّه فأنا الّذي أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بفتح بابه في مسجده حين أمر بسدّ أبواب جميع أصحابه و أهل بيته ، و أحلّ له فيه ما أحلّه اللّه له أم أنت ؟ قال :

بل أنت . قال : فانشدك باللّه انا الّذي قدّم بين يدي نجواه للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم صدقة فناجاه اذ عاتب أقواما فقال : أ أشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات 1 . أم أنت ؟ قال : بل أنت . قال : فانشدك باللّه أنا الّذي قال فيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لفاطمة « زوجك أوّل الناس إيمانا ، و أرجحهم اسلاما » في كلام له أم أنت ؟ قال : بل أنت . فلم يزل عليّ عليه السّلام يعدّ عليه مناقبه التي جعلها اللّه تعالى له دون غيره ، و يقول له أبو بكر « بهذا و شبهه يستحق القيام بامور امّة محمّد » إلى أن قال فقال له عمر : « دون ما تروم يا علي خرط القتاد » 2 .

-----------
( 1 ) المجادلة : 13 .

-----------
( 2 ) رواه عن القطان الصدوق في الخصال 2 : 548 ح 30 ، باب الاربعين .

[ 166 ]

قلت : و ما تضمنه هذا الخبر مما عدّه عليه السّلام من فضائله درايات لا ريب فيها و ليست مثل روايات افتعلوها لأوّلهم و لباقيهم مزخرفات ، و لما مرّ للأوّل من كونه صاحب الغار و صاحب الصلاة .

هذي المكارم لا قعبان من لبن
شيبت بماء و عادت بعد أبوالا

و كيف يعترض الريب فيه عليه السّلام مع أحد ، و هو عليه السّلام كنفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بشهادة آية و أنفسنا 1 و دلالة مستفيضة اتحاد نوريهما 2 .

و عن ( طبقات ) حنابلة ابن أبي ليلى قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : ما تقول في التفضيل . قال : في الخلافة أبو بكر و عمر و عثمان . فقلت : فعلي . فقال :

يا بنيّ علي بن أبي طالب من أهل بيت لا يقاس بهم أحد 3 .

و عن ( محاسن البيهقي ) : قام رجل في مجلس ابن عائشة . فقال : يا أبا عبد الرحمن من أفضل أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال : أبو بكر و عمر و عثمان و طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة بن الجراح .

فقال الرجل : فأين علي بن أبي طالب ؟ فقال ابن عائشة : أن اللّه تعالى يقول قل تعالوا ندع أنباءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم 4 فكيف يكون أصحابه مثل نفسه 5 .

و منكر أفضليّته عليه السّلام بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم على جميع العالمين كمنكر البديهيات . كيف لا ، و قد قال جلّ و علا : هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا

-----------
( 1 ) آل عمران : 61 .

-----------
( 2 ) انظر حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « كنت انا و علي نورا بين يدي اللّه » أخرجه أحمد في الفضائل ، عنه التذكرة : 46 ، و ابن عساكر في ترجمة علي عليه السّلام 1 : 151 ح 186 ، و غيرهما .

-----------
( 3 ) رواه القاضي أبو يعلى في طبقات الحنابلة 2 : 120 ، كما ذكره الشارح نفسه و قوله ابن أبي ليلى خطأ .

-----------
( 4 ) آل عمران : 61 .

-----------
( 5 ) المحاسن و المساوي 1 : 29 ، و النقل بتلخيص .

[ 167 ]

يعلمون 1 و قال عزّ من قائل : يرفع اللّه الّذين آمنوا منكم و الذين اوتوا العلم درجات 2 و قال تعالى : و فضّل اللّه المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة 3 و كان عليه السّلام في العلم و الإيمان و الجهاد في الأقصى . أمّا علمه عليه السّلام فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه : « أنا مدينة العلم و علي بابها ، و من أراد مدينة فليأتها من بابها » 4 ، و أما إيمانه : فقال صلوات عليه و آله له : « الإيمان مخالط لحمك و دمك كما خالط لحمي و دمي » 5 و أمّا جهاده عليه السّلام فيكفيه قول جبرئيل عليه السّلام في احد للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لما فرّ عنه جميع أصحابه ، و أراد المشركون قتله و يكرّ عليهم أمير المؤمنين عليه السّلام مرّة بعد مرّة و يفرّقهم : « إنّ هذه لهي المواساة » و قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « و ما يمنعه من مواساتي و هو منّي و أنا منه » ، و قول جبرئيل : « و أنا منكما » و قول جبرئيل ذاك اليوم « لا فتى إلاّ عليّ و لا سيف إلاّ ذو الفقار » 6 .

« حتّى صرت أقرن إلى هذه النظائر » عثمان و طلحة و الزبير ، و سعد ،

و عبد الرحمن .

روي ( ميزان الذهبي ) ، عن أبي إسحاق قال : سألت ابن عمر ، عن عثمان و علي فقال : تسألني عن علي فقد رأيت مكانه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه سدّ أبواب المسجد إلاّ باب عليّ 7 .

-----------
( 1 ) الزمر : 9 .

-----------
( 2 ) المجادلة : 11 .

-----------
( 3 ) النساء : 95 .

-----------
( 4 ) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 : 126 و 127 ، و الكلابي في مسنده ، منتخبه : 426 ح 2 ، و غيرهما .

-----------
( 5 ) أخرجه الثقفي في المعرفة ، عنه اعلام الورى : 186 ، و الصدوق في أماليه : 86 ح 1 ، المجلس 21 ، و غيرهما في ضمن حديث .

-----------
( 6 ) أخرجه ابن هشام في السيرة 3 : 43 ، و ابن المغازلي في مناقبة : 197 ح 234 ، و غيرهما .

-----------
( 7 ) ميزان الاعتدال 3 : 65 .

[ 168 ]

و رووا عن الشعبي قال : دخل عليّ عليه السّلام على عثمان ، و عنده أهل الشورى و قد كان بلغه عنهم هنات ، و قوارص . فقال لهم في جملة كلام : « لكنّي أخبركم عن أنفسكم أمّا أنت يا عثمان ففررت يوم حنين ، و تولّيت يوم التقى الجمعان ، و أمّا أنت يا طلحة . فقلت : إن مات محمّد لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا ، و أما أنت يا عبد الرحمن فصاحب قراريط ، و أمّا أنت يا سعد فتدقّ عن أن تذكر » ثم خرج فقال عثمان : أما فيكم أحد يردّ عليه ؟ قالوا و ما منعك من ذلك و أنت أمير المؤمنين 1 .

أراد عمر إقران أمير المؤمنين عليه السّلام بعثمان مع كون سوابق عثمان كلواحقه موادة من حادّ اللّه و رسوله . فتارة كان يقول انّ عليا و عثمان من بني عبد مناف و على قياسه يجب أن يكون أبو سفيان مثل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لكون كل منهما من بني عبد مناف ، و اخرى كان يقول : « إنّ الناس لا يعدلون بهذين الرجلين اللذين كان الرسول نجيّا بينهما و بين جبرئيل يتبلغ عنه و يملي عليهما » .

و على قياسه كان عليه أن يزيد عليهما ابن أبي سرح الّذي نزل القرآن بكفره و أهدر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم دمه ، و إن حماه عثمان في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و ولاّه بعده في أيّام خلافته . فإنّه أيضا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم واسطة بينه و بين جبرئيل .

و لم يزد معاوية الّذي كان يقول انّه كاتب الوحي بلا وساطة النبيّ . ففي ( نقض عثمانية الاسكافي ) : « روى الواقدي أنّ معاوية بعد بيعة العراق له جمع أهل الشام ، و كتب لهم كتابا و قرأه عليهم « هذا كتاب كتبه معاوية صاحب وحي اللّه الّذي بعث محمّدا نبيّا ، و كان اميّا لا يقرأ و لا يكتب . فاصطفى له من أهله وزيرا كاتبا أمينا . فكان الوحي ينزل على محمّد ، و أنا أكتبه ، و هو لا يعلم

-----------
( 1 ) رواه الجوهري في السقيفة : 88 .

[ 169 ]

ما أكتب . فلم يكن بيني و بين اللّه أحد من خلقه » 1 .

و إذا كان عمر يقول ذاك ، لم لا يقول معاوية هذا :

و عن « مفاخرات هاشم و اميّة » للجاحظ قالت هاشم لاميّة : قال شاعركم :

صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة
و لم نر مهديا على الجذع يصلب

و قستم بعثمان عليّا سفاهة
و عثمان خير من علي و أطيب

فقال بعض الصالحين من أهل البيت « اللهم ان كان كاذبا فسلّط عليه كلبا من كلابك » فخرج يوما بسفر له فعرض له الأسد فافترسه 2 . و قد ذكر تفصيل ما قاله الجاحظ ، الحموي في ( ادبائه ) . فقال : جاء رجل إلى عبد اللّه بن جعفر فقال يا ابن عم الرسول هذا حكيم الكلبي ينشد الناس هجاءكم بالكوفة و أنشده البيت فرفع يديه ، و هما ينتفضان رعدة . فقال : « اللهم ان كان كاذبا فسلط عليه كلبا » فخرج حكيم من الكوفة فافترسه الأسد و أكله . فاتى البشير عبد اللّه و هو في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فخر للّه ساجدا ، و قال : الحمد للّه الّذي صدقنا وعده 3 .

و أقول لشاعرهم : هل تستوي الظلمات و النور حتّى نقيس عليا به ، فإن كنّا نفعل ذلك كان ذلك سفاهة منّا كما قلت ، و إنما قاسه به فاروقكم .

و في ( الطبري ) : قال الرشيد لعبد اللّه بن ثقيف الزهري : ما تقول في الذين طعنوا على عثمان ؟ فقال : طعن عليه ناس ، و كان معه ناس . فأما الذين طعنوا عليه فتفرّقوا عنه فهم أنواع الشيع و أهل البدع ، أنواع الخوارج ، و أما الذين كانوا

-----------
( 1 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 361 ، شرح الخطبة 57 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 477 ، شرح الكتاب 28 .

-----------
( 3 ) معجم الادباء 10 : 248 ، و النقل بتلخيص .

[ 170 ]

معه . فهم أهل الجماعة إلى اليوم . فقال الرشيد : ما أحتاج أن اسأل بعد هذا اليوم عن هذا ، ثم قال له : فما منزلة أبي بكر و عمر من النبي ؟ فقال : كانت منزلتهما في حياته منه منزلتهما في مماته . فقال له الرشيد : كفيتني ما أحتاج إليه 1 .

قلت : أما جوابه عن عثمان فمغالطة . فالطاعنون عليه جمهور المسلمين عموما قبل أن يحمل معاوية الناس قهرا على تولّيه ، و أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام في الجمل و صفين و النهروان ، و أصحاب الحسين عليه السّلام يوم الطف خصوصا ، و أما الذين كانوا معه . فالناكثون و القاسطون ، و قتلة عترة رسول رب العالمين ، و سابي بناته أصحاب يزيد بن معاوية و عبيد اللّه بن زياد و بني مروان .

و أما جوابه عن أبي بكر و عمر . فبرهان من الغرائب فإذا كانت هكذا الدلائل ينحل كثير من المسائل و نحن نقول و شاهدنا الدراية : إنّه كما أنّ منزلتهما من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مماته كانت غصبا و جورا كانت منزلتهما منه في حياته كذبا و مينا .

و في ( تاريخ بغداد ) : قال القاسم بن سلام : فعلت بالبصرة فعلتين أرجو بهما الجنّة : اتيت يحيى القطان ، و هو يقول أبو بكر و عمر و علي . فقلت معي شاهدان من أهل بدر يشهدان أنّ عثمان أفضل من عليّ . قال : بمن ، قلت : أنت حدّثتنا عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال : خطبنا عبد اللّه بن مسعود . فقال « أميرنا خير من بقي و لم نأل » قال : و من الآخر ؟ قلت :

« الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن المسّور بن مخرمة قال : سمعت عبد الرحمن بن عوف يقول « شاورت المهاجرين الأوّلين و أمراء الأجناد ،

و أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلم أر أحدا يعدل بعثمان » . قال : فترك قوله ، و قال

-----------
( 1 ) رواه الطبري في تاريخه 6 : 534 ، سنة 193 ، و الرجل عبد الله بن مصعب الزبيري لا عبد اللّه بن ثقيف .

[ 171 ]

أبو بكر و عمر و عثمان 1 .

قلت : إنّ الرجل لم يدع للجلافة و قلّة الحياء حدّا . أمّا ابن مسعود فكيف يقول ما قاله و قد كان عثمان ضربه حتّى كسر ضلعه ، و قد أوصى أن لا يصلّي عليه عثمان ، و كان يقول « ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب » 2 .

و كان يقول : « ليتني و عثمان برمل عالج يحثو عليّ و أحثو عليه حتّى يموت الاعجز منّي و منه » 3 .

و أمّا ابن عوف . فإنّما ولاّه لكونه صهره ثم ندم و لم يكلّمه حتّى مات و أوصى أن لا يصلّي عليه 4 .

و المشيرون عليه باستخلافه إنّما كانوا أعداء اللّه و أعداء رسوله ، و أمّا المهاجرون الأوّلون كالمقداد و أبي ذر و عمّار و نظرائهم فإنّما أشاروا عليه باستخلاف أمير المؤمنين عليه السّلام . ففي ( سقيفة الجوهري ) : عن معروف بن سويد قال : كنت بالمدينة أيّام بويع عثمان فرأيت رجلا في المسجد جالسا و هو يصفق بإحدى يديه على الاخرى ، و الناس حوله ، و يقول : « وا عجبا من قريش و استيثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت ، معدن الفضل ، و نجوم الأرض ، و نور البلاد . و اللّه إنّ فيهم لرجلا ما رأيت بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أولى منه بالحقّ ، و لا أقضى بالعدل ، و لا آمر بالمعروف ، و لا أنهى عن المنكر » قال :

فسألت عنه فقيل : هذا المقداد فتقدّمت إليه و قلت : من الرجل الّذي تذكره ؟ فقال :

ابن عم نبيّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليّ بن أبي طالب . قال : فلبثت ما شاء اللّه . ثم لقيت أباذر فحدّثته بما قال المقداد فقال : صدق . قلت : فما يمنعكم أن تجعلوا

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 12 : 409 .

-----------
( 2 ) رواه الثقفي في تاريخه ، عنه فتن البحار : 318 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 3 ) رواه الثقفي في تاريخه ، عنه فتن البحار : 318 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 4 ) نفس المصدر : 319 ، و النقل بالمعنى .

[ 172 ]

هذا الأمر فيهم . قال : أبى ذلك قومهم 1 .

و فيه أيضا عن الشعبي قال في خبر أهل الشورى : « فأقبل المقداد و الناس مجتمعون . فقال : إسمعوا ما أقول : أنا المقداد بن عمر و إنّكم إن بايعتم عليّا سمعنا و أطعنا ، و إن بايعتم عثمان سمعنا و عصينا . فقام عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي فنادى : أيّها الناس إن بايعتم عثمان سمعنا و أطعنا ، و إن بايعتم عليّا سمعنا و عصينا . فقال له المقداد : يا عدّو الله و عدّو رسوله ، و عدوّ كتابه و متى كان مثلك يسمع له الصالحون ؟ فقال له عبد اللّه : و متى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش ؟ فقال عبد اللّه بن أبي سرح : أيّها الملأ إن أردتم أن لا تختلف قريش في ما بينها عثمان . فقال عمّار : إن أردتم أن لا يختلف المسلمون في ما بينهم ، فبايعوا عليّا ، و قال لابن أبي سرح : يا فاسق ابن الفاسق أنت ممّن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في امورهم ؟ الخبر 2 .

و من المضحك أنّ الخطيب الناصبي تقيّد في ( تاريخ بغداده ) بتقديم ذكر من اسمه عثمان على من كان اسمه علي ، و تقديم ذكر من كان اسم أبيه كذلك . فيقال له : إنّ إمامك أباح دمه المسلمون ، و منعوا دفنه مع المسلمين ،

و إنّما أجبر معاوية و باقي بني أمية الناس بالسيف على القول به .

كما انه خلعه من نصبه و هو ابن عوف فعن ( تاريخ الواقدي ) : قال عثمان بن السريد : دخلت على عبد الرحمن بن عوف في شكواه الذي مات فيه أعوده فذكر عنده عثمان . فقال « عاجلوا طاغيتكم هذا قبل أن يتمادى في ملكه » قالوا :

-----------
( 1 ) السقيفة : 81 .

-----------
( 2 ) السقيفة : 84 ، و النقل بتلخيص .

[ 173 ]

فأنت وليّته قال : لا عهد لناقض 1 .

و في ( الطبري ) : قال عفيف بن زهير بن أبي الأخنس و كان قد شهد مقتل الحسين عليه السّلام و خرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة ، و هو حليف لبني سليمة من عبد القيس . فقال : « يا برير بن حضير كيف ترى صنع اللّه بك ؟ » قال : « صنع اللّه و اللّه بي خيرا ، و صنع اللّه بك شرّا » . قال : « كذبت و قبل اليوم ما كنت كذّابا . هل تذكر و أنا اماشيك في بني لوذان ، و أنت تقول : إنّ عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفا ، و إنّ معاوية ضال مضلّ ، و إنّ إمام الهدى و الحقّ علي بن أبي طالب ؟ فقال له برير : « أشهد أنّ هذا رأيي و قولي » . فقال له : يزيد « فإنّي أشهد أنّك من الضالّين » . فقال له برير : « هل لك فلاباهلك و لندع اللّه أن يلعن الكاذب ، و أن يقتل المبطل ثم اخرج فلأبارزك » . قال : فخرجا فرفعا أيديهما إلى اللّه يدعوانه أن يلعن الكاذب و أن يقتل المحق المبطل . ثم برز كلّ واحد منهما لصاحبه فاختلفا ضربتين ، فضرب يزيد بريرا ضربة خفيفة لم تضرّه شيئا ، و ضربه برير ضربة قدّت المغفر ، و بلغت الدماغ فخرّ كأنّما هوى من حالق ، و أنّ سيف برير لثابت في رأسه . فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه 2 .

« لكنّي أسففت إذ أسفّوا » من أسفّ الطائر إذا طار دانيا من الأرض حتّى كادت رجلاه تصيبانها .

« وطرت إذ طاروا » و نظير كلامه عليه السّلام قول ابن عباس لكن بالعكس لمّا قيل له « ما منع عليا عليه السّلام أن يبعثك مكان أبي موسى » « منعه من ذلك حائل القدر و قصر المدّة و محنة الابتلاء أما و اللّه لو بعثني مكانه لاعترضت مدارج نفسه

-----------
( 1 ) رواه عنه المجلسي في فتن البحار : 319 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 4 : 328 ، سنة 61 .

[ 174 ]

ناقضا لما أبرم و مبرما لما نقض ، أسفّ إذا طار ، و أطير إذا أسفّ ، و لكن مضى قدر و بقي أسف » و قريب منه في المعنى قول أبي تمامة :

اخاصمهم مرّة قائما
و أجثو إذا ما جثوا للركب

إذا منطق قاله صاحبي
تعقبت آخر ذا معتقب

و قال الرضي رحمة اللّه في وصف الدهر :

أسفّ بمن يطير إلى المعالي
و طار بمن يسفّ إلى الدنايا

« فصغى » بكسر الغين : أي مال .

« رجل منهم لضغنه » أي : لحقده .

قال ابن أبي الحديد : يعنى عليه السّلام بالرجل طلحة ، و انّما مال طلحة إلى عثمان لأنّه تيمي ابن عم أبي بكر ، و قد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة ، و كذلك صار في صدور بني تيم على بني هاشم ، و هذا أمر مركوز في طبيعة البشر ، و خصوصا العرب ، و قال الراوندي :

« يعني عليه السّلام بالرجل سعد بن أبي وقاص ، لأنّ عليّا عليه السّلام قتل أباه يوم بدر » و هو خطأ فإنّ أباه مات في الجاهلية . و إن صحّت الرواية التي تضمنت أنّ طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى كما اختاره الطبري ، فذو الضغن سعد ، لأنّ امّه حمنة بنت سفيان بن اميّة بن عبد شمس ، و الضغينة التي عنده على عليّ عليه السّلام من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم ، و لم أعرف أنّ عليا عليه السّلام قتل أحدا من بني زهرة لينسب الضغن إليه 1 .

قلت : و الرواية المتضمنة بأنّ طلحة لم يكن حاضرا لم ينحصر اختياره بالطبري . فقد اختاره الجوهري في ( زيادات سقيفته ) و عوانة في كتاب

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 63 ، و شرح الراوندي 1 : 127 ، و النقل بتلخيص و رواية الطبري في تاريخه 3 : 295 ، سنة 23 .

[ 175 ]

( شوراه ) ، و ابن عبد ربه في ( عقده ) و ابن أعثم الكوفي في ( تاريخه ) ، و ابن قتيبة في ( معارفه ) 1 .

ثم المراد بالرجل سعد معيّنا ، و لو لم تكن تلك الرواية صحيحة لما مرّ عن كتاب ( الشورى و السقيفة ) عن الشعبي ، و عن كتاب الحماني عن أبي صادق أنّه عليه السّلام قال : « إنّ سعدا مع ابن عمه ابن عوف و ابن عوف مع صهره عثمان فلو فرض كون طلحة و الزبير معي ما نفعاني » و زاد في الأخير :

« و لم يبال أن يقتل طلحة إذا قتلني و قتل الزبير » 2 .

و في خبر الطبري ، قال عليّ عليه السّلام لعمه : عدلت عنّا فقال : و ما علمك قال :

قرن بي عثمان ، و قال : « كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا و رجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن » فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن و عبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيولّيها عبد الرحمن عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرحمن فلو كان الآخران معي لم ينفعاني 3 .

و في ( العقد ) : قال المدائني قال عليّ عليه السّلام لسعد : أسألك برحم ابني هذين ( الحسن و الحسين ) من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و برحم عمّي حمزة منك أن لا تكون مع عبد الرحمن ظهيرا عليّ لعثمان 4 .

و بالجملة فكما كون المراد من قوله عليه السّلام بعد « و مال الآخر لصهره » عبد الرحمن معيّن كذلك معيّن أنّ المراد بقوله عليه السّلام : « فصغى رجل منهم . . . » هو

-----------
( 1 ) رواه الجوهري في السقيفة : 82 ، و عوانة في الشورى ، عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 391 ، شرح الخطبة 137 ، و ابن عبد ربه في العقد الفريد 5 : 30 ، و ابن أعثم في الفتوح 2 : 99 ، و ابن قتيبة في المعارف : 228 .

-----------
( 2 ) رواه عوانة في الشورى ، عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 389 ، شرح الخطبة 137 ، و الجوهري في السقيفة : 83 ، و عن الحماني المفيد في الإرشاد : 151 .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 3 : 294 ، سنة 23 .

-----------
( 4 ) العقد الفريد 5 : 28 .

[ 176 ]

سعد لا طلحة ، و لو فرض كونه حاضرا كالزبير .

ثم إن كان طلحة ذا ضغن ، و قد كان ، فقد مرّ عن كتابي عوانة و الجوهري عنه عليه السّلام مشيرا إلى طلحة و الزبير : « فلو أنّ الرجلين الباقيين كانا معي لم يغنيا عنّي شيئا » ثم قال : « دع . إنّي لست أرجو إلاّ أحدهما » و المراد الرجاء بالزبير دون طلحة فلأنّه عليه السّلام قتل يوم بدر أخويه عثمان و مالكا و عمّه عميرا .

مع أنّه قد يكون الضغن لتنافر الروح بدون سبب ظاهر . كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « الأرواح جنود مجنّده . فما تعارف منها ائتلف ، و ما تناكر منها اختلف » 1 .

مع أنه عليه السّلام قال : « لا يحبّني إلاّ مؤمن » و أي إيمان لمن عمل تلك الأعمال الشنيعة في الجمل ؟ و أمّا قول ابن أبي الحديد في سبب ضغن طلحة بما مرّ فلا وجه له . فإنّ تيما أخذت حق هاشم فلم يحصل في نفوسهم حنق شديد . فإنّ الحنق للمأخوذ حقه دون الآخذ حق غيره ، و لمّا قال عمر لابن عباس في مكالمة له في الخلافة « أبت قلوبكم يا بني هاشم إلاّ حقدا » قال له ابن عباس : « و كيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره » 2 .

و لما قال القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة لاسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن عليّ عليه السّلام « لم يزل فضلنا إحساننا سابغا عليكم يا بني هاشم » قال له إسماعيل : « أي فضل و إحسان أسديتموه إلى بني عبد مناف أغضب أبوك ( يعني طلحة ) جدّي ( يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ) بقوله ليموتن

-----------
( 1 ) أخرجه مسلم في صحيحة 4 : 2031 ح 159 و 160 ، و أبو داود في سننه 4 : 260 ح 4834 ، و غيرهما .

-----------
( 2 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 107 ، شرح الخطبة 226 ، و النقل بالمعنى .

[ 177 ]

محمد و لنجولنّ بين خلاخيل نسائه كما جال بين خلاخيل نسائنا ، فأنزل اللّه تعالى مراغمة لأبيك : و ما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا 1 ، و منع ابن عمك ( يعني أبا بكر ) امّي ( يعني فاطمة السلام عليهما ) حقّها من فدك ، و غيرها من ميراث أبيها إلى أن قال و نكث ( أبوك ) بيعة عليّ عليه السّلام و شام السيف في وجهه ، و أفسد قلوب المسلمين عليه 2 .

كما أنّ قول ابن أبي الحديد : إنّه إن لم يكن طلحة حاضرا فذو الضغن سعد لانّ امه كانت من بني امية ، و كان عليه السّلام قتل أخواله 3 ليس بصحيح ،

فالناس و لا سيّما العرب إنّما يتعصبون لبني آبائهم دون بني آباء امّهاتهم .

و سعد إنّما كان ميله إلى أمير المؤمنين عليه السّلام في نفسه أكثر منه إلى عثمان لكنه تبع هوى ابن عمه عبد الرحمن . ففي ( العقد الفريد ) : روى المدائني أن عبد الرحمن قال لسعد : أنا و أنت كلالة فاجعل نصيبك لي فأختار . فقال له سعد : « أمّا إن اخترت نفسك فنعم ، و أمّا إن اخترت عثمان فعلي أحبّ إلي منه » 4 .

كما أنّ سعدا و إن كان ممّن لم يبايع أمير المؤمنين عليه السّلام لكن لم يقاتل معه عليه السّلام مثل طلحة ، و لم يساعد في قباله عليه السّلام معاوية ، و لمّا كتب معاوية إليه و دعاه إلى نفسه أجابه بجوابات شديدة .

و في ( المروج ) : لما حجّ معاوية أجلس سعدا معه على السرير في دار الندوة ثم شرع في سبّ عليّ عليه السّلام . فقال له سعد : و اللّه لأن يكون في خصلة

-----------
( 1 ) الاحزاب : 53 .

-----------
( 2 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 481 ، شرح الخطبة 170 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 63 .

-----------
( 4 ) العقد الفريد 5 : 28 .

[ 178 ]

واحدة من خصال كانت لعلي أحبّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، ثم ذكر كونه عليه السلام صهر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و له من الولد الحسنان عليه السّلام ،

و قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه يوم خيبر في إعطائه الراية و يوم تبوك من حديث المنزلة 1 .

مع أنّ أصل رواية « لضغنه » كما في المتن غير معلوم صحتها .

فبدّله الصدوق في معانيه بقوله « بضبعه » و قال : و في رواية « بضلعه » 2 .

بل معلوم عدم صحتها لما مرّ من روايات دالّة على عدم ضغن سعد معه عليه السّلام و أنّه عليه السّلام قال : إنّما سعد يميل إلى ابن عمه عبد الرحمن الّذي هواه في عثمان و حينئذ فالأصح رواية « بضلعه » و في ( الصحاح ) في المثل « لا تنقش الشوكة بالشوكة فإنّ ضلعها معها » يضرب للرجل يخاصم آخر فيقول :

« إجعل بيني و بينك فلانا » لرجل يهوى هواه 3 .

و يمكن تصحيح « بضبعه » أيضا ففي ( الصحاح ) أيضا : « و كنّا في ضبع فلان بالضم : أي : في كنفه و ناحيته 4 ، و قد عرفت أنّ سعدا كان في كنف ابن عمه و في ناحيته ، و أبو أحمد العسكري لم يذكر غيرهما . و قال : هما قريبان معنى 5 .

« و مال الآخر لصهره » و المراد بالآخر عبد الرحمن بن عوف كما مرّ ،

و بصهره عثمان . فإنّ اخت عثمان لامّه أروي بنت كريز ، و هي ام كلثوم بنت

-----------
( 1 ) مروج الذهب 3 : 14 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) معاني الأخبار : 361 .

-----------
( 3 ) صحاح اللغة 3 : 1251 ، مادة ( ضلع ) .

-----------
( 4 ) صحاح اللغة 3 : 1247 ، مادة ( ضبع ) .

-----------
( 5 ) العلل 1 : 152 ، و المعاني : 363 .

[ 179 ]

عقبة بن أبي معيط كانت تحت عبد الرحمن .

فعن ( سقيفة الجوهري ) و ( شورى عوانة ) قال الشعبي : ادخل أهل الشورى دارا فأقبلوا يتجادلون عليها و كلهم بها ظنين ، و عليها حريص إمّا للدنيا و إمّا للآخرة . فلمّا طال ذلك قال عبد الرحمن : من رجل منكم يخرج نفسه من هذا الأمر ، و يختار لهذه الامّة رجلا فإنّي طيّبة نفسي أن اخرج منها و أختار لكم . قالوا : قد رضينا إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فإنّه اتّهمه . فاقبل أبو طلحة عليه ، و قال له : إرض برأي عبد الرحمن . فقال عليّ عليه السّلام لعبد الرحمن : أعطني موثقا من اللّه لتؤثرنّ الحقّ ، و لا تتّبع الهوى ، و لا تمل إلى صهر و لا إلى ذي قرابة ، و لا تعمل إلاّ لله ، و لا تألو هذه الامة أن تختار لها خيرها إلى أن قال فخرج عبد الرحمن فمكث ثلاثة أيّام يشاور الناس . ثم رجع و اجتمع الناس و كثروا على الباب لا يشكّون في أنّه يبايع عليّا عليه السّلام ، و كان هوى قريش كافة ما عدا بني هاشم في عثمان ، و هوى طائفة من الأنصار مع عليّ عليه السّلام ، و هي طائفة اخرى هي أقل الطائفتين مع عثمان ، و طائفة لا يبالون أيّهما بويع . فأقبل المقداد و الناس مجتمعون . فقال : أيّها الناس اسمعوا ما أقول : أنا المقداد بن عمر ،

و إنّكم إن بايعتم عليّا سمعنا و أطعنا ، و إن بايعتم عثمان سمعنا و عصينا إلى أن قال ثم أقبل عمّار على عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال : « يا فاسق و ابن الفاسق أنت ممّن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في امورهم » ؟ و ارتفعت الأصوات ، و نادى مناد لا يدري من هو فقريش تزعم أنّه رجل من مخزوم ، و الأنصار تزعم أنّه رجل طوال آدم مشرف على الناس لا يعرفه أحد .

( و أقول : لابدّ أنه كان إبليس ، و قد كان أوّل من بايع الأوّل على ما ورد عن أهل البيت عليه السّلام ) « يا عبد الرحمن افرغ من أمرك ، و امض على ما في نفسك . فانّه

[ 180 ]

الصواب » فأقبل عبد الرحمن على عليّ عليه السّلام فقال : عليك عهد اللّه و ميثاقه إن بايعتك لتعملنّ بكتاب اللّه و سنّة رسوله ، و سيرة أبي بكر و عمر . فقال عليّ عليه السّلام « على طاقتي و مبلغ علمي و جهد رأيي » و الناس يسمعون . فأقبل على عثمان فقال . له : مثل ذلك . فقال عثمان : « نعم لا أزول عنه و لا أدع شيئا منه » ، ثم أقبل عبد الرحمن على عليّ عليه السّلام ثلاث مرّات . فقال له : ذلك ثلاث مرات ، و لعثمان ثلاث مرّات في كلّ ذلك يجيب عليّ عليه السّلام مثل ما كان أجاب به ، و يجيب عثمان بمثل ما كان أجاب به . فقال : « ابسط يدك يا عثمان » فبسط يده فبايعه ، و قام القوم فخرجوا ، و قد بايعوا إلاّ عليّا عليه السّلام فإنّه لم يبايع . فخرج عثمان على الناس ،

و وجهه يتهلّل ، و خرج عليّ عليه السّلام ، و هو كاسف البال مظلم ، و هو يقول : « يا ابن عوف ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم علينا من دفعنا عن حقّنا و الاستيثار علينا و طريقة تركتموها » 1 .

و في ( أنساب البلاذري ) : لما بايع عبد الرحمن عثمان ، و بايعه أصحاب الشورى كان عليّ عليه السّلام قائما فقعد . فقال له عبد الرحمن : « بايع و إلاّ ضربت عنقك » و لم يكن مع أحد يومئذ سيف غيره . فيقال : إنّ عليا خرج مغضبا فلحقه أصحاب الشورى و قالوا : بايع و إلاّ جاهدناك . فأقبل معهم يمشي حتّى بايع عثمان 2 .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : أخذ عبد الرحمن بيد عثمان ، و قال له : « لئن بايعتك لتقيمنّ لنا كتاب اللّه و سنّة رسوله ، و سنّة صاحبيك ، و شرط عمر ألاّ تجعل أحدا من بنى اميّة على رقاب الناس » فقال عثمان : « نعم ثم أخذ بيد

-----------
( 1 ) رواه الجوهري في السقيفة : 83 ، و عوانة في الشورى ، عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 390 ، شرح الخطبة 137 ، و النقل بتصرف يسير و كون ابليس أوّل من بايع أبا بكر رواه الكليني في الكافي 8 : 343 ح 541 ، و سليم بن قيس في كتابه :

80 .

-----------
( 2 ) انساب الاشراف 5 : 22 .

[ 181 ]

عليّ عليه السّلام فقال له : ابايعك على شرط عمر أن لا تحمل أحدا من بنى هاشم على رقاب الناس » فقال : « ما لك و لهذا . فإنّ علي الاجتهاد لامّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم حيث علمت القوّة و الأمانة » قال عبد الرحمن : « لا و اللّه حتّى تعطيني هذا الشرط » قال عليه السّلام : « لا و اللّه لا اعطيكه أبدا » فتركه إلى أن قال قال عبد الرحمن : « لا تجعل يا علي على نفسك سبيلا فإنّه السيف لا غير » 1 .

و قال ابن أبي الحديد بعد ذكر بيعة عبد الرحمن لعثمان لمّا قبل العمل بسيرة الشيخين فقال عليّ عليه السّلام « ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ،

فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون ، و الله ما ولّيته الأمر إلاّ ليردّه إليك ، و اللّه كلّ يوم هو في شأن » فقال عبد الرحمن : « لا تجعلنّ على نفسك سبيلا يا علي » يعني أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف فقام عليّ عليه السّلام فخرج و قال : « سيبلغ الكتاب أجله » فقال عمّار : « يا عبد الرحمن أمّا و اللّه لقد تركته ، و إنّه من الذين يقضون بالحقّ و به يعدلون » و قال المقداد « تاللّه ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم ، و اعجبا لقريش لقد تركت رجلا ما أقول ، و لا أعلم أنّ أحدا أقضى بالعدل ، و لا أعلم ، و لا أتقى منه . أما لو أجد أعوانا » . فقال عبد الرحمن : « إتق اللّه يا مقداد . فإني خائف عليك الفتنه » ،

و قال عليّ عليه السّلام : « إني لأعلم ما في أنفسهم . إن الناس ينظرون إلى قريش ،

و قريش تنظر في صلاح شأنها فتقول : إنّ ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا ، و ما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش » قال : و قدم طلحة في اليوم الّذي بويع فيه عثمان فتلكّأ ساعة ثم بايع 2 .

و قال ابن أبي الحديد أيضا : قال أبو هلال العسكري في كتاب ( الأوائل ) :

-----------
( 1 ) الامامة و السياسة 1 : 26 ، و النقل بتصرف في اللفظ

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 65 .

[ 182 ]

استجيبت دعوة عليّ عليه السّلام في عثمان و عبد الرحمن فما ماتا إلاّ متهاجرين متعاديين 1 .

قلت : و دعاؤه عليه السّلام فيهما أنّه قال لهما : « دقّ اللّه بينكما عطر منشم » فروى عوانة عن الشعبي : أتى ابن عوف بعد بيعة عثمان عليا عليه السّلام و اعتذر إليه . فقال :

إنّ عثمان أعطانا يده و يمينه ، و لم تفعل أنت . فأحببت أن اتوثق للمسلمين فجعلتها فيه فقال عليه السّلام : إيها عنك إنّما آثرته بها لتنالها بعد . دقّ الله بينكما عطر منشم 2 .

و روى أيضا عنه قال : لمّا بنى عثمان قصره طمار الزوراء و صنع طعاما كثيرا و دعا الناس إليه كان فيهم عبد الرحمن . فلمّا نظر إلى البناء و الطعام قال : يا ابن عفّان لقد صدّقنا عليك ما كنّا نكذّب فيك ، و انّي أستعيذ باللّه من بيعتك . فغضب عثمان و قال : أخرجه عنّي يا غلام . فأخرجوه ، و أمر الناس أن لا يجالسوه 3 .

و في ( المعجم ) الزّوراء : دار عثمان بالمدينة 4 .

و في ( تاريخ اليعقوبي ) : روى أنّ عثمان أعتلّ علّة اشتدّت به .

فدعا حمران بن أبان ، و كتب عهدا لمن بعده ، و ترك موضع الاسم . ثم كتب بيده « عبد الرحمن بن عوف » و ربطه و بعث به إلى ام حبيبة بنت أبي سفيان . فقرأه حمران في الطريق ، فأتى عبد الرحمن فأخبره . فقال عبد الرحمن و غضب غضبا شديدا أستعمله علانية ، و يستعملني سرّا و نمى الخبر ، و انتشر بذلك في المدينة ، و غضب بنو اميّة ، و كان ذلك سبب

-----------
( 1 ) رواه عن الاوائل ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 65 ، لكن لم اجده في مظانه .

-----------
( 2 ) رواه عن عوانة ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 391 ، شرح الخطبة 137 .

-----------
( 3 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 66 ، و الحديث في الاوائل : 152 .

-----------
( 4 ) معجم البلدان 3 : 156 .

[ 183 ]

العداوة بين عثمان و عبد الرحمن 1 .

و عن ( تاريخ الثقفي ) : قال أبو إسحاق : صلّى الناس يوما الفجر في خلافة عثمان فإذا بعبد الرحمن حوّل وجهه إليهم ، و استدبر القبلة . ثم خلع قميصه من جيبه فقال : « يا معشر أصحاب محمّد ، و يا معشر المسلمين اشهد اللّه و اشهد كم أنّي خلعت عثمان من الخلافة كما خلعت سربالي هذا » فأجابه مجيب من الصفّ الأوّل آلان و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين 2 فنظروا من الرجل فإذا هو علي بن أبي طالب 3 .

و من الغريب أنّ عمر قال : « سأستخلف النفر الذين توفّى النبيّ ، و هو عنهم راض » ثم ذكر عيب كلّ منهم ، و قال لعبد الرحمن كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) « و أما أنت فما يمنعني منك إلاّ أنّك فرعون هذا الامة » 4 .

قلت : و قد كان قارونها أيضا فقال ابن قتيبة : قسّم ميراثه على ستّة عشر سهما . فبلغ نصيب كلّ امرأة له ثمانين ألف درهم 5 .

و قال المسعودي في ( مروجه ) : أتى عثمان بتركة عبد الرحمن . فنثرت البدر حتّى حالت بين عثمان و بين الرجل القائم 6 .

و روى الواحدي في ( أسباب نزوله ) : أنّ فيه و في جمع معه نزل قوله تعالى : أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم 7 الآية 8 .

-----------
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 169 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) يونس : 91 .

-----------
( 3 ) رواه عنه المجلسي في فتن البحار : 319 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 4 ) الامامة و السياسة 1 : 24 .

-----------
( 5 ) الامامة و السياسة 1 : 24 .

-----------
( 6 ) مروج الذهب 2 : 340 .

-----------
( 7 ) النساء : 77 .

-----------
( 8 ) أسباب النزول : 111 .

[ 184 ]

هذا ، و في ( معارف ابن قتيبة ) : كان عبد الرحمن أبرص 1 ، و روى الصدوق في ( فقيهه ) : انّ عبد الرحمن كان قملا فرخّص له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لبس الحرير 2 .

« مع هن و هن » الأصل في معنى هن الكناية عن العورة من الرجل و المرأة قال شاعر :

ألا ليت شعري هل ابيتنّ ليلة
و هنّي جاذ بين لهزمتي هن 3

و زنت جارية فناداها أبوها فقالت انّي غضبي . قال : لم ؟ قالت : إنّي حبلى .

فقال لها : « إن كنت غضبي فعلى هنك فاغضبي » فصار مثلا 4 ، و قال شاعر :

رحت و في رجليك ما فيهما
و قد بدا هنك من المئزر 5

و يكنّى بها عن الخصال القبيحة كقول امرئ القيس :

و قد رابني قولها يا هناه
و يحك ألحقت شرّا بشرّ 6

و قال لبيد :

أكرمت عرضي أن ينال بنجوة
إن البريّ من الهنات سعيد 7

ثم الظاهر أنّ مراده عليه السّلام من قوله « مع هن و هن » انّ الرجلين سعد و عبد الرحمن لم ينحصر صرف الأمر عنه عليه السّلام بما مر من صغى الأول إلى الثاني لكونه ابن عمه ، و ميل الثاني إلى ابن عفان لكونه صهره ، بل اجتمع ذلك

-----------
( 1 ) المعارف : 235 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) الفقيه 1 : 164 ح 25 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 3 ) أورده لسان العرب 15 : 367 ، مادة ( هنا ) .

-----------
( 4 ) أورده الميداني في مجمع الأمثال 1 : 55 .

-----------
( 5 ) أورده لسان العرب 15 : 367 ، مادة ( هنا ) .

-----------
( 6 ) اورده لسان العرب 15 : 366 ، مادة ( هنا ) .

-----------
( 7 ) أورده أساس البلاغة : 488 ، مادة ( هنو ) .

[ 185 ]

مع خصال قبيحة اخرى من أهل هواهم . كقول ابن أبي سرح : « أيّها الملأ إن أردتم أن لا يختلف قريش في ما بينها فبايعوا عثمان » و قول ابن أبي ربيعة « إن بايعتم عليا قالوا سمعنا و عصينا » ، و اتفاق الباقين معهما . قال الشعبي :

« و اجتمع أهل الشورى على أن تكون كلمتهم واحدة على من لم يبايع . فقاموا إلى عليّ عليه السّلام فقالوا : قم فبايع عثمان قال : فإن لم أفعل ؟ قالوا : نجاهدك . فمشى إلى عثمان حتّى بايعه و هو يقول : صدق اللّه و رسوله » 1 أي في غدرهم به أولا و أخيرا في قوله صلى الله عليه و آله و سلم « انّ الامّة ستغدر بك بعدي » 2 .

هذا ( و الإرشاد للمفيد ) نقل فقرة : « مع هن و هن » هنا كالنهج ، و نقلها الصدوق بعد قوله عليه السّلام : « فمني الناس بخبط و شماس و تلوّن و اعتراض » و قال أبو أحمد العسكري : يعني بالفقرة ، الأدنياء من الناس تقول العرب : « فلان هني » و هني تصغير هن . أي : دون من الناس . يريدون بذلك تصغير أمره 3 .

و أقول : لو كانت الفقرة هاهنا كما نقله المتن كان لتفسيرها بالأدنياء وجه و أما ثمة فلا ، و إنّما المناسب ثمة أن تفسّر بأنّ المعنى : « مع خصلة سوء اخرى و خصلة سوء اخرى » كما لا يخفى .

هذا : و أكثر أهل اللغة قالوا : أصل هن هنو ، و قال الفيّومي : « أصلها في لغة هنو و في اخرى هنه ، و في اخرى هنّ » 4 قلت : الأصح الأول . قال الشاعر :

أرى ابن نزار قد جفاني و ملّني
على هنوات شأنها متتابع

و أما قول الشاعر :

« و هنّي جاذ »

بتشديد النون فمن ضرورة الشعر و لعله مستند الأخير و التشديد فيه كالتسكين في قول آخر « هنك من

-----------
( 1 ) رواه الجوهري في السقيفة : 87 .

-----------
( 2 ) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 : 140 و 142 ، و الثقفي في تاريخه ، عنه تلخيص الشافي 3 : 50 و 51 ، و غيرهما .

-----------
( 3 ) كذا في الإراشد : 153 ، و العلل 1 : 151 و 152 ، و لامعاني : 361 و 363 .

-----------
( 4 ) المصباح المنير 2 : 356 و 357 ، مادة ( هن ) ، و النقل بالمعنى .

[ 186 ]

المئزر » 1 ، و أمّا قولهم « هنيهة » و لعله مستند الثاني . فقال الجوهري : أصلها هنيّة ابدل من الياء الثاني هاء 2 .

هذا ، و في ( مروج المسعودي ) : لمّا بلغ عليا عليه السّلام لمّا أراد الجمل أنّ أبا موسى الأشعري ينفرّ عنه أهل الكوفة ، كتب إليه : « إعتزل عملنا يا ابن الحائك ،

مذموما مدحورا ، فما هذا أوّل يومنا منك ، و إنّ لك فينا لهنات و هنيات » 3 .

قلت : و أشار عليه السلام في قوله « و انّ لك فينا لهنات و هنيات » ، إلى أنّ أهل العراق يجعلونه بعد في صفين حكما و يجور و يخون و يحكم بخلعه عليه السّلام .

« إلى أن قام ثالث القوم » عثمان بن عفان بن أبي العاص بن اميّة .

و ممّا يدلّ على بطلان أمر الثلاثة الأوّل و الثاني و الثالث ما رواه أبو نعيم و هو من حفّاظهم في ( حليته ) عن أبيّ بن كعب قال في قوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض 4 « هنّ أربع و كلّهنّ عذاب ، و كلّهنّ واقع لا محالة . فمضت اثنتان بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بخمس و عشرين سنة فألبسوا شيعا و ذاق بعضهم بأس بعض ، و بقي ثنتان واقعتان لا محالة الخسف و الرجم » 5 .

و مراده بالخسف تفسير قوله تعالى : أو من تحت أرجلكم 6 و بالرجم : تفسير قوله جلّ و علا : عذابا من فوقكم 7 و انقضاء أمر الثلاثة

-----------
( 1 ) الشواهد الثلاثة أوردها لسان العرب 15 : 366 و 367 ، مادة ( هنا ) .

-----------
( 2 ) صحاح اللغة 6 : 2536 ، مادة ( هنو ) .

-----------
( 3 ) مروج الذهب 2 : 359 .

-----------
( 4 ) الانعام : 65 .

-----------
( 5 ) حلية الاولياء 1 : 253 .

-----------
( 6 ) الانعام : 65 .

-----------
( 7 ) الانعام : 65 .

[ 187 ]

كان بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بخمس و عشرين سنة التي هي خمس و ثلاثون من هجرته صلّى اللّه عليه و آله و سلم فدلّت الآية على أنّ قيامهم في تلك المدة كان عذابا بلبسهم شيعا ،

و ذوق بعضهم بأس بعض .

و في قوله عليه السّلام « ثالث القوم » إيماء إلى أنّه كان معيّنا من قبل حسب معاهدتهم ، و في ( الطبري ) : كان عثمان يدعى في أمارة عمر رديفا ، و الرديف في لسان العرب الّذي بعد الرجل تقول العرب ذلك للرجل الّذي يرجونه بعد رئيسهم 1 .

و مرّ أنّ جمّال عمر كان في حجّه يحدوبه « إنّ الأمير بعده عثمان » .

و أمّا أبوه عفّان ففي ( أنساب أشراف البلاذري ) : قال المدائني : لم يكن لعفان نباهة .

فقال الشاعر :

عفّان أوّل حائك لثيابكم
قدما و قد يدعى أخا الأشرار

و لكن جاء و اللّه الاسلام فشرّف عفان بعثمان 2 .

قلت : شرّف عفّان في الاسلام بابنه عثمان لكن بدفاعه عن أعداء الاسلام و تفويضه سلطنة الاسلام إلى من كانوا يقولون :

لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء و لا وحي نزل

و فيه أيضا قال المدائني قال المطرف : و هو عبد الله بن عمرو بن عثمان « أنا ابن أبي العاص » فقال له محمد بن المنذر بن الزبير : « دون ذلك ما يرقّ عنقك » يعني عفّان كان موضّعا 3 .

-----------
( 1 ) انظر ايضا لسان العرب 9 : 116 ، مادة ( ردف ) .

-----------
( 2 ) انساب الاشراف 4 ق 2 : 170 .

-----------
( 3 ) انساب الاشراف 5 : 112 .

[ 188 ]

و في ( طرائف علي بن طاووس ) : قال هشام الكلبي في ( مثالبه ) : و ممّن يلعب به . و يتخنث عبيد اللّه أبو طلحة ، و عفان أبو عثمان و كان عفّان يضرب بالدّف أيضا . فقال عبد الرحمن بن حنبل في ذلك :

زعم ابن عفّان و ليس بهازل
انّ الفرات و ما حواه المشرق

خرج له من شاء أعطى فضله
ذهبا و تلك مقالة لا تصدق

أنّى لعفّان أبيك سبيكة
صفراء فاطعم العتاق الأزرق

و ورثته دفا و عودا يراعة
جوعا يكاد بلبسها يستنطق

و بودّنا لو كنت تأتي مثله
فيكون دفّ فتاتكم لا تفتق 1

و في ( لطائف معارف الثعالبي ) : « من عرف بالابنة ( من قريش ) أبو جهل بن هشام ، عقبة بن أبي معيط ، شيبة بن ربيعة ، الحكم بن أبي العاص ، أبو أمية بن المغيرة ، عفان بن أبي العاص ، إلى أن قال و لكلّ من هؤلاء قصّة ذكرها أبو عبيدة في ذكر ( المثالب ) 2 .

هذا ، و ذكر ( القاموس ) : « عفّان » في عفّ و في عفن 3 لكن الظاهر عدم صحّة الأوّل فلم نقف على استعمال عفان في معنى العفيف .

و كيف كان فقال في كلّ منهما « و يصرف » و ظاهره جواز الصرف و عدمه في كلّ منهما مع أنّه لا وجه له فإنّه إن كان من « عفّ » فلا وجه لصرفه لاجتماع العلمية و الألف و النون الزائدتين فيه ، و إن كان من « عفن » فلا وجه لعدم صرفه لعدم وجود غير العلمية فيه . قال ( الصحاح ) في « حسّان » و « شيطان » إن كانا من الحسن و الشطن فمنصرفان ، و إن كانا من الحسّ

-----------
( 1 ) الطرائف 2 : 495 و 499 .

-----------
( 2 ) لطائف المعارف : 98 .

-----------
( 3 ) القاموس المحيط 3 : 177 ، مادة ( عف ) ، لكن لم يذكره في عفن 4 : 249 ، بل فيه عفان بفتح العين .

[ 189 ]

و الشيط فغير منصرفين 1 .

و أما جدّه أبو العاص ، و فيه يجتمع مع مروان بن الحكم فرووا و قد نقل خبره ابن أبي الحديد عند كلامه عليه السّلام لأبي ذر : أنّ أبا ذر قال لعثمان بعد تسيير معاوية له من الشام إليه : « أشهد أنّي سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول : « إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال اللّه دولا و عباده خولا و دينه دخلا » فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ قالوا : لا . فقال لهم أبو ذر : أما تدرون أنّي صدقت ؟ فقالوا : لا . فقال عثمان : ادعوا لي عليّا . فلمّا جاء قال لأبي ذر : اقصص حديثك في بني أبي العاص . فأعاده . فقال عثمان لعلي عليه السّلام :

أسمعت هذا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : لا . و صدق أبوذر . فقال : و كيف ؟ قال : لأنّي سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول : « ما أظلّت الخضراء و لا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر » فقال من حضر : امّا هذا فسمعناه كلّنا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

فقال أبو ذر : أحدّثكم أنّي سمعت هذا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فتتّهموني ؟ ما كنت أظنّ أنّي أعيش حتّى أسمع هذا من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم 2 .

و قد اعترف بالحديث معاوية إلاّ أنّه غيّره ، و ذكر بدل أبي العاص جدّ عثمان لئلاّ يشمله الخبر لكون قيامه من قبله ابنه الحكم أبا مروان لكون غرضه خصام مروان ففي ( نسب قريش مصعب الزبيري ) : « اشتكى عمرو بن عثمان ، و كانت تحته رملة بنت معاوية ، و كان له منها ابنان :

عثمان و خالد . فكان العوّاد يدخلون عليه فيخرجون ، و يتخلّف عنده مروان .

فأنكرت ذلك رملة فخرقت كوة . فاستمعت على مروان . فإذا هو يقول لعمر و بن عثمان « ما أخذ هؤلاء يعني بني حرب الخلافة إلاّ باسم أبيك . فما

-----------
( 1 ) صحاح اللغة 5 : 2100 و 2145 ، مادة ( حسن ) و ( شطن ) .

-----------
( 2 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 357 ، شرح الخطبة 128 ، و النقل بتلخيص .

[ 190 ]

يمنعك أن تنهض بحقّك . فلنحن أكثر منهم رجالا و عدّد فضول رجال أبي العاص علي رجال بني حرب و لمّا برأ عمرو بن عثمان تجهّز للحجّ فلمّا خرج خرجت رملة إلى أبيها بالشام . فأخبرته ، و قالت له : « ما زال مروان يعدّ فضل رجال أبي العاص على بني حرب حتّى عدّا ابني فتمنّيت أنّهما ماتا » فكتب معاوية إلى مروان : « اشهد يا مروان أنّي سمعت رسول الله يقول : « إذا بلغ ولد الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا ، و دين الله دخلا و عباد الله خولا » فكتب إليه مروان : « أمّا بعد يا معاوية فإنّي أبو عشرة ، و أخو عشرة و عمّ عشرة » 1 .

و لمّا كان قيام الثالث بتدبير ثانيهم كما عرفت في جعل ابن عوف زوج اخته حكما قال الفرزدق :

صلّى صهيب ثلاثا ثم أسلمها
الى ابن عفان ملكا غير مقصور

ولاية من أبي حفص لثالثهم
كانوا أخلاء مهدي و محبور

و روى السدّى في ( تفسيره ) : أنّه لما توفى أبو سلمة و خنيس بن حذيفة و تزوج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بإمرأتيهما ام سلمة و حفصة . قال عثمان و طلحة : أينكح محمّد نساءنا إذا متنا . و لا ننكح نساءه إذا مات ، و اللّه لو قد مات لقد أجلنا على نسائه بالسهام . و كان طلحة يريد عائشة ، و كان عثمان يريد ام سلمة . فأنزل اللّه تعالى : و ما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا 2 و أنزل تعالى : إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإنّ اللّه كان بكلّ شي‏ء عليما 3 و أنزل عزّ و جلّ : إن الذين يؤذون اللّه و رسوله لعنهم اللّه في الدنيا

-----------
( 1 ) نسب قريش : 109 ، و النقل بتصرف .

-----------
( 2 ) الاحزاب : 53 .

-----------
( 3 ) الاحزاب : 54 .

[ 191 ]

و الآخرة و أعدّ لهم عذابا مهينا 1 ( 2 ) .

و روى السدى أيضا : أنّه لمّا اصيب أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم باحد قال عثمان : « لألحقنّ بالشام فإنّ لي به صديقا من اليهود يقال له دهلك فلآخذن منه أمانا . فإنّي أخاف أن يدال علينا اليهود » ، و قال طلحة : « لألحقنّ بالشام فإنّ لي به صديقا من النصارى . فإنّي أخاف أن يدال علينا النصارى » ، فأراد أحدهما أن يتهوّد ، و الآخر أن يتنصّر فأنزل تعالى : لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض و من يتولّهم منكم فإنّه منهم و اللّه لا يهدي القوم الظالمين 3 .

و روى أيضا : أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا فتح بني النضير ، فقسّم أموالهم . قال عثمان لعليّ عليه السّلام : « إيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأسأله أرض كذا و كذا ، فإن أعطاكها فأنا شريك فيها ، و آتيه أنا فأسأله . فإن أعطانيها فأنت شريكي فيها » فسأله عثمان فأعطاه . فقال له عليّ عليه السّلام : فأشركني . فأبى . فقال : بيني و بينك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فأبى أن يخاصمه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقيل له : و لم ؟ فقال : هو ابن عمه أخاف أن يقضي له فنزل : و إذا دعوا إلى اللّه و رسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . و ان يكن لهم يأتوا إليه مذعنين . أ في قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف اللّه عليهم و رسوله بل أولئك هم الظالمون 4 .

و في ( الطبري ) : كان الناس انهزموا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ( في احد ) حتّى انتهى بعضهم إلى المنقى دون الاعوص و فرّ عثمان و عقبة و سعد رجلان من

-----------
( 1 ) الاحزاب : 57 .

-----------
( 2 ) رواه عنه ابن طاووس في الطرائف 2 : 493 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) رواه عنه ابن طاووس في الطرائف 2 : 494 ، و النقل بتصرف يسير . و الآية 51 من سورة المائدة .

-----------
( 4 ) رواه عنه ابن طاووس في الطرائف 2 : 394 ، و النقل بتصرف يسير . و الايات 48 50 من سورة النور .

[ 192 ]

الانصار حتّى بلغوا الجلعب جبلا بناحية المدينة مما يلي الأعوص فأقاموا به ثلاثا ثم رجعوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فزعموا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لهم لقد ذهبتم فيها عريضة 1 .

و في ( عقد ابن عبد ربه ) مسندا عن ام سلمة . قالت : لمّا بني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب ، و ما يحتاج إليه ، ثم قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فوضع رداءه . فلمّا رأى ذلك المهاجرون و الأنصار وضعوا أرديتهم و أكسيتهم يعملون و يرتجزون و يقولون :

لئن قعدنا و النبيّ يعمل
ذاك إذن لعمل مضلّل

و كان عثمان رجلا نظيفا متنظفا فكان يحمل اللبنة و يجافي بها عن ثوبه . فإذا وضعها نفض كفّيه ، و نظر إلى ثوبه . فإذا أصابه شي‏ء من التراب نفضه فنظر إليه عليّ عليه السّلام فأنشده :

لا يستوى من يعمر المساجدا
يدأب فيها راكعا و ساجدا

و قائما طورا و طورا قاعدا
و من يرى عن التراب حائدا

فسمعها عمّار فجعل يرتجزها ، و هو لا يدري من يعني ، فسمعها عثمان .

فقال : يا ابن سمية ما أعرفني بمن تعرض و معه جريدة . فقال : « لتكفنّ أو لأعترضن بها وجهك » . فسمعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو جالس في ظل حائط فقال :

« عمّار جلدة ما بين عيني و أنفي فمن بلغ ذلك منه ( فقد بلغ منّي ) » و أشار بيده فوضعها بين عينيه . فكفّ الناس عن ذلك ، و قالوا لعمّار : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم غضب فيك ، و نخاف أن ينزل فينا قرآن 2 .

و رواه الكشّي في سند هكذا « كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عليّ عليه السّلام و عمار

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 203 ، سنة 3 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 5 : 84 .

[ 193 ]

يعلمون مسجدا فمرّ عثمان في بزّة له يخطر ، فقال عمار :

لا يستوي من يعمر المساجدا
يظل فيها راكعا و ساجدا

و من تراه عاندا معاندا
عن الغبار لا يزال حائدا

فأتى عثمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال له : ما أسلمنا لتشتم أعراضنا . فنزلت يمنّون عليك أن أسلموا . . . ، و نزلت : إنّما المؤمنون الذين آمنوا باللّه و رسوله . . . 1 .

و روى إبراهيم الثقفي في ( غاراته ) عن غير واحد من العلماء أنّ عليّا عليه السّلام قال على المنبر : « إنفروا إلى من يقاتل على دم حمّال الخطايا . فوالذي فلق الحبّة و برأ النسمة إنّه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة » 2 .

و روى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) : أنّ عمرو بن العاص قال لعمّار : ما ترى في قتل عثمان . قال : فتح لكم باب كلّ سوء . قال عمرو : فعلي قتله . قال عمار : بل اللّه ربّ عليّ قتله و علي معه . قال عمرو : أكنت في من قتله . قال : كنت مع من قتله ، و أنا اليوم اقاتل معهم . قال عمرو فلم قتلتموه ؟ قال عمّار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه . فقال عمرو : « أ لا تسمعون قد اعترف بقتل عثمان ، قال عمّار ، و قد قالها فرعون قبلك لقومه ألا تستمعون 3 .

و روى أبو مخنف عن ابن أبي ليلي . قال سمعت عمّارا يقول : لمّا جاء إلى الكوفة لنفر الناس إلى البصرة : « ما تركت في نفسي حزّة أهمّ إليّ من أن لا نكون نبشنا عثمان ثم أحرقناه » 4 .

-----------
( 1 ) رواه الكشّي في معرفة الرجال ، اختياره : 31 ح 59 ، و : 31 ح 60 ، بفرق يسير بين الألفاظ . و الآية 15 من سورة الحجرات .

-----------
( 2 ) أخرجه الثقفي في الغارات 1 : 40 .

-----------
( 3 ) وقعة صفين : 338 . و الآية 25 من سورة الشعراء .

-----------
( 4 ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 296 ، شرح الكتاب 1 .

[ 194 ]

و روى الشافي من طرق مختلفة : أنّ عمّارا كان يقول : ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر ، و أنا الرابع ، و أنا شرّ الأربعة .

و روى أيضا من طرق مختلفة : أنّ زيد بن أرقم قيل له : بأيّ شي‏ء كفّرتم عثمان ؟ فقال : بثلاث : جعل المال دولة بين الأغنياء ، و جعل المهاجرين و الأنصار من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بمنزلة من حارب اللّه و رسوله ، و عمله بغير كتاب الله .

و روى عن حذيفة أنّه قال : ما في عثمان بحمد اللّه شكّ ، لكنّي أشكّ في قاتله لا أدري أ كافر قتل كافرا ؟ أم مؤمن أفضل أهل الإيمان إيمانا 1 قلت : قال حذيفة ذلك لأنّه كان في قتلته طلحة و الزبير ، كما كان عمّار و محمّد بن أبي بكر ، و عمرو بن الحمق و نظراؤهم .

و روى الثقفي في ( تاريخه ) عن القسم بن مصعب العبدي قال : قام عثمان ذات يوم خطيبا فحمّد اللّه و أثنى عليه ثم قال : ( أي معرّضا بعائشة ) :

« نسوة يكتبن في الآفاق لتنكث بيعتي و يهراق دمي ، و الله لو شئت أن أملأ عليهن حجراتهن رجالا سودا و بيضا لفعلت . أ لست ختن النبي على ابنتيه ؟

ألست جهّزت جيش العسرة ؟ ألم أك رسول النبي إلى أهل مكة ؟ » إذ تكلّمت امرأة من وراء الحجاب فقالت : « كنت ختنه على ابنتيه فكان منك فيهما ما علمت ، و جهّزت جيش العسرة . و قد قال تعالى : فسينقونها ثم تكون عليهم حسرة 2 ، و كنت رسوله إلى أهل مكّة قد غيّبك عن بيعة الرضوان لأنّك لم تكن لها أهلا » فانتهرها عثمان فقالت : « أمّا أنا فأشهد أنّ النبي قال : « لكلّ امّة

-----------
( 1 ) لم يرو هذه الاحاديث المرتضى في الشافي بل رواها الحلبي في تقريب المعارف ، عنه فتن البحار : 318 و 322 .

و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) الانفال : 36 .

[ 195 ]

فرعون و إنّك فرعون هذه الامّة » 1 .

و في ( أنساب البلاذري ) : كان معاوية بن المغيرة بن أبي العاص الّذي جدع أنف حمزة ، و مثّل به في من مثّل ، قد انهزم يوم احد . فمضى على وجهه .

فبات قريبا من المدينة . فلمّا أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان إلى أن قال قال لعثمان جئتك لتجيرني . فأدخله عثمان داره ، و صيّره في ناحية منها .

ثم خرج إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليأخذ له منه أمانا . فسمع عثمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول « إنّ معاوية بالمدينة و قد أصبح بها فاطلبوه . فقال بعضهم : ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه فيه . فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم كلثوم إلى الموضع الّذي صيّره عثمان فيه . فاستخرجوه من تحت حمّارة لهم . فانطلقوا به إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فقال عثمان حين رآه : « ما جئت إلاّ لأطلب له الأمان منك فهبه لي » فوهبه له و أجلّه ثلاثا ، و أقسم : « لئن وجد بعدها بشي‏ء من أرض المدينة و ما حولها ليقتلنّ » فخرج عثمان فجهّزه و اشترى له بعيرا ثم قال له : إرتحل .

و صار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى حمراء الأسد ، و أقام معاوية إلى اليوم الثالث ليتعرّف أخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و يأتي بها قريشا . فلمّا كان في اليوم الرابع قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « إنّ معاوية أصبح قريبا لم ينفذ فاطلبوه و اقتلوه » إلى أن قال و يقال قتله عليّ عليه السّلام 2 .

و في ( أنساب البلاذري ) أيضا : نزل قوله تعالى : و لكن من شرح بالكفر صدرا 3 في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح ، و كان أخا عثمان من الرضاع ،

أسلم و يكتب بين يدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيملى عليه « الكافرين » فيجعلها

-----------
( 1 ) رواه عنه المجلسي في فتن البحار : 320 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) أنساب الأشراف 1 : 337 و 338 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) النحل : 106 .

[ 196 ]

« الظالمين » و يملي عليه « عزيز حكيم » فيجعلها « عليم حكيم » و أشباه ذا و يقول : « أنا أقول كما يقول محمّد و آتى بمثل ما يأتي به محمّد » فأنزل تعالى فيه : و من أظلم ممّن افترى على اللّه كذبا أو قال أوحى اليّ و لم يوح إليه شي‏ء و من قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه 1 و هرب إلى مكّة مرتدّا . فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بقتله . فطلب عثمان في أشدّ طلب حتّى كفّ عنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال : « أ ما كان فيكم من يقوم إلى هذا الكلب قبل أن أؤمّنه فيقتله ؟ » فقيل لو أو مأت فقال : « إنّي ما أقتل بإشارة فالأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين » .

قال البلاذري : و ولاّه عثمان في خلافته مصر 2 .

هذا ، و كون بطلان اللازم دليلا على بطلان الملزوم قاعدة عقلية لكنّ إخواننا تركوها لمذهبهم المتناقض . ففي ( نسب قريش مصعب الزبيري ) : قال عبد الله بن الزبير : لقيني ناس ممن كان يطعن على عثمان . فراجعوني في رأيهم و حاجّوني بالقرآن . فو اللّه ما قمت معهم ، و لا قعدت . فرجعت إلى الزبير منكسرا فذكرت ذلك له . فقال : « إنّ القرآن قد تأوّله كلّ قوم على رأيهم ،

و حملوه عليه ، و من طعنوا عليه من الناس فإنّهم لا يطعنون في أبي بكر و عمر .

فخذهم بسنّتهما و سيرتهما » قال : فكأنهما أيقظني بذلك . فنقيتهم فحاججتهم بسنن أبي بكر . فلمّا أخذتهم بذلك قهرتهم ، و ضعفوا كأنّهم صبيان يمغثون 3 .

فبطلان ثالث القوم ببداهة العقل و الدين و محكم الكتاب و مقطوع السنة يزيد بطلان الأوّل و الثاني وضوحا .

كما أنّ عمل معاوية و من بعده من بني امية يزيد بطلان الثلاثة الذين

-----------
( 1 ) الأنعام : 93 .

-----------
( 2 ) انساب الاشراف 1 : 358 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) نسب قريش : 103 ، و النقل بتلخيص .

[ 197 ]

كانوا هم سببا لسلطانهم وضوحا . فانّها ملزومات و لوازمات كما اعترف معاوية في كتابه إلى محمّد بن أبي بكر .

« نافجا » النفج : الرفع و التوسعة ، قيل في قولهم « هنيئا لك النافجة » أي :

البنت لأنّ أباها يأخذ مهرها فينفج ماله : أي : يوسّعه .

« حضنيه » الحضن : ما دون الإبط إلى الكشح ، و نفج حضنيه كناية عن صرف جميع قواه . فيقال : حضنا الشي‏ء لكلّه قال شاعر :

قطعت إليك الليل حضنيه انّني
لذاك إذا هاب الجبان فعول

و قال آخر :

و حضنين من ظلماء ليل طعنته
بناجية قد ضمّها السير محنق 1

« بين نثيله » أي : روثه .

« و معتلفه » أي : موضع علفه ، أي : كان الثالث بعد قيامه همّه مصروفا بين تملّيه من الطعام و تخليّه ، قال شاعر :

قريب المراث من المرتع
فنصف النهار لكرياسه

و نصف لمأكله أجمع

و الكرياس : الكنيف .

قال ابن أبي الحديد : و كلامه عليه السّلام من ممضّ الذّم ، و أشدّ من قول الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها
و اقعد فإنكّ أنت الطاعم الكاسي

الذي قيل إنّه أهجى بيت للعرب 2 .

قلت : قول الحطيئة لم يقل أحد إنّه أهجى بيت ، و إنّما لمّا شكا الزبرقان

-----------
( 1 ) أوردهما أساس البلاغة : 87 ، مادة ( حضن ) .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 66 .

[ 198 ]

الّذي هجاه الحطيئة بالبيت إلى عمر . فقال عمر : لا أراه هجوا . فكلّ من الناس طاعم كاس . قيل بل إنه هجو شديد ، و أهجى من قول الحطيئة قول الطرماح :

تميم بطرق اللوم أهدى من القطا
و لو سلكت سبل المكارم ضلّت

و أهجى من قول الطرماح قول الأخطل :

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
قالوا لامّهم بولي على النار

و كلامه عليه السلام أذم من الجميع فإنما مفاد البيت الأوّل إن همّ الرجل الأكل و اللبس دون تحصيل مكرمة ، و مفاد الثاني أنّهم مجبولون على اللؤم ، و مفاد الثالث كونهم بالغين الغاية في اللئامة . فقالوا فيه : جعلهم بخلاء بالقرى ،

و جعل أمّهم خادمتهم يأمرونها بكشف فرجها ، و جعلهم يبخلون بالماء أن يطفئوا به النار ، و أنّ نارهم من قلّتها كانت تطفأ ببولها .

و إنّما كان كلامه عليه السّلام ذمّا حيث إنّ الأبيات الثلاثة في إنسان مذموم و هو عليه السّلام جعله حيوانا همّه أكل العلف و طرح الروث .

و كما لم يتفطّن فاروقهم لكون بيت الحطيئة في الزبرقان هجوا ، كذلك لم يتفطن لكون بيت النجاشي في بني العجلان .

و ما سمّي العجلان إلاّ لقيلهم
خذ القعب و احلب أيّها العبد و اعجل

هجوا حتّى بعث إلى حسّان فسأله هل هجاهم فقال : ما هجاهم و لكن سلح عليهم .

هذا ، و كان الأمين أوقاته مصروفة بين الخلوة بالخصيان و شرب الخمر . فقال بعضهم :

لهم من عمره شطر ، و شطر
يعاقر فيه شرب الخندريس

« و قام معه بنو أبيه » روى عوانة في ( شوراه ) ، و الجوهري في ( سقيفته ) بعد ذكر بيعة ابن عوف لعثمان : « إنّ عثمان لمّا دخل رحله دخل إليه بنو امية

[ 199 ]

حتّى امتلأت بهم الدار . ثم أغلقوها عليهم . فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا . قال : يا بني امية تلقفوها تلقف الكرة . فو الذي يحلف به أبو سفيان ، ما من عذاب و لا حساب ، و لا جنّة ، و لا نار ، و لا بعث و لا قيامة إلى أن قال فدخل عبد الرحمن على عثمان . فقال له « ما صنعت ؟ فواللّه ما وفّقت حيث تدخل رحلك قبل أن تصعد المنبر فتحمد اللّه و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تعد الناس خيرا » قال : فخرج فصعد المنبر . فحمد الله ثم قال : « هذا مقام لم نكن نقومه ، و لم نعدّله من الكلام الّذي يقام به في مثله » 1 .

« يخضمون » الخضم : الأكل بأقصى الأضراس ، و قالوا : سمّي العنبر بن عمرو بن تميم خضمّ لكثرة أكله ، و في ( مجالس ثعلب ) : « اخضموا و إنّا نقضم » أي : كلوا الرطب و إنّا نأكل اليابس 2 .

« مال اللّه » هكذا في ( المصرية ) بدون زيادة ، و الصواب : زيادة « تعالى » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) 3 .

« خضمة الإبل » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « خضم الإبل » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) 4 .

« نبتة الربيع » و نظيره في التشبيه قول البصروي في القاضي التنوخي :

يقضم ما يجتبي إليه
قضم البراذين للشعير

و قول الضحاك الديلمي في ابن الزبير :

و أنت إذا مانلت شيئا قضمته
كما قضمت نار الغضا حطب السدر

-----------
( 1 ) رواه عوانة في الشورى ، عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 390 ، شرح الخطبة 137 ، و الجوهري في السقيفة : 86 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) مجالس ثعلب ق 2 : 498 .

-----------
( 3 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 66 ، و شرح ابن ميثم 1 : 250 ، أيضا نحو المصرية .

-----------
( 4 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 66 ، و شرح ابن ميثم 1 : 250 ، أيضا نحو المصرية .

[ 200 ]

و ابن عوف الّذي فوّض الأمر إلى عثمان و جعله خليفة رأى رؤياه أنّه يأكل مال الله أكل الإبل نبت الربيع . ففي ( العقد الفريد ) : قال سعد بن أبي وقاص لعبد الرحمن بن عوف : إنّ اخترت نفسك . فنعم . فقال له : إنّي خلعت نفسي على أن أختار إنّي رأيت في المنام كأنّي في روضة خضراء كثيرة العشب إلى أن قال ثم دخل بعير راتع فرتع في الروضة ، و لا أكون و اللّه البعير الراتع 1 .

قلت : يقال له أيّ فرق بين أن تكون بنفسك البعير الراتع أو سببا للبعير الراتع ، و إنّما صرت بما فعلت من خسر الدنيا و الآخرة . فتدخل النار لغيرك .

و كذلك عمر الّذي دبّر الأمر لعثمان رأى رؤياه . ففي ( الطبري ) قال عمر وقت وفاته : « كنت أجمعت أنّ أولّي أمركم رجلا هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ و أشار إلى عليّ عليه السّلام فرهقني غشية ، فرأيت رجلا يدخل جنّة فجعل يقطف كلّ غضّة و يانعة فيضعها و يصيرها تحته ، فخفت أن أتحمّلها حيّا و ميّتا ، و علمت أنّ الله غالب على أمره » 2 .

قلت : كيف لم يتحمّلها ميّتا ، و قد دبّر الأمر لعثمان ؟ و إنّما كان قوله صدقا لو كان أبطل أمر الشورى ، و قال : ما أراد الناس أن يفعلوا فعلوا .

و قوله : « و الله غالب على أمره » مغالطة منه . فإنّما يقال في ما أراد الناس أمرا و لم يرده اللّه كإخوة يوسف عليه السّلام أرادوا استيصاله و لم يرده تعالى قال جلّ و علا : و كذلك مكّنّا ليوسف إلى و اللّه غالب على أمره 3 لا لمن أراد عمل باطل ، و وكله اللّه إلى سوء اختياره ، و لو صح اعتذاره

-----------
( 1 ) العقد الفريد 5 : 28 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 3 : 292 ، سنة 23 ، و النقل بتصرف .

-----------
( 3 ) يوسف : 21 .

[ 201 ]

لكان قتله الأنبياء معذورين .

و في ( المروج ) : ولّى عثمان سعيد بن العاص الكوفة بعد الوليد بن عقبة .

فقال في بعض الأيّام و كتب به إلى عثمان « انّما هذا السواد قطين لقريش » فقال له الاشتر : أتجعل ما أفاء الله علينا بظلال سيوفنا ، و مراكز رماحنا بستانا لك و لقومك 1 .

و روى الثقفي كما في ( أمالي المفيد ) مسندا عن أبي يحيى مولى معاذ الأنصاري أنّ عثمان بعث إلى الأرقم بن عبد اللّه و كان خازن بيت المال : أن أسلفني مئة ألف ألف درهم . فقال له الأرقم : أكتب عليك بها صكّا للمسلمين قال : و ما أنت و ذاك لا أمّ لك إنّما أنت خازن لنا . فخرج الأرقم مبادرا ، و قال : أيّها الناس عليكم بما لكم . فإنّي ظننت أنّي خازنكم ، و لا أعلم أنّي خازن عثمان بن عفان حتّى اليوم ، و مضى فدخل بيته . فبلغ ذلك إلى عثمان . فخرج إلى الناس حتّى أتى المسجد . ثم رقى المنبر و قال : « أيّها الناس إنّ أبابكر كان يؤثر بني تيم على الناس ، و انّ عمر كان يؤثر بني عدي على الناس ، و إنّي و اللّه أوثر بني أميّة على من سواهم ، و لو كنت جالسا بباب الجنّة ثم استطعت أن أدخل بني أميّة جميعا إلى الجنّة لفعلت ، و إنّ هذا المال لنا . فإن احتجنا إليه أخذناه ، و إن رغم أنف أقوام » .

فقال عمّار : « معاشر المسلمين إشهدوا أنّ ذلك مرغم لي » فقال عثمان :

« و أنت هاهنا » ثم نزل من المنبر ثم توطأه برجله حتّى غشى عليه ، و احتمل و هو لا يعقل إلى بيت ام سلمة ، فأعظم الناس ذلك ، و بقي عمّار مغمى عليه لم يصلّ يومئذ الظهر و العصر و المغرب . فلمّا أفاق قال : « الحمد للّه فقد اوذيت في اللّه ، و أنا احتسب ما أصابني في جنب الله ، و بيني و بين عثمان العدل

-----------
( 1 ) مروج الذهب 2 : 336 .

[ 202 ]

الكريم يوم القيامة » و بلغ عثمان أنّ عمّارا عند امّ سلمة . فأرسل إليها . فقال :

فما هذه الجماعة في بيتك مع هذا الفاجر ؟ اخرجيهم من عندك . فقالت : و اللّه ما عندنا مع عمّار إلاّ بنتاه . فأجتنبنا يا عثمان ، و اجعل سطوتك حيث شئت ،

و هذا صاحب رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلم يجود بنفسه من فعالك .

قال : ثم إنّ عمّارا صلح فخرج إلى المسجد فبينا هو كذلك إذ دخل ناعي أبي ذر على عثمان فقال : « إنّ أباذر مات بالربذة وحيدا ، و دفنه قوم سفر » فاسترجع ، و قال : رحمه اللّه . فقال عمار : « رحم اللّه أباذر من كل أنفسنا » فقال له عثمان : « و إنّك لهناك بعد أتراني ندمت على تسييري إيّاه ؟ » قال عمّار : « لا و اللّه ما أظنّ ذلك » فقال له عثمان : و أنت أحق بالمكان الّذي كان منه أبوذر . فلا تبرحه ما حيينا . قال عمّار : « افعل ، فو الله لمجاورة السباع أحبّ اليّ من مجاورتك » . فتهيأ عمّار للخروج و جاءت بنو مخزوم إلى علي عليه السّلام . فسألوه أن يقوم معهم إلى عثمان يستنزله عن ذلك 1 .

و في ( أنساب البلاذري ) لما بني مروان داره بالمدينة ، دعا الناس إلى طعامه و قال : ما انفقت في داري هذه درهما من مال المسلمين . فقال له المسوّر : لو أكلت طعامك و سكتّ لكان خيرا لك ، لقد غزوت معنا إفريقية ، و إنّك لأقلّنا مالا و رقيقا فأعطاك ابن عفان خمس أفريقية ، و عملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين 2 .

و روى عن ام بكر عن أبيها قال : قدمت إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص 3 .

و في ( تاريخ اليعقوبي ) ، عن عبد الرحمن بن يسار قال : رأيت عامل صدقات

-----------
( 1 ) أمالي المفيد : 69 ح 5 ، المجلس 8 ، و النقل بتصرف .

( 2 و 3 ) انساب الاشراف 5 : 28 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 203 ]

المسلمين على سوق المدينة إذا أمسى آتاها عثمان فقال له : ادفعها إلى الحكم ابن أبي العاص إلى أن قال و جاء بالمفتاح يوم الجمعة و عثمان يخطب فقال : أيّها الناس زعم عثمان انّي خازن له و لأهل بيته ، هذه مفاتيح بيت ما لكم . و رمى بها فأخذها عثمان و دفعها إلى زيد بن ثابت 1 .

و قال ابن أبي الحديد : و صحّت في عثمان فراسة عمر . فإنّه أوطأ بني امية رقاب الناس ، و ولاّهم الولايات ، و أقطعهم القطائع ، و افتتحت أرمينية في أيّامه . فوهب خمسها لمروان فقال : عبد الرحمن الجمحي : « و أعطيت مروان خمس البلاد » و طلب إليه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة . فأعطاه أربعمئة ألف درهم . و أعاد الحكم بن أبي العاص بعد أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد سيّره ، و أعطاه مئة ألف درهم ، و تصدّق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين فأقطعه عثمان الحرث بن الحكم أخا مروان ، و أقطع فدك مروان و قد كانت فاطمة عليه السّلام طلبتها بعد وفاة أبيها . فدفعت عنها ، و حمى المراعي حول المدينة كلّها عن مواشي المسلمين إلاّ عن بني اميّة ، و أعطى عبد اللّه بن أبي سرح جميع ما أفاء اللّه عليه من فتح أفريقية بالمغرب ، و هي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين ، و أعطى أبا سفيان مئتى ألف في اليوم الّذي أمر فيه لمروان بمئة ألف من بيت المال ، و قد كان زوجّه ابنته أم أبان . فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح ، و وضعها بين يديه و بكى . فقال له عثمان : أتبكي أن وصلت رحمي إلى أن قال فقال عثمان : ألق المفاتيح يا ابن أرقم فإنّا سنجد غيرك ، و أتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة . فقسّمها كلّها في بني امية ، و أنكح الحرث بن الحكم

-----------
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 168 و 169 ، و النقل بتلخيص .

[ 204 ]

ابنته عائشة ، و أعطاه مئة ألف من بيت المال 1 .

قلت : لم قال صحّت فيه فراسة عمر ؟ فإنّ كون عثمان بتلك الصفة من اركابه بني امية رقاب الناس كان أمرا واضحا يعرفه كلّ ذي شعور من أعماله في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من حمايته أقاربه أعداء اللّه و أعداء رسوله كمعاوية بن المغيرة بن الحكم ، و عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح كما عرفت ،

و كان عليه أن يقول انكشف بتدبيره لعثمان سوء سريرته ، و خبث نيّته بإرادته اضمحلال الاسلام ، و استيصال أهل بيت نبيه ، و حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في بني أبي العاص ، و رأسهم عثمان : « إذا بلغوا ثلاثين اتخذوا مال الله دولا » من أعلام نبوّته ، فقد عرفت اتخاذهم ذلك بتمكين عثمان لهم و بيده .

ثم ان بني أبيه كما قاموا معه « يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع » لعبوا بدين اللّه لعب الصبيان بالكرة كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « اتخذوا دين اللّه دخلا » 2 فمرّ أبو سفيان أيّام عثمان بقبر حمزة و ضربه برجله ، و قال : « يا أبا عمارة إنّ الأمر الّذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به » 3 .

و في ( مروج المسعودي ) : و قد كان عمار حين بويع عثمان بلغه قول أبي سفيان في دار عثمان عقيب الوقت الذين بويع فيه عثمان و دخل داره و معه بنو امية فقال أبو سفيان : أفيكم أحد من غيركم ؟ و قد كان عمي . قالوا : لا .

قال : « يا بني امية تلقفوها تلقف الكرة . فو الذي يحلف به أبو سفيان ما زلت

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 66 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) اخرج أبو يعلي في مسنده ، عنه المطالب العالية 4 : 232 ح 4531 ، و غيره عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم « إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين كان دين الله دغلا و مال الله دولا و عباد اللّه خولا » .

-----------
( 3 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 4 : 51 ، شرح الكتاب 32 .

[ 205 ]

أرجوها لكم و لتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة . . . » 1 .

و في ( استيعاب أبي عمر ) : قال الحسن البصري : دخل أبو سفيان على عثمان حين صارت الخلافة إليه . فقال : قد صارت اليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة ، و اجعل أوتادها بني اميّة . فإنّما هو الملك ، و لا أدري ما جنة و لا نار 2 .

و لعمر اللّه كان ذلك عقيدة عثمان نفسه أيضا ، يشهد له تقريره له ، و تشهد له أعماله ، بل و عقيدة من أسّس لعثمان ذلك مع عرفانه له كما قالوا في فراسته ، و قد قال الفرزدق في قصيدته في هجو ابن الأشعث ، و مدح عبد الملك « لال أبي العاص تراث مشورة » .

و في ( مروج المسعودي ) : كان من عمّال عثمان على الكوفة الوليد بن عقبة ،

و هو ممّن أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه من أهل النار ، و كان شرب مع ندمائه و مغنّيه من أول الليل إلى الصباح . فلمّا آذنه المؤذّنون بالصلاة خرج منفصلا في غلائله فتقّدم إلى المحراب في صلاة الصبح . فصلّى بهم أربعا ،

و قال : تريدون أن أزيدكم ، و قيل : قال في سجوده : « إشرب و اسقني » فقال له بعض من كان خلفه في الصفّ الأوّل : ما تريد ؟ لا زادك اللّه مزيد الخير .

و اللّه لا أعجب إلاّ ممّن بعثك إلينا و اليا و قال الحطيئة :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه
أنّ الوليد أحق بالعذر

نادى و قد تمّت صلاتهم
أ أزيدكم ثملا و ما يدري

ليزيدهم اخرى و لو قبلوا
لقرنت بين الشفع و الوتر

حبسوا عنانك في الصلاة و لو
خلّوا عنانك لم تزل تجري

-----------
( 1 ) مروج الذهب 2 : 342 .

-----------
( 2 ) الاستيعاب 4 : 87 .

[ 206 ]

و أشاعوا بالكوفة فعله ، و ظهر فسقه و مداومته الخمر . فهجم عليه جماعة من المسجد منهم أبو زينب الأزدي ، و أبو جندب الأزدي . فوجدوه سكران مضطجعا على سريره لا يعقل . فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ . ثم تقيّا عليهم ما شرب من الخمر . فانتزعوا خاتمه من يده ، و خرجوا من فورهم إلى المدينة . فأتوا عثمان . فشهدوا عنده على الوليد أنّه شرب الخمر . فقال عثمان : و ما يدريكما أنّه شرب خمرا . قالا : هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية ، و أخرجا خاتمه فدفعاه إليه . فدفع في صدورهما ، و قال : تنحيّا عنّي . فخرجا و أتيا عليّا عليه السّلام و أخبراه بالقصّة . فأتى عثمان و هو يقول :

« دفعت الشهود و أبطلت الحدود » إلى أن قال فلمّا نظر عليّ عليه السّلام إلى امتناع الجماعة من إقامة الحدّ عليه توقّيا لغضب عثمان لقرابته منه أخذ عليّ عليه السّلام السوط . فأقبل الوليد يروغ منه . فاجتذ به ،

و ضرب به الأرض و علاه بالسوط . فقال له عثمان : ليس لك أن تفعل به هذا قال : بلى ، و شرّ من هذا إذا فسق ، و منع حقّ الله تعالى أن يؤخذ منه 1 . هذا ،

و كما قال عليه السّلام هاهنا في عثمان « و قام معه بنو امية يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع قال له لمّا قال عثمان له عليه السّلام « لست بدون عتيق و ابن الخطاب » « لست كواحد منهما . إنّهما ظلفا أنفسهما و أهلهما عنه ،

و عمت فيه أنت و قومك عوم السابح في اللجّة » 2 .

« الى أن انتكث » أي : انتقض .

« فتله » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « عليه فتله » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ( 3 ) و معنى فتله حبله المفتول .

-----------
( 1 ) مروج الذهب 2 : 335 .

-----------
( 2 ) رواه الواقدي في الشورى ، عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 378 ، شرح الخطبة 133 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 66 ، و شرح ابن ميثم 1 : 250 ، مثل المصرية أيضا .

[ 207 ]

و في ( الطبري ) : عن عامر بن سعد كان أوّل من اجترأ على عثمان بالمنطق السيّئ جبلة بن عمرو الساعدي ، مرّ به عثمان ، و هو جالس في ندىّ قومه ،

و في يد جبلة جامعة . فلما مرّ عثمان سلّم فردّ القوم . فقال جبلة : لم تردّون على رجل فعل كذا و كذا . ثم أقبل على عثمان ، فقال : و الله لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه . قال عثمان : أيّ بطانة . فو اللّه إنّي لأتخيّر الناس . فقال ( جبلة ) : مروان تخيّرته ، و معاوية تخيّرته ، و عبد الله بن عامر بن كريز تخيّرته ، و عبد الله بن سعد تخيّرته . منهم من نزل القرآن بدمه ، و أباح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم دمه فانصرف عثمان . فمازال الناس مجترئين عليه 1 .

و في كتاب ( أصل موسى بن بكر الواسطي ) عن الباقر عليه السّلام : إنّ فلانا و فلانا ظلمانا حقّنا ، و قسّماه بينهم فرضوا بذلك منهما ، و إنّ عثمان لمّا منعهم و استأثر عليهم غضبوا لأنفسهم 2 .

« و أجهز عليه عمله » قال الأصمعي : « أجهزت على الجريح : أسرعت قتله و تمّمت عليه » 3 .

في ( الطبري ) : قال عبد الرحمن بن يسار : لمّا رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى من بالآفاق منهم ، و كانوا تفرّقوا في الثغور : « إنكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيله تعالى تطلبون دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إن دين محمد قد افسد من خلفكم ، و ترك فهلمّوا فأقيموا دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فأقبلوا من كلّ افق حتّى قتلوه . و كتب عثمان إلى

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 399 ، سنة 35 .

-----------
( 2 ) أخرجه موسى بن بكر في اصله ، عنه السرائر : 472 .

-----------
( 3 ) رواه عنه ابن منظور في لسان العرب 5 : 325 ، مادة ( جهز ) .

[ 208 ]

عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح عامله على مصر حين تراجع عنه الناس و زعم انّه تائب بكتاب في الذين شخصوا من مصر ، و كانوا أشدّ أهل الأمصار عليه : أما بعد فانظر فلانا و فلانا فاضرب أعناقهم إذا قدموا عليك ،

و انظر فلانا و فلانا فعاقبهم بكذا و كذا منهم نفر من الصحابة ، و منهم قوم من التابعين ، و كان رسوله في ذلك أبو الأعور السلمي ، حمله عثمان على جمل له . ثم أمره أن يعجل حتّى يدخل مصر قبل أن يدخلها القوم . فلحقهم أبو الأعور ببعض الطريق . فسألوه أين تريد ؟ قال : اريد مصر . و معه رجل من أهل الشام من خولان . فلمّا رأوه على جمل عثمان قالوا : هل معك كتاب ؟

قال : لا . قالوا : ففيم أرسلت ؟ قال : لا علم لي قالوا : ليس معك كتاب . و لا علم لك بما أرسلت إنّ أمرك لمريب . ففتّشوه فوجدوا معه كتابا في إداوة يابسة . فنظروا في الكتاب فإذا فيه قتل بعضهم و عقوبة بعضهم في أنفسهم و أموالهم . فلمّا رأوا ذلك رجعوا إلى المدينة ، فبلغ الناس رجوعهم و الذي كان من أمرهم . فتراجعوا من الآفاق كلّها . و ثار أهل المدينة ، و أرسل المصريون إلى عثمان ألم نفارقك على أنّك زعمت أنّك تائب من أحداثك ،

و راجع عمّا كرهنا منك ، و أعطيتنا على ذلك عهد الله و ميثاقه ؟ قال : بلى . أنا على ذلك . قالوا : فما هذا الكتاب الّذي وجدناه مع رسولك ، و كتبت به إلى عاملك ؟ قال : ما فعلت ، و لا علم لي بما تقولون . قالوا : بريدك على جملك ،

و كتاب كاتبك عليه خاتمك قال : أما الجمل فمسروق و قد يشبه الخط الخط ، و أما الخاتم فانتقش عليه . قالوا : فإنّا لا نعجل عليك ، و إن كنّا قد اتّهمناك . إعزل عنّا عمّالك الفسّاق ، و استعمل علينا من لا يتّهم على دمائنا و أموالنا ، و أردد علينا مظالمنا . قال عثمان : ما أرادني إذن في شي‏ء إن كنت أستعمل من هويتم ، و أعزل من كرهتم . الأمر إذن أمركم . قالوا : و اللّه

[ 209 ]

لتفعلنّ أو لتعزلنّ أو لتقتلن . فانظر لنفسك أو دع فأبى عليهم ، و قال : لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه اللّه . فحصروه أربعين ليلة » 1 .

قلت : لو كان قال : « لم أكن لأخلع سربالا سربلينه فاروقكم » كان أصدق .

هذا و في ( الطبري ) : دخل عليه ( أي على عثمان ) رجل يقال له : « الموت الأسود » فخنقه ثم خنقه . ثم خرج فقال : و اللّه ما رأيت شيئا قطّ ألين من حلقه ، و اللّه لقد خنقته حتّى رأيت نفسه تتردد في جسده كنفس الجان 2 .

هذا ، و في ( المعجم ) هدم غمدان في أيّام عثمان . فقيل له : إنّ كهّان اليمن يزعمون أنّ الّذي يهدمه يقتل . فأمر بإعادة بنائه . فقيل له : لو أنفقت عليه خرج الأرض ما أعدته كما كان ، فتركه ، و قيل : وجد على خشبة لمّا خرّب و هدم مكتوب برصاص مصبوب « إسلم غمدان هادمك مقتول » فهدمه عثمان فقتل 3 .

« و كبت » من الكبوة : أي : ألقته على وجهه .

« به بطنته » أي : كظّته و امتلاؤه من الطعام شديدا .

روى الطبري أنّ محمد بن أبي بكر تسوّر على عثمان من دار عمرو بن حزم ، و معه كنانة بن بشر بن عتاب ، و سودان بن حمران ، و عمرو بن الحمق . فأخذ بلحية عثمان . و قال : قد أخزاك اللّه يا نعثل . ثم طعن جنبيه بمشقص في يده ، و رفع كنانة مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل اذن عثمان . فمضت حتّى دخلت في حلقه . ثم علاه بالسيف حتّى قتله 4 .

و روى في خبر ضرب كنانة جبينه و مقدّم رأسه بعمود حديد فخرّ لجبينه

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 400 و 404 ، سنة 35 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 3 : 415 ، سنة 35 .

-----------
( 3 ) معجم البلدان 4 : 211 .

-----------
( 4 ) تاريخ الطبري 3 : 423 ، سنة 35 .

[ 210 ]

فضربه سودان بعد ما خرّ لجبينه فقتله 1 .

و روى في آخر : و ثب عمرو بن الحمق فجلس على صدره و به رمق فطعنه تسع طعنات و قال : فأمّا ثلاث منهن : فإنّي طعنتهن إيّاه للّه ، و أمّا ستّ : فإنّي طعنتنهن إيّاه لما كان في صدري عليه 2 .

و في ( الطبري ) : أنّ معاوية بن خديج لمّا أراد قتل محمد بن أبي بكر قال له :

إنّما أقتلك بعثمان فقال له : و ما أنت و عثمان إنّ عثمان عمل بالجور ، و نبذ حكم القرآن ، و قد قال تعالى و من لم يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الفاسقون 3 فنقمنا ذلك عليه فقتلناه ، و حسّنت انت له ذلك و نظراؤك فقد برّأنا اللّه إن شاء الله من ذنبه ، و أنت شريكه في إثمه و عظم ذنبه ، و جاعلك على مثاله . فغضب معاوية فقدّمه فقتله ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه 4 .

و في ( صفّين نصر بن مزاحم ) : قام عمّار فقال : امضوا عباد اللّه إلى قوم يطلبون في ما يزعمون بدم الظالم لنفسه ، الحاكم على عباد اللّه بغير ما في كتاب اللّه . إنّما قتله الصالحون المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان .

فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم لو درس هذا الدين لم قتلتموه ؟ فقلنا : لإحداثه . فقالوا : إنّه ما أحدث شيئا ، و ذلك لأنه مكّنهم من الدنيا فهم يأكلونها و يرعونها ، و لا يبالون لو انهدّت عليهم الجبال ، و اللّه ما أظنّهم يطلبون دمه ، إنّهم ليعلمون انّه لظالم ، و لكن القوم ذاقوا الدنيا .

فاستحبوها و استمرؤها ، و علموا لو أنّ الحق لزمهم ، لحال بينهم و بين ما يرعون فيه منها ، و لم يكن للقوم سابقة في الاسلام يستحقّون بها الطاعة

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 423 ، سنة 35 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 3 : 423 ، سنة 35 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) المائدة : 47 .

-----------
( 4 ) تاريخ الطبري 4 : 79 ، سنة 38 .

[ 211 ]

و الولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا . و تلك مكيدة 1 .

و فيه أيضا : قال أبو أمامة الباهلي ، و أبو الدرداء لمعاوية : علام تقاتل هذا الرجل ؟ قال : على دم عثمان و إيوائه قتلته فقولا له فليقدنا من قتلته . فأنا أوّل من بايعه من أهل الشام . فانطلقوا إلى عليّ عليه السّلام . فأخبروه بقول معاوية فقال : هم الذين ترون . فخرج عشرون ألفا أو أكثر مسر بلين في الحديد لا يرى منهم إلاّ الحدق . فقالوا : كلّنا قتله 2 .

و بالجملة المسلمون كلّهم ، الشيعة و السنّة ، غير الأموية كانوا متّفقين على فسق عثمان ، و إباحة قتله ، و إنّما الاموية حملوا الناس بالسيف على القول بإمامته .

و في ( العقد الفريد ) قال عطاء بن سائب : كنت جالسا مع أبي البحتري و الحجاج يخطب فقال في خطبته : إنّ مثل عثمان عند اللّه كمثل عيسى قال اللّه فيه : إنّي متوفّيك و رافعك اليّ و مطهّرك من الذين كفروا و جاعل الذين اتّبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة 3 فقال أبو البختري كفر و ربّ الكعبة 4 .

و كان المسلمون سمّوه نعثلا باسم يهودي شبّهوه به قال محمّد بن أبي سبرة القرشي :

نحن قتلنا نعثلا بالسيرة
إذ صدّ عن أعلامنا المنيرة

يحكم بالجور على العشيرة
نحن قتلنا قبله المغيرة

-----------
( 1 ) وقعة صفين : 319 .

-----------
( 2 ) وقعة صفين : 190 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 3 ) آل عمران : 55 .

-----------
( 4 ) العقد الفريد 5 : 284 .

[ 212 ]

المراد بالمغيرة ابن عمه المتقدم الّذي أهدر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم دمه و أجاره عثمان فقتله المسلمون .

و في أراجيز أهل العراق في صفّين :

كيف نردّ نعثلا و قد قحل
نحن ضربنا رأسه حتّى انجفل

لمّا حكم حكم الطواغيت الاول
و جار في الحكم و جار في العمل

و في ( جمل المفيد ) : كانت عائشة ترفع قميص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فتقول : هذا قميص النبيّ لم يبل و قد أبلى عثمان أحكامه ، و لمّا جاء الناعي الى مكّة فنعاه بكى لقتله قوم . فأمرت عائشة مناديا ينادي ما بكاؤكم على نعثل أراد أن يطفئ نور اللّه فأطفأه ، و أراد أن يضيّع سنّة رسول فقتله 1 .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) بعد نقل قول الحسين عليه السّلام لمروان : « يا أبن طريد الرسول » و بعد نقل قصّة الحكم ، و طرد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم له و بعد نقل طلب عثمان بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من أبي بكر و عمر ردّه و إبائهما ذلك قال :

فلمّا مات عمر و ولي عثمان ردّه في اليوم الّذي ولي فيه ، و قرّبه و أدناه ،

و دفع له مالا عظيما ، و رفع منزلته . فقام المسلمون على عثمان ، و أنكروا عليه ، و هو أوّل ما أنكروا عليه ، و قالوا : رددت عدوّ اللّه و رسوله ، و خالفت اللّه و رسوله . فقال : إنّ النبيّ وعدني بردّه . فامتنع جماعة من الصحابة عن الصلاة خلف عثمان لذلك ثم توفي الحكم في خلافته . فصلّى عليه ، و مشى خلفه . فشقّ ذلك على المسلمين و قالوا : ما كفاك ما فعلت حتّى تصلّي على منافق ملعون لعنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و نفاه فخلعوه و قتلوه و لهذا السبب قالت عائشة : « اقتلوا نعثلا قتله اللّه فقد كفر » 2 .

-----------
( 1 ) الجمل : 228 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) تذكرة الخواص : 208 ، و النقل بتقطيع .

[ 213 ]

و في ( أنساب البلاذري ) : كان الحكم مؤذيا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يشتمه و يسمعه ،

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يمشي ذات يوم و هو خلفه يخلج بأنفه و فمه . فالتفت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فرآه فقال له : كن كذلك . فبقي على ذلك ، و أظهر الإسلام يوم فتح مكّة ، و اطلع يوما على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حجر بعض نسائه . فخرج إليه بعنزه و قال : من عذيري من هذه الوزغة لو أدركته لفقأت عينه ، و لعنه و ما ولد و غربه عن المدينة . فلم يزل خارجا حتّى استخلف عثمان فردّه و ولده و مات في خلافته ، فضرب على قبره فسطاطا 1 .

و في ( الطبري ) : عن أبي كرب عامل عثمان على بيت ماله : أنّ عثمان دفن بين المغرب و العتمة ، و لم يشهد جنازته إلاّ مروان و ثلاثة من مواليه ، و ابنته الخامسة فناحت ابنته ، و رفعت صوتها تندبه ، و أخذ الناس الحجارة ،

و قالوا : نعثل نعثل و كادت ترجم 2 .

و فيه عن أبي بشير العابدي قال : نبذ عثمان ثلاثة أيّام لا يدفن . ثم أنّ حكيم ابن حزام و جبير بن مطعم كلّما عليّا عليه السّلام في دفنه ، و طلبا إليه أن يأذن لأهله في ذلك . ففعل فلّما سمع الناس بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة ، و خرج به ناس يسير من أهله ، و هم يريدون به حائطا بالمدينة يقال له : حشّ كوكب كانت اليهود تدفن موتاهم فيه . فلمّا خرج على الناس رجموا سريره ، و همّوا بطرحه . فأرسل إليهم عليّ عليه السّلام يعزم عليهم ليكفّن عنه .

فلمّا ظهر معاوية أمر بهدم ذلك الحائط حتّى أفضي به إلى البقيع و أمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله حتّى أتّصل بمقابر المسلمين 3 .

-----------
( 1 ) أنساب الأشراف 5 : 27 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 3 : 439 ، سنة 35 .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 3 : 438 ، سنة 35 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 214 ]

و في ( الطبري ) أيضا : أرادوا حزّ رأسه فوقعت عليه نائلة و ام البنين ، و لم يغسّل و أرادوا أن يصلّوا عليه في موضع الجنائز فأبت الأنصار ، و أقبل عمير ابن ضبابئ و عثمان موضوع على باب فنزا عليه . فكسر ضلعا من أضلاعه ،

و قال : سجنت ضابئا حتّى مات في السجن ، و قتل معه عبدان له يقال لهما :

نجيح و منجح . فجرّ بأرجلهما فرمى بهما على البلاط . فاكلتهما الكلاب 1 .

و في ( استيعاب أبي عمر ) : لمّا قتل عثمان القي على المزبلة ثلاثة أيام . فلمّا كان من الليل أتاه اثنا عشر رجلا فيهم حويطب بن عبد العزّى ، و حكيم بن حزام و عبد الله بن الزبير فاحتملوه ، فلمّا صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ناداهم قوم من بنى مازن ، و اللّه لئن دفنتموه هنا لنخبرنّ الناس غدا .

فاحتملوه و كان على باب ، و إن رأسه على الباب ليقول طق طق حتّى صاروا به إلى حشّ كوكب . فاحتفروا له ، و كانت عائشة بنت عثمان معها مصباح في جرّة فلمّا أخرجوه ليدفنوه صاحت . فقال لها ابن الزبير : و اللّه لئن لم تسكتي لأضربنّ الّذي فيه عيناك . فسكتت . و فيه : كان حكيم و زوجتاه يدلونه في القبر و غيّبوا قبره 2 .

و في ( بلاغات نساء البغدادي ) : قال معاوية لامّ الخير البارقية : ما تقولين في عثمان ؟ قالت : و ما عسيت أن أقول فيه . إستخلفه الناس و هم له كارهون ،

و قتلوه و هم راضون 3 .

و في ( كامل الجزري ) : قال معاوية لعبد الرحمن بن حسان الّذي كان من أصحاب حجر بن عدى : ما تقول في علي ؟ قال : « أشهد أنه كان من الذاكرين

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 440 و 441 ، سنة 35 ، و النقل بتصرف .

-----------
( 2 ) الاستيعاب 3 : 80 81 .

-----------
( 3 ) بلاغات النساء : 58 .

[ 215 ]

اللّه تعالى كثيرا ، و من الآمرين بالحقّ ، و القائمين بالقسط ، و العافين عن الناس » . قال : فما قولك في عثمان ؟ قال : « هو أوّل من فتح أبواب الظلم ،

و أغلق أبواب الحق » فردّه معاوية إلى زياد فدفنه زياد حيّا 1 .

و في ( عقد ابن عبد ربه ) : قال الزهري : قلت لسعيد بن المسيب : هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان ؟ و ما كان شأن الناس و شأنه ؟ و لم خذله أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ فقال : إنّ عثمان لمّا وليّ كره ولايته نفر من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لأنّ عثمان كان يحبّ قومه . فولي الناس اثنتي عشرة سنة ، و كان كثيرا ما يولّي بنى أميّة ممّن لم يكن له صحبة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و كان يجي‏ء من امرائه ما يكره أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم فكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم . فلمّا كان في الحجيج الآخرة استأثر بني عمه فخرجوا و ولاّهم ، و ولىّ عبد اللّه بن أبي سرح مصر ، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ، و يتظلّمون منه و من قبل ذلك كانت هنات من عثمان إلى عبد اللّه بن مسعود و أبي ذر و عمّار . فكانت هذيل و بنو زهرة في قلوبهم ما فيها لابن مسعود ، و كانت بنو غفار ، و أحلافها ، و من غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها ، و كانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان لحال عمار ، و جاء أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح فكتب إليه عثمان ينهاه .

فأبى أن يقبل ، و ضرب رجلا ممّن أتى فقتله . فخرج من أهل مصر سبعمئة رجل إلى المدينة . فنزلوا المسجد ، و شكوا إلى أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح . فقام طلحة فكلّم عثمان بكلام شديد ،

و أرسلت إليه عائشة : « قد تقدّم إليك أصحاب النبي ، و سألوك عزل هذا الرجل .

فأبيت ، فهذا قد قتل رجلا منهم . فأنصفهم من عاملك » و دخل عليه عليّ عليه السّلام

-----------
( 1 ) الكامل 3 : 486 ، سنة 51 .

[ 216 ]

و كان متكلّم القوم فقال : « إنّما سألوك رجلا مكان رجل و قد ادعّوا قبله دما فاعزله عنهم ، و اقض بينهم ، و إن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه » . فقال لهم :

« اختاروا رجلا مكانه أولّه عليكم » فأشار الناس عليهم بمحمّد بن أبي بكر فقالوا : « استعمله علينا » فكتب عهده ، و ولاّه ، و أخرج معهم عدّة من المهاجرين و الأنصار ينظرون في ما بين أهل مصر ، و ابن أبي سرح ، فخرج محمد بن أبي بكر و من معه ، فلمّا كان على مسيرة ثلاثة أيّام من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط الأرض خبطا كأنّه رجل يطلب أو يطلب . فقال له أصحاب محمد : ما قصّتك ، و ما شأنك كأنّك هارب أو طالب ؟ فقال : أنا غلام عثمان ، وجّهني إلى عامل مصر . فقالوا : هذا عامل مصر معنا . قال : ليس هذا اريد ، و أخبر محمّد بن أبي بكر بأمره . فبعث في طلبه فاتى به . فقال : غلام من أنت ؟ فأقبل مرّة يقول غلام عثمان ، و مرة يقول : غلام مروان حتّى عرفه رجل منهم أنّه لعثمان . فقال له : إلى من أرسلت ؟ قال : إلى عامل مصر . قال : بماذا ؟

قال : برسالة قال : معك كتاب ؟ قال : لا . ففتّشوه فلم يوجد معه شي‏ء إلاّ إداوة قد يبست فيها شي‏ء يتقلقل فحرّكوه ليخرج . فلم يخرج فشقّوا الإداوة . فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح . فجمع محمّد بن أبي بكر من كان معه من المهاجرين و الأنصار ، و غيرهم ، ثم فكّ الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه : « إذا جاءك محمّد بن أبي بكر و فلان و فلان فاحتل لقتلهم و أبطل كتابهم ، و قرّ على عملك حتّى يأتيك رأيي ، و احتبس من جاء يتظلم منك ليأتيك في ذلك رأيي » فلمّا قرأوا الكتاب فزعوا ، و عزموا على الرجوع إلى المدينة ، و ختم محمّد بن أبي بكر الكتاب بخواتم القوم الذين ارسلوا معه ، و دفعوا الكتاب إلى رجل منهم و قدموا المدينة . فجمعوا عليا عليه السّلام و طلحه و الزبير و سعدا ، و من كان من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ثم فكّوا الكتاب بمحضر منهم و أخبروهم بقصّة الغلام ،

[ 217 ]

و أقرؤوهم الكتاب . فلم يبق أحد في المدينة إلاّ حنق على عثمان و أزداد من كان منهم غاضبا لابن مسعود ، و أبي ذر و عمار غضبا و حنقا ، و قام أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلحقوا منازلهم ما منهم أحد إلاّ و هو مغتمّ بما قرأوا في الكتاب ، و حاصر الناس عثمان ، و أجلب عليه محمّد بن أبي بكر بني تيم و غيرهم ، و أعانه طلحة على ذلك ، و كانت عائشة تحرّضه كثيرا . فلمّا رأى ذلك عليّ عليه السّلام بعث إلى طلحة و الزبير و سعد و عمار ، و نفر من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم كلّهم بدري . ثم دخل على عثمان ، و معه الكتاب ، و الغلام و البعير ، و قال له عليّ عليه السّلام : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم ، قال : و البعير بعيرك ؟ قال : نعم قال : و الخاتم خاتمك ؟ قال نعم ، قال : فأنت كتبت الكتاب ؟

قال : لا . و حلف « ما كتبت ، و لا أمرت ، و لا وجّهت الغلام » . أما الخط فعرفوا أنّه خطّ مروان ، و شكّوا في أمر عثمان ، و سألوه أن يدفع إليهم مروان و كان عنده في الدار . فأبى فخرجوا من عنده غضابا إلى أن قال فتسوّر محمّد بن أبي بكر و صاحباه من دار رجل من الأنصار . فدخلوا عليه ، و ليس معه إلاّ امرأته نائلة بنت الفراضة ، و المصحف في حجره ، و لا يعلم أحد ممّن كان معه لأنهم كانوا على البيوت . فتقدّم إليه محمّد بن أبي بكر ، و أخذ بلحيته فقال له عثمان : أرسل لحيتي يا ابن أخي . فلو رآك أبوك لساءه مكانك فتراخت يده من لحيته ، و غمز الرجلين . فوجئاه بمشاقص معهما حتّى قتلاه ، و خرجوا هاربين من حيث دخلوا 1 .

و في ( العقد ) أيضا : قال الأصمعي : كان القوّاد الذين ساروا إلى المدينة في أمر عثمان أربعة : عبد الرحمن بن عديس البلوي ، و حكيم بن جبلة العبدي ،

و الأشتر النخعي ، و عبد اللّه بن بديل الخزاعي . فقدموا المدينة فحاصروه

-----------
( 1 ) العقد الفريد 5 : 36 40 ، و النقل بتلخيص .

[ 218 ]

و حاصره معهم قوم من المهاجرين و الأنصار حتّى دخلوا عليه ، فقتلوه و المصحف بين يديه ، و هو يقرأ يوم الجمعة صبيحة النحر الخ 1 .

قلت : و كون نسخة من المصحف بين يديه أو قراءته منه أي شي‏ء يفيده ؟

و قد كان بدّل أحكامه مع أنّه كان دق مصحف ابن مسعود ، و ولّى الوليد بن عقبة أخاه لامه الّذي نزل القرآن بفسقه ، فشرب و صلّى الصبح بالناس أربعا ، و ولّى عبد اللّه بن أبي سرح أخاه للرضاعة الّذي كان يحرّف القرآن ،

و نزل فيه : و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله 2 .

كما أنّ ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الّذي جعل المصحف هدفا و رماه بالسهم حتّى مزّقه لمّا كان فتح المصحف ، و رأى قوله تعالى : و استفتحوا و خاب كلّ جبار عنيد 3 و قال :

أ توعدني بانّك جبّار عنيد
فها أنا ذا جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر
فقل يا رب مزّقني الوليد

لما حاصروه و احاطوا به لقتله أخذ المصحف أيضا و قال : اقتل كما قتل ابن عمّي عثمان .

و في ( العقد ) : أقبل أهل مصر عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي ، و أهل البصرة عليهم حكيم بن جبلة العبدي ، و أهل الكوفة عليهم الأشتر في أمر عثمان حتّى قدموا المدينة 4 .

قال ابن أبي الحديد : و الذي نقول نحن انها و ان كانت أحداثا إلاّ انها لم تبلغ المبلغ الّذي يستباح به دمه ، و قد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة

-----------
( 1 ) العقد الفريد 5 : 36 .

-----------
( 2 ) الأنعام : 93 .

-----------
( 3 ) ابراهيم : 15 .

-----------
( 4 ) العقد الفريد 5 : 42 .

[ 219 ]

حيث لم يستصلحوه لها و لا يعجلوا بقتله 1 .

قلت : في كلامه أوّلا أنّه من كان عمله مثل عمل عثمان من ضرب الناس و قتلهم و اخراجهم عن أوطانهم بلاحق ، و حمل الظالمين على رقابهم و نهب أموالهم و حقوقهم يقتل قهرا لا سيما عمله الأخير في عامل مصره ابن أبي سرح العنيد يكتب تبديله للناس ، و يكتب إليه أن يقتل بعضهم ،

و يحبس بعضهم و يبطل كتابه للعامل بدله و يكون باقيا في محلّه ، و لكون مثل ذاك العمل سببا لقتل صاحبه قهرا قال عليه السّلام : « إلى أن انتكث فتله ،

و أجهز عليه عمله ، و كبت به بطنته » .

كما أنّ الوليد بن يزيد قتله عمله فإن باقي الاموية و إن كانوا في غاية الظالمية و الجبارية لكن أمرهم كان على نظام بخلاف عثمان و الوليد لأنّهما كانا مفسدي الدين و الدنيا للبرّ و الفاجر .

و صاحبا عثمان الأوّل و الثاني إنّما ظلما أهل البيت عليه السّلام دون باقي الناس و مرّ قول الباقر عليه السّلام : « إنّ فلانا و فلانا ظلمانا حقّنا و قسّماه بين الناس فرضوا بذلك منهما ، و إنّ عثمان استأثر على الناس فغضبوا لأنفسهم » 2 و كان عمله مع الناس بالاطّراح كلا حتّى مع ابن عوف الّذي ولاّه فهجره .

ففي العقد انّه لمّا أنكر الناس على عثمان ما أنكروا من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلّة الأكابر من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم قالوا لابن عوف : « هذا عملك و اختيارك لامّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ قال : لم أظنّ هذا به . و دخل عليه . فقال له :

« إنّما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر و عمر و قد خالفتهما » فقال :

« عمر كان يقطع قرابته في اللّه ، و أنا أصل قرابتي في اللّه » فقال : « للّه عليّ أن لا

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 67 .

-----------
( 2 ) أخرجه موسى بن بكر في أصله ، عنه السرائر : 472 .

[ 220 ]

اكلّمك أبدا » فمات عبد الرحمن و هو لا يكلّم عثمان 1 .

و قول عثمان : « عمر يقطع قرابته في اللّه و أنا أصلهم في اللّه » كلام غلط بلا معنى . فقطع القرابة في الحقّ كما فعل عمر مع ابنه الّذي ضربه الحد منكر ،

وصلتها بغير الحقّ كأفعال عثمان منكر .

و ثانيا : هل ابن أبي الحديد أعلم في استباحة دم عثمان أم أمير المؤمنين عليه السّلام ؟ ، فلمّا بعث معاوية كما في ( صفّين نصر بن مزاحم ) حبيب الفهري ، و شرحبيل بن السمط و معن السلمي إليه عليه السّلام برسالة ،

و حاجّهم عليه السّلام قال له شرحبيل و معن : « أ تشهد أنّ عثمان قتل مظلوما . فقال لهما : إنّي لا أقول ذلك » قالا : « فمن لم يشهد أنّ عثمان قتل مظلوما فنحن برئاء منه » ثم قاما فانصرفا . فقال عليّ عليه السّلام : إنّك لا تسمع الموتى و لا تسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين ، و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون 2 .

ثم من قتلة عثمان عمّار الجمع على جلاله حتّى من مثل شبث بن ربعي ،

فلمّا قال معاوية لشبث لمّا جاءه برسالة من أمير المؤمنين عليه السّلام : « أ لستم تعلمون أنّ قتلة صاحبنا أصحاب صاحبكم فليدفعهم إلينا فنقتلهم و نحن نجيبكم إلى الطاعة » فقال له شبث « أ يسرّك باللّه يا معاوية أنّك إن أمكنت من عمّار فقتلته » .

و معاوية و ان قال لشبث : « و اللّه لو أمكنني صاحبكم من ابن سميّة ما قتلته بعثمان بل بمولى عثمان » إلاّ أنّ معاوية لو كان أمكن من قتل نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لكان يقتله ، لأنّ أصل ثأره كان عنده من يوم بدر .

-----------
( 1 ) العقد الفريد 5 : 31 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

-----------
( 2 ) وقعة صفين : 202 ، و الآيات 80 و 81 من سورة النمل .

[ 221 ]

و قد عرفت أنّ عمارا يكفّره ، و كذلك حذيفة و جلاله مجمع عليه و كذلك زيد بن أرقم ، و قد عرفت أنّ عمّارا تأسّف على عدم نبشه و إحراقه 1 .

و لمّا قال سعد الّذي رذالته معلومة لخذلانه الحقّ باعترافه بمقامات أمير المؤمنين عليه السّلام لعمار « لقد كنت عندنا من أفاضل أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتىّ لم يبق من عمرك إلاّ ظمأ الحمار فعلت و فعلت يعرض له بقتل عثمان قال له عمّار : أيّ شي‏ء أحبّ اليك مودّة على دخل أو هجر جميل ؟ قال : هجر جميل . قال له عمار « للّه عليّ ألا أكلّمك » و بالجملة لو كان عثمان محقّا كان معاوية أيضا محقّا و كان أمير المؤمنين عليه السّلام مبطلا . فإن التزم إخواننا بذلك . فلا غرو منهم بل لابدّ لمن قال بإمامة عثمان و من تقدّم عليه ذلك ، و كفاهم بذلك خزيا .

و قول عمّار : « ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر و أنا الرابع و أنا شرّهم » 2 لا بدّ بقوله « ثلاثه هو شرهم » أمير المؤمنين عليه السّلام و أبو ذر و المقداد .

فإن أنكروا تبرّي أمير المؤمنين عليه السّلام من شيخيهم فتبرّيه عليه السّلام من عثمان شي‏ء لا يمكن إنكاره ، كاختلاف معاوية مع أمير المؤمنين عليه السّلام . فما هذا التضاد الّذي التزموه من الجمع بين علي و عثمان في الإمامة .

و لما قال نافع بن هلال من أصحاب الحسين عليه السّلام يوم الطف « أنا على دين علي » قال له مزاحم بن حريث من أصحاب ابن سعد : « أنا على دين عثمان » فقال له نافع : « أنت على دين شيطان » 3 .

-----------
( 1 ) تكفير هؤلاء عثمان رواه عن الثقفي و الواقدي المجلسي في فتن البحار : 318 ، و الطوسي في تلخيص الشافي 4 :

113 ، و تأسف عمّار رواه عن الثقفي المجلسي في المصدر : 318 .

-----------
( 2 ) رواه التقفي في تاريخه ، عنه فتن البحار : 318 ، و العياشي في تفسيره 1 : 323 ح 123 .

-----------
( 3 ) رواه الطبري في تاريخه 4 : 331 ، سنة 61 .

[ 222 ]

ثم إذا كان الواجب على الناس خلعه دون قتله كما قال ابن أبي الحديد 1 فلم قال بإمامة من كان واجب الخلع ؟ و لمّا رجع الناس إلى عثمان لمّا وجدوا كتابا مع غلامه على جمله بقتل محمّد بن أبي بكر و من معه و قال « أنا ما كتبته خرج غلامي بغير إذني و أخذ جملي بغير علمي » قال الناس له : « ما أنت إلاّ صادق أو كاذب فإن :

كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقّها ،

و إن كنت صادقا فقد استحققت ، أن تخلع لضعفك ، و خبث بطانتك ، و لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه ،

و غفلته » .

و قال أبو القاسم الوزير المغربي في الثلاثة :

من عاجز ضرع و من ذي غلظة
جاف و من ذي لوثة خوّار

« فما راعني إلا و الناس كعرف الضبع إليّ » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب :

« فما راعني إلاّ و الناس اليّ كعرف الضبع » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 و كذلك باقي من روى الخطبة كما عرفت ، و عرف يقال له بالفارسية : « يال » .

هذا و نظير كلامه عليه السّلام في عثمان إلى هنا في هذه الخطبة كلامه عليه السّلام في اخرى ليست في النهج و هو : « ثم استخلفوا ثالثا لم يكن يملك من أمر نفسه شيئا ، غلب عليه أهله . فقادوه إلى أهوائهم كما تقود الوليدة البعير المخطوم . فلم يزل الأمر بينه و بين الناس يبعد تارة ، و يقرب اخرى حتّى نزوا عليه فقتلوه . ثم جاءوني مدبّ الدبّا يريدون بيعتي » 3 .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 67 .

-----------
( 2 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 67 ، و شرح ابن ميثم 1 : 250 ، مثل المصرية أيضا .

-----------
( 3 ) روى قريبا منه أبو مخنف في الجمل ، عنه شرح ابن أبي الحديد 1 : 102 ، شرح الخطبة 22 ، و غيره .

[ 223 ]

و في كتاب مروان إلى معاوية في شرح إقبال الناس إلى أمير المؤمنين عليه السّلام بعد قتل عثمان : « فسفكوا دمه و انقشعوا عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها منكفئين قبل ابن أبي طالب انكفاء الجراد أبصر المرعى » .

و نظير تشبيهه عليه السّلام بعرف الحيوان قول شاعر :

خضمّ ترى الأمواج فيه كأنّها
إذا التطمت أعراف خيل جوامح

و لعلّ الأصل في التشبيه بالعرف القرآن فقيل في قوله تعالى :

و المرسلات عرفا 1 . انه مستعار من عرف الفرس أي : يتتابعون كعرف الفرس .

ثم إنّ أبا أحمد العسكري قال : « العرف : الشعر الّذي يكون على عنق الفرس و قوله عليه السّلام كعرف الضبع استعارة » 2 ، لكن يمكن أن يقال : حيث إنّ المشاهد للناس عرف الفرس دون الضبع فالإطلاق ينصرف إليه دون أن يكون مختصا به ، حتّى يكون في الضبع استعارة كما قال ، كيف و يقولون للضبع « عرفاء » لكثرة شعرها .

هذا ، و في رواية السبط « و الناس أرسالا إلّي كعرف الفرس » 3 و الصواب ما هنا بشهادة غيره .

قال ابن ميثم : الفاعل لقوله عليه السّلام « فما راعني » إمّا جملة « إلاّ و الناس إليّ كعرف الضبع » أو ما دلّت عليه من المصدر . أي : إقبال الناس إليّ 4 .

قلت : قال ابن هشام : اختلفوا في أنّ الفاعل و نائبه هل يكونان جملة أم لا فالمشهور المنع مطلقا ، و أجازه هشام و ثعلب مطلقا ، و فصّل الفرّاء و نسب إلى

-----------
( 1 ) المرسلات : 1 .

-----------
( 2 ) العلل 1 : 153 ، و المعاني : 364 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) التذكرة : 125 .

-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 1 : 264 ، و النقل بالمعنى .

[ 224 ]

سيبويه بأنّه إن كان الفعل قلبيا ، و وجد معلّق عن العمل نحو ظهر لي أقام زيد جاز . و منه « ثم بدالهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنّنه حتّى حين » 1 و إلاّ فلا و احتجّ الأوّلان بقول الشاعر :

و ما راعني إلاّ يسير بشرطة
و عهدي به قينا يفشّ بكير 2

و أقول : الصواب اختصاص الجواز بكلمة راعني و مستقبله منفيين بشهادة استعمالاتهما ، بل لا يجوز في فاعلهما غير الجملة . فورد كذلك في موضعين آخرين من كلامه عليه السّلام . ففي ( النهج ) : « فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه » 3 ، و قال الكراجكي : كتب عليه السّلام إلى معاوية : « فما راعني إلاّ و الأنصار قد اجتمعت » 4 .

و ورد كذلك في أخبار و أشعار . أما الأخبار فعن ( فضائل أحمد بن حنبل ) :

عن أنس قال : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « لينتهين بنو وليعة أو لأبعثنّ إليهم رجلا كنفسي يمضي فيهم أمري ، و يقتل المقاتلة ، و يسبي الذرّية » . قال أبو ذر :

فما راعني إلاّ برد كفّ عمر من خلفي . فقال : من تراه يعني ؟ فقلت : ما يعنيك ،

و إنما يعني خاصف النعل عليّا عليه السّلام 5 .

و في خبر عبد الرحمن بن جابر عن أبيه في غزوة حنين : « فو اللّه ما راعنا و نحن منحطّون إلاّ الكتائب قد شدّت علينا شدة رجل واحد » 6 .

-----------
( 1 ) يوسف : 35 .

-----------
( 2 ) قاله في مغني اللبيب : 559 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

-----------
( 3 ) نهج البلاغة 3 : 119 ، الكتاب 62 .

-----------
( 4 ) روى الكراجكي في كنز الفوائد : 200 و 201 ، و عنه المجلسي في فتن البحار : 509 ، و 510 ، كتابان له عليه السّلام الى معاوية لكن ليس فيهما هذه العبارة .

-----------
( 5 ) تذكرة الخواص : 39 .

-----------
( 6 ) رواه الطبري في تاريخه 2 : 347 ، سنة 8 .

[ 225 ]

و في خبر الأحنف بعد ذكر أنّه استأمر طلحة و الزبير في من يبايع إن قتل عثمان و إشارتهما إلى أمير المؤمنين عليه السّلام ، « فما راعنا إلاّ قدوم عائشة و طلحة و الزبير قد نزلوا جناب الخريبة » 1 .

و في خبر ابن عباس كما في ( نهاية الجزري ) : « فلم يرعني إلاّ رجل أخذ بمنكبي » 2 ، و في خبر ( عقد ابن عبد ربه ) : « فما راعني إلاّ سوابق عبرتي تقنعت منها » .

و في ( الطبري ) في أحوال المهدي العباسي عن حفص مولى مزينة عن ابيه قال : « كان هشام الكلبي صديقا لي . فكنّا نتلاقى فنتحدّث و نتناشد . فكنت أراه في حال رثة و في أخلاق على بغلة هزيل و الضرّ فيه بيّن و على بغلته ، فما راعني إلاّ و قد لقيني يوما على بغلة شقراء من بغال الخلافة ، و سرج و لجام من سروج الخلافة » 3 .

و في ( العقد ) : قال بكر بن حمّاد الباهلي : لمّا انتهى إليّ خبر عنان و أنّها ذكرت لهارون و قيل : إنّها من أشعر الناس ، خرجت معترضا لها ، فما راعني إلاّ الناطفي مولاها قد ضرب على عضدي 4 .

و أمّا الأشعار فمنها ما مرّ « فما راعني » البيت ، و منها قول القطامي في عجوز من محارب لم تقره :

فما راعها إلاّ بغام مطيتي
تريح بمحصور . من الصدر لاغب

و منها قول عمر بن أبي ربيعة في أبيات متعددة ، و قول الراجز :

فما راعني إلاّ مناد برحلة
و قد لاح مفتوق من الصبح أشقر

-----------
( 1 ) حديث الأحنف رواه الطبري في تاريخه 3 : 511 ، سنة 36 ، بفرق يسير .

-----------
( 2 ) النهاية 2 : 278 ، مادة ( روع ) .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 6 : 395 ، سنة 169 .

-----------
( 4 ) العقد الفريد 7 : 54 .

[ 226 ]

فلم يرعها و قد نضّت مجاسدها
إلاّ سواد وراء البيت يستتر

لم يرعها الا الفتاة و إلاّ
دمعها في الرداء سحّا سنينا

ما راعني إلاّ حياك هابطا
على البيوت قوطة العلابطا

« حياك » : اسم راع و معنى « قوطة العلابط » قطيعة الغنم .

و لا استبعاد في اختصاص كلمات من لغة العرب باحكام ، فقد عثرنا على عدّة كلمات كذلك ، منها هذه ، و منها « لشدّ ما » كما مرّ في هذه الخطبة أيضا ، و لم يتفطن لها اللغويون .

و لا وجه لتأويل الجميع بالإرجاع إلى المصدر مع سلاسة المعنى مع بقاء الجملة على حالها .

و أمّا الآية فلا بأس بتأويلهم بجعل الفاعل ضمير المصدر .

« ينثالون عليّ » لم أقف على من ذكر الأصل في « ينثالون » من الشرّاح و إنّما نقله الصدوق في كتابيه المتقدّمين بلفظ : « قد انثالوا عليّ » و نقل في تفسيره عن شيخه أبي أحمد العسكري قال : إنّ معناه انصبّوا عليّ و كثروا .

يقال : إنثلت ما في كنانتي من السهام إذا صببته 1 .

و لازم كلامه كون انثال على انفعل ، و مثله ( القاموس ) حيث قال في « ثيل » : « إنثال : إنصبّ » 2 و أمّا ( الصحاح ) فلم يذكر في « ثيل » إنثال بل قال في « نثل » : « تناثل الناس إليه : أي : إنصبوا » 3 ، و كذلك ( لسان العرب ) لم يذكر في « ثيل » إنثال 4 ، و كذلك ( الجمهرة ) لم يذكر في « ثيل » إنثال 5 لكن الصواب ما

-----------
( 1 ) العلل 1 : 151 و 153 ، و المعاني : 361 و 363 .

-----------
( 2 ) القاموس المحيط 3 : 344 ، مادة ( ثول ) .

-----------
( 3 ) صحاح اللغة 5 : 1825 ، مادة ( نثل ) .

-----------
( 4 ) لسان العرب 11 : 95 ، مادة ( ثيل ) .

-----------
( 5 ) جمهرة اللغة 2 : 51 ، و 3 : 219 و 277 .

[ 227 ]

قاله العسكري و ( القاموس ) من كون « ينثالون » أو « انثالوا » من الانثيال 1 ،

و يشهد له قوله عليه السّلام أيضا : « فاراعني إلاّ انثيال الناس على فلان » 2 .

و أما قول ( الصحاح ) في « نثل » : « تنائل الناس إليه أي : انصبّوا » فبلا شاهد و ان تبعه ( القاموس ) أيضا ، و اما قول الجزري في ( نهايته ) : « و في حديث طلحة أنّه كان ينثل درعه إذ جاءه سهم فوقع في نحره : أي : يصبّها عليه » 3 فبلا شاهد . فمن أين أنّه ليس بمعنى ينزعه ؟ فقال قبله : « في الحديث : أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتثل ما فيها أي : يستخرج و يؤخذ ، و منه حديث الشعبي : أما ترى حفرتك تنثل : أي : يستخرج ترابها . يريد القبر ، و منه حديث صهيب و انتثل ما في كنانته : أي : استخرج ما فيها من السهام ، و في حديث أبي هريرة : ذهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أنتم تنتثلونها . يعني الأموال ، و ما فتح عليهم من زهرة الدنيا » 4 .

ففي الكل بمعنى الاستخراج . فكيف صار في هذا بمعنى الصبّ ، مع أنّ في ( الأساس ) : « و من المجاز نثل عليه درعه : مثل نثرها إذا صبّها ، و نثلها عنه نزعها كما يقال : خلع عليه الثوب و خلعه عنه » 5 ، و ليس في خبره حرف جرّ حتّى يعلم المعنى ، مع أن ما ذكره ( الأساس ) من المجاز لم يعلم صحّة أصله ،

لعدم كونه من كلام العرب .

ثم إن العسكري و إن أصاب في تفسيره ينثالون كما في النهج ، و انثالوا كما في روايته و رواية الشيخين ، و رواية السبط كما مرّ الانصباب ، لكن أخطأ

-----------
( 1 ) هذا قول الفيروز آبادي في القاموس 3 : 344 ، مادة ( ثول ) . و ما نقله عن العسكري فهو استنباط الشارح من كلامه ،

العلل 1 : 153 ، و المعاني : 364 .

-----------
( 2 ) نهج البلاغة 3 : 119 ، الكتاب 62 .

-----------
( 3 ) النهاية 5 : 16 ، مادة ( نثل ) .

-----------
( 4 ) النهاية 5 : 16 ، مادة ( نثل ) .

-----------
( 5 ) أساس البلاغة : 446 ، مادة ( نثل ) .

[ 228 ]

في ما استند إليه من قوله : « يقال : انثلت ما في كنانتي من السهام إذا صببته » فإنّه لا يقال انثلت من الثيل بل انتثل على افتعل من النثل كما عرفته من حديث صهيب من ( النهاية ) ، و في ( الجمهرة ) : « نثلت كنانتي نثلا إذا استخرجت ما فيها من النبل ، و كذلك نثلت البئر إذا استخرجت ترابها » 1 .

كما أن معناه أيضا ليس الصب كما قال ، بل الاستخراج كما عرفته من ( الجمهرة ) و ( النهاية ) و إن و هم ( الأساس ) أيضا فقال « نثل كنانته : نثرها » 2 .

ثم يشهد لما قلنا من كون : ينثالون انفعالا من الثيل رواية السبط للخطبة ، فمرّ أنّه نقل الفقرة « و انثالوا علي انثيالا » 3 .

« من كل جانب » هكذا في ( المصرية ) ، و هو الصواب لتصديق ابن ميثم الّذي نسخته بخطّ مصنّفه له ، و رواية الصدوق له كما مرّ دون ما في ابن أبي الحديد من تبديله بقوله : « من كل وجه » 4 .

« حتّى لقد و طى‏ء الحسنان » قال ابن أبي الحديد : الحسنان الحسن و الحسين عليه السّلام ، و قال الراوندي : الحسنان إبهاما الرجلين و هذا لا أعرفه 5 .

قلت : نقل التفسير عن غلام ثعلب ففي ابن ميثم : حكى المرتضى أنه روى في قوله عليه السّلام « وطى‏ء الحسنان » أنهما الإبهامان ، و أنشد للشنفرى « مهضومة الكشحين خرماء الحسن » روى أنّه عليه السّلام كان يومئذ محتبيا ،

-----------
( 1 ) جمهرة اللغة 2 : 50 ، مادة ( ثلن ) .

-----------
( 2 ) أساس البلاغة : 446 ، مادة ( نثل ) .

-----------
( 3 ) تذكرة الخواص : 125 .

-----------
( 4 ) كذا في شرح ابن ميثم 1 : 264 ، و العلل 1 : 151 ، و المعاني : 361 ، لكن في شرح ابن أبي الحديد 1 : 67 ، أيضا « جانب » .

-----------
( 5 ) قاله ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 67 ، و أما الراوندي فنقله في شرحه 1 : 129 ، بلفظ : « و قيل . . . » و هذا حكاية غلام ثعلب .

[ 229 ]

و الاحتباء جمع الركبتين و الذيل ، فلمّا اجتمعوا لبيعته زاحموه حتّى و طؤوا إبهامه ، و شقوا ذيله و لم يعن الحسنين عليه السّلام ، و هما رجلان كسائر الناس ،

و نقل ذلك السروي أيضا 1 .

قلت : لو سلّم تفسير غلام ثعلب ، فقال عبيد اللّه بن أبي الفتح « لو طار طائر في الجو لقال غلام ثعلب حدّثنا ثعلب عن ابن الاعرأبي ، و يذكر في معنى ذلك شيئا ، و قال الخواج الجوع ، و لم يذكر ذلك في لغة » لما صح إرادة الابهامين فإنّه عليه السّلام لو كان أرادهما لقال : « وطئ حسناي » كما قال : « و شقّ عطفاي » و إلاّ فقيل : إنّ الحسنين يطلق على بطنين من طي‏ء أيضا و على جبلين قتل بسطام الشيباني عندهما قال شاعر :

و يوم شقيقة الحسنين لاقت
بنو شيبان آجالا قصارا

و قوله : « و لم يعن الحسنين عليه السّلام لأنهما رجلان كسائر الناس » غلط فإنّهما عليه السّلام كانا جالسين عنده عليه السّلام ، و لم يمهلوهما للنهوض فوطؤوهما كما شقوا عطفيه عليه السّلام فقال عليه السّلام في موضع آخر في وصف هجومهم عليه عليه السّلام للبيعة « حتّى ظننت أنّهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لديّ » 2 .

« و شقّ عطفاي » قال ابن أبي الحديد : « أي : خدش جانباي لشدّة الاصطكاك منهم و الزحام » 3 قلت : بل المعنى شقّ جانبا لباسي ، و هو تعبير عرفي ، و لا وجه لإرادة خدش البدن من شقّه .

قال ابن أبي الحديد : « و يروى عطافي . و العطاف : الرداء و هو أشبه

-----------
( 1 ) رواه الكيندري في شرحه 1 : 193 ، و ابن ميثم في شرحه 1 : 265 ، عن المرتضى عن غلام ثعلب و رواه السروي في مناقبه 3 : 398 ، عن غلام ثعلب ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) نهج البلاغة 1 : 103 ، الخطبة 54 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 67 .

[ 230 ]

بالحال » 1 قلت : هو رواية الصدوق كما مرّ ، و المعنى واحد كما عرفت .

و رووا أنّ عبد اللّه بن خفاف الطائى . قال لمعاوية في وصف إقبال الناس على بيعته عليه السلام بعد قتل عثمان « ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش حتّى ضلّت النعل و سقط الرداء و وطئ الشيخ » 2 .

و مراده : أن الازدحام في بيعته عليه السّلام كان بحيث ضلّت به نعال الناس و سقطت أرديتهم ، و وطئت شيوخهم .

« مجتمعين حولي كربيضة الغنم » في ( جمهرة ابن دريد ) : الربيض :

الجماعة من الغنم ، الضأن و المعز فيه واحد . و هذا ربيض بني فلان أي : جماعة غنمهم 3 .

و قد عبرّ عليه السلام عن كيفية بيعة الناس له و ابتهاجهم بها بتعبيرات مختلفة منها قوله عليه السّلام هنا ، و منها قوله عليه السّلام : « فتداكّوا عليّ تداك الإبل الهيم يوم و ردها قد أرسلها راعيها ، و خلعت مثانيها حتّى ظننت أنهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لديّ » 4 ، و منها أيضا : « فأقبلتم إليّ إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون : البيعة البيعة . قبضت كفّي فبسطتموها ، و نازعتكم يدي فجاذبتموها » 5 .

و روى ( رسائل الكليني ) الأول و زاد : « و بلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن حمل إليها الصغير ، و هدج إليها الكبير ، و تحامل إليها

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 67 .

-----------
( 2 ) رواه ابن قتيبة في الامامة و السياسة 1 : 85 ، بلا تصريح باسم عبد اللّه بن خفاف .

-----------
( 3 ) جمهرة اللغة 1 : 261 ، مادة ( برض )

-----------
( 4 ) نهج البلاغة 1 : 103 ، الخطبة 54 .

-----------
( 5 ) نهج البلاغة 2 : 20 ، الخطبة 135 .

[ 231 ]

العليل ، و حسرت لها الكعاب » 1 .

« فلما نهضت » أي : قمت .

« بالأمر » أي : حكومة الناس .

« نكثت » أي : نقضت بيعتها .

« طائفة » و هم : الناكثون أهل جمل عائشة و الزبير و طلحة .

و في ( الإرشاد ) : لما نزل أمير المؤمنين عليه السّلام في خروجه إلى الجمل بذي قار أخذ البيعة على من حضر ثم قال بعد إكثار الحمد و الثناء و الصلاة : « قد جرت أمور صبرنا عليها ، و في أعيننا القذى تسليما لأمر الله تعالى في ما امتحننا به و رجاء الثواب على ذلك ، و كان الصبر عليها أمثل من أن يتفرق المسلمون ، و تسفك دماؤهم . نحن أهل بيت النبوّة ، و عترة الرسول ، و أحق الخلق بسلطان الرسالة و معدن الكرامة الّتي ابتدأ الله بها هذه الامة ، و هذا طلحة و الزبير ليسا من أهل بيت النبوّة ، و لا من ذرية الرسول ، حين رأيا أنّ الله قد ردّ علينا حقّنا بعد أعصر ، فلم يصبرا حولا واحدا ، و لا شهرا كاملا حتّى وثبا عليّ دأب الماضين قبلهما ليذهبا بحقّي ، و يفرّقا جماعة المسلمين عنّي » 2 .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) : كان أحمد بن حنبل يقول : « و الله ما زانت الخلافة عليا عليه السّلام و لكن هو زانها » فأوّل من بايعه طلحة ، و كان أشلّ فلما نظر إليه عليّ عليه السّلام تطيّر منه ، و قال : « يد شلاّء . أمر لا يتمّ . ما أخلقه أن ينكث بيعته » إلى أن قال فلم يلبثوا إلاّ يسيرا حتّى دخل عليه طلحة و الزبير فقالا : يا أمير المؤمنين عليه السّلام انّ عيالنا كثير إلى أن قال

-----------
( 1 ) كشف المحجة : 181 .

-----------
( 2 ) الإرشاد : 133 .

[ 232 ]

فقالا له عليه السّلام : إيذن لنا في العمرة . فقال : « و الله ما تريدان العمرة ، و إنّما تريدان الغدرة و الفتنة » . فقالا : كلاّ و اللّه . فقال : « قد أذنت لكما فافعلا ما شئتما » 1 .

و قال ابن أبي الحديد : و قد كان عليه السّلام يتلو وقت مبايعتهم له : فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه 2 .

و روى ( ميزان الذهبي ) : عن عثمان مؤذّن بني افصى قال : سمعت عليا يقول : « و اللّه ما قوتل أهل هذه الآية بعد ما نزلت و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون 3 .

و في ( الطبري ) عن قتادة : سار عليّ عليه السّلام من الزاوية يريد طلحة و الزبير و عائشة ، و ساروا من الفرضه يريدون عليّا عليه السّلام . فالتقوا عند موضع قصر عبيد اللّه بن زياد في النصف من جمادى الآخرة سنة ( 36 ) يوم الخميس ، خرج الزبير على فرس عليه سلاح . فقيل لعليّ عليه السّلام هذا الزبير قال : « أما إنه أحرى الرجلين إن ذكّر بالله أن يذكر » و خرج طلحة فخرج إليهما عليّ عليه السّلام فدنا منهما حتّى اختلفت أعناق دوابّهم . فقال لهما عليّ عليه السّلام : « لعمري لقد أعددتما سلاحا و خيلا و رجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا فاتّقيا الله سبحانه ، و لا تكونا كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا ، أ لم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي ، و احرّم دماءكما ؟ فهل من حدث أحلّ لكما دمي ؟ » قال طلحة : الببت الناس على عثمان . قال عليّ عليه السّلام : يومئذ يوفّيهم الله دينهم الحق ، و يعلمون ان اللّه

-----------
( 1 ) تذكرة الخواص : 57 و 59 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 68 ، و الآية 10 من سورة الفتح .

-----------
( 3 ) ميزان الاعتدال 3 : 60 ، و الآية 12 من سورة التوبة .

[ 233 ]

هو الحق المبين يا طلحة تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان . أتذكر يا زبير يوم مررت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في بني غنم فنظر إلي فضحك ، و ضحكت إليه .

فقلت لا يدع ابن أبي طالب زهوه فقال : لك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم صه انه ليس به زهو ،

و لتقاتلنّه و أنت له ظالم » ؟ فقال : اللهم نعم ، و لو ذكرت ، ما سرت مسيري هذا ،

و الله لا اقاتلك أبدا . فانصرف عليّ عليه السلام إلى أصحابه فقال : « أما الزبير فقد أعطى الله عهدا أن لا يقاتلكم » و رجع الزبير إلى عائشة فقال لها : « ما كنت في موطن منذ عقلت إلاّ و أنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا » قالت : « فما تريد أن تصنع » ؟ قال : « أريد أن أدعهم و أذهب » فقال له ابنه عبد الله : « جمعت بين هذين الغارين حتّى إذا حدّد بعضهم لبعض اردت ان تتركهم و تذهب . أحسست رايات ابن أبي طالب و علمت أنّها تحملها فتية أنجاد » قال : « إنّي قد حلفت أن لا اقاتله » . و أحفظه ما قال له فقال له : « كفّر عن يمينك ، و قاتله » . فدعا بغلام يقال له مكحول فأعتقه . فقال عبد الرحمن التميمي :

لم أر كاليوم أخا إخوان
أعجب من مكفّر الايمان

بالعتق في معصية الرحمن

و قال رجل من شعرائهم :

يعتق مكحولا لصون دينه
كفّارة للّه عن يمينه

و النكث قد لاح على جبينه 1

و رواه سبط ابن الجوزي ، و قال : « و في رواية : فقال الزبير لما ذكّره عليّ عليه السّلام قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فما الّذي أصنع ، و رجوعي عار عليّ . فقال عليه السّلام :

« إرجع بالعار و لا ترجع بالعار و النار » فرجع و هو يقول :

نادى علي بأمر لست أجهله
عار لعمرك في الدنيا و في الدين

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 513 ، سنة 36 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 234 ]


فقلت حسبك من لوم أبا حسن
فبعض هذا الّذي قد قلت يكفيني 1

« و مرقت اخرى » و هم المارقون : أي : الخوارج الّذين أخبر بهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

ففي ( كامل المبرد ) : أن عليا عليه السّلام وجّه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بذهبة من اليمن فقسّمها أرباعا فأعطى ربعا للأقرع بن حابس المجاشعي ، و ربعا لزيد الخيل الطائي ، و ربعا لعيينة بن حصن الفزاري ، و ربعا لعلقمة بن علاثة الكلابي . فقام رجل مضطرب الخلق غائر العينين ناتى‏ء الجبهة إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال : « رأيت قسمة ما اريد بها وجه الله » فغضب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى تورّد خدّاه ثم قال : « يأمنني اللّه على أهل الأرض و لا تأمنوني » فقام إليه عمر . فقال : ألا أقتله ؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « إنّه سيكون من ضئضئي هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، تنظر في النصل فلا ترى شيئا ، و تنظر في الرصاف فلا ترى شيئا و تتمارى في الفوق الخبر 2 .

و في ( تاريخ بغداد ) عن نبيط بن شريط قال : لمّا فرغ عليّ عليه السّلام من قتال أهل النهروان . قفل أبو قتادة الأنصاري ، و معه ستّون أو سبعون من الأنصار فبدأ بعائشة إلى أن قال فقالت عائشة ما يمنعني ما بيني و بين علي أن أقول الحق . سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول : « تفترق امّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقه محلّقة رؤوسهم محفون شواربهم . أزرهم إلى أنصاف سوقهم يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم . يقتلهم أحبّهم إلي و أحبّهم إلى اللّه تعالى » قال ( أبو قتادة ) : فقلت : يا امّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الّذي منك ؟ قالت : يا أبا قتادة و كان أمر اللّه قدرا مقدورا 3 .

-----------
( 1 ) تذكرة الخواص : 70 .

-----------
( 2 ) كامل المبرد 7 : 111 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) تاريخ بغداد 1 : 159 .

[ 235 ]

« و قسط » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « و فسق » كما في « حد و ثم و الخطية » و في رواية ( علل الصدوق ) : « و فسقت اخرى » و لكن في ( إرشاد المفيد ) : « و قسط » و بالجملة كلامه عليه السّلام نقل مختلفا لكن النهج بلفظ « و فسق » 1 .

« آخرون » و هم : القاسطون معاوية و أصحابه .

قال ابن أبي الحديد : قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لأمير المؤمنين عليه السّلام : « ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين » من دلائل نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلم 2 .

قلت : و كان عليه أن يزيد على قوله دلائل نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلم « و شواهد إمامته عليه السّلام » فقد قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلم : يا أيّها النبيّ جاهد الكفّار و المنافقين 3 و لم يجاهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم غير الكفار ، و إنما جاهد المنافقين و هم أصحاب الجمل ، و صفين و النهروان ، أمير المؤمنين عليه السّلام فدلّت الآية على كونه عليه السّلام بمنزلة نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم التزاما كما دلّت آية : و أنفسنا 4 على كونه عليه السّلام بمنزلة نفسه صلّى اللّه عليه و آله و سلم مطابقة .

و روى أحمد بن حنبل في ( فضائله ) كما نقل منه سبط ابن الجوزي عن أنس بن مالك قال : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي يمضي فيهم أمري و يقتل المقاتلة ، و يسبي الذرّية إلى أن قال فالتفت إلى عليّ عليه السّلام فأخذ بيده ، و قال : هذا هو هذا هو .

و روى الترمذي أيضا كما فيه عن ربعي بن حراش قال : حدّثنا عليّ عليه السّلام بالرحبة . فقال : لما كان يوم الحديبية خرج إلينا سهيل بن عمرو في جماعة من

-----------
( 1 ) كذا في شرح ابن ميثم 1 : 265 ، و العلل 1 : 151 ، و الإرشاد : 153 ، لكن في شرح ابن أبي الحديد 1 : 67 ، « قسط » .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 67 .

-----------
( 3 ) التوبة : 73 .

-----------
( 4 ) آل عمران : 61 .

[ 236 ]

رؤساء الكفار . فقال : يا محمد خرج اليك ناس من أبنائنا و إخواننا و أرقّائنا و ليس لهم فقه في الدين ، و إنّما خرجوا فرارا من أموالنا و ضياعنا فارددهم إلينا . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : سنفقّهم في الدين إن لم يكن لهم فقه . ثم قال : يا معاشر قريش لتنتهنّ أو ليبعثنّ اللّه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين . فقالوا : و من ذاك . فقال : من امتحن الله قلبه للايمان و هو خاصف النعل .

قال عليّ عليه السلام : و كنت جالسا أخصف نعل رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

و روى أيضا عن أبي سعيد الخدري . قال : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : يا علي لا يحلّ لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري و غيرك .

و روى أيضا عن عمران بن الحصين قال : بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم جيشا ،

و استعمل عليهم عليا عليه السّلام . فمشى في السرية . فأصاب جارية من السبي فتعاقد أربعة منهم إذا قدموا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أخبروه . فلمّا قدموا عليه قام الأوّل فقال : يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم « أ لا ترى إلى علي فعل كذا و كذا » فأعرض عنه ،

ثم قام الثاني فقال كذلك فاعرض عنه ، و قام الثالث و الرابع فقالا كذلك فأعرض عنهما ثم أقبل عليهم ، و الغضب يعرف في وجهه و قال : « ما تريدون من عليّ ؟ قالها ثلاثا علي منّي و أنا منه ، و لا يؤدّي عنّي إلاّ علي » .

قال سبط ابن الجوزي ، و معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « و لا يؤدي عنّي إلاّ عليّ » أنه بعث أبا بكر سنة تسع ، و قال له : إن المشركين يحضرون الموسم و يطوفون بالبيت عراة ، و لا أحبّ أحجّ حتّى لا يكون ذلك ، و أعطاه اربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم . فلمّا سار دعا عليا عليه السّلام . فقال له : ادرك ابا بكر فخذ منه الآيات ، و اقرأها على الناس بالموسم ، و دفع إليه ناقته العضباء . فأدرك أبا بكر بذي الحليفة . فأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فقال : هل نزل في شي‏ء ؟ فقال : لا ، و لكن لا يبلغ عنّي غيري أو

[ 237 ]

رجل منّي ، و في ( فضائل أحمد بن حنبل ) قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : إن جبرئيل جاءني . فقال : إبعث عليّا .

و روى النسائي في ( خصائصه ) : عن أبي سعيد الخدري قال : كنّا جلوسا ننتظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فخرج إلينا و قد انقطع شسع نعله . فرمى بها إلى عليّ عليه السّلام فقال : إن منكم رجلا يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله . قال أبو بكر : أنا ؟ قال : لا . قال عمر : أنا ؟ قال : لا ، و لكن خاصف النعل 1 .

و روى خبر الناكثين و القاسطين و المارقين قبل الوقوع جمع . ففي ( صفّين نصر بن مزاحم ) : أنّ عمرو بن العاص قال لعمّار : علام تقاتلنا ؟ أو لسنا نعبد إليها واحدا ، و نصلّي إلى قبلتكم ، و ندعو دعوتكم ، و نقرأ كتابكم ، و نؤمن برسولكم ؟ قال عمّار : « الحمد للّه الّذي أخرجها من فيك إنّها لي ، و لأصحابي القبلة ، و الدين ، و عبادة الرحمن و النبيّ و الكتاب من دونك و دون أصحابك .

الحمد للّه الّذي قرّرك لنا بذلك دونك و دون أصحابك ، و جعلك ضاّلا مضّلا لا تعلم هاد أنت أم ضالّ ، و جعلك أعمى ، و ساخبرك علام قاتلتك عليه أنت و أصحابك . أمرني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن اقاتل الناكثين . و قد فعلت ، و أمرني أن اقاتل القاسطين . فأنتم هم ، و أمّا المارقون فما أدري ادركهم أم لا . أيها الأبتر ألست تعلم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لعلي عليه السّلام : « من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم و ال من و الاه و عاد من عاداه » و أنا مولى الله و رسوله ، و علي بعده ، و ليس لك مولى .

فقال له عمرو بن العاص : لم تشتمني يا أبا اليقظان ، و لست أشتمك ؟ قال عمّار :

« و بم تشتمني ؟ أتستطيع أن تقول إنّي عصيت الله و رسوله يوما قط » 2 .

-----------
( 1 ) هذه الأحاديث رواها السبط في التذكرة : 36 42 ، و ما نقله عن سنن الترمذي فهو فيه 5 : 632 639 ح 3712 و 3715 و 3727 ، و ما نقله عن خصائص النسائي فهو فيه : 131 .

-----------
( 2 ) وقعة صفين : 338 .

[ 238 ]

و روى الكّشي عن محمد بن سليمان قال : قدم علينا أبو أيوب الأنصاري فنزل ضيعتنا يعلف خيلا له . فقلنا : قاتلت المشركين . ثم جئت تقاتل المسلمين فقال : إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمرني بقتال القاسطين . و المارقين ،

و الناكثين . فقد قاتلت الناكثين ، و القاسطين ، و إنا نقاتل إن شاء اللّه بالنهروانات ،

و ما أدري أنّى هي ؟ 1 و في ( تاريخ بغداد ) : كان أبو أيّوب على مقدّمة عليّ يوم النهروان الخبر 2 .

و روى ابن طلحة الشافعي عن ابن مسعود : أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أتى منزل أمّ سلمة . فجاء عليّ عليه السّلام فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « يا ام سلمة هذا و اللّه قاتل القاسطين و الناكثين و المارقين بعدي » 3 .

هذا و الناكثون طلحة و الزبير هم القاتلون لعثمان تصدّيا و إغراء ، و لما أيس طلحة و الزبير من الخلافة ، و كانا يرجوانها بقتل عثمان لمّا جعلهما عمر من ستّة الشورى ، و أيست عائشة ، و كانت ترجوها بقتل عثمان لابن عم أبيها طلحة ، رموا أمير المؤمنين عليه السّلام بقتله مع كونها مثلهما ممن له أثر عظيم في قتله .

كما أن القاسطين معاوية و عمرو بن العاص و أتباعهما أيضا ، كذلك خذل معاوية عثمان مع استغاثته به ، و مطاوعة أهل الشام الّذين قاتل بهم أهل العراق و الحجاز جميعا له ليقتل و يصير قتله سببا لادّعائه الأمر .

و عمرو كان يحرّض الناس على قتل عثمان تارة يأتي الزبير في ذلك ،

-----------
( 1 ) اختيار معرفة الرجال : 37 ح 76 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 1 : 154 .

-----------
( 3 ) مطالب السؤول : 24 .

[ 239 ]

و اخرى طلحة ، و يعترض الحاجّ فيخبرهم بما أحدث عثمان لما عزله . فطلّق أخت عثمان لامّه الّتي كانت تحته ، و خرج إلى السبع من فلسطين لما حوصر عثمان الحصر الأوّل ، فلما أخبر بقتله قال : « أنا أبو عبد اللّه إذا حككت قرحة نكأتها إن كنت لاحرّض عليه حتّى الراعي في غنمه على رأس الجبل » 1 أيضا قاتلوه بدم عثمان .

و أمّا المارقون فأجبروه على التحكيم حتّى أرادوا قتله عليه السّلام لو لم يقبل ثم كفّروه به ، و قاتلوه عليه . فهل مظلومية في الدنيا أعظم من مظلوميته عليه السّلام ،

و هل ظالمية في العالم فوق ظالمية مخالفيه ، و كاذبية في الدهر فوق كاذبية مخاصميه بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى شهادته ، و هل باطلية أوضح من باطليتهم .

هذا ، و حكم جميع فرق الاسلام بكفر المارقين ، و اما الناكثون و القاسطون و إن لم يحكموا بكفرهم ظاهرا لكنّهم كافرون باطنا محقّقا بشهادة القرآن .

روى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) مسندا عن الأصبغ قال : جاء رجل إلى عليّ عليه السّلام . فقال : هؤلاء القوم الّذين نقاتلهم الدعوة واحدة ، و الرسول واحد و الصلاة واحدة و الحج واحد . فبم نسمّيهم ؟ قال : تسمّيهم بما سمّاهم اللّه تعالى به في كتابه . فقال الرجل : ما كلّ ما في الكتاب أعلمه . فقال عليه السّلام : أما سمعت اللّه قال : تلك الرسل فضلّنا بعضهم على بعض إلى و لو شاء اللّه ما اقتتل الّذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البيّنات و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر 2 فلمّا وقع الاختلاف كنّا نحن أولى باللّه و بالكتاب ، و بالحق و بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، فنحن الّذين آمنوا و هم الّذين كفروا 3 .

-----------
( 1 ) رواه الواقدي في تاريخه ، عنه فتن البحار : 320 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 2 ) البقرة : 253 .

-----------
( 3 ) وقعة صفين : 322 .

[ 240 ]

و مورد السؤال و ان كان في القاسطين إلاّ أن الجواب يعمّ الناكثين كما يشمل يوم السقيفة ، و يوم الشورى . كيف لا و الأصل في مورد الآية يوم السقيفة الّذي هو الأصل لجميع ما بعده .

« كأنهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب ما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) 1 : « كأنهم لم يسمعوا اللّه سبحانه يقول » لأصحّيّة نسختيهما لا سيّما الثاني الّذي نسخته بخط مصنّفه .

مع أنّ ما في ( المصرية ) ليس بصحيح معنى . فكلام اللّه لا يقول بل اللّه تعالى يقول :

تلك الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين هي الآية الثالثة و الثمانون من سورة القصص .

و كان الصادق عليه السّلام يتلو هذا الآية و يبكي و يقول : « ذهبت الأماني و اللّه عند هذه الآية » 2 .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) عن جرموز المرادي قال :

رأيت عليا عليه السّلام يخرج من هذا القصر يعني قصر الكوفة ، و عليه إزار إلى أنصاف ساقيه و رداؤه مشمّر قريبا منه ، و معه الدرة يمشي بها في الأسواق ، و يقول : « يا قوم اتّقوا اللّه » و يأمرهم بحسن البيع و يقول :

« أوفوا الكيل و الميزان و لا تبخسوا الناس أشياءهم » و يرشد الضالّة و يعين الحمّال على الحمولة ، و يقرأ : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين 3 و يقول : هذه الآية نزلت

-----------
( 1 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 67 ، و شرح ابن ميثم 1 : 250 ، مثل المصرية أيضا .

-----------
( 2 ) أخرجه القمي في تفسيره 2 : 146 .

-----------
( 3 ) القصص : 83 .

[ 241 ]

في الولاة و ذوي القدرة من الناس » 1 .

و في ( حلية أبي نعيم ) : قال سفيان الثوري : ما رأيت الزهد في شي‏ء أقل منه في الرياسة ، ترى الرجل يزهد في المطعم و المشرب و المال و الثياب . فإذا نوزع في الرياسة حامى عليها و عادى 2 .

« بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها » أي : دخل في وعاء اذنهم .

« و لكنّهم حليت الدنيا في أعينهم » في ( جمهرة ابن دريد ) : « الحلاوة بالذوق و بالنظر و بالقلب ، إلاّ انهم فصّلوا فقالوا حلا الشي‏ء يحلو في فمي و حلي يحلى بعيني حلاوة و هو حلو في كلا المعنين ، و قال قوم من أهل اللغة : ليس حلي من حلا في شي‏ء . هذه لغة على حدتها كأنّها مشتقة من الحلي الملبوس لأنه حسن في عينك كحسن الحليّ » 3 قلت : و على ما قال فقول الشاعر :

« فلم يحل في
العينين بعدك منظر »

4 فتح اللام من حلى بكسرها لنسبته إلى العين كما في قول آخر « تحلى به العين إذا ما تجهره » 5 ، و ان كان مقلوبا ، و الأصل يحلى بالعين : أي : فيها .

« و راقهم زبرجها » قال العسكري : أي أعجبهم حسنها . و أصل الزبرج النقش و هو هاهنا زهرة الدنيا و حسنها 6 .

قال الطبري : « و لما أراد المغيرة بن شعبة أن يعيّن رئيسا لحرب الخوارج . قام صعصعة بن صوحان . فقال : « أيّها الأمير إبعثني إليهم . فأنا و اللّه

-----------
( 1 ) تذكرة الخواص : 116 ، و النقل بتقطيع .

-----------
( 2 ) حلية الأولياء 7 : 39 .

-----------
( 3 ) جمهرة اللغة 2 : 192 ، مادة ( حلو ) .

-----------
( 4 ) أورده أساس البلاغة : 94 ، مادة ( حلو ) .

-----------
( 5 ) أورده أساس البلاغة : 67 ، مادة ( جهر ) .

-----------
( 6 ) العلل 1 : 153 ، و المعاني : 364 .

[ 242 ]

لدمائهم مستحلّ و بحملها مستقل » فقال : « اجلس فإنّما أنت خطيب » فأحفظه ذلك ، و إنما قال المغيرة ذلك لأنّه بلغه أن صعصعة يعيب عثمان ، و يكثر ذكر عليّ عليه السّلام و يفضّله ، و قد كان دعاه ، و قال له : « إيّاك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان عند أحد من الناس ، و إيّاك أن يبلغني عنك أنك تظهر من فضل علي شيئا علانية فإنّك لست بذاكر من فضل علي شيئا أجهله بل أنا أعلم بذلك ،

و لكن هذا السلطان قد أخذنا بإظهار عيبه للناس . فنحن ندع كثيرا ممّا أمرنا به ،

و نذكر الشي‏ء الّذي لا نجد بدّا منه ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقيّة ، فان كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك و بين أصحابك و في منازلكم سرّا ، و أمّا علانية في المسجد ، فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا و لا يعذرنا فيه » فكان صعصعة يقول له : « نعم . أفعل » ثم يبلغه أنه عاد إلى ما نهاه عنه 1 .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : ذكروا أن رجلا من همدان يقال له برد ، قدم على معاوية فسمع عمرو بن العاص يقع في عليّ عليه السّلام . فقال له : يا عمرو إن أشياخنا سمعوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول « من كنت مولاه فعلي مولاه » فحق ذلك أم باطل ؟ فقال عمرو « حق . و أنا ازيدك : ليس أحد من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم له مناقب مثل مناقب علي » ففزع الفتى . فقال عمرو : « إنه أفسدها بأمره في عثمان » إلى أن قال فرجع الفتى إلى قومه . فقال : إنّا أتينا قوما أخذنا الحجّة عليهم من أفواههم « على على الحق فاتّبعوه » 2 .

و في ( خلفائه ) أيضا : و ذكروا أن عبد الله بن أبي محجن الثقفي قدم إلى معاوية فقال له : « إنّي أتيتك من عند العييّ الجبان البخيل ابن أبي طالب » فقال له معاوية : « لله أنت تدري ما قلت ؟ امّا قولك : « إنه العييّ » فو اللّه لو أن ألسن

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 4 : 144 ، سنة 43 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) الامامة و السياسة 1 : 109 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 243 ]

الناس جمعت فجعلت لسانا واحدا لكفاها لسان علي ، و أما قولك : « إنه جبان » فثكلتك امك هل رأيت أحدا قط بارزه إلاّ قتله ؟ و أما قولك : « إنه بخيل » فو الله لو كان له بيتان أحدهما من تبر و الآخر من تبن لأنفد تبره قبل تبنه . فقال له :

فعلام تقاتله إذن ؟ قال : « على دم عثمان ، و على هذا الخاتم الّذي من جعله في يده جازت طينته ، و أطعم عياله ، و ادّخر لأهله » فضحك الثقفي . ثم لحق بعليّ عليه السّلام ، و قال له : « هب لي يا أمير المؤمنين عليه السّلام جرمي لا دنيا أصبت و لا آخرة غنمت . فضحك عليّ عليه السّلام 1 .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) بعد ذكر دعوة معاوية عمرو بن العاص إلى معاونته في حرب أمير المؤمنين عليه السّلام « فكتب إليه عمرو بن العاص : أمّا ما دعوتني إليه من خلع ربقة الاسلام من عنقي و التهوّن معك في الضلالة و إعانتي إيّاك على الباطل ، و اختراط السيف في وجه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ، و هو أخو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و وليّه و وصيّه و وارثه و قاضي دينه ، و منجز وعده ، و صهره على ابنته سيّدة نساء العالمين ، و أبو السبطين الحسن و الحسين سيدي شباب أهل الجنة . و يحك يا معاوية أما علمت أن أبا الحسن بذل نفسه للّه تعالى ، و بات على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال فيه : « من كنت مولاه فعلي مولاه » إلى أن قال فقال عتبة لمعاوية : لمّا وصل كتاب عمرو إليه : « لا تيأس منه و اكتب إليه ، و رغّبه في الولاية ، و شرّكه معك في سلطانك » إلى أن قال .

إن عمرو بن العاص كتب إلى معاوية ثانية :

معاوي لا اعطيك ديني و لم أنل
به منك دنيا فانظرن كيف تصنع ؟

إلى أن قال بعد ذكر قبول معاوية ما اقترح :

-----------
( 1 ) الامامة و السياسة 1 : 114 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 244 ]

و بات عمرو طول ليلته متفكرا فدعا غلاما له يقال له وردان ( و هو الّذي ينسب إليه في مصر سوق وردان ) فقال : ما ترى ياوردان . فقال ان مع علي آخرة و لا دنيا ، و إن مع معاوية دنيا و لا آخرة ، و الّتي مع علي تبقى ، و الّتي مع معاوية تفنى . فلما أصبح ركب فرسه و معه ابنه عبد الله و هو يقول له : « لا تذهب إلى معاوية لا تبع آخرتك » 1 .

و في ( المروج ) : لما ندب معاوية رجلين من لخم لقتل العباس بن ربيعة الهاشمي . فقتلهما أمير المؤمنين عليه السّلام لأنه كان لبس لباس العبّاس قال معاوية :

« قبّح الله اللجاج ما ركبته قطّ إلاّ خذلت » فقال له عمرو بن العاص : « المخذول و الله اللخميان لا أنت » . فقال له معاوية : « ذلك أخسر لصفقتك » . قال : « قد علمت ذلك و لو لا مصر لركبت المنجاة منها . فإني أعلم أن عليّ بن أبي طالب على الحق ، و أنا على الضدّ » فقال له معاوية : « مصر هي أعمتك و لو لا هي ، لالفيت بصيرا » 2 .

و فيه أيضا : طلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يسوّي صفوف أهل الشام . فقال له عمرو على أنّ لي حكمي إن قتل ابن أبي طالب ، و استوسقت لك البلاد فقال : أليس حكمك في مصر ؟ فقال : و هل مصر تكون عوضا عن الجنّة ،

و قتل ابن أبي طالب يكون ثمنا لعذاب النار الّذي لا يفتر عنهم و هم فيه مبلسون 3 .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) : لما عسكر عليّ عليه السّلام بالنخيلة ، و بعث الأصبغ بن نباته بكتابه إلى معاوية . قال الأصبغ : فدخلت عليه ، و عمرو بن

-----------
( 1 ) تذكرة الخواص : 86 و 87 . و النقل بتقطيع .

-----------
( 2 ) مروج الذهب 3 : 20 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 3 ) يوجد قريب من المضمون في مروج الذهب 2 : 354 و 390 ، و 3 : 20 ، لكن لم يوجد بهذا اللفظ .

[ 245 ]

العاص عن يمينه ، و ذو الكلاع و حوشب عن يساره ، و إلى جانبه أخوه عتبة و ابن عامر و الوليد بن عقبة ، و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، و شرحبيل بن السمط ، و أبو هريرة بين يديه إلى أن قال فقلت : يا أبا هريرة أنت صاحب رسول اللّه اقسم عليك باللّه الّذي لا إله إلاّ هو هل سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول يوم غدير خم في حق أمير المؤمنين عليه السّلام : « من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه » ؟ فقال : إي و الله لقد سمعته يقول ذلك . فقلت : « فإذن أنت يا أبا هريرة و اليت عدوّه ، و عاديت وليّه » فتنفّس أبو هريرة و قال : « إنّا اللّه و إنّا إليه راجعون » فتغيّر وجه معاوية ، و قال : يا هذا كفّ عن كلامك . فلا تستطيع ان تخدع أهل الشام عن الطلب بدم عثمان 1 .

و في ( مروج المسعودي ) : لام النعمان بن جبلة التنوخي صاحب رايات معاوية معاوية ، و قال له : لقد نصحتك على نفسي ، و آثرت ملكك على ديني ،

و تركت لهواك الرشد و أنا أعرفه ، وحدت عن الحقّ و أنا ابصره ، و ما وفّقت لرشد ، حين اقاتل عن ملكك ابن عمّ رسول اللّه ، و أول مؤمن به و مهاجر معه ،

و لو أعطيناه ما أعطيناك لكان أرأف بالرعيّة ، و أجزل في العطيّة ، و لكن قد بذلنا لك الأمر ، و لابدّ من إتمامه غيّا كان أو رشدا ، و حاشا أن يكون رشدا ، و سنقاتل عن تين الغوطة و زيتونها إذ حرمنا أثمار الجنة و أنهارها 2 .

و فيه أيضا : قال الشرقي : إنّ معاوية قال لعمرو بن العاص بعد صفّين :

« هل غششتني منذ نصحتني ؟ قال ، لا قال : بلى و الله يوم أشرت علي بمبارزة علي و أنت تعلم ما هو . قال : « دعاك إلى المبارزة . فكنت من مبارزته على إحدى

-----------
( 1 ) تذكرة الخواص : 85 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) مروج الذهب 2 : 384 .

[ 246 ]

الحسنين إمّا أن تقتله فتكون قد قتلت قاتل الأقران و تزداد شرفا إلى شرفك ،

و إمّا أن يقتلك . فتكون قد استعجلت مرافقة الشهداء و الصالحين ، و حسن اولئك رفيقا » . فقال معاوية : « جوابك هذا أشدّ علي من إشارتك » . قال : لم ؟ قال :

« لأنّي إن قتلته كنت من أهل النار ، و إن قتلني كنت من أهل النار » 1 .

و روى ( موفقيات الزبير بن بكار ) عن المدائني عن قحذم مولى آل أبي بكرة ، و كاتب يوسف بن عمر في خبر هشام مع خالد بن عبد اللّه القسري عامله على العراق لمّا أراد أن يوقع به لمّا بلغه عنه أشياء في كتابه إليه : « و لقد حشد جدّك يزيد بن أسد مع معاوية يوم صفّين ، و عرض دينه ، و دمه فيما اصطنع إليه ، و لا ولاّه ما اصطنع اليك » الخ 2 .

و في ( الطبري ) : جاء رجل إلى طلحة و الزبير و هما في المسجد بالبصرة فقال : نشدتكما باللّه في مسيركما أعهد إليكما فيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم شيئا ؟ فقام طلحة . و لم يجبه فناشد الزبير . فقال : لا ، و لكن بلغنا أن عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها 3 .

و ( فيه ) و في ( المروج ) : لما بايع أهل البصرة الزبير و طلحة إلى أن قال فقال ( الزبير ) إنّ هذه لهي الفتنة الّتي كنا نحدّث عنها . فقال له مولاه : اتسمّيها فتنة و تقاتل فيها ؟ قال : « ويحك » إنّا نبصر و لا نبصر . فاسترجع المولى ثم خرج في الليل فارّا إلى عليّ عليه السّلام إلى أن قال و لو ظفرا لافتتنا ما خلّى الزبير بين طلحة و الأمر ، و لا خلّى طلحة بين الزبير و الأمر 4 .

و في ( الطبري ) : أقبل غلام من جهينة ( من أصحاب الجمل ) على محمّد

-----------
( 1 ) مروج الذهب 2 : 387 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) رواه الزبير بن بكار في الموفقيات : 291 ، و المبرد في الكامل 8 : 288 .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 3 : 491 ، سنة 36 .

-----------
( 4 ) يوجد صدره فقط في تاريخ الطبري 3 : 91 ، سنة 36 ، و لم يوجد أصلا في مروج الذهب .

[ 247 ]

بن طلحة فقال : اخبرني عن قتلة عثمان . فقال : نعم . دم عثمان ثلاثة أثلاث : ثلث على صاحبة الهودج يعني عائشة ، و ثلث على صاحب الجمل الأحمر ، يعني طلحة ، و ثلث على علي و ضحك الغلام ، و قال : ألا أراني على ضلال و لحق بعليّ عليه السّلام ، و قال في ذلك شعرا :

سألت ابن طلحة عن هالك
بجوف المدينة لم يقبر

فقال ثلاثة رهط هم
أماتوا ابن عفان و استعبر

فثلث على تلك في خدرها
و ثلث على راكب الأحمر

و ثلث على ابن أبي طالب
و نحن بدوية قرقر

فقلت صدقت على الاوّلين
و أخطات في الثالث الأزهر 1

و رواه ابن قتيبة و زاد « و بلغ طلحة قول ابنه محمّد فقال له : تزعم أنّي قاتل عثمان كذلك تشهد على أبيك ، كن كعبد اللّه بن الزبير فما أنت بخير منه ،

و لا أبوك بدون أبيه ، كفّ عن قولك ، و إلاّ فارجع فإنّ نصرتك نصرة رجل واحد ، و فسادك فساد عامّة . فقال : ما قلت إلاّ حقّا و لا اعود 2 .

و في ( نقض الاسكافي ) عن علي بن الحسين عليه السّلام قال : قال لي مروان : ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم قلت : فما بالكم تسبّونه على المنابر ؟ قال : إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك .

و فيه أيضا عن ابن أبي سيف ، خطب مروان و الحسن عليه السّلام جالس فنال من عليّ عليه السّلام . فقال الحسن : و يلك يا مروان أهذا الّذي تشتم شرّ الناس ؟ قال : لا .

و لكنّه خير الناس .

و فيه أيضا : قال عمر بن عبد العزيز : كان أبي يخطب . فلا يزال مستمرا

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 482 ، سنة 36 .

-----------
( 2 ) الامامة و السياسة 1 : 65 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 248 ]

في خطبته حتّى إذا سار إلى ذكر عليّ عليه السّلام و سبّه انقطع لسانه ، و اصفرّ وجهه ،

و تغيّرت حاله . فقلت له في ذلك . فقال : أو قد فطنت لذلك ؟ انّ هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل 1 .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : كتب سعد إلى معاوية ، و كان ( عليّ عليه السّلام ) أحقّنا كلّنا بالخلافة ، و لكن مقادير الله التي صرفتها عنه حيث شاء لعلمه و قدره ، و قد علمنا انه أحق « بها منّا 2 .

و في ( المروج ) : لما حج معاوية طاف بالبيت ، و معه سعد فلمّا فرغ انصرف إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ، و وقع معاوية في عليّ عليه السّلام و شرع في سبّه فزحف سعد . ثم قال : أجلستني معك على سريرك . ثم شرعت في سبّ علي ، و اللّه لأن يكون في خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس إلى أن قال و اللّه لأن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لي : ما قال له في غزوة تبوك « أ لا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبي بعدي » ، و الله لأن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لي ما قال يوم خيبر لعلي : « لأعطين الراية غدا رجلا يحبّه اللّه و رسوله ، و يحبّ اللّه و رسوله ليس بفرّار يفتح اللّه على يديه » أحبّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، و أيم اللّه لا دخلت لك دارا ما بقيت . و نهض 3 .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) : ذكر أبو حامد الغزالي في كتاب ( سر العالمين و كشف ما في الدارين ) قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعليّ عليه السّلام يوم غدير خم :

« من كنت مولاه فعلي مولاه » فقال عمر بن الخطاب « بخ بخ يا أبا الحسن

-----------
( 1 ) روى هذه الأحاديث عن الإسكافي ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 259 ، شرح الخطبة 190 .

-----------
( 2 ) الامامة و السياسة 1 : 100 .

-----------
( 3 ) مروج الذهب 3 : 14 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 249 ]

أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة » و هذا تسليم و رضاء و تحكيم .

ثم بعد هذا غلب الهوى حبّا للرياسة و عقد البنود و خفقان الرايات ، و ازدحام الخيول في فتح الأمصار ، و أمر الخلافة و نهيها . فحملهم على الخلاف ، فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون 1 .

و في ( سيرة ابن هشام ) عن رافع بن أبي رافع الطائي قال : كنت امرأ نصرانيا . فلمّا أسلمت خرجت في الغزوة الّتي بعث فيها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل . فقلت : و الله لأختارنّ لنفسي . فصحبت أبا بكر .

فكنت معه في رحله ، و كانت عليه عباءة له فدكيّة . فكان إذا نزلنا بسطها و إذا ركبنا لبسها . ثم شكّها عليه بخلال له و ذلك الّذي يقول له أهل نجد حين ارتدّوا :

« أ نحن نبايع ذا العباءة » فلمّا دنونا من المدينة قلت : يا أبا بكر إنّما صحبتك لينفعني اللّه بك فانصحني و علّمني قال « آمرك أن توحّد اللّه إلى أن قال و لا تتأمّر على رجل من المسلمين أبدا . قلت : يا أبا بكر أمّا فواللّه إنّي لأرجو أن لا اشرك بالله أحدا إلى أن قال و أمّا الأمارة فإنّي رأيت الناس يا ابابكر لا يشرّفون عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عند الناس إلاّ بها فلم تنهاني عنها ؟ قال : « إنّك إنّما استجهدتني لأجهد لك . إنّ اللّه تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم بهذا الّذين فجاهد عليه حتّى دخل الناس فيه طوعا و كرها . فلمّا دخلوا فيه كانوا عوّاذ اللّه و جيرانه و في ذمته . فإياك لا تخفر اللّه في جيرانه فيتبعك اللّه خفرته » قال : ففارقته على ذلك . فلمّا قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أمرّ أبو بكر قدمت عليه . فقلت له : أ لم تك نهيتني عن أن أتأمّر على رجلين ؟ قال : بلى . فقلت : فما حملك على أن تلي أمر الناس ؟ قال : خشيت

-----------
( 1 ) تذكرة الخواص : 62 .

[ 250 ]

على امّة محمّد الفرقة 1 .

قلت : هل الفرقة في الامّة من ذلك اليوم إلى الأبد إلاّ من تأمّره ؟ فلو كان ترك من أمّره الله و رسوله يلي ، لسلّم جميع الامّة . و مرّ في أول الخطبة شعر الحطيئة و مرّ في هذه القصّة قول أهل نجد « نحن نبايع ذا العباءة » و لو كان ترك من أمّره اللّه كيف يصل الأمر إلى بني اميّة الّذي يقول رئيسهم يوم ولّى أوّلهم جهرة « يا بني اميّة تلقفوها تلقف الكرة فو الّذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب و لا حساب ، و لا جنّة و لا نار ، و لا بعث و لا قيامة » « ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنمّ لمحيطة بالكافرين » 2 .

و روى عاصم بن أبي عامر البجلي عن يحيى بن عروة قال : كان أبي إذا ذكر عليّا عليه السّلام نال منه ، و قال لي مرة : « يا بني و الله ما أحجم الناس عنه إلاّ طلبا للدنيا لقد بعث إليه اسامة بن زيد أن ابعث إلي بعطائي . فو اللّه إنّك لو كنت في فم أسد لدخلت معك . فكتب إليه : « إنّ هذا المال لمن جاهد عليه ، و لكنّ لي مالا بالمدينة فاصب منه ما شئت » قال يحيى : فكنت أعجب من وصفه إيّاه بما وصفه به و من عيبه له و انحرافه عنه 3 .

و روى ( حلية أبي نعيم ) عن أبي المنهال قال : لما اخرج ابن زياد ، وثب مروان بالشام و ابن الزبير بمكّة ، و الّذين يدعون القراء بالبصرة ، غمّ أبي غمّا شديدا فانطلق إلى أبي برزة ، و أنشأ يستطعمه الحديث . فكان أوّل شي‏ء تكلّم به أبو برزة أن قال : « إنّي أحتسب عند الله عزّ و جلّ أنّي أصبحت ساخطا على أحياء قريش ، و أنكم معشر العرب كنتم على الحال الّذي قد علمتم ، و أنّ اللّه

-----------
( 1 ) سيرة ابن هشام 4 : 200 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) التوبة : 49 .

-----------
( 3 ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 371 .

[ 251 ]

تعالى قد نعشكم بالإسلام و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم خير الأنام حتّى بلغ بكم ما ترون ،

و أن هذه الدنيا هي التي أفسدت بينكم إلى أن قال فلما لم يدع أحدا قال له أبي :

بم تأمر إذن ؟ قال : لا أرى خير الناس اليوم إلاّ عصابة ملبّدة خماص البطون من أموال الناس خفاف الظهور من دمائهم 1 .

قلت : و مراد أبي برزة الاسلمي صاحب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من احتسابه عند اللّه تعالى بكونه ساخطا على أحياء قريش تيمها و عديها كأميّتها لتسببهم ذاك الاختلاف و فساد الدين كما أنّ مراده بعصابة هم خير الناس أهل ، بيت نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

و روى أبو جعفر الإسكافي و ابن عقدة الحافظ أنّ عليّا عليه السّلام خطب في اليوم الثاني من بيعته إلى أن قال في خطبته و إنّي حاملكم على منهج نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلم و منفذ فيكم ما أمرت به إن استقمتم لي ، و بالله المستعان . ألاّ إنّ موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد وفاته كموضعي منه أيّام حياته فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عند ما تنهون عنه ، و لا تعجلوا في أمر حتّى نبيّنه لكم .

فإنّ لنا عن كلّ أمر تنكرونه عذرا إلى أن قال ثم التفت عليه السّلام يمينا و شمالا فقال « ألا لا يقولنّ رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فاتّخذوا العقار ، و فجرّوا الأنهار ، و ركبوا الخيول الفارهة ،

و اتّخذوا الوصائف الرققة فصار ذلك عليهم عارا و شنارا إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه ، و أصرتهم إلى حقوقهم الّتي يعلمون . فينقمون ذلك ،

و يستنكرون ، و يقولون حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا . ألا و أيما رجل من المهاجرين و الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يرى أنّ له الفضل على من سواه لصحبته . فانّ الفضل النيّر غدا عند اللّه . و ثوابه و أجره على اللّه ، و أيما

-----------
( 1 ) حلية الاولياء 2 : 32 .

[ 252 ]

رجل استجاب لله و للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فصدّق ملّتنا ، و دخل في ديننا ، و استقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام و حدوده فأنتم عباد اللّه ، و المال مال اللّه يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على أحد الحديث .

قال الاسكافي : و كان هذه أوّل ما انكروا من كلامه عليه السّلام و أورثهم الضغن عليه و كرهوا عطاءه و قسمه بالسوية 1 .

قال ابن أبي الحديد : قرى‏ء كتاب ( الاستيعاب ) على عبد الوهاب بن سكينة المحدّث و أنا حاضر فلما انتهى القارى‏ء إلى هذا الخبر ( يعني إلى خبر شهادة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لدافني أبي ذر بالإيمان ) قال : قال استاذي عمر بن عبد اللّه الدّباس و كنت أحضر معه سماع الحديث : « لتقل الشيعة بعد هذا ما شاءت فما قال المرتضى و المفيد إلاّ بعض ما كان حجر و الاشتر ( و كانا من دافني أبي ذر ) يعتقدانه في عثمان و من تقدّمه » فأشار الشيخ إليه بالسكوت فسكت 2 .

و في ( منهاج كرامة العلاّمة الحلّي ) : أنّ ذكر الخلفاء في الخطب لم يكن في زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و لا في زمن أحد من الصحابة و التابعين ، في صدر ولاية العباسيين ، و إنّما هو شي‏ء أحدثه المنصور لما وقع بينه و بين العلوية .

فقال : و اللّه لأرغمن أنفي و أنوفهم فارفع عليهم بني تيم و عدي .

و فيه : قد رأيت بعض أئمة الحنابلة يقول : إنّي على مذهب الإمامية فقلت :

فلم تدرس على مذهب الحنابلة ؟ فقال : ليس في مذهبكم البغلات و المشاهرات .

و فيه و كان أكبر مدرّس الشافعية في زماننا حيث توفّى أوصى بأن يتولّى أمره في غسله و تجهيزه بعض المؤمنين ، و أن يدفن في مشهد الكاظم عليه السّلام 3 .

-----------
( 1 ) رواه الاسكافي في النقض ، عنه شرح ابن أبي الحديد 2 : 171 ، شرح الخطبة 90 ، و لم اجد من نقله عن ابن عقدة .

-----------
( 2 ) قاله ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 424 ، شرح الكتاب 13 ، و الحديث ففى الاستيعاب 1 : 214 .

-----------
( 3 ) منهاج الكرامة : 23 و 24 .

[ 253 ]

« أما و الّذي فلق الحبّة » حبّة الشعير و الحنطة .

« و برأ النسمة » في ( النهاية ) : و كلّ دابة فيها روح فهي نسمة ، و منه حديث عليّ عليه السّلام « و برأ النسمة » : أي : خلق ذات الروح ، و كثيرا ما كان عليه السّلام يقولها إذا اجتهد في يمينه 1 .

« لو لا حضور الحاضر ، و قيام الحجّة بوجود الناصر ، و ما أخذ الله على العلماء ألاّ يقارّوا على كظة ظالم » يقال كظّة الشبع : إذا امتلأ حتّى ما يطيق النفس .

« و لا سغب مظلوم » أي : شدّة جوعه قال تعالى : في يوم ذي مسغبة 2 .

روى الثقفي مسندا عنه عليه السّلام قال في خطبة له : « ثم كان من أمر القوم بعد بيعتهم لي ما كان ثم لم أجد إلاّ قتالهم أو الكفر بالله » 3 .

و روى ( الاستيعاب ) عن عبد الواحد الدمشقي قال : نادى حوشب الحميري عليّا عليه السّلام يوم صفين . فقال : إنصرف عنّا يا ابن أبي طالب . فإنّا ننشدك اللّه في دمائنا و دمك ، و نخلّي بينك و بين عراقك و تخلّي بيننا و بين شامنا ، و تحقن دماء المسلمين . فقال عليّ عليه السّلام : هيهات يا ابن امّ ظليم . و اللّه لو علمت أنّ المداهنة تسعني في دين الله لفعلت ، و لكان أهون عليّ في المؤونة ،

و لكنّ الله لم يرض من أهل القرآن بالسكوت و الإدهان إذا كان اللّه عزّ و جلّ يعصى و هم يطيقون الدفاع و الجهاد حتّى يظهر أمر اللّه 4 .

« لألقيت حبلها على غاربها » في ( الصحاح ) : الغارب : ما بين السنام و العنق ،

و منه قولهم « حبلك على غاربك » : أي : اذهبي حيث شئت ، و أصله أنّ الناقة إذا

-----------
( 1 ) هذا كلام ابن الأثير في النهاية 5 : 49 ، مادة ( نسم ) .

-----------
( 2 ) البلد : 14 .

-----------
( 3 ) رواه عن الثقفي المفيد في اماليه : 153 ح 5 ، المجلس 19 .

-----------
( 4 ) الاستيعاب 1 : 395 .

[ 254 ]

رعت و عليها الخطام القي على غاربها : لأنها إذا رأت الخطام لم يهنئها شي‏ء 1 .

« و لسقيت آخرها بكأس أوّلها » أي : جعلهم محرومين من فيوضاته ذاك الوقت كما جعلهم محرومين منها أيّام تصدّي الثلاثة فالإمام كالكعبة يجب على الناس التوجّه إليها فلمّا تركوه تركهم .

و سقاية الآخر بكأس الأوّل كناية عن ذلك ، و قال المنصور لأبي مسلم لمّا قتله :

إشرب بكأس كنت تسقى بها
أمرّ في الحلق من العلقم

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : قال علي عليه السّلام بعد السقيفة : « و اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنا أهل البيت ، و نحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارى‏ء لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلم ،

المضطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الامور السيّئة ، القاسم بينهم بالسوية . و اللّه انّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحق بعدا » فقال بشير بن سعد الأنصاري و هو أوّل من بايع أبا بكر حسدا لابن عمّه سعد بن عبادة لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان . فقال عليه السّلام « أ فكنت أدع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في بيته لم أدفنه و أخرج انازع الناس سلطانه 2 .

و اخراجه عليه السّلام لسيّدة النساء عليها السّلام إنّما كان لإتمام الحجّة . ففي ( الخلفاء ) أيضا : « و خرج عليّ كرّم الله وجهه يحمل فاطمة على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول اللّه قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، و لو أنّ زوجك و ابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به .

-----------
( 1 ) صحاح اللغة 1 : 193 ، مادة ( غرب ) .

-----------
( 2 ) الامامة و السياسة 1 : 12 .

[ 255 ]

فتقول : « ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، و لقد صنعوا ما اللّه حسيبهم و طالبهم » 1 .

و لما قال يوم الشورى له عليه السّلام ابن عوف ابايعك على أن تعمل بسنّة أبي بكر و عمر لم يقبل ، و رضي بترك الخلافة ، و هو أوضح دليل على بطلان خلافة الرجلين ، حيث إنّه تواتر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : « إنّ عليّا على الحقّ و الحقّ معه يدور » 2 فرضي بترك الخلافة حتّى يفهم الناس أنّ سنّتهما باطلة ، و خلافتهما غير صحيحة .

كما أنّه عليه السّلام دفن سيّدة نساء العالمين سرّا حتّى يعلموا عدم رضاه منهما . قال ابن قريعة :

يا من يسائل دائما عن كلّ معضلة سخيفة
لا تكشفنّ مغطئا فلربّما كشفت عن جيفة

و لربّ مستور بدا كالطبل من تحت القطيفة
إنّ الجواب لحاضر لكنني اخفيه خيفة

لو لا اعتداء رعية ألقى سياستها الخليفة
و سيوف أعداء بها هاماتنا أبدا نقيفة

لنشرت من أسرار آل محمّد جملا لطيفة
تغنيك عمّا قد رواه مالك و أبو حنيفة

و أريتكم أنّ الحسين اصيب من يوم السقيفة
و لأيّ حال لحدّت بالليل فاطمة الشريفة

-----------
( 1 ) الامامة و السياسة 1 : 12 .

-----------
( 2 ) اخرجه البزار في مسنده ، عنه مجمع الزاوئد 7 : 236 ، و ابن مردويه في مناقبه ، عنه ذيل احقاق الحق 5 : 631 ،

و غيرهما .

[ 256 ]

و لما حمت شيخيكم عن وطء حجرتها الشريفة
اوه لبنت محمّد ماتت بغصّتها أسيفة

و كذلك صرّح ببطلان سنّتهما لمّا بايعه أصحابه ثانية بعد مروق المارقة ففي الطبري ، و لمّا خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليّا عليه السّلام أصحابه و شيعته فبايعوه ، و قالوا « نحن أولياء من واليت ، و أعداء من عاديت » فشرط لهم فيه سنّة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلم فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي ، و كان شهد معه الجمل و صفّين و معه راية خثعم . فقال عليه السّلام له : « بايع على كتاب الله و سنّة رسوله » فقال ربيعة ( على سنّة أبي بكر و عمر ) فقال له عليّ عليه السّلام : « ويلك لو أنّ أبا بكر و عمر عملا بغير كتاب الله و سنّة رسوله لم يكونا على شي‏ء من الحقّ » و نظر إليه ، و قال له « أما و الله لكأنّي بك ، و قد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت ، و كأنّي بك و قد وطأتك الخيل بحوافرها » فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة .

و رواه ( خلفاء ابن قتيبة ) : و زاد قال قبيصة فرأيته يوم النهروان قتيلا قد وطأت الخيل وجهه ، و شدخت رأسه ، و مثّلت به . فذكرت قول عليّ عليه السّلام و قلت لله درّ أبي الحسن ما حرّك شفتيه قطّ بشي‏ء إلاّ كان كذلك 1 .

و لمّا أكرهوه على جعل أبي موسى حكما ، و علم انّه يخلعه لم يعبأ عليه السّلام بذلك . فلمّا قال الأحنف له : « لا أرانا إلاّ بعثنا رجلا لا ينكر خلعك » قال عليه السّلام له : يا أحنف إنّ الله غالب على أمره 2 .

و بالجملة : لو لا قيام الحجّة بحضور جمع معدود لنصرته عليه السّلام لسقى آخرهم من مرّ كأس ولاية الظالمين عليهم ، و حرمهم من ذوق حلاوة

-----------
( 1 ) رواه ابن قتيبة في الامامة و السياسة 1 : 146 ، و بعضه الطبري في تاريخه 4 : 46 ، سنة 37 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

-----------
( 2 ) رواه ابن مزاحم في وقعة صفين : 537 .

[ 257 ]

قيامه عليه السّلام عليهم كما حرم أوّليهم الّذين كانوا في أيّام الثلاثة .

و عن ( عيون أخبار بني هاشم الطبري ) الّذي صنّفه للوزير علي بن عيسى بن جراح ، و في ( أمالي محمّد بن محمّد بن النعمان ) : أنّ معاوية قال لابن عباس : إنّكم تريدون أن تحرزوا الإمامة كما اختصصتم بالنبوّة ، و الله لا تجتمعان أبدا إنّ حجّتكم في الخلافة مشتبهة ، إنّكم تقولون نحن أهل بيت النبيّ فما بال خلافته في غيرنا ، و هذه شبهة . إنّ الخلافة تتقلّب في أحياء قريش برضى العامة ، و شورى الخاصّة ، و لسنا نجد الناس يقولون : ليت بني هاشم ولّونا ، و لو ولّونا كان خيرا لنا و اللّه لو ملكتمونا يا بني هاشم لما كانت ريح عاد ، و صاعقة ثمود بأهلك للناس منكم » .

فقال له ابن عباس : « أمّا قولك إنّا نحتجّ بالنبوّة في استحقاق الخلافة .

فهو و الله كذلك . فإن لم تستحقّ الخلافة بالنبوّة فبم تستحق » و أما قولك : « إنّ الخلافة و النبوّة لا تجتمعان » فأين قوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما 1 فالكتاب هو النبوّة و الحكمة هي السنّة ، و الملك هو الخلافة . فنحن آل إبراهيم ، و الملك جار فينا إلى يوم القيامة ، و أما دعواك على حجّتنا انّها مشتبهة فليس كذلك ، و حجّتنا أضوأ من الشمس ، و أنور من القمر كتاب اللّه معنا ، و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فينا ، و انّك لتعلم ذلك ، و لكن شي‏ء عطفك . قتلنا أخاك و جدّك و خالك و عمّك ، فلا تبك على أعظم حائلة ، و أرواح في النار هالكة ، و أما قولك « إنّا لو ملكنا كان ملكنا أهلك للناس من ريح عاد ، و صاعقة ثمود . فقول الله تعالى و ما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين 2 يكذّبك . فنحن أهل بيته

-----------
( 1 ) النساء : 54 .

-----------
( 2 ) الأنبياء : 107 .

[ 258 ]

الأدنون ، و رحمة اللّه بنا لخلقه كرحمته بنبيّه لخلقه ، و أما ترك تقديم الناس لنا في ما خلا ، و عدولهم عن الإجماع علينا . فما حرموا منّا أعظم مما حرمنا منهم الخبر 1 .

و أقول : ابن عباس اتّقى معاوية و إلاّ لكان يقول أمّا قولك « نحن أهلك من ريح عاد ، و صاعقة ثمود » فنحن كذلك على أمثالك من المنافقين ، و أما على المؤمنين فأرأف ، و أعطف من الأب و الام على الولد كما قال تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم 2 .

و في ( اسد الغابة ) : قال المدائني : لمّا دخل عليّ عليه السّلام الكوفة دخل عليه رجل من حكماء العرب فقال له « و الله لقد زنت الخلافة ، و ما زانتك ، و رفعتها ،

و ما رفعتك ، و هي كانت أحوج إليك منك إليها » 3 .

و روى ( اسد الغابة ) أيضا عنه عليه السّلام قال : قال لي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم : أنت بمنزلة الكعبة تؤتى و لا تأتي . فإن أتاك هؤلاء القوم فسلّموها إليك ( يعني الخلافة ) فاقبل منهم ، و ان لم يأتوك فلا تأتهم حتّى يأتوك 4 .

و في خطبته عليه السّلام الطالوتيه الّتي رواها محمّد بن يعقوب الكليني في ( روضته ) مسندا ، عن ابن التيّهان قال عليه السّلام « أيّها الامّة الّتي خدعت فانخدعت ،

و عرفت خديعة من خدعها . فأصرّت على ما عرفت ، فاتّبعت أهواءها ، و ضربت في عشواء غوايتها ، و قد استبان لها الحقّ فصدّت عنه ، و الطريق الواضح فتنكّبته . أما و الّذي فلق الحبّة ، و برأ النسمة ، لو اقتبستم العلم من معدنه ،

-----------
( 1 ) رواه الطبري في عيون أخبار بني هاشم ، عنه الملاحم و الفتن : 116 ، و المفيد في اماليه : 14 ح 4 ، المجلس 2 ،

و الزبير بن بكار في الموفقيات ، عنه كشف الغمة 2 : 50 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

-----------
( 2 ) الفتح : 29 .

-----------
( 3 ) اسد الغابة 4 : 32 .

-----------
( 4 ) اسد الغابة 4 : 31 .

[ 259 ]

و شربتم الماء بعذوبته ، و ادّخرتم الخير من موضعه ، و أخذتم الطريق من واضحه ، و سلكتم من الحقّ نهجه لتنهجت بكم السبل ، و بدت لكم الأعلام ،

و أضاء لكم الإسلام . فأكلتم رغدا و ما عال فيكم عائل ، و لا ظلم منكم مسلم و لا معاهد ، و لكن سلكتم سبيل الظلام فأظلمت عليكم دنياكم برحبها ، و سدّت عليكم أبواب العلم . فقلتم بأهوائكم ، و اختلفتم في دينكم ، فأفتيتم في دين الله بغير علم ، و اتّبعتم الغواة . فأغوتكم ، و تركتم الأئمة فتركوكم إلى أن قال .

رويدا . عمّا قليل تحصدون جميع ما زرعتم ، و تجدون و خيم ما اجترمتم و ما اجتلبتم . و الّذي فلق الحبّة ، و برأ النسمة لقد علمتم أنّي صاحبكم ،

و الّذي به امرتم ، و إنّي عالمكم ، و الّذي بعلمه نجاتكم ، و وصيّ نبيّكم و خيرة ربّكم ، و لسان نوركم ، و العالم بما يصلحكم . فعن قليل رويدا ينزل بكم ما وعدتم ، و ما نزل بالامم قبلكم و سيسألكم الله عزّ و جلّ عن أئمّتكم معهم تحشرون ، و إلى الله عزّ و جلّ غدا تصيرون أما و اللّه لو كان لي عدّة أصحاب طالوت أو عدّة أهل بدر و هم أعداؤكم لضربتكم بالسيف حتّى تؤولوا إلى الحقّ ، و تنيبوا للصدق . فكان أرتق للفتق و آخذ بالرفق . اللهمّ فأحكم بيننا بالحقّ و أنت خير الحاكمين .

قال ثم خرج عليه السّلام من المسجد فمرّ بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة فقال « و اللّه لو أنّ لي رجالا ينصحون لله عزّ و جلّ و لرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن آكلة الذبان عن ملكه » 1 .

« و لألفيتم » أي : وجدتم .

« دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز » قال ابن أبي الحديد : أكثر ما يستعمل العفطة في النعجة . فأمّا العنز . فالمستعمل الأشهر فيها النفطة بالنون

-----------
( 1 ) الكافي 8 : 32 ح 5 .

[ 260 ]

و يقولون « ما له عافط و لا نافط » أي : نعجة و لا عنز 1 .

قلت : إنّما قال ابن أبي الحديد ما قاله لأنّ ( الصحاح ) لم يذكر العفطة إلاّ للضأن ، و مثله ( القاموس ) 2 لكنّهما و هما ، و الصواب كون العفطة للمعز ،

و النفطة للضأن عكس ما قاله ابن أبي الحديد ففي ( جمهرة ابن دريد ) : « العافطة العنزة و النافطة الضأنة و من أمثالهم : أهون عليّ من عفطة عنز » 3 و به قال العسكري و الزمخشري أيضا 4 و من أمثالهم : « لأنت أهون عليّ من عفطة عتود » 5 و عتود ولد المعز إذا رعى .

ثم كلامهم « ما له عافطة و لا نافطة » لا « عافط و نافط » كما قال ابن أبي الحديد 6 و إنّما العافط الراعي .

قال ابن أبي الحديد : العفطة ما تنثره من الأنف ، و يجوز أن يراد بالعفطة هنا الحبقة أي الضرطة لكنّ الأليق بكلامه عليه السّلام التفسير الأوّل . فإن جلالته تقتضي أن يكون أراد ذاك . فإنّ صحّ أنّه لا يقال في العطسة عفطة إلاّ للنعجة قلنا إنّه عليه السّلام استعمله في العنز مجازا 7 .

قلت : قد عرفت عدم صحّة قوله أخيرا « فإن صح » الخ بما مرّ و نزيد أنّ في ( اللسان ) قال غير الأصمعي من الأعراب العافطة الماعزة إذا عطست 8 .

و أما قوله أوّلا « و يجوز أن يراد بالعفطة هنا الحبقة » فأخذه من

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 68 .

-----------
( 2 ) القاموس المحيط 2 : 374 ، مادة ( عفط ) ، و صحاح اللغة 3 : 1143 ، مادة ( عفط ) .

-----------
( 3 ) جمهرة اللغة 3 : 104 ، مادة ( عفط ) .

-----------
( 4 ) العلل 1 : 153 ، و المعاني : 364 ، و اساس البلاغة : 307 ، مادة عفط .

-----------
( 5 ) أورده الزمخشري في الأساس : 307 ، مادة ( عفط ) .

-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 68 .

-----------
( 7 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 68 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 8 ) لسان العرب 7 ، 353 ، مادة ( عفط ) .

[ 261 ]

( الصحاح ) ، أيضا فقال : « العفط و العفيط نثير الضأن تنثر بأنوفها كما ينثر الحمار ، و عفطت العنز تعفط عفطا حبقت » 1 لكنّه كما ترى نسب العفط بمعنى الحبق إلى العنز و ظاهره أنّ عفط العنز حبقها لا غير ، و هو حيث يرى كلام ( الصحاح ) كالوحي المنزل لم غيّر و قال ما قال .

مع أنّ المفهوم من العسكري نقل كلامه عليه السّلام بلفظ « من حبقة عنز » بدل « من عفطة عنز » و قال في تفسيره : الحبقة : ما يخرج من دبر العنز من الريح ،

و العفطة ما يخرج من أنفها 2 .

و قول ابن أبي الحديد : جلاله عليه السّلام يقتضي أن يكون أراد المعنى الأوّل 3 خطأ فإنّ المثل كلّما كان أشدّ انطباقا للممثل له كان أمثل ، و لا جلال فوق جلاله تعالى و قد قال : إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها 4 قال تعالى ذلك لأنّ بعض الجهّال أنكر ضربه تعالى لبعض الأمثال ، و حيث إنّ غرضه عليه السّلام كون الدنيا عنده في شدّة الهون ، فالحبقة أقرب إلى الغرض من العفطة إذا كان معناها غير معناها . فقال عليه السّلام في موضع آخر في بيان شدّة نفرته من الدنيا « دنياكم عندي أهون من عرق خنزير في يد مجذوم » 5 .

و رأى عارف من يسير في موكب جليل فسأل من هو فقالوا : هو يضحك الملك بحبقاته . فقال : ما اشترى أحد الدنيا بثمنها إلاّ هذا .

هذا ، و قال ابن جرموز لما قتل الزبير :

فسيّان عندي قتل الزبير
و ضرطة عنز بذي الجحفة

-----------
( 1 ) صحاح اللغة 3 : 1143 ، مادة ( عفط ) ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) العلل 1 : 153 ، و المعاني : 364 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 68 .

-----------
( 4 ) البقرة : 26 .

-----------
( 5 ) رواه الشريف الرضي في نهج البلاغة 4 : 52 ، الحكمة 236 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 262 ]

و في ( العقد الفريد ) : فرّ عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث من الأزارقة ،

و كان في عشرة آلاف ، و كان المهلّب بعث إليه « خندق على نفسك يا ابن أخي فإنّي عالم بأمر الخوارج » فبعث إليه « أنا أعلم بهم منك ، و هم أهون علي من ضرطة الجمل » فبيّته قطري صاحب الأزارقة . فقتل من أصحابه خمسمئة ،

و فرّ هو لا يلوي على أحد . فقيل فيه :

تركت ولداننا تدمى نحورهم
و جئت منهزما يا ضرطة الجمل 1

هذا و في ( احتجاج الطبرسي ) : روى إسحاق بن موسى بن جعفر عن آبائه عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام خطب بالكوفة خطبة فقال في آخر كلامه « ألا و إنّي لأولى الناس بالناس ، و ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم » فقام إليه الأشعث بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلاّ و قلت « و اللّه إنّي لأولى الناس بالناس فما زلت مظلوما مذ قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم » و لمّا ولي تيم و عدي إلا ضربت بسيفك دون ظلامتك فقال عليه السّلام :

« يا ابن الخمّارة قد قلت فاسمع مني ، و اللّه ما منعني من ذلك إلاّ عهد أخي رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلم أخبرني و قال لي : « يا أبا الحسن إنّ الامّة ستغدر بك و تنقض عهدي ، و إنّك منّي بمنزلة هارون من موسى » فقلت : يا رسول اللّه فما تعهد إليّ إذا كان ذلك كذلك ؟ فقال : « إن وجدت أعوانا فبادر إليهم و جاهدهم ،

و إن لم تجد أعوانا فكفّ يدك ، و احقن دمك حتّى تلحق بي مظلوما » فلمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إشتغلت بدفنه و الفراغ من شأنه ، ثم آليت يمينا أنّي لا أرتدي إلاّ للصلاة حتّى أجمع القرآن . ففعلت ثم أخذته و جئت به فاعترضته عليهم .

قالوا لا حاجة لنا به ، ثم أخذت بيد فاطمة ، و ابنيّ الحسن و الحسين . ثم درت على أهل بدر ، و أهل السابقة ، فأنشدتهم حقّي ، و دعوتهم إلى نصرتي . فما

-----------
( 1 ) العقد الفريد 1 : 100 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 263 ]

أجابني منهم إلاّ أربعة رهط : سلمان و عمّار و المقداد و أبو ذر ، و ذهب من كنت أعتضد بهم على دين اللّه من أهل بيتي ، و بقيت بين خفيرين قريبي العهد بجاهلية عقيل و العباس » .

فقال له الأشعث : كذلك كان عثمان لمّا لم يجد أعوانا كفّ يده حتّى قتل .

فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : « يا ابن الخمّارة ليس كما قست . إنّ عثمان جلس في غير مجلسه ، و ارتدى بغير ردائه ، صارع الحقّ فصرعه الحقّ ، و الّذي بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالحق لو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهطا لجاهدتهم في اللّه إلى أن أبلي عذري . ثم قال عليه السّلام : أيّها الناس إنّ الأشعث لا يزن عند اللّه جناح بعوضة ، و إنّه أقلّ في دين اللّه من عفطة عنز 1 .

« قالوا : و قام اليه رجل من أهل السواد » أي : أهل القرى ، و المراد قرى الكوفة لكونه عليه السّلام بها .

و عن الأصمعي : سواد الكوفة كسكر إلى الزاب ، و حلوان إلى القادسية ،

و سواد البصرة دستميسان و الأهواز و فارس 2 .

« عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته » أي : قوله عليه السّلام « و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز » .

« فناوله » أي : أعطاه .

« كتابا ، فأقبل ينظر فيه » يرى ما كتب .

قال ابن ميثم : قال أبو الحسن الكيذري : وجدت في الكتب القديمة أنّ الكتاب الّذي دفعه الرجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام كان فيه عدّة مسائل : أحدها :

« ما الحيوان الّذي خرج من بطن حيوان آخر و ليس بينهما نسب ؟ » فأجاب عليه السّلام

-----------
( 1 ) الاحتجاج 1 : 190 .

-----------
( 2 ) نقله عنه الحموي في معجم البلدان 3 : 273 .

[ 264 ]

بأنّه يونس بن متّى عليه السّلام خرج من بطن الحوت .

الثانية : « ما الشي‏ء الّذي قليله مباح و كثيره حرام ؟ » فقال عليه السّلام : « هو نهر طالوت لقوله تعالى : إلاّ من اغترف غرفة بيده 1 .

الثالثة : « ما العبادة الّتي لو فعلها أحد استحق العقوبة ، و إن لم يفعلها استحق ايضا العقوبة ؟ » فأجاب عليه السّلام بأنّها صلاة السكارى .

الرابعة : « ما الطائر الّذي لا فرخ له و لا فرع و لا أصل ؟ » فقال عليه السّلام : « هو طائر عيسى عليه السّلام في قوله : و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا باذني 2 .

الخامسة : « رجل عليه من الدين ألف درهم ، و له في كيسه ألف درهم فضمنه ضامن بألف درهم فحال عليه الحول فالزكاة على أي المالين تجب ؟ » فقال : « إن ضمن الضامن بإجازة من عليه الدين فلا يكون عليه ، و إن ضمنه من غير إذنه ، فالزكاة مفروضة في ماله » .

السادسة : « حجّ جماعة و نزلوا في دار من دور مكّة ، و أغلق واحد منهم باب الدار ، و فيها حمام فمتن من العطش قبل عودهم إلى الدار ، فالجزاء على أيّهم يجب ؟ » . فقال عليه السّلام : « على الّذي أغلق الباب ، و لم يخرجهن و لم يضع لهن ماء » .

السابعة : « شهد شهداء أربعة على محصن بالزنا فأمرهم الإمام برجمه فرجمه واحد منهم دون الثلاثة الباقين و وافقه قوم أجانب في الرجم . فرجع من رجمه عن شهادته ، و المرجوم لم يمت ثم مات فرجع الآخرون عن شهادتهم عليه بعد موته . فعلى من يجب ديته ؟ » . فقال : « يجب على من رجمه

-----------
( 1 ) البقرة : 249 .

-----------
( 2 ) المائدة : 110 .

[ 265 ]

من الشهود ، و من وافقه » .

الثامنة : « شهد شاهدان من اليهود على يهودي أنّه أسلم فهل تقبل شهادتهما أم لا ؟ » . فقال : « لا تقبل شهادتهما لأنّهما يجوّزان تغيير كلام الله و شهادة الزور » .

التاسعة : « شهد شاهدان من النصارى على نصرانيّ أو مجوسيّ أو يهوديّ أنّه أسلم » فقال : « تقبل شهادتهما لقوله سبحانه : و لتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى 1 الآية و من لا يستكبر عن عبادته لا يشهد شهادة الزور » .

العاشرة : « قطع إنسان يد آخر فحضر أربعة شهود عند الإمام ،

و شهدوا على من قطع يده أنّه زنا و هو محصن فأراد الإمام أن يرجمه . فمات قبل الرجم » . فقال عليه السّلام : « على من قطع يده دية يده حسب ، و لو شهدوا أنّه سرق نصابا لم يجب ديّة يده على قاطعها » 2 .

قلت : الخامسة لا تخلو من تصحيف كما لا يخفى ، كما أنّ قوله في السابعة « ثم مات فرجع الآخرون . . . » محمول على أنّ الشاهد ، و الأجانب لم يقلعوا عن الرجم بعد رجوع الشاهد مع سقوط الرجم حينئذ فيكونوا قاتليه ،

و لو كان مات ، من أثر رميهم قبل الرجوع . فالديّة على الشهود كما لا يخفى .

« قال له ابن عباس رضي الله عنهما » هكذا في ( المصرية ) ، و فيه سقط و تحريف و الأصل ما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 3 : « فلمّا فرغ من قراءته قال له ابن عباس رحمه الله » .

-----------
( 1 ) المائدة 82 .

-----------
( 2 ) رواه ابن ميثم في شرحه 1 : 269 ، و الكيندري في شرحه 1 : 198 .

-----------
( 3 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 68 ، و شرح ابن ميثم 1 : 251 ، مثل المصرية أيضا .

[ 266 ]

« يا أمير المؤمنين لو اطّردت » أي : تتابعت من « اطّرد الشي‏ء » تبع بعضه بعضا .

« خطبتك » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « مقالتك » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) 1 .

« من حيث أفضيت » أي : أصحرت و خرجت إلى الفضا .

« فقال : هيهات يا ابن عباس » أي : اطراد مقالتي مشكل و بعيد من حيث التقيّة من أصحابه الّذين كان أكثرهم غير بصيرين .

« تلك » المقالة .

« شقشقة » في ( جمهرة ابن دريد ) ، الشقشقة : التي يخرجها البعير من فيه إذا هاج ، و هي شبيهة بالجلدة الرقيقة ، تحدث عند نفخ البعير إذا هاج يكون في العراب و لا يكون في البخت ، و لا يعرف موضعها منه في غير تلك الحال قال الراجز الأغلب العجلي :

و هو إذا جرجر بعد الهبّ
جرجر في شقشقة كالحبّ 2

و في ( النهاية ) بعد نقل مثله عن الهروي : « و منه حديث عليّ عليه السّلام في خطبة له « تلك شقشقة هدرت ثم قرّت » و يروى له شعر فيه :

لسانا كشقشقة الأرحبي
أو كالحسام اليماني الذكر 3

« هدرت » أي : غلت .

« ثم قرّت » أي : سكنت ، و في المثل : « لابد للمصدور أن ينفث » 4 . و قال شاعر :

-----------
( 1 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 68 ، و شرح ابن ميثم 1 : 251 ، مثل المصرية أيضا .

-----------
( 2 ) جمهرة اللغة 1 : 153 ، مادة ( شقشق ) .

-----------
( 3 ) النهاية 2 : 490 ، مادة ( شقشق ) .

-----------
( 4 ) أورده الميداني في مجمع الامثال 2 : 241 .

[ 267 ]

شكوت و ما الشكوى لمثلي عادة
و لكن تفيض الكأس عند امتلائها

و نظير كلامه عليه السّلام هذا كلام سيّدة النساء صلوات اللّه عليها في فدك .

ففي ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) : لمّا بلغ فاطمة عليه السّلام إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها إلى أن قال لمّا فرغت من كلام أبي بكر و المهاجرين عدلت إلى مجلس الأنصار .

فقالت : معشر البقية ، و أعضاد الملّة ، و حصون الإسلام ما هذه الغميرة في حقي ، و السنة عن ظلامتي ؟ أما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم « المرء يحفظ في ولده » ؟

سرعان ما أجدبتم فأكديتم ، و عجلان ذا اهانة تقولون : مات رسول اللّه . فخطب جليل استوسع وهيه و استنهر فتقه و بعد وقته و أظلمت الأرض لغيبته ،

و اكتأبت خيرة الله لمصيبته ، و خشعت الجبال ، و أكدت الآمال ، و أضيع الحريم ،

و اذيلت الحرمة عند مماته صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقيبه فلن يضرّ الله شيئا و سيجزي الله الشاكرين 1 إيها بني قيلة أ أهضم تراث أبي ، و أنتم بمرأى و مسمع تلبسكم الدعوة و تمثلكم الحيرة و فيكم العدد و العدّة ، و لكم الدار ، و عندكم الجنن إلى أن قالت فأنّى حرتم بعد البيان ، و نكصتم بعد الإقدام ، و أسررتم بعد الإعلان ،

لقوم نكثوا أيمانهم ، أتخشونهم فاللّه أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين . ألا قد أرى أن أخلدتم إلى الخفض ، و ركنتم إلى الدعة فعجتم عن الدين ، و بحجتم الّذي و عيتم و دسعتم الّذي سوّغتم . فإن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا .

فإنّ اللّه لغنيّ حميد . ألا و قد قلت الّذي قلته على معرفة منّي بالخذلان الّذي خامر صدوركم ، و استشعرته قلوبكم ، و لكن قلته فيضة النفس ، و نفثة الغيظ ، و بثّة

-----------
( 1 ) آل عمران : 144 .

[ 268 ]

الصدر و معذرة الحجّة فدونكموها . فاحتقبوها مدبرة الظهر ، ناكبة الحق ،

باقية العار ، موسومة بشنار الأبد ، موصولة بنار اللّه الموقدة الّتي تطّلع على الأفئدة فبعين اللّه ما تفعلون و سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون 1 .

« قال ابن عباس : فو الله ما أسفت على كلام قطّ كأسفي على هذا الكلام » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « على ذاك الكلام » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 .

« أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السّلام بلغ منه حيث أراد » من بيان ضلالهم عن الحقّ ، و اتباعهم الغيّ ، و هلاكهم بتركه عليه السّلام .

قال ابن أبي الحديد : « حدّثني شيخي أبو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي في سنة ( 603 ) قال : قرأت هذه الخطبة على الشيخ أبي محمّد عبد اللّه بن أحمد المعروف بابن الخشّاب . فلمّا انتهيت إلى هذا الموضع قال لي : لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له : و هل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد ؟ و الله ما رجع عن الأولين و لا عن الآخرين ، و لا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلاّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال مصدّق : و كان ابن الخشّاب صاحب دعابة و هزل ، قال فقلت له : أتقول إنّها منحولة . فقال : لا و اللّه ، و إنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق . فقلت له : إنّ كثيرا من الناس يقولون إنّها من كلام الرضي ، فقال : أنّى للرضي و لغير الرضيّ هذا النفس ، و هذا الاسلوب . قد وقفنا على رسائل الرضي ، و عرفنا طريقته و فنّه في الكلام المنثور ، و لا يقع مع هذا الكلام في خلّ و لا خمرة . قال :

و اللّه لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنّفت قبل أن يخلق الرضيّ بمئتي

-----------
( 1 ) بلاغات النساء : 29 ، و الآية 227 من سورة الشعراء .

-----------
( 2 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 1 : 68 ، و شرح ابن ميثم 1 : 251 ، مثل المصرية أيضا .

[ 269 ]

سنة ، و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها و أعرف خطوط من هو من العلماء و أهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي » 1 .

و قال ابن أبي الحديد أيضا : و قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة ، و كان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدّة طويلة ، و وجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلّمي الإمامية ، و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب ( الإنصاف ) ، و كان ابن قبة من تلامذة أبي القاسم البلخي ، و مات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي موجودا 2 .

و قال ابن ميثم : وجدت الخطبة في نسخة عليها خط الوزير علي بن الفرات وزير المقتدر مات قبل مولد الرضي بنيّف و ستّين سنة ، و الّذي يغلب على ظنّي كتابة تلك النسخة قبل وجود ابن الفرات بمدّة 3 .

قلت : و ممّن ذكر الخطبة قبل مولد الرضي : أبو عمر الزاهد غلام ثعلب .

فقد عرفت أنّ المرتضى نقل عنه أنّه قال مراده عليه السّلام بقوله حتّى لقد وطئ الحسنان الإبهامان 4 ، و كان مولد الرضي سنة ( 359 ) و كانت وفاة أبي عمر ذاك سنة ( 345 ) .

و قد وقع هنا أوهام لنهج الحق و شرحه الاحقاق و للبحار .

أما الأوّل . فلمّا كان الصدوق قال في كتاب ( معاني أخباره ) بعد نقل الخطبة بإسناده المتقدّم « سألت الحسن بن عبد اللّه بن سعيد العسكري عن

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 69 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 69 .

-----------
( 3 ) شرح ابن ميثم 1 : 253 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 4 ) رواه الكيندري في شرحه 1 : 193 ، و ابن ميثم في شرحه 1 : 265 ، عن المرتضى عن غلام ثعلب و رواه السروي في مناقبه 3 : 398 ، عن غلام ثعلب .

[ 270 ]

تفسير هذا الخبر ففسّره لي » 1 أشار إلى ذلك علي بن طاووس في ( كتاب طرائفه ) فقال : « و رأيت خطبة لعليّ عليه السّلام قد فسّرها الحسن بن عبد اللّه بن سعيد العسكري صاحب كتاب ( المواعظ و الزواجر ) ، و هو من رؤساء مخالفي أهل البيت ، و الخطبة في كتاب اسمه كتاب ( معاني الأخبار ) تاريخ الفراغ من نسخه سنة إحدى و ثلاثين و ثلاثمئة » 2 و صاحب ( نهج الحق ) كان تلميذ علي بن طاووس يأخذ في كتابه المذكور أغلب ما كان في كتاب استاده ( الطرائف ) ،

فراجعه فتوهم من كلامه أنّ المعاني للعسكري مع أنّه للصدوق كما عرفت فقال : « و نقل الحسن بن عبد اللّه بن مسعود العسكري من أهل السنّة في كتاب ( معاني الأخبار ) الخ » 3 .

كما أنّ المجلسي توهّم من كلام الطرائف أنّ العسكري ذكر الخطبة في ( كتاب المواعظ ) 4 مع أنّه إنّما قال : إنّ العسكري الّذي هو صاحب كتاب ( المواعظ ) فسّر الخبر الّذي ذكره الصدوق في ( معاني أخباره ) .

و أمّا الثاني فقال : « ذكر هذه الخطبة قبل مولد الرضي بل مولد أبيه جماعة من ثقات علماء الجمهور منهم من ذكره المصنّف و هو ابن عبد ربه في الجزء الرابع من كتاب ( العقد ) و منهم أبو هلال العسكري في كتاب ( الأوائل ) و منهم أبو علي الجبائي في كتابه و ابن الخشاب في درسه » 5 .

فما نسبه إلى مصنّفه من أنّه قال أنّ ابن عبد ربه ذكر هذه الخطبة في الجزء الرابع من ( عقده ) و هم ، و إنّما نسب مصنّفه خطبة : « عفا اللّه عمّا سلف

-----------
( 1 ) العلل 1 : 152 ، و المعاني : 362 .

-----------
( 2 ) الطرائف 2 : 417 .

-----------
( 3 ) نهج الحق 3 : 461 .

-----------
( 4 ) فتن البحار : 155 .

-----------
( 5 ) رواه عنه المحمودي في نهج السعادة 2 : 512 .

[ 271 ]

سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همّه بطنه » إليه 1 ، و أمّا هذه فنسبها إلى العسكري كما عرفت كلامه مع توهّم له أنّ العسكري فسّره في ( معانيه ) مع أنّ العسكري فسّره للصدوق في ( معانيه ) .

مع أنّ ابن عبد ربه أدرك الرضي عصره . فقد عرفت أنّ مولد الرضي كان سنة ( 359 ) و في ( عقد ابن عبد ربه ) : أنّ المطيع خلع نفسه سنة ( 363 ) 2 .

و أما قول ابن خلكان مات ابن عبد ربه سنة ( 328 ) 3 و قول الحموي مات سنة ( 348 ) 4 فهوم بعدما عرفت من النقل من كتابه .

كما أنّ عدّه أبا هلال العسكري في من مات قبل تولد الرضي غلط فأبو هلال كان من معاصري الرضي ، و قد نقل أبو هلال في ( ديوان معانيه ) أشعارا عن الرضي . فقال في « فصل معاتباته » « و لبعض بني هاشم و هو الرضي » :

و لربّ مولى لا يغضّ جماحه
طول العتاب و لاعناء العذّل

يطغى عليك و أنت تلأم شعبه
و السيف يأخذ من بنان الصيقل 5

و كانت حايته إلى سنة ( 395 ) معلومة فقال الحموي : لم يبلغني في وفاته شي‏ء غير أنّي وجدت في آخر كتاب ( الأوائل ) له أنّه فرغ منه في شعبان سنة ( 395 ) 6 .

مع أنّ أصل نسبته إلى أبي هلال العسكري ذكر الخطبة غير معلوم ،

و إنّما المعلوم تفسير استاذ أبي هلال العسكري ، و هو أبو أحمد العسكري لها ،

-----------
( 1 ) كذا في نهج الحق 3 : 460 ، و الحديث في العقد الفريد 4 : 133 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 5 : 352 .

-----------
( 3 ) وفيات الاعيان 1 : 112 .

-----------
( 4 ) معجم الادباء 4 : 212 .

-----------
( 5 ) ديوان المعاني 1 : 165 .

-----------
( 6 ) معجم الادباء 8 : 264 ، و النقل بالمعنى .

[ 272 ]

و كلّ منهما و ان يقال له الحسن بن عبد اللّه العسكري إلاّ أنّهما يتميزان بجدهما ككنيتهما فجدّ أبيّ هلال سهل و جدّ أبي أحمد سعيد ، و هذا ( أوائل أبي هلال ) نشر ليس فيه هذه الخطبة . فكتابه عشرة أبواب و المناسب لنقل الخطبة إنما هو بابه الرابع الذي هو في « ما روي عن الصحابة و التابعين » و ليس فيه إلاّ خطبة « عفا اللّه عمّا سلف » ذكره في عنوان « أوّل من بايعه من أهل مصر » 1 و الرضي أدرك أبا أحمد أيضا فقالوا : مات سنة ( 382 ) أو ( 383 ) .

كما أنّ عدّه ابن الخشّاب ممّن مات قبل الرضي أوضح و هما فإنّه كان استاذ مصدق الّذي هو أستاذ ابن أبي الحديد ، و قال له مصدّق : يقولون هو من كلام الرضي . فقال : أنّى للرضي مثل هذا الكلام 2 .

و أما الثالث . فقال بعد ذكر من أنكر الخطبة « و كفى للمنصف وجودها في تصانيف الصدوق ، و كانت وفاته سنة تسع و عشرين و ثلاثمئة قبل مولد الرضي » 3 .

و مراده بالصدوق محمّد بن علي بن بابويه . فقد عرفت أنّه ذكر الخطبة في كتابي ( علله ) و ( معانيه ) لكن ذاك التاريخ تاريخ وفاة أبيه ، و أما هو فمات سنة ( 381 ) فالرضي كان وقت وفاة الصدوق ابن اثنتين و عشرين أو ثلاث و عشرين .

نعم لو كان قال : إنّ الصدوق ذكرها في ( معانيه ) و فراغه منه كان في سنة ( 331 ) قبل مولد الرضي كان وجها .

كما أنّه لو قيل ذكر الخطبة المفيد في كتبه و هو استاذ الرضي ، و ذكرها

-----------
( 1 ) الاوائل : 162 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 69 ، و النقل بالمعنى .

-----------
( 3 ) فتن البحار : 155 ، و النقل بتصرف في اللفظ .

[ 273 ]

الصدوق في كتبه ، و هو استاذ استاذه ، و لا يعقل أخذ الاستاذ ، و استاذ الاستاذ عن التلميذ و تلميذ التلميذ .

و قيل كانت الخطبة من الشهرة بحيث لم يستطع القاضي عبد الجبّار المتعصّب الناصبي ، و له التقدّم زمانا أيضا على الرضي إنكارها . فتصدّى للجواب عن فقراتها 1 ، و لذا قال المفيد : « هي أشهر من أن ندلّ عليها لشهرتها » 2 كما مرّ ، كان وجها أيضا .

و كما نسب بعض جهّالهم هذه الخطبة إلى الرضي مع أنّها وجدت بخطّ قبل مولد الرضي بمئتي سنة كما عرفته من ابن الخشّاب ، كذلك نسب بعض جهّالهم خطبة سيّدة نساء العالمين صلوات اللّه عليها في الشكاية عنهم في الخلافة و فدك إلى أبي العيناء . فقال أحمد بن أبي طاهر البغدادي لزيد بن علي العلوي : انّ جمعا يزعمون ذلك : فقال : رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونها عن آبائهم ، و يعلّمونها أبناءهم ، و قد حدثنيها أبي عن جدّي يبلغ فاطمة عليه السّلام و رواها مشائخ الشيعة قبل أن يولد جدّ أبي العيناء 3 .

و نظير هذه الخطبة في شكايته عليه السّلام من الثلاثة ، و من أهل الشورى ،

و من الناكثة و القاسطة و المارقة خطبته عليه السّلام بعد فتح معاوية لمصر رواها جمع منهم و منا كإبراهيم الثقفي عن رجاله ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه نقل ذلك عنه ابن أبي الحديد « و من كلام له عليه السّلام لمّا قلّد محمّد بن أبي بكر مصر » و كالكليني في ( رسائله ) ، و كابن قتيبة في ( خلفائه ) ، و ننقلها بلفظ ابن قتيبة فقال « دخل جمع على عليّ عليه السّلام و قالوا له « بيّن لنا قولك فيهما ( أي في أبي

-----------
( 1 ) نقله عن القاضي الشريف المرتضى في الشافي : 212 .

-----------
( 2 ) قاله المفيد في الجمل : 62 .

-----------
( 3 ) بلاغات النساء : 23 ، و النقل بالمعنى .

[ 274 ]

بكر و عمر ) و عثمان » قال علي كرّم اللّه وجهه « و قد تفرّغتم لهذا ، و هذه مصر قد افتتحت ، و شيعتي فيها قد قتلت ، إنّي مخرج إليكم كتابا أنبّئكم فيه ما سألتموني عنه فاقرؤوه على شيعتي . فأخرج إليهم كتابا فيه : « أما بعد فإن اللّه تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى أن قال فلمّا مضى تنازع المسلمون الأمر بعده ، فواللّه ما كان يلقى في روعي و لا يخطر على بالي أنّ العرب تعدل هذا الأمر عنّي . فما راعني إلاّ إقبال الناس على أبي بكر ، و إجفالهم عليه ، فأمسكت يدي ، و رأيت أنّي أحقّ بمقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم في الناس ممّن تولّى الامور عليّ . فلبثت بذلك ما شاء الله حتّى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام . يدعون إلى محو دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ملّة إبراهيم عليه السّلام . فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى في الإسلام ثلما و هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولاية أمركم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب الى ان قال فلّما احتضر ( عمر ) قلت في نفسي ليس يصرف هذا الأمر عنّي . فجعلها عمر شورى و جعلني سادس ستّة . فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي لأنّهم كانوا يسمعونني و أنا احاجّ أبا بكر . فأقول : « يا معشر قريش إنّا أحق بهذا الأمر منكم ما كان منّا من يقرأ القرآن و يعرف السنّة » فخشوا إن ولّيت عليهم أن لا يكون لهم في هذا الأمر نصيب . فبايعوا إجماع رجل واحد حتّى صرفوا الأمر عنّي لعثمان ، فأخرجوني منها رجاء أن يتداولوها حين يئسوا أن ينالوها . ثم قالوا لي : هلمّ فبايع عثمان ، و إلاّ جاهدناك . فبايعت مستكرها ، و صبرت محتسبا ، و قال قائلهم إنّك يا ابن أبي طالب على الأمر لحريص . فقلت لهم : أنتم أحرص ، أما أنا إذ طلبت ميراث ابن أبي و حقّه ، و أنتم إذ

[ 275 ]

دخلتم بيني و بينه و تضربون وجهي دونه . اللهمّ إني أستعين بك على قريش .

فإنّهم قطعوا رحمي ، و صغّروا عظيم منزلتي و فضلي ، و اجتمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به منهم فسلبونيه . ثم قالوا : إصبر كمدا و عش متأسفا . فنظرت فإذا ليس معي رافد و لا مساعد إلاّ أهل بيتي . فضننت بهم على الهلاك ، فأغضيت عيني على القذى ، و تجرّعت ريقي على الشجا ، و صبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم طعما ، و آلم للقلب من حزّ الحديد . حتّى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه . ثم جئتموني تبايونني فأبيت عليكم و أبيتم عليّ ، فنازعتموني و دافعتموني ، و لم أمدّ يدي تمنّعا عنكم . ثم ازدحمتم عليّ حتّى ظننت أنّ بعضكم قاتل بعض و أنكم قاتلي و قلتم لانجد غيرك ، و لا نرضى إلاّ بك ، فبايعنا لانفترق و لا نختلف ، فبايعتكم . دعوتم الناس إلى بيعتي .

فمن بايع طائعا قبلت منه ، و من أبى تركته . فأوّل من بايعني طلحة و الزبير و لو أبيا ما أكرهتهما كما أكره غيرهما . فما لبثنا إلاّ يسيرا حتى قيل لي قد خرجا متوجهين إلى البصرة في جيش ما منهم رجل إلاّ و قد أعطاني الطاعة الخبر 1 .

و أتّقى عليه السّلام أن يخطب بها بنفسه فكتبها . ففي طريق الكليني أنّه عليه السّلام لمّا سألوه عن الثلاثة قال : « و أنا كاتب لكم كتابا فيه تصريح ما سألتم » فدعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع ، فقال له : أدخل عليّ عشرة من ثقاتي . فقال : سمّهم لي فقال عليه السّلام : ادخل أصبغ بن نباتة ، و أبا الطفيل عامر بن واثلة الكناني ، و زر بن حبيش الأسدي ، و جويرية بن مسهر العبدي ، و جندب بن زهير الأسدي و حارثة بن مضرب الهمداني ، و الحارث بن عبد اللّه الأعور الهمداني ، و مصباح

-----------
( 1 ) رواه الثقفي في الغارات 1 : 302 ، و عن الثقفي ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 35 ، شرح الخطبة 66 ، و أيضا الكليني في الرسائل ، عنه كشف المحجة : 174 ، و ابن قتيبة في الامامة و السياسة 1 : 154 .

[ 276 ]

النخعي ، و علقمة بن قيس ، و كميل بن زياد ، و عمير بن زرارة . فدخلوا عليه .

فقال لهم : خذوا هذا الكتاب ، و ليقرأه عبيد اللّه بن أبي رافع و أنتم شهود كلّ يوم جمعة فإن شغب شاغب عليكم فأنصفوه بكتاب اللّه بينكم و بينه 1 .

و منه يظهر أنّ قول ابن الخشّاب « لو سمعت ابن عباس يقول ما قال لقلت له : و هل بقي في نفس ابن عمّك شي‏ء » في غير محله ، و أنّه بقي في نفسه عليه السّلام أشياء و أشياء أتّقى إظهارها علانية .

و قد رووا أنّه عليه السّلام اتّقى أبا طلحة يوم الشورى لما سمع كلامه عليه السّلام فقا له « لا ترع يا أبا الحسن » 2 و هذه الخطبة تكلّم بها على الملأ للعامّة ، و لقد قال عليه السّلام في الخلأ لخواصّه امورا أخر رواها شيعته .

و كذلك أهل بيته كانوا يتّقون العامّة أن يظهروا ما في أنفسهم في المتقدّمين عليهم و أتباعهم . ففي المقاتل و غيره أنّ الحسن عليه السّلام كتب إلى معاوية « و قد تعجّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا و سلطان نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى ان قال فكتب إليه معاوية : « رأيتك صرّحت بتهمة أبي بكر الصدّيق ، و عمر الفاروق و أبي عبيدة الأمين ، و حواريّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و صلحاء المهاجرين و الأنصار فكرهت ذلك لك . فإنّك امرؤ عندنا و عند الناس غير ظنين ، و لا المسي‏ء و لا اللئيم ، و أنا أحبّ لك القول السديد و الذكر الجميل الخ 3 . فترى هدّده بالعامّة .

و كيف ينكرون شكايتهم عليه السّلام منهم ، و لما كتب معاوية كما في ( العقد ) و غيره إلى أمير المؤمنين عليه السّلام بعد ذكر الثلاثة : « فكلّهم حسدت ، و على كلّهم

-----------
( 1 ) كشف المحجة : 174 .

-----------
( 2 ) رواه الطبري في تاريخه 3 : 295 ، سنة 23 .

-----------
( 3 ) رواه أبو الفرج في المقاتل : 35 و 36 ، و المدائني ، عنه شرح ابن أبي الحديد 4 : 9 ، شرح الكتاب 31 .

[ 277 ]

بغيت ، عرفنا ذلك في نظرك الشزر و تنفّسك الصعداء ، و إبطائك عن الخلفاء ،

و أنت في كلّ ذلك تقاد كما يقاد البعير المخشوش حتّى تبايع و أنت كاره » إلى أن قال فكتب علي عليه السّلام إليه : « و ذكرت ابطائي عن الخلفاء و حسدي إيّاهم و البغي عليهم . فأمّا البغي فمعاذ اللّه أن يكون ، و أمّا الكراهة لهم ، فو اللّه ما أعتذر للناس من ذلك » 1 .

و ممّا روي في شكايته ما رواه الثقفي عن المسعودي عن الحسن بن حما ، عن أبيه ، عن رزين بيّاع الأنماط ، عن زيد بن علي بن الحسين ، عن أبيه عن جدّه قال : قال عليّ عليه السّلام في خطبته : « و اللّه لقد بايع الناس أبا بكر و أنا أولى الناس بهم منّي بقميصي هذا ، فكظمت غيظي ، و انتظرت أمر ربي ، و ألصقت كلكلي بالأرض . ثم انّ أبا بكر هلك و استخلف عمر ، و قد علم و اللّه أنّي أولى الناس بهم مني بقميصي هذا ، فكظمت غيظي ، و انتظرت أمر ربي . ثم إنّ عمر هلك ، و قد جعلها شورى فجعلني سادس ستّة كسهم الجدّة ، و قال : اقتلوا الأقلّ ، و ما أراد غيري فكظمت غيظي ، و انتظرت أمير ربي ، و ألصقت كلكلي بالأرض ، ثم كان من أمر القوم من بعد بيعتهم لي ما كان ، ثم لم أجد إلاّ قتالهم أو الكفر باللّه » 2 .

و مما روي من شكايته عليه السّلام عنهم ما رواه ( جمل المفيد ) بإسناده ، عن أبي مخنف ، عن العدوي ، عن أبي هاشم ، عن البريد ، عن عبد اللّه بن المخارق ،

عن هاشم بن مساحق القرشي . قال حدّثنا أبي أنّه لما انهزم الناس يوم الجمل ،

إجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم فقال بعضهم لبعض : « و اللّه لقد ظلمنا هذا الرجل ( يعنون أمير المؤمنين عليه السّلام ) و نكثنا بيعته من غير حدث ،

-----------
( 1 ) رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد ، 5 : 78 و 79 ، و ابن مزاحم في وقعة صفين : 87 ، و غيرهما .

-----------
( 2 ) رواه عن الثقفي في أماليه : 153 ح 5 ، المجلس 19 .

[ 278 ]

و اللّه لقد ظهر علينا . فما رأينا قطّ أكرم سيرة منه ، و لا أحسن عفوا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم تعالوا حتّى ندخل عليه ، و نعتذر إليه ممّا صنعناه ، فنصرنا إلى بابه ،

فاستأذنّاه . فأذن لنا . فلّما مثلنا بين يديه جعل متكلّمنا يتكلّم . فقال عليه السّلام :

( أنصتوا أكفكم . إنّما أنا بشر مثلكم . فإن قلت حقّا فصدّقوني ، و إن قلت باطلا ،

فردّوا عليّ انشدكم اللّه أتعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبض و أنا أولى الناس به و بالناس من بعده ؟ قلنا : اللهمّ نعم . قال : فعدلتم عنّي ، و بايعتم أبا بكر فأمسكت ، و لم أحبّ أن أشقّ عصا المسلمين ، و أفرّق بين جماعاتهم . ثم إنّ أبا بكر جعلها لعمر من بعده . فكففت ، و لم أهيّج الناس ، و قد علمتم أنّي كنت اولى الناس بالله و رسوله ، و بمقامه فصبرت حتى قتل ، وجعلني سادس ستة ،

فكففت ، و لم أحبّ أن أفرّق بين المسلمين ثم بايعتم عثمان . الخبر » 1 .

و من شكايته عليه السّلام عنهم ما رواه المدائني ، عن عبد اللّه بن جنادة قال :

قدمت من الحجاز اريد العراق في أوّل أمارة عليّ عليه السّلام . فمررت بمكّة .

فاعتمرت ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذ نودي الصلاة جامعة . فاجتمع الناس ، و خرج عليّ عليه السّلام متقلّدا سيفه . فشخصت الأبصار نحوه . فحمد اللّه و صلّى على رسوله . ثم قال : أما بعد فإنّه لمّا قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قلنا نحن أهله و ورثته ، و عترته و أولياؤه . دون الناس لاينازعنا سلطانه أحد ، و لا يطمع في حقّنا طامع . إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فصارت الإمرة لغيرنا ، و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف ، و يتعزر علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك ، و خشنت الصدور ، و جزعت النفوس ، و أيم اللّه لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، و أن يعود الكفر و يبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم » . الخبر نقله ابن أبي

-----------
( 1 ) الجمل : 222 .

[ 279 ]

الحديد في موضع آخر 1 .

و روى الثقفي كما في ( الشافي ) مسندا عن مسيب بن نجية قال بينما عليّ عليه السّلام يخطب و اعرأبي يقول : و امظلمتاه . فقال علي عليه السّلام : ادن فدنا فقال : « لقد ظلمت عدد المدر و الوبر » .

و روى أبو نعيم : أنّ عليّا عليه السّلام لم يقم مرّة على المنبر إلاّ قال في آخر كلامه قبل أن ينزل : « ما زلت مظلوما منذ قبض اللّه نبيّه » .

و في ( الشافي ) أيضا : و روى من طرق كثيرة أنّه عليه السّلام كان يقول : أنا أوّل من يجثو للخصومة بين يدي اللّه يوم القيامة 2 .

هذا و كما أسف ابن عباس شديدا على عدم بلوغ أمير المؤمنين عليه السّلام أقصى مراده في تلك الخطبة كذلك كان يأسف دائما شديدا على منع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الوصيّة ، ففي ( الطبري ) قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقول « يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم يبكي حتّى تبلّ دموعه الحصباء ،

فقلنا له ، و ما يوم الخميس ؟ قال : « يوم اشتدّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم وجعه ، فقال : آتوني باللوح و الدواة أو بالكتف و الدواة أكتب لكم لا تضلّون بعدي . فتنازعوا . فقال :

اخرجوا و لا ينبغي عند نبي أن ينتازع . قالوا : ما شأنه ؟ أهجر ؟ استفهموه فذهبوا يعيدون عليه . فقال : دعوني . فما أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه » 3 .

و في ( صحيح البخاري ) عن ابن عباس قال : لمّا اشتدّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مرضه الّذي مات فيه قال : إيتوني بدواة و قرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدي فقال عمر : « إنّ النبيّ قد غلبه الوجع حسبنا كتاب اللّه » و كثر اللغط . فقال

-----------
( 1 ) رواه عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 101 ، شرح الخطبة 22 .

-----------
( 2 ) جاءت هذه الاحاديث في تلخيص الشافي 3 : 48 و 49 ، و أبو نعيم هو الفضل بن دكين .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 2 : 436 ، سنة 11 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 280 ]

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم « قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع » قال ابن عباس : « الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا و بين كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم » 1 .

قول المصنّف : « قوله عليه السّلام كراكب الصعبة » هكذا في ( المصرية ) ،

و الصواب : « قوله عليه السّلام في هذه الخطبة كراكب الصعبة » كما في ( ابن أبي الحديد و الخطيّة ) 2 .

« ان اشنق لها خرم و ان أسلس لها تقحم يزيد أنّه إذا شدّد عليها في جذب الزمام » في ( تاريخ اليعقوبي ) : « كان معد بن عدنان أوّل من وضع رحلا على جمل و ناقة ، و أوّل من زمّهما بالنسع » 3 .

« و هي تنازعه رأسها » جملة حالية .

« خرم » أي : شقّ الراكب .

« أنفها و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحّمت به فلم يملكها » أي :

أصل التقحم للصعبة ، و نسب إلى الراكب بإسلاسه لها : يقال اشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه و شنقها أيضا » .

« ذكر ذلك » أي : جواز شنق الناقة و أشنقها بمعنى واحد و هو رفع رأسها بالزمام .

« ابن السكيت » و هو : أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت .

« في إصلاح المنطق » قال المبرد كما في ( تاريخ بغداد ) : ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب يعقوب ابن السكّيت 4 .

و قال ابن خلكان : قال بعض العلماء ما عبر على جسر بغداد كتاب في

-----------
( 1 ) أخرجه البخاري بطرق في صحيحه 1 : 32 ، و 3 : 7 و 271 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 68 .

-----------
( 3 ) تاريخ اليعقوبي 1 : 223 .

-----------
( 4 ) تاريخ بغداد 14 : 274 .

[ 281 ]

اللغة مثل ( إصلاح المنطق ) 1 .

قلت : ما نقله المصنّف عن ( إصلاح المنطق ) ففيه : « يقال أشنقت راحلتي و شنقتها إذا رفعت رأسها بالزمام ، و أنشد طلحة قصيدة فما زال شانقا راحلته حتّى كتبه له » 2 .

قلت : و يشهد لقول ابن السكيت ما قاله ابن دريد في ( جمهرته ) في باب ما اتفق عليه أبو زيد و أبو عبيدة مما تكلّمت به العرب من فعلت و أفعلت :

« و شنقت القربة و أشنقتها إذ أشددت رأسها ثم رفعتها . » 3 .

« و إنّما قال عليه السّلام أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنّه جعله في مقابلة أسلس لها فكأنّه عليه السّلام قال : إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها يعني إذا كان أشنقت متعدّيا كان أشنقها أيضا صحيحا لكن قال عليه السّلام « أشنق لها » للمقابلة بينه و بين « أسلس لها » كما يقال في « الموزور » « المازوي » إذا ذكر في مقابل المأجور و كما قالوا الرجس النجس بجعل الثاني على وزن الأوّل لكن ( الصحاح ) جعل شنق متعدّيا لا غير ، و جعل أشنق متعدّيا و لازما . فقال « و يقال أشنق البعير أيضا مثل أشنقته 4 .

ثم الغريب أنّ ابن ميثم لم ينقل كلام المصنّف رأسا 5 و ابن أبي الحديد زاد على ما في نسخنا فقال ( و قال الرضي ) : و من الشاهد على أنّ أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي :

ساءها مالها تبين في الايدي
و إشناقها إلى الأعناق

-----------
( 1 ) و فيات الاعيان لابن خلكان 6 : 400 .

-----------
( 2 ) اصلاح المنطق : 427 .

-----------
( 3 ) جمهرة اللغة 3 : 438 .

-----------
( 4 ) صحاح اللغة 4 : 1504 ، مادة ( شنق ) .

-----------
( 5 ) شرح ابن ميثم 1 : 251 .

[ 282 ]

ثم قال ابن أبي الحديد : زارت بنية صغيرة لعدي أباها و هو في حبس النعمان و يداه مغلولتان إلى عنقه فأنكرت ذلك و قالت ما هذا الّذي في يدك و عنقك يا أبه ؟ و بكت فقال عدي هذا البيت ،

و قبله :

و لقد غمني زيارة ذي قربى
لقربنا مشتاق 1

لكن نقل الزيادة الّتي قلنا في شرح « إن أشنق » و لم ينقله عند نقل كلام الرضي ، كما أنّ الراوندي زاد بعد قول المصنفّ : « فكأنه عليه السّلام قال إن رفع رأسها بالزمام بمعنى أمسكه عليها » « و في الحديث أنّ رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلم خطب الناس و هو على ناقة قد شنق لها و هي تقصع بجرتها » . و من الشاهد على أنّ أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي :

ساءها مالها تبيّن في الايدي
و أشناقها إلى الأعناق 2

قلت : و هذا الاختلاف في النقل غريب .

و الحمد للّه أوّلا و أخيرا .