30

من الخطبة ( 106 ) منها :

طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ اَلْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ مُتَّبِعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ اَلْغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ اَلْحَيْرَةِ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ اَلْحِكْمَةِ وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ اَلْعُلُومِ اَلثَّاقِبَةِ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ اَلسَّائِمَةِ وَ اَلصُّخُورِ اَلْقَاسِيَةِ قَدِ اِنْجَابَتِ اَلسَّرَائِرُ لِأَهْلِ اَلْبَصَائِرِ وَ وَضَحَتْ مَحَجَّةُ اَلْحَقِّ لِخَابِطِهَا وَ أَسْفَرَتِ اَلسَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا وَ ظَهَرَتِ اَلْعَلاَمَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاحٍ وَ أَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاحٍ وَ نُسَّاكاً بِلاَ صَلاَحٍ

-----------
( 1 ) يس : 12 .

-----------
( 2 ) هذه الأحاديث في الكافي 2 : 269 276 ح 6 و 10 و 17 و 21 و 26 و 29 و 30 و 31 ، و الحديث الخامس الذي رواه الشارح عن الكاظم عليه السلام روي في المصدر عن الرضا عليه السلام . و الآية 16 من سورة لقمان .

-----------
( 3 ) أسقط الشارح شرح فقرة « و سهل لكم سبيل الطاعة » .

[ 154 ]

وَ تُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاحٍ وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً وَ شُهُوداً غُيَّباً وَ نَاظِرَةً عَمْيَاءَ وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ وَ نَاطِقَةً بَكْمَاءَ رَأَيْتُ ضَلاَلَةً قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا وَ تَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا تَكِيلُكُمْ بِصَاعِهَا وَ تَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ اَلْمِلَّةِ قَائِمٌ عَلَى اَلضِّلَّةِ فَلاَ يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلاَّ ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ اَلْقِدْرِ أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ اَلْعِكْمِ تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ اَلْأَدِيمِ وَ تَدُوسُكُمْ دَوْسَ اَلْحَصِيدِ وَ تَسْتَخْلِصُ اَلْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اِسْتِخْلاَصَ اَلطَّيْرِ اَلْحَبَّةَ اَلْبَطِينَةَ مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ اَلْحَبِّ أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ اَلْمَذَاهِبُ وَ تَتِيهُ بِكُمُ اَلْغَيَاهِبُ وَ تَخْدَعُكُمُ اَلْكَوَاذِبُ وَ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ فَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 23 25 13 : 38 وَ لِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ وَ أَحْضِرُوا قُلُوبَكُمْ وَ اِسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ وَ لْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيَجْمَعْ شَمْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ اَلْأَمْرَ فَلْقَ اَلْخَرَزَةِ وَ قَرَفَهُ قَرْفَ اَلصَّمْغَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ اَلْبَاطِلُ مَآخِذَهُ وَ رَكِبَ اَلْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ وَ عَظُمَتِ اَلطَّاغِيَةُ وَ قَلَّتِ اَلدَّاعِيَةُ وَ صَالَ اَلدَّهْرُ صِيَالَ اَلسَّبُعِ اَلْعَقُورِ وَ هَدَرَ فَنِيقُ اَلْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ وَ تَوَاخَى اَلنَّاسُ عَلَى اَلْفُجُورِ وَ تَهَاجَرُوا عَلَى اَلدِّينِ وَ تَحَابُّوا عَلَى اَلْكَذِبِ وَ تَبَاغَضُوا عَلَى اَلصِّدْقِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ اَلْوَلَدُ غَيْظاً وَ اَلْمَطَرُ قَيْظاً وَ تَفِيضُ اَللِّئَامُ فَيْضاً وَ تَغِيضُ اَلْكِرَامُ غَيْضاً وَ كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ ذِئَاباً وَ سَلاَطِينُهُ سِبَاعاً وَ أَوْسَاطُهُ أُكَّالاً وَ فُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً وَ غَارَ اَلصِّدْقُ وَ فَاضَ اَلْكَذِبُ وَ اُسْتُعْمِلَتِ اَلْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ وَ تَشَاجَرَ اَلنَّاسُ بِالْقُلُوبِ وَ صَارَ اَلْفُسُوقُ نَسَباً وَ اَلْعَفَافُ عَجَباً وَ لُبِسَ اَلْإِسْلاَمُ لُبْسَ اَلْفَرْوِ مَقْلُوباً قول المصنّف : « و منها » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( منها ) و إن

[ 155 ]

كانت قبلها اخرى كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 1 .

« طبيب دوّار بطبّه » في ( الجمهرة ) : رجل طبّ بالشي‏ء حذق به ، و منه اشتقاق الطبيب ، و من أمثالهم « من حبّ طبّ » أي : تأتّى لاموره ، و تلطّف لها 2 .

و كان عليه السلام كطبيب دوّار لعلاج أمراض الأرواح . فكان يعظ من شهده شفاها ، و من غاب عنه كتابا ، و كان عليه السلام يعظ الناس عموما و خصوصا ليلا و نهارا .

و من مواعظه العامة نهارا أنّه عليه السلام كان كلّ بكرة يطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا ، و معه الدرّة على عاتقه و كان لها طرفان ، و كان تسمّى السبية فيقف على سوق فينادي : يا معشر التّجار قدّموا الإستخارة ،

و تبرّكوا بالسهولة ، و اقتربوا من المبتاعين ، و تزيّنوا بالحلم ، و تناهوا عن اليمين ، و جانبوا الكذب ، و تجافوا عن الظلم ، و أنصفوا المظلومين ، و لا تقربوا الربا و أوفوا الكيل و الميزان و لا تبخسوا الناس أشياءهم ، و لا تعثوا في الأرض مفسدين 3 ثمّ يقول :

تفنى اللذاذة ممّن نال صفوتها
من الحرام و يبقى الإثم و العار

تبقى عواقب سوء في مغبّتها
لا خير في لذّة من بعدها النار 4

و من مواعظه الليلية عموما أنّه عليه السلام كان بعد العشاء لمّا كان بالكوفة يقبل بوجهه على الناس في المسجد ، و يذكّرهم بهذه الكلمات ثلاث مرّات :

تجهّزوا رحمكم اللّه فقد نودي فيكم بالرحيل . فما التعرّج على الدنيا بعد نداء

-----------
( 1 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 223 . لكن لفظ شرح ابن ميثم 3 : 40 مثل المصرية .

-----------
( 2 ) جمهرة اللغة 1 : 34 .

-----------
( 3 ) هود : 85 .

-----------
( 4 ) رواه الصدوق في أماليه : 402 ح 6 ، المجلس 75 ، و المفيد في أماليه : 197 ، ح 31 ، المجلس 23 ، و الكليني في الكافي 5 : 151 ح 3 .

[ 156 ]

فيها بالرحيل . تجهّزوا رحمكم اللّه ، و انتقلوا بأفضل ما بحضرتكم من الزاد و هو التقوى ، و اعلموا أنّ طريقكم إلى المعاد ، و ممرّكم على الصراط ، و الهول الأعظم أمامكم ، في طريقكم عقبة كؤودة ، و منازل مخوفة مهولة لا بدّ لكم من الممرّ عليها و الوقوف بها . فإمّا برحمة من اللّه و نجاة من هولها ، و عظم خطرها ، و فظاعة منظرها ، و شدّة مختبرها ، و إمّا بهلكة ليس بعدها انجبار 1 .

و في الخبر : كان عليه السلام يمشي في الأسواق وحده و هو دالّ يرشد الضال ،

و يعين الضعيف ( و يمسك الشسوع بيده . فيناول الرجل الشسع ) و يمرّ بالبيّاع و البقّال . فيفتح عليه القرآن ، و يقرأ : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض و لا فساداً و العاقبة للمتقين 2 .

« قد أحكم » و الأصل فيه حكمة اللجام الّتي تحيط بالحنك تقول منه « حكمت الدابة و أحكمتها » .

« مراهمه » جمع المرهم ، ما يوضع على الجراحة . قال في ( الصحاح ) :

المرهم معرّب ، و لكن في ( الجمهرة ) الرهمة ، و الجمع رهام : الدفعة اللينة من المطر ، و منه اشتقاق المرهم للينه 3 .

« و أحمى » من قولهم أحميت الحديد في النار .

« مواسمه » جمع الميسم ما يحمى به ، و في ( الصحاح ) : أصل الياء و او .

فإن شئت قلت في جمعه مياسم على اللفظ ، و إن شئت قلت مواسم على الأصل 4 .

روي أنّ حبابة الوالبية قالت : رأيت أمير المؤمنين عليه السلام في شرطة

-----------
( 1 ) رواه الصدوق في أماليه : 402 ح 7 ، المجلس 75 ، و المفيد في أماليه : 198 ح 32 ، المجلس 23 .

-----------
( 2 ) رواه الطبرسي في مجمع البيان 7 : 268 . و الآية 83 من سورة القصص .

-----------
( 3 ) صحاح اللغة 5 : 1939 ، مادة ( رهم ) ، و جمهرة اللغة 2 : 417 .

-----------
( 4 ) صحاح اللغة 5 : 2051 ، مادة ( وسم ) .

[ 157 ]

الخميس و معه درّة لها سبابتان يضرب بها بيّاع الجرّي و المار ماهي ،

و الزّمار ، و يقول لهم : يا بيّاع مسوخ بني اسرائيل ، و جند بني مروان ، فقام إليه فرات بن أحنف . فقال : يا أمير المؤمنين و ما جند بني مروان ؟ فقال له أقوام حلقوا اللّحى ، و فتلوا الشوارب 1 .

« يضع ذلك حيث الحاجة إليه » قال ابن أبي الحديد : يقال : رؤي المسيح خارجا من بيت مومسة . فقيل له : يا سيدنا أمثلك يكون ها هنا ؟ فقال : إنّما يأتي الطبيب المرضى 2 .

هذا ، و في ( شعراء القتيبي ) : رأى دريد بن الصّمّة الخنساء تهنأ الابل .

فقال فيها أبياتا منها :

ما إن رأيت و لا سمعت به
كاليوم هاني أنيق جرب

متبذلا تبدو محاسنه
يضع الهناء مواضع النقب 3

« من قلوب عمي ، و آذان صمّ ، و ألسنة بكم » حيث إنّه عليه السلام الهادي ، و في تفسير الثعلبي لمّا نزل إنّما أنت منذر و لكلّ قوم هاد 4 وضع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده على صدره ، و قال : « أنا المنذر و أومأ بيده إلى منكب عليّ عليه السلام و قال :

و أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون بعدي » و في ( مناقب السروي ) صنّف ابن عقده كتابا في نزول الآية فيه عليه السلام 5 .

« متّبع » كذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( متتبع ) كما في ( ابن أبي الحديد )

-----------
( 1 ) رواه الكليني في الكافي 1 : 346 ح 3 ، و الصدوق في كمال الدين 2 : 536 ، ح 1 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 223 .

-----------
( 3 ) الشعر و الشعراء : 122 .

-----------
( 4 ) الرعد : 7 .

-----------
( 5 ) مناقب السروي 3 : 83 و 84 .

[ 158 ]

و ابن ميثم و الخطية ) 1 .

« بدوائه مواضع الغفلة ، و مواطن الحيرة » قال الخوئي : روى بعض القدماء في أصل له عن عمّار قال : بينا أنا أمشي بأرض الكوفة إذ رأيت أمير المؤمنين عليه السلام جالسا ، و عنده جماعة من الناس ، و هو يصف لكلّ إنسان ما يصلح له . فقلت له : يا أمير المؤمنين أيوجد عندك دواء الذنوب . فقال : نعم إجلس فجثوت على ركبتيّ حتّى تفرّق عنه الناس . ثمّ أقبل عليّ و قال : خذ دواء أقول لك . قلت : قل يا أمير المؤمنين قال : عليك بورق الفقر ، و عروق الصبر ،

و هليلج الكتمان ، و بليلج الرضا ، و غاريقون الفكر ، و سقمونيا الأحزان ،

و أشربه بماء الأجفان ، و اغله في طبخير القلق ، وضعه تحت ميزاب الفرق ،

و صفّه بمنخل الأرق ، و اشربه على الحرق . فذاك دواؤك ، و شفاؤك يا عليل 2 .

« لم يستضيئوا بأضواء الحكمة » كأنّ في هذا الكلام إلى قوله : « و الصخور القاسية » سقطا حيث إنّ سياقه مخالف لسابقه .

« و لم يقدحوا » من قدحت النار .

« بزناد » بالكسر جمع الزند ، العود الّذي تقدح به النار .

« العلوم الثاقبة » أي : المضيئة .

« فهم في ذلك كالأنعام السائمة » أي : المرسلة ، و الراعية .

« و الصخور » أي : الحجارة العظام .

« القاسية » أي : الصلبة .

« قد انجابت » أي : انكشفت .

« السرائر لأهل البصائر » الظاهر أنّ المراد بقوله عليه السلام قد انجابت السرائر

-----------
( 1 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 223 ، لكن في شرح ابن ميثم 3 : 40 مثل المصرية .

-----------
( 2 ) شرح الخوئي 3 : 212 .

[ 159 ]

لأهل البصائر ، انكشاف سرائر المتقدّمين عليه لأهل المعرفة ، و من كان ذا بصيرة .

روى الثقفي عن المسعودي ، عن محمّد بن كثير ، عن يحيى بن حمّاد القطّان عن أبي محمّد الحضرمي ، عن أبي علي الهمداني ، أنّ عبد الرحمن بن أبي ليلى قام إلى عليّ عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين إنّي سائلك لآخذ عنك ، و قد انتظرنا أن تقول من أمرك شيئا فلم تقله ، ألا تحدّثنا عن أمرك هذا أكان بعهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو شي‏ء رأيته ؟ فإنّا قد أكثرنا فيك الأقاويل ، و أوثقه عندنا ما قبلناه عنك و سمعناه من فيك . إنّا كنّا نقول : لو رجعت إليكم بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينازعكم فيها أحد ، و اللّه ما أدري إذا سئلت ما أقول . أزعم أنّ القوم كانوا أولى بما كانوا فيه منك ؟

فإنّ قلت ذلك فعلام نصبك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد حجّة الوداع فقال : « أيّها الناس من كنت مولاه فعليّ مولاه » و إن تك أولى منهم بما كانوا فيه فعلام نتولاّهم ؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا عبد الرحمن إنّ اللّه تعالى قبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا يوم قبضه أولى بالناس منّي بقميصي هذا ، و قد كان من نبيّ اللّه إليّ عهد لو خزمتموني بأنفي لأقررت إلى أن قال :

فقال عبد الرحمن : يا أمير المؤمنين فأنت لعمرك كما قال الأوّل :

لعمري لقد أيقظت من كان نائما
و أسمعت من كانت له اذنان 1

« و وضحت محجّة الحق » في ( الصحاح ) : المحجّة : جادّة الطريق 2 .

« لخابطها » أي : خابط المحجّة من قولهم خبط عشواء أي : ناقة في

-----------
( 1 ) رواه عنه المفيد في أماليه : 223 ح 2 ، المجلس 26 .

-----------
( 2 ) صحاح اللغة 1 : 304 ، مادة ( حجج ) .

[ 160 ]

بمصرها ضعف تضرب بيدها الأرض لا تتوقى شيئا . و من قولهم « ما أدري أيّ خابط ليل هو » يعني : أيّ الناس هو .

« و أسفرت » أي : كشفت .

« الساعة » أي : القيامة .

« عن وجهها ، و ظهرت العلامة لمتوسّمها » أي : متفرّسها . يقال : توسمت فيه الخير أي : تفرّسته .

« ما لي أراكم أشباحا » أي : أجسادا .

« بلا أرواح ، و أرواحا بلا اشباح » أي : أشخاص و أجسام .

« و نسّاكا » أي : عبّادا .

« بلا صلاح و تجّارا بلا أرباح » حيث يحبطون عباداتهم .

ففي ( ثواب الأعمال ) عن حذيفة : لا يزال « لا إله إلا اللّه » تردّ غضب الربّ تعالى عن العباد ما كانوا لا يبالون ما انتقص من دنياهم إذا سلم دينهم ، فإذا كانوا لا يبالون ما انتقص من دينهم إذا سلمت دنياهم ثمّ قالوها ردّت عليهم ،

و قيل : كذبتم و لستم بها صادقين .

و عن زيد بن أرقم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : من قال لا إله إلاّ اللّه مخلصا دخل الجنّة .

و إخلاصه بها أن تحجزه لا إله إلاّ اللّه عمّا حرّم اللّه .

و عن اسحق بن راهويه قال : لمّا وافى أبو الحسن الرضا عليه السلام نيسابور و أراد أن يرحل منها إلى المأمون ، إجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له :

يا ابن رسول اللّه ترحل عنا ، و لا تحدّثنا بحديث نستفيده منك و قد كان قعد في العمارية فأطلع رأسه ، و قال : سمعت أبي عن آبائه عليهم السلام واحدا بعد واحد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن جبرئيل عليه السلام عن اللّه تعالى « لا إله إلاّ اللّه حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي » فلمّا مرّت الراحلة

[ 161 ]

نادى : بشروطها ، و أنا من شروطها 1 .

و عن أبي الجارود عن الباقر عليه السلام قال : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : من قال سبحان اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، و من قال الحمد للّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، و من قال لا إله إلاّ اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة و من قال اللّه أكبر غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة . فقال رجل من قريش : يا رسول اللّه إن شجرنا في الجنّة لكثير . قال : نعم ، و لكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، و ذلك أنّ اللّه عزّ و جلّ يقول يا أيّها الذين آمنوا اطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم 2 .

« و أيقاظا نوّما » قال الفرزدق :

يستيقظون إلى نهاق حميرهم
و تنام أعينهم عن الأوتار

« و شهودا غيّبا » يقال لصلاة المغرب صلاة الشاهد لأنّها يصلّيها الغائب كما يصليها الشاهد .

« و ناظرة عمياء » غيّر عليه السلام خطابه من الجمع في قوله « أشباحا » إلى قوله « و شهودا » إلى صيغة المفرد المؤنث بإرادة الطائفة تفنّنا .

« و سامعة صمّاء » فمن سمع ، و لم يجب يكن كالأصم .

« و ناطقة بكماء » أي : خرساء ، و الأصل في قوله عليه السلام « و ناظرة عمياء و سامعة صمّاء و ناطقة بكماء » قوله تعالى صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون 3 صم بكم عمي فهم لا يعقلون 4 .

« رأيت ضلالة » هكذا في ( المصرية ) بلفظ الفعل و الفاعل و المفعول ،

-----------
( 1 ) ثواب الأعمال : 20 21 ح 3 و 4 و 1 .

-----------
( 2 ) ثواب الأعمال : 26 ح 3 . و الآية 33 من سورة محمّد .

-----------
( 3 ) البقرة : 18 .

-----------
( 4 ) البقرة : 171 .

[ 162 ]

و الصواب : « راية ضلالة » بلفظ مضاف ، و مضاف إليه كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) 1 .

قال ابن أبي الحديد : قوله عليه السلام « راية ضلالة » إلخ كلام منقطع عمّا قبله ، لأنّ الرضي رضى اللّه عنه كان يلتقط الفصول الّتي في الطبقة العلياء في الفصاحة من كلامه عليه السلام فيذكرها ، و يتخطّى ما قبلها ، و ما بعدها ، و هو عليه السلام يذكر هاهنا ما يحدث في آخر الزمان من الفتن كظهور السفياني و غيره 2 .

قلت : الرضي رضى عنه اللّه و ان كان ينتخب من كلامه عليه السلام إلاّ أنّ الانتخاب بدون التنبيه خارج عن القاعدة ، و كيف و قد نبّه في هذه الخطبة مرّتين على الالتقاط .

فقال أوّلا بعد ذكر كلامه عليه السلام في التوحيد « منها في ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم . . . ، و ثانيا « منها ، طبيب دوّار بطبه » . . . 3 ، و الصواب أن يقال : إنّ الخطبة لمّا كانت في الملاحم كما صرّح به في أوّل كلامه ، و كتب الملاحم لا تخلو من التصحيف غالبا ، نقل ما وجد فيها ، و إلاّ فالقطع ليس مختصا به ظاهرا . فقد عرفت استظهار قطع قوله « لم يستضيئوا » إلى قوله « القاسية » و كذلك قوله « قد انجابت » إلى قوله « لمتوسمها » و كذلك قوله « ما لي » إلى قوله « بكماء » .

و كيف كان فما ذكره من كلامه عليه السلام إشارة إلى فتن آخر الزمان من السفياني و غيره غير بعيد . فروى النعماني عن أبي حمزة الثمالي قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : خروج السفياني من المحتوم ؟ قال : نعم ، و النداء من المحتوم و طلوع الشمس من مغربها من المحتوم 4 .

و عن الصادق عليه السلام قال : خروج السفياني و اليماني ، و الخراساني في

-----------
( 1 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 225 ، و في بعض نسخ شرح ابن ميثم 3 : 45 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 225 .

-----------
( 3 ) نهج البلاغة 1 : 206 و 207 ، الخطبة 106 .

-----------
( 4 ) أخرجه محمد بن النعمان المفيد في الارشاد : 358 و لم أجده في غيبة النعماني .

[ 163 ]

سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد ، و ليس في الرايات راية أهدى من اليماني لأنّه يدعو إلى صاحبكم .

و عنه عليه السلام للقائم عليه السلام خمس علامات : السفياني ، و اليماني ، و الصيحة من السماء ، و قتل النفس الزكية ، و الخسف بالبيداء 1 .

« قد قامت على قطبها » روى النعماني في علامات ظهور القائم عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : لا بدّ من رحى تطحن . فإذا قامت على قطبها ، و ثبتت على ساقها بعث اللّه عليها عبدا عسفا ، خاملا أصله ، يكون النصر معه ، أصحابه الطويلة شعورهم أصحاب السبال سود ثيابهم أصحاب رايات سود . ويل لمن ناوأهم يقتلونهم هرجا . و اللّه لكأنّي أنظر إليهم ، و إلى أفعالهم ، و ما يلقى الفجّار منهم ، و الأعراب الجفاة يسلّطهم اللّه عليهم بلا رحمة . فيقتلونهم هرجا على مدينتهم بشاطئ الفرات البرية و البحرية جزاء بما عملوا و ما ربّك بظلام للعبيد 2 .

« و تفرّقت بشعبها » في ( الصحاح ) : الشعب : ما تشعب من قبائل العرب ،

و العجم 3 .

« تكيلكم بصاعها » أي : تعمل معكم كيف شاءت ، و أما قولهم « كايلناهم صاعا بصاع » فمعناه كافأناهم .

« و تخبطكم » في ( الصحاح ) : خبط البعير الأرض بيده خبطا ضربها ،

و خبطت الشجرة خبطا إذا ضربتها بالعصا ليسقط ورقها 4 .

-----------
( 1 ) أخرجها النعماني في الغيبة : 171 و 169 .

-----------
( 2 ) غيبة النعماني : 171 ، و الآية 46 من سورة فصّلت .

-----------
( 3 ) صحاح اللغة 1 : 155 ، مادة ( شعب ) .

-----------
( 4 ) صحاح اللغة 3 : 1121 ، مادة ( خبط ) .

[ 164 ]

« بباعها » في ( الصحاح ) : الباع قدر مدّ اليدين . . . 1 ، و يقال : « ما بيعت هذه الثياب حتّى بيعت » الأوّل من البيع ، و الثاني من البوع أصل الباع أي : حتّى قدّرت بالباع .

« قائدها خارج من الملّة قائم على الضلّة » روى النعماني عن الباقر عليه السلام انّه قال : إنّ السفياني لم يعبد اللّه قط ، و لم ير مكة و لا المدينة قط ، يقول : يا رب ثاري و النار 2 .

و روى ابن بابويه عن الصادق عليه السلام قال : إنّك لو رأيت السفياني لرأيت أخبث الناس إلى أن قال :

و قد بلغ من خبثه أنّه يدفن امّ ولد له و هي حيّة مخافة أن تدلّ عليه 3 .

« فلا يبقى يومئذ منكم إلاّ ثفالة كثفالة القدر » و هي ما استقر تحته . يقال في الماء و الدواء و المرق « علا صفوه و رسب ثفله » .

« أو نفاضة كنفاضة العكم » في ( الصحاح ) : العكم بالكسر العدل ، و هما عكمان و العكم أيضا نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها ، و النفاضة ما سقط عن النفض يقال : نفضت الثوب و الشجر إذا حرّكته لينتفض 4 .

روى النعماني مسندا عن الأصبغ عنه عليه السلام قال : و الّذي نفسي بيده ما ترون ما تحبّون حتّى يتفل بعضكم في وجوه بعض ، و حتّى يسمّى بعضكم بعضا كذا بين ، و حتّى لا يبقى منكم ( على هذا الأمر ) كالكحل في العين ، و الملح في الطعام ( و هو أقلّ الزاد ) و سأضرب لكم مثلا و هو مثل رجل كان له طعام فنقّاه و طيّبه ثمّ أدخله بيتا و تركه فيه ما شاء اللّه . ثمّ عاد إليه فإذا هو قد أصابه

-----------
( 1 ) صحاح اللغة 3 : 1188 ، مادة ( بوع ) .

-----------
( 2 ) غيبة النعماني : 207 .

-----------
( 3 ) أخرجه الصدوق في كمال الدين 2 : 651 ح 10 .

-----------
( 4 ) صحاح اللغة 5 : 1989 و 3 : 1109 ، مادة ( عكم و نفض ) .

[ 165 ]

السوس . فأخرجه ، و نقّاه ، و طيّبه ثم أعاده الى البيت فتركه ما شاء اللّه ثم عاد اليه فإذا هو قد اصابته طائفة من السوس ، فأخرجه و نقاه و طيبه و أعاده ، و لم يزل كذلك حتّى بقيت منه رزمة كرزمة الأندر لا يضرّه السوس شيئا ، و كذلك أنتم تميّزون حتّى لا يبقى منكم إلاّ عصابة لا يضرّها الفتنة شيئا 1 .

و عن الحارث الأعور عنه عليه السلام : يملك السفياني قدر حمل امرأة تسعة أشهر يخرج بالشام فينقاد له أهل الشام إلاّ طوائف من المقيمين على الحقّ يعصمهم اللّه من الخروج معه ، و يأتي المدينة بجيش جرار حتّى إذا انتهى إلى بيداء المدينة خسف اللّه به ، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت و أخذوا من مكان قريب 2 .

« تعرككم » أي : تدلككم .

« عرك الأديم » أي : الجلد . قال زهير : « فتعرككم عرك الرحى بثفالها » 3 .

« و تدوسكم » أي : تضغطكم بأقدامها .

« دوس الحصيد » يقال حصدت الزرع فهو محصود و حصيد .

« و تستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الحبّة البطينة من بين هزيل الحب » هكذا في ( المصرية ) ، و فيها سقط و الأصل : « استخلاص الطير الحبة . . . » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 4 ، و لأنّ الحبّة لا تستخلص بنفسها .

روى ( الاكمال ) عن محمّد بن مسلم ، و أبي بصير قالا : سمعنا أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : لا يكون هذا الأمر حتّى يذهب ثلثا الناس . فقيل له : إذا ذهب

-----------
( 1 ) غيبة النعماني : 140 .

-----------
( 2 ) غيبة النعماني : 206 ، و الآية 51 من سورة سبأ .

-----------
( 3 ) أورده لسان العرب 10 : 465 ، مادة ( عرك ) .

-----------
( 4 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 225 . لكن في شرح ابن ميثم 3 : 41 مثل المصرية أيضا .

[ 166 ]

ثلثا الناس فما يبقى . فقال عليه السلام : أما ترضون أن تكونوا الثلث الباقي 1 .

« أين تذهب بكم المذاهب » جمع المذهب أي : السيور المموّهة بالذهب .

« و تتيه بكم » أي : توقعكم في التيه و الحيرة .

« الغياهب » جمع الغيهب أي : الظلمة .

« و تخدعكم الكواذب » جمع الكاذبة ، و في الأمثال « كذب العير و إن كان برح » 2 « كذبتك الظهائر » 3 .

« و من أين تؤتون ، و أنّى » أي : كيف .

« تؤفكون » في ( الصحاح ) : قال أبو زيد : المأفوك المأفون ، و هو الضعيف العقل و الرأي و قوله تعالى : يؤفك عنه من افك 4 . قال مجاهد : يؤفن عنه من افن . . . 5 .

و المراد من قوله عليه السلام : « أين تذهب بكم المذاهب . . . » أنّ أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المعصومين من العترة معلومون . فكيف يوقعكم بنو العباس في الالتباس ، أو أنّ مهدي أهل البيت أمره أبين من الشمس ينادى باسمه من السماء فكيف تنخدعون برجال يدّعون مقامه أو أنّ ظهور المهدي حتم فكيف تيأسون منه و يمكن إرادة الجميع .

« فلكلّ أجل كتاب » قال ابن أبي الحديد : أظنّه منقطعا عمّا قبله مثل قوله « راية ضلالة » 6 . قلت : بل اتّصاله معلوم . فإنّه عليه السلام لمّا قال قبل : أين تذهب بكم

-----------
( 1 ) كمال الدين 2 : 655 ح 39 .

-----------
( 2 ) أورده الميداني في مجمع الأمثال 2 : 163 .

-----------
( 3 ) هذا كلام عمر أورده الزمخشري في الأساس : 389 ، مادة ( كذب ) ، و ابن الأثير في النهاية 4 : 158 ، مادة ( كذب ) .

-----------
( 4 ) الذاريات : 9 .

-----------
( 5 ) صحاح اللغة 4 : 1573 ، مادة ( افك ) .

-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 225 .

[ 167 ]

المذاهب في اليأس من أهل البيت عليهم السلام و قيام قائمهم عليه السلام أردفه بهذا الكلام بأنّ لكلّ أجل كتاب لا بد من الانتهاء إليه .

« و لكلّ غيبة إياب » قال ابن أبي الحديد : استثنى عبيد بن الأبرص من العموم الموت فقال :

و كلّ ذي غيبة يؤوب
و غائب الموت لا يؤوب

و هو رأي زنادقة العرب . فأمّا أمير المؤمنين عليه السلام و هو ثاني صاحب الشريعة الّتي جاءت بعود الموتى فإنّه لا يستثنى ، و يحمّق عبيدا في استثنائه 1 .

قلت : كلام ابن أبي الحديد ، كلام مختل منحلّ ، فإنّ عبيدا و إن كان جاهليا ليس في مقام إنكار البعث ، بل مراده أنّ الغائبين بالسفر يرجعون في الدنيا إلى أوطانهم و أهاليهم ، و أما الغائب بالموت فلا يرجع إلى أهله أبدا ، و هو كلام يقوله الملحد و الموحّد ، و كيف و بيته من قصيدة من أحد المعلّقات السبع ،

و كلّها حكم فقبله :

و كلّ ذي نعمة مخلوسها
و كلّ ذي أمل مكذوب

و كلّ ذي ابل موروثها
و كلّ ذي سلب مسلوب

و بعده :

أفلح بما شئت فقد يد
رك بالضعف و قد يخضع الأريب

بل الظاهر من أبياته أنّه و إن كان جاهليا إلاّ أنّه كان موحدا . ففي القصيدة كما في شعراء ابن قتيبة :

من يسأل الناس يحرموه
وسائل اللّه لا يخيب

و اللّه ليس له شريك
علاّم ما أخفت القلوب 2

-----------
( 1 ) الشعر و الشعراء : 85 .

[ 168 ]

و عود الموتى في القيامة لم يقل به الإسلام قط بل جميع الشرائع من آدم إلى الخاتم .

كما أنّ مراده عليه السلام من قوله « و لكلّ غيبة إياب » ليس البعث بل ظهور المهدي عليه السلام بعد غيبته . ففسر قوله تعالى : و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون 1 بظهوره عليه السلام بعد غيبته ، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : « لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يبعث فيه رجلا من ولدي يواطئ اسمه اسمي يملأها عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا » 2 .

و نقل النعماني عن ابن عقدة روايته مسندا : أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال يوما لحذيفة ، و الّذي نفس عليّ بيده لا تزال هذه الامّة بعد قتل الحسين ابني في ضلال و ظلمة ، و عسفة ، و جور ، و اختلاف في الدين ، و تبديل لما أنزل تعالى في كتابه ، و إظهار البدع ، و ابطال السنن ، و اختلال و قياس مشتبهات ، و ترك محكمات حتّى تنسلخ من الإسلام ، و تدخل في العمى و التلدد و التكسع ، مالك يا بني اميّة لا هديت يا بني اميّة ، و مالك يا بني فلان لك الاتعاس . فما في بني فلان إلاّ ظالم معتد متمرّد على اللّه بالمعاصي ، قتّال لولدي ، هتّاك لستر حرمتي .

فلا تزال هذه الامّة جبارين يتكالبون على حرام الدنيا ، منغمس في بحار الهلكات ، و في أودية الدماء حتّى إذا غاب المتغيب من ولدي عن عيون الناس و باح الناس بفقده أو بقتله أو بموته ، اطلعت الفتنة ، و نزلت البلية ، و التحمت

-----------
( 1 ) الأنبياء : 105 .

-----------
( 2 ) أخرجه أبو داود في سننه 4 : 106 ح 4282 ، و الترمذي في سننه 4 : 505 ح 2230 و 2231 ، و جمع كثير غيرهما بفرق بين الألفاظ .

[ 169 ]

العصبية ، و غلا الناس في دينهم ، و أجمعوا على أنّ الحجّة ذاهبة ، و الإمامة باطلة ، و تحجّ حجيج الناس في تلك السنة من شيعة علي ، و تواصيهم التمكن و التجسس عن خلق الخلف . فلا يرى له أثر ، و لا يعرف له خلف . فعند ذلك سبّت شيعة علي . سبّتها أعداؤها ، و غلبت عليها الأشرار و الفسّاق باحتجاجها حتّى إذا بقيت الامّة ، و تدلّهت و أكثرت في قولها أنّ الحجة هالكة ، و الإمامة باطلة .

فوربّ عليّ أنّ حجّتها عليها قائمة ، ماشية في طرقاتها . داخلة في دورها و قصورها ، جوّالة في شرق هذه الأرض و غربها ، تسمع الكلام ، و تسلّم على الجماعة ترى ، و لا ترى إلى وقت الوعد ، و نادى المنادي من السماء ذلك يوم سرور ولد عليّ و شيعة عليّ 1 .

« فاستمعوه من ربّانيّكم » قال ابن أبي الحديد في وصف الحسن البصري لأمير المؤمنين عليه السلام : « كان و اللّه ربّاني هذه الامّة و ذا فضلها ، و ذا قرابتها ، و ذا سابقتها » 2 .

قلت : و في وصفه له عليه السلام أيضا : « كان عليّ و اللّه سهما صائبا من مرامي اللّه على عدوّه ، كانت له السابقة ، و الفضل و العلم و الحكمة ، و الفقه و الرأي و الصحبة ، و النجدة ، و البلاء ، و الزهد ، و القضاء ، و القرابة ، إنّ عليّا عليه السلام كان في أمره عليّا » 3 .

« و أحضروه قلوبكم ، و استيقظوا إن هتف » أي : صاح .

« بكم » روى ( مناقب الكنجي الشافعي ) ، عن عمران بن حصين قال : بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جيشا ، و استعمل عليهم عليّا عليه السلام . فمضى في السرية . فأصاب

-----------
( 1 ) غيبة النعماني : 94 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 : 226 .

-----------
( 3 ) هذا تأليف بين حديثين اخرج الاول ابن عبد البر في الاستيعاب 3 : 47 ، و الثاني رواه ابن أبي الحديد في شرحه 1 :

369 ، شرح الخطبة 57 .

[ 170 ]

جارية فأنكروا عليه ، و تعاقد أربعة من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أن يخبروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم . فلمّا قدموا قام أحد الأربعة ، و قال : ألم تر عليّا صنع كذا و كذا .

فأعرض عنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ قام الثاني فقال : فأعرض عنه . ثمّ الثالث فأعرض عنه . ثمّ قام الرابع فأقبل عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الغضب يعرف في وجهه ثمّ قال : ما تريدون من عليّ ما تريدون من عليّ إنّ عليّا منّي ، و أنا من عليّ ، و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي فلا تخالفوه في حكمه . و رواه أحمد بن حنبل في ( فضائله ) 1 .

« و ليصدق رائد أهله » هو كالمثل . ففي ( الصحاح ) : الرائد الّذي يرسل في طلب الكلاء يقال لا يكذب الرائد أهله » 2 .

« و ليجمع شمله » الشمل يجي‏ء لاجتماع الأمر و تفرقه . يقال فرّق اللّه شمله و جمع اللّه شمله و المراد هنا الثاني .

« و ليحضر ذهنه » لأهمّية الأمر فمع الغفلة تحصل الهلكة .

« فلقد فلق » أي : شقّ .

« لكم الأمر فلق الخرزة » بالراء ثمّ الزاي الدرّة ، و في ( الصحاح ) : خرزات الملك جواهر تاجه ، و يقال : كان الملك إذا ملك عاما زيدت في تاجه خرزة ليعلم عدد سنيّ ملكه قال لبيد : يذكر الحارث بن أبي شمر الغسّاني :

رعى خرزات الملك عشرين حجّة
و عشرين حتى فاد و الشيب شامل

و نقله ( الأساس ) : « ستين حجّة » 3 .

« و قرفه » أي : قشره .

-----------
( 1 ) كفاية الطالب : 42 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) صحاح اللغة 1 : 475 ، مادة ( رود ) .

-----------
( 3 ) صحاح اللغة 2 : 873 و 874 ، مادة ( خرز ) ، و أساس البلاغة : 106 ، مادة ( خرز ) .

[ 171 ]

« قرف الصمغة » قال الجوهري في المثل : « تركته على مثل مقرف الصمغة » و ذلك إذا لم تترك له شيئا لأنّها تقتلع من شجرتها حتّى لا تبقى عليها علقة 1 .

و الفاعل في قوله عليه السلام « فلق » و « و قرفه » ضمير ربّانيكم ، و المراد نفسه عليه السلام . روى الكنجي الشافعي في ( مناقبه ) عن حذيفة قال : قالوا : يا رسول اللّه ألا تستخلف عليّا ؟ قال : إن تولوا عليّا تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الطريق المستقيم 2 .

« فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه » جمع المأخذ أي : جميع ما يلزمه ، و يمكنه أخذه . ثمّ الظاهر أنّه وقع قبله سقط كما عرفته في قوله : « راية ضلالة » كما لا يخفى .

« و ركب الجهل مراكبه » كناية عن جمع أسباب الجهل .

« و عظمت الطاغية » أي : طغيان الباغين ، و في الأساس « هو طاغية جبّار عنيد » 3 .

« و قلّت الداعية » أي : من يدعو إلى الحقّ ، و في ( الأساس ) : « دع داعي اللبن و داعية اللبن ما يترك في الضرع ليدعو ما بعده ، و الداعية تدعو المادة » 4 .

« و صال الدهر » أي : حمل في الحرب .

« صيال السبع العقور » من عقره أي : جرحه . قيل يقال للخمر العقار بالضم لأنّها تعقر العقل أي : تجرحه .

« و هدر » من هدر البعير أي : ردّد صوته في حنجرته .

-----------
( 1 ) صحاح اللغة 4 : 1323 ، مادة ( صمغ ) .

-----------
( 2 ) كفاية الطالب : 67 .

-----------
( 3 ) أساس البلاغة : 281 ، مادة ( طغى ) .

-----------
( 4 ) أساس البلاغة : 131 ، مادة ( دعو ) .

[ 172 ]

« فنيق الباطل » أي : فحله . قال ابن دريد : « الفنيق الفحل من الإبل » قال الشاعر الأعشى : « بزيافة كالفنيق القطم . . . » 1 و قول الجوهري : الفنيق الفحل المكرم 2 بلا وجه .

« بعد كظوم » من كظم البعير كظوما إذا أمسكه عن الجرّة .

« و تواخى الناس » أي : صاروا إخوانا .

« على الفجور » و الفسوق .

« و تهاجروا على الدين » أي : تقاطعوا عليه ، و قد أمروا فيهما بالعكس .

« و تحابّوا » أي : أحبّ كلّ واحد منهم صاحبه .

« على الكذب ، و تباغضوا » أي : أبضغ كلّ منهم صاحبه .

« على الصدق » و قد امروا بالضدّ فيهما .

« فإذا كان ذلك ، كان الولد غيظا » لأبويه ، و كان الحقّ أن يكون قرّة عين لهما .

« و المطر قيظا » أي : في عين الصيف ، و شدّة حرارته . فلا يكون مثمرا بل مضرا .

« و تفيض اللئام فيضا » أي : كثروا بلا حصر من فاض الماء فيضا أي : كثر حتّى سال على ضفة الوادي .

« و تغيض الكرام غيضا » أي : قلّوا حتّى لا يوجدوا ، من غاض الماء غيضا :

قلّ و نضب .

و في ( كامل المبرد ) : قال محمّد بن منتشر الهمداني ، دفع إليّ الحجّاج رجلا ذمّيّا و أمرني بالتشديد عليه ، و الإستخراج منه . فلمّا انطلقت به قال : إنّ لك لشرفا و دينا ، و إنّي لا اعطي على القسر شيئا فارفق بي . ففعلت فأدّى إليّ في

-----------
( 1 ) جمهرة اللغة 3 : 155 .

-----------
( 2 ) صحاح اللغة 4 : 1545 ، مادة فنق .

[ 173 ]

اسبوع خمسمئة ألف . فبلغ ذلك الحجّاج . فأغضبه فانتزعه من يدي ، و دفعه إلى الّذي كان يتولّى لهم العذاب . فدقّ يديه و رجليه ، و لم يعطه شيئا ، و إنّي لسائر يوما في السوق إذ صاح بي يا محمّد . فالتفتّ فإذا أنا به معترضا على حمار مدقوق اليدين ، و الرجلين . فخفت الحجّاج أن آتيه فملت إليه . فقال : إنّك و ليت منّي ما ولي هؤلاء . فرفقت بي ، و أحسنت إليّ ، و إنّهم صنعوا بي ما ترى ولي خمسمئة ألف عند فلان فخذها مكافأة لما أحسنت إليّ فقلت : ما كنت لآخذ على معروفي أجرا ، و لا لارزئك على هذه الحالة شيئا . قال : فأمّا إذ أبيت فاسمع منّي حديثا حدّثني به بعض أهل دينك عن نبيّكم أنّه قال : « إذا رضي اللّه عن قوم أنزل عليهم المطر في وقته ، و جعل المال في سمحائهم ، و استعمل عليهم خيارهم ، و إذا سخط على قوم أنزل عليهم المطر في غير وقته ، و جعل المال في بخلائهم و استعمل عليهم أشرارهم . فصرت إلى الحجّاج فألفيته جالسا على فراشه ، و السيف مصلت بيده . فقال : ادن فدنوت شيئا . ثمّ قال : ادن فدنوت شيئا ، ثمّ قال في الثالثة : ادن لا أبا لك . فقلت : ما لي إلى الدنو من حاجة ، و في يدي الأمير ما أرى ، فضحك و أغمد سيفه ، و قال : إجلس . ما كان من حديث الخبيث ؟

فقلت : و اللّه ما غششتك مذ استنصحتني ، و لا كذبتك مذ استخبرتني ، و لا خنتك مذ ائتمنتني ، ثمّ حدّثته . فلمّا صرت إلى ذكر الرجل الّذي كان المال عنده أعرض عنّي بوجهه ، و أومأ إليّ بأن لا تسمّه . ثمّ قال : إنّ للخبيث نفسا ، و قد سمع الأحاديث 1 .

هذا ، و في ( تاريخ بغداد ) : استقبل أبو هفّان المهزمي الشاعر و كان على حمار مكار ابن ثوابة . فقال له ابن ثوابة : تركب حمير الكراء . فأجابه من ساعته :

-----------
( 1 ) كامل المبرد 3 : 174 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 174 ]

ركبت حمير الكراء
لقلّة من يعترى

لأنّ ذوي المكرما
ت قد غيّبوا في الثرى

فقال له ابن ثوابة : قلت هذا البيت في وقتك هذا . قال : لا قلته غدا 1 .

« و كان أهل ذلك الزمان ذئابا » في ( حياة الحيوان للدميري ) قال الشاعر :

ليت شعري كيف الخلاص من الناس
و قد أصبحوا ذئاب اعتداء

قلت : لمّا بلاهم صدق خبري
رضي اللّه عن أبي الدرداء

أشار إلى قول أبي الدرداء . إيّاكم و معاشرة الناس ، فإنّهم ما ركبوا قلب امرئ إلاّ غيّروه ، و لا جوادا إلاّ عقروه ، و لا بعيرا إلاّ أدبروه ، و الذئب إذا كدّه الجوع عوى . فتجتمع له الذئاب ، و يقف بعضها إلى بعض . فمن ولّى منها وثب إليه الباقون و أكلوه ، و إذا عرض للإنسان و خاف العجز عنه ، عوى عواء استغاثة . فتسمعه الذئاب . فتقبل على الإنسان إقبالا واحدا ، و هم سواء في الحرص على أكله . فإن أدمى الإنسان واحدا منها وثب الباقون على المدمى فمزّقوه ، و تركوا الإنسان . و عاتب بعضهم صديقه و كان أعان عليه فقال :

و كنت كذئب السوء لمّا رأى دما
بصاحبه يوما أحال على الدم

و قال عبيد بن الأبرص للمنذر بن ماء السماء ملك الحيرة لمّا أراد قتله :

و قالوا هي الخمر تكنّى الطلا
كما الذئب يكنى أبا جعدة

أي : تظهر لي الإكرام ، و أنت تريد قتلي كما أنّ الخمرة و إن سمّيت طلاء ففعلها قبيح ، و إنّ الذئب و إن كنّى أبا جعدة أي : أبا الشاة ففعله قبيح 2 .

« و سلاطينه سباعا و أوساطه أكّالا و فقراؤه أمواتا » روى ( الروضة ) : أنّ حمران بن أعين قال للباقر عليه السلام : لو حدّثتنا متى يكون هذا الأمر فسررنا به .

-----------
( 1 ) لم أجده في تاريخ بغداد .

-----------
( 2 ) حياة الحيوان 1 : 359 و 361 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 175 ]

فقال عليه السلام إنّ رجلا كان في ما مضى من العلماء ، و كان له ابن لم يكن يرغب في علم أبيه ، و لا يسأله عن شي‏ء ، و كان له جار يأتيه ، و يسأله ، و يأخذ عنه . فحضر الرجل الموت فدعا ابنه . فقال : يا بنيّ إنّك كنت تزهد في ما عندي ، و تقلّ رغبتك فيه ، و لم تكن تسألني عن شي‏ء ، ولي جار قد كان يأتيني و يسألني ، و يأخذ منّي ، و يحفظ عنّي ، فإن احتجت إلى شي‏ء فأته و عرّفه جاره فهلك الرجل ،

و بقي ابنه ، فرأى ملك ذلك الزمان رؤيا . فسأل عن الرجل . فقيل له : قد هلك . فقال الملك : هل ترك ولدا ؟ فقيل له : نعم ترك إبنا . فقال : إيتوني به . فبعث إليه . فقال الغلام : و اللّه ما أدري لما يدعوني الملك ، و ما عندي علم ، و لئن سألني عن شي‏ء لأفتضحن ، فذكر ما كان أوصاه أبوه . فأتى ذاك الرجل ، و قال له : إنّ الملك قد بعث إليّ يسألني ، و لست أدري فيم بعث به إليّ ، و قد كان أبي أمرني أن آتيك إن احتجت إلى شي‏ء .

فقال الرجل : و لكنّي أدري في ما بعث به اليك . فإن أخبرتك فما أخرج اللّه لك من شي‏ء فهو بيني و بينك . فقال : نعم . فاستحلفه و استوثق منه أن يفي له .

فقال له : إنّ الملك يريد أن يسألك عن رؤيا رآها أيّ زمان هذا . فقل له : إنّ هذا زمان الذئب . فأتى الغلام الملك . فقال له الملك : لم أرسلت إليك ؟ قال : تريد أن تسألني عن رؤيا رأيتها أيّ زمان هذا ؟ قال له : صدقت . فقل أيّ زمان هذا ؟ قال :

زمان الذئب . فأمر الملك بجائزة . فقبضها الغلام و انصرف ، و أبى أن يفي لصاحبه ، و قال لعليّ لا أنفد هذا المال حتّى أهلك ، و لعلّي لا اسأل عن مثل هذا الّذي سئلت عنه .

فمكث برهة ثمّ إنّ الملك رأى رؤيا . فبعث إليه يدعوه . فندم على ما صنع و قال : و اللّه ما عندي علم آتيه به ، و ما أدري كيف أصنع بصاحبي ، و قد غدرت به ثمّ قال : لآتينّه ، و لأعتذرنّ إليه ، و لأحلفنّ له فلعلّه يخبرني . فأتاه فقال : إنّي صنعت الّذي صنعت ، و لم أف لك ، و تفرّق ما كان في يدي و أنا أوثق لك ألاّ

[ 176 ]

يخرج لي شي‏ء إلاّ كان بيني و بينك ، و قد بعث إليّ الملك ، و لست أدري عمّ يسألني . فقال ، إنّه يريد أن يسألك عن رؤيا رآها أي زمان هذا . فقل له : إنّ هذا زمان الكبش . فأتى الملك . فقال له : لم بعثت اليك ؟ فقال : إنّك رأيت رؤيا ، و إنّك تريد أن تسألني أيّ زمان هذا ؟ فقال له : صدقت فأخبرني أيّ زمان هذا ؟ فقال ،

زمان الكبش . فأمر له بصلة . فقبضها ، و انصرف ، و تدبر في أن يفي أم لا . فهمّ مرّة أن يفعل و مرّة أن لا يفعل ثمّ قال : لعلّي لا احتاج إليه بعد هذه المرّة أبدا .

فأجمع على الغدر .

فمكث برهة ثمّ إنّ الملك رأى رؤيا . فبعث إليه . فندم ، و قال بعد غدر مرّتين : كيف أصنع ؟ ثمّ أجمع رأيه على إتيانه . فأتاه و ناشده اللّه تعالى و أخبره انّ هذه المرّة يفي له ، و لا يغدر . فقال : يريد أن يسألك عن رؤيا رآها أيّ زمان هذا . فإذا سألك فأخبره أنّه زمان الميزان . فأتى الملك ، فقال له : لم بعثت إليك ؟

قال : رأيت رؤيا تريد أن تسألني أيّ زمان هذا ؟ فقال : صدقت . فأخبرني أيّ زمان هذا ؟ فقال : زمان الميزان ، فأمر له بصلة فانطلق بها إلى الرجل فوضعها بين يديه ، و قال : جئتك بما خرج لي فقاسمنيه . فقال له العالم : إنّ الزمان الأوّل كان زمان الذئب ، و انّك كنت من الذئاب ، و إنّ الزمان الثاني كان زمان الكبش يهمّ و لا يفعل ، و كذلك أنت تهمّ و لا تفي ، و هذا زمان الميزان ، و كنت فيه على الوفاء . فاقبض مالك لا حاجة لي فيه 1 .

« و غار » من غار الماء : إذا نضب ، و ذهب في الأرض .

« الصدق ، و فاض الكذب » في ( الكافي ) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يزال العبد يصدق حتّى يكتبه اللّه صدّيقا ، و ما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه اللّه كذّابا 2 .

-----------
( 1 ) الكافي 8 : 362 ح 552 ، و النقل بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) الكافي 2 : 338 ح 2 .

[ 177 ]

« و استعملت المودّة باللسان ، و تشاجرت » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب :

( و تشاجر ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 1 .

« الناس بالقلوب » في ( الكافي ) : عن الصادق عليه السلام من لقي المسلمين بوجهين و لسانين جاء يوم القيامة ، و له لسانان من نار 2 .

« و صار الفسوق نسبا » قال تعالى و إذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم 3 .

و في ( الاستيعاب ) في أبي الغادية الجهني قاتل عمّار كان أبو الغادية إذا استأذن على معاوية و غيره يقول : « قاتل عمّار بالباب » ، و كان يصف قتله إذا سئل عنه لا يباليه ، و في قصته عجب عند أهل العلم قال : سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : « لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض » ثمّ قتل عمّارا . و مثله في ( معارف ابن قتيبة ) و زاد : قال ربيعة بن كلثوم : قال أبي :

حدّثني أبو الغادية قال : سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : « ألا لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض فإنّ الحق يومئذ لمع عمّار » قال أبي : فما رأيت شيخا أضلّ منه يروي أنّه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول ما قال ثمّ ضرب عنق عمّار 4 .

« و العفاف عجبا » لندرة المتعفّفين فإذا رأوا عفيفا تعجّبوا منه ، و ينطبق جميع ما قاله عليه السلام على عصرنا في الغاية لا سيما الفقرة الأخيرة . فإنّه لكثرة النساء المتكشفات ، و كثر نظر الرجال إليهنّ إذا رأوا امرأة عفيفة تتستر أو رجلا عفيفا لا ينظر استغربوه .

-----------
( 1 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 2 : 226 ، لكن في شرح ابن ميثم 3 : 41 مثل المصرية .

-----------
( 2 ) الكافي 2 : 343 ح 1 .

-----------
( 3 ) البقرة : 206 .

-----------
( 4 ) الاستيعاب 3 : 151 ، و المعارف 257 .

[ 178 ]

« و لبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا » فيعكسون و يبدّلون أحكامه ، يحلّلون حرامه ، و يحرّمون حلاله ، و ينكرون معروفه ، و يعرفون منكره ، و يعطّلون حدوده ، و يتعدّون حدوده بحيث لو كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيّا لبدأ بقتالهم قبل قتال الكفار . فثقيف قالوا : تجارتنا من الربا ، و لم نقدر على تركه فنزل فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه و رسوله 1 .

هذا ، و عن بعض كتب المناقب القديمة : جاء جابر الأنصاري إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : بأبي أنت و امّي رأيت رؤيا هالتني . فقال عليه السلام : ما الّذي رأيت ؟ فقال : رأيت كان ثيرانا سمانا تشرب من لبن عجاجيل هزال ، و رأيت دوابّا سمانا لكلّ دابّة رأسان تأكل بالرأسين ، و لا تروث ، و رأيت أحواضا يابسة قد نبتت فيها أخشبة خضر ، و رأيت المرضى يعودون الأصحاء ،

و رأيت ثوبا أبيض معلقا من السماء الى الأرض ، و الناس يقطّعون منه قطعة قطعة ، و رأيت طايرين في بيت مظلم يتكلّمان بكلام فصيح ، و رأيت طاستين إحداهما ذهب ، و الاخرى رصاص ، و رجل واقف بينهما يغرف من الرصاص ،

يفرغ في الذهب ، فلا الرصاص ينقص منه ، و لا الذهب يمتلي .

فقال عليه السلام : رؤياك هذه تدلّ على آخر الزمان أما الثيران السمان الّتي تشرب ألبان العجاجيل الهزال . فإنّها سلاطينهم يأخذون أموال الفقراء و المساكين ليستغنوا . فلا يستغنون أبدا ، و أما الدوابّ الّتي لكلّ واحدة رأسان تأكل بهما و لا تروث فإنّها أغنياء آخر الزمان يجمعون المال من حلال و حرام ،

و لا يخرجون الزكاة ، و أما الأحواض اليابسة فهم العلماء ، و أمّا الأخشبة الخضر فهي علومهم الّتي لا يعملون بها ، و أما المرضى الّذين يعودون الأصحّاء ، فإنّهم فقراء آخر الزمان يذهبون إلى الأغنياء يسألونهم ، فلا

-----------
( 1 ) البقرة : 279 .

[ 179 ]

يعطونهم شيئا ، و ذلك أكبر المرض ، و أما الثوب المعلق من السماء إلى الأرض ،

فهو دين الإسلام طاهر مطهر بيّن ، فإذا كان آخر الزمان وقعت الأهواء و البدع بين الناس فترى مع كلّ واحد منهم شيئا من الإسلام يستتر به ، و أما الطائران اللّذان رأيتهما في بيت مظلم يتكلّمان بكلام فصيح أحدهما الوفاء ، و الآخر الأمانة . فإذا كان آخر الزمان قلّ الوفاء ، و قلّت الأمانة حتّى لا تبين ، و يكون مثل بيت مظلم فلا وفاء حينئذ و لا أمانة ، و أمّا الطاستان . فالرصاص الدنيا ، و الذهب الآخرة ، و الرجل الواقف بينهما ملك الموت يحمل من الدنيا إلى الآخرة يقبض الأرواح . فلا الدنيا تفنى ، و لا الآخرة تمتلي إلى الوقت المعلوم ، و هو القيامة .

يا جابر قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : ليأتينّ على الناس زمان تقصر فيه المروة ،

و تدقّ فيه الأخلاق ، و تستغني الرجال بالرجال ، و النساء بالنساء . فإذا كان كذلك فانتظروا العذاب 1 .