الخطبة ( 183 ) منها في صفة عجيب خلق أصناف من الحيوانات :
وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ اَلْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ اَلنِّعْمَةِ لَرَجَعُوا إِلَى اَلطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ وَ لَكِنِ اَلْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ اَلْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ أَ لاَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ سَوَّى لَهُ اَلْعَظْمَ وَ اَلْبَشَرَ اُنْظُرُوا إِلَى اَلنَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ اَلْبَصَرِ وَ لاَ بِمُسْتَدْرَكِ اَلْفِكَرِ كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا تَنْقُلُ اَلْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا مَكْفُولَةٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا لاَ يُغْفِلُهَا اَلْمَنَّانُ وَ لاَ يَحْرِمُهَا اَلدَّيَّانُ وَ لَوْ فِي اَلصَّفَا اَلْيَابِسِ وَ اَلْحَجَرِ اَلْجَامِسِ وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا وَ مَا فِي اَلْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا وَ مَا فِي اَلرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً فَتَعَالَى اَلَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ وَ لَمْ يُعِنْهُ فِي خَلْقِهَا قَادِرٌ وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ مَا دَلَّتْكَ اَلدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ اَلنَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ اَلنَّخْلَةِ لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ وَ غَامِضِ اِخْتِلاَفِ كُلِّ حَيٍّ وَ مَا اَلْجَلِيلُ وَ اَللَّطِيفُ وَ اَلثَّقِيلُ وَ اَلْخَفِيفُ وَ اَلْقَوِيُّ وَ اَلضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ وَ كَذَلِكَ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْهَوَاءُ وَ اَلرِّيَاحُ وَ اَلْمَاءُ فَانْظُرْ إِلَى اَلشَّمْسِ وَ اَلْقَمَرِ وَ اَلنَّبَاتِ وَ اَلشَّجَرِ وَ اَلْمَاءِ وَ اَلْحَجَرِ وَ اِخْتِلاَفِ هَذَا اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ اَلْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ اَلْجِبَالِ وَ طُولِ هَذِهِ اَلْقِلاَلِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اَللُّغَاتِ وَ اَلْأَلْسُنِ اَلْمُخْتَلِفَاتِ فَالْوَيْلُ لِمَنْ جَحَدَ
[ 91 ]
اَلْمُقَدِّرَ وَ أَنْكَرَ اَلْمُدَبِّرَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ وَ لاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا اِدَّعَوْا وَ لاَ تَحْقِيقٍ لِمَا أَوْعَوْا وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي اَلْجَرَادَةِ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ وَ أَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ وَ جَعَلَ لَهَا اَلسَّمْعَ اَلْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا اَلْفَمَ اَلسَّوِيَّ وَ جَعَلَ لَهَا اَلْحِسَّ اَلْقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ يَرْهَبُهَا اَلزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ وَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ حَتَّى تَرِدَ اَلْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِيَ مِنْهُ شَهَوَاتِهَا وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً فَتَبَارَكَ اَللَّهُ اَلَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً 4 11 13 : 15 وَ يَعْنُو لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً وَ يُلْقِي إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ سِلْماً وَ ضَعْفاً وَ يُعْطِي لَهُ اَلْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ أَحْصَى عَدَدَ اَلرِّيشِ مِنْهَا وَ اَلنَّفَسِ وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى اَلنَّدَى وَ اَلْيَبَسِ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ وَ أَنْشَأَ اَلسَّحَابَ اَلثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ اَلْأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا قول المصنف : « منها في صفة عجيب خلق أصناف من الحيوانات » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « من الحيوان » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 1 ، ثم المراد « بأصناف من الحيوان » النملة و الجرادة و الغراب و العقاب و الحمام و النعام .
-----------
( 1 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 13 : 55 ، لكن في شرح ابن ميثم 4 : 129 نحو المصرية .
[ 92 ]
ثم الخطبة التي فيها العنوان مما اختلفت النسخ في محلها كما صرح به ابن ميثم ، فنقلها ابن أبي الحديد و الكيذري بعد « المتقين » بخطب ، و غيرهما قبل « المتقين » بخطب 1 .
قوله عليه السّلام « و لو فكّروا » قال الجوهري : فكّروا و أفكروا و تفكّروا بمعنى واحد 2 .
« في عظيم القدرة » أي : قدرته العظيمة « و جسيم النعمة » أي : نعمته الجسيمة « لرجعوا إلى الطريق » أي : طريق الحقّ « و خافوا عذاب الحريق » أي :
جهنم .
« و لكن القلوب عليلة » لهم قلوب لا يفقهون بها 3 « و البصائر مدخولة » كذهب دخله الغشّ و لهم أعين لا يبصرون بها 4 .
« ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه » أي : جعله محكما لو لم تكن قلوبهم عليلة « و أتقن تركيبه » لو لم تكن بصائرهم مدخولة .
أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق اللَّه السماوات و الأرض و ما بينهما إلاّ بالحقّ و أجل مسمّى و إنّ كثيرا من الناس بلقاء ربّهم لكافرون 5 .
في ( الأهليلجة ) في جواب المفضل في كثرة الزنادقة لعمري ما أتى الجهال من قبل ربّهم و إنّهم ليرون الدلالات الواضحات و العلامات البيّنات في خلقهم ، و ما يعاينون من ملكوت السماوات و الأرض و الصنع العجيب المتقن الدال على الصانع ، و لكنهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي ، و سهّلوا
-----------
( 1 ) شرح ابن ميثم 3 ، 413 ، و شرح ابن أبي الحديد 10 : 132 و 13 : 55 .
-----------
( 2 ) صحاح اللغة 2 : 783 مادة ( فكر ) .
-----------
( 3 ) الاعراف : 179 .
-----------
( 4 ) المصدر السابق .
-----------
( 5 ) الروم : 8 .
[ 93 ]
لها سبيل الشهوات ، فغلبت الأهواء على قلوبهم و استحوذ الشيطان بظلمهم عليهم ، و كذلك يطبع اللَّه على قلوب المعتدين . و العجب من مخلوق يزعم أنّ اللَّه تعالى يخفى على عباده ، و هو يرى أثر الصنع في نفسه بتركيب يبهر عقله و تأليف يبطل حجّته ، و لعمري لو تفكّروا في هذه الامور العظام لعاينوا من أمر التركيب البيّن و لطف التدبير الظاهر ، و وجود الأشياء مخلوقة بعد أن لم تكن ،
ثمّ تحولها من طبيعة إلى طبيعة و صنيعة بعد صنيعة ، ما يدلّهم ذلك على الصانع ، فانّه لا يخلو شيء منها من أن يكون فيه أثر تدبير و تركيب يدلّ على أنّ له خالقا مدبّرا ، و تأليف تدبير يهدي إلى واحد حكيم 1 .
« و فلق » أي : شقّ « له السمع و البصر » و هو دليل كمال قدرته و حكمته « و سوّى له العظم و البشر » ظاهر الجلد و ما سوى العظم .
« انظروا إلى النملة في صغر جثتها » أي : جسدها « و لطافة هيئتها » أي :
صغرها « لا تكاد » أي : لا يقرب « تنال » أي : تصاب « بلحظ البصر » أي : دقيق النظر بمؤخّر العين « و لا بمستدرك الفكر » أي : و لا تنال خصوصيات النّملة بالفكر الذي يستدرك أشياء لا تنال بلحظ البصر .
« كيف دبّت » أي : جرت « على أرضها و صبّت على رزقها » هذه الكلمة في غاية الفصاحة ، كقوله تعالى : فصبّ عليهم ربّك سوط عذاب 2 . فالأصل في الصبّ صبّ الماء ، و النمل إذا استشمت بشمّها القوي ليس شمّ فوقه ، صبت أنفسها عليه كصب الماء على محل حتى يغمره و لا يبصر المحل ، و كذلك صب النمل أنفسها على قوت بحدّ لا يرى ذاك القوت .
« تنقل الحبة إلى جحرها » بتقديم الجيم : مسكن الحشرات تحت الأرض .
-----------
( 1 ) نقله المجلسي في البحار 3 : 152 .
-----------
( 2 ) الفجر : 13 .
[ 94 ]
قال : و لا ترى الضب بها ينجحر 1 .
و أما الحديث العامّي « إذا حاضت المرأة حرم الجحران » 2 فتشبيه ،
كقول الشاعر :
لنعم القوم في الأزمات قومي
بنو كعب إذا جحر الربيع 3
أي : إذا أدخل الربيع لعدم نزول المطر فيه ، الناس في مساكنهم ، كما تدخل الحشرات في جحراتها .
« و تعدها » بالضم من « أعده » أي : هيّأه « في مستقرها » تحت الأرض .
« تجمع في حرّها » أي : الصيف « لبردها » أي : الشتاء « و في ورودها » أي :
تجمع في ورودها جحرها أيام الشتاء « لصدرها » و خروجها أيام الصيف التي تكون الأرض يابسة .
ثم في جميع النسخ 4 « و في ورودها » لكن مقابل الصدر بفتحتين الورد بالكسر فالسكون . قال الجوهري : الورد خلاف الصدر 5 ، و قال ابن دريد :
الورد إتيان الماء ثم صار إتيان كلّ شيء وردا 6 ، و قال :
ردى ردى ورد قطاة صماء
و لو أرادت ورده لاستوردا 7
« مكفولة برزقها » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « مكفول » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 8 ، فهكذا كان النهج ، و لعل من جعله « مكفولة »
-----------
( 1 ) أورده اساس البلاغة : 52 مادة ( جحر ) .
-----------
( 2 ) رواه ابن الأثير في النهاية 1 : 240 مادة ( حجر ) .
-----------
( 3 ) أورده أساس البلاغة : 52 مادة ( جحر ) .
-----------
( 4 ) كذا في نهج البلاغة 2 : 116 ، و شرح ابن ميثم 4 : 129 ، لكن في شرح ابن أبي الحديد 13 : 55 ، « وردها » .
-----------
( 5 ) صحاح اللغة 1 : 546 مادة ( وردها ) .
-----------
( 6 ) جمهرة اللغة 3 : 433 .
-----------
( 7 ) قريب منه أورده في اساس البلاغة : 495 ، مادة ( ورد ) .
-----------
( 8 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 13 : 55 ، لكن في شرح ابن ميثم 4 : 129 « مكفولة » .
[ 95 ]
أراد التصحيح حيث ان المسند اليه النملة كقوله بعد « مرزوقة بوفقها » قال الشاعر :
أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سبد
« لا يغفلها المنّان » أي : المعطي المنعم كما في ( معاني الأخبار ) 1 .
و في خبر : إذا قال العبد « يا عظيم المنّ » أعطاه اللَّه يوم القيامة أمنيته و امنية الخلائق 2 .
« و لا يحرمها الديّان » أي : المجازي و المكافي « و لو في الصفا » أي : الصخرة الملساء ، يقال « ما تندي صفاته » « اليابس » و المراد المستحكم « و الحجر الجامس » أي : الجامد .
عن ( تفسير العياشي ) عن الصادق عليه السّلام : لمّا قال يوسف للذي نجا من صاحبي سجنه « اذكرني عند ربّك » أتاه جبرئيل فضرب برجله حتى كشط له عن الأرض السابعة ، فقال له : يا يوسف انظر ماذا ترى ؟ قال : أرى حجرا صغيرا ، ففلق الحجر ، فقال : ماذا ترى ؟ قال : أرى دودة صغيرة . قال : فمن رازقها ؟ قال : اللَّه . قال : فإن ربّك يقول لم أنس هذه الدودة في ذاك الحجر في قعر الأرض السابعة ، أظننت أنّي أنساك حتى تقول للفتى اذكرني عند ربّك ،
لتلبثنّ في السجن بمقالتك هذه بضع سنين الخبر 3 .
و في ( توحيد المفضّل ) : انظر الى النمل و احتشاده في جمع القوت و إعداده ، فانّك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحبّ إلى زبيتها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره ، بل للنمل في ذلك من الجد و التشمير ما ليس
-----------
( 1 ) قاله الصدوق في التوحيد : 212 لا معاني الاخبار .
-----------
( 2 ) جاء روايات قريبة منه في بحار الأنوار 93 : 223 باب 11 .
-----------
( 3 ) تفسير العياشي 2 : 177 ح 27 .
[ 96 ]
للناس مثله ، أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ، ثم يعمدون إلى الحبّ فيقطعونه قطعا لكيلا ينبت فيفسد عليهم ، فان أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتى يجفّ . ثم لا يتخذ النمل الزبية إلاّ في نشز من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها ، و كلّ هذا منه بلا عقل و لا روية بل خلقة خلق عليها لمصلحة من اللَّه عزّ و جلّ 1 .
و في ( حياة حيوان الدميري ) : و له في الإحتكار من الحيل ما أنّه إذا احتكر ما يخاف إنباته قسّمه نصفين ، ما خلا الكسفرة فإنّه يقسمها ارباعا لما ألهم من ان كل نصف منها ينبت ، و إذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض و نشره ، و أكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر 2 .
و قال ابن أبي الحديد : قال الجاحظ : و لها مع لطافة شخصها و خفّة وزنها في الشمّ و الإسترواح ما ليس لشيء فربما أكل الإنسان الجراد أو يشبهه فيسقط من يده واحدة أو صدر واحدة و ليس بقربه ذرة و لا له عهد بالذرّ في ذلك المنزل ، فلا يلبث أن تقبل ذرّة قاصدة إلى تلك الجرادة فترومها و تحاول نقلها و جرها إلى جحرها ، فإذا أعجزتها بعد أن تبلى عذرا مضت إلى جحرها راجعة ، فلا يلبث أن يجدها قد أقبلت و خلفها كالخيط الأسود الممدود ،
حتى يتعاون عليها فيحملنّها ، فأعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجامع ثم انظر إلى بعد الهمّة ، و الجرأة على محاولة نقل شيء في وزن جسمها مائة مرّة بل أضعاف أضعاف المائة ، و ليس شيء من الحيوان يحمل ما يكون أضعاف وزنه مرارا كثيرة غيره .
و من أعاجيب الذّرّة أنّها لا تعرض لجعل و لا جرادة و لا خنفساء و لا
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 111 .
-----------
( 2 ) حياة الحيوان 2 : 366 .
[ 97 ]
بنت وردان ما لم يكن بها خبل أو عقر أو قطع يد أو رجل ، فإن وجدت بها من ذلك أدنى علّة و ثبت عليها حتّى لو أن حيّة بها ضربة أو خدش ، ثم كانت من ثعابين مصر لو ثب عليها الذّرّ حتى يأكلها ، و لا تكاد الحيّة تسلم من الذرّ إذ كان بها أدنى عقر ، و قد عذّب اللَّه بالذرّ امما ، و أخرج أهل قرى من قراهم ، و أهل دروب من دروبهم .
و عذب عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي بأنواع العذاب ، فقيل له ان أردت أن لا يفلح أبدا فمرهم فلينفخوا في دبره النمل ، ففعلوا فلم يفلح بعدها .
و زعم البقطري أنّك لو أدخلت نملة في جحر ذرّ لأكلتها حتى تأتي عامتها .
و زعم ( صاحب المنطق ) أنّ الضبع تأكل النمل أكلا ذريعا ، و ربما أفسدت الأرضة منازلهم و أكلت كلّ شيء لهم ، فلا تزال كذلك حتى ينشأ في تلك القرى النّمل فيسلّط اللَّه تعالى ذلك النمل على تلك الأرضة حتى تأتي على آخرها .
و قد زعم بعضهم أن تلك الأرضة بأعيانها تستحيل نملا ، لأكل النمل لها و كان ثمامة يرى أنّ الذّرّ صغار النمل ، و نحن نراه نوعا آخر كالبقر و الجواميس .
و من أسباب هلاكه نبات أجنحته ، و يقتل النمل بأن يصبّ في أفواه بيوتها القطران و الكبريت الأصفر 1 .
« و لو فكّرت في مجاري أكلها في علوها » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :
« و في علوها » كما ( في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 « و سفلها » إنّما
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 58 63 .
-----------
( 2 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 13 : 55 ، لكن لم توجد الواو في شرح ابن ميثم 4 : 129 .
[ 98 ]
قال عليه السّلام « و في علوها و سفلها » لأنّها مخلوقة نصفين و بينهما اتصال .
و في ( تاريخ بغداد ) : قال مقاتل يوما سلوني عمّا دون العرش . فقال له رجل : أرأيت النملة أمعاؤها في مقدمها أو مؤخرها ، فبقي لا يدري ما يقول 1 .
« و ما في الجوف من شراسيف » أي : أطراف الأضلاع التي تشرف على البطن « بطنها » .
قال ابن أبي الحديد : الحكماء فانهم لا يثبتون للنمل شراسيف و لا أضلاعا و يجب إن صح قولهم أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على اعتقاد الجمهور و مخاطبة العرب بما تتخيّلة و تتوهمه حقّا 2 .
و نقل الخوئي كلام الدميري « ليس للنمل جوف ينفذ فيه الطعام و انما قوته إذا قطع الحب في استنشاق ريحه » . و قال : التجربة تشهد بخلافه ،
فشاهدنا كثيرا أنّ الذّرّ تجتمع على حبوبات ، و تأكلها حتّى تفنيها 3 .
« و ما في الرأس من عينها و اذنها » قال ابن أبي الحديد : لا يثبت الحكماء للنمل آذانا بارزة عن سطوح رؤوسها . و يجب إن صحّ ذلك أن نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على قوّة الإحساس بالأصوات ، فإنّه لا يمكن للحكماء إنكار وجود هذه القوّة للنمل 4 .
قلت : لو كانت لها آذان بارزة ، لكانت تلد كالخفّاش .
« لقضيت من خلقها عجبا » قال ابن أبي الحديد : ذكر الحكماء من عجائب النمل أشياء : منها أنّه لا جلد له ، و كذلك كلّ الحيوان المخرز ، و منها أنّه لا يوجد في صقلية نمل كبار أصلا ، و منها أنّ النمل بعضه ماش و بعضه طائر ، و منها
-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 13 : 166 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 63 .
-----------
( 3 ) شرح الخوئي 5 : 137 ، و حياة الحيوان 2 : 366 .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 63 .
[ 99 ]
أنّ حراقة النمل إذا اضيف إليها شيء من قشور البيض و ريش هدهد و علقت على العضد منعت من النوم 1 .
و قال الخوئي : قال الدميري : و من عجائب النمل اتخاذ القرية تحت الأرض و فيها منازل و دهاليز و غرف و طبقات معلّقات تملأها حبوبا و ذخائر للشتاء ، و منه ما يسمّى الذّرّ الفارسي و هو من النّمل بمنزلة الزنابير من النحل و منه ما يسمّى بنمل الأسد لأنّ مقدمه يشبه وجه الأسد و مؤخره يشبه النمل . و سمّيت النملة نملة لتنمّلها ، و هو كثرة حركتها و قلّة قوائمها .
و النمل لا يتزاوج و لا يتناكح ، انما يسقط منه شيء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيظا . حتى يتكوّن منه ، و يحفر قرية بقوائمه و هي ست و جعل فيها تعاريج لئلا يجري اليها المطر .
و روى الطبراني و الدارقطني : أنّه لمّا كلّم اللَّه تعالى موسى عليه السّلام كان يبصر دبيب النّملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ .
و قال البيهقي : كان عدي بن حاتم يفتّ الخبز لهن و يقول إنّهنّ جارات لهنّ علينا حقّ الجوار .
و يأتي في الوحش عن الفتح بن سخرب الزاهد انّه كان يفتّ الخبز لهنّ في كلّ يوم ، فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله .
و البيض كلّه بالضاد المعجمة الابيظ النمل فإنّه بالظاء 2 .
قلت : لم أر من ذكره غيره ، و انما في الجمهرة « البيظ » زعموا مستعمل و هو ماء الفحل و لا أدري ما صحته ، و قال قوم : ماء المرأة 3 .
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 63 .
-----------
( 2 ) شرح الخوئي 5 : 137 و 138 ، و حياة الحيوان 2 : 366 و 367 .
-----------
( 3 ) جمهرة اللغة 1 : 312 .
[ 100 ]
و في ( تفسير القمي ) : في قوله تعالى : حتى إذا أتوا على واد النمل 1 :
واد النمل ، واد ينبت الذهب و الفضة ، و قد و كلّ اللَّه به النمل لو رامه البخاتي من الإبل ما قدر عليه 2 .
و في ( حياة حيوان الدميري ) : إذا سحق بيظ النمل و طلى به موضع الشعر منع إنبات الشعر ، و إذا نثر بيظه بين قوم تفرّقوا شذر مذر ، و من سقى منه وزن درهم لم يملك أسفله ، و إن سدّت قريته بأخثاء البقر يهرب من مكانه و كذلك يفعل روث القط ، و إذا سدّ جحر النمل بحجر المغناطيس مات ، و إذا دقت الكراويا و جعلت في جحر النمل منعتهنّ الخروج و كذلك الكمون ، و إذا صبّ ماء السداب في قرية النمل قتله ، و ان علقت خرقة امرأة حائض حول شيء لم يقربه النمل ، و إذا أخذت سبع نملات طوال و تركتها في قارورة مملوة بدهن الزيبق و سددت رأسها و دفنتها في رمل يوما و ليلة ثم أخرج و صفى الدهن عنها ثمّ مسح به الإحليل هيّج الباه 3 .
هذا ، و في ( الكافي ) عنه عليه السّلام : يا معشر التجار الفقه ثمّ المتجر ، الفقه ثمّ المتجر ، الفقه ثمّ المتجر ، و اللَّه للربا في هذه الامّة أخفى من دبيب النمل على الصفا 4 .
و روى ( الخصال ) : أنّ النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم نهى عن قتل ستة ، النحلة و النملة و الضفدع و الصرد و الهدهد إلى أن قال و أمّا النملة فانّهم قحطوا على عهد سليمان فخرجوا يستسقون فإذا هم بنملة قائمة على رجليها مادة يدها إلى السماء و هي تقول « اللّهمّ إنّا خلق من خلقك لا غنى بنا عن فضلك فارزقنا من
-----------
( 1 ) النمل : 18 .
-----------
( 2 ) تفسير القمي 2 : 126 .
-----------
( 3 ) حياة الحيوان 2 : 370 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 4 ) الكافي 5 : 150 ح 1 .
[ 101 ]
عندك و لا تؤاخذنا بذنوب سفهاء ولد آدم » فقال سليمان عليه السّلام : ارجعوا إلى منازلكم فإنّه تعالى قد سقاكم بدعاء غيركم 1 .
و روى ( عقاب الأعمال ) عن الصادق عليه السّلام : إنّ المتكبّرين يجعلون في صورة الذّرّ يتوطأهم الناس حتى يفرغ اللَّه من الحساب 2 .
و في ( الأغاني ) : كان لهارون خدم صغار يسمّيهم النّمل ، يتقدّمونه و بأيديهم قسي البندق يرمون بها من يعارضه في طريقه 3 4 .
« و لو ضربت في مذاهب فكرك » يمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى :
و إذا ضربتم في الأرض 5 أي : سرتم ، و ان يكون من قبيل قول ذي الرمة :
ليالي اللهو تطبيني فاتبعه
كأنني ضارب في غمرة لعب 6
أي : سابح « لتبلغ غاياته » أي : لتصل إلى حدّ هو منتهى ما يمكن أن يصل إليه فكرك « ما دلّتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النّملة » أي : خالقها الإبتدائي .
و عن ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السموات و الأرض 7 حتى أتاني اعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما أنا فطرتها أي : أنا ابتدأتها 8 « هو فاطر النخلة » .
في ( توحيد المفضل ) : فكّر في النخل ، فانّه لمّا صار فيه إناث تحتاج إلى
-----------
( 1 ) الخصال 1 : 326 ح 18 .
-----------
( 2 ) عقاب الأعمال : 265 ح 10 .
-----------
( 3 ) لم أجده في الأغاني .
-----------
( 4 ) أسقط الشارح هنا فقرات « و لقيت من وصفها تعبا . . . و لم يعنه في خلقها قادر » .
-----------
( 5 ) النساء : 101 .
-----------
( 6 ) أورده لسان العرب 1 : 549 مادة ( ضرب ) .
-----------
( 7 ) الانعام : 14 و مواضع اخرى .
-----------
( 8 ) اخرجه أبو عبيد في فضائله ، و عبد بن حميد ، و ابن المنذر ، و ابن ابي حاتم ، و البيهقي في الشعب ، عنهم الدر المنثور 5 : 244 .
[ 102 ]
التلقيح جعلت فيه ذكورة اللقاح ، فصار الذكر من النخل بمنزلة الذّكر من الحيوان الذي يلقّح الإناث لتحمل . تأمّل خلقة الجذع كيف هو ، فانك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى و أخرى معه معترضة كاللحمة كنحو ما ينسج بالأيدي و ذلك ليشتدّ و يصلب ، و لا يتقصف من حمل القنوان الثقيلة و هزّ الرياح العواصف إذا صار نخلة ، و ليتهيأ للسقوف و الجسور و غير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا ، و كذلك ترى الخشب مثل النسج ، فانك ترى بعضه متداخلا بعضا كتداخل أجزاء اللحم ، و فيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات ، فانّه لو كان مستحصفا كالحجارة لم يكن أن يستعمل في السقوف و غير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب و الأسرّة و التوابيت و ما أشبه ذلك .
و من جسيم المصالح في الخشب أنّه يطفو على الماء ، فكلّ الناس يعرف هذا منه و ليس كلّهم يعرف جلالة الأمر فيه ، فلولا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن و الأظراف تحمل أمثال الجبال من الحمولة ، و أنّى كان ينال الناس هذا الرفق و خفّة المؤنة في حمل التجارات من بلد إلى بلد ، و كانت تعظم المؤنة عليهم في حملها حتى يلفى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقود أصلا أو عسر وجوده 1 .
قال الشارح : و من عظيم الحكمة في الخشب عدم تأثّره من الكهرباء الذي استخدمه البشر الذي سخّر تعالى له ما في السماوات و الأرض في هذه الاعصار و منعه من تأثيره حتى لا يتلف الإنسان و الحيوان ، و لولاه لما استفيد كما ينبغي من هذه النعمة الجليلة .
قال عليه السّلام : تأمل يا مفضل الحكمة في خلق الشجر و أصناف النبات ،
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 162 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 103 ]
فانّها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان و لم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان و لا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت اصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء فتؤديه إلى الأغصان و ما عليها من الورق و الثمر ،
فصارت الأرض كالام المربية لها ، و صارت اصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغذاء كما ترضع أصناف الحيوان امهاتها . ألم تر إلى عمد الفساطيط و الخيم كيف تمدّ بالأطناب من كلّ جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط و لا تميل ، فهكذا تجد النبات كلّه له عروق منتشرة في الأرض ، ممتدة إلى كلّ جانب لتمسكه و تقيمه ، و لو لا ذلك كيف كان يثبت هذا النخل الطوال و الدوح العظام في الريح العاصف ؟ فانظر الى حكمة الخلقة كيف سبقت حكمة الصناعة ، فصارت الحيلة التي تستعملها الصناع في ثبات الفساطيط و الخيم متقدمة في خلق الشجر ، فالصناعة مأخوذة من الخلقة .
تأمل يا مفضل خلق الورق ، فانك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع ، فمنها غلاظ ممتدة في طولها و عرضها ، و منها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا معجما ، و لو كان مما يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عام كامل ، و لا حتيج إلى آلات و حركة و علاج و كلام ، فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال و السهل و بقاع الأرض كلّها بلا حركة و لا كلام إلاّ بالإرادة النافذة في كلّ شيء و الأمر المطاع . و اعرف مع ذلك العلة في تلك العروق الدقاق ،
فانها جعلت تتخلل الورقة بأسرها و توصل الماء اليها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن لتوصل الغذاء الى كلّ جزء منه ، و في الغلاظ منها معنى آخر ، فانّها تمسك الورقة بصلابتها و متانتها لئلا تنتهك و تتمزّق ،
فترى الورقة شبيهة بورقة معمولة بالصنيعة من خرق قد جعلت فيها عيدان ممدودة في طولها و عرضها للتماسك فلا تضرب ، فالصناعة تحكي الخلقة
[ 104 ]
و ان كانت لا تدركها على الحقيقة .
فكّر في هذا العجم و النوى و العلّة فيه ، فإنّه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقام الغرس إن عاق دون الغرس عائق ، كما يحرز الشيء النفيس الذي يعظم الحاجة إليه في مواضع ، فإن حدث على الذي في بعض المواضع منه حادث وجد في موضع آخر ، ثم هو بعد يمسك بصلابته رخاوة الثمار و رقتها ، و لو لا ذلك لتشدّخت و تفسخت و أسرع اليها الفساد ، و بعض العجم يؤكل و يستزج دهنه فيستعمل فيه ضروب من المصالح ، و قد تبين لك بما قلت موضع الارب في العجم و النوى .
فكّر الآن في هذا الذي تجده فوق النواة من الرطبة و فوق العجم من العنبة ، فما العلّة فيه و لماذا يخرج في هذه الهيئة ، و قد كان يمكن أن يكون مكان ذلك ما ليس فيه مأكل ، كمثل ما يكون في السدر و الدلب و ما أشبه ذلك ، فلم صار يخرج فوقه هذه المطاعم اللذيذة ، الا ليستمتع بها الانسان ؟
فكّر في ضروب من التدبير في الشجر ، فانك تراه يموت في كلّ سنة موتة فتحتبس الحرارة الغريزية في عوده و يتولّد فيه مواد الثمار ، ثم يحيى و ينتشر فيأتيك بهذه الفواكه نوعا بعد نوع ، كما يقدم إليك أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحدا بعد واحد ، فترى الأغصان في الأشجار تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد ، و ترى الرياحين تتلقاك في أفنانها كأنها تجيئك بأنفسها ، فلمن هذا التقدير إلاّ لمقدّر حكيم ؟ و ما العلّة فيه إلا تفكيه الإنسان بهذه الثمار و الأنوار ، و العجب من اناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المنعم بها .
و اعتبر بخلق الرمانة و ما ترى فيها من أثر العمد و التدبير ، فانك ترى فيها كأمثال التلال من شحم مركوم في نواحيها و حبّ مرصوف صفا كنحو ما ينضد بالأيدي ، و ترى الحب مقسوما أقساما ، و كلّ قسم منها ملفوفا بلفائف
[ 105 ]
من حجب منسوجة أعجب النسج و ألطفه و قشره يضم ذلك كلّه فمن التدبير في هذه الصنعة انّه لم يكن يجوز أن يكون حشو الرمانة من الحبّ وحده ،
و ذلك ان الحب لا يمد بعضه بعضا ، فجعل ذلك الشحم خلال الحب ليمدّه بالغذاء . ألا ترى أنّ اصول الحبّ مركوزة في ذلك الشحم ، ثم لف بتلك اللفائف لتضمه و تمسكه فلا يضطرب ، و غشي فوق ذلك بالقشرة المستحصفة لتحصنه و تصونه من الآفات . و هذا قليل من كثير من وصف الرمانة و فيه أكثر ، و هذا لمن أراد الإطناب و التذرع في الكلام ، و لكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة و الاعتبار .
فكّر يا مفضل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من الدباء و القثاء و البطيخ و ما في ذلك من التدبير و الحكمة ، فانه حين قدّر أن يحمل مثل هذه الثمار جعل نباته منبسطا على الأرض ،
و لو كان ينتصب قائما كما ينتصب الزرع و الشجر لما استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة ، و لتقصف قبل إدراكها و انتهائها إلى غاياتها .
فانظر كيف صار يمتد على وجه الأرض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه ،
فترى الأصل من القرع و البطيخ مفترشا للأرض و ثماره مبثوثة عليها و حواليه كأنّه هرّة ممتدة و قد اكتنفتها أجراؤها لترضع منه ،
و انظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمّارة القيظ و وقدة الحر ، فتلقاها النفوس بانشراح و تشوّق اليها ، و لو كانت توافي في الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها و اقشعرارا منها مع ما يكون فيها من المضرّة للأبدان ألا ترى أنّه ربما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع
[ 106 ]
من أكل ما يضرّه و يسقم معدته 1 2 .
« و غامض اختلاف كلّ حي » في ( توحيد المفضل ) : فكّر في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان و في خلقها على ما هي عليه مما فيه صلاح كلّ واحد منها ،
فالإنس لما قدّر أن يكونوا ذوي ذهن و فطنة و علاج بمثل هذه الصناعات من البناء و التجارة و الصياغة و الخياطة و غير ذلك ، خلقت لهم أكفّ كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا من القبض على الأشياء و أوكدها هذه الصناعات . و أما آكلات اللحم لما قدّر أن يكون معائشها من الصيد خلقت لهم أكف لطاف مدمجة ذوات براثن و مخالب تصلح لأخذ الصيد و لا تصلح للصناعات ،
و آكلات النبات لما قدّر أن يكن لا ذوات صنعة و لا ذوات صيد خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت طلب الرعي و لبعضها حوافر ململمة ذوات قعر كأخمص القدم تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب و الحمولة .
تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات أسنان حداد و براثن شداد و أشداق و أفواه واسعة ، فانّه لما قدّر أن يكون طعمها اللحم خلقت خلقة تشاكل ذلك ، و أعينت بسلاح و أدوات تصلح للصيد ، و كذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير و مخاليب مهيّأة لفعلها .
و لو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد اعطيت ما لا تحتاج إليه لأنّها لا تصيد و لا تأكل اللحم ، و لو كانت السباع ذوات أظلاف كانت منعت ما تحتاج إليه أعني السلاح الذي تصيد به و تعيش أفلا ترى كيف اعطي كلّ واحد من الصنفين ما يشاكل كلّ طبعه بل ما فيه صلاحه و بقاؤه انظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا لتتهيأ للمشي ، و لو كانت
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 160 و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) اسقط الشارح هنا فقرة « لدقيق تفصيل كلّ شيء » .
[ 107 ]
افرادا لم يصلح لذلك ، لأن الماشي ينقل قوائمه يعتمد على بعض ، فذو القائمتين ينقل واحدة و يعتمد على واحدة ، و ذو الأربع ينقل اثنتين و يعتمد على اثنتين . و ذلك من خلاف ، لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه و يعتمد على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض ، فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره و ينقل الأخيرتين أيضا من خلاف فيثبت على الأرض و لا يسقط إذا مشى .
أما ترى الحمار كيف يذلّ للطحن و الحمولة و هو يرى الفرس مودعا منعما ، و البعير لا يطيقه عدّة رجال لو استعصى ، كيف كان ينقاد للصبي ؟
و الثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه و يحرث به ؟ و الفرس الكريم يركب السيوف و الأسنة بالمواتاة لفارسه ، و لقطيع من الغنم يرعاه واحد و لو تفرّقت الغنم فأخذ كلّ واحد منها في ناحية لم يلحقها ،
و كذلك جميع الأصناف المسخّرة للإنسان ، فبم كانت كذلك إلاّ أنّها عدمت العقل و الرويّة ؟ فإنّها لو كانت تعقل و تتروى في الامور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه ، حتى يمتنع الجمل على قائدة ، و الثور على صاحبه ، و تتفرّق الغنم عن راعيها و أشباه هذا من الامور .
و كذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل و روية فتوازرت على الناس كانت خليقة أن تجتاحهم ، فمن كان يقوم للأسد و الذئاب و النمور و الدببة لو تعاونت و تظاهرت على الناس ؟ أفلا ترى كيف حجر ذلك عليها و صارت مكان ما كان يخاف من أقدامها و نكايتها تهاب مساكن الناس و تحجم عنها ، ثم لا تظهر و لا تنتشر لطلب قوتها إلاّ بالليل ، فهي مع صولتها كالخائف من الإنس بل مقموعة ممنوعة منهم ، و لو كان غير ذلك لساورتهم في مساكنهم و ضيّقت عليهم .
ثم جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه و محاماة عنه و حافظ له ، ينتقل على الحيطان و السطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل
[ 108 ]
صاحبه و ذبّ الذعار عنه ، و يبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه و دون ماشيته و ماله ، و يألفه غاية الألف حتى يصبر معه على الجوع و الجفوة ، فلم طبع الكلب على هذه الألفة و المحبّة إلاّ ليكون حارسا للإنسان عينا أي جاسوسا له بأنياب و مخاليب و نباح هائل ليذعر منه السارق و يتجنب المواضع التي يحميها و يخفرها ؟
يا مفضل تأمّل وجه الدابّة كيف هو ؟ فانّك ترى العينين شاخصتين أمامها لتبصر ما بين يديها لئلا تصدم حائطا أو تتردّى في حفرة ، و ترى الفم مشقوقا شقّا في أسفل الخطم ، و لو شق كمكان الفم من الانسان في مقدم الذقن لما استطاع أن يتناول به شيئا من الأرض . ألا ترى أنّ الانسان لا يتناول الطعام بفيه و لكن بيده تكرمة له على سائر الآكلات ، فلمّا لم يكن للدابة يد تتناول بها العلف جعل خرطومها مشقوقا من أسفله ليقبض على العلف ثمّ تقضمه ، و اعينت بالجحفلة لتتناول بها ما قرب و ما بعد 1 .
اعتبر بذنبها و المنفعة لها فيه ، فإنّه بمنزلة الطبق على الدبر و الحياء جميعا يواريهما و يسترهما ، و من منافعها فيه أن ما بين الدبر و مراقي البطن منها و ضر يجتمع عليها الذباب و البعوض ، فجعل لها الذنب كالمذبة تذب بها عن تلك المواضع . و منها : أنّ الدابة تستريح إلى تحريكه و تصريفه يمنة و يسرة ، فانه لما كان قيامها على الأربع بأسرها و شغلت المقدمتان بحمل البدن عن التقلب و التصرف كان لها في تحريك الذنب راحة . و فيه منافع اخرى يقصر عنها الوهم فيعرف موقعها في وقت الحاجة إليها ، فمن ذلك ، أنّ الدابة ترتطم في الوحل فلا يكون شيء أعون على نهوضها من الأخذ بذنبها ، و في شعر الذنب منافع للناس كثيرة يستعملونها في مآربهم ، ثم جعل ظهرها
-----------
( 1 ) الجحفلة : للحافر كالشفة للإنسان .
[ 109 ]
مسطحا مبطحا على قوائم أربع ليتمكن من ركوبها ، و جعل حياءها بارزا من ورائها ليتمكن الفحل من ضربها ، و لو كان أسفل البطن كما كان الفرج من المرأة لم يتمكن الفحل منها . ألا ترى انّه لا يستطيع أن يأتيها كفاحا 1 كما يأتي الرجل المرأة فكّر في خلق الزرافة و اختلاف أعضائها و شبهها بأعضاء أصناف من الحيوان ، فرأسها رأس فرس و عنقها عنق جمل و أظلافها أظلاف بقرة و جلدها جلد نمر ، و زعم ناس من الجهّال باللَّه عزّ و جلّ أن نتاجها من فحول شتى ، قالوا و سبب ذلك : إنّ أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة و ينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى ، و هذا جهل من قائله و قلّة معرفة بالباري جلّ قدسه ، و ليس كلّ صنف من الحيوان يلقح كلّ صنف ، فلا الفرس يلقح الجمل و لا الجمل يلقح البقر ، و إنّما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله و يقرب من خلقه ، كما يلقح الفرس الحمار فيخرج بينهما البغل ، و يلقح الذئب الضبع فيخرج بينهما السمع . على انّه ليس يكون في الذي يخرج بينهما عضو كلّ واحد منهما كما في الزرافة عضو من الفرس و عضو من الجمل و أظلاف من البقرة بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما ، كالذي تراه في البغل فإنّك ترى رأسه و اذنيه و كفله و ذنبه و حوافره وسطا بين هذه الأعضاء من الفرس و الحمار ،
و شحيحه كالممتزج من صهيل الفرس و نهيق الحمار . فهذا دليل على أنّ الزرافة ليست من لقاح أصناف شتى من الحيوان كما زعم الجاهلون ، بل هي خلق عجيب من خلق اللَّه للدلالة على قدرته التي لا يعجزها شيء ، و يعلم أنّه تعالى خالق أصناف الحيوان كلّها ، يجمع بين ما يشاء من أعضائها في أيّها
-----------
( 1 ) أي مستقبلا
[ 110 ]
شاء و يفرّق ما شاء منها في أيّها شاء ، و يزيد في الخلقة ما شاء و ينقص منها ما شاء ، دلالة على قدرته على الأشياء و انّه لا يعجزه شيء أراده جلّ و تعالى فأما طول عنقها و المنفعة لها في ذلك فإن منشأها و مرعاها في غياطل ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طولا في الهواء ، فهي تحتاج إلى طول العنق لتتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتقوت من ثمارها .
تأمل خلقة القرد و شبهه بالإنسان في كثير من أعضائه أعني الرأس و الوجه و المنكبين و الصدر و كذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء الإنسان ،
و خصّ مع ذلك بالذهن و الفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يؤمي إليه ،
و يحكي كثيرا مما يرى الإنسان يفعله ، حتى انّه يقرب من خلق الإنسان و شمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن يكون عبرة للإنسان في نفسه ، فيعلم أنّه من طينة البهائم و سنخها ، إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب ،
و أنّه لو لا فضيلة فضله بها في الذهن و العقل و النطق كان كبعض البهائم على أن في جسم القرد فضولا اخرى تفرّق بينه و بين الإنسان ، كالخطم و الذنب المسدل و الشعر المجلّل للجسم كلّه . و هذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان لو أعطي مثل ذهن الإنسان و عقله و نطقه ، و الفصل الفاصل بينه و بين الإنسان بالحقيقة هو النقص في العقل و الذهن و النطق .
انظر يا مفضل إلى لطف اللَّه جلّ اسمه بالبهائم كيف كسيت أجسامها هذه الكسوة من الشعر و الوبر و الصوف لتقيها من البرد و كثرة الآفات ،
و ألبست الأظلاف و الحوافر و الأخفاف لتقيها من الحفا ، إذ كانت لا أيدي لها و لا أكفّ و لا أصابع مهيأة للغزل و النسج ، فكفوا بأن جعل كسوتهم في خلقهم باقية عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى تجديدها و الاستبدال بها ، فأما الإنسان فإنّه ذو حيلة و كفّ مهيأة للعمل ، فهو ينسج و يغزل و يتّخذ لنفسه الكسوة و يستبدل بها حالا بعد حال ، و له في ذلك صلاح من جهات : من ذلك أنّه يشتغل
[ 111 ]
بصنعته اللباس عن العبث و ما تخرجه إليه الكفاية ، و منها أنّه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء و لبسها إذا شاء ، و منها أن يتخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال و روعة فيتلذذ بلبسها و تبديلها ، و كذلك يتخذ بالرفق من الصنعة ضروبا من الخفاف و النعال يقي بها قدميه ، و في ذلك معائش لمن يعمله من الناس و مكاسب يكون فيها معائشهم ، و منها أقواتهم و أقوات عيالهم ، فصار الشعر و الوبر و الصوف تقوم للبهائم مقام الكسوة و الأظلاف و الحوافر و الأخفاف مقام الحذاء 1 .
« و ما الجليل و اللطيف و الثقيل و الخفيف و القوي و الضعيف في خلقه إلاّ سواء » في اشتمال الكل على حكم لا تعدو كشف الجميع عن مدبر قادر ، قال تعالى : الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى 2 .
و في ( توحيد المفضل ) : تأمّل وجه الذرة الحقيرة الصغيرة هل تجد فيها نقصا عمّا فيه صلاحها ، فمن أين هذا التقدير و الصواب : في خلق الذرة إلا من التدبير القائم في صغير الخلق و كبيره . فكّر يا مفضل في هذه الأشياء التي تراها موجودة معدة في العالم من مآربهم ، فالتراب للبناء ، و الحديد للصناعات ، و الخشب للسفن و غيرها ، و الحجارة للارحاء و غيرها ، و النحاس للأواني ، و الذهب و الفضة للمعاملة و الذخيرة ، و الحبوب للغذاء ، و الثمار للتفكّه ، و اللحم للمأكل ، و الطيب للتلذذ ، و الأدوية للتصحّح ، و الدواب للحمولة ،
و الحطب للتوق ، و الرماد للكلس ، و الرمل للأرض و كم عسى أن يحصي المحصي من هذا و شبهه . أرأيت لو أن داخلا دخل دارا فنظر إلى خزائن مملوّة من كل ما يحتاج إليه الناس و رأى ما فيها مجموعا معدّا لأسباب معروفة ،
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 96 107 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) طه : 50 .
[ 112 ]
أكان يتوهم ان مثل هذا يكون بالإهمال و من غير عمد ، فكيف يستجيز قائل أن يكون هذا من صنع الطبيعة في العالم و ما أعد فيه من هذه الأشياء ؟
اعتبر يا مفضل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان و ما فيها من التدبير ، فإنّه خلق له الحبّ لطعامه و كلّف طحنه و عجنه و خبزه ، و خلق له الوبر لكسوته فكلّف ندفه و غزله و نسجه ، و خلق له الشجر فكلّف غرسها و سقيها و القيام عليها ، و خلقت له العقاقير لأدويته فكلّف لقطها و خلطها و صنعها ، و كذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال . فانظر كيف كفي الخلقة التي لم يكن عنده فيها حيلة و ترك عليه في كلّ شيء من الأشياء موضع عمل و حركة لما له في ذلك من الصلاح ، لأنّه لو كفي هذا كلّه حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل و عمل لما حملته الأرض أشرا و بطرا ، و لبلغ به ذلك إلى أن يتعاطى امورا فيها تلف نفسه ، و لو كفي الناس كلّ ما يحتاجون إليه لما تهنّأوا بالعيش و لا وجدوا له لذّة ، ألا ترى لو أن امرءا نزل بقوم فأقام حينا بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم و مشرب و خدمة لتبرم بالفراغ و نازعته نفسه إلى التشاغل بشيء فكيف لو كان عمره مكفيا لا يحتاج إلى شيء ، فكان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان ان جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة ،
و لتكفه عن تعاطي ما لا يناله ، و لا خير فيه إن ناله 1 ؟
« و كذلك السماء » في ( توحيد المفضل ) : فكّر في لون السماء و ما فيه من صواب التدبير ، فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة و تقوية للبصر ، حتى ان من صفات الأطباء لمن أصابه شيء أضرّ ببصره إدمان النظر إلى الخضرة و ما قرب منها إلى السواد ، و قد وصف الحذّاق منهم لمن كلّ بصره الإطلاع في أجانة خضراء مملوّة ماء ، فانظر ، كيف جعل اللَّه تعالى أديم السماء بهذا اللون
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 111 و 85 و 86 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 113 ]
الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المتقلبة عليه فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها له ، فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر و الروية و التجارب يوجد مفروغا منه في الخلقة ، حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون ، و يفكّر فيها الملحدون ، قاتلهم اللَّه أنّى يؤفكون 1 .
« و الهواء » في ( توحيد المفضل ) بعد ذكر حكمة كثرة ماء البحار و هكذا الهواء لو لا كثرته و سعته لاختنق هذا الأنام من الدخان و البخار الذي يتحيّر فيه و يعجز عمّا يحول إلى السحاب و الضباب أولا أولا 2 .
« و الرياح » في ( توحيد المفضل ) : انبّهك على الريح و ما فيها ، ألست ترى إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس و يمرّض الأصحاء و ينهك المرضى و يفسد الثمار و يعفن البقول و يعقب الوباء في الأبدان و الآفة في الغلات ؟ ففي هذا بيان أن هبوب الرياح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق ، و أنّبئك عن الهواء بخلّة اخرى ، فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك الأجسام في الهواء و الهواء يؤدّيه إلى المسامع ، و النّاس يتكلّمون في حوائجهم و معاملاتهم طول نهارهم و بعض ليلهم ، فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء كما تبقى الكتابة في القرطاس لأمتلأ العالم منه ، فكان يكربهم و يفدحهم ، و كانوا يحتاجون في تجديده و الاستبدال به إلى أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس ، لأن ما يلفظ من الكلام أكثر مما يكتب ، فجعل الخلاّق الحكيم جلّ اسمه هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم حاجتهم ثم يمحى فيعود جديدا نقيّا ، و يحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع ، و حسبك بهذا النسيم المسمّى هواء عبرة و ما فيه من المصالح ، فانّه حياة هذه الأبدان ،
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 127 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) توحيد المفضل : 146 .
[ 114 ]
و الممسك لها من داخل بما يستنشق منه من خارج بما يباشر من روحه ، و فيه تطرد هذه الأصوات فيؤدي البعد البعيد ، و هو الحامل لهذه الأرواح ينقلها من موضع إلى موضع . ألا ترى ، كيف تأتيك الرائحة من حيث تهبّ الريح ؟ فكذلك الصوت ، و هو القابل لهذا الحر و البرد اللذين يتعاقبان على العالم لصلاحه ،
و منه هذه الريح الهابة ، فالريح تروّح عن الأجسام ، و تزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعمّ نفعه حتى يستكثف فيمطر ، و تفضّه حتى يستخف فيتفشى ، و تلقح الشجر و تسيّر السفن و ترخي الأطعمة و تبرّد الأطعمة و تشبّ النار و تجفف الأشياء النديّة .
و بالجملة إنّها تحيي كلّ ما في الأرض ، فلو لا الريح لذوي النبات و لمات الحيوان و حمت الأشياء و فسدت 1 .
« و الماء » فيه : إعلم أنّ رأس معاش الإنسان الخبز و الماء ، فانظر كيف دبّر الأمر فيهما ، فإنّ حاجة الإنسان إلى الماء أشدّ من حاجته إلى الخبز ، و ذلك ان صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش ، و الذي يحتاج إليه من الماء أكثر مما يحتاج إليه من الخبز ، لأنّه يحتاج إليه لشربه و وضوئه و غسله و غسل ثيابه و سقي أنعامه و زرعه ، فجعل الماء مبذولا لا يشترى ليسقط عن الإنسان المؤنة في طلبه و تكلّفه ، و جعل الخبز متعذّرا لا ينال إلاّ بالحيلة و الحركة ليكون للإنسان شغل يكفّه عمّا يخرجه إليه الفراغ من الأشر و العبث .
ألا ترى أن الصبي يدفع الى المؤدّب و هو طفل لم يكمل ذاته للتعليم كلّ ذلك ليشتغل عن اللعب و العبث اللذين ربّما جنيا عليه و على أهله المكروه العظيم ،
و هكذا الإنسان لو خلا من الشغل يخرج من الأشر و البطر إلى ما يعظم ضرره عليه و على من قرب منه ، و اعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة ، و رفاهية العيش
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 140 142 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 115 ]
و الترفّه و ما يخرجه ذلك إليه 1 .
« فانظر إلى الشمس » فيه : فكّر يا مفضل في طلوع الشمس و غروبها لإقامة دولتي النهار و الليل ، فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه ، فلم يكن الناس يسعون في معائشهم و يتفرّقون في امورهم و الدنيا مظلمة عليهم ، و لم يكونوا يتهنّون بالعيش مع فقدهم لذّة النور و روحه ، و الارب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الإطناب في ذكره و الزيادة في شرحه . بل تأمل المنفعة في غروبها فلولا غروبها لم يكن للناس هدء و لا قرار مع عظيم حاجتهم إلى الهدء و الراحه لسكون أبدانهم و جموم حواسهم ، و انبعاث القوة الهاضمة لهظم الطعام ، و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء . ثم كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل و مطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم ، فان كثيرا من الناس لو لا جثوم هذا الليل بظلمته عليهم لم يكن لهم هدء و لا قرار ،
حرصا على الكسب و الجمع و الادّخار .
ثم كانت الأرض تستحم بدوام الشمس بضيائها و يحمى كلّ ما عليها من حيوان و نبات ، فقدرها اللَّه بحكمته و تدبيره تطلع وقتا و تغرب وقتا ، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدؤا و يقرّوا ، فصار النور و الظلمة مع تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و قوامه .
ثم فكّر بعد هذا في ارتفاع الشمس و انحطاطها ، لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة ، و ما في ذلك من التدبير و المصلحة ، ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر و النبات فيتولد فيهما مواد الثمار ، و يتكثّف الهواء فينشأ منه السحاب و المطر ، و يشتدّ أبدان الحيوان و تقوى ، و في الربيع تتحرّك
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 87 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 116 ]
و تظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات و تنور الأشجار و يهيج الحيوان للسفاد ، و في الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار و تتحلّل فضول الأبدان و يجفّ وجه الأرض فتتهيّأ للبناء و الأعمال ، و في الخريف يصفوا الهواء و ترتفع الأمراض و يصحّ الأبدان و يمتدّ الليل فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله و يطيب الهواء فيه إلى مصالح اخرى لو تقصيت لذكرها لطال فيها الكلام .
فكّر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة و ما في ذلك من التدبير ، فهو الدور الذي تصحّ به الأزمنة الأربعة من السنة ، الشتاء و الربيع ، و الصيف ، و الخريف و يستوفيها على التمام . و في هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات و الثمار و تنتهي إلى غاياتهم ، ثم تعود فيستأنف النشو و النمو . ألا ترى أن السنة مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل ،
فبالسنة و أخواتها يكال الزمان من لدن خلق اللَّه تعالى العالم إلى كلّ وقت و عصر من غابر الأيام ، و بها يحسب النّاس الأعمار و الأوقات المؤقتة للديون و الإجارات و المعاملات ، و غير ذلك من امورهم ، و بمسير الشمس تكمل السنة و يقوم حساب الزمان على الصحّة .
انظر الى شروقها على العالم ، كيف دبّر أن يكون ؟ فإنّها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها و منفعتها إلى كثير من الجهات ، لأن الجبال و الجدران كانت تحجبها عنها ، فجعلت تطلع في أول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب ، ثم لا تزال تدور و تغشي جهة بعد جهة حتى تنتهي الى المغرب فتشرق على ما استتر عنها في أوّل النّهار ، فلا يبقى موضع من المواضع إلاّ أخذ بقسطه من المنفعة و الأرب التي قدّرت له ، و لو تخلفت مقدار عام أو بعض عام كيف يكون حالهم بل كيف يكون لهم مع ذلك بقاء ؟ أفلا ترى كيف كان يكون للناس هذه الامور الجليلة
[ 117 ]
التي لم يكن عندهم فيها حيلة ، فصارت تجري على مجاريها لا تتخلّف عن مواقيتها لصلاح العالم و ما فيه بقاؤه 1 .
« و القمر » فيه : استدل بالقمر ، ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور و لا يقوم عليه حساب السنة ، لأن دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة و نشوء الثمار 2 .
« و النبات و الشجر » فيه : فكّر يا مفضل في هذا النبات و ما فيه من ضروب المآرب : فالثمار للغذاء ، و الأتبان للعلف ، و الحطب للوقود ، و الخشب لكلّ شيء من أنواع التجارة و غيرها ، و اللحاء و الورق و الأصول و العروق و الصموغ لضروب من المنافع . أرأيت لو كنّا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على الأرض ، و لم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها ، كم يدخل علينا من الخلل في معاشنا ؟ و ان كان الغذاء موجودا فان المنافع بالخشب و الحطب و الأتبان و ساير ما عددناه كثيرة عظيم قدرها جليل موقعها . هذا مع ما في النبات من التلذّذ بحسن منظره و نضارته التي لا يعدلها شيء من مناظر العالم و ملاهيه فكّر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع ، فصارت الحبّة الواحدة تخلف مائة حبة و أكثر و أقلّ ، و كان يجوز للحبة أن تأتي بمثلها ، فلم صارت تريع هذا الريع إلا ليكون في الغلة متسع لما يرد في الأرض من البذر ،
و ما يتقوّت الزراع إلى ادراك زرعها المستقبل ؟ ألا ترى انّ الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم و ما يقوتهم إلى إدراك زرعهم فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدم في تدبير
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 128 131 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) توحيد المفضل : 131 .
[ 118 ]
الحكيم ، فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت و الزراعة ،
و كذلك الشجر و النبت ، و النخل يريع الريع الكثير ، فإنّك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمرا عظيما ، فلم كان كذلك ، إلاّ ليكون فيه ما يقطعه الناس و يستعملونه في مآربهم و ما يرد فيغرس في الأرض ؟ و لو كان الأصل منه منفردا لا يفرخ و لا يريع لما أمكن أن يقطع منه شيء لعمل و لا لغرس ، ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله فلم يكن منه خلف .
تأمل يا مفضل نبات هذه الحبوب من العدس و الماش و الباقلاء و ما أشبه ذلك ، فانّها تخرج في أوعية مثل الخرائط لتصونها و تحجبها من الآفات إلى ان تشتدّ و تستحكم ، كما تكون المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه ،
و أمّا البرّ و ما أشبهه فانه يخرج مدرجا في قشور صلاب على رؤوسها أمثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفر على الزرع .
فان قال قائل : أو ليس قد ينال الطير من البرّ و الحبوب ؟ قيل له : بلى على هذا قدّر الأمر فيها ، لأنّ الطير خلق من خلق اللَّه تعالى ، و قد جعل اللَّه تعالى له فيما تخرج الأرض حظّا ، و لكن حصّنت الحبوب بهذه الحجب لئلا يتمكن الطير منها كلّ التمكّن فيعبث فيها و يفسد الفساد الفاحش ، فانّ الطير لو صادف الحبّ بارزا ليس عليه شيء تحول دونه ، لأكبّ عليه حتى ينسفه اصلا ، فكان يعرض من ذلك أن يبشم الطير فيموت و يخرج الزارع من زرعه صفرا ،
فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطير منه شيئا يتقوّت به و يبقى أكثره للإنسان ، فانّه أولى به إذ كان هو الذي كدح فيه ، و شقى به ، و كان الذي يحتاج إليه أكثر مما يحتاج إليه الطير .
فكّر في هذه العقاقير و ما خصّ به كلّ واحد منها من العمل في بعض الأدواء ، فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج ،
و هذا ينزف المرة السوداء مثل الافتيمون ، و هذا ينفي الرّياح مثل السكبينج ،
[ 119 ]
و هذا يحلّل الأورام و أشباه هذا من أفعالها . فمن جعل هذه القوى فيها إلاّ من خلقها للمنفعة ؟ و من فطّن الناس لها إلاّ من جعل هذا فيها ؟ و متى كان يوقف على هذا منها بالعرض و الإتفاق كما قال القائلون ؟ و هب أنّ الانسان فطن لهذه الأشياء بذهنه و لطيف رويّته و تجاربه ، فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحه إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ ، و بعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم ، و أشباه هذا كثير .
و لعلّك تشكّك في هذا النبات النابت في الصحاري و البراري حيث لا إنس و لا أنيس ، فتظنّ أنّه فضل لا حاجة إليه و ليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش و حبّه علف للطير و أفنانه حطب فيستعمله الناس ، و فيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان و اخرى تدبغ بها الجلود و اخرى تصبغ الأمتعة ، و أشباه هذا من المصالح . ألست تعلم أنّ من أخسّ النبات و أحقره هذا البردي و ما أشبهها ؟
ففيها مع هذا ضروب من المنافع ، فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك و السّوقة ، و الحصر التي يستعملها كلّ صنف من الناس ، و يعمل منه الغلف التي يوقّى بها الأواني ، و يجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب و تنكسر ، و أشباه هذا من المنافع .
و اعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق و كبيره و بماله قيمة و ما لا قيمة له ، و أخسّ من هذا و أحقره الزبل و العذرة التي اجتمعت فيها الخساسة و النجاسة معا ، و موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء ، حتى أنّ كلّ شيء من الخضر لا يصلح و لا يزكو إلاّ بالزبل و السماد الذي يستقذره الناس و يكرهون الدنو منه و اعلم انّه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته ، بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين ، و ربما كان الخسيس في سوق المكتسب ، نفيسا في سوق العلم ، فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته ، فلو فطن طالبوا الكيمياء
[ 120 ]
لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها 1 .
« و الماء و الحجر » الظاهر أنّه عليه السّلام أراد في الجمع بينهما أنّه تعالى خالق ما هو في اللينة كالماء ، و ما هو في الصلابة كالحجر ، فهو خالق الضدّين ، و لا يكون خلق الضدّين إلاّ عن كمال قدرة و عن تدبير حكيم لا خصوص الماء و الحجر .
« و اختلاف هذا الليل و النهار » مر الكلام في أصلهما ، و أما في مقدارهما فقد قال الصادق عليه السّلام للمفضل : فكّر في مقادير النّهار و الليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق ، فصار منتهى كلّ واحد منهما إذا امتدّ إلى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك . أفرأيت لو كان النهار مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة ،
ألم يكن في ذلك بوار كلّ ما في الأرض من حيوان و نبات . أما الحيوان فكان لا يهدأ و لا يقرّ طول هذه المدّة ، و البهائم ما كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النّهار ، و لا الإنسان كان يفتر عن العمل و الحركة ، و كان ذلك ينهكها أجمع و يؤدّيها إلى التلف ، و أما النّبات فكان عليه حرّ النّهار و وهج الشمس حتى يجف و يحترق ، و كذلك الليل لو امتدّ مقدار هذه المدّة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة و التصرّف في طلب المعاش حتى يموت جوعا ، و تخمد الحرارة الطبيعية عن النبات حتى يعفن و يفسد ، كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس 2 .
« و تفجّر هذه البحار » قال الصادق عليه السّلام : فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار و قلت ما الأرب فيه ، فاعلم إنّه مكتنف و مضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك و دوابّ البحر و معدن اللؤلؤ و الياقوت و العنبر ،
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 154 156 و 163 165 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) توحيد المفضل : 137 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 121 ]
و أصناف شتّى تستخرج من البحر و في سواحله منابت العود اليلنجوج و ضروب من الطيب و العقاقير ، ثم هو بعد مركب للناس ، و محمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة ، كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق و من العراق إلى الصين ، فإنّ هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلاّ على الظهر لبارت ، و بقيت في بلدانها و أيدي أهلها ، لأن أجر حملها يجاوز أثمانها فلا يتعرّض أحد لحملها ، و كان يجتمع في ذلك أمران : أحدهما فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها ، و الآخر انقطاع معاش من يحملها و يتعيّش بفضلها 1 .
« و كثرة هذه الجبال و طول هذه القلال » قال عليه السّلام للمفضّل : انظر إلى هذه الجبال المركومة من الطين و الحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها ، و المنافع فيها كثيرة : فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فتبقى في قلالها لمن يحتاج إليه و يذوب ما ذاب منه ، فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام ، و ينبت فيها ضروب من النبات و العقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل ، و يكون فيها كهوف و معاقل للوحوش من السباع العادية ،
و يتخذ منها الحصون و القلاع المنيعة للتحرز من الأعداء ، و ينحت منها الحجارة للبناء و الإرحاء ، و يوجد فيها معادن لضروب من الجواهر ، و فيها خلال أخر لا يعرفها إلا المقدّر لها في سابق علمه 2 .
« و تفرّق هذه اللغات و الألسن المختلفات » قد حقّق في فلسفة اللغات أن الأصل فيها حكاية الأصوات ، إلاّ أنّ الطبائع مختلفة في التعبير عنها ، فحصل التفرّق و الاختلاف ، مثل « قطا » في العربية و « كغا » في الفارسية و « خشب » في العربية و « چوب » في الفارسية ، و مثل « الطائر » في العربية و « پرنده » في
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 146 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) توحيد المفضل : 151 . و النقل بتصرف يسير .
[ 122 ]
الفارسية و « بيرد » في الافرنجية و « بهنده » في التسترية ، فكلّها حكاية صوت الطيران ، كما أن الأوّل حكاية صوت نغمته و الثاني حكاية صوت الضرب به .
كما قد يحصل الاشتراك من الحكاية لتشابه صوت طبيعتين مثل « شير » في الفارسية للّبن حكاية صوت حلبه ، و للأسد حكاية زئيره 1 ، و هو أحد الآيات على وجود الصانع لايجاده اختلاف الطبائع و من آياته خلق السماوات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم 2 .
« فالويل لمن جحد المقدّر و أنكر المدبّر » قال الصادق عليه السّلام للمفضّل : فكّر في وصول الغذاء إلى البدن و ما فيه من التدبير ، فانّ الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه و تبعث بصفوه إلى الكبد في عروق دقاق و أشجة بينهما ، قد جعلت كالمصفى للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكأها ، و ذلك أنّ الكبد رقيقة لا تحتمل العنف .
ثم إنّ الكبد تقبله فيستحيل بلطف التدبير دما و ينفذه الى البدن كلّه في مجاري مهيّأة لذلك ، بمنزلة المجاري التي تهيّأ للماء ليطرد في الأرض كلّها ،
و ينفذ ما يخرج منه من الخبث و الفضول الى مغائض قد أعدّت لذلك ، فما كان منه من جنس المرّة الصفراء جرى الى المرارة ، و ما كان من جنس السوداء جرى الى الطحال ، و ما كان من البلّة و الرطوبة جرى إلى المثانة .
فتأمّل حكمة التدبير في تركيب البدن و وضع هذه الأعضاء منه مواضعها و إعداد هذه الأوعية فيه لتحمّل تلك الفضول ، لئلا تنتشر في البدن فتسقمه و تنهكه ، فتبارك من أحسن التقدير و أحكم التدبير ،
-----------
( 1 ) كلام الشارح في اشتقاق هذه الألفاظ مخدوش بلا أصل ، خلاف لجميع محققي اللغة و الاشتقاق ، بل جميع الألفاظ التي ذكرها الشارح لها اشتقاق معلوم ذكره علماء اللغة في كتبهم .
-----------
( 2 ) الروم : 22 .
[ 123 ]
و له الحمد كما هو أهله و مستحقّه 1 .
« زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع و لا لاختلاف صورهم صانع » مع أنّ اختلاف صورهم كأصل إيجادهم آية واضحة لمبدعهم ، و قد قرّرهم نوح عليه السّلام به فقال : ما لكم لا ترجون للَّه وقارا و قد خلقكم أطوارا 2 .
قال الصادق عليه السّلام للمفضّل : اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما تتشابه الوحوش و الطير و غير ذلك ، فانّك ترى السّرب من الظباء و القطا تتشابه حتى لا يفرّق بين واحد و بين الاخرى ، و ترى الناس مختلفة صورهم و خلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة ، و العلّة في ذلك أن النّاس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم و حلاهم لما يجري بينهم من المعاملات ، و ليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كلّ واحد منهم بعينه و حليته . ألا ترى أنّ التشابه في الطير و الوحش لا يضرّها شيئا ؟
و ليس كذلك الإنسان ، فإنّه ربما تشابه التوأمان تشابها شديدا فتعظم المؤنة على الناس في معاملتهما حتّى يعطي أحدهما بالآخر و يؤخذ بذنب أحدهما الآخر ، و قد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلا عن تشابه الصور ، فمن لطف بعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتى وقف بها على الصواب : إلاّ من وسعت رحمته كلّ شيء ، و لو رأيت تمثال الإنسان مصوّرا على حائط و قال لك قائل إنّ هذا ظهر هنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع ،
أكنت تقبل ذلك ؟ بل كنت تستهزئ به ، فكيف تنكر هذا في تمثال مصوّر جماد و لا تنكره في الإنسان الحيّ الناطق 3 .
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 56 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) نوح : 13 و 14 .
-----------
( 3 ) توحيد المفضل : 87 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 124 ]
« و لم يلجأوا إلى حجّة فيما ادعوا » قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين 1 .
« و لا تحقيق لما أوعوا » بفتح الهمزة أي : اضمروا ، قال تعالى : و اللَّه أعلم بما يوعون 2 .
و في ( توحيد المفضل ) : إن الشكّاك جهلوا الأسباب و المعاني في الخلقة ،
و قصرت أفهامهم عن تأمّل الصواب : و الحكمة فيما ذرأ الباري جلّ قدسه و برأ من صنوف خلقه في البرّ و البحر و السهل و الوعر ، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود و بضعف بصائرهم الى التكذيب و العنود ، حتى أنكروا خلق الأشياء و ادعوا أن تكونها بالإهمال ، لا صنعة فيها و لا تقدير و لا حكمة من مدبّر و لا صانع ، تعالى اللَّه عمّا يصفون و قاتلهم اللَّه أنّى يؤفكون فهم في ضلالهم و غيّهم و تجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء و أحسنه ، و فرشت بأحسن الفرش و أفخره ، و أعدّ فيها ضروب الأطعمة و الأشربة و الملابس و المآرب التي يحتاج إليها و لا يستغنى عنها ،
و وضع كلّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير و حكمة من التدبير ،
فجعلوا يتردّدون فيها يمينا و شمالا و يطوفون بيوتها إدبارا و إقبالا ، محجوبة أبصارهم عنها لا يبصرون بنية الدار و ما أعدّ فيها ، و ربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه ، و أعدّ للحاجة إليه و هو جاهل للمعنى فيه و لما أعدّ و لما ذا جعل كذلك ، فتذمّر و تسخّط و ذمّ الدار و بانيها .
فهذا حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة و ثبات الصنعة ، فانّهم لما عزبت أذهانهم عن معرفة الأسباب و العلل في الأشياء
-----------
( 1 ) البقرة : 111 ، و النمل : 64 .
-----------
( 2 ) الانشقاق : 23 .
[ 125 ]
صاروا يجولون في هذا العالم حيارى فلا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته و حسن صنعته و صواب هيئته .
و ربما وقف بعضهم على الشيء يجهل سببه و الارب فيه فيسرع إلى ذمّه و وصفه بالإحالة و الخطأ ، كالذي أقدمت عليه المنانية أصحاب الماني الكفرة ، و جاهرت به الملاحدة المارقة الفجرة ، و أشباههم من أهل الضلال المعلّلين أنفسهم بالمحال 1 .
« و هل يكون بناء من غير بان » إشارة إلى عدم إمكان وجودهم من غير موجد .
و في توحيد المفضل : فكّر في أعضاء البدن أجمع و تدبير كلّ منها للارب ، فاليدان للعلاج ، و الرجلان للسعي ، و العينان للاهتداء ، و الفم للاغتذاء ،
و المعدة للهضم ، و الكبد للتخليص ، و المنافذ لتنفيذ الفضول ، و الأوعية لحملها ،
و الفرج لإقامة النسل ، و كذلك جميع الأعضاء إذا ما تأملّتها و أعملت فكرك فيها وجدت كلّ شيء منها قد قدّر لشيء على صواب و حكمة .
فقال المفضّل له عليه السّلام : إنّ قوما يزعمون إن هذا من فعل الطبيعة ،
فقال عليه السّلام : سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم و قدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك ؟ فان أوجبوا لها العلم و القدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق فإن هذا صفته ، و إن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم و لا عمد و كان في أفعالها ما قد تراه من الصواب و الحكمة علم أنّ هذا الفعل لخالق حكيم ، فإنّ الذي سمّوه طبيعة هو سنّته في خلقه الجارية على ما أجراها عليه 2 .
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 44 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) توحيد المفضل : 54 و 55 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 126 ]
« أو جناية » هكذا في النسخ 1 ، و الظاهر كونه مصحّف « جنى » توهما من النساخ أن « جان » بعده من الجناية فحرّفوا « من غير جان » من « جنيت الثمرة » ،
إشارة إلى عدم إمكان فنائهم بغير مفن ، كما في عدم إمكان وجودهم بغير موجد ، فكانوا يقولون : ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلاّ الدّهر 2 . قال تعالى : فلو لا إذا بلغت الحلقوم . و أنتم حينئذٍ تنظرون .
و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون . فلو لا إن كنتم غير مدينين .
ترجعونها إن كنتم صادقين 3 .
و أيضا لو كان فناؤهم من غير مفن ، لكان الواجب ألاّ يموت أحد غير من قتل ، إلا بعد خمود الحرارة الغريزية ، كما لم ينهدم بناء إلاّ بعد زوال استمساك أجزائه ، و لم نر أحدا وصل إلى الخمود .
هذا ، و قد قال ابن أبي الحديد : « و هذه كلمة ساقته إليها القرينة ، و المراد عموم الفعليّة لا خصوص الجناية ، أي مستحيل أن يكون الفعل من غير الفاعل » 4 .
فيقال له : هل كان عليه السّلام شاعرا اضطرته القافية ، و لكن ابن أبي الحديد كما قيل بالفارسية
« سخن شناس نه اى دلبرا خطا اينجا است »
و في ( توحيد المفضّل ) : و ممّا ينتقده الجاحدون للعمد و التقدير الموت و الفناء ، فانّهم يذهبون إلى انّه ينبغي أن يكون الناس مخلّدين في هذه الدنيا مبرّئين من هذه الآفات ، فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله . أفرأيت لو كان كلّ من دخل العالم و يدخله يبقون و لا يموت أحد
-----------
( 1 ) نهج البلاغة 2 : 118 ، و شرح ابن أبي الحديد 13 : 56 ، و شرح ابن ميثم 4 : 131 .
-----------
( 2 ) الجاثية : 24 .
-----------
( 3 ) الواقعة : 86 و 87 .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 65 .
[ 127 ]
منهم ، ألم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن و المزارع و المعائش ؟ فانّهم و الموت يفنيهم أولا فأولا يتنافسون في المساكن و المزارع ، حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب و تسفك فيهم الدماء ، فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون و لا يموتون ؟ و كان يغلب عليهم الحرص و الشره و قساوة القلوب ، فلو وثقوا بأنّهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله ، و لا أفرج لأحد عن شيء يسأله ، و لا سلا عن شيء مما يحدث عليه ، ثم كانوا يملّون الحياة و كلّ شيء من امور الدنيا كما قد يملّ الحياة من طال عمره حتى يتمنّى الموت و الراحة من الدنيا .
فإن قالوا : انّه كان ينبغي أن يرفع عنهم المكاره و الأوصاب حتى لا يتمنّوا الموت و لا يشتاقوا إليه ، فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه العتو و الأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا و الدين .
و إن قالوا : انّه كان ينبغي ألاّ يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن و المعائش ، قيل لهم : إذن كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم و الاستمتاع بنعم اللَّه تعالى و مواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلاّ قرن واحد لا يتوالدون و لا يتناسلون .
فإن قالوا : انّه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق و يخلق إلى انقضاء العالم ، يقال لهم : رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن و المعائش عنهم ، ثم لو كانوا لا يتوالدون و لا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات و ذوي الأرحام و الانتصار بهم عند الشدائد ،
و موضع تربية الأولاد و السرور بهم ، ففي هذا دليل على أنّ كلّ ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ و سفه من الرأي و القول 1 .
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 171 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 128 ]
« و ان شئت قلت في الجرادة » قال تعالى : يخرجون من الأجداث كأنّهم جراد منتشر 1 .
و في ( حياة حيوان الدميري ) و نقله الخوئي أيضا الجراد إذا خرج من بيضه يقال له الدبي ، فإذا طلعت أجنحته و كبرت فهو الغوغاء ، و ذلك حين يموج بعضه في بعض ، فإذا بدت فيه الألوان و اصفرّت الذكور و اسودّت الإناث سمّي جرادا ، و إذا أراد أن يبيض التمس لبيضه المواضع الصّلدة و الصخور الصّلبة التي لا تعمل فيها المعاول ، فيضربها بذنبه فتصدع له فيلقي بيضه في ذلك الصدع فيكون له كالأفحوص و يكون حاضنا له و مربيا ،
و للجرادة ستّ أرجل و يدان في صدرها و قائمتان في وسطها و رجلان في مؤخّرها ، و طرفا رجليها منشاران ، و هو من الحيوان المنقاد لرئيسه ، فيجتمع كالعسكر إذا ظعن أوله تتابع جميعه ظاعنا و إذا نزل أوّله نزل جميعه ، و لعابه سمّ نافع للنبات 2 .
« اذ خلق لها عينين حمراوين و أسرج لها حدقتين قمراوين » أي : بيضاوين .
« و جعل لها السمع الخفيّ » حتى لم يعلم محل سامعتها « و فتح لها الفم السوي » أي : المستوي .
« و جعل لها الحسّ القوي » الظاهر أن المراد به شمّه ، و إن كان يطلق على السمع و البصر و الذوق و اللمس أيضا .
« و نابين » قال الفيروزآبادي : الناب : السن خلف الرباعية ، جمعه أنياب 3 « بها تقرض » أي : تقطع .
-----------
( 1 ) القمر : 7 .
-----------
( 2 ) شرح الخوئي 5 : 139 و 140 ، و حياة الحيوان 1 : 187 .
-----------
( 3 ) القاموس المحيط 1 : 135 ، مادة نيب .
[ 129 ]
« و منجلين » المنجل : ما يحصد به « بهما تقبض يرهبها الزرّاع في زرعهم » .
قال أعرابي كما في ( الصناعتين ) باكرنا و سمّي خلفه ولّى ، فالأرض كأنّها و شي منشور عليه لؤلؤ منثور ، ثم أتتنا غيوم جراد بمناجل حصاد ،
فاحترثت البلاد و أهلكت العباد 1 .
و في ( حياة حيوان الدميري ) : وقعت جرادة بين يدي النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ، فإذا مكتوب على جناحيها بالعبرانية « نحن جند اللَّه الأكبر و لنا تسع و تسعون بيضة ، و لو تمت لنا المائة لأكلنا الدنيا بما فيها » .
و فيه عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم : مكتوب على الجرادة « أنا اللَّه لا إله إلا أنا ربّ الجراد و رازقها ، إن شئت بعثتها رزقا لقوم ، و إن شئت بعثتها بلاء على قوم » 2 .
« و لا يستطيعون ذبّها » أي : دفعها .
في ( حياة حيوان الدميري ) : قال الأصمعي : أتيت البادية فإذا أعرابي زرع برّا له ، فلما قام على سوقه و جاء سنبله ، أتاه رجل جراد ، فجعل الرجل ينظر اليه و لا يدري كيف الحيلة فيه ، فأنشأ يقول :
مرّ الجراد على زرعي فقلت له
لا تأكلنّ و لا تشغل بإفساد
فقام منهم خطيب فوق سنبلة
انا على سفر لا بدّ من زاد 3
« و لو أجلبوا » أي : تجمّعوا « بجمعهم حتى ترد الحرث في نزواتها » أي :
توثباتها و تسرعاتها « و تقضي منه شهواتها » في ( بديع ابن المعتز ) : قال ادد بن مالك بن يزيد ابن كهلان و هو طي في وصيته لولده : لا تكونوا كالجراد أكل
-----------
( 1 ) الصناعتين : 262 .
-----------
( 2 ) حياة الحيوان 1 : 187 و 188 .
-----------
( 3 ) حياة الحيوان 1 : 188 .
[ 130 ]
ما وجد و أكله من وجده .
« و خلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة » أي : دقيقة .
في ( حياة حيوان الدميري ) : في الجراد خلقة عشرة من جبابرة الحيوان مع ضعفه : وجه فرس ، و عينا فيل ، و عنق ثور ، و قرنا إيل ، و صدر أسد ، و بطن عقرب ، و جناحا نسر ، و فخذا جمل ، و رجلا نعامة ، و ذنب حيّة . و قد أحسن محيى الدين في وصفه :
لها فخذا بكر و ساقا نعامة
و قادمتا نسر و جؤجؤ ضيغم
حبتها أفاعي الأرض بطنا و أنعمت
عليها جياد الخيل بالرأس و الفم 1
و في ( توحيد المفضل ) : انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه و أقواه ، فانّك إذا تأمّلت خلقه رأيته كأضعف الأشياء ، و إن دلفت عساكره نحو بلد من البلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه ، ألا ترى أنّ ملكا من الملوك لو جمع خيله و رجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك ، أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه ؟ انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل ، فيغشي السهل و الجبل و البدو و الحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته ، فلو كان هذا مما يصنع بالأيدي متى كان يجتمع منه هذه الكثرة و في كم سنة كان يرتفع ؟ فاستدل بذلك على القدرة التي لا يؤدها شيء و لا يكثر عليه 2 .
و في ( المعجم ) : في الجراد طير إذا طار بسط و إذا دنا من الأرض لطع ،
رجلاه كالمنشار و عيناه كالزجاج ، عينه في جبينه و رجله أطول من قامته ،
جيدها كجيد البقر و رأسها كرأس الفرس و قرنها كقرن الوعل و رجلها كرجل
-----------
( 1 ) حياة الحيوان 1 : 188 .
-----------
( 2 ) توحيد المفضل : 123 و النقل بتصرف يسير .
[ 131 ]
الجمل و بطنها كبطن الحية ، تطير بأربعة أجنحة و تأكل بلسانه ، فتبارك اللَّه ما أحسنها و أحسن ما فيها ، انهام طعام طاهر حيا و ميتا ، تجدب أقواما و تخصب آخرين يعني إذا دخلت البوادي و الفيافي و مواضع الرمال فهي خصب لهم و ميرة ، و إذا حلت بمادي الزرع و الأشجار فهي جدب لأنها تأتي على الشوك و الشجر و الرطب و اليابس فلا تبقي و لا تذر و فيه عن ابن عباس : مكتوب على جناح الجراد « إنّا نغلي الأسعار مع تدافق الأنهار » 1 .
و قال بعض الخطباء : إن اللَّه سبحانه خلق خلقا و سمّاها جرادا ، و ألبسها أجلادا ، و جنّدها أجنادا ، و أدمجها إدماجا ، و كساها من الوشي ديباجا ، و جعل لها ذرية و أزواجا ، إذا أقبلت خلتها سحابا أو عجاجا ، و إذا أدبرت حسبتها قوافل و حجاجا ، مزخرفة المقاديم مزبرجة المآخير ، مزوقة الأطراف منقطعة الاخفاف ، منمنمة الحواشي منمّقة الغواشي ، ذات أردية مزعفرة و أكسية معصفرة و أخفية مخططة ، معتدلة قامتها مؤتلفة خلقتها مختلفة حليتها ،
موصولة المفاصل مدرجة الحواصل ، تسعى و تحتال و تميس و تختال و تطوف و تجتال . فتبارك خالقها و تعالى رازقها ، أوسعها رزقا و أتقنها خلقا و فتق منها رتقا ، و شبح أعراقها و ألجم أعناقها ، و طوقها أطواقها ، و قسم معائشها ، و أرزاقها ، تنظر شزرا من ورائها ، و ترقب النازل من سمائها ،
و تحرس الدائر من حولها ، سلاحها عتيد و بأسها شديد و مضرّتها تعديد ،
تدبّ على ستّ و تطير ، فسبحان من خلقها خلقا عجيبا ، و جعل لها من كلّ ثمر و شجر نصيبا ، جعل لها إدبارا و إقبالا و طلبا و احتيالا ، حتى دبّت و درجت و خرجت و دخلت و نزلت و عرجت ، مع المنظر الأنيق و العصب الدقيق و البدن
-----------
( 1 ) لم أجده في معجم الأدباء .
[ 132 ]
الرقيق ، هذا خلق اللَّه فأروني ماذا خلق الذين من دونه .
« فتبارك الذي يسجد له من في السماوات و الأرض طوعا و كرها » الأصل فيه قوله تعالى : و للَّه يسجد من في السموات و الأرض طوعا و كرها و ظلالهم بالغدوّ و الآصال 1 .
« و يعنو له خدا و وجها » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « و يعفّر » من عفّره في التراب : مرّغه فيه ، كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 ،
و ان كان « يعنو » صحيحا من حيث المعنى ، كقوله تعالى و عنت الوجوه للحيّ القيّوم 3 .
« و يلقي » أي : يرمي « إليه بالطاعة » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :
« بالطاعة إليه » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 4 « سلما و ضعفا » و له أسلم من في السماوات و الأرض طوعا و كرها و إليه يرجعون 5 .
« و يعطي له القياد » أي : الإنقياد « رهبة و خوفا » ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين 6 .
هذا ، و عن المدائني : ركب يزيد النهشلي بعيرا فقال : اللّهم إنّك قلت و ما كنّا له مقرنين 7 و إنّي لبعيري هذا لمقرن ، فنفر به بعيره فطرحه و بقيت رجله في الغرز ، فجعل يضرب برأسه كلّ حجر و مدر حتى مات 8 .
-----------
( 1 ) الرعد : 15 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 66 ، و شرح ابن ميثم 4 : 130 .
-----------
( 3 ) طه : 111 .
-----------
( 4 ) كذا في شرح ابن أبي الحديد 13 : 66 ، لكن في شرح ابن ميثم 4 : 131 ، نحو المصرية .
-----------
( 5 ) آل عمران : 83 .
-----------
( 6 ) فصلت : 11 .
-----------
( 7 ) الزخرف : 13 .
-----------
( 8 ) رواه عن المدائني ابن قتيبة في عيون الأخبار 2 : 60 .
[ 133 ]
« فالطير مسخرة لأمره » ألم تر أنّ اللَّه يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافّات 1 .
في ( توحيد المفضل ) : تأمل جسم الطائر و خلقته ، فانّه حين قدر أن يكون طائرا في الجوّ خفف جسمه و أدمج خلقه و اقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين و من الأصابع الخمس على أربع و من منفذين للزبل و البول على واحد يجمعهما ، ثم خلق ذا جؤجؤ محدّد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيفما أخذ فيه ، كما جعلت السفينة بهذه الهيئة لتشقّ الماء و تنفذ فيه ، و جعل في جناحيه و ذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران ، و كسى كلّه الريش ليتداخله الهواء فيقله ، و لما قدر أن يكون طعمه الحب و اللحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقه الاسنان و خلق له منقار صلب جاسي يتناول به طعمه ،
فلا ينسجح من لقط الحب و لا يتقصف من نهش اللحم ، و لما عدم الاسنان و صار يزدرد الحبّ و اللحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضع ، و اعتبر ذلك بأن عجم العنب و غيره يخرج من أجواف الإنس صحيحا و يطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ، ثم جعل مما تبيض و لا تلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران ، فانّه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته و عاقته عن الطيران ، فجعل كلّ شيء خلقه مشاكلا للأمر الذي قدّر أن يكون عليه 2 .
« أحصى عدد الريش منها و النّفس » كما أحصى عدد أنفاس البشر ، قال تعالى : إنّما نعدّلهم عدّا 3 .
-----------
( 1 ) النور : 41 .
-----------
( 2 ) توحيد المفضل : 113 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 3 ) مريم : 84 .
[ 134 ]
« و أرسى » أي : أثبت « قوائمها على النّدى » أي : البلل ، كما في طير البحر ( و اليبس ) كما في طير البر .
« و قدّر » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « قدر » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 1 « أقواتها » حتى للفراخ في البيض و طير الليل .
و في ( توحيد المفضل ) : اعتبر بخلق البيضة و ما فيها من المخ الأصفر الخاثر و الماء الأبيض الرقيق ، فبعضه ينشو منه الفرخ ، و بعضه يغتذي به إلى أن تنقاب عنه البيضة ، و ما في ذلك من التدبير ، فانه لو كان نشو الفرخ في تلك القشرة المستحفظة التي لا مساغ لشيء إليها ما جعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها كان كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكتفي به إلى وقت خروجه منه .
و فيه : يا مفضل ، أعلمت ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلاّ بالليل كمثل البوم و الهام و الخفاش ؟ قال : لا . قال : إنّ معاشها من ضروب تنتشر في الجو من البعوض و الفراش و أشباه الجراد و اليعاسيب ، و ذلك أن هذه الضروب مبثوثة في الجو لا يخلو منها موضع 2 .
« و أحصى أجناسها » و ما من دابّة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلاّ امم أمثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيء 3 .
هذا ، و في ( حياة حيوان الدميري ) : قال بعض الحكماء : كلّ انسان مع شكله كما أن كلّ طير مع جنسه .
و كان مالك بن دينار يقول : لا يتّفق اثنان في عشرة إلاّ و في أحدهما
-----------
( 1 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 13 : 66 ، و شرح ابن ميثم 4 : 131 نحو المصرية .
-----------
( 2 ) توحيد المفضل : 115 و 119 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 3 ) الأنعام : 38 .
[ 135 ]
وصف من الآخر ، فإن أشكال الناس كأجناس الطير ، و لا يتفق نوعان منه في طيران إلاّ لمناسبة بينهما ، فرأى يوما حمامة مع غراب ، فعجب من اتفاقهما و ليسا من شكل واحد ، فلما مشيا إذا هما أعرجان فقال : من هاهنا اتفقا 1 .
« فهذا غراب » في ( حياة حيوان الدميري ) : سمّي الغراب لسواده ، و منه قوله تعالى : و غرابيب سود 2 و هما لفظان بمعنى واحد . و جمع ابن مالك صيغ جمعه في قوله :
بالغرب أجمع غرابا ثم أغربة
و أغرب و غرابين و غربان
و قال الشاعر :
ان الغراب و كان يمشي مشية
فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطاة و رام يمشي مشيها
فأصابه ضرب من العقال
فأضلّ مشيته و أخطأ مشيها
فلذلك سمّوه أبا المرقال
و هو أصناف : الغداف ، و الزاغ ، و الأكحل ، و غراب الزريج ، و الأورق ، و هذا الصنف يحكي جميع ما يسمعه ، و الأعصم و هو عزيز الوجود ، قالت العرب :
« أعز من الغراب الأعصم » و قال النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم : « مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم في مائة غراب » و غراب الليل ، قال الجاحظ : هو غراب ترك أخلاق الغربان و تشبّه بأخلاق البوم .
و قال أرسطا طاليس : الغربان أربعة أجناس : أسود حالك ، و أبلق ،
و مطرف ببياض لطيف الجرم يأكل الحب ، و أسود طاوسي براق الريش و رجلاه كلون المرجان يعرف بالزاغ .
و في الغراب كلّه الاستتار بالسفاد ، يسفد مواجهة و لا يعود إلى الانثى
-----------
( 1 ) حياة الحيوان 1 : 261 .
-----------
( 2 ) فاطر : 27 .
[ 136 ]
بعد ذلك لقلّة وفائه . و الانثى تبيض أربع بيضات و خمسا ، و إذا خرجت الفراخ من البيض طردتها لأنها تخرج قبيحة المنظر جدّا ، إذ تكون صغار الأجرام كبيرة الرؤس و المناقير جرداء اللون متفاوتة الأعضاء ، فالأبوان ينظران الفرخ كذلك فيتركانه فيجعل اللَّه قوته في الذباب و البعوض الكائن في عشّه الى أن يقوى و ينبت ريشه فيعود إليه أبواه ، و على الانثى أن تحضن ، و على الذكر أن يأتيها بالمطعم ، و في طبع الغراب أنّه لا يتعاطى الصيد ، بل ان وجد جيفة أكل منها و إلاّ مات جوعا ، و يتقمقم كما يتقمقم ضعاف الطير ، و فيه حذر شديد و تنافر . و الغداف يقاتل البوم و يخطف بيضها و يأكل بيضها ، و من عجيب أمره أن الإنسان إذا أراد أن يأخذ فراخه يحمل الذكر و الانثى في أرجلهما الحجارة و يتحلقان الجو و يطرحان الحجارة عليه ، و العرب تتشأم بالغراب و لذا اشتقوا من اسمه ، الغربة .
و قال صاحب المجالسة : سمّي غراب البين لأنّه بان عن نوح عليه السّلام لما وجّهه لينظر إلى الماء فذهب و لم يرجع . و ذكر ابن قتيبة إنّه سمّي فاسقا فيما أرى لتخلّفه حين أرسله نوح عليه السّلام ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره و وقع على جيفة ، قال عنترة :
ظعن الذين فراقهم أتوقّع
و جرى ببينهم الغراب الأبقع
و قال صاحب منطق الطير : الغربان جنس من الأجناس التي أمر بقتلها في الحلّ و الحرم من الفواسق . و قال الجاحظ : غراب البين نوعان : غراب صغير معروف باللؤم و الضعف ، و آخر ينزل في دور الناس و يقع على مواضع إقامتهم إذا ارتحلوا عنها ، و يقال : إذا صاح الغراب مرّتين فهو شرّ و إذا صاح ثلاث فهو خير .
و لما كان صافي البصر حاده ، سمّي أعور ، قال الجاحظ : سمّوه بالأعور تطيّرا منه و ليس به عور ، و قيل : إنّما سمّوه أعور تفؤلا بالسلامة منه كما
[ 137 ]
سمّوا البريّة بالمفازة و اليد الشمال باليسار ، و قيل : إنّما سمّوه أعور لتغميض احدى عينيه أبدا من قوّة بصره ، قاله ابن الأعرابي .
و حكى المسعودي عن بعض حكماء الفرس قال : أخذت من كلّ شيء أحسن ما فيه حتى انتهيت في ذلك إلى الكلب و الهرّة و الخنزير و الغراب ، قال :
فأخذت من الكلب ألفه لأهله و ذبّه عن صاحبه ، و من الهرّة حسن تأنّيها و تملقها عند المسألة ، و من الخنزير بكوره في حوائجه ، و من الغراب شدّة حذره . و قالوا أغرب من الغراب ، و أشبه بالغراب من الغراب 1 .
« و هذا عقاب » قال :
عقاب عقنباة كأن وظيفها
و خرطومها الأعلى بنار ملوّح
و في ( حياة حيوان الدميري ) : و العرب تسمّي العقاب الكاسر ، و هي مؤنثة اللفظ ، و قيل يقع على الذكر و الانثى و تمييزه باسم الإشارة .
و في ( الكامل ) : العقاب سيّد الطيور و الانثى منه تسمّى لقوّة ، و قال الخليل : اللّقوة بالفتح و الكسر العقاب السريعة الطيران .
و تسمّى العقاب عنقاء مغرب لأنّها تأتي من مكان بعيد : فمنها ما يأوي الجبال ، و منها ما يأوي الصحاري ، و ما يأوي الغياض ، و ما يأوي حول المدن .
و قال ابن خلّكان في ( العماد الكاتب ) : العقاب جميعه انثى ، و إنّ الذي يسافده طير آخر من غير جنسه ، و قيل : إنّ الثعلب يسافده ، و هذا من العجائب ،
و لابن عنين الشاعر في ابن سيدة :
ما أنت إلا كالعقاب فامّه
معروفة و له أب مجهول
و العقاب تبيض ثلاث بيضات في الغالب و تحضنها ثلاثين يوما ، و ما عداها من الجوارح يبيض بيضتين و يحضن عشرين يوما . فإذا خرجت فراخ
-----------
( 1 ) حياة الحيوان 2 : 172 179 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 138 ]
العقاب ألقت واحدا منها لأنّه يثقل عليها طعم الثلاث و ذلك لقلّة صيدها ، و الفرخ الذي يلقيه يعطف عليه طائر آخر يسمّى كاسر العظام ، و من عادة هذا الطائر أن يزقّ كل فرخ ضائع . و العقاب خفيفة الجناح سريعة الطيران ، و تتغدّى بالعراق و تتعشى باليمن ، و ريشها الذي عليها فروتها في الشتاء و حليتها في الصيف ، و متى ثقلت عن النهوض و عميت حملتها الفراخ على ظهورها و نقلتها من مكان إلى مكان ، فعند ذلك تلتمس لها غياضا من أرض الهند على رأس جبل فيغمسا فيها ثمّ تضعها في شعاع الشمس ، فيسقط ريشها ، و ينبت لها ريش جديد و تذهب ظلمة بصرها ثمّ تغوص في تلك العين ، فإذا هي قد عادت شابة كما كانت .
قال التوحيدي : و من عجيب ما ألهمته أنّها إذا اشتكت أكبادها أكلت أكباد الأرانب و الثعالب فتبرأ ، و هي تأكل الحيّات إلاّ رؤوسها و الطيور إلاّ قلوبها ، قال امرؤ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا و يابسا
لدى و كرها العناب و الحشف البالي
و قال طرفة :
كأن قلوب الطير في قعر عشّها
نوى القسب ملقى عند بعض المآدب
و قيل لبشار : لو خيّرك اللَّه أن تكون حيوانا ماذا تختار ؟ قال : العقاب لأنّها تلبث حيث لا يبلغها سبع و لا ذو أربع ، و تحيد عنها سباع الطير ، و لا تعاني الصيد إلاّ قليلا ، بل تسلب كلّ ذي صيد صيده .
و من شأنها أنّ جناحها لا يزال يخفق ، قال عمرو بن حزم :
لقد ترك عفراء قلبي كأنّه
جناح عقاب دائم الخفقان 1
و في ( عجائب المخلوقات ) : أنّ حجر العقاب حجر يشبه نوى ( التمر
-----------
( 1 ) حياة الحيوان 2 : 126 و 127 و النقل بتصرف يسير .
[ 139 ]
هندي ) إذا حرّك يسمع منه صوت و إذا كسر لا يوجد فيه شيء ، يوجد ذاك الحجر في عشّ العقاب و العقاب يجلبه من أرض الهند ، و إذا قصد الإنسان عشّه يرمي إليه بهذا الحجر ليأخذه و يرجع ، فكأنه عرف أنّ قصدهم إيّاه لخاصّيته . فمن خواصّه أنّه إذا علق على من بها عسرا لولادة تضع سريعا ،
و من جعله تحت لسانه يغلب الخصم 1 .
« و هذا حمام » في ( حياة حيوان الدميري ) : قال الجوهري : الحمام عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت و القماري و ساق حر و القطا و الوراشين و أشباه ذلك يقع على الذكر و الانثى . و قال الأموي : الدواجن التي تستقر في البيوت تسمّى حماما أيضا ، و أنشد للعجاج :
إنّي و ربّ البلد المحرّم
و القاطنات البيت عند زمزم
قواطنا مكة من ورق الحم يريد الحمام
و عن الأصمعي : أنّ كلّ ذات طوق أي الحمرة أو الخضرة أو السواد المحيط بعنق الحمامة فهي حمام . و قال الكسائي : الحمام البرّي و اليمام الذي يألف البيوت إلى أن قال و الحمام يقع على اليعاقيب و الشفنين و الزاغ و الورداني و الطوراني ، و الذي يألف البيوت قسمان : أحدهما البرّي و هو الذي يلازم البروج و ما أشبهها ، و الثاني الأهلي و منه الرواعب و المراعيش و العداد و السداد و المضرب و القلاب المنسوب و هو بالنسبة إلى ما تقدم كالعتاق من الخيل و تلك كالبراذين .
و قال الجاحظ : الفقيع من الحمام كالصقلاب من الناس ، و هو الأبيض ،
و كان في منزل النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم حمام أحمر يقال له وردان .
و من طبع الحمام أنّه يطلب و كره و لو أرسل من ألف فرسخ ، و يحمل
-----------
( 1 ) عجائب المخلوقات 1 : 334 و النقل بتصرف يسير .
[ 140 ]
الأخبار و يأتي بها من البلاد البعيدة في المدّة القريبة ، و فيه ما يقطع ثلاثة آلاف فرسخ في يوم واحد ، و ربما اصطيد و غاب عن وطنه عشر حجج فأكثر ، ثم هو على ثبات عقله حتى يجد فرصة فيطير إلى وطنه . و سباع الطير تطلبه أشدّ الطلب ، و خوفه من الشاهين أشدّ من خوفه من غيره ، و هو أطير منه ، و من سائر الطير كلّه ، لكنّه يذعر منه و يعتريه ما يعتري الحمار إذا رأى الأسد ،
و الشاة إذا رأت الذئب ، و الفأر إذا رأى الهرّ .
و من عجيب الطبيعة فيه ما حكاه ابن قتيبة في عيونه عن المثنى بن زهير قال : لم أر شيئا قط من رجل و امرأة إلاّ و قد رأيته في الحمام ، و رأيت حمامة لا تريد إلاّ ذكرها و ذكرا لا يريد إلاّ أنثاه إلاّ أن يهلك أحدهما أو يفقد ،
و رأيت حمامة تتزيّن للذكر ساعة يريدها ، و رأيت حمامة تمكّن غير زوجها ،
و رأيت حمامة تقمط حمامة و يقال أنّها تبيض من ذلك ، و لكن لا يكون لذلك البيض فراخ ، و رأيت ذكرا يقمط ذكرا ، و رأيت ذكرا يقمط كلّ ما لقي و لا يزاوج ،
و أنثى يقمطها كلّ ما رآها من الذكور و لا تزاوج ، و ليس من الحيوان ما يستعمل التقبيل عند السفاد إلاّ الإنسان و الحمام ، و هو عفيف في السفاد يجرّ ذنبه ليعفي أثر الانثى ، كأنّه قد علم ما فعلت فيجتهد في إخفائه ، و قد يسفد لتمام ستّة أشهر و الانثى تحمل أربعة عشر يوما و تبيض بيضتين أحدهما ذكر و الثانية انثى ، و بين الأولى و الثانية يوم و ليلة ، و الذكر يجلس على البيض و يسخنه جزء من النهار و الانثى بقية النهار و كذلك في الليل ، و إذا باضت الانثى و أبت الدخول على بيضها لأمر ما ضربها الذّكر و اضطرّها للدخول ،
و إذا أراد الذكر أن يسفد الانثى أخرج فراخه عن الوكر ، و قد ألهم هذا النّوع إذا خرجت فراخه من البيض بأن يمضغ الذكر ترابا مالحا و يطعمها إيّاه ليسهل
[ 141 ]
به في سبيل المطعم . و زعم ارسطو أنّ الحمام يعيش ثمان سنين 1 .
فيه : و في التأريخ أن المسترشد لما حبس رأى في منامه كأن على يده حمامة مطوّقة ، فأتاه آت فقال له : خلاصك في هذا . فقيل له : بما أوّلته ؟ فقال :
ببيت أبي تمام :
هنّ الحمام فإن كسرت عيافة
من حائهن فانهنّ حمام
فقتل بعد أيام سنة ( 529 ) .
و عن سفيان الثوري : كان اللعب من عمل قوم لوط .
و عن إبراهيم النخعي : من لعب بالحمام الطيّارة لم يمت حتى يذوق ألم الفقر .
و في ( مسند البزاز ) : إنّ اللَّه تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار و أرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على فم الغار ، و ان ذلك ممّا صدّ المشركين عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ، و إنّ حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين 2 .
قلت : بل الصحيح في حمام الحرم ما رواه ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام قال : أصل حمام الحرم بقية حمام كان لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام اتّخذها كان يأنس بها .
و عنه عليه السّلام : لما قال له رجل بلغني أنّ عمر رأى حماما يطير و رجل تحته يعدو ، فقال شيطان يعدو تحته شيطان ، ما كان اسماعيل عليه السّلام عندكم ؟ فقيل :
صديق ، فقال : إن بقية حمام الحرم من حمام إسماعيل عليه السّلام 3 .
هذا ، و روى عنه عليه السّلام : يستحب أن تتخذ طيرا مقصوصا تأنس به مخافة
-----------
( 1 ) حياة الحيوان 1 : 256 259 ، و ما نقله من عيون ابن قتيبة 2 : 91 ، و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) حياة الحيوان 1 : 259 و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 3 ) الكافي 6 : 546 و 548 ح 3 و 18 .
[ 142 ]
الهوامّ .
و عنه عليه السّلام : شكا رجل إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم الوحشة ، فأمره أن يتخذ في بيته زوج حمام .
و عنه عليه السّلام : ليس من بيت فيه حمام إلاّ لم يصب أهل ذلك البيت آفة من الجنّ ، إن سفهاء الجنّ يعبثون في البيت فيعبثون بالحمام و يتركون الإنسان .
و عنه عليه السّلام : احتفر أمير المؤمنين عليه السّلام بئرا فرموا فيها ، فأخبر بذلك فجاء حتى وقف عليها فقال : لتكفّن أو لأسكننّها الحمام . ثم قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : ان حفيف أجنحتها تطرد الشياطين 1 .
و في ( حياة حيوان الدميري ) : كان هارون يعجبه الحمام و اللعب به ،
فأهدي له حمام و عنده أبو البختري القاضي ، فروى له أنّ النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال « لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو جناح » وضع « أو جناح » للرشيد ، فأعطاه جائزة سنيّة ، فلما خرج قال : تاللَّه لقد علمت أنّه كذب على النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم 2 .
« و هذا نعام » في ( الصحاح ) : النّعامة من الطير يذكر و يؤنث ، و النّعام اسم جنس مثل حمام و حمامة 3 .
و في ( حياة حيوان الدميري ) : قال الجاحظ : و الفرس يسمّونها ( أشتر مرغ ) و تأويله بعير و طائر ، قال :
و مثل نعامة تدعى بعيرا
تعاصينا إذا ما قيل طيري
فإن قيل احملي قالت فإنّي
من الطير المرفّه في الوكور
و تزعم الأعراب أنّ النعامة ذهبت تطلب قرنين فقطعوا أذنيها فلذلك
-----------
( 1 ) الكافي 6 : 546 و 548 ح 3 و 6 و 5 و 17 .
-----------
( 2 ) حياة الحيوان 1 : 260 .
-----------
( 3 ) صحاح اللغة 5 : 2043 ، مادة ( نعم ) .
[ 143 ]
سمّيت بالظليم .
و النّعام عند المتكلّمين على طبائع الحيوان ليست بطائر و ان كانت تبيض و لها جناح و ريش ، و يجعلون الخفّاش طيرا و ان كان يحبل و يلد و له أذنان بارزتان و ليس له ريش لوجود الطيران فيه ، و هم يسمّون الدّجاجة طيرا و ان كانت لا تطير .
و من أعاجيبها أنّها تضع بيضها طولا بحيث لو مد عليها خيط لاشتمل على قدر بيضها ، و لم تجد لشيء منه خروجا عن الآخر ، ثمّ أنّها تعطي كلّ بيضة منها نصيبها من الحضن إذ كان كلّ بدنها لا يشتمل على عدد بيضها ،
و هي تخرج لعدم الطعم ، فإن وجدت بيض نعامة اخرى تحضنه و تنسى بيضها ، و يضرب بها المثل في ذلك ، قال ابن هرمة :
فاني و تركي الأكرمين
و قدحي بكفي زنادا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء
و ملبسة بيض اخرى جناحا
و يقال : إنّها تقسّم بيضتها أثلاثا ، فمنه ما تحضنه و منه ما تجعل صفاره غذاء و منه ما تفتحه و يجعله في الهواء حتى يتعفن و يتولد منه دود ، فتغذي به فراخها إذا خرجت . و النعام من الحيوان الذي يراوح و يعاقب الذكر الانثى في الحضن ، و كلّ ذي رجلين إذا انكسرت له احداهما استعان بالاخرى في نهوضه ما خلا النّعامة فانّها تبقى في مكانها جاثمة حتى تهلك جوعا ، قال الشاعر :
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد
على اختها نهضا و لا باستها حبوا
و ليس للنعام حاسة السمع و لكن له شمّ بليغ ، فهو يدرك بأنفه ما يحتاج فيه إلى السمع ، فربما شمّ رائحة القناص من بعد ، و لذلك تقول العرب « أشمّ من نعامة » كما تقول « أشم من ذرّة » .
قال ابن خالويه : ليس في الدنيا حيوان لا يسمع و لا يشرب الماء أبدا إلاّ
[ 144 ]
النعام و لا مخ له ، و متى دميت رجل واحدة له لم ينتفع بالباقية ، و الضب أيضا لا يشرب و لكنه يسمع . و من حمقها أنّها إذا أدركها القنّاص أدخلت رأسها في كثيث رمل تقدّر أنّها قد استخفت منه ، و هي قوية البصر على ترك الماء ، و أشدّ ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح ، و كلّما اشتدّ عصوفها كانت أشدّ عدوا ،
و يبتلع العظم الصلب و الحجر و المدر و الحديد فتذيبه كالماء .
قال الجاحظ : من زعم أنّ جوف النّعام إنّما يذهب الحجارة لفرط الحرارة فقد أخطأ ، و لكن لا بد مع الحرارة من غزائر ، اخر ، بدليل أنّ القدر يوقد عليها الأيام و لا تذهب الحجارة ، و كما ان جوف الكلب و الذئب يذيبان العظم و لا يذيبان نوى التمر ، و كما أن الإبل تأكل الشوك و تقتصر عليه و إن كان شديدا كشجر ام غيلان و تلقيه روثا ، و إذا أكلت الشعير ألقته صحيحا ، و إذا رأت النعامة في اذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفتها ، و النعام تبتلع الجمر فيطفئها جوفه ، و لا يكون الجمر عاملا في إحراقه ، و في ذلك أعجوبتان :
إحداهما : التغذّي بما لا يتغذّى به ، و الثانية : الاستمراء و الهضم ، و هذا غير منكر لأن السمندر يبيض و يفرخ في النار و أعلم حمزة يوم بدر بريش نعامة .
و قالوا : « مثل النعامة لا طير و لا جمل » يضرب لمن لم يحكم له بخير و لا شرّ .
و قالوا « أروى من النعامة » لأنّها لا تشرب الماء ، فإن رأته شربته عبثا .
و قالوا « ركب جناح نعامة » يضرب لمن جدّ في أمر .
و قالوا « تكلم فلان فجمع بين الأروى و النعامة » إذا تكلّم بكلمتين مختلفتين ، لأن الأروى يسكن الجبال و النعامة تسكن الفيافي .
و قالوا « أحمق من نعامة » و « أجبن من نعامة » .
و مرارته سمّ ساعة ، و ذرقه إذا أحرق و سحق و طلي على السعفة أبرأها من وقته ، و قشر بيضه إذا طرح في الخلّ بعد ما يخرج جميع ما فيه تحرّك في
[ 145 ]
الخل و زال من موضعه الى آخر ، و إذا عمل من الحديد الذي يأكله و يخرج منه سكين أو سيف لم يكلّ و لم يقم له شيء 1 ، و في اللسان قال الشاعر :
إن بني و قدان قوم سك
مثل النّعام و النّعام صك
سك أي : صمّ 2 .
« دعا كلّ طائر باسمه » الظاهر أنّه مأخوذ من قوله تعالى : و علّم آدم الأسماء كلّها 3 .
و عن ( تفسير العياشي ) : سئل عليه السّلام عن الآية ماذا علّم آدم ؟ قال :
الأرضين و الجبال و الشعاب و الأودية . ثم نظر إلى بساط تحته فقال : و هذا البساط مما علّمه 4 .
و في أصل عبد الملك بن حكيم عن الصادق عليه السّلام : اهدي للنبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من ناحية فارس خوخ ، فوضع بين يديه ، فقال لأبي بكر : أي شيء هذا ؟ قال : ما أعرفه ، ثم قال لعمر فقال ما أعرفه ، ثم قال لعثمان فقال ما أعرفه ، ثم قال لعليّ عليه السّلام فقال له : بأبي أنت و امّي تسمّيه أهل فارس الخوخ . فقال عمر : ما علّم عليّ ما يسمّيه أهل فارس ، فوضع النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يده على علي و قال لعمر : إليك عنه ، فإنّ اللَّه تعالى قد علّمه الأسماء التي علّمها أباه آدم 5 .
و الظاهر أنّ المراد بالاسم المسمّى ، لقوله تعالى بعد ما مرّ :
ثمّ عرضهم على الملائكة 6 و المراد بالمسمّى الحقائق و إلاّ فكلّ
-----------
( 1 ) حياة الحيوان 2 : 355 359 و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) أورده لسان العرب 10 : 439 و 457 ، مادة ( سك و صك ) .
-----------
( 3 ) البقرة : 31 .
-----------
( 4 ) تفسير العياشي 1 : 32 ح 11 .
-----------
( 5 ) اصل عبد ملك بن حكيم : 100 و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 6 ) البقرة : 31 .
[ 146 ]
أهل لغة يدعون طائرا باسم .
كما إنّ الظاهر أنّ المراد بقوله عليه السّلام « دعا » الإرادة بوجوده ، قال تعالى :
إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون 1 ، و ليس المراد الدعاء الظاهري كما في قوله تعالى : ثمّ ادعهن يأتينك سعيا 2 .
هذا ، و في ( المعجم ) لتنيس موسم يكون فيه من أنواع الطيور ما لا يكون في موضع آخر ، و هي مائة و نيف و ثلاثون صنفا و هي : السلوى ، القبج ،
المملوح ، النصطفير ، الزرزور ، الباز الرومي ، الصفري ، الدبسي ، البلبل ، السقاء ،
القمري ، الفاختة ، النواح ، الزريق ، النوبي ، الزاغ ، الهدهد ، الحسيني ، الجرادي ،
الابلق ، الراهب ، الخشاف ، البزين ، السلسلة ، در داري ، الشماص ، البصبص ،
الأخضر ، الأبهق ، الأزرق ، الخضير ، أبو الحناء ، أبو كلب ، أبو دنيار ، وارية الليل ،
وارية النهار ، برقع ام علي ، برقع ام حبيب ، الدوري ، الزنجي ، الشامي ، شقراق ،
صدر النحاس ، البلسطين ، الستة الخضراء ، الستة السوداء ، الاطروش ،
الخرطوم ، ديك الكرم ، الضريس ، الرقشة الحمراء ، الرقشة الزرقاء ، الكسر جوز ، الكسر لوز ، السماني ، ابن المرعة ، اليونسة ، الوروار ، الصردة ، الحصية الحمراء ، القبرة ، المطوق ، السقسق ، السلار ، المرغ ، السكسكة ، الارجوجة ،
الخوخة ، فرد قفص ، الاورث ، السلونية ، السهكة ، البيضاء ، اللبس ، العروس ،
الوطواط ، العصفور ، الروب ، اللفات ، الجرين ، القليلة ، العسر ، الأحمر ، الأزرق ،
البشريز ، البون ، البرك ، البرمسي ، الحصاري ، الزجاجي ، البج ، الحمر ، الرومي ،
الملاعقي ، البط ، الصني ، الغرناق ، الاقرح البلوى ، السطرف ، البشروش ، وز الفرط ، أبو قلمون ، أبو قير ، أبو منجل ، البجع الكركي ، الغطاس ، البلجوب ،
-----------
( 1 ) يس : 82 .
-----------
( 2 ) البقرة : 260 .
[ 147 ]
البطميس ، البجوية ، الرقادة ، الكروان البحري ، الكروان الحرحي ، القرلّي ،
الخروطة ، الحلف ، الأرميل ، القلقوس ، اللدد ، العقعق ، البوم ، الورشان ، القطا ،
الدراج ، الحجل ، البازي ، الصردي ، الصقر ، الهام ، الغراب ، الابهق ، الباشق ،
الشاهين ، العقاب ، الحداء ، الرخمة ، و يصل إليه طير كثير لا يعرف اسمه صغار و كبار 1 .
و يمكن أن يكون قوله « دعا كلّ طائر باسمه » من يكون اسمها حكاية صوتها ، كما في القطاة فقالوا « أصدق من قطاة » لأنّها إذا صوتت عرفت ،
و قالوا « أنسب من قطاة » أيضا لذلك ، و يقال لها لذلك الصادقة ، قال أبو وجرة السعدي :
ما زلن ينسبن وهنا كلّ صادقة
باتت تباشر عرما غير أزواج
و في ( أمثال الميداني ) في « أصدق من قطاة » الضمير في « ما زلن » راجع إلى الاتن التي وردت الماء ، و معنى « ينسبن كلّ صادقة » اثارتها القطا عن أماكنها حتى قالت قطا قطا ، و جعل الفعل لهن مجازا 2 .
قلت : و في الفارسية يقال لها « كغا » ، و هو أيضا حكاية صوته و اختلاف التعبير من اختلاف الطبع 3 . و قيل في القطا « حذاء مدبرة سكاء مقبلة للماء في النحر منها نوطة عجب » . قال ابن الأعرابي : قيل لها حذاء لقصر ذنبها و سكاء لأنّه لا اذن لها 4 .
« و كفل له برزقه » في ( توحيد المفضل ) : فكّر في حوصلة الطائر و ما قدر له ، فان مسلك الطعام إلى القانصة ضيق ، لا ينفذ فيه الطعام إلاّ قليلا قليلا ، فلو
-----------
( 1 ) معجم البلدان 2 : 52 .
-----------
( 2 ) مجمع الأمثال 1 : 412 .
-----------
( 3 ) لم أجد كلمة « كغا » في معاجم اللغة الفارسية و لعلّه كان لغة أهل تستر أو موضع آخر .
-----------
( 4 ) جاء هذا في لسان العرب 7 : 430 ، مادة ( نوط ) ، نقلا عن ابن سيدة .
[ 148 ]
كان الطائر لا يلقط حبّة ثانية حتى تصل الاولى إلى القانصة لطال عليه ، و متى كان يستوفي طعمه فإنّما يختلسه اختلاسا لشدّة الحذر ، فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ، ثم تنفذه إلى القانصة على مهل . و في الحوصلة أيضا خلّة اخرى ، فإنّ من الطائر ما يحتاج إلى أن يزقّ فراخه فيكون ردّه للطعم من قرب ، أسهل عليه 1 .
« و أنشأ السحاب الثقال » و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون 2 .
« فأهطل » أي : تتابع و أدام « ديمها » مطرها الذي ليس فيه رعد ، و لا برق ، قال امرؤ القيس :
ديمة هطلاء فيها و طف
طبق الأرض تحرّى و تدر 3
« و عدد قسمها » في ( توحيد المفضل ) : فكّر في الصحو و المطر كيف يتعاقبان على هذا العالم بما فيه صلاحه ، و لو دام أحدهما عليه كان في ذلك فساده ، ألا ترى أنّ الأمطار إذا توالت عفنت البقول و الخضر و استرخت أبدان الحيوان و حصر الهواء ، فأحدث ضروبا من الأمراض و فسدت الطرق و المسالك و إنّ الصحو إذا دام جفّت الأرض و احترق النبات و غيض ماء العيون و الأودية ، فأضرّ ذلك بالنّاس و غلب اليبس على الهواء ، فأحدث ضروبا اخرى من الأمراض ، فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء و دفع كلّ واحد منهما عادية الآخر ، فصلحت الأشياء و استقامت 4 .
-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 116 و النقل بتصرف يسير .
-----------
( 2 ) الاعراف : 57 .
-----------
( 3 ) أورده لسان العرب 12 : 214 ، مادة ( دوم ) .
-----------
( 4 ) توحيد المفضل : 148 ، و النقل بتصرف يسير .
[ 149 ]
« فبلّ الأرض بعد جفوفها » بابعاد الشمس عنها و إنزال المطر عليها أو لم يَرَ الذين كفروا أنّ السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما و جعلنا من الماء كلّ شيء حيّ أفلا يؤمنون 1 .
و في ( توحيد المفضل ) : تأمّل نزول المطر على الأرض و التدبّر في ذلك ،
فانّه جعل ينحدر عليها من علو ليغشى ما غلظ و ارتفع منها فيرويها ، و لو كان أنّما يأتيها من بعض نواحيها لما علا المواضع المشرفة منها و يقلّ ما يزرع في الأرض . ألا ترى أنّ الذي يزرع سيحا أقل من ذلك فالأمطار هي التي تطبق الأرض و ربما تزرع هذه البراري الواسعة و سفوح الجبال و ذراها فتغل الغلة الكثيرة ، و بها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤنة سياق الماء من موضع إلى موضع و ما يجري في ذلك بينهم من التشاجر و التظالم حتى يستأثر بالماء ذوو العز و القوّة و يحرمه الضعفاء .
ثم إنّه حين قدّر أن ينحدر على الأرض انحدارا جعل ذلك قطرا شبيها بالرش ليغور في قعر الأرض فيرويها ، و لو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها ، ثمّ كان يحطم الزروع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولا رقيقا فينبت الحب المزروع و يحيي الأرض و الزرع القائم ،
و في نزوله أيضا مصالح اخرى فإنّه يلين الأبدان و يجلو كدر الهواء ، فيرتفع الوباء الحادث من ذلك و يغسل ما يسقط على الشجر و الزرع من الداء المسمّى باليرقان الى أشباه هذا من المنافع 2 .
« و أخرج نبتها بعد جدوبها » أي : قحطها .
و في ( توحيد المفضل ) : و لو أن ملكا من الملوك قسم في أهل مملكته
-----------
( 1 ) الأنبياء : 30 .
-----------
( 2 ) توحيد المفضل : 149 و النقل بتصرف يسير .
[ 150 ]
قناطير من ذهب و فضة ، ألم يكن سيعظم عندهم و يذهب له به الصوت ، فأين هذا من مطرة رواء يعمّ به البلاد و يزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب و الفضة في أقاليم الأرض كلّها ، أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها و أعظم النعمة على الناس فيها و هم عنها ساهون ، و ربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها فيتذمر و يسخط ايثارا للخسيس قدره على العظيم نفعه جميلا محمود العاقبة و قلّة معرفة لعظيم الغناء و المنفعة فيها 1 .
-----------
( 1 ) المصدر السابق .
[ 151 ]