2

الكتاب ( 31 ) و من وصية له للحسن بن عليّ عليه السّلام كتبها إليه بحاضرين منصرفا من صفين :

مِنَ اَلْوَالِدِ اَلْفَانِ اَلْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ اَلْمُدْبِرِ اَلْعُمُرِ اَلْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ اَلذَّامِّ لِلدُّنْيَا اَلسَّاكِنِ مَسَاكِنَ اَلْمَوْتَى وَ اَلظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً إِلَى اَلْمَوْلُودِ اَلْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرِكُ اَلسَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ غَرَضِ اَلْأَسْقَامِ وَ رَهِينَةِ اَلْأَيَّامِ وَ رَمِيَّةِ اَلْمَصَائِبِ وَ عَبْدِ اَلدُّنْيَا وَ تَاجِرِ اَلْغُرُورِ وَ غَرِيمِ اَلْمَنَايَا وَ أَسِيرِ اَلْمَوْتِ وَ حَلِيفِ اَلْهُمُومِ وَ قَرِينِ اَلْأَحْزَانِ وَ نُصُبِ اَلْآفَاتِ وَ صَرِيعِ اَلشَّهَوَاتِ وَ خَلِيفَةِ اَلْأَمْوَاتِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ اَلدُّنْيَا عَنِّي وَ جُمُوحِ اَلدَّهْرِ عَلَيَّ وَ إِقْبَالِ اَلْآخِرَةِ إِلَيَّ مَا يُرَغِّبُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ وَ اَلاِهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ اَلنَّاسِ هَمُّ نَفْسِي فَصَدَّقَنِي

-----------
( 1 ) ابن سعد 1 : 2 ، 175 .

[ 302 ]

رَأْيِي وَ صَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ وَ صَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدٍّ لاَ يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ وَ صِدْقٍ لاَ يَشُوبُهُ كَذِبٌ وَ وَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَ كَأَنَّ اَلْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ لُزُومِ أَمْرِهِ وَ عِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ وَ اَلاِعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ وَ أَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَ أَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وَ قَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَ نَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ وَ ذَلِّلْهُ بِذِكْرِ اَلْمَوْتِ وَ قَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ وَ بَصِّرْهُ فَجَائِعَ اَلدُّنْيَا وَ حَذِّرْهُ صَوْلَةَ اَلدَّهْرِ وَ فُحْشَ تَقَلُّبِ اَللَّيَالِي وَ اَلْأَيَّامِ وَ اِعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ اَلْمَاضِينَ وَ ذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ سِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَ آثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وَ عَمَّا اِنْتَقَلُوا وَ أَيْنَ حَلُّوا وَ نَزَلُوا فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ اِنْتَقَلُوا عَنِ اَلْأَحِبَّةِ وَ حَلُّوا دِيَارَ اَلْغُرْبَةِ وَ كَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ وَ لاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ وَ دَعِ اَلْقَوْلَ فِيمَا لاَ تَعْرِفُ وَ اَلْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ وَ أَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ فَإِنَّ اَلْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ اَلضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ اَلْأَهْوَالِ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَ أَنْكِرِ اَلْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَ لِسَانِكَ وَ بَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ وَ جَاهِدْ فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَ لاَ تَأْخُذْكَ فِي اَللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ وَ خُضِ اَلْغَمَرَاتِ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَ تَفَقَّهْ فِي اَلدِّينِ وَ عَوِّدْ نَفْسَكَ اَلتَّصَبُّرَ عَلَى اَلْمَكْرُوهِ وَ نِعْمَ اَلْخُلُقُ اَلتَّصَبُرُ فِي اَلْحَقِّ وَ أَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي اَلْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ وَ مَانِعٍ عَزِيزٍ وَ أَخْلِصْ فِي اَلْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ فَإِنَّ بِيَدِهِ اَلْعَطَاءَ وَ اَلْحِرْمَانَ وَ أَكْثِرِ

[ 303 ]

اَلاِسْتِخَارَةَ وَ تَفَهَّمْ وَصِيَّتِي وَ لاَ تَذْهَبَنَّ عَنْهَا صَفْحاً فَإِنَّ خَيْرَ اَلْقَوْلِ مَا نَفَعَ وَ اِعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَ لاَ يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لاَ يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ أَيْ بُنَيَّ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً وَ رَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ وَ أَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ اَلْهَوَى أَوْ فِتَنِ اَلدُّنْيَا فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ اَلنَّفُورِ وَ إِنَّمَا قَلْبُ اَلْحَدَثِ كَالْأَرْضِ اَلْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْ‏ءٍ قَبِلَتْهُ فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَ يَشْتَغِلَ لُبُّكَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ اَلْأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ اَلتَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَ تَجْرِبَتَهُ فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ اَلطَّلَبِ وَ عُوفِيتَ مِنْ عِلاَجِ اَلتَّجْرِبَةِ فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ وَ اِسْتَبَانَ لَكَ مَا قَدْ رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ بَلْ كَأَنِّي بِمَا اِنْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ وَ تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ وَ صَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ وَ رَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي اَلْوَالِدَ اَلشَّفِيقَ وَ أَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَ أَنْتَ مُقْبِلُ اَلْعُمُرِ وَ مُقْتَبَلُ اَلدَّهْرِ ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَ نَفْسٍ صَافِيَةٍ وَ أَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اَللَّهِ وَ تَأْوِيلِهِ وَ شَرَائِعِ اَلْإِسْلاَمِ وَ أَحْكَامِهِ وَ حَلاَلِهِ وَ حَرَامِهِ لاَ أُجَاوِزُ لَكَ إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اِخْتَلَفَ اَلنَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَ آرَائِهِمْ مِثْلَ اَلَّذِي اِلْتَبَسَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ إِحْكَامُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ

[ 304 ]

إِلَيَّ مِنْ إِسْلاَمِكَ إِلَى أَمْرٍ لاَ آمَنُ عَلَيْكَ بِهِ اَلْهَلَكَةَ وَ رَجَوْتُ أَنْ يُعَرِّفَكَ اَللَّهُ لِرُشْدِكَ وَ أَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هَذِهِ وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اَللَّهِ وَ اَلاِقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اَللَّهُ عَلَيْكَ وَ اَلْأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ اَلْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ وَ اَلصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ وَ فَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ إِلَى اَلْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا وَ اَلْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّمٍ وَ تَعَلُّمٍ لاَ بِتَوَرُّطِ اَلشُّبُهَاتِ وَ عُلُوِّ اَلْخُصُوصِيَّاتِ وَ اِبْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالاِسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ وَ اَلرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ وَ تَرْكِ كُلِّ شَائِبَةٍ أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَةٍ أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلاَلَةٍ فَإِذَا أَيْقَنْتَ أَنْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ وَ تَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ وَ كَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ وَ إِنْ أَنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ وَ فَرَاغِ نَظَرِكَ وَ فِكْرِكَ فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ اَلْعَشْوَاءَ وَ تَتَوَرَّطُ اَلظَّلْمَاءَ وَ لَيْسَ طَالِبُ اَلدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ وَ اَلْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَلُ فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي وَ اِعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ اَلْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ اَلْحَيَاةِ وَ أَنَّ اَلْخَالِقَ هُوَ اَلْمُمِيتُ وَ أَنَّ اَلْمُفْنِيَ هُوَ اَلْمُعِيدُ وَ أَنَّ اَلْمُبْتَلِيَ هُوَ اَلْمُعَافِي وَ أَنَّ اَلدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلاَّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اَللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ اَلنَّعْمَاءِ وَ اَلاِبْتِلاَءِ وَ اَلْجَزَاءِ فِي اَلْمَعَادِ أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لاَ نَعْلَمُ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ به فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ جَاهِلاً ثُمَّ عُلِّمْتَ وَ مَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ اَلْأَمْرِ وَ يَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ وَ يَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَ رَزَقَكَ وَ سَوَّاكَ

[ 305 ]

وَ لْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ وَ إِلَيْهِ رَغْبَتُكَ وَ مِنْهُ شَفَقَتُكَ وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اَللَّهِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ اَلرَّسُولُ ص فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَ إِلَى اَلنَّجَاةِ قَائِداً فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً وَ إِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي اَلنَّظَرِ لِنَفْسِكَ وَ إِنِ اِجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ إلى أن قال :

يَا بُنَيَّ اِجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَ اِكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا وَ لاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ وَ أَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ وَ اِسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ وَ اِرْضَ مِنَ اَلنَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ وَ لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ وَ لاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلْإِعْجَابَ ضِدُّ اَلصَّوَابِ وَ آفَةُ اَلْأَلْبَابِ فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ وَ لاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ وَ إِذَا كُنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ :

وَ اِعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ أَنَّهُ لاَ غِنَى لَكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ اَلاِرْتِيَادِ وَ قَدْرِ بَلاَغِكَ مِنَ اَلزَّادِ مَعَ خِفَّةِ اَلظَّهْرِ فَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالاً عَلَيْكَ وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ اَلْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِيَّاهُ وَ أَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلاَ تَجِدُهُ وَ اِغْتَنِمْ مَنِ اِسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ غِنَاكَ لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً اَلْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالاً مِنَ اَلْمُثْقِلِ وَ اَلْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ حَالاً مِنَ اَلْمُسْرِعِ وَ أَنَّ مَهْبِطَكَ بِهَا لاَ مَحَالَةَ عَلَى

[ 306 ]

جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ وَ وَطِّئِ اَلْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ فَلَيْسَ بَعْدَ اَلْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ وَ لاَ إِلَى اَلدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي اَلدُّعَاءِ وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَ تَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ وَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْكَ وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ وَ لَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ اَلتَّوْبَةِ وَ لَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ وَ لَمْ يُعَيِّرْكَ بِالْإِنَابَةِ وَ لَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ اَلْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى وَ لَمْ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ اَلْإِنَابَةِ وَ لَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ وَ لَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ اَلرَّحْمَةِ بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ اَلذَّنْبِ حَسَنَةً وَ حَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً وَ حَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً وَ فَتَحَ لَكَ بَابَ اَلْمَتَابِ وَ بَابَ اَلاِسْتِعْتَابِ فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاءَكَ وَ إِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ وَ أَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ وَ شَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ وَ اِسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ وَ اِسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ وَ سَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ مِنْ زِيَادَةِ اَلْأَعْمَارِ وَ صِحَّةِ اَلْأَبْدَانِ وَ سَعَةِ اَلْأَرْزَاقِ ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ فَمَتَى شِئْتَ اِسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ وَ اِسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ فَلاَ يُقْنِطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ فَإِنَّ اَلْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ اَلنِّيَّةِ وَ رُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ اَلْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ اَلسَّائِلِ وَ أَجْزَلَ لِعَطَاءِ اَلْآمِلِ وَ رُبَّمَا سَأَلْتَ اَلشَّيْ‏ءَ فَلاَ تُؤْتَاهُ وَ أُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلاً أَوْ آجِلاً أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ وَ يُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ فَالْمَالُ لاَ يَبْقَى لَكَ وَ لاَ تَبْقَى لَهُ

[ 307 ]

إلى أن قال :

وَ اِعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فَخَفِّضْ فِي اَلطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي اَلْمُكْتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ فَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ وَ لاَ كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى اَلرَّغَائِبِ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً وَ لاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اَللَّهُ حُرّاً وَ مَا خَيْرُ خَيْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ وَ يُسْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْرٍ وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا اَلطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ اَلْهَلَكَةِ وَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ وَ آخِذٌ سَهْمَكَ وَ إِنَّ اَلْيَسِيرَ مِنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ مِنَ اَلْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ وَ تَلاَفِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ وَ حِفْظُ مَا فِي اَلْوِعَاءِ بِشَدِّ اَلْوِكَاءِ وَ حِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ وَ مَرَارَةُ اَلْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ اَلطَّلَبِ إِلَى اَلنَّاسِ وَ اَلْحِرْفَةُ مَعَ اَلْعِفَّةِ خَيْرٌ مِنَ اَلْغِنَى مَعَ اَلْفُجُورِ وَ اَلْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ وَ رُبَّ سَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ فَكَّرَ أَبْصَرَ قَارِنْ أَهْلَ اَلْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ وَ بَايِنْ أَهْلَ اَلشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ بِئْسَ اَلطَّعَامُ اَلْحَرَامُ وَ ظُلْمُ اَلضَّعِيفِ أَفْحَشُ اَلظُّلْمِ إِذَا كَانَ اَلرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ اَلْخُرْقُ رِفْقاً رُبَّمَا كَانَ اَلدَّوَاءُ دَاءً وَ اَلدَّاءُ دَوَاءً وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ اَلنَّاصِحِ وَ غَشَّ اَلْمُسْتَنْصَحُ وَ إِيَّاكَ وَ اتِّكَالَكَ عَلَى اَلْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ اَلنَّوْكَى وَ اَلْعَقْلُ حِفْظُ اَلتَّجَارِبِ وَ خَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ بَادِرِ اَلْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ وَ لاَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ وَ مِنَ اَلْفَسَادِ إِضَاعَةُ اَلزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ اَلْمَعَادِ وَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ

[ 308 ]

سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ اَلتَّاجِرُ مُخَاطِرٌ وَ رُبَّ يَسِيرٍ أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ لاَ خَيْرَ فِي مُعِينٍ مَهِينٍ وَ لاَ فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ سَاهِلِ اَلدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ وَ لاَ تُخَاطِرْ بِشَيْ‏ءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اَللَّجَاجِ اِحْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى اَلصِّلَةِ وَ عِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اَللَّطَفِ وَ اَلْمُقَارَبَةِ وَ عِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى اَلْبَذْلِ وَ عِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى اَلدُّنُوِّ وَ عِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اَللِّينِ وَ عِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى اَلْعُذْرِ حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وَ كَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْ أَنْ تَفْعَلَ بِغَيْرِ أَهْلِهِ لاَ تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ وَ اِمْحَضْ أَخَاكَ اَلنَّصِيحَةَ حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً وَ تَجَرَّعِ اَلْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً وَ لاَ أَلَذَّ مَغَبَّةً وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ وَ خُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحَدُ اَلظَّفَرَيْنِ وَ إِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ يَوْماً مَا وَ مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ وَ لاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اِتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ وَ لاَ يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى اَلْخَلْقِ بِكَ وَ لاَ تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ وَ لاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ عَلَى مَقَاطِعَتِكَ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ وَ لاَ يَكُونَنَّ عَلَى اَلْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى اَلْإِحْسَانِ وَ لاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَ نَفْعِكَ وَ لَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ اَلرِّزْقَ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ مَا أَقْبَحَ اَلْخُضُوعَ عِنْدَ اَلْحَاجَةِ وَ اَلْجَفَاءَ عِنْدَ اَلْغِنَى إِنَّ لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ وَ إِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ

[ 309 ]

فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ اِسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَإِنَّ اَلْأُمُورَ أَشْبَاهٌ وَ لاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ اَلْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلاَمِهِ فَإِنَّ اَلْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالْآدَابِ وَ اَلْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ .

اِطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ اَلْهُمُومِ بِعَزَائِمِ اَلصَّبْرِ وَ حُسْنِ اَلْيَقِينِ مَنْ تَرَكَ اَلْقَصْدَ جَارَ وَ اَلصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ وَ اَلصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ وَ اَلْهَوَى شَرِيكُ اَلْعِنَاءِ وَ رُبَّ قَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ وَ رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ وَ اَلْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ مَنْ تَعَدَّى اَلْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ وَ مَنِ اِقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ وَ أَوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ وَ مَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ قَدْ يَكُونُ اَلْيَأْسُ إِدْرَاكاً إِذَا كَانَ اَلطَّمَعُ هَلاَكاً لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ وَ لاَ كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ وَ رُبَّمَا أَخْطَأَ اَلْبَصِيرُ قَصْدَهُ وَ أَصَابَ اَلْأَعْمَى رُشْدَهُ أَخِّرِ اَلشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ وَ قَطِيعَةُ اَلْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ اَلْعَاقِلِ مَنْ أَمِنَ اَلزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ إِذَا تَغَيَّرَ اَلسُّلْطَانُ تَغَيَّرَ اَلزَّمَانُ سَلْ عَنِ اَلرَّفِيقِ قَبْلَ اَلطَّرِيقِ وَ عَنِ اَلْجَارِ قَبْلَ اَلدَّارِ إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ اَلْكَلاَمِ مَا كَانَ مُضْحِكاً وَ إِنْ حَكَيْتَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِكَ وَ إِيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ اَلنِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ وَ عَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ وَ اُكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ فَإِنَّ شِدَّةَ اَلْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ وَ لَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ وَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ وَ لاَ تُمَلِّكِ اَلْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ اَلْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ وَ لاَ تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَ لاَ تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا وَ إِيَّاكَ وَ اَلتَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو اَلصَّحِيحَةَ إِلَى

[ 310 ]

اَلسَّقَمِ وَ اَلْبَرِيئَةَ إِلَى اَلرِّيَبِ وَ اِجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلاً تَأْخُذُهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلاَّ يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ وَ أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ اَلَّذِي بِهِ تَطِيرُ وَ أَصْلُكَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ وَ يَدُكَ اَلَّتِي بِهَا تَصُولُ اِسْتَوْدِعِ اَللَّهَ دِينَكَ وَ دُنْيَاكَ وَ اِسْأَلْهُ خَيْرَ اَلْقَضَاءِ لَكَ فِي اَلْعَاجِلَةِ وَ اَلْآجِلَةِ وَ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَلسَّلاَمُ قول المصنّف : ( و من وصيّة له عليه السّلام ) في ( محجّة ابن طاووس ) : قال أبو أحمد العسكري في كتاب ( زواجره ) : و لو كان من الحكم ما يجب أن يكتب بالذهب لكانت هذه الوصية 1 .

( للحسن بن علي عليه السّلام ) كون الوصية له عليه السّلام أحد القولين و احدى الروايتين ذهب إليه كالمصنف ابن شعبة في ( تحفه ) و رواه الكليني في ( رسائله ) 2 ، و قول آخر إنها لابنه محمد بن الحنفية ، ذهب إليه الشيخ و النجاشي في ( فهرستيهما ) ، و الصدوق في ( نوادر آخر فقيهه ) 3 .

قال الأول : روى الأصبغ عهد مالك الأشتر و وصية أمير المؤمنين عليه السّلام الى ابنه محمد بن الحنفية الى أن قال و أمّا الوصية فأخبرنا بها الحسين بن عبيد اللّه ، عن الدوري ، عن محمد بن أحمد بن أبي الثلج ، عن جعفر بن محمد الحسيني ، عن علي بن عبدك الصوفي ، عن الحسن بن ظريف ، عن الحسين بن علوان ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي قال : كتب أمير المؤمنين عليه السّلام الى ولده محمد بن الحنفية 4 .

و قال الثاني أيضا فيه : روى الأصبغ عنه عليه السّلام عهد الأشتر و وصيته إلى

-----------
( 1 ) كشف المحجة : 157 .

-----------
( 2 ) كشف المحجة : 159 نقلا عن رسائل الكليني ، و تحف العقول : 68 .

-----------
( 3 ) الفقيه 4 : 275 ح 10 .

-----------
( 4 ) فهرست الطوسي : 37 38 .

[ 311 ]

ابنه محمد ، أخبرنا عبد السّلام بن الحسين الأديب ، عن أبي بكر الدوري عن محمد بن أحمد بن أبي الثلج الخ مثل ( الفهرست ) 1 .

و روى ( الكافي ) الروايتين فقال في باب إكرام الزوجة : أبو علي الأشعري عن بعض أصحابنا عن جعفر بن عنبسة عن عباد بن زياد الأسدي عن عمرو بن أبي المقدام عن أبي جعفر عليه السّلام ، و أحمد بن محمد العاصمي عمّن حدّثه عن معلى بن محمد البصري عن علي بن الحسّان عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : في رسالة أمير المؤمنين الى الحسن : لا تملّك المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها ، فإنّ ذلك أنعم بحالها و أرخى لبالها و أدوم لجمالها ، فإنّ المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة ، و لا تعد بكرامتها نفسها ،

و اغضض بصرها بسترك و اكففها بحجابك ، و لا تطمعها في أن تشفع لغيرها فيميل من شفعت له عليك معها ، و استبق من نفسك بقية ، فإنّ إمساكك نفسك عنهن و هو يرين أنّك ذو اقتدار خير من أن يرين منك حالا على انكسار .

أحمد بن محمد بن سعيد عن جعفر بن محمد الحسني عن علي بن عبدك عن الحسن بن ظريف عن الحسين بن علوان عن سعد بن طريف عن الأصبغ عن أمير المؤمنين عليه السّلام مثله إلاّ انّه قال : كتب عليه السّلام بهذه الرسالة إلى ابنه محمّد 2 .

و رواها أبو أحمد العسكري في ( زواجره ) كما نقل عنه علي بن طاووس في الفصل ( 163 ) من ( محجته ) بأربعة طرق :

أولها : جماعة عن علي بن الحسين بن إسماعيل عن الحسن بن أبي عثمان الادمي عن أبي حاتم عن يوسف بن يعقوب عن بعض أهل العلم .

-----------
( 1 ) فهرست النجاشي : 6 .

-----------
( 2 ) الكافي 5 : 510 ح 3 .

[ 312 ]

و ثانيها : أحمد بن عبد العزيز عن سليمان بن الربيع عن كادح بن رحمة الزاهد عن صباح بن يحيى المزني ، و علي بن عبد العزيز الكاتب عن جعفر بن هارون بن زياد عن محمد بن علي الرضا عن آبائه عن جدّه عليه السّلام .

و ثالثها : علي بن محمد بن إبراهيم التستري عن جعفر بن عنبسة عن عباد بن زياد عن عمرو بن أبي المقدام عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السّلام .

و رابعها : محمد بن علي عن محمد بن العباس عن عبد اللّه بن زاهر عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السّلام ، كلّ هؤلاء حدّثونا أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كتب بهذه الرسالة الى الحسن . قال و روى بطريق واحد أحمد بن عبد الرحمن بن فضّال القاضي عن الحسن بن محمد و أحمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين عن جعفر بن محمد الحسني عن الحسن بن عبدك عن الحسن ابن ظريف عن الحسن بن علوان عن سعد بن طريف عن الأصبغ قال : كتب عليه السّلام الى ابنه محمّد 1 .

و طرق كونها الى الحسن عليه السّلام و ان كانت أكثر فقد عرفت أن أبا أحمد العسكري رواها بأربعة طرق ، و الكليني رواه بطريق آخر في طريقه الثاني ،

و أما طريقه الأول فمتّحد مع طريق أبي أحمد فتصير الطرق فيه خمسة ، و أما كونها الى محمد بن الحنفية فطريقة واحد ، فان الطرق كلّهم من العسكري و الكليني و الطوسي و النجاشي « جعفر الحسني عن ابن عبدك » الى آخر السند ، إلاّ أن الأول فسّر ابن عبدك بالحسن و الثلاثة بعلي ، الا أن الذي يبعد كونها الى الحسن عليه السّلام فضلا عن مقام إمامته و عدم احتياجه الى تلك الوصية بل الى عهد الامامة أنّه عليه السّلام كان في ذاك الوقت ابن ست و ثلاثين سنة ، لأن مولده كان في سنة اثنتين أو ثلاث ، و صفّين كانت في سنة ( 37 ) ، و في الوصية

-----------
( 1 ) كشف المحجة : 157 158 .

[ 313 ]

أنها كانت بعد صفّين ، و من فقرات الوصية « و إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية » ، و رواه ( العقد ) في كتاب ( الزمردة ) في المواعظ منه في عنوان « مواعظ الآباء » 1 .

هذا ، و قال ابن ميثم : روى جعفر بن بابويه أن هذه الوصية كتبها عليه السّلام إلى ابنه محمد بن الحنفية 2 .

قلت : ليس لنا جعفر بن بابويه بل أبو جعفر بن بابويه أي : محمد بن علي بن الحسين ، و قد عرفت أنّه قال ذلك في ( نوادر آخر فقيهه ) ، و لا يبعد أن يكون بعض الفقرات قالها عليه السّلام للحسن فخلطوهما فحصل هذا الاختلاف .

و يشهد لذلك أن في نقل ( نوادر آخر الفقيه ) بعد قوله : « فإنّ المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة » « فدارها على كلّ حال ، و أحسن الصحبة لها فيصفو عيشك ، إحتمل القضاء بالرضا ، و إن أحببت أن تجمع خير الدنيا و الآخرة فاقطع طمعك ممّا في أيدي الناس ، و السّلام عليك يا بنيّ و رحمة اللّه و بركاته » و قال : هذا آخر وصيته لمحمد بن الحنفية 3 ، و قد عرفت أن النهج نقل بعد ذلك القول أمورا أخر .

و كيف كان ففي روايات ( الفقيه ) زيادات 4 .

( كتبها إليه بحاضرين ) قال ابن أبي الحديد : كنّا نقرأه قديما بالحاضرين على صيغة التثنية ، يعني حاضر حلب و حاضر قنّسرين ، و هي الأرياض و الضواحي المحيطة بهذه البلاد ، ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام و لم يفسّروه ، و منهم من يذكره بصيغة الجمع و منهم من يقول

-----------
( 1 ) العقد الفريد 3 : 100 101 .

-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم : 398 .

-----------
( 3 ) الفقيه 4 : 280 .

-----------
( 4 ) الفقيه 4 : من السطر 17 من ص 275 الى السطر 7 من ص 280 .

[ 314 ]

بخناصرين يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها ، و قد طلبت هذه الكلمة في الكتب المصنفة ، سيما في البلاد فلم أجدها ، و لعلّي أظفر بها 1 .

قلت : الظاهر أن « حاضرين » محرّف « قنسرين » ، يشهد له طريق أبي أحمد الأول عن بعض أهل العلم قال : لما انصرف علي عليه السّلام من صفين الى قنسرين كتب به الى ابنه الحسن « من الوالد الفان . . . » ، و يجوز من حيث التقارب اللفظي أن يكون « بقاصرين » ، ففي ( فتوح البلاذري ) ، بعث أبو عبيدة جيشا عليه حبيب بن مسلمة الى قاصرين و قدم مقدمته الى بالس ، و كانت بالس و قاصرين لأخوين من أشراف الروم أقطعا القرى التي بالقرب منهما و جعلا حافظين لما بينهما من مدن الروم بالشام الى أن قال فلمّا كان مسلمة بن عبد الملك توجه غازيا للروم من نحو الثغور الجزرية عسكر ببالس فأتاه أهلها و أهل بولس و قاصرين و عابدين و صفّين و هي قرى منسوبة اليها . . . 2 .

ثم لا معنى لما قاله من كون « حاضرين » بصيغة التثنية بمعنى حاضر حلب و حاضر قنسرين ، فالإنسان لا يكون بمحلين . و كيف كان ففي بلدان البلاذري كان حاضر قنسرين لتنوخ منذ ما تنخوا بالشام نزلوه و هم في خيم الشعر ثم ابتنوا به المنازل .

و روى أيضا عن عبد الرحمن بن غنم قال : رابطنا مدينة قنسرين الى أن قال و كان حاضر طي قديما نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزلوا الجبلين الى أن قال و كان بقرب مدينة حلب حاضر تدعى حاضر حلب ، تجمع أصنافا من العرب تنوخ و غيرهم . . . 3 .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 52 .

-----------
( 2 ) فتوح البلدان للبلاذري : 155 .

-----------
( 3 ) فتوح البلاذري : 150 .

[ 315 ]

و في ( الصحاح ) : الحاضر : الحيّ العظيم ، يقال : حاضر طيّ‏ء ، و هو جمع كما يقال سامر للسمّار و حاجّ للحجّاج 1 .

و أما قوله : « و منهم من يقول بخناصرين يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها » ففيه أن خناصرة ليس لها تثنية أو جمع ، قال الحموي : خناصرة بليدة من أعمال حلب و جعلها جران العود خناصرات ، كأنّه جعل كلّ موضع منها خناصرة فقال « نظرت و صحبتي بخناصرات » 2 . و بالجملة ليس لنا موضع يقال له حاضرين أو خناصرين بلفظ التثنية أو الجمع .

( منصرفا من صفين ) هكذا في ( المصرية ) 3 ، و الصواب : ( عند انصرافه من صفين ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 4 .

قوله عليه السّلام « من الوالد الفان » نقله ( المحجة ) عن ( رسائل الكليني ) « من الوالد الفاني » 5 و هو الأصل ، و ما هنا للازدواج مع قوله بعد « المقر للزمان » .

هذا ، و من جيد ما قيل في الفناء :

دبّ فيّ الفناء علوا و سفلا
و أراني أموت عضوا فعضوا

ليس من ساعة مضت بي إلاّ
نقصتني بمرّها بي حذوا

« المقرّ للزمان » قال الشاعر :

ليس الأمان من الزمان بممكن
و من المحال وجود ما لا يمكن

معنى الزمان على الحقيقة كأسمه
فعلى م ترجو أنّه لا يزمن

و قال آخر :

-----------
( 1 ) الصحاح 2 : 632 .

-----------
( 2 ) معجم البلدان 2 : 390 .

-----------
( 3 ) نهج البلاغة 3 : 42 رقم 31 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 9 ابن ميثم : 398 هكذا .

-----------
( 5 ) كشف المحجة : 159 .

[ 316 ]

كانت قناتي لا تلين لغامز
فألانها الإصباح و الإمساء

و قال البحتري :

إنّ الزمان إذا تتابع خطوه
سبق الطّلوب و أدرك المطلوبا

« المدبر العمر » في ( تاريخ بغداد ) : سأل أبو بكر بن أبي الدنيا يوسف بن يعقوب القاضي عن قوته فقال : أجدني كما قال سيبويه :

لا ينفع الهليون و الطويفل
إنخرق الأعلى و جار الأسفل

فكيف تجدك أنت فقال :

أراني في انتقاص كلّ يوم
و لا يبقى مع النقصان شي

طوى العصران ما نشراه مني
فأخلق جدّتي نشر و طيّ 1

« المستسلم للدهر » في ديوان النابغة لما بلغه مرض النعمان مشيرا إلى النفس :

تكلّفني أن أفعل الدهر همها
و هل وجدت قبلي على الدهر قادرا 2

و لآخر :

و ما الناس في شي‏ء من الدهر و المنى
و ما الناس إلاّ سيقات المقادر

و قيل في غلبة الدهر أبيات كثيرة منها :

الدهر يلعب بالفتى
لعب الصوالج بالكره

أو لعب ريح عاصف
عصفت بكف من ذره

الدهر قنّاص و ما
الإنسان إلاّ قنبره

و منها :

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 14 : 311 ، بتصرف .

-----------
( 2 ) ديوان النابغة الذبياني : 55 ، طبعة مصر سنة 1911 .

[ 317 ]

برتني صروف الدهر من كلّ جانب
كما ينبري دون اللحاء عسيب

و منها :

و من يك ذا عظم صليب يعدّه
ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره

و منها :

الدهر أبلاني و ما أبليته
و الدهر غيّرني و ما يتغيّر

و الدهر قيّدني بخط مبرم
فمشيت فيه و كلّ يوم يقصر

و منها :

حنتني حانيات الدهر حتّى
كأنّي خاتل يدنو لصيد

و ما أجاد ابن المعتز في قوله للوزير ابن الفرات :

أبا حسن ثبّتّ في الأرض وطأتي
و أدركتني في المعضلات الهزاهز

و ألبستني درعا عليّ حصينة
فناديت صرف الدهر هل من مبارز ؟

فابن الفرات نفسه لم يسلم من صروف الدهر ، إذ خلع عن الوزارة ثلاث مرات و نكب فيها و قتل أخيرا ، فكيف آمنك يا ابن المعتز و أنت خليفة ليلة .

و في ( الأغاني ) : لما نعي النعمان بن المنذر إلى النابغة الذبياني و حدث بما صنع به كسرى أي : من إلقائه تحت أرجل الفيلة قال : طلبه من الدهر طالب الملوك ، ثم تمثّل :

من يطلب الدهر تدركه مخالبه
و الدهر بالوتر ناج غير مطلوب

ما من أناس ذوي مجد و مكرمة
إلاّ يشدّ عليهم شدة الذيب

حتى يبيد على عمد سراتهم
بالنافذات من النّبل المصابيب

إنّي وجدت سهام الموت معرضة
بكل حتف من الآجال مكتوب 1

و لما مات جعفر بن أبي جعفر المنصور أنشدوا للمنصور قصيدة أبي

-----------
( 1 ) الأغاني 2 : 146 .

[ 318 ]

ذؤيب الهذلي في بنيه :

أمن المنون و ريبه تتوجّع
و الدهر ليس بمعتب من يجزع

فاستنشد المنشد أن ينشده قوله « و الدهر ليس بمعتب من يجزع » مئة مرّة 1 .

و في ( الدميري ) : يحكى أنّ عضد الدولة خرج إلى بستان له متنزّها فقال :

ما أطيب يومنا هذا لو ساعدنا فيه الغيث ، فجاء المطر في الوقت فقال :

ليس شراب الراح إلاّ في المطر
و غناء من جوار في السّحر

ناعمات سالبات للنّهى
ناغمات في تضاعيف الوتر

عضد الدولة و ابن ركنها
ملك الأملاك غلاّب القدر

فلم يفلح بعد هذه الأبيان و عوجل بقوله : « غلاّب القدر » 2 .

« الذام للدنيا » في ( المعجم ) : دخل خيار النهدي على معاوية فقال له : ما صنع بك الدهر ؟ فقال : صدع قناتي و شيّب سوادي و أفنى لذاتي و جرأ عليّ أعدائي و لقد بقيت زمانا آنس بالأصحاب و أسبل الثياب و آلف الأحباب ،

فباعدوا عني و دنا الموت مني 3 .

و في ( بيان الجاحظ ) : دخل الهيثم بن الأسود العريان و كان خطيبا شاعرا على عبد الملك ، فقال له : كيف تجدك ؟ قال : أجدني قد ابيضّ مني ما كنت أحبّ أن يسوّد ، و أسودّ منّي ما كنت أحبّ أن يبيضّ ، و أشتدّ منّي ما كنت أحب أن يلين ، و لان منّي ما كنت أحبّ أن يشتدّ ، ثم أنشد :

اسمع انبّئك بآيات الكبر
نوم العشاء و سعال بالسحر

-----------
( 1 ) الأغاني 6 : 271 272 ، بتصرّف .

-----------
( 2 ) حياة الحيوان للدميري 1 : 133 .

-----------
( 3 ) معجم الادباء 11 : 90 .

[ 319 ]

و قلّة النوم إذا الليل اعتكر
و قلّة الطعم إذا الزاد حضر

و سرعة الطرف و تحميج النظر
و حذرا أزداده إلى حذر

و تركي الحسناء في قبل الطهر
و الناس يبلون كما يبلى الشّجر 1

قلت : أشار في قوله : « إبيضّ و أسودّ و اشتدّ » إلى شعره و سنّه و جلده و عظمه .

و قال آخر :

تنكّر لي مذ شبت دهري فأصبحت
معارفه عندي من النكرات

و قال آخر أيضا :

ألقى عليّ الدهر رجلا و يدا
و الدهر ما أصلح يوما فسدا

يصلحه اليوم و يفسده غدا

و في ( الأغاني ) عن مطرف بن عبد اللّه الهذلي عن أبيه عن جده قال : بينا أنا أطوف بالبيت و معي أبي إذ أنا بعجوز كبيرة يضرب أحد لحييها الآخر ،

فقال لي أبي : أ تعرف هذه ؟ قلت : لا . قال : هذه التي يقول فيها الأحوص :

يا سلم ليت لسانا تنطقين به
قبل الذي نالني من حبّكم قطعا

يلومني فيك أقوام أجالسهم
فما أبالي أطار اللّوم أم وقعا

أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني
حتى إذا قلت هذا صادق نزعا

فقلت له : يا أبه ما أرى أنّه كان في هذه خير قط ، فضحك ثم قال : يا بنيّ هكذا يصنع الدهر بأهله 2 .

« السّاكن مساكن الموتى » قال الأعشى :

أزال أذينة عن ملكه
و أخرج من حصنه ذا يزن

-----------
( 1 ) البيان و التبيين 2 : 70 .

-----------
( 2 ) الأغاني 4 : 300 دار احياء التراث العربي .

[ 320 ]

و خان النعيم أبا مالك
و أيّ امرى‏ء لم يخنه الزمن

أزال الملوك فأفناهم
و أخرج من بيته ذا حزن 1

و قال في سيل العرم :

رخام بنته لهم حمير
إذا جاءه ماؤهم لم يرم

فأروى الزروع و أعنابها
على سعة ماؤهم إذ قسم

فعاشوا بذلك في غبطة
فجار بهم جارف منهزم

فطار القيول و قيلاتها
بيهماء فيها سراب يطم

فطاروا سراعا و ما يقدرو
ن منه لشرب صبّي فطم 2

و قال أبو العتاهية :

أنساك محياك المماتا
فطلبت في الدنيا الثباتا

أوثقت بالدنيا و أن
ت ترى جماعتها شتاتا

و عزمت منك على الحيا
ة و طولها عزما بتاتا

يا من رأى أبويه في
من قد رأى كانا فماتا

هل فيهما لك عبرة
أم خلت أنّ لك انفلاتا 3

« و الظاعن » هكذا في ( المصرية ) 4 و الصواب : ( الظاعن ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 5 ، و الظاعن أي : المرتحل ( عنها غدا ) و قال الشاعر :

-----------
( 1 ) ديوان الأعشى : 306 .

-----------
( 2 ) ديوان الأعشى : 201 . و القيول : الواحد قيل لقب ملوك حمير ، و يطم : يعلو .

-----------
( 3 ) الأغاني 4 : 52 .

-----------
( 4 ) نهج البلاغة 3 : 42 رقم 31 .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 9 ، شرح ابن ميثم 398 هكذا ( الطبع الحجري ) .

[ 321 ]

كلّ تصبّحه المنية
أو تبيّته بياتا 1

هذا ، و ما أبعد البون بين هذا الرجل الذي هو سلطان الدين يصف نفسه بهذه الأوصاف و بين سلاطين الدنيا و عجبهم و اغترارهم حتى ينسلخوا من الإنسانية و يدّعوا الربوبية ، فكتب قابوس بن وشمكير إلى أصبهد له هجره كما في ديوان معاني العسكري و كيف تهجر من تضاءلت الأرض تحت قدمه فصارت له في الانقياد كبعض خدمه ، إذا رأت منه هشاشة أعشبت ، و إن أحسّت منه بجفوة أجدبت ، و كيف تستغني عمّن خيله العزمات و الأوهام و أنصاره الليالي و الأيام ، من هرب منه أدركه مكائدها و من طلبه وجده في مراصدها ، و كيف يعرض عمّن تعرض رفاهية العيش بإعراضه ، و تنقبض الأرزاق بانقباضه ، و أضاء نجم الإقبال إذا أقبل ، و أهلّ هلال المجد إذا تهلّل ،

و كيف يزهى على من تحقر في عينه الدنيا و ترى تحته السماء العلياء ، و قد ركب عنق الفلك و استوى على ذات الحبك ، فتبرجت له البروج و تكوكبت لعبادته الكواكب و استجارت بعزته المجرّة و آثرت لمحاسنه أوضاح الثريا ،

بل كيف يهون من لو شاء عقد الهواء و جسم الهباء و فصل تراكيب الأشياء و ألّف بين النار و الماء ، و أخمد ضياء الشمس و القمر و كفاهما عناء السير و السفر ، و سد مناخر الزعازع و أطبق أجفان البروق اللوامع ،

و قطع ألسنة الرعود بسيفه من الوعيد و نظم صوب الغمام نظم الفريد ، و رفع عن الأرض سطوة الزلازل و قضى ما يراه على القضاء النازل ، و عرض الشيطان بمعرض الإنسان و كحل العيون بصور الغيلان ، و أنبت العشب على البحار و ألبس الليل ضوء النهار إلى أن قال فإنّي لو علمت أن الأرض لا تسف تراب قدمي لما وضعت عليها جانبا و ان السماء لا تتوق إلى تقبيل

-----------
( 1 ) الأغاني 4 : 52 ، و البيت لأبي العتاهية .

[ 322 ]

هامتي لما رفعت اليها طرفا . . . 1 .

« إلى المولود » أي : الولد « المؤمل ما لا يدرك » فمحال أن يدرك أحد جميع آماله ، و من أدرك شيئا منها فإنّما يدرك قليلا من كثير .

تمنّيت أن تحيى حياة هنيئة
و أن لا ترى كرّ الزمان بلا بلا

رويدك هذي الدار سجن و قلّما
يمرّ على المسجون يوما بلابلا

و أيضا :

و أرجو من الأيام بالوصل عودة
و تلك أماني النفوس الكواذب

« السالك سبيل من قد هلك » قال لقمان لابنه : إنّ الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم ، فلم يبق ما جمعوه ، و لم يبق من جمعوا له ، و إنّما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل و وعدت عليه أجرا ، فأوف عملك و استوف أجرك ، و لا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر ، فأكلت حتى سمنت ، فكان حتفها عند سمنها ، و لكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها و تركتها ،

و لم ترجع اليها آخر الدهر . . . 2 .

« غرض الأسقام » أي : تجعله الأسقام هدفا لها .

في ( المروج ) : كان الجاحظ في علّته التي مات فيها يطلي نصفه الأيمن بالصندل و الكافور لشدّة حرارته ، و النصف الآخر لو قرض بالمقاريض ما شعر به من خدره و برده 3 .

« و رهينة الأيام » قال حميد بن ثور النميري :

و لا يلبث العصران يوما و ليلة
إذا طلبا أن يدركا ما تمنّيا

-----------
( 1 ) انظر ديوان المعاني لأبي هلال العسكري : 86 87 .

-----------
( 2 ) الكافي 2 : 134 ح 2 .

-----------
( 3 ) مروج الذهب 4 : 109 .

[ 323 ]

إذا ما تقاضى المرء يوما و ليلة
تقاضاه شي‏ء لا يملّ التقاضيا

و قال الأعشى :

لعمرك ما طول هذا الزمن
على المرء إلاّ عناء معن

يظلّ رجيما لريب المنون
و للسقم في أهله و الحزن

و هالك أهل يجنّونه
كآخر في قفرة لم يجن

و ما إن أرى الدهر في صرفه
يغادر من شارخ أو يفن 1

« و رمية المصائب » كصيد رماه الصائد ، قال عمرو بن قميئة من طبقة حجر أبي أمرى‏ء القيس :

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى
فكيف بمن يرمي و ليس برام

فلو أنّني أرمى بنبل رأيتها
و لكنني أرمى بغير سهام 2

« و عبد الدنيا و تاجر الغرور » و ما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور 3 « و غريم » أي : مديون « المنايا » أي : الحوادث المقدرة ، قال :

سأعمل نص العيس حتى يكفنى
غنى المال يوما أو منى الحدثان

« و أسير الموت » أينما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم في بروج مشيّدة 4 قل إنّ الموت الذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم 5 .

« و حليف الهموم و قرين الأحزان » فإن الإنسان في كلّ وقت له مقاصد

-----------
( 1 ) ديوان الأعشى : 205 .

-----------
( 2 ) الأغاني 18 : 142 ، و فيه :


فما بال من يرمى و ليس برام

فلو أنّ ما أرمى بنبل رميتها
و لكنما أرمى بغير سهام

-----------
( 3 ) آل عمران : 185 ، و الحديد : 20 .

-----------
( 4 ) النساء : 78 .

-----------
( 5 ) الجمعة : 8 .

[ 324 ]

لا تتيسر له فهو دائما رهين همّ و قرين حزن .

و إذا عددت سني ثم نقصتها
زمن الهموم فتلك ساعة مولدي

« و نصب الآفات » أي : جعل منصوبا في مقابلها « و صريع الشهوات » أي :

مهلكها الطريح على الأرض .

و قد عدّد اللّه تعالى شهوات الدنيا في قوله عزّ و جل زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسوّمة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و اللّه عنده حسن المآب 1 ،

و لا سيما حبّ النساء ، و قد هلك جمع فيهن ، و قد ألّف فيه بعضهم كتابا سمّاه « مصارع العشّاق » جمع فيه من مات منهم بحبّهن 2 .

هذا ، و من الشعراء موسى شهوات ، قال ابن قتيبة في ( شعرائه ) : لقّب « شهوات » لأن عبد اللّه بن جعفر كان يتشهى عليه الشهوات فيشتريها له و يتربّح عليه 3 .

و في ( زهر آداب الحصري ) : لقّب مسلم بن الوليد الأنصاري صريع الغواني و الصريع لقوله :

صريع غوان راقهنّ و رقنه
لدن شبّ حتّى أبيضّ سود الذوائب

هل العيش إلاّ أن تروح مع الصبا
صريع حميّا الكأس و الحدق النجل

و في ( وزراء الجهشياري ) : خلف المنصور في بيوت الأموال تسعمئة ألف ألف درهم و ستين ألف ألف درهم ، و كان أبو عبيدة وزير المهدي أوّلا يشير عليه بالاقتصاد و حفظ الأموال ، و لما صار يعقوب بن داود وزيره زيّن

-----------
( 1 ) آل عمران : 14 .

-----------
( 2 ) انظر مصارع العشاق تأليف الشيخ أبي محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السّراج القاري ( رحمة اللّه ) .

-----------
( 3 ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : 366 ، طبعة دار صادر بيروت .

[ 325 ]

له هواه فأنفق المال و أكبّ على اللذّات و الشرب و سماع الغناء ، ففي ذلك يقول بشار :

بني أمية هبوا طال نومكم
إنّ الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فاطّلبوا
خليفة اللّه بين الزّقّ و العود 1

« و خليفة الأموات » قيل إنّ صوفيّا أراد دخول قصر إبراهيم بن أدهم أيام ملكه فمنعه الحاجب فقال : لم تمنعني و هذا خان . قال : تسمّي قصر الملوك خانا . قال : من كان قبل الملك فيه ؟ قال : أبوه . قال : و قبله . قال : جدّه . فقال : و هل الخان إلاّ من يرحل منه إنسان و ينزله آخر ، فسمع ذلك إبراهيم من فوق قصره فترك ملكه .

هذا ، و في ( المروج ) قال المنصور يوما للربيع : ما أطيب الدنيا لو لا الموت . فقال له الربيع : و ما طابت إلاّ بالموت . قال : و كيف ذلك ؟ قال : لو لا الموت لم تقعد هاهنا . قال : صدقت 2 .

سل الدور تخبر و أفصح بها
بأن لا بقاء لأربابها

هذا ، و قال ابن أبي الحديد : عدّ عليه السّلام من صفات نفسه سبعا و من صفات ولده أربع عشرة ، فجعل بازاء كلّ واحدة ممّا له ، إثنتين ممّا لولده . و من جيّد ما وصف شاعر نقص الدهر من قواه قول عوف بن محلّم الشيباني في عبد اللّه بن طاهر أمير خراسان :

يا ابن الّذي دان له المشرقان
و ألبس الأمن به المغربان

إنّ الثمانين و بلّغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

و من الشعر القديم الجيّد في هذا المعنى قول سالم بن عونة الضبّي :

-----------
( 1 ) الوزراء و الكتّاب : 118 .

-----------
( 2 ) مروج الذهب 3 : 302 .

[ 326 ]

لا يبعدنّ عصر الشباب و لا
لذّاته و نباته النضر

إلى أن قال :

أو لم تري لقمان أهلكه
ما اقتات من سنة و من شهر

جعل الزمان كالقوت له ، و من اقتات الشي‏ء أكله ، و الأكل سبب المرض و المرض سبب الهلاك 1 .

قلت : أما قوله « جعل بإزاء كلّ واحدة مما له اثنتين مما لولده » فليس بجيّد ، لأنّه لم يجعل وصفا أزاء وصف و مقابلا له ، بل الكلّ من واد واحد للتنبيه على نقص الدنيا حتى لا يغترّ بها ، و إنّما ضاعف عليه السّلام أوصاف ولده لأن الشابّ آماله أكثر .

كما أن ما نقله من أبيات الشاعرين ليست في معنى كلامه عليه السّلام ، فإنّ الشاعرين في مقام مدح الشباب و ذم الشيب ، و هو عليه السّلام بصدد ذمّ أصل الدنيا شبابها و شيبها و أصلها و فرعها .

كما ان ما فسّر به المصراع الأخير بادر ، و إنّما المراد أنّ لقمان أكل سنته و شهره و كانا قوته و مادة حياته ، فبقي بعد أكله لهما بلا قوت فهلك .

« أمّا بعد فإنّ فيما تبيّنت من أدبار الدنيا عنّي و جموح » من جمح الفرس براكبه : إذا صار بحيث لا يملكه .

« الدهر عليّ و إقبال الآخرة إليّ ما » من الغريب أن محشّي ( المصرية ) كتب « ما » خبر 2 « إن » مع أنّه واضح كونها أسمها ، كما أنّ قوله و روي فإنّني فيما تبيّنت ، و عليه فما مفعول « تبيّنت » أيضا بلا معنى « يرغبني » هكذا في

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 54 56 .

-----------
( 2 ) نهج البلاغة 3 : 43 ، الهامش رقم 3 .

[ 327 ]

( المصرية ) 1 و الصواب : ( يزعني ) أي : يمنعني كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 .

« عن ذكر من سواي و الاهتمام بما ورائي » .

في ( وزراء الجهشياري ) : لما مات عمر بن داود أخو يعقوب بن داود وزير المهدي بحبّتي عنب اعترضتا في حلقه ، صار إليهم سفيان بن عيينة معزّيا ، فأنشدهم بيت عمران بن حطان :

و كيف أعزّيك و الأحداث مقبلة
فيها لكل امرى‏ء من نفسه شغل 3

و في ( البيان ) غمّضت أعرابية ميّتا ثم قالت : ما أحق من ألبس العافية و أطيلت له النظرة ، ألاّ يعجز عن النظر لنفسه قبل الحلول بساحته ، و الحيالة بينه و بين نفسه 4 .

و رأى إياس بن قتادة شعرة بيضاء في لحيته فقال : أرى الموت يطلبني و أراني لا أفوته ، أعوذ بك يا ربّ من فجئات الامور ، يا بني سعد قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبي . و لزم بيته .

هذا ، و واضح أن المراد بقوله عليه السّلام « و الاهتمام بما ورائي » من أمور الدنيا و أهلها ، و أغرب محشّي المصرية الأولى فقال : أي : عن الاهتمام بما ورائي من أمر الآخرة 5 .

« غير أنّي حيث تفرّد بي دون هموم الناس همّ نفسي » عليكم أنفسكم لا

-----------
( 1 ) نهج البلاغة 3 : 43 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 57 شرح ابن ميثم ( الطبعة الحجرية ) : 399 هكذا .

-----------
( 3 ) الوزراء و الكتّاب : 116 .

-----------
( 4 ) البيان و التبيين للجاحظ 3 : 406 ، بتصرف .

-----------
( 5 ) نهج البلاغة 3 : 43 .

[ 328 ]

يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم 1 .

« فصدّقني رأيي » و من أمثالهم « صدقني سن بكرة » ، و أصله أنّ رجلا ساوم رجلا في بكر فقال : ما سنّه ؟ فقال : صاحبه : بازل ، ثم نفر البكر فقال له صاحبه « هدع هدع » ، و هذه لفظة تسكن بها صغار الإبل ، فلّما سمعه المشتري قال : صدقني سن بكرة .

و من أمثال الميداني قال أبو عبيدة : يروى عن علي عليه السّلام أنّه أتي فقيل له :

إنّ بني فلان و بني فلان اقتتلوا ، فغلب بنو فلان ، فأنكر ذلك . ثم أتاه آت فقال : بل غلب بنو فلان للقبيلة الاخرى فقال عليه السّلام : صدقني سن بكرة .

قال أبو عمرو : دخل الأحنف على معاوية بعد علي عليه السّلام فقال له معاوية :

أما إنّي لم أنس اعتزالك يوم الجمل ببني سعد و نزولك بهم سفوان و قريش تذبح بناحية البصرة ذبح الحيران ، و لم أنس طلبك إلى ابن أبي طالب أن يدخلك في الحكومة لتزيل عنّي أمرا جعله اللّه لي ، و لم أنس تحضيضك بني تميم يوم صفّين على نصرة عليّ ، فلما خرج من عنده قيل للأحنف : ما قال لك معاوية ؟

قال : صدقني سن بكرة أي : خبّرني بما انطوت عليه ضلوعه 2 .

« و صرفني عن هواي » و لا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل اللّه 3 و قالوا « من هوي هوى » 4 .

« و صرح لي » من « لبن صريح » ذهبت رغوته .

-----------
( 1 ) المائدة : 105 .

-----------
( 2 ) الميداني 1 : 392 .

-----------
( 3 ) ص : 26 .

-----------
( 4 ) الروايات بهذا المعنى كثيرة كقول أمير المؤمنين عليه السّلام من أطاع هواه هلك ( غرر الحكم ) و لكن لم أجد رواية بهذا اللفظ في البحار و لا في الغرر و لا في وسائل الشيعة و لا في النهج و لا في ميزان الحكمة .

[ 329 ]

« محض أمري » و من أمثالهم « صرّح الحق عن محضه » 1 ، « صرّح المخض عن الزبد » 2 ، « صرحت بجلذان » 3 قيل جلذان موضع بالطائف مستو لا خمر فيه يتوارى به .

« فأفضى » أي : جر .

« بي إلى جدّ لا يكون فيه لعب ، و صدق لا يشوبه كذب ، و وجدتك » هكذا في ( المصرية ) 4 و الصواب : ( وجدتك ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 5 ، و لأنّه جواب « حيث » فلا وجه للواو .

« بعضي بل وجدتك كلّي » فقالوا « أولادنا أكبادنا » 6 .

و في الخبر قيل للنبي صلّى اللّه عليه و آله : ما بالنا نجد بأولادنا ما لا يجدون بنا ؟ قال :

لأنهم منكم و لستم منهم 7 .

و في ( نسب قريش مصعب الزبيري ) : لما حملت فاطمة عليها السّلام بالحسين عليه السّلام رأت أم الفضل امرأة العباس كأنّ عضوا من أعضاء النبيّ في بيتها ، فأخبرت النبيّ بذلك فقال لها : تلد فاطمة غلاما فترضعينه

-----------
( 1 ) مجمع الأمثال للميداني 1 : 398 ، الزمخشري 2 : 140 .

-----------
( 2 ) مجمع الأمثال للميداني 1 : 405 .

-----------
( 3 ) مجمع الأمثال للميداني 1 : 405 ، الزمخشري 3 : 140 .

-----------
( 4 ) نهج البلاغة 3 : 43 .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 57 ، و شرح ابن ميثم : 399 السطر العشرون هكذا .

-----------
( 6 ) هذه العبارة جزء ممّا روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّه قال : أولادنا ، أكبادنا ، صغراؤهم امراؤنا ، كبراؤهم أعداؤنا ، فان عاشوا فتنونا و ان ماتوا أحزنونا .

راجع بحار الأنوار ( طبع المكتبة الإسلامية « ايران » ) 104 : 97 ح 58 نقله المجلسي ( ره ) عن جامع الأخبار :

105 .

-----------
( 7 ) انظر بحار الأنوار 104 : 93 ، نقله المجلسي رحمة اللّه عن مكارم الأخلاق 1 : 253 هكذا : « سأل رجل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال :

ما لنا . . . » .

[ 330 ]

بلبان ابنك قثم 1 .

و في ( تاريخ بغداد ) : حضر مجلس ابن السراج يوما بنيّ له صغير ،

فأظهر من المحبّة له ما يكثر ، فقال له بعض الحاضرين : أ تحبّه ؟ فقال متمثلا :

أحبّه حبّ الشحيح ماله
قد كان ذاق الفقر ثم ناله 2

« حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني » ممّا قيل في الاتحاد قول جرير :

و كأني بالأباطح من صديق
يراني لو أصبت هو المصابا

و قال آخر :

مزجت روحك في روحي كما
يمزج الخمرة بالماء الزلال

فإذا مسّك شي‏ء مسّني
فإذا أنت أنا في كلّ حال

و قال آخر :

جعلت روحك في روحي كما
يجعل العنبر في المسك الفتق

فإذا مسّك شي‏ء مسّني
فإذا أنت أنا لا نفترق

« و كأن الموت لو أتاك أتاني » دفن اعرابي ابنه ثم قال :

دفنت بنفسي بعض نفسي فأصبحت
و للنفس منها دافن و دفين

« فعناني » أي : أهمّني .

« من أمرك ما يعنيني من نفسي ، فكتبت إليك كتابي » هكذا في ( المصرية ) 3 أخذا « كتابي » من ( ابن أبي الحديد ) و كان عليه أن يأخذ منه بعده « هذا » أيضا .

-----------
( 1 ) انظر نسب قريش : 24 ، و لعلّ نقل المصنّف بتصرف كبير أخلّ بالمعنى ، فان ام الفضل امرأة العباس رأت فيما يرى النائم كأنّ عضوا . . .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 5 : 320 بتصرف .

-----------
( 3 ) نهج البلاغة 3 : 43 .

[ 331 ]

و الكلمتان في ( ابن ميثم و الخطية ) أيضا 1 .

« مستظهرا به ان أنا بقيت لك أو فنيت » فيكون الكتاب خلفا منه لو فني ،

و المعين لو بقي . قال الشاعر :

أبنيّ إنّ أباك كارب يومه
فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل

« فاني أوصيك بتقوى اللّه » هكذا في ( المصرية ) 2 و فيها سقط فبعدها « أي بني » قال تعالى فاتقوا اللّه ما استطعتم 3 .

« و لزوم أمره » قال تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم 4 .

« و عمارة قلبك بذكره » ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب 5 .

« و الاعتصام بحبله » و اعتصموا بحبل اللّه جميعا و لا تفرقوا 6 .

« و أيّ سبب » أي : حبل .

« أوثق » أي : أحكم .

« من سبب بينك و بين اللّه إن أنت أخذت به » فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها و اللّه سميع عليم 7 .

« أحي قلبك بالموعظة » إستجيبوا للّه و للرسول إذا دعاكم لما

-----------
( 1 ) في شرح ابن أبي الحديد 16 : 57 ( فكتبت اليك كتابي ) و في ابن ميثم ، الطبعة الحجرية 399 ( فكتبت اليك كتابي هذا ) .

-----------
( 2 ) نهج البلاغة 3 : 43 .

-----------
( 3 ) التغابن : 16 .

-----------
( 4 ) النور : 63 .

-----------
( 5 ) الرعد : 28 .

-----------
( 6 ) آل عمران : 103 .

-----------
( 7 ) البقرة : 256 .

[ 332 ]

يحييكم 1 و ما أنت بمسمع من في القبور 2 .

« و أمته بالزهادة » لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم 3 .

و لا يخفى لطف قوله عليه السّلام « أحي قلبك و أمته » ، و المراد إحياؤه بالنسبة إلى الآخرة و إماتته بالنسبة إلى الدنيا ، و أكثر الناس بالعكس . و زاد في رواية الكليني « و أسكنه بالخشية و أشعره بالصبر » 4 .

« و قّوّه باليقين » كلا لو تعلمون علم اليقين . لترون الجحيم 5 .

« و نوّره بالحكمة » و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا 6 .

« و ذللّه بذكر الموت » قل إنّ الموت الذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم ثم تردّون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون 7 .

« و قرّه بالفناء » إنما هذه الحياة متاع و ان الآخرة هي دار القرار 8 .

« و بصّره فجائع الدنيا و حذّره صولة الدهر و فحش تقلّب الليالي و الأيام » في ( الأغاني ) : كانت خرقاء بنت النعمان إذا خرجت إلى بيعتها يفرش لها طريقا بالحرير و الديباج مغشّى بالخزّ و الوشي ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها و ترجع إلى منزلها ، فلما هلك النعمان نكبها الزمان فأنزلها من الرفعة إلى الذلّة ، فلما وفد سعد القادسية أميرا عليها و انهزم الفرس و قتل رستم ، أتته في حفدة من قومها و جواريها عليهن المسوح و المقطعات السود تطلب

-----------
( 1 ) الانفال : 24 .

-----------
( 2 ) فاطر : 22 .

-----------
( 3 ) الحديد : 23 .

-----------
( 4 ) كشف المحجة : 160 .

-----------
( 5 ) التكاثر : 5 ، 6 .

-----------
( 6 ) البقرة : 269 .

-----------
( 7 ) الجمعة : 8 .

-----------
( 8 ) غافر : 39 .

[ 333 ]

صلته ، فقال لهن : أيتكن خرقاء ؟ قالت : ها أنا ذه إنّ الدنيا دار زوال و لا تدوم على حال ، كنّا ملوك هذا المصر يجبى لنا خراجه و يطيعنا أهله مدى المدة و زمان الدولة ، فلما أدبر الأمر صاح بنا صائح الدهر فصدع عصانا و شتّت شملنا ، و كذلك الدهر ليس يأتي قوما بمسرّة إلاّ و يعقبهم بحسرة ، ثم قالت :

فبينا نسوس الناس و الأمر أمرنا
اذا نحن فيهم سوقة ليس تعرف

فأفّ لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا و تصرّف

و قال محمد بن عبد الرحمن الهاشمي : دخلت على أمي يوم أضحى و عندها امرأة في أثواب دنسة ، فقالت : أ تعرف هذه ؟ قلت : لا . قالت : هي عنابة أم جعفر البرمكي ، فسلّمت عليها و قلت لها : حدّثيني ببعض أمركم . فقالت : أذكر لك جملة فيها عبرة لمن اعتبر ، لقد هجم عليّ مثل هذا اليوم و على رأسي أربعمئة وصيفة و أنا أزعم أن ابني جعفر عاق لي ، و قد أتيتكم اليوم أسألكم جلدي شاتين بشعار و دثار .

و كان الفضل بن مروان وزير المعتصم جالسا يوما لاشغال الناس ،

فرفعت إليه قصص العامة ، فرأى فيها رقعة مكتوبا فيها هذه الأبيات :

تفرعنت يا فضل بن مروان فاعتبر
فقبلك كان الفضل و الفضل و الفضل

ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم
أبادتهم الأقياد و الحبس و القتل

و إنّك قد أصبحت في الناس ظالما
ستودي كما أودى الثلاثة من قبل

أراد الفضل بن يحيى و الفضل بن الربيع و الفضل بن سهل ، ثم نكبه المعتصم فقالوا :

ليبك على الفضل بن مروان نفسه
فليس له باك من الناس يعرف

لقد صحب الدنيا منوعا لخيرها
و فارقها و هو الظلوم المعنف

إلى النار فليذهب و من كان مثله
على أيّ شي‏ء فاتنا منه نأسف

[ 334 ]

و لأبي الفتح المعرّي :

الدهر خداعة خلوب فلا
تغرنك الليالي فبرقها خلب كذوب

و أكثر الناس فاعتزلهم
قوالب ما لهم قلوب

« و أعرض عليه أخبار الماضين و ذكّره بما أصاب قبلك من الأولين » في ( الأغاني ) عن عدي بن زيد :

لم أر مثل الفتيان في غبن الأ
يّام ينسون ما عواقبها

ينسون إخوانهم و مصرعهم
و كيف تعتاقهم مخالبها

ما ذا ترجي النفوس من طلب الخير
و حبّ الحياة كاربها

تظنّ ان لن يصيبها عنت الدّهر
و ريب المنون صائبها 1

« و سر في ديارهم و آثارهم » قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين 2 ، قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين 3 .

« فانظر فيما فعلوا » هكذا في ( المصرية ) 4 و الصواب : ( ما فعلوا ) بدون « في » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 5 .

« و عمّا انتقلوا و أين حلّوا و نزلوا ، فإنّك تجدهم قد انتقلوا » هكذا في ( المصرية ) 6 و الصواب : ( انتقلوا ) بدون قد كما في ( ابن أبي الحديد

-----------
( 1 ) الأغاني 2 : 147 طبعة دار الكتب .

-----------
( 2 ) الانعام : 11 .

-----------
( 3 ) النمل : 69 .

-----------
( 4 ) نهج البلاغة 3 : 44 .

-----------
( 5 ) في شرح ابن أبي الحديد 16 : 62 و الطبعة المصرية ، و ابن ميثم الطبعة الحجرية 400 السطر السادس ( فانظر ما فعلوا ) .

-----------
( 6 ) نهج البلاغة 3 : 44 السطر الثامن .

[ 335 ]

و ابن ميثم و الخطية ) 1 .

« عن الأحبة و حلوا ديار الغربة » و زاد ابن شعبة في روايته « و ناد في ديارهم : أيتها الديار الخالية أين أهلك ثم قف على قبورهم ، فقل : أيّتها الأجساد البالية ، و الأعضاء المتفرّقة ، كيف وجدتم الدار التي أنتم بها » 2 .

في ( كامل المبرد ) : نزل النعمان بن المنذر في ظلّ شجرة مونقة ليلهو و معه عدي بن زيد ، فقال له : أبيت اللعن أ تدري أيّها الملك ما تقول هذه الشجرة ؟ قال : لا . قال تقول :

من رآنا فليحدّث نفسه
أنّه موف على قرن زوال

و صروف الدهر لا تبقى لها
و لما تأتى به صمّ الجبال

ربّ ركب قد أناخوا حولنا
يمزجون الخمر بالماء الزلال

و الأباريق عليها فدم
و جياد الخيل تردى في الجلال

عمّروا الدهر بعيش حسن
قطّعوا دهرهم غير عجال

ثم أضحوا عصف الدهر بهم
و كذاك الدهر حالا بعد حال 3

و في ( الجهشياري ) : خرج عمر بن داود أخو يعقوب بن داود وزير المهدي متنزها و معه جماعة من أهله و أقاربه و معه سفرة و فواكه ، فقدمت إليه سلّة فيها عنب ، فأخذ منها حبتين فألقاهما في فيه فاعترضتا في حلقه ، فلم ينزلا و لم يصعدا حتى مات ، فقال ابن أخيه داود بن علي :

غدا صحيحا مع الأحياء مغتبطا
و الآن ميتا بقربي أهله عمر

فاحتلّ قبرا لدى قبر أبوه به
يعلوهما نضد الأحجار و المدر 4

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 62 ، السطر السادس ( قد انتقلوا ) .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 69 .

-----------
( 3 ) الكامل للمبرد 1 : 399 400 بتصرف .

-----------
( 4 ) الوزراء و الكتّاب : 116 .

[ 336 ]

و في ( الأغاني ) : عن رجل من أهل صنعاء قال : حفروا حفيرا في زمن مروان فوقفوا على أزج له باب ، فإذا هم على سرير كأعظم ما يكون من الرجال عليه خاتم من ذهب و عصابة من ذهب و عند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه « أنا علس ذو جدن القيل كان لخليلي مني النيل و لعدوّي مني الويل ، طلبت فأدركت و أنا ابن مئة سنة من عمري ، و كانت الوحش تأذن لصوتي ، و هذا سيفي ذو الكف عندي ، و درعي ذوات الفروج ، و رمحي الهزبري ، و قوسي الفحواء ، و قرني ذات الشرّ فيها ثلاثمئة حشر من صنفه ذي نمر ، أعددت كلّ ذلك لدفع الموت عني فخانني » قال : فنظرنا فجميع ذلك عنده .

« و كأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم » روى ( الأغاني ) عن ابن بسخنّر قال :

كانت لي نوبة في خدمة الواثق في كلّ جمعة إذا حضرت ركبت إلى الدار ، فإن نشط إلى الشرب أقمت عنده و ان لم ينشط انصرفت ، و كان رسمنا ألاّ يحضر أحد منّا إلاّ في يوم نوبته ، فإنّي لفي منزلي في غير يوم نوبتي إذ رسل الواثق قد هجموا عليّ و قالوا لي إحضر ، فقلت : الخير . قالوا : خير . فقلت : إنّ هذا يوم لم يحضرني فيه الخليفة قط و لعلّكم غلطتم . فقالوا : لا تطوّل و بادر . فقد أمرنا أن لا ندعك تستقر على الأرض ، فداخلني فزع شديد و خفت أن يكون ساع سعى بي ، فتقدّمت بما أردت و ركبت حتى وافيت الدار ، فذهبت لأدخل على رسمي من حيث كنت أدخل فمنعت و أخذ بيدي الخدم فأدخلوني و عدلوا بي إلى مبرمات لا أعرفها ، فزاد ذلك في غمّي و جزعي ، ثم لم يزل الخدم يسلمونني من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب ، ثم أفضيت إلى رواق أرضه و حيطانه ملبسة بمثل ذلك ، و اذا الواثق في صدره على سرير مرصع بالجوهر و عليه ثياب منسوجة بالذهب و إلى جانبه فريدة جارية عليها من ثيابه و في حجرها عود ، فلما رآني

[ 337 ]

قال : جوّدت و اللّه يا محمّد الينا ، فقبّلت الأرض ثم قلت : خيرا . قال : خيرا ما ترى ،

و إني طلبت ثالثا يؤنسنا فلم أر أحقّ بذلك منك ، فبحياتي بادر فكل شيئا و بادر الينا . قلت : يا سيدي أكلت و شربت . قال : فاجلس ، فجلست فقال : هاتوا لمحمد رطلا في قدح ، فأحضرت ذلك و اندفعت فريدة تغني :

أهابك إجلالا و ما بك قدرة
عليّ و لكن مل‏ء عين حبيبها

و ما هجرتك النفس يا ليل إنّها
قلتك و لا ان قلّ منك نصيبها

فجاءت و اللّه بالسحر و جعل الواثق يجاذبها ، و في خلال ذلك تغني الصوت بعد الصوت و أغنّي أنا في خلال غنائها ، فمرّ لنا أحسن ما مرّ لأحد ،

فإنّا لكذلك إذ رفع رجله فضرب بها صدر فريدة ضربة تدحرجت منها من أعلى السرير إلى الأرض و تفتّت عودها و مرّت تعدو و تصيح و بقيت أنا كالمنزوع الروح ، و لم أشك في أن عينه وقعت إليّ و قد نظرت إليها و نظرت إليّ ،

فأطرق ساعة إلى الأرض متحيّرا و أطرقت أتوقّع ضرب العنق ، فإنّي لكذلك إذ قال لي يا محمد فوثبت ، فقال : ويحك أ رأيت أغرب ممّا تهيأ علينا . فقلت : يا سيدي الساعة و اللّه تخرج روحي ، فعلى من أصابنا بالعين لعنة اللّه . فما كان السبب ؟ ألذنب ؟ قال : لا و اللّه و لكن فكّرت أن جعفرا يقعد هذا المقعد و يقعد معها كما هي قاعدة معي ، فلم أطق الصبر ، و خامرني ما أخرجني إلى ما رأيت .

فسرّي عنّي و قلت : بل يقتل اللّه جعفرا ، و يحيي الخليفة أبدا ، و قبّلت الأرض و قلت : يا سيدي اللّه اللّه إرحمها و مر بردّها . فقال لبعض الخدم الوقوف : من يجي‏ء بها ، فلم يكن بأسرع من أن خرجت و في يدها عود و عليها غير الثياب التي كانت عليها ، فلما رآها جذبها و عانقها ، فبكت و جعل هو يبكي و اندفعت أنا أبكي ، فقالت : ما ذنبي يا مولاي و يا سيدي ؟ و بأيّ شي‏ء استوجبت هذا ؟ فأعاد عليها ما قاله لي و هو يبكي و هي تبكي ، فقالت له : سألتك باللّه إلاّ ضربت عنقي

[ 338 ]

الساعة و أرحتني من الفكر في هذا و أرحت قلبك من الهمّ لي ، و جعلت تبكي و يبكي ثم مسحا أعينهما و رجعت إلى مكانها ، و أومى إلى الخدم الوقوف بشي‏ء لا أعرفه ، فمضوا و أحضروا أكياسا فيها عين و ورق ، و رزما فيها ثياب كثيرة ، و جاء خادم بدرج ففتحه و أخرج منه عقدا ما رأيت قط مثل جوهر كان فيه فألبسها إياه ، و أحضرت بدرة فيها عشرة آلاف درهم فجعلت بين يدي و خمسة تخوت فيها ثياب . و عدنا إلى أمرنا و إلى أحسن ممّا كنّا ، فلم نزل كذلك إلى الليل ثم تفرّقنا و ضرب الدهر ضربته و تقلّد المتوكل ، فو اللّه إني لفي منزلي بعد يوم نوبتي إذ هجم عليّ رسله فما أمهلوني حتى ركبت و صرت إلى الدار ،

فأدخلت و اللّه الحجرة بعينها و اذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق على السرير بعينه و إلى جانبه فريدة ، فلما رآني قال : ويحك أما ترى ما أنا فيه من هذه ، أنا منذ غدوة أطالبها بأن تغنيني فتأبى ذلك فقلت لها : يا سبحان اللّه أ تخالفين سيدك و سيدنا و سيد البشر بحياته غنّي ، فعزفت و اللّه ثم اندفعت تغني :

مقيم بالمجازة من قنونا
و اهلك بالاجيفر فالثماد

فلا تبعد فكل فتى سيأتي
عليه الموت يطرق أو يغادي

ثم ضربت بالعود الأرض ثم رمت بنفسها عن السرير و مرت تعدو و هي تصيح : وا سيداه ، فقال لي : ويحك ما هذا ؟ فقلت : لا أدري و اللّه يا سيدي .

فقال : فما ترى . فقلت : أرى أن أنصرف أنا و تحضر هذه و معها غيرها فإنّ الأمر يؤول إلى ما يريد الخليفة . قال : فانصرف في حفظ اللّه . فانصرفت و لم أدر ما كانت القصة 1 .

« فأصلح مثواك » أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في

-----------
( 1 ) الأغاني 4 : 115 118 .

[ 339 ]

جنب اللّه 1 .

« و لا تبع آخرتك بدنياك » فما ربحت تجارتهم و ما كانوا مهتدين 2 .

« و دع القول فيما لا تعرف » و لا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع و البصر و الفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولا 3 ، إن يتّبعون إلاّ الظنّ و ما تهوى الأنفس 4 .

« و الخطاب فيما لا تكلف » و ما أنا من المتكلفين 5 .

و قال الصادق عليه السّلام : حض اللّه تعالى عباده بآيتين من كتاب اللّه ان لا يقولوا حتى يعلموا و لا يردوا ما لم يعلموا ، قال تعالى أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على اللّه إلاّ الحق 6 ، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه 7 .

« و أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإن الكف عن حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال » كما أن طعاما أو شرابا يحتمل كونه ممزوجا بالسم يجب اجتنابه لئلا يوجب هلاكه .

« و أمر بالمعروف تكن من أهله » فإن من يكون عمله فقط معروفا و لم يكن له قول في ذلك يأمر غيره به لا يعدّ من أهل المعروف .

« و أنكر المنكر بيدك و لسانك » و ذلك أكمل الإنكار لا أن يقتصر على اللسان و لتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن

-----------
( 1 ) الزمر : 56 .

-----------
( 2 ) البقرة : 16 .

-----------
( 3 ) الاسراء : 36 .

-----------
( 4 ) النجم : 23 .

-----------
( 5 ) ص : 86 .

-----------
( 6 ) الاعراف : 169 .

-----------
( 7 ) يونس : 39 .

[ 340 ]

المنكر 1 .

« و باين من فعله بجهدك » أي : بطاقتك ، قال عليه السّلام : أمرنا النبيّ‏ّ صلّى اللّه عليه و آله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة .

« و جاهد في اللّه حق جهاده » و الأصل فيه قوله تعالى و جاهدوا في اللّه حق جهاده هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج 2 .

« و لا تأخذك في اللّه لومة لائم » من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي اللّه بقوم يحبّهم و يحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل اللّه و لا يخافون لومة لائم 3 .

« و خض الغمرات » أي : الشدائد .

« للحق » هكذا في ( المصرية ) 4 و الصواب : ( إلى الحق ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 5 .

« حيث كان » الحق . في كلام الصديقة فيه عليه السّلام « و كلّما نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف أبي بأخيه في لهواتها فلا ينكفى‏ء حتى يطأ صماخها بأخمصه ، و يخمد لهبها بحدّه ، مكدودا في ذات اللّه » 6 .

« و تفقّه في الدين » قال تعالى ليتفقهوا في الدين 7 .

« و عوّد نفسك التصبّر » هكذا في ( المصرية ) 8 و الصواب : ( الصبر ) كما

-----------
( 1 ) آل عمران : 104 .

-----------
( 2 ) الحج : 78 .

-----------
( 3 ) المائدة : 54 .

-----------
( 4 ) نهج البلاغة 3 : 45 السطر الأول .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 65 ، و ابن ميثم : 400 السطر العاشر هكذا .

-----------
( 6 ) رواه الجوهري في السقيفة ( عنه كشف 2 : 112 ) ، و الدلائل : 24 و . . .

-----------
( 7 ) التوبة : 122 .

-----------
( 8 ) نهج البلاغة 3 : 45 السطر الثاني .

[ 341 ]

في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 1 .

« على المكروه » عند النفس .

« و نعم الخلق » بالضم أي : الطبيعة .

« التصبّر » أي : الصبر على المكروه ، قال أبو الأسود :

تعوّدت مسّ الضرّ حتى ألفته
و أسلمني طول البلاء الى الصّبر

و وسّع صدري للأذى كثرة الأذى
و كان قديما قد يضيق به صدري

إذا أنا لم أقبل من الدّهر كلّ ما
ألاقيه منه طال عتبي على الدّهر 2

و قال آخر :

تحلم عن الادنين و استبق و دهم
و لن تستطيع الحلم حتى تحلما

أيضا :

تلقّ بالصبر ضيف الهمّ حيث أتى
إنّ الهموم ضيوف أكلها المهج

و في ( المروج ) : أمر هارون ذات يوم بحمل أبي العتاهية و أمر أن لا يتكلّم في طريقه و لا يعلم ما يراد منه ، فلما صار في بعض الطريق قال له بعض من معه : انما يراد قتلك . فقال أبو العتاهية :

و لعلّ ما تخشاه ليس بكائن
و لعلّ ما ترجوه سوف يكون

و لعلّ ما هوّنت ليس بهيّن
و لعلّ ما شددت سوف يهون 3

و عن أكثم بن صيفي قال : ما أحب أني مكفى كلّ أمر الدنيا ، قالوا : و ان أسمنت . قال : نعم أكثره عادة العجز .

« في الحق » هكذا في ( المصرية ) 4 أخذا عن ( ابن أبي الحديد ) و ليس في

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 64 و ابن ميثم : 400 السطر العاشر من الطبعة الحجرية .

-----------
( 2 ) معجم الادباء 12 : 38 .

-----------
( 3 ) مروج الذهب 3 : 450 .

-----------
( 4 ) نهج البلاغة 3 : 45 السطر الثاني .

[ 342 ]

( ابن ميثم ) 1 و الظاهر زيادته .

« و الجى‏ء نفسك في الامور كلّها إلى إلهك فإنّك تلجئها إلى كهف » قال الجوهري :

الكهف كالبيت المنقور في الجبل ، و فلان كهف أي : ملجأ 2 .

« حريز » أي : حصين .

« و مانع عزيز » أي : قوي غالب ، و في المثل « من عزّ بزّ » أي : من غلب سلب 3 ، قال البستي :

وثقت بربّي و فوّضت أمري
إليه و حسبي به من معين

فلا تبتئس لصروف الزمان
و دعني فإنّ يقيني يقيني

في ( وزراء الجهشياري ) : كان إبراهيم الحرّاني خاصّا بالمهدي و أنفذه مع ابنه الهادي إلى جرجان ، فخصّ به و بلغ المهدي عنه أشياء زاد فيها عليه أعداؤه فكتب إلى الهادي في حمله ، فتعلل في حمله ، فكتب : إن لم تحمله خلعتك من العهد ، فحمله مع بعض خدمه مرفّها و قال له : إذا دنوت من محل المهدي فقيّده ، فامتثل و اتفق أن ورد و المهدي يريد الركوب للصيد ، فبصر بالموكب فسأل عنه فقيل خادم موسى الهادي و معه إبراهيم الحرّاني ، فقال : و ما حاجتنا إلى الصيد ؟ و هل صيد أطيب من صيد إبراهيم ، فأدني منه و هو على ظهر فرسه ، فقال له : و اللّه لأقتلنّك ، ثم و اللّه لأقتلنّك ، ثم و اللّه لأقتلنّك ، ثم و اللّه لأقتلنّك ، إمض به يا خادم إلى المضرب إلى أن انصرف . قال إبراهيم : فيئست من نفسي ففزعت إلى اللّه تعالى بالدّعاء و الصلاة ، فانصرف المهدي و أكل من اللوز المسموم المشهور خبره فمات من وقته 4 .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 64 و ابن ميثم : 400 هكذا .

-----------
( 2 ) الصحاح 4 : 1425 .

-----------
( 3 ) مجمع الأمثال للميداني 2 : 307 ، الزمخشري 2 : 357 .

-----------
( 4 ) الوزراء و الكتّاب : 126 .

[ 343 ]

و فيه : قال الوضاح بن خيثمة أمرني عمر بن عبد العزيز بإخراج قوم من السجن ، فأخرجتهم و تركت يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج ، فحقد ذلك علي و نذر دمي ، فإني لبافريقية إذ قيل لي : قدم يزيد بن أبي مسلم من قبل يزيد بن عبد الملك بعد عمر بن عبد العزيز ، فهربت منه و علم بمكاني ، فأمر بطلبي فظفر بي و صيرني إليه ، فلما رآني قال : سألت اللّه أن يمكّنني منك . فقلت : و أنا لطالما سألت اللّه أن يعيذني منك . قال : فو اللّه ما أعاذك مني ، و اللّه لأقتلنّك ثم و اللّه لأقتلنّك ، ثم و اللّه لو سابقني اليك ملك الموت لسبقته . ثم دعا بالسيف و النطع ،

فأتي بهما و أمر بي فأقمت في النطع و كتّفت و قام ورائي رجل بسيف و أقيمت الصلاة ، فخرج إليها فلما سجد أخذته السيوف ، و دخل إليّ من قطع كتافي و قال : انطلق 1 .

« و أخلص في المسألة لربك » عن الرضا عليه السّلام : إنّما اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا لأنّه لم يرد أحدا غير اللّه ، و لم يسأل أحدا قطّ غير اللّه 2 .

« فإنّ بيده العطاء و الحرمان » و في الخبر : أغرق اللّه تعالى فرعون لأنّه استغاث بموسى و لم يستغث باللّه 3 .

و قالوا : كان عامر بن عبد القيس العنبري يقول : أربع آيات من كتاب اللّه إذا قرأتها مساء لم أبال على ما أمسي ، و إذا تلوتهن صباحا لم أبال على ما أصبح : ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده 4 ، و ان يمسسك اللّه بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو و إن يردك بخير

-----------
( 1 ) الوزراء و الكتّاب : 35 .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 2 : 75 ح 4 .

-----------
( 3 ) عيون الأخبار 1 : 59 ح 2 عن الرضا عليه السّلام .

-----------
( 4 ) فاطر : 2 .

[ 344 ]

فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده 1 و ما من دابة في الأرض إلاّ على اللّه رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كل في كتاب مبين 2 ،

سيجعل اللّه بعد عسر يسرا 3 .

« و اكثر الاستخارة » أي : طلب الخيرة من اللّه تعالى بالدعاء و الصلاة .

و روى الكافي عن الصادق عليه السّلام في خبر قال : صلّ ركعتين و استخر اللّه ،

فو اللّه ما استخار اللّه مسلم إلاّ خار له البتة .

و في آخر : اذا أراد أحدكم شيئا يصلّي ركعتين ثم يحمد اللّه و يثني عليه و يصلّي على نبيه و آله ثم يقول : اللّهم ان كان هذا الأمر خيرا لي في ديني و دنياي فيسّره لي و اقدره ، و ان كان غير ذلك فاصرفه عنّي .

و في آخر : عنه عليه السّلام في أمر يأمر به بعض و ينهى عنه بعض ، صلّ ركعتين و استخر اللّه مئة مرّة و مرّة ثم انظر أجزم الأمرين لك فافعله فان الخيرة فيه . . . 4 .

و روى ( الفقيه ) عنه عليه السّلام في خبر أنّه إذا أراد الشي‏ء اليسير استخار اللّه سبع مرّات ، فإذا كان جسيما استخار اللّه مئة مرة . و في آخر : ما استخار اللّه أحد سبعين مرّة بهذه الاستخارة « يا أبصر الناظرين و يا أسمع السامعين و يا أسرع الحاسبين و يا أرحم الراحمين و يا أحكم الحاكمين ، صلّ على محمّد و أهل بيته و خر لي في كذا و كذا » إلاّ رماه اللّه بالخيرة .

و في آخر : يستخير اللّه في آخر سجدة من ركعتي الفجر مئة مرة و مرة ،

و يحمد اللّه و يصلّي على نبيه صلّى اللّه عليه و آله ، ثم يستخير اللّه خمسين مرة ، ثم يحمد اللّه

-----------
( 1 ) يونس : 107 .

-----------
( 2 ) هود : 6 .

-----------
( 3 ) الطلاق : 7 .

-----------
( 4 ) الكافي 3 : 470 472 ، 1 و 6 و 7 .

[ 345 ]

و يصلّي على نبيّه و يتمّ المئة و الواحدة .

و نقل عن رسالة أبيه : صلّ ركعتين و استخر اللّه مئة مرة و مرة ، فما عزم لك فافعل و قل في دعائك « لا إله إلاّ اللّه الحليم الكريم ، لا إله إلاّ اللّه العلي العظيم ، ربّ بحقّ محمّد و آله صلّ على محمّد و آله و خر لي في كذا و كذا للدنيا و الآخرة خيرة في عافية » 1 .

« و تفهم وصيتي » بالعمل بها .

« و لا تذهبن عنها » هكذا في ( المصرية ) 2 و في ( ابن أبي الحديد ) عنك و ليس في ( ابن ميثم و الخطيّة ) رأسا 3 .

« صفحا » و المراد لا تعرض بوجهك عنها .

« فإنّ خير القول ما نفع » الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه 4 .

« و اعلم أنّه لا خير في علم لا ينفع » عن الكاظم عليه السّلام « دخل النبيّ‏ّ صلّى اللّه عليه و آله المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال : ما هذا ؟ فقيل : علاّمة . قال : و ما العلاّمة . قالوا : أعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها و أيام الجاهلية و الأشعار و العربية . فقال النبيّ‏ّ : ذاك علم لا يضرّ من جهله و لا ينفع من علمه ، إنّما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة و ما خلاهن فهو فضل » 5 .

« و لا ينتفع بعلم لا يحق تعلّمه » الذي نهت الشريعة عنه كعلم السحر و الكهانة .

و ما في الدعاء « و أعوذ بك من علم لا ينفع » الظاهر أن المراد عدم نفعه

-----------
( 1 ) الفقيه 1 : 355 و 356 .

-----------
( 2 ) نهج البلاغة 3 : 45 السطر الخامس .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 64 و ابن ميثم : 400 و فيه « لا تذهبنّ عنك » الطبعة الحجرية .

-----------
( 4 ) الزمر : 18 .

-----------
( 5 ) الكافي 1 : 32 ، 1 .

[ 346 ]

لعدم العمل به لا من حيث هو كما توهمه ابن ميثم 1 .

« أي بنيّ إنّي لمّا رأيتني قد بلغت سنّا » فزاد عليه السّلام بعد صفّين على الستين .

« و رأيتني أزداد وهنا » اللّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوّة ثم جعل من بعد قوّة ضعفا و شيبة 2 .

« بادرت بوصيّتي إليك » في الخبر : لأن يؤدّب أحدكم ولده خير له من أن يتصدّق كلّ يوم بنصف صاع .

« و أوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي » أي : أظهر .

« إليك بما نفسي أو أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي » قال عليه السّلام ذلك عاما ، قال تعالى و اللّه خلقكم ثم يتوفّاكم و منكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا 3 .

« أو يسبقني اليك بعض غلبات الهوى » في ( الفقيه ) عن الصادق عليه السّلام : « دع ابنك يلعب سبع سنين ، و يؤدّب سبع سنين ، و ألزمه نفسك سبع سنين ، فإن أفلح و إلاّ فلا خير فيه » 4 .

و عن ( المحاسن ) قال النبيّ‏ّ صلّى اللّه عليه و آله : « الولد سيّد سبع سنين ، و عبد سبع سنين ، و وزير سبع سنين ، فإن رضيت أخلاقه لإحدى و عشرين و إلاّ فاضرب على جنبه فقد أعذرت » 5 .

« أو فتن الدنيا فتكون كالصعب » مركب غير ذلول ، و كان المنذر بن ماء السماء يلقب « ذو القرنين الصعب » قال لبيد :

-----------
( 1 ) شرح ابن ميثم : 401 .

-----------
( 2 ) الروم : 54 .

-----------
( 3 ) النحل : 70 .

-----------
( 4 ) الفقيه 3 : 318 ح 1 .

-----------
( 5 ) عن المحاسن مكارم الأخلاق : 222 .

[ 347 ]

و الصعب ذو القرنين أصبح ثاويا بالحنو في جدث أميم ، مقيم 1 يعني أصبح المنذر ذاك مقيما في قبر في حنو ذي قار يا اميم .

« النّفور » من نفرت الدابة نفورا و نفارا ، قال الشاعر :

إذا المرء أعيته المروّة ناشئا فمطلبها كهلا عليه شديد و قال آخر :

إذا المرء جاز الأربعين و لم يكن له دون ما يأتي حياء و لا ستر فدعه و لا تنفس عليه الذي أتى و لو جرّ أرسان الحياة له الدهر « و إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شي‏ء قبلته » قال ابن أبي الحديد : كان يقال : العلم في الصغر كالنقش في الحجر ، و في الكبر كالخطّ على الماء .

و في المثل : « الغلام كالطّين يقبل الختم ما دام رطبا » ، قال الشاعر :

إختم و طينك رطب إن قدرت فكم قد أمكن القوم من ختم فما ختموا 2 قلت : و ممّا قيل في المعنى :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكّنا و قال آخر :

خذ فؤادي فقد أتاك بودّ و هو بكر ما افتضه ودّ قطّ « فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك و يشتغل لبك » مما قيل في ذلك : و ليس الفتى يرجى إذا ابيضّ رأسه .

و قال الآخر :

يقوّم من ميل الغلام المؤدّب و لا ينفع التأديب و الرأس أشيب

-----------
( 1 ) أورده لسان 1 : 524 مادة ( صعب ) .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 67 .

[ 348 ]

و قال آخر :

و تروض عرسك بعد ما هرمت و من العناء رياضة الهرم و قال آخر :

ان الكبير اذا تناهت سنه أعيت رياضته على الرّوّاض و قال آخر :

قد ينفع الأدب الأحداث في مهل و ليس ينفع بعد الكبرة الأدب إن الغصون إذا قوّمتها اعتدلت و لن تلين إذا قوّمتها الخشب و لما أراد المهدي العبّاسي قتل بشّار على الزندقة قال : تبت منها . قيل له :

و كيف ، و أنت القائل :

و الشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضّنى عاد إلى نكسه « لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته » أي : البحث عنه .

« و تجربته فتكون قد كفيت مؤونة الطلب ، و عوفيت من علاج التجربة . فأتاك من ذاك ما قد كنّا نأتيه » هكذا في النسخ 1 ، و كأنّه وقع فيه تصحيف .

« و استبان لك ما ربما أظلم علينا منه » قال الشاعر :

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا و يأتيك بالأخبار من لم تزوّد « أي بنيّ إنّي و إن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي » في ( الصحاح ) : عمر الرجل ( بالكسر ) عمرا و عمرا على غير قياس ، لأن قياس مصدره التحريك ، أي :

عاش زمانا طويلا 2 . و مراده ان مصدر الفعل اللازم فعل بفتحتين كفرح فرحا ،

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 66 ، نهج البلاغة 3 : 46 ، ابن ميثم : 401 و فيه « فتستقبل . . . » .

-----------
( 2 ) الصحاح 2 : 756 .

[ 349 ]

و هنا المصدر بالضم أو الفتح فالسكون .

« فقد نظرت في أعمالهم و فكّرت في أخبارهم و سرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم » في رسالة علي بن طاوس إلى ولده المسمّاة بالمحجة : قد هيّأ اللّه تعالى كتبا كثيرة عندي في تاريخ الخلفاء و الملوك و غيرهم من الذين طلبوا سراب الدنيا الزائل و سوروا وجوه العقل و الفضل بخسران العاجل و الآجل و رحلوا من الدنيا بأحمال الذنوب و أثقال العيوب ، و كانوا كأنّهم في أحلام و منام و باعوا بتلك الأيام ما لا يبيعه ذوو الهمم العالية الباهرة من سعادة الدنيا و الآخرة ، فأحذرهم على دينك و مولاك ، فاللّه اللّه أن تتقرّب اليهم أو تقرّب منهم مهما أمكنك ، ففي قربهم السمّ الناقع و الهلاك ، و انما ذخرت لك تواريخهم لتنظر أوّل أمورهم و آخرها و ظاهرها و باطنها ، ترى ما ضرّوا بنفوسهم بلذات ساعات يسيرة و أعمار قصيرة ، و كيف خدعهم الشيطان في دنياهم و آخرتهم 1 .

« بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره و نفعه من ضرره » في ( المعجم ) قالت الحكماء : الكتاب يجمع لك الأول و الاخر و الناقص و الوافر و الغائب و الحاضر و الشكل و خلافه و الجنس و ضده ، و هو ميّت ينطق عن الموتى و يترجم عن الأحياء و تعرف منه في شهر ما لا تعرف من أفواه الرجال في دهر 2 .

و في ( الكامل ) في فوائد التاريخ : فمن دنيويتها أن الإنسان يحبّ البقاء و يؤثر أن يكون في زمرة الأحياء ، فأيّ فرق بين ما رآه أمس أو سمعه و ما قرأه في الكتب المتضمّنة أخبار الماضين ، فإذا طالعها فكأنّه عاصرهم ، و إذا

-----------
( 1 ) كشف المحجة : 128 .

-----------
( 2 ) معجم الادباء 1 : 93 .

[ 350 ]

علمها فكأنّه حاضرهم ، و إن الملوك و من إليه الأمر و النهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور و رأوها مدونة يرويها خلف عن سلف ، و ما أعقبت من سوء الذكر و خراب البلاد و هلاك العباد و ذهاب الأموال و فساد الأحوال ،

إستقبحوها و أعرضوا عنها ، و إذا رأوا سيرة الولاة العادلين و حسنها و ما يتبعهم من الذكر الجميل بعد ذهابهم ، و أن ممالكهم و بلادهم عمرت و أموالها درّت ، إستحسنوا ذلك و رغبوا فيه و ثابروا مضرة الأعداء و خلصوا بها من المهالك ، و استصانوا نفائس المدن و عظيم الممالك ، و لو لم يكن فيها غير هذا لكفى به فخرا .

و منها ، ما يحصل من التجارب و المعرفة بالحوادث و ما تصير إليه عواقبها ، فإنّه لا يحدث أمر إلاّ و قد تقدّم هو أو نظيره ، فيزداد بذلك عقلا و يصبح لأن يقتدى به أهلا .

و منها ، ما يتجمّل به الإنسان في المحافل من ذكر شي‏ء من معارفها و طريفة من طرائفها ، فترى الأسماع مصغية إليه و الوجوه مقبلة عليه .

و أما الفوائد الاخروية : فمنها أن اللبيب إذا تفكّر فيها و رأى تقلّب الدنيا بأهلها و تتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها ، و أنها سلبت نفوسهم و ذخائرهم و أعدمت أصاغرهم و أكابرهم ، فلم تبق على جليل و لا حقير و لم يسلم من نكدها غني و لا فقير ، زهد فيها و أعرض عنها ، و أقبل على التزود للآخرة و رغب في دار تنزهت عن هذه الخسائس .

و منها ، التخلّق بالصبر و التأسّي ، و هما من محاسن الأخلاق ، فإنّ العاقل إذا رأى أنّ مصائب الدنيا لم يسلم منها نبيّ مكرّم و لا ملك معظّم علم أنّه يصيبه ما أصابهم ، و لهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد . . . 1 .

-----------
( 1 ) الكامل 1 : 6 9 بتلخيص .

[ 351 ]

« فاستخلصت » أي : عملت الخلاصة .

« لك من كلّ أمر نخيله » هكذا في ( المصرية ) 1 و في ( ابن أبي الحديد ) جليله ، و في ( ابن ميثم و الخطية ) نخليته 2 ، و هو الصحيح من النهج ، و ان كانت رواية ( الرسائل ) أيضا بلفظ « جليله » 3 و أما « نخيله » كما في ( المصرية ) فغلط مطلقا ، و معنى النخيلة الخيرة قال عمارة :

تبحّثتم سخطي فغيّر بحثكم نخيلة نفس كان نصحا ضميرها 4 و جمعها النخائل ، و في الحديث : « لا يقبل اللّه إلاّ نخائل القلوب » 5 .

« و توخيت » أي : تحريت .

« لك جميله ، و صرفت عنك مجهوله » ببيانه لك .

« و رأيت حيث عناني » أي : أهمّني .

« من أمرك ما يعني » أي : يهمّ .

« الوالد الشفيق » أي الرؤوف .

« و أجمعت » أي : عزمت . عطف على « عناني » لا « يعني » كما قال ( ابن ميثم ) 6 .

« عليه من أدبك » أي : تعليمك الآداب .

« أن يكون ذلك » أي : تعليمك .

« و أنت مقبل العمر و مقتبل الدهر » أي : مستأنفه ، كأنّه يستأنف الدهر كلّ

-----------
( 1 ) نهج البلاغة 3 : 46 السطر التاسع .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 67 ، و في ابن ميثم : 401 السطر 22 ( نخيلة ) .

-----------
( 3 ) كشف المحجة : 161 .

-----------
( 4 ) أورده أساس البلاغة : 451 ، مادة ( نخل ) .

-----------
( 5 ) النهاية 5 : 22 ، مادة ( نخل ) .

-----------
( 6 ) شرح ابن ميثم : 401 و فيه « أجمعت عطف على يعني » .

[ 352 ]

ساعة .

« و ان أبتدئك بتعليم كتاب اللّه » زاد ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 1 « عز و جل » ، ففي ( المصرية ) سقط ، و في ( الكافي ) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : من علّم ولده القرآن دعي في القيامة بالأبوين فكسيا حلّتين تضي‏ء من نورهما وجوه أهل الجنّة 2 .

و روى ابن بابويه عن الأصبغ قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : إنّ اللّه عزّ و جلّ ليهمّ بعذاب أهل الأرض جميعا لا يحاشى منهم أحدا إذا عملوا بالمعاصي و اجترحوا السّيئات ، فإذا نظر إلى الشيب ناقلي أقدامهم إلى الصلاة ، و الولدان يتعلّمون القرآن ، رحمهم فأخّر ذلك عنهم .

« و تأويله » و نسبته إلى التنزيل نسبة المعنى إلى اللفظ ، و لفظ القرآن يعلمه كلّ أحد ، و أما تأويله فلا يعلمه إلاّ اللّه و الراسخون في العلم .

« و شرائع الاسلام و أحكامه و حلاله و حرامه » في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام في الغلام يلعب سبع سنين و يتعلّم الكتاب سبع سنين و يتعلّم الحلال و الحرام سبع سنين 3 .

« و لا أجاوز لك إلى غيره » هكذا في ( المصرية ) 4 و الصواب : ( لا أجاوز ذلك بك إلى غيره ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 5 .

« ثم أشفقت » أي : خفت .

« أن يلتبس » أي : يشتبه .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 106 : 68 ، و ابن ميثم : 401 السطر 24 .

-----------
( 2 ) الكافي 6 : 49 ح 1 .

-----------
( 3 ) الكافي 6 : 47 ح 3 .

-----------
( 4 ) نهج البلاغة 3 : 47 السطر الثالث .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 68 ، و ابن ميثم : 401 و فيه « و لا أجاوز بك و لا إلى غيره » .

[ 353 ]

« عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم و آرائهم مثل الذي التبس عليهم » كان الصادق عليه السّلام يقول لشيعته : بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة 1 .

و قال الشهرستاني في ( ملله ) : الاختلافات في الاصول : حدثت في آخر أيام الصحابة بدعة ، معبد الجهني و غيلان الدمشقي و يونس الأسواري في القول بالقدر ، و نسج على منوالهم واصل بن عطاء و كان تلميذ الحسن البصري و تلمذ له عمرو بن عبيد و زاد عليه في مسائل القدر و الوعيدية من الخوارج و المرجئة من الجبرية و القدرية ، ابتدأت بدعتهم في زمان الحسن ، و اعتزل واصل عنهم و عن استاذه بالقول بين المنزلتين و سمّي هو و أصحابه معتزلة .

ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسّرت أيام المأمون إلى أن قال و نبغ رجل متنمّس بالزهد من سجستان يقال له أبو عبد اللّه بن الكرام قليل العلم قد قمش من كلّ مذهب ضغثا و أثبته في كتابه ،

و روّجه على أغنام غزنة و غور و سواد بلاد خراسان ، فانتظم ناموسه و صار ذلك مذهبا قد نصره محمود بن سبكتكين السلطان ، و صبّ البلاء على أصحاب الحديث و الشيعة من جهتهم ، و هو أقرب مذهب إلى مذهب الخوارج و هم مجسّمة . . . 2 .

« فكان إحكام ذلك » أي : جعله محكما .

« على ما كرهت من تنبيهك له » لأنّ كثيرا من غير المستعدّين يحصل لهم في هذا الطريق العثرة و الزلّة .

-----------
( 1 ) الكافي 6 : 47 ح 5 .

-----------
( 2 ) الملل و النحل الشهرستاني 1 : 35 38 .

[ 354 ]

« أحبّ الي من إسلامك » أي : تركك و تفويضك .

« إلى أمر لا آمن عليك به » هكذا في ( المصرية ) 1 و الصواب : ( فيه ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 .

« الهلكة » بتأثير شبهات أهل الشبهة .

« و رجوت أن يوفقك اللّه لرشدك » و في ( ابن أبي الحديد و الخطية ) « فيه لرشدك » 3 .

« و أن يهديك لقصدك » أي : عدلك ، قال الشاعر :

على حكم المأتيّ يوما إذا قضى قضيته أن لا يجور و يقصد « فعهدت إليك وصيتي هذه » للوجوه المذكورة .

« و اعلم يا بنيّ أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليّ » متعلّق بقوله : « أحب » .

« من وصيّتي تقوى اللّه » فإنّ خير الزاد التقوى و اتّقون يا أولي الألباب 4 .

« و الاقتصار على ما فرضه عليك » فعنهم عليهم السّلام اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه .

« و الأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك ، و الصالحون من أهل بيتك » و في رواية ابن شعبة : « و الصالحون من أهل ملّتك » 5 .

« فانهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ، و فكّروا كما أنت مفكّر » كان عليه السّلام يقول : التفكّر يدعو إلى البرّ و العمل به ، و كان عليه السّلام يقول : نبّه بالتفكّر

-----------
( 1 ) نهج البلاغة 3 : 47 السطر الخامس و السادس .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 68 ، و ابن ميثم : 401 السطر 26 هكذا .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 68 .

-----------
( 4 ) البقرة : 197 .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 71 .

[ 355 ]

قلبك ، و جاف عن الليل جنبك ، و اتّق اللّه ربك 1 .

« ثم ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا ، و الإمساك عمّا لم يكلّفوا » كان عليه السّلام يقول : إنّ على كلّ حق حقيقة و على كلّ صواب نورا .

و في ( الكافي ) عن الفتح بن يزيد : سألت أبا الحسن عليه السّلام عن أدنى المعرفة فقال : الإقرار بأنّه لا إله غيره و لا شبه له و لا نظير ، و أنّه قديم موجود غير فقيد 2 .

« فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا ، فليكن طلبك ذلك بتفهّم و تعلّم لا بتورّط الشبهات » و الورطة : الهلكة ، قال :

إن تأت يوما مثل هذي الخطه تلاق من ضرب نمير ورطه 3 و أصلها الهوة الغامضة ، و يقال تورّطت الماشية أي : وقعت في موحل و مكان لا يتخلّص منه .

« و علو الخصوصيات » هكذا في ( المصرية ) 4 و لكن في ( ابن أبي الحديد ) « و علق الخصومات » ، و ( ابن ميثم و الخطية ) « و غلو الخصومات » 5 .

في ( الكافي ) عن السجّاد عليه السّلام سئل عن التوحيد فقال : إنّ اللّه تعالى علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل : قل هو اللّه أحد 6 و أنزل الآيات في سورة الحديد إلى قوله عليم بذات الصدور 7

-----------
( 1 ) الكافي 1 : 54 55 1 و 5 .

-----------
( 2 ) الكافي 1 : 86 1 .

-----------
( 3 ) لسان العرب 15 : 271 « قال ابو عمرو : هي [ أي الورطة ] الهلكة و أنشد :

ان تأت يوما مثل هذي الخطّه تلاق من ضرب نمير ورطه

-----------
( 4 ) نهج البلاغة 3 : 48 السطر الثاني .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 70 ، و ابن ميثم : 401 السطر 31 هكذا .

-----------
( 6 ) التوحيد : 1 .

-----------
( 7 ) الحديد : 6 .

[ 356 ]

فمن رام وراء ذلك هلك 1 .

قلت : و أشار عليه السّلام من آيات الحديد إلى قوله تعالى سبح للّه ما في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم له ملك السماوات و الأرض يحيي و يميت و هو على كلّ شي‏ء قدير هو الأوّل و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكلّ شي‏ء عليم هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء و ما يعرج فيها و هو معكم أينما كنتم و اللّه بما تعملون بصير له ملك السماوات و الأرض و إلى اللّه ترجع الأمور يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و هو عليم بذات الصدور 2 .

و عن الصادق عليه السّلام : من عبد اللّه بالتوهّم فقد كفر ، و من عبد الإسم دون المعنى فقد كفر ، و من عبد الإسم و المعنى فقد أشرك ، و من عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه ، فعقد عليه قلبه و نطق به لسانه في سرائره و علانيته ، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقّا 3 .

« و ابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك » فإن المعونة إنّما منه تعالى و لا يستعان إلاّ به جل و علا إيّاك نعبد و إيّاك نستعين 4 .

« و الرغبة إليه في توفيقك » قال شعيب : و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت و إليه أنيب 5 .

« و ترك كلّ شائبة » الشوائب : الأقذار و الأدناس .

-----------
( 1 ) الكافي 1 : 91 ، 3 .

-----------
( 2 ) الحديد : 1 6 .

-----------
( 3 ) الكافي 1 : 68 ، ح 1 . ط الاسلامية .

-----------
( 4 ) الفاتحة : 5 .

-----------
( 5 ) هود : 88 .

[ 357 ]

« أولجتك » أي : أدخلتك .

« في شبهة أو أسلمتك إلى ضلالة » و يقال : « وقعوا في وادي تضلّل » إذا هلكوا « و فلان ضلّ ابن ضل » إذا لم يعرف هو و أبوه ، قال :

فإنّ إيادكم ضلّ ابن ضلّ
و إنّا من إيادكم براء 1

« فإذا أيقنت أن صفا قلبك » من الكدورات .

« فخشع » لقبول الحق .

« و تمّ رأيك فاجتمع » بدون شعث .

« و كأن همّك في ذلك همّا واحدا » بلا تفرّق .

« فانظر ما فسّرت لك » لأنّ الذين لا يؤثر فيهم كلام الحق إنّما هو لعدم اجتماع الشرائط فيهم من صفاء قلبهم و اجتماع لبّهم .

« و ان أنت لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك » بصفاء قلبك .

« و فراغ نظرك و فكرك » و نظرت في المقاصد العالية و المعاني العلية .

« فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء » كالناقة العشواء التي في بصرها ضعف فتخبط و لا تتوقّى شيئا في مشيها ، و الأصل ( تخبط خبط العشواء ) فحذف المصدر ، و قد يحذف الفعل قال زهير :

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته و من تخطى‏ء يعمّر فيهرم 2

« و تتورط الظلماء » أي : في الظلمة .

« و ليس طالب الدين من خبط أو خلط » أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها 3 .

-----------
( 1 ) لسان العرب : 271 مادة ( ضل ) .

-----------
( 2 ) لسان العرب 7 : 281 ، مادة ( خبط ) .

-----------
( 3 ) الانعام : 122 .

[ 358 ]

« و الإمساك عن ذلك أمثل » أي : أقرب إلى الحق بحكم العقل في مثله .

« فتفهم يا بني وصيتي و اعلم ان مالك الموت هو مالك الحياة » خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا 1 .

( و ان الخالق هو المميت ) و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك اللّه أحسن الخالقين . ثم إنّكم بعد ذلك لميّتون 2 .

« و أنّ المفني هو المعيد » ثم انّكم يوم القيامة تبعثون 3 ، و لا يملكون لأنفسهم ضرّا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا 4 .

« و أن المبتلى هو المعافى » و إن يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إلاّ هو و إن يردك بخير فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده و هو الغفور الرحيم 5 .

« و أنّ الدنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها اللّه عليه من النعماء و الابتلاء » في ( الكافي ) : روى أنّ قوما من أصحابه عليه السّلام خاضوا في التجوير و التعديل فخرج حتى صعد المنبر و قال : أيّها الناس إنّ اللّه تعالى لمّا خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة و أخلاق شريفة ، فعلم انّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بالأمر و النّهي ، و هما لا يجتمعان إلاّ بالوعد و الوعيد ، و هما لا يكونان إلاّ بالترغيب و الترهيب ، و هما لا يكونان إلاّ بما تشتهيه أنفسهم و تلذ أعينهم ، و بضد ذلك

-----------
( 1 ) الملك : 2 .

-----------
( 2 ) المؤمنون : 12 15 .

-----------
( 3 ) المؤمنون : 16 .

-----------
( 4 ) الفرقان : 3 .

-----------
( 5 ) يونس : 107 .

[ 359 ]

فخلقهم في دار الدنيا و أراهم طرفا من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم ألا و هي الجنّة ، و أراهم طرفا من الآلام ليستدلّوا به على ما وراءهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذّة ألا و هي النار فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطا بمحنها و سرورها ممزوجا بغمومها 1 .

« و الجزاء في المعاد أو ما شاء ممّا لا نعلم » الظاهر كونه إشارة إلى قوله تعالى فأمّا الذين شقوا ففي النّار لهم فيها زفير و شهيق . خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلاّ ما شاء ربّك إنّ ربك فعّال لما يريد . و أما الذين سعدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلاّ ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ 2 .

« فإن أشكل عليك شي‏ء من ذلك فاحمله على جهالتك به » قال جميل لبثينة :

بثين الزمي ( لا ) إنّ ( لا ) ان لزمته
على كثرة الواشين أيّ معون

« فإنك أوّل ما خلقت جاهلا ثم علمت » و اللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا 3 و ما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا 4 .

و عن أبي جعفر عليه السّلام : أنّ موسى قال : يا ربّ رضيت بما قضيت ، تميت الكبير و تبقي الصغير . فقال تعالى : يا موسى أما ترضاني لهم رازقا و كفيلا ؟

قال : بلى يا رب ، فنعم الوكيل أنت و نعم الكفيل 5 .

و في ( المعجم ) : حضر محمد بن علي الواسطي و هو يرتعش من الكبر عزاء طفل فتغامز عليه الحاضرون يشيرون إلى موت الطفل و طول

-----------
( 1 ) بحار الأنوار 5 : 316 ، 13 . نقلا عن الاحتجاج و لم نعثر عليه في الكافي .

-----------
( 2 ) هود : 106 108 .

-----------
( 3 ) النحل : 78 .

-----------
( 4 ) الاسراء : 85 .

-----------
( 5 ) التوحيد لابن بابويه : 374 ح 18 ، 401 402 ح 7 .

[ 360 ]

حياته فتفطّن لهم و قال :

إذا دخل الشيخ بين الشباب
عزاء و قد مات طفل صغير

رأيت اعتراضا على اللّه إذ
توفّى الصغير و عاش الكبير

فقل لابن شهر و قل لابن دهر
و ما بين ذلك هذا المصير 1

و في ( توحيد المفضل ) : قال الصادق عليه السّلام : إتخذ اناس من الجهّال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان ذريعة إلى جحود الخلق و الخالق و العمد و التدبير ، و أنكرت المعطلة و المانوية المكاره و المصائب و الموت و الفناء ،

فيقال في جواب من أنكر هذه الآفات كمثل الوباء و اليرقان و البرد و الجراد : إنّه إن لم يكن خالق و مدبّر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا و أفظع ، فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض و تهوي الأرض و تذهب سفلا ، و تتخلف الشمس عن الطلوع أصلا ، و تجفّ الأنهار و العيون حتى لا يوجد ماء للشفة ، و تركد الريح حتى تحمّ الأشياء ، و تفسد و يفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها .

ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء و ما أشبهه ما بالها لا تدوم و تمتدّ حتى تجتاح كلّ ما في العالم ، بل تحدث في الأحايين ثم لا تلبث أن ترفع ، أ فلا ترى أن العالم يصان و يحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شي‏ء منها كان فيه بواره ، و يلذع أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس و تقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم ، فيكون وقوعها بهم موعظة و كشفها عنهم رحمة .

و أنكرت المنانيّة 2 أيضا المكاره و المصائب التي تصيب الناس ،

فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رؤوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الأمور

-----------
( 1 ) معجم الادباء 18 : 258 .

-----------
( 2 ) كذا في النسخ ، و الظاهر : المانوية .

[ 361 ]

المكروهة ؟ و القائل بهذا القول يذهب إلى أنّه يجب أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كلّ كدر ، و لو كان هكذا كان الإنسان يخرج من العتوّ و الأشر إلى ما لا يصلح له في دين و لا دنيا ، كالذي ترى كثيرا من المترفين و من نشأ في الجدة و الأمن يخرجون إليه ، حتى ان أحدهم ينسى أنّه بشر و أنّه مربوب ، أو أن ضررا يمسّه أو أن مكروها ينزل به ، أو أنّه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنّن على ضعيف أو يتعطّف على مكروب ، فإذا عضّته المكاره و وجد مضضها اتّعظ و أبصر كثيرا ممّا كان جهله و غفل ، و رجع إلى كثير ممّا كان يجب عليه .

و المنكرون لهذه الامور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمّون الأدوية المرّة البشعة ، و يتسخّطون من منعهم من الأطعمة الضارة ، و يتكرّهون الأدب و العمل ، و يحبّون أن يتفرّغوا للّهو و البطالة و ينالوا كلّ مطعم و مشرب و لا يعرفون ما تؤدّيهم إليه البطالة من سوء النشوّ و العادة ، و ما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء و الأسقام ، و ما لهم في الأدب من الصلاح و في الأدوية من المنفعة .

و قد يتعلق هؤلاء بالآفات الّتي تصيب الناس فتعمّ البر و الفاجر ، أو يبتلى بها البر و يسلم الفاجر منها ، فقالوا : كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم و ما الحجّة فيه ؟ فيقال لهم : إنّ هذه الآفات و إن كانت تنال الصالح و الطالح فإنّه تعالى جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما ، أمّا الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم 1 نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر و الصبر ، و أمّا الطالحون فان مثل هذا اذا نالهم كسر شرّتهم و ردعهم عن المعاصي و الفواحش ، و كذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في

-----------
( 1 ) في البحار 3 139 يردّهم ، و الظاهر أنه : يذكّرهم .

[ 362 ]

ذلك ، أمّا الأبرار فإنّهم يغتبطون بما هم عليه من البرّ و الصلاح و يزدادون فيه رغبة و بصيرة ، و أمّا الفجّار فإنّهم يعرفون رأفة ربّهم و تطوّله عليهم بالسلامة من غير استحقاق ، فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس و الصفح عمّن أساء اليهم .

و لعلّ قائلا يقول هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم ، فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق و الغرق و السيل و الخسف ؟

فيقال له : إنّ اللّه تعالى جعل في هذا صلاحا للصنفين جميعا ، أمّا الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة من تكاليفها و النجاة من مكارهها ،

و أمّا الفجّار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم و حبسهم عن الازدياد منها .

و جملة القول : إنّ الخالق تعالى ذكره بحكمته و قدرته قد يصرف هذه الامور كلّها إلى الخير و المنفعة ، فكما انّه إذا قطعت الريح شجرة أخذها الصانع الرفيق و استعملها في ضروب المنافع ، فكذلك يفعل المدبّر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم و أموالهم ، فيصيرها جميعا إلى الخير و المنفعة .

فإن قال : و لم تحدث على الناس ؟ قيل له : لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة ، فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي و يفتر الصالح عن الاجتهاد في البر ، فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض و الدّعة ،

و هذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم و تنبّههم على ما فيه رشدهم ، فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان و المعصية كما غلا الناس في أوّل الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان و تطهير الأرض منهم .

[ 363 ]

و ممّا ينتقده الجاحدون للعمد و التقدير ، الموت و الفناء ، فإنّهم يذهبون إلى أنّه ينبغي أن يكون الناس مخلّدين في هذه الدنيا مبرّئين من هذه الآفات ،

فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غاية فينتظر ما محصوله ، أ فرأيت لو كان كلّ من دخل العالم و يدخله يبقون و لا يموت أحد منهم ، أ لم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن و المزارع و المعايش ، فإنّهم و الموت يفنيهم أولا فأولا يتنافسون في المساكن و المزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب و تسفك منهم الدماء ، فكيف كانت حالهم لو كانوا يولدون و لا يموتون و كان يغلب عليهم الحرص و الشّره و قساوة القلوب ، فلو وثقوا بأنّهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشي‏ء يناله ، و لا أفرج لأحد عن شي‏ء يسأله و لا سلا عن شي‏ء ممّا يحدث عليه ، ثم كانوا يملّون الحياة و كلّ شي‏ء من أمور الدنيا ، كما قد يملّ الحياة من طال عمره حتى يتمنّى الموت و الراحة من الدنيا .

فان قالوا : انّه كان ينبغي أنّه يرفع عنهم المكاره و الأوصاب حتى لا يتمنّوا الموت و لا يشتاقوا إليه . فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو و الأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا و الدين .

و ان قالوا : انّه كان ينبغي ألاّ يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن و المعايش . قيل لهم : إذن كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم و الاستمتاع بنعمه تعالى و مواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل إلاّ قرن واحد لا يتوالدون و لا يتناسلون .

فإن قالوا : إنّه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق و يخلق إلى انقضاء العالم . يقال لهم : رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن و المعايش عنهم .

ثم لو كانوا لا يتوالدون و لا يتناسلون لذهب موضع الانس بالقرابات

[ 364 ]

و ذوي الأرحام و الانتصار بهم عند الشدائد و موضع تربية الأولاد و السرور بهم ، ففي هذا دليل على أن كلّ ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ و سفه من الرأي و القول .

و لعلّ طاعنا يطعن على التدبير من جهة اخرى فيقول : كيف يكون ههنا تدبير و نحن نرى الناس في هذه الدنيا من عزّ بزّ ، فالقوي يظلم و يغصب و الضعيف يظلم و يسام الخسف ، و الصالح فقير مبتلى و الفاسق معافى موسع عليه ، و من ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة ، فلو كان في العالم تدبير لجرت الامور على القياس القائم ، فكان الصالح هو المرزوق و الطالح هو المحروم و كان القوي يمنع من ظلم الضعيف و المنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة . فيقال في جواب ذلك : ان هذا لو كان هكذا لذهب موضع الاحسان الذي فضّل به الإنسان على غيره من الخلق ، و حمل النفس على البرّ و العمل الصالح احتسابا للثواب وثقة بما وعد اللّه تعالى ، و لصار الناس بمنزلة الدوابّ التي تساس بالعصا و العلف و يلمع فيها بكلّ واحد منها ساعة فساعة فتستقيم على ذلك ، و لم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب ، حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسانية إلى حد البهائم ، ثم لا يعرف ما غاب و لا يعمل إلاّ على الحاضر من نعيم الدنيا ، و كان يحدث من هذا أن يكون الصالح إنّما يعمل للرزق و السعة في هذه الدنيا ، و يكون الممتنع من الظلم و الفواحش إنما يكفّ عن ذلك لترقّب عقوبة تنزل به من ساعته حتى تكون أفعال الناس كلّها تجري على الحاضر لا يشوبه شي‏ء من اليقين بما عند اللّه و لا يستحقون ثواب الآخرة و النعيم الدائم فيها .

مع أنّ هذه الامور التي ذكرها الطاعن من الغنى و الفقر و العافية و البلاء ليست بجارية على خلاف قياسه ، بل تجري على ذلك أحيانا و الأمر مفهوم ،

[ 365 ]

فقد نرى كثيرا من الصالحين يرزقون المال بضروب من التدبير ، وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفّار هم المرزوقون و الأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح ، و ترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم و عظم ضررهم على الناس و على أنفسهم ، كما عوجل فرعون بالغرق و بختنصر بالتيه و بلبيس بالقتل ، و إن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة و أخرّ بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد . و لم يكن هذا مما يبطل التدبير ، فإنّ مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ، و لا يبطل تدبيرهم ، بل يكون تأخيرهم ما أخّروه و تعجيلهم ما عجّلوه داخلا في صواب الرأي و التدبير .

و اذا كانت الشواهد تشهد و قياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبّر خلقه ، فإنّه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلاّ بإحدى ثلاث خلال : إمّا عجز ، و إمّا جهل ، و إمّا شرارة . و كلّ هذا محال في صنعته عزّ و جل و تعالى ذكره . و ذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة ، و الجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب : و الحكمة ، و الشرّير لا يتطاول لخلقها و إنشائها .

و إذ كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبّرها لا محالة ،

و ان كان لا يدرك كنه ذلك التدبير و مخارجه ، فان كثيرا من تدابير الملوك لا تعرفه العامة و لا تعرف أسبابه ، لأنّها لا تعرف دخلة أمر الملوك و أسرارهم ، فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب : و الشاهد لمحنه .

و لو شككت في بعض الأدوية و الأطعمة فتبين لك من جهتين أو ثلاث انّه حار أو بارد ، أ لم تكن تقضي عليه بذلك و تنفي الشكّ فيه عن نفسك ، فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق و التدبير مع هذه الشواهد الكثيرة

[ 366 ]

و أكثر منها ممّا لا يحصى كثرة .

و لو كان نصف العالم و ما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي و سمت الأدب أن يقضي على العالم بالإهمال ، لأنّه كان في النصف الآخر و ما يظهر فيه من الصواب و الإتقان ما يردع الوهم عن التسرّع إلى هذه القضية ،

كيف و كل ما كان فيه إذا فتّش وجد على غاية الصواب : حتى لا يخطر بالبال شي‏ء إلاّ وجد ما عليه الخلقة أصحّ و أصوب منه .

و اعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس و تفسيره الزينة ، و كذلك سمّته الفلاسفة و من ادّعى الحكمة ، أ فكانوا يسمّونه بهذا الاسم إلاّ لما رأوا فيه من التقدير و النظام ؟ فلم يرضوا أن يسمّوه تقديرا و نظاما حتى سمّوه زينة ليخبروا أنّه مع ما هو عليه من الصواب : و الإتقان على غاية الحسن و البهاء .

أعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطأ و هم يرون الطبيب يخطى‏ء و يقضون على العالم بالإهمال و لا يرون شيئا مهملا ، بل أعجب من أخلاق من ادّعى الحكمة و جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جلّ و علا ، بل العجب من المخذول حين ادّعى علم الأسرار و عمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطأ و نسب خالقه إلى الجهل ، تبارك الحليم الكريم 1 .

« و ما أكثر ما تجهل من الأمر و يتحيّر فيه رأيك و يضلّ فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك » كما اتّفق لموسى عليه السّلام من جهله و تحيّره و عدم بصره حكمة أعمال الخضر من خرق السفينة و قتل الغلام و إقامة الجدار .

في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام قال : في كتاب علي عليه السّلام ان داود قال : يا

-----------
( 1 ) توحيد المفضل : 167 176 ، بحار الأنوار ، ط مؤسسة الوفاء بيروت 3 : 137 146 . باختلاف في بعض الألفاظ .

[ 367 ]

ربّ أرني الحق كما هو عندك حتى أقضي به . فقال : انك لا تطيق ذلك ، فألحّ على ربه حتى فعل ، فجاءه رجل يستدعي على رجل أنّه أخذ ماله ، فأوحى إلى داود أنّ هذا المستدعي قتل أبا هذا و أخذ ماله ، و أمر داود بالمستدعي فقتل و أخذ ماله فدفعه إلى المستدعى عليه ، فعجب الناس و تحدّثوا حتى بلغ داود و دخل عليه من ذلك ما كره ، فدعا ربه أن يرفع ذلك ففعل ، ثم أوحى إليه أن احكم بينهم بالبيّنات و أضفهم إلى اسمي يحلفون 1 .

و عن أبي جعفر عليه السّلام : ان داود سأل ربه أن يريه قضية من قضايا الآخرة فأوحى تعالى إليه : إن الذي سألتني لم أطلع عليه أحدا من خلقي و لا ينبغي لأحد أن يقضي به غيري ، فلم يمنعه ذلك أن عاد في سؤاله ، فأتاه جبرئيل و قال له : لقد سألت ربّك شيئا لم يسأله قبلك نبيّ و لا ينبغي لأحد أن يقضي به غير اللّه قد أجاب اللّه دعوتك و أعطاك ما سألت ، إن أوّل خصمين يردان عليك غدا القضية فيهما من قضايا الآخرة ، فلما أصبح داود عليه السّلام أتاه شيخ متعلّق بشاب و مع الشاب عنقود من عنب ، فقال الشيخ : إنّ هذا الشاب دخل بستاني و خرّب كرمي و أكل منه بغير إذني و هذا العنقود أخذه بغير إذني . فقال داود للشاب : ما تقول : فأقرّ الشاب أنّه قد فعل ذلك ، فأوحى إليه تعالى إنّي إن كشفت لك عن قضية من قضايا الآخرة فقضيت بها بين الشيخ و الغلام لم يحتملها قلبك و لم يرض بها قومك ، يا داود إنّ هذا الشيخ اقتحم على أبي هذا الغلام في بستانه فقتله و غصب بستانه و أخذ منه أربعين ألف درهم فدفنها في جانب بستانه فادفع إلى الشاب سيفا و أمره أن يضرب عنق الشيخ و ادفع إليه البستان و مره أن يحفر في موضع كذا و كذا و يأخذ ماله .

ففزع من ذلك داود و جمع إليه علماء أصحابه و أخبرهم الخبر و أمضى القضية

-----------
( 1 ) فروع الكافي 7 : 414 ، حديث 3 ، باب ان القضاء بالبينات و الأيمان .

[ 368 ]

على ما أوحى تعالى إليه 1 .

و عن ( عجائب المخلوقات ) : أن موسى عليه السّلام اجتاز بعين ماء في سفح جبل فتوضأ منها ثم ارتقى الجبل ليصلّي إذ أقبل فارس فشرب من ماء العين و ترك عنده كيسا فيه دراهم ، و ذهب مارّا ، فجاء بعده راعي غنم فرأى الكيس فأخذه و مضى ، ثم جاء بعده شيخ عليه أثر البؤس و على رأسه حزمة حطب فوضعها هنا ثم استلقى ليستريح ، فما كان إلاّ قليلا حتى عاد الفارس فطلب كيسه فلم يجده ، فأقبل على الشيخ يطالبه به فلم يزل يضربه حتى قتله ، فقال موسى : يا رب كيف العدل في هذه الامور . فأوحى اللّه تعالى إليه : ان الشيخ كان قتل أبا الفارس و كان على أبي الفارس دين لأبي الراعي مقدار ما في الكيس ، فجرى بينهما القصاص و قضي الدين و أنا حكم عادل .

« فاعتصم بالذي خلقك » و اعتصموا بحبل اللّه جميعا و لا تفرّقوا 2 ،

و اعتصموا باللّه هو مولاكم فنعم المولى و نعم النصير 3 ، يا أيّها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا اليكم نورا مبينا . فأمّا الّذين آمنوا باللّه و اعتصموا به فسيدخلهم ربّهم في رحمة منه و فضل و يهديهم إليه صراطا مستقيما 4 ، و من يعتصم باللّه فقد هدي إلى صراط مستقيم 5 .

« و رزقك » اللّه الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شي‏ء سبحانه و تعالى عمّا يشركون 6 .

-----------
( 1 ) فروع الكافي 7 : 421 ، باب النوادر ، ح 1 .

-----------
( 2 ) آل عمران : 103 .

-----------
( 3 ) الحج : 78 .

-----------
( 4 ) النساء : 174 175 .

-----------
( 5 ) آل عمران : 101 .

-----------
( 6 ) الروم : 40 .

[ 369 ]

« و سوّاك » و نفس و ما سوّاها . فألهمها فجورها و تقواها . قد أفلح من زكّاها . و قد خاب من دسّاها 1 .

« و ليكن له تعبّدك و إليه رغبتك و منه شفقتك » أي : خوفك ، و تقديم الظرف في الثلاثة للحصر ، و انه لا يجوز التعبّد لغيره و لا الرغبة إلى غيره و لا الشفقة من غيره تعالى .

هذا ، و قال الجوهري : قال ابن دريد : شفقت و أشفقت بمعنى ، و أنكره أهل اللغة 2 .

قلت : بل نقل ذلك عن بعض و أنكره فقال ، زعم قوم أنّ شفقت و أشفقت بمعنى ، و أنكره جلّ أهل اللغة و قالوا لا يقال إلاّ أشفقت فأنا مشفق ، فأمّا قول الشاعر :

فإنّي ذو محافظة أبيّ
كما شفّقت للزاد العيال

فذاك بمعنى بخلت و ضنت 3 .

« و اعلم يا بنيّ أنّ أحدا لم ينبى‏ء » أي : لم يخبر « عن اللّه » هكذا في ( المصرية ) بلا زيادة ، و الصواب : زيادة ( سبحانه ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 4 .

« كما أنبأ عنه الرسول » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( نبينا ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 5 ، و ما ينطق عن الهوى . إن هو إلاّ وحي يوحى 6 ، و لو تقوّل علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم

-----------
( 1 ) الشمس : 7 10 .

-----------
( 2 ) الصحاح 4 : 1502 ، طبعة بيروت .

-----------
( 3 ) كتاب جمهرة اللغة 3 : 874 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 76 ، و ابن ميثم 5 : 15 .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 76 ، و ابن ميثم 5 : 15 .

-----------
( 6 ) النجم : 3 4 .

[ 370 ]

لقطعنا منه الوتين 1 .

« فارض به رائدا » و في المثل « لا يكذب الرائد أهله » 2 ، و الرائد من يرسل في طلب الكلأ .

« و إلى النجاة قائدا » يا أيّها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون باللّه و رسوله 3 .

« فاني لم آلك نصيحة » أي : لم أقصّر لك في النصيحة .

« و إنّك لن تبلغ في النظر لنفسك و إن اجتهدت مبلغ نظري لك » فإنّ من المعلوم أن ابنه ابن الحنفية على الأصح في كون الوصية إليه كان ناقص الاستعداد بمراتب عنه عليه السّلام حسب الفرق بين الامام و غيره .

إلى أن قال : « يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك » في ( موفقيات زبير بن بكار ) عن المدائني ، قال سلمة بن زياد لطلحة بن عبد اللّه الخزاعي : أريد أن أصل رجلا له حق عليّ و صحبة بألف ألف درهم فما ترى ؟ قال : أرى أن تجعل هذه العشر . قال : فأصله بخمسمئة ألف .

قال : كثير . فلم يزل حتى وقف على مئة ألف . قال : أفترى مئة ألف يقضى بها ذمام رجل له انقطاع و صحبة و مودة و حق واجب ، قال : نعم . قال : هي لك و ما أردت غيرك . قال : أقلني . قال : لا أفعل و اللّه .

و في ( الطبري ) : ذكر عن عبد اللّه بن مالك قال : كنت أتولّى الشرطة للمهدي و كان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي و مغنّيه و يأمرني بضربهم ،

و كان الهادي يسألني الرفق بهم و الترفيه لهم و لا التفت إلى ذلك ، و أمضي لما

-----------
( 1 ) الحاقة : 44 46 .

-----------
( 2 ) مجمع الأمثال 2 : 233 ، الزمخشري 2 : 274 ، صحاح اللغة 2 : 478 .

-----------
( 3 ) الصف : 10 و 11 .

[ 371 ]

أمرني به المهدي فلما ولي الهادي الخلافة أيقنت بالتلف ، فبعث إليّ يوما فدخلت عليه متكفّنا متحنّطا و إذا هو على كرسيّ و السيف و النطع بين يديه ،

فسلّمت فقال : لا سلم اللّه على الآخر ، تذكر يوما بعثت اليك في أمر الحرّاني و ما أمر به أبي من ضربه و حبسه فلم تجبني ، و في فلان و فلان و جعل يعدّد ندماءه فلم تلتفت إلى قولي و لا أمري . قلت : نعم . أ فتأذن لي في استيفاء الحجّة . قال : نعم . قلت : ناشدتك باللّه أيسرّك أنّك ولّيتني ما ولاّني أبوك فأمرتني بأمر فبعث إليّ بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك فاتبعت أمره و عصيت أمرك ؟ قال : لا . قلت : فكذلك أنا لك و كذا كنت لأبيك ، فاستدناني فقبّلت يده فأمر بخلع فصبّت عليّ و قال : ولّيتك ما كنت تتولاّه 1 .

« و أكره له ما تكره لها » في ( عيون القتيبي ) قال الرياشي : كان أبو ذؤيب يهوى امرأة من قومه ، و كان رسوله إليها رجلا يقال له خالد بن زهير ، فخانه فيها فقال أبو ذؤيب :

تريدين كيما تجمعيني و خالدا
و هل تجمع السيفان ويحك في غمد

أ خالد ما راعيت منّي قرابة
فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي

و كان أبو ذؤيب خان فيها ابن عمّ له يقال له مالك بن عويمر ، فأجابه خالد :

فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
و أوّل راض سنّة من يسيرها

أ لم تتنقّذها من ابن عويمر
و أنت صفي نفسه و وزيرها 2

« و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم » في الخبر : أفضل الجهاد من أصبح لا يهمّ

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 8 : 216 ، دار التراث بيروت .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 4 : 109 ، دار الكتاب العربي .

[ 372 ]

بظلم أحد 1 ، و المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده 2 ، و من ظلم ظلم ،

و كذلك نولّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون 3 .

و في ( المعجم ) : قال أحمد بن عبيد بن ناصح : لما أراد المتوكل أن يعقد للمعتز ولايته حططته عن مرتبته قليلا و أخّرت غداءه عن وقته ، فلما كان وقت الانصراف قلت : إحمله . و ضربته من غير ذنب ، فكتب بذلك إلى المتوكل ، فأنا في الطريق منصرفا إذ لحقني صاحب رسالته فقال . الخليفة يدعوك ، فدخلت عليه و هو جالس على كرسي و الغضب بيّن في وجهه و الفتح قائم بين يديه متكئا على السيف ، فقال : ما هذا الذي فعلته . قلت : أقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال :

قل ، إنّما سألتك لتقول . قلت : بلغني ما عزم عليه الخليفة فدعوت وليّ عهده و حططت منزلته ليعرف هذا المقدار من الحط فلا يعجل بزوال نعمة أحد و أخّرت غداءه ليعرف هذا المقدار من الجوع فإذا شكي إليه الجوع عرف ذلك ،

و ضربته من غير ذنب ليعرف مقدار الظلم فلا يعجل على أحد . فقال : أحسنت ،

و أمر لي بعشرة آلاف درهم ، ثم لحقني رسول قبيحة بعشرة آلاف اخرى ،

فانصرفت بعشرين ألف 4 .

قلت : و نقل نظيره عن معلم انوشيروان معه في صباوته .

« و أحسن كما تحبّ أن يحسن إليك » في الخبر جاء أعرابي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخذ بغرز راحلته و قال : علّمني شيئا أدخل به الجنة ؟ فقال النبيّ له : ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم خلّ سبيل الراحلة إنّ اللّه لا يضيع أجر

-----------
( 1 ) بحار الأنوار 75 : 314 ، عن المحاسن : 292 .

-----------
( 2 ) بحار الأنوار 67 : 321 ، صحيح البخاري 1 : 13 ح 10 و 11 باب 3 5 ، المستدرك على الصحيحين 1 : 11 .

-----------
( 3 ) الانعام : 129 .

-----------
( 4 ) معجم الادباء لياقوت الحموي 2 : 230 و 231 ، دار الفكر ، بيروت .

[ 373 ]

المحسنين 1 ان اللّه مع الذين اتّقوا و الّذين هم محسنون 2 .

« و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك » قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : أما يخشى الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم 3 .

« و أرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك » عن المفضل ، قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام : أ تدري لم قيل من يزن يوما يزن به ؟ قلت : لا . قال : كانت بغيّ في بني إسرائيل و كان فيهم رجل يكثر الاختلاف إليها ، فلما كان في آخر ما أتاها أجرى اللّه على لسانها : أما إنّك سترجع إلى أهلك فتجد معها رجلا ، فخرج و هو خبيث النفس ، فدخل منزله على غير الحال التي كان يدخله قبل ، دخل بغير إذن فوجد على فراشه رجلا ، فارتفعا إلى موسى عليه السّلام فنزل جبرئيل و قال : يا موسى من يزن يوما يزن به . فنظر موسى إليهما فقال : عفّوا تعفّ نساؤكم 4 .

و في ( الأغاني ) : عن ميمون بن هارون قال : كان محمد بن عبد الملك الزيات يقول : الرحمة خور في الطبيعة و ضعف في المنة ، ما رحمت شيئا قط .

فلمّا وضع في الثقل و الحديد قال إرحموني ، فقالوا له : و هل رحمت شيئا قط فترحم ، هذه شهادتك على نفسك و حكمك عليها .

و فيه : عن الأصمعي : قدم رجل من أهل اليمن مكة فسمع امرأة عبيد اللّه بن العباس تندب ابنيها اللذين قتلهما بسر بقولها :

يا من أحس با بني اللذين هما
كالدرّتين تشظّى عنهما الصدق

فرق لها و اتصل ببسر حتى وثق به ثم احتال لقتل ابنيه فخرج بهما الى وادي أوطاس فقتلهما و هرب و قال :

-----------
( 1 ) التوبة : 120 ، يوسف : 90 .

-----------
( 2 ) بحار الأنوار 77 : 126 ، رواية 45 ، باب 6 . و الآية 128 من سورة النحل .

-----------
( 3 ) فروع الكافي 5 : 553 ، ح 3 ، من لا يحضره الفقيه 4 : 19 ، رواية 4972 .

-----------
( 4 ) الكافي 5 : 553 ح 3 .

[ 374 ]

يا بسر بسر بني أرطاة ما طلعت
شمس النهار و لا غابت على الناس

خير من الهاشميّين الذين همو
عين الهدى و سهام الأسوق القاس

ما ذا أردت إلى طفلي مولّهة
تبكي و تنشد من أنكلت في الناس

أما قتلتهما ظلما فقد شرقت
من صاحبيك قناتي يوم أوطاس

فاشرب بكأسهما ثكلا كما شربت
أمّ الصبيّين أو ذاق ابن عباس 1

و قال تعالى و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتّقوا اللّه و ليقولوا قولا سديدا 2 .

« و لا تقل ما لا تعلم و ان قلّ ما تعلم » أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون 3 .

« و لا تقل ما لا تحب أن يقال لك » في ( المعجم ) : كان أبو نزار ملك النحاة إذا ذكر عنده أحد النحاة يقول : كلب من الكلاب . فقال له رجل يوما : فلست إذن ملك النحاة ، إنّما أنت ملك الكلاب ، فاستشاط غضبا و قال : أخرجوا عنّي هذا الفضولي 4 .

و في ( الخصال ) عنه عليه السّلام قال لبنيه : إيّاكم و معاداة الرجال ، فإنهم لا يخلون من ضربين : من عاقل يمكر بكم ، أو جاهل يعجّل عليكم ، و الكلام ذكر و الجواب أنثى ، فإذا اجتمع الزوجان فلا بدّ من النتاج ، ثم أنشأ يقول :

سليم العرض من حذر الجوابا
و من دارى الرجال فقد أصابا

و من هاب الرجال تهيّبوه
و من حقر الرجال فلن يهابا 5

و في ( الأغاني ) : بعث بشّار يوما إلى صديق له يقال له أبو زيد يطلب منه

-----------
( 1 ) الأغاني 16 : 272 دار احياء التراث العربي بيروت .

-----------
( 2 ) النساء : 9 .

-----------
( 3 ) البقرة : 80 .

-----------
( 4 ) معجم الادباء لياقوت الحموي 8 : 132 ، دار الفكر بيروت .

-----------
( 5 ) الخصال : 72 111 .

[ 375 ]

ثيابا بنسيئة ، فلم يصادفها عنده ، فقال يهجوه :

ألا إنّ أبا زيد
زنى في ليلة القدر

و لم يرع تعالى اللّه
ربّه حرمة الشهر

و كتبها في رقعة و بعث بها إليه ، و لم يكن أبو زيد ممّن يقول الشعر ،

فقلبها و كتب في ظهرها :

ألا إنّ أبا زيد
له في ذلكم عذر

أتته أمّ بشّار
و قد ضاق به الأمر

فواثبها و جامعها
و ما ساعدها الصبر

فلما قرى‏ء على بشّار غضب و ندم على تعرّضه لرجل لا نباهة له ، فجعل ينطح الحائط برأسه غيظا ثم قال : لا تعرّضت لهجاء سفلة مثل هذا أبدا .

و فيه : كان عبد اللّه بن الحسن الاصبهاني يخلف عمرو بن مسعدة على ديوان الرسائل ، فكتب إلى خالد بن يزيد : إن الخليفة المعتصم ينفخ منك من غير فحم و يخاطب أمرء صلّى من غير ذي فهم . فقال محمد بن عبد الملك الزيّات : هذا كلام ساقط سخيف ، جعل الخليفة ينفخ بالزق كأنّه حداد و أبطل الكتاب . ثم كتب ابن الزيات إلى عبد اللّه بن طاهر : أنت تجري أمرك على الأربح فالأربح و الأرجح فالأرجح ، لا تسعى بنقصان و لا تميل برجحان . فقال الاصبهاني :

الحمد للّه قد أظهر من سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته من التجارة بذكره ربح السلع و رجحان الميزان و نقصان الكيل و الخسران من رأس المال ، فضحك المعتصم و قال : ما أسرع ما انتصف الاصبهاني منه 1 .

و في الخبر : ورد الزهري و هو كئيب على السجاد عليه السّلام فقال له :

ما لك ؟ قال : هموم تتو إلى عليّ من جهة حسّاد نعمتي و ممّن

-----------
( 1 ) الأغاني 3 : 188 و 23 : 53 ، دار احياء التراث العربي بيروت .

[ 376 ]

أحسنت إليه فتخلف ظنّي .

فقال عليه السّلام له : إحفظ عليك لسانك تملك به اخوانك ، و إيّاك أن تعجب بنفسك ، و إيّاك أن تتكلم بما يسبق إلى القلوب إنكاره و إن كان عندك اعتذاره ،

فليس كلّ من تسمعه نكرا يمكنك أن توسعه عذرا . ثم قال له عليه السّلام : من لم يكن عقله من أكمل ما فيه كان هلاكه من أيسر ما فيه ، و ما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك ، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك و صغيرهم بمنزلة ولدك و تربك بمنزلة أخيك ، فأي هؤلاء تحب أن تظلمه ؟ و أيّ هؤلاء تحب أن تدعو عليه ؟ و أي هؤلاء تحب أن تهتك ستره ؟ و إن عرض لك ابليس بأن لك فضلا على أحد فانظر ان كان أكبر منك فقل سبقني بالإيمان و العمل الصالح فهو خير مني ، و إن كان أصغر منك فقل ذنبي أكثر منه ، و إن كان تربك فقل أنا على يقين من ذنبي و في شك من أمره فمالي أدع يقيني لشكّي .

يا زهري ان رأيت المسلمين يعظّمونك فقل هذا فضل أخذوا به ، و إن رأيت منهم جفاء و انقباضا عنك فقل هذا لذنب أحدثته ، فإنّك إذا فعلت ذلك سهّل اللّه عيشك و كثر أصدقاؤك و قلّ أعداؤك ، و فرحت بما يكون من برهم و لم تأسف على ما يكون من جفائهم .

و اعلم أنّ أكرم الناس على الناس من كان خيره عليهم فائضا و كان عنهم مستغنيا متعفّفا ، و أكرم الناس عليهم بعده من كان عنهم متعفّفا و ان كان إليهم محتاجا فانما أهل الدنيا يعتقّبون الأموال فمن لم يزاحمهم فيما يعتقّبونه كرم عليهم ، و من لم يزاحمهم فيها و مكّنهم من بعضها كان أعزّ و أكرم 1 .

و عن الصادق عليه السّلام : عليك بتقوى اللّه و الورع و الاجتهاد ، و صدق الحديث

-----------
( 1 ) بحار الأنوار 74 : 155 ، رواية 1 .

[ 377 ]

و اداء الأمانة ، و حسن الخلق و حسن الجوار ، و كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم 1 .

و عنه عليه السّلام صاحب علي عليه السّلام ذميّا فقال له الذميّ : يا عبد اللّه أين تريد ؟

قال : الكوفة ، فلما عدل الطريق بالذميّ عدل عليه السّلام معه ، فقال له الذميّ : أ لست قلت أريد الكوفة ؟ قال : بلى . قال : فقد تركت الطريق . فقال قد علمت . قال : فلم عدلت معي و قد علمت ذلك ؟ قال : من تمام حسن الصحبة أن يشيّع الرجل أخاه هنيهة إذا فارقه ، هكذا أمرنا نبيّنا . فقال ، هكذا أمر نبيّكم ، لا جرم إنّما تبعه لأفعاله الكريمة ، و أنا أشهدك أنّي على دينك ، فرجع الذميّ مع علي عليه السّلام فلما عرفه أسلم 2 .

و عن زكريا بن إبراهيم قلت للصادق عليه السّلام : إنّي كنت نصرانيا و إنّ أبي و امّي على النصرانية و أمّي مكفوفة البصر أكون معهم و آكل في آنيتهم .

قال عليه السّلام : يأكلون لحم الخنزير ؟ قلت : لا و لا يمسّونه . فقال : لا بأس ، و انظر أمّك فبرّها ، ثم ذكر أنّه زاد في برّها على ما كان يفعل و هو نصراني ، فسألته فأخبرها أنّ إمامه أمره بذلك ، فأسلمت 3 .

« و اعلم أنّ الإعجاب » أي : العجب بالنفس .

« ضد الصواب و آفة الألباب » في ( عيون القتيبي ) : قيل لرجل من بني عبد الدار : ألا تأتي الخليفة . قال أخشى أن لا يحمل الجسر شرفي . و قيل له : البس شيئا فان البرد شديد . فقال : حسبي يدفئني .

و مدّ أعرابي يده في الموقف و قال : اللّهم إن كنت ترى يدا

-----------
( 1 ) الكافي 2 : 77 ح 9 . بحار الأنوار 70 : 299 رواية 9 باب 57 .

-----------
( 2 ) الكافي 2 : 670 ح 5 . بحار الأنوار 41 : 53 رواية 5 باب 104 .

-----------
( 3 ) الكافي 2 : 160 ح 11 بتلخيص .

[ 378 ]

أكرم منها فاقطعها .

و كان جذيمة الأبرش سمّي بذلك لبرص فيه ، فقالوا الأبرش خوفا منه ،

كان لا ينادم أحدا ذهابا بنفسه و قال : أنا أعظم من أن أنادم إلاّ الفرقدين ، فكان يشرب كأسا و يصب لكلّ واحد منهما في الأرض كأسا 1 .

« فاسع في كدحك » قال ابن أبي الحديد : الكدح هنا المال الذي كدح في حصوله ، و السعي فيه إنفاقه ، و هذه كلمة فصيحة 2 .

قلت : هو كما ترى ، و كيف كان فقد قال تعالى : يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحا فملاقيه . فأمّا من أوتي كتابه بيمينه . فسوف يحاسب حسابا يسيرا . و ينقلب إلى أهله مسرورا . و أما من أوتي كتابه وراء ظهره . فسوف يدعو ثبورا . و يصلّى سعيرا . إنّه كان في أهله مسرورا . إنّه ظن أن لن يحور . بلى إنّ ربّه كان به بصيرا 3 .

و قال الزمخشري : الكدح جهد النفس في العمل و الكد فيه حتى يؤثر فيها من ( كدح جلده ) إذا خدشه ، و معنى « كادح إلى ربك » جاهد إلى لقاء ربك ، و هو الموت و ما بعده 4 .

« و لا تكن خازنا لغيرك » بجمع المال و تركه للوارث ، و لذا قالوا « الناس أموال غيرهم أحب اليهم من أموالهم » لأنّ مالهم ما قدّموه و أمّا ما خلّفوه فمال غيرهم .

و في ( الطبري ) : لمّا مات هشام أغلق الخزّان الأبواب ، فطلبوا قمقما يسخن فيه الماء لغسله فما وجدوه حتى استعاروا قمقما من بعض الجيران ،

-----------
( 1 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 : 386 دار الكتب العلمية .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 85 .

-----------
( 3 ) الانشقاق : 6 15 .

-----------
( 4 ) الكشاف للزمخشري 4 : 726 .

[ 379 ]

فقال بعض من حضر : إنّ في هذا لمعتبرا .

و فيه : قال عقال بن شبّه : دخلت على هشام و عليه قباء فنك أخضر ،

فوجّهني إلى خراسان و جعل يوصيني و أنا أنظر إلى القباء ، ففطن فقال : هو ذاك مالي قباء غيره ، و أما ما ترون من جمعي هذا المال و صونه فانّه لكم .

و فيه : كان الوليد بن يزيد أيام هشام خرج فنزل بالأزرق على ماء يقال له « الأغدف » و خلّف كاتبه عياض بن مسلم بالرصافة ليكتب له بما يحدث ،

فلمّا أتته البشارة بموت هشام و صيرورته خليفة سأل عن كاتبه عياض فقيل له : لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام أمر اللّه ، فلما صار في حد لا ترجى فيه الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزان أن احتفظوا بما في أيديكم فلا يصلنّ أحد منه إلى شي‏ء ، و أفاق هشام إفاقة فطلب شيئا فمنعوه ، فقال : أرانا كنّا خزّانا للوليد ، و مات من ساعته ، و خرج عيّاض من السجن بختم أبواب الخزائن ،

و أمر بهشام فانزل عن فراشه فما وجدوا له قمقما يسخن له فيه الماء حتى استعاروه ، و لا وجدوا كفنا من الخزائن فكفنه غالب مولى هشام 1 .

« و إذا كنت » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( أنت ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 .

« هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك » في الخبر أوحى تعالى إلى موسى عليه السّلام : أ تدري لم خصصتك بوحيي و كلامي . قال : لا . قال : إنّي أطّلعت إلى خلقي اطّلاعة فلم أر فيهم أشد تواضعا منك ، و كان موسى إذا صلّى لا ينفتل حتى يلصق خدّه الأيمن و الأيسر بالأرض 3 .

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 4 : 217 و 218 و 225 ، دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 84 .

-----------
( 3 ) الكافي 2 : 123 ، 7 ، بحار الأنوار 13 : 357 رواية 61 ، و 86 : 200 رواية 9 .

[ 380 ]

« و اعلم أنّ أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة و مشقّة شديدة و أنّه لا غنى لك » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( بك ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 1 .

« فيه عن حسن الارتياد » أي : طلب الكلأ .

« و قدر بلاغك من الزاد » في ( عيون ابن قتيبة ) : أراد قوم سفرا فحاروا عن الطريق و انتهوا إلى راهب منفرد في ناحية ، فنادوه فأشرف عليهم فقالوا : إنّا ضللنا فكيف الطريق ؟ فقال لهم : هاهنا و أومى إلى السماء فعلموا الذي أراد ،

فقالوا : إنّا سائلوك أ فتجيبنا أنت ؟ قال : سلوا و لا تكثروا ، فإن النهار لن يرجع ،

و العمر لن يعود ، و الطالب حثيث في طلبه ذو اجتهاد . قالوا : ما الخلق عليه غدا عند مليكهم ؟ فقال : على نيّاتهم . فقالوا : فإلى م المؤمّل ؟ قال : إلى المقدم . قالوا :

أوصنا . قال : تزوّدوا على قدر سفركم ، فإنّ خير الزّاد ما بلغ المحل ، ثم أرشدهم إلى المحجة و انقمع .

« مع خفة الظهر فلا تحملنّ على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذلك وبالا عليك » و المراد حمل أوزار الذنوب و أثقال الآثام لا حمل المال كما توهمه ابن أبي الحديد 2 ، قال تعالى : و لا تزر وازرة وزر اخرى و ان تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شي‏ء و لو كان ذا قربى 3 ، من أعرض عنه فإنّه يحمل يوم القيامة وزرا . خالدين فيه و ساءلهم يوم القيامة حملا 4 ، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها و هم يحملون أوزارهم على

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 85 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 86 .

-----------
( 3 ) فاطر : 18 .

-----------
( 4 ) طه : 100 101 .

[ 381 ]

ظهورهم ألا ساء ما يزرون 1 .

« و إذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه و حمّله و أكثر من تزويده و أنت قادر عليه فلعلك تطلبه فلا تجده » و المراد الإنفاق في سبيل اللّه ، و كان جعفر الطيار من كثرة إنفاقه على أهل الفاقة يسمّى أبا المساكين 2 ، كما ان زينب بنت خزيمة احدى أزواج النبيّ أيضا لذلك تسمّى أم المساكين 3 .

و روى ( العلل ) : أنّ الزّهري رأى علي بن الحسين عليه السّلام في ليلة باردة مطيرة و على ظهره دقيق و حطب و هو يمشي ، فقال له : يا بن رسول اللّه ما هذا ؟

قال : أريد سفرا أعدّ له زادا أحمله إلى موضع حريز . فقال الزهري : فهذا غلامي يحمل عنك ، فأبى ، فقال : أنا أحمله عنك فإنّي أرفعك عن حمله . فقال عليه السّلام : لكني لا أرفع نفسي عمّا ينجيني في سفري و يحسن ورودي على ما أراد عليه ،

أسألك بحق اللّه لما مضيت لحاجتك و تركتني ، فانصرف عنه . فلما كان بعد أيام قلت له : يا بن رسول اللّه لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثرا . قال : بلى يا زهري ، ليس ما ظننته و لكنه الموت و له أستعد ، و الاستعداد له تجنّب الحرام و بذل الندى و الخير .

و روى أيضا : انّه عليه السّلام لما وضع على السرير ليغسل نظر إلى ظهره و عليه مثل ركب الإبل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل المساكين 4 .

« و اغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك » في الخبر : إغتنم شبابك قبل هرمك ، و فراغك قبل شغلك ، و صحتك قبل سقمك

-----------
( 1 ) الأنعام : 31 .

-----------
( 2 ) اسد الغابة 1 : 287 ، بحار الأنوار 20 : 12 .

-----------
( 3 ) اسد الغابة 5 : 466 ، بحار الأنوار 20 : 12 رواية 8 باب 11 .

-----------
( 4 ) علل الشرائع : 231 ح 5 و 6 .

[ 382 ]

و حياتك قبل موتك ، و غناك قبل فقرك 1 .

« و اعلم أنّ أمامك عقبة كؤودا » أي : شاقة المصعد .

« المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل و البطي‏ء » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( و المبطى‏ء ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 .

« عليها أقبح حالا » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( أمرا ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) 3 .

« من المسرع ، و إنّ مهبطك بها » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( مهبطها بك ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) 4 .

« لا محالة » أي : بلا حيلة .

« على جنّة أو على نار » هكذا في ( المصرية ) و لكن في ( ابن ميثم ) أو نار ،

و في ( ابن أبي الحديد ) « إمّا على جنّة أو على نار » 5 .

في ( اعتقادات الصدوق ) : و أمّا العقبات التي على الجسر فاسمها اسم فرض و أمر و نهي ، فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة اسم فرض و كان قد قصّر في ذلك الفرض حبس عندها و طولب بحق اللّه فيها ، فإن خرج منها بعمل صالح قدّمه أو برحمة تداركته نجا منها إلى عقبة أخرى ، فلا يزال يدفع من عقبة إلى أخرى و يحبس عند كلّ عقبة فيسأل عمّا قصّر فيه من معنى اسمها ، فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيى حياة لا موت فيها أبدا ، و سعد سعادة لا شقاوة معها أبدا ، و سكن جوار اللّه مع أنبيائه و حججه و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين من عباده ، و إن حبس في عقبة فطولب بحق قصّر فيه إن لم ينجه عمل صالح قدمه و لا أدركته من اللّه رحمة زلّت به قدمه

-----------
( 1 ) بحار الأنوار 77 : 77 رواية 3 باب 4 ، بحار الأنوار 81 : 173 رواية 11 باب 1 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 85 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 85 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 85 .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 85 .

[ 383 ]

عن العقبة و هوى في جهنم 1 .

« فارتد » من راد الكلأ و ارتاده أي : طلبه .

« و وطى‏ء المنزل » يقال وطّأت الفراش أي : جعلته وطيئا .

« قبل حلوله » حتى لا يحصل لك تعب بعده .

« فليس بعد الموت مستعتب » أي : استرضاء فإن يصبروا فالنّار مثوى لهم و إن يستعتبوا فما هم من المعتبين 2 ، و إنّما الاستعتاب في الدنيا .

و في ( الكافي ) عن أبي جعفر عليه السّلام : إنّ الشمس لتطلع و معها أربعة أملاك ،

ملك ينادي يا صاحب الخير أتمّ و أبشر ، و ملك ينادي يا صاحب الشر إنزع و أقصر . . . 3 .

« و لا إلى الدنيا منصرف » قال رب ارجعون . لعلّي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنّها كلمة هو قائلها 4 .

« و اعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات و الأرض » و للّه خزائن السماوات و الأرض و لكن المنافقين لا يفقهون 5 .

« قد أذن لك في الدعاء و تكلّف لك بالإجابة » ادعوني أستجب لكم 6 ،

و إذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون 7 .

-----------
( 1 ) اعتقادات الصدوق : 25 بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) فصلت : 24 .

-----------
( 3 ) الكافي 4 : 42 ، 1 .

-----------
( 4 ) المؤمنون : 99 100 .

-----------
( 5 ) المنافقون : 7 .

-----------
( 6 ) غافر : 60 .

-----------
( 7 ) البقرة : 186 .

[ 384 ]

« و أمرك أن تسأله فيعطيك ، و تسترحمه ليرحمك » قال النمر بن تولب :

و متى تصبك خصاصة فارج الغني
و إلى الذي يهب الرغائب فارغب

و في الدعاء : « الحمد للّه الذي أسأله فيعطيني و إن كنت بخيلا حين يستقرضني » 1 .

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : لا يزيد في العمر إلاّ البر ، و لا يرد القدر إلاّ الدعاء 2 .

« و لم يجعل بينك و بينه من يحجبه عنك ، و لم يلجئك إلى من يشفع لك إليه » في ( المروج ) : كتب ابن الحنفية إلى عبد الملك : إنّ الحجّاج قد قدم بلادنا و أحبّ ألاّ تجعل له عليّ سلطانا بيد و لا لسان . فكتب عبد الملك إلى الحجّاج : إنّ محمد ابن علي كتب إليّ يستعفيني منك و قد أخرجت يدك عنه فلم أجعل لك عليه سلطانا بيد و لا لسان فلا تتعرّض له ، فلقي الحجّاج ابن الحنفية في الطواف فعضّ على شفته ثم قال : لم يأذن لي فيك الخليفة . فقال له محمد : ويحك أو ما علمت أنّ للّه تعالى في كلّ يوم و ليلة ثلاثمئة و ستين لحظة أو قال نظرة لعلّه أن ينظر إليّ منها بنظرة أو قال بلحظة فيرحمني فلا يجعل لك عليّ سلطانا بيد و لا لسان . فكتب بها الحجاج إلى عبد الملك ، فكتب بها عبد الملك إلى ملك الروم و قد كان توعّده ، فكتب إليه ملك الروم : ليست هذه من سجيتك و لا سجية آبائك ، ما قالها إلاّ نبي أو رجل من أهل بيت نبي 3 .

« و لم يمنعك إن أسأت من التوبة » و هو الذي يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيّئات 4 .

« و لم يعاجلك بالنقمة » و لو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على

-----------
( 1 ) كتاب مهج الدعوات بحار الأنوار 94 : 281 رواية 2 باب 44 .

-----------
( 2 ) بحار الأنوار 77 : 168 رواية 3 .

-----------
( 3 ) مروج الذهب 3 : 116 .

-----------
( 4 ) الشورى : 25 .

[ 385 ]

ظهرها من دابة 1 .

« و لم يعيّرك بالانابة » الباء فيه بمعنى « في » ، أي : لم يعيّرك وقت إنابتك إليه لم عصيته .

« و لم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

( حيث تعرضت للفضيحة ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و كذا ( الخطية ) 2 .

ورد في الدعاء : يا من أظهر الجميل ، و ستر القبيح ، يا من لم يؤاخذ بالجريرة و لم يهتك الستر .

« و لم يشدّد عليك في قبول الإنابة » و يهدي إليه من أناب 3 ، و اتّبع سبيل من أناب إليّ 4 .

« و لم يناقشك » في ( الصحاح ) : المناقشة : الاستقصاء في الحساب 5 ، و في الحديث « من نوقش الحساب عذّب » 6 .

« بالجريمة » أي : بالذنب .

« و لم يؤيسك من الرحمة » قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه ان اللّه يغفر الذنوب جميعا 7 ، و لا تيأسوا من روح اللّه انّه لا ييأس من روح اللّه إلاّ القوم الكافرون 8 .

-----------
( 1 ) فاطر : 45 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 87 .

-----------
( 3 ) الرعد : 27 .

-----------
( 4 ) لقمان : 15 .

-----------
( 5 ) الصحاح 3 : 1023 .

-----------
( 6 ) أخرجه الكافي 5 : 106 .

-----------
( 7 ) الزمر : 53 .

-----------
( 8 ) يوسف : 87 .

[ 386 ]

« بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة » و الذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرّم اللّه إلاّ بالحق و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما .

يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا . إلاّ من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل اللّه سيّئاتهم حسنات 1 .

« و حسب سيئتك واحدة و حسب حسنتك عشرا » من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها و هم لا يظلمون 2 .

« و فتح لك باب المتاب » من تاب و عمل صالحا فانه يتوب إلى اللّه متابا 3 .

« و باب الاستيعاب » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( الاستعتاب ) كما في ( ابن ميثم ) 4 ، و هو الذي يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيّئات 5 .

و في الخبر : إن آدم عليه السّلام قال : يا رب سلّطت عليّ الشيطان و أجريته مني مجرى الدم ، فقال : يا آدم جعلت لك أن من همّ من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت عليه ، و من همّ منهم بحسنة فإن هو لم يعملها كتبت له حسنة و إن عملها كتبت له عشرا . قال : يا رب زدني . قال : جعلت : لك أنّ من عمل سيئة ثم استغفر غفرت له . قال : يا رب زدني . قال : جعلت لهم التوبة حتى تبلغ النفس هذه 6 .

-----------
( 1 ) الفرقان : 68 70 .

-----------
( 2 ) الأنعام : 160 .

-----------
( 3 ) الفرقان : 71 .

-----------
( 4 ) بحار الأنوار 51 : 303 ، رواية 19 ، باب 15 .

-----------
( 5 ) الشورى : 25 .

-----------
( 6 ) الكافي 2 : 440 ، 1 .

[ 387 ]

« فإذا ناديته سمع نداءك ، و إذا ناجيته علم نجواك » يعلم السرّ و أخفى 1 ،

قد سمع اللّه قول الّتي تجادلك في زوجها و تشتكي إلى اللّه و اللّه يسمع تحاوركما ان اللّه سميع بصير 2 .

« فأفضيت إليه بحاجتك » أي : خصصته بإظهار حاجتك له .

« و ابثثته » أي : نشرت له .

« ذات نفسك » أي : مقاصدك . و قال السجستاني ( ذات الصدور ) أي : حاجة الصدور .

قلت : و كلامه ليس بمطّرد ، فإنّه لا يناسب قوله تعالى و أصلحوا ذات بينكم 3 بل لا يناسب أيضا قوله تعالى قل موتوا بغيظكم ان اللّه عليم بذات الصدور 4 ، و ليبتلي اللّه ما في صدوركم و ليمحّص ما في قلوبكم و اللّه عليم بذات الصدور 5 .

« و شكوت إليه همومك » أي : أحزانك .

« و استكشفته كروبك » أي : غمومك .

و ورد لدفع الظالم في السجود بعد ركعتي المغرب « يا شديد القوى يا شديد المحال يا عزيز أذللت بعزتك جميع من خلقت ، فصل على محمد و آل محمّد و أكفني مؤنة فلان بما شئت » ، فدعا به بعضهم على ظالمه فلم يرعه إلاّ الواعية بالليل على الظالم و موته فجأة 6 .

-----------
( 1 ) طه : 7 .

-----------
( 2 ) المجادلة : 1 . بحار الأنوار 7 : 96 ، باب 5 .

-----------
( 3 ) الأنفال : 1 .

-----------
( 4 ) آل عمران : 119 .

-----------
( 5 ) آل عمران : 154 .

-----------
( 6 ) بحار الأنوار 87 : 103 ، رواية 30 بتغيير قليل .

[ 388 ]

« و استعنته على أمورك » قال الباقر عليه السّلام كما في بيان الجاحظ : إذا أنعم اللّه عليك نعمة فقل : « الحمد للّه » و إذا أحزنك أمر فقل : « لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه » و إذا أبطأ عنك الرزق فقل : « أستغفر اللّه » .

« و سألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار و صحّة الأبدان و سعة الأرزاق » في ( الاسد ) عن أبي ذر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه تعالى : يا عبادي لو أنّ أوّلكم و آخركم ، و إنسكم و جنّكم كانوا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كلّ إنسان ما سأل لا ينقص ذلك من ملكي شيئا ، إلاّ كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة 1 .

و في ( العيون ) : إحتبس القمر عن بني إسرائيل فأوحى تعالى إلى موسى أن أخرج عظام يوسف من مصر ، و وعده طلوع الفجر إذا أخرج عظامه ، فسأل موسى عمّن يعلم موضعه فقيل له : إنّ هاهنا عجوزا تعلم علمه ، فبعث إليها فأتي بها مقعدة عمياء ، فقال لها : تعرفين موضع قبر يوسف ؟ قالت : نعم . قال :

فأخبريني به . قالت : لا حتى تعطيني أربع خصال : تطلق لي رجلي ، و تعيد لي شبابي ، و تردّ إليّ بصري ، و تجعلني معك في الجنّة . فكبر ذلك على موسى عليه السّلام فأوحى تعالى إليه : أعطها ما سألت فإنّك إنّما تعطي عليّ . ففعل فدلّته عليه فاستخرجه من شاطى‏ء النيل في صندوق مرمر ، فلما أخرجه طلع القمر فحمله إلى الشام ، فلذلك يحمل أهل الكتاب موتاهم إلى الشام 2 .

و في الخبر : إن موسى عليه السّلام قال : يا ربّ إنّك لتعطيني أكثر من أملي . قال :

لأنّك تكثر من قول ما شاء اللّه لا قوّة إلاّ باللّه 3 .

-----------
( 1 ) اسد الغابة 1 : 301 302 .

-----------
( 2 ) عيون الصدوق 1 : 203 ح 18 .

-----------
( 3 ) الكهف : 39 .

[ 389 ]

« ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مساءلته ، فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته » في ( الكافي ) عن أمير المؤمنين عليه السّلام : الدعاء مفاتيح النجاح و مقاليد الفلاح ، و خير الدعاء ما صدر عن صدر تقيّ و قلب نقيّ ،

و في المناجاة سبب النجاة و بالاخلاص يكون الخلاص ، فإذا اشتد الفزع فإلى اللّه المفزع 1 .

و عن الصادق عليه السّلام : الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر ،

و ما أبرز عبد يده إلى اللّه العزيز الجبّار إلاّ استحى أن يردّها صفرا حتى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتى يمسحها على وجهه و رأسه ، و ان العبد إذا عجّل فقام لحاجته يقول تعالى أما يعلم عبدي أنّي أنا اللّه الذي أقضي الحوائج ، و إنّ اللّه تعالى كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة و أحب ذلك لنفسه ، إنّ اللّه تعالى يحب أن يسأل و يطلب ما عنده 2 .

« و استمطرت » أي : طلبت عطاء كالمطر ، قال الفرزدق :


و استمطروا من قريش كلّ منخدع 3

« شآبيب » جمع الشؤبوب ، الدفعة من المطر .

« رحمته فلا يقنطنك » أي : لا يؤيسنك .

« ابطاء » أي : تأخير .

« إجابته » و في ( الكشي ) : قال يونس بن عبد الرحمن : صمت عشرين سنة ، و سألت عشرين سنة ، ثم أجبت 4 .

-----------
( 1 ) الكافي 2 : 468 ح 2 .

-----------
( 2 ) الكافي 2 : 471 ح 1 و 2 ، 2 : 474 ح 2 و 475 ح 4 . من لا يحضره الفقيه 1 : 325 رواية 953 .

-----------
( 3 ) لسان العرب 5 : 179 ، مادة ( مطر ) .

-----------
( 4 ) الكشي : 485 ، ح 918 .

[ 390 ]

« فإنّ العطية على قدر النيّة » لا بمجرد لفظ الدعاء .

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : لمّا استسقى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سقي الناس حتى قالوا إنّه الغرق ، و قال : « اللّهم حوالينا و لا علينا » فتفرّق السحاب ، قالوا له صلّى اللّه عليه و آله إستسقيت لنا فلم نسق ، ثم استستقيت فسقينا . قال : إنّي دعوت و ليس لي في ذلك نيّة ثم دعوت و لي في ذلك نيّة .

و عنه عليه السّلام : إن اللّه تعالى لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك 1 .

« ثم استيقن بالإجابة و ربما أخرّت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل ،

و أجزل » أي : أعظم و أكثر « لعطاء الأمل » .

في الخبر : بينا إبراهيم عليه السّلام في جبل بيت المقدس يطلب مرعى غنمه إذ سمع صوتا ، فإذا هو برجل قائم يصلّي ، طوله نحو اثني عشر شبرا ، فقال له : يا عبد اللّه لم تصلّي ؟ قال : لإله السماء . قال : فمن أين تأكل ؟ قال : أجتني من هذا الشجر في الصيف و آكل في الشتاء . قال له : فأين منزلك ؟ فأومى بيده إلى جبل ، فقال له إبراهيم : هل لك أن تذهب بي معك فأبيت عندك الليلة ؟ فقال : إنّ قدّامي ماء لا يخاض . قال : كيف تصنع . قال : أمشي عليه . قال فاذهب بي معك لعل اللّه يرزقني ما رزقك . فأخذ العابد بيده فمضيا حتى انتهيا إلى الماء فمشى و مشى ابراهيم عليه السّلام معه حتى انتهيا إلى منزله ، فقال له إبراهيم : أيّ الأيام أعظم ؟ فقال العابد : يوم الدين ، يوم يدان الناس بعضهم من بعض . فقال : هل لك أن ترفع يدك و أرفع يدي فندعوا اللّه أن يؤمننا من شر ذلك اليوم . فقال : و ما تصنع بدعوتي ، فو اللّه إنّ لي لدعوة منذ ثلاث سنين ما أجبت فيها بشي‏ء . فقال له ابراهيم : أو لا أخبرك لأي شي‏ء احتبست دعوتك ؟ قال : بلى . قال : إنّ اللّه تعالى

-----------
( 1 ) الكافي 2 : 473 474 ، 1 و 5 .

[ 391 ]

إذا أحبّ عبدا احتبس دعوته ليناجيه و يسأله و يطلب إليه ، و إذا أبغض عبدا عجّل له دعوته أو ألقى في قلبه اليأس منها . ثم قال له : و ما كانت دعوتك ؟ قال :

مرّ بي غنم و معه غلام له ذؤابة فقلت : يا غلام لمن هذا الغنم ؟ قال : لإبراهيم خليل الرحمن . فقلت : اللّهم ان كان لك . في الأرض خليل فأرنيه . فقال له إبراهيم : فقد استجاب اللّه لك أنا إبراهيم خليل الرحمن فعانقه . قال : فلما بعث اللّه محمّدا جاءت المصافحة 1 .

« و ربما سألت الشي‏ء فلا تؤتاه » أي : لا تعطاه « و أوتيت » أي : اعطيت « خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف » ذلك الشي‏ء « عنك لما هو خير لك » قال البحتري :

و الشي‏ء تمنعه تكون بفوته
أجدى من الشي‏ء الذي تعطاه

هذا ، و في ( الأغاني ) : قال بعض أصدقاء الحسين بن الضحّاك يوما له :

تأخرت أرزاقك ، و نفقتك كثيرة ، فكيف يمشي أمرك ؟ فقال له : ما قوام أمري إلاّ ببقايا هبات الأمين و هبات جارية له أغنتني للأبد ، لشي‏ء ظريف جرى على غير تعمّد ، و هو أن الأمين دعاني يوما فقال : ان جليس الرجل موضع سره ، إنّ جاريتي فلانة أحسن الناس وجها و غناء و هي مني بمحل نفسي و نغصت النعمة عليّ بتجنّيها عليّ و إدلالها بما تعلم من حبي إيّاها ، و إنّي محضرها و محضر صاحبة لها ليست منها في شي‏ء لتغنّي معها ، فإذا غنّت جاريتي فلا تحسّن غناءها و لا تشرب عليه ، و إذا غنّت الاخرى فاشرب و اطرب و اشقق ثيابك ، و عليّ مكان كلّ ثوب مئة ثوب . فقلت : السمعة و الطاعة ، فجلس في الخلوة فأحضرني و سقاني و خلع عليّ ، فغنّت المحسنة و قد أخذ الشراب منّي فما تمالكت أن استحسنت و طربت و شربت ، فأومى إلىّ و قطب في وجهي ، ثم غنّت الاخرى فجعلت أ تكلّف ما أقول و أفعله ، ثم غنّت المحسنة ثانية فأتت بما

-----------
( 1 ) أخرجه امالي الصدوق 244 245 ، المجلس 49 ، ح 11 .

[ 392 ]

لم أسمع مثله ، فما ملكت نفسي أن صحت و شربت و طربت و الأمين ينظر إلي و يعض شفتيه غيظا ، و قد زال عقلي فما أفكر فيه حتى فعلت ذلك مرارا ،

فغضب و أمر بجر رجلي من عنده ، فجررت و أمر بأن أحجب بعد ، ثم بعد شهر أمر بإحضاري فحضرت و أنا خائف ، فضحك إليّ و قام و قال : إتبعني ، و دخل الى تلك الحجرة بعينها و لم يحضر غيري و غنت المحسنة التي نالني من أجلها ما نالني ، فسكتّ ، فقال لي : قل ما شئت و لا تخف لقد خار اللّه لك بخلافي و جرى القدر بما تحب ، إنّ هذه الجارية عادت إلى الحال التي أريد منها فسألتني الرضا عنك و قد فعلت و وصلتك بعشرة آلاف دينار و وصلتك هي بدون ذلك لو كنت فعلت ما قلت لك حتى تعود إلى مثل هذه الحال ثمّ تحقد ذلك عليك فتسألني ألاّ تصل إليّ لأجبتها ، فدعوت له و حمدت اللّه على توفيقه و انصرفت ، فما كان يمضي اسبوع إلاّ و ألطافها تصل إليّ من الجوهر و الثياب و المال ، و ما جالست الأمين مجلسا بعد ذلك إلاّ سألته أن يصلني ، فكل شي‏ء أنفقه إلى هذه الغاية من فضل مالها و ما ادّخرت من صلاتها 1 .

« فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته » فكان بنو إسرائيل يقولون لموسى عليه السّلام : أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا 2 فقال لهم موسى عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون 3 ، فلما أهلك اللّه تعالى فرعون و صاروا خلفاء الأرض صاروا مثل فرعون ، فكانوا يقتلون أنبياء اللّه و عبدوا العجل .

و في ( عيون ابن قتيبة ) : قال عبد الصمد بن يزيد : استخيروا اللّه و لا تخيروا عليه ، فكم من عبد تخيّر لنفسه أمرا كان فيه هلاكه ، أما رأيتم من سأل

-----------
( 1 ) الأغاني 7 : 205 ، دار احياء التراث العربي بيروت .

-----------
( 2 ) الأعراف : 129 .

-----------
( 3 ) الأعراف : 129 .

[ 393 ]

ربّه طرسوس فأعطيها فأسر فصار نصرانيا .

و في ( الكافي ) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال تعالى : إنّ من عبادي المؤمنين عبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلاّ بالغنى و السعة و الصحة في البدن فيصلح عليهم أمر دينهم بها ، و إنّ من عبادي المؤمنين لعبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلاّ بالفاقة و المسكنة و السقم فيصلح عليهم أمر دينهم فأبلوهم بها ، و إنّ من عبادي لمن يجتهد في عبادتي فيقوم من رقاده و لذيذ و ساده فيتهجّد لي الليالي فيتعب نفسه في عبادتي فأضربه بالنّعاس اللّيلة و اللّيلتين نظرا منّي له و إبقاء عليه فينام حتى يصبح و هو ماقت لنفسه زار عليها ، و لو أخلّي بينه و بين ما يريد لدخله العجب ، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعجبه 1 .

« فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله و ينفى عنك وباله » من المعنويات و الامور الدنيوية التي لا تضرّ بدينك .

« و المال لا يبقى لك » إن بقيت .

« و لا تبقى له » إن بقي و تركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم 2 .

إلى أن قال : « و اعلم يقينا انك لم تبلغ أملك » لعدم حدّ لآمال الإنسان .

« و لن تعدو » أي : لن تجاوز .

« أجلك » فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون 3 .

« و انك في سبيل من كان قبلك » « و كلّ حيّ سالك السّبيل » .

« فخفّض » أي : خفف .

« في الطلب و أجمل » و لا تأت بما يستقبح .

-----------
( 1 ) الكافي 2 : 60 ، رواية 4 .

-----------
( 2 ) الأنعام : 94 .

-----------
( 3 ) النحل : 61 .

[ 394 ]

« في المكتسب ، فإنّه ربّ طلب قد جرّ إلى حرب » أي : سلب المال ، و مثله قولهم « ربّ طمع أدنى إلى عطب » أي : هلاكه ، و في ديوان النابغة :

و اليأس ممّا فات يعقب راحة
و لرب مطمعة تعوذ ذباحا

« فليس كلّ طالب بمرزوق ، و لا كلّ مجمل بمحروم » علّة لقوله عليه السّلام : « خفّض في الطلب و أجمل في المكتسب » و بدله رواية الكليني بقوله « و ليس كلّ طالب بناج و لا كلّ مجمل بمحتاج » 1 . و كيف كان فقال ابن عبدل :

قد يرزق الخافض المقيم و ما
شدّ بعنس رحلا و لا قتبا

و يحرم الرزق ذو المطيّة و الرح
ل و من لا يزال مغتربا

و لآخر :

و ليس رزق الفتى من فضل حيلته
لكن حظوظ بأرزاق و أقسام

كالصيد يحرمه الرامي المجيد و قد
يرمي فيحرزه من ليس بالرام

و قال البحتري :

خفض أسى عمّا شاءك طلابه
ما كلّ شائم بارق يسقاه

و قد تتناهى الأسد من دون صيدها
شباعا و تغشى صيدها و هي جوّع

و في ( المعجم ) : دخل الناشي الأحصى على سيف الدولة فأنشده قصيدة له فيه ، فأعتذر سيف الدولة بضيق اليد يومئذ ، فخرج من عنده فوجد على بابه كلابا تذبح لها السخال و تطعم لحومها ، فعاد إليه و أنشده :

رأيت بباب داركم كلابا
تغذّيها و تطعمها السّخالا

فما في الأرض أدبر من أديب
يكون الكلب أحسن منه حالا

ثم اتفق أن حمل إلى سيف الدولة أموال من بعض الجهات على بغال ،

فضاع منها بغل بما عليه و هو عشرة آلاف دينار ، و جاء هذا البغل حتى وقف

-----------
( 1 ) كشف المحجة : 166 .

[ 395 ]

على باب الناشي بالاحص ، فسمع حسّه فظنّه لصا فخرج إليه بالسلاح فوجده بغلا موقرا بالمال ، فأخذ ما عليه من المال و أطلقه ، ثم دخل حلب و دخل على سيف الدولة و أنشد قصيدة يقول فيها :

و من ظن أن الرزق يأتي بحيلة
فقد كذبته نفسه و هو آثم

يفوت الغنى من لا ينام على السرى
و آخر يأتي رزقه و هو نائم

فقال له سيف الدولة : بحياتي وصل اليك مال كان على البغل . قال : نعم .

قال : خذه بجائزتك مباركا لك فيه ، فقيل لسيف الدولة : كيف عرفت ذلك ؟ قال :

عرفته من قوله « و آخر يأتي رزقه و هو نائم » بعد قوله « يكون الكلب منه أحسن حالا » ، و قال البحتري :

و عجبت للمحدود يحرم ناصبا
كلفا و للمجدود يغنم قاعدا

« و اكرم نفسك عن كل » صفة « دنيّة و إن ساقتك إلى الرّغائب » جمع الرغيبة العطاء الكثير .

رأى أعرابي إبل رجل قد كثرت بعد قلة ، فسأل عن العلة قيل له : إنّه زوّج أمّه فجاءته بنافجة . فقال : اللّهم إنّا نعوذ بك من بعض الرزق . قال البحتري :

خلّ الثراء إذا أخزت مغبّته
و اختر عليه على نقصانه العدما

« فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا » قال الشاعر :

إنّ الهوى دنس النفوس فليتني
طهّرت هذي النفس من أدناسها

و مطامع الدنيا تذلّ و لا أرى
شيئا أعزّ لمهجة من ياسها

أيضا :

إذا أظمأتك أكفّ اللّئام
كفتك القناعة شبعا و ريّا

فكن رجلا رجله في الثرى
و هامة همّته في الثّريّا

أبيّا لنائل ذي ثروة
تراه بما في يديه أبيا

[ 396 ]

فإنّ إراقة ماء الحياة
دون إراقة ماء المحيّا

« و لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللّه حرّا » في ( شعراء ابن قتيبة ) : أصاب عروة بن الورد العبسي في الجاهلية في بعض غاراته امرأة من كنانة فاتّخذها لنفسه فأولدها و حجّ بها و لقيه قومها و قالوا : فادنا بصاحبتنا فإنّا نكره أن تكون سبيّة عندك . قال : على شريطة . قالوا : و ما هي ؟ قال : على أن تخيّروها بعد الفداء ، فإن اختارت أهلها أقامت فيهم ، و ان اختارتني خرجت بها .

و كان يرى أنّها لا تختار عليه ، فأجابوه إلى ذلك و فادوه بها ، فلما خيّروها اختارت قومها ، ثم قالت له : اما إنّي لا أعلم امرأة ألقت سترا على خير منك أغفل عينا و أقل فحشا و أحمى لحقيقة ، و لقد أقمت معك و ما من يوم يمضي إلاّ و الموت أحبّ إليّ من الحياة فيه ، و ذلك أنّي كنت أسمع المرأة من قومك تقول :

« قالت أمة عروة كذا ، و فعلت أمة عروة كذا » و اللّه لا نظرت في وجه غطفانية ،

فارجع راشدا و أحسن إلى ولدك 1 .

و في ( أدب كتاب الصولي ) : كتب رجل إلى المهدي كتابا عنوانه « عبده فلان » فقال : لا أعلمن أحدا نسب نفسه إلى عبودة في كتاب فإنّه ملق كاذب و ليس يقبله إلاّ متكبّر أو غبيّ .

و رأى طاهر بن الحسين رقعة كتبها ابنه عبد اللّه إلى المأمون عليها « عبده » فقال : يا بنيّ سميتك عبد اللّه و كذلك أنت فلا تشركنّ في الملك أحدا ،

فإنّه جعلك بإنعامه حرّا لا مولى لك سواه .

و كان أحد العرفاء وزيرا لسلطان ، فاستوحش منه فكتب إليه السلطان يستعطفه ، فأجابه بأنّي كنت حرّا في جبلّتي فعبّدني إحسان السلطان و رجعني استيحاشه إلى أصل الفطرة ، فلا أعود بعد إلى العبودية

-----------
( 1 ) الشعر و الشعراء : 450 ، دار الكتب العلمية بيروت .

[ 397 ]

لمّا أنقذني اللّه منها .

و لبعضهم : لرد أمس بالحبال ، و حبس عين الشمس بالعقال ، و نقل ماء البحر بالغربال ، أهون عليّ من ذلّ السؤال ، واقفا على باب مثلي أرتجي منه النوال . و قيل بالفارسية :

گر بخارد پشت من انگشت من
خم شود از بار منّت پشت من

و كان عارف مقيما على نهر يقتات من الأعلاف التي يجي‏ء بها الماء ،

فمر به جندي فقال : لو كنت مثلي تخدم السلاطين لما كان قوتك مثل هذا . فقال له : لو كنت قانعا مثلي لما صرت عبدا و خادما للناس .

« و ما خير خير لا ينال إلاّ بشرّ ، و يسر لا ينال إلاّ بعسر » هكذا في ( المصرية و ابن أبي الحديد ) و لكن في نسخة ابن ميثم « و ما خير خير لا يوجد إلاّ بشرّ و لا ينال إلاّ بعسر » 1 .

و كيف كان ، ففي ( أمثال العسكري ) : كان أهل بيت زرارة حضان الملوك ، فافتخر بذلك حاجب بن زرارة فقال :

حللنا بأثناء العذيب و لم تكن
تحل بأثناء العذيب الركائب

لنكسب مالا أو نصيب غنيمة
و عند ابتلاء النفس تدنو الرغائب

حضنّا ابن ماء المزن و ابن محرّق
إلى أن بدت منهم لحى و شوارب

فعابه الناس و قالوا : ما رأينا من يفتخر بالمعائب ، و ذلك أن الظئر خادمة و الخدمة تضع و لا ترفع . و قيل : تجوع الحرّة و لا تأكل بثديها ، و قالوا : العبد حرّ ما قنع ، و الحرّ عبد ما طمع 2 .

و قال أخو ذي الرّمّة لمن أراد سفرا : إنّ لكل رفقة كلبا يشركهم في فضلة

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 93 .

-----------
( 2 ) جمهرة الأمثال 1 : 261 ، دار الجيل بيروت .

[ 398 ]

الزاد و يهر دونهم ، فإن قدرت ألاّ تكون كلب الرفقة فافعل .

« و إيّاك أن توجف بك » الإيجاف : السّير السريع ، قال تعالى : فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب 1 .

« مطايا » أي : دوابّ .

« الطمع فتوردك مناهل » في ( الصحاح ) المنهل : عين ماء ترده الابل في المرعى ، و تسمّى المنازل التي في المفازة على طريق السفار ، مناهل ، لأن فيها ماء 2 .

« الهلكة » قال الشاعر :

طمعت بليلى أن تريع و إنّما
تقطّع أعناق الرجال المطامع

أيضا :

و ارفض دنيئات المطامع إنّها
شين يعرّ و حقّها أن ترفضا

أيضا :

رأيت مخيّلة فطمعت فيها
و في الطمع المذلّة للرّقاب

و في ( الطبري ) في وقايع سنة ( 287 ) أسر إسماعيل بن أحمد الساماني عمرو ابن الليث الصفّار ، و كان من خبرهما أن عمرا سأل السلطان أن يولّيه ما وراء النهر ، فولاّه ذلك و وجّه إليه و هو مقيم بنيسابور بالخلع و اللّواء على ما وراء النهر ، فخرج لمحاربة إسماعيل ، فكتب إليه إسماعيل ، إنّك قد وليت دنيا عريضة و إنّما في يدك ما وراء النهر و أنا في ثغر فاقنع بما في يدك و اتركني مقيما بهذا الثغر ، فأبى إجابته ، فذكر له أمر نهر بلخ و شدّة عبوره فقال : لو أشاء أن أسكره ببدر الأموال و أعبره لفعلت . فلما أيس اسماعيل من انصرافه

-----------
( 1 ) الحشر : 6 .

-----------
( 2 ) الصحاح 5 : 1837 ، دار العلم للملايين بيروت .

[ 399 ]

عنه جمع من معه و التنّاء و الدّهاقين و عبر النهر إلى الجانب الغربي ، و جاء عمرو فنزل بلخ و أخذ عليه اسماعيل النواحي ، فصار كالمحاصر و طلب المحاجزة فيما ذكر فأبى اسمعيل عليه ذلك ، فلم يكن بينهما كثير قتال حتى انهزم عمرو فولى هاربا و مرّ بأجمة في طريقه قيل له إنّها أقرب ، فقال لعامة من معه امضوا في الطريق الواضح ، و مضى في نفر يسير فدخل الأجمة ،

فوحلت دابته فوقعت و لم يكن له في نفسه حيلة ، و مضى من معه و لم يلووا عليه ، و جاء أصحاب اسماعيل فأخذوه أسيرا 1 .

« فان استطعت ألاّ يكون بينك و بين اللّه ذو نعمة فافعل » في ( القصص ) : لما سلب سليمان عليه السّلام ملكه خرج على وجهه فضاف رجلا عظيما فأضافه و أحسن إليه و نزل منه منزلا عظيما لما رأى من صلاته و فضله و زوّجه بنته ،

فقالت له بنت الرجل : بأبي أنت و أمي ما أطيب ريحك و أكمل خصالك لا أعلم فيك خصلة أكرهها إلاّ أنّك في مؤونة أبي . فخرج سليمان حتى أتى الساحل ،

فأعان صيّادا ثمة فأعطاه السمكة التي وجد في بطنها خاتمه 2 .

و قال الجاحظ : عليّة أصحاب السلطان و مصاصهم و ذوو البصائر منهم يعترفون بفضيلة التجار و يتمنّون حالهم و يحكون لهم بسلامة الدين و طيب الطعمة و يعلمون أنّهم أودع الناس بدنا و أهنأهم عيشا و آمنهم سربا ،

لأنّهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم يرغب إليهم أهل الحاجات و ينزع إليهم ملتمسو البياعات ، لا تلحقهم الذلّة في مكاسبهم و لا يستعبدهم الضرع لمعاملاتهم ، و ليس هكذا من لابس السلطان بنفسه و قاربه بخدمته ، فإنّ أولئك لباسهم الذلّة و شعارهم الملق و قلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة ، قد لبسها

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 10 : 76 ، دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) أخرجه امالي الطوسي 2 : 272 ، المجلس 17 . بحار الأنوار 2 : 69 ، باب 5 ، رواية 3 .

[ 400 ]

الرعب و ألفها الذلّ و صحبها ترقّب الاجتياح ، و هم مع هذا في تكدير و تنغيص خوفا من سطوة الرئيس و تنكيل الصاحب و تغيّر الدولة و اعتراض حلول المحن ، فإن هي حلت بهم و كثيرا ما تحلّ فناهيك بهم مرحومين يرقّ لهم الأعداء فضلا عن الأولياء ، فكيف لا يميّز بين من هذا ثمرة اختياره و غاية تحصيله و من قد نال الوفاء عنه و الدعة و سلم من البوائق مع كثرة الأثر و قضاء اللذات من غير منّة لأحد ، و من استرقّه المعروف و استعبده الطمع و لزمه ثقل الصنيعة ، و طوّق عنقه الامتنان و استرهن بتحمّل الشكر .

« فإنّك مدرك قسمك و آخذ سهمك » في ( تاريخ بغداد ) : قال المأمون يوما و هو مقطّب لأبي دلف : أنت الذي يقول فيه الشاعر :

إنّما الدنيا أبو دلف
عند باديه و محتضره

فإذا ولّى أبو دلف
ولّت الدنيا على أثره

فقال له أبو دلف : شهادة زور و قول غرور و ملق معتب و طالب عرف ،

و أصدق منه ابن اخت لي حيث يقول :

دعني أجوب الأرض ألتمس الغنى
فلا الكرج الدنيا و لا الناس قاسم

فضحك المأمون و سكن غضبه 1 .

« و ان اليسير من اللّه سبحانه أعظم و أكرم » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

( أكرم و أعظم ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 .

« من الكثير من خلقه و إن كان كلّ منه » زاد في رواية ( التحف ) ( و لو نظرت و للّه المثل الأعلى فيما يطلب من الملوك و من دونهم من السفلة ،

لعرفت أنّ لك في يسير ما تصيب من الملوك افتخارا ، و أنّ عليك في

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 12 : 421 ، دار الكتاب العربي بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 93 .

[ 401 ]

كثير ما تصيب من الدناة عارا ) 1 .

سير النواعج في بلاد مضلّة
يمسي الدليل بها على ملمال

خير من الطمع الدنيّ و مجلس
بفناء لا طلق و لا مفضال

فاقصد لحاجتك المليك فإنّه
يغنيك عن مترفّع مختال

« و تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك على ما فات من منطقك » هذا أحد الأدلّة على أفضلية الصمت على النطق ، و قالوا في مثله : « الندم على السكوت خير من الندم على القول » 2 ، أيضا « عيّ صامت خير من عيّ ناطق » 3 .

هذا ، و زاد في رواية ( التحف ) قبله : ( و في الصمت السلامة من الندامة ) 4 .

« و حفظ ما في الوعاء » أي : الظرف و الآنية .

« بشدّ » أي : بعقد .

« الوكاء » قال الجوهري : الوكاء ، الذي يشدّ به رأس القربة 5 .

و في الخبر : إنّ من أعطاه اللّه تعالى مالا و لم يقم عليه كما ينبغي فذهب ماله ثم دعا بأن يعطيه ثانيا كان ممّن لا يستجاب له ، و يقال له قد أعطيت فلم لم تحفظ 6 .

و في ( الأغاني ) : قال اسحاق الموصلي : قال ابو المحبب أو غيره دعا رجل من الحي يقال له أبو سفيان ، القتّال الكلابي إلى وليمة ، فجلس القتّال ينتظر رسوله و لا يأكل حتى ارتفع النهار و كانت عنده فقرة

-----------
( 1 ) تحف العقول : 78 ، مؤسسة النشر الإسلامي قم .

-----------
( 2 ) مجمع الأمثال للميداني 2 : 346 ، الزمخشري 1 : 353 .

-----------
( 3 ) مجمع الأمثال للميداني 2 : 29 ، الزمخشري 2 : 175 .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 79 ، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي قم .

-----------
( 5 ) الصحاح للجوهري 6 : 2528 ، دار العلم للملايين بيروت .

-----------
( 6 ) أخرجه الكافي 2 : 510 511 ، 1 3 .

[ 402 ]

من حوار فقال لامرأته :

فإنّ أبا سفيان ليس بمولم
فقومي فهاتي فقرة من حوارك

قال إسحاق : فقلت له ثم مه . قال : لم يأت بعده بشي‏ء . فقلت له : أ فلا أزيدك إليه بيتا آخر ليس بدونه . قال : بلى . قلت :

فبيتك خير من بيوت كثيرة
و قدرك خير من وليمة جارك

فقال : و اللّه لقد أرسلته مثلا و ما يلام الخليفة أن يدنيك و يؤثرك 1 .

هذا ، و زاد في رواية ( التحف ) قبله : « و لا تحدّث إلاّ عن ثقة ، فتكون كاذبا و الكذب ذلّ » 2 .

« و حفظ ما في يديك أحبّ إلي من طلب ما في يد غيرك » من أمثالهم « عمّك خرجك » 3 ، و أصله أن رجلا سافر بلا زاد برجاء خرج عمه ، فمنعه منه و قال له عمك خرجك .

و في الخبر : لو يعلم الناس ما في السّؤال لما سأل أحد أحدا 4 . و قال بعضهم : أحفظ مالي و يصير بعدي إلى أعدائي أحبّ إليّ من أن يذهب مالي فأحتاج إلى أصدقائي . و قال :

إستغن أو مت و لا يغررك ذو نشب
من ابن عمّ و لا عمّ و لا خال

إنّي أكبّ على الزوراء أعمرها
إنّ الكريم على الأقوام ذو المال

و لأبي هلال العسكري :

فلو أنّي جعلت أمير جيش
لما قاتلت إلاّ بالسّؤال

فإنّ الناس ينهزمون منه
و قد ثبتوا لأطراف العوالي

-----------
( 1 ) الأغاني 5 : 275 دار احياء التراث العربي بيروت .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 79 ، طبعة دار النشر الاسلامي قم .

-----------
( 3 ) مجمع الأمثال للميداني 2 : 27 ، الزمخشري 2 : 168 .

-----------
( 4 ) الكافي 4 : 20 ح 2 .

[ 403 ]

« و مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس » و زاد في رواية ( التحف ) « و حسن التدبير مع الكفاف أكفى لك من الكثير مع الاسراف » قال قتال الكلابي « و في الصرم إحسان إذا لم ينوّل » 1 .

و قالوا : دعا حذيفة ابنه عند موته فقال له : أظهر اليأس ممّا في أيدي الناس فإنّ فيه الغنى ، و إيّاك و طلب الحاجات إلى الناس فإنّه فقر حاضر .

و قال اعرابي لرجل مطله في حاجته : إنّ مثل الظفر بالحاجة ، تعجّل اليأس منها إذا عسر قضاؤها ، و إنّ الطلب و إن قلّ ، أعظم قدرا من الحاجة و إن عظمت . و قالوا :

و تركك مطلب الحاجات عز
و مطلبها يذلّ عرى الرقاب

و قالوا :

لئن طبت نفسا عن ثنائي فإنّني
لأطيب نفسا عن نداك على عسري

« و الحرفة » قالوا محارف بفتح الراء خلاف مبارك ، قال الراجز :

محارف بالشّاء و الأباعر
مبارك بالقلعيّ الباتر

« مع العفة ، خير من الغنى مع الفجور » لأنّ الفجور مستتبع لفقر الآخرة الذي هو أصل الفقر .

هذا ، و قريب من قوله عليه السّلام قولهم : « قرب الدار في إقتار ، خير من العيش الموسع في اغتراب » .

« و المرء أحفظ لسره » و كان عليه السّلام كما في ( عيون ابن قتيبة ) يتمثّل بهذين البيتين :

و لا تفش سرك إلاّ اليك
فإنّ لكل نصيح نصيحا

-----------
( 1 ) تحف العقول : 79 ، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي قم .

[ 404 ]

فإنّي رأيت غواة الرجا
ل لا يتركون أديما صحيحا 1

و قيل لاعرابي : كيف كتمانك للسر ؟ قال : ما قلبي له إلاّ قبر .

و كانت الحكماء تقول : سرّك من دمك . و قال الشاعر :

و لو قدرت على نسيان ما اشتملت
منّي الضلوع من الأسرار و الخبر

لكنت أوّل من ينسى سرائره
إذ كنت من نشرها يوما على خطر

أيضا :

إذا ما ضاق صدرك عن حديث
فأفشته الرجال فمن تلوم ؟

إذا عاتبت من أفشى حديثي
و سرّي عنده فأنا الظلوم

أيضا :

إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها
فسرّك عند الناس أفشى و أضيع

و فيه : قرأت في ( التاج ) : أن بعض ملوك العجم استشار وزراءه فقال أحدهم : ليس للملك أن يستشير منّا أحدا إلاّ خاليا به ، فإنّه أموت للسرّ و أحزم للرأي ، و أجدر بالسلامة و أعفى لبعضنا من غائلة بعض ، فإنّ إفشاء السرّ إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين ، و افشاءه إلى ثلاث كإفشائه إلى العامّة ،

لأن الواحد رهن بما أفشي إليه ، و الثاني يطلق عنه ذلك الرهن ، و الثالث علاوة فيه ، و إذا كان سرّ الرجل عند واحد كان أحرى ألاّ يظهره رهبة منه و رغبة إليه ،

و إذا كان عند اثنين دخلت على الملك الشّبهة و اتسعت على الرجلين المعاريض ، فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد و إن أتّهمهما اتّهم بريئا بجناية مجرم ، و ان عفا عنهما كان العفو عن أحدهما و لا ذنب له و عن الآخر و لا حجّة معه 2 .

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 97 ، دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 1 : 82 ، دار الكتب العلمية بيروت .

[ 405 ]

و عن عمرو بن العاص : إذا أنا أفشيت سرّي إلى صديق فاذاعه فهو في حلّ . قيل له : و كيف ؟ قال : لأنّي كنت أحقّ بصيانته .

هذا ، و أما قول جميل بثينة :

أموت و ألقى اللّه يا بثن لم أبح
بسرّك و المستخبرون كثير

فإنّه و إن قال لفظا إنه لا يبوح بسرّها إلاّ أن شعره هذا كان نشرا لسرّها لأهل عصرها جميعا و لكلّ عصر بعده ، فهو أنشر للسر من أعرابي قال :

و لا أكتم الأسرار لكن أنمّها
و لا أدع الأسرار تغلي على قلبي

و إنّ قليل العقل من بات ليله
تقلّبه الأسرار جنبا إلى جنب

« و رب ساع فيما يضره » و قالوا : « رب طائر بجناحه إلى موضع اجتياحه » .

في ( أذكياء ابن الجوزي ) : خرج ابن أبي الطيّب القلانسي الكاتب النصراني في سنة نيّف و أربعين و ثلاثمئة من جنديسابور إلى بعض شأنه في الرستاق ، فأخذه الأكراد و عذّبوه و طالبوه أن يشتري نفسه منهم ، فلم يفعل و كتب إلى أهله : أنفذوا إلي أربعة دراهم أفيون و اعلموا أنّي أشربها فتلحقني سكتة فلا يشك الأكراد أنّي متّ ، فيحملوني إليكم فإذا حصلت عندكم فأدخلوني الحمّام و اضربوني ليحمى بدني و سوّكوني بالأرياح ، و كان سمع أن من شرب أفيونا أسكت فإذا أدخل الحمام و ضرب و سوك بالارياج برأ و لم يعلم مقدار الشرب فشرب أربعة دراهم فلم يشك الأكراد في موته فلفوه في شي‏ء و أنفذوه إلى أهله فلما حصل عندهم أدخلوه الحمّام و ضربوه و سوّكوه فما تحرّك ، و أقيم في الحمّام أياما و رآه أهل الطب فقالوا : قد تلف كم شرب ؟

قالوا : أربعة دراهم . قالوا : لو شوي هذا في جهنم ما عاش ، إنّما يجوز هذا عن شرب أربعة دوانيق أو حوالي درهم ، فلم يفعل أهله و تركوه في الحمام حتى

[ 406 ]

أراح و تغيّر ثم دفنوه 1 .

و فيه : روي أنّ بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري كان في حبس الحجاج و كان يعذّبه ، و كان كلّ من مات في الحبس رفع خبره إلى الحجاج فيأمر باخراجه و تسليمه إلى أهله ، فقال بلال للسجان : خذ مني عشرة آلاف درهم و أخرج اسمي إلى الحجاج في الموتى فإذا أمرك بتسليمي إلى أهلي هربت في الأرض فلم يعرف الحجاج خبري ، و إن شئت أن تهرب معي فافعل و عليّ غناك أبدا ، فأخذ السجان المال و رفع اسمه في الموتى ، فقال الحجاج مثل هذا لا يجوز تسليمه إلى أهله حتى أراه ، فعاد إلى بلال فقال : أعهد ان الحجاج قال كيت و كيت فإن لم أحضرك إليه ميتا قتلني و علم أني أردت الحيلة عليه و لا بدّ أن أقتلك خنقا ، فبكى بلال و سأله ألا يفعل فلم يكن إلى ذلك طريق فأوصى فأخذه السجان و خنقه و أخرج إلى الحجاج ، فلما رآه ميّتا قال سلمه إلى أهله ، فكان اشترى القتل لنفسه بعشرة آلاف درهم 2 .

هذا ، و قال ابن أبي الحديد في شرح هذا الكلام : كتب عبد الحميد الكاتب إلى أبي مسلم : « لو أراد اللّه بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا » 3 . و هو كما ترى ، فالكلام في السعي فيما يضرّ ، و نبت الجناح للنّمل ليس سعيا منها .

« من أكثر أهجر » قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما في ( مجازات المصنّف ) : ألا أخبركم بأبغضكم إليّ ، و أبعدكم منّي مجالس يوم القيامة ؟ الثرثارون المتفيهقون . قال المصنف في شرحه : المراد ، الذين يكثرون الكلام ، و يتعمّقون فيه طلبا للتكلّف ،

و خروجا عن القصد ، و أصل الثرثار مأخوذ من العين الثرثارة ، و هي الواسعة

-----------
( 1 ) كتاب الأذكياء : 125 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) كتاب الأذكياء : 126 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 96 .

[ 407 ]

الأرجاء ، الغزيرة الماء ، و « متفيهق » من قولهم فهق الغدير و يفهق إذا كثر ماؤه 1 . و يأتي الإهجار أيضا بمعنى الهجر و الهذيان و الخناء . قال الشماخ :

كما جدة الأعراق قال ابن ضرّة
عليها كلاما جار فيه و أهجرا 2

« و من تفكّر أبصر » العاقبة ، و لذا ورد : تفكّر ساعة خير من عبادة سنة .

« قارن أهل الخير تكن منهم و باين أهل الشر تبن » أي : تنفصل « عنهم » من وصايا لقمان لابنه : يا بنيّ كن عبدا للأخيار و لا تكن ولدا للأشرار 3 .

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم .

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : المرء على دين خليله و قرينه 4 .

« بئس الطعام الحرام » و عنه عليه السّلام كما في ( الفقيه ) ما من عبد إلاّ و به ملك موكّل يلوي عنقه حتى ينظر إلى حدثه ، ثم يقول له الملك : يا بن آدم هذا رزقك ، فانظر من أين أخذته ، و إلى ما صار ، فينبغي للعبد عند ذلك أن يقول :

« اللّهم ارزقني الحلال و جنّبني الحرام » 5 .

و قال ابن أبي الحديد : كلامه هذا من قوله تعالى : إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا 6 و هو كما ترى ، فإنّ الكلام في مطلق طعام الحرام و لو من كبير ، مع أن أكل مال اليتيم الذي يستتبع تلك العقوبة ليس منحصرا بأكل طعامه ، بل يشمل

-----------
( 1 ) مجازات : 187 .

-----------
( 2 ) لسان العرب 5 : 253 ، مادة ( هجر ) .

-----------
( 3 ) معاني الأخبار : 253 ح 1 . بحار الأنوار 74 : 186 رواية 4 باب 13 .

-----------
( 4 ) الكافي 2 : 642 ، الرواية 10 و 2 : 375 الرواية 3 .

-----------
( 5 ) من لا يحضره الفقيه 1 : 16 ح 3 .

-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 100 . و الآية 10 من سورة النساء .

[ 408 ]

ما لو غصب مساكنه أو ملابسه أو مراكبه . و بالجملة خصص ما هو غير خاص و عمّم ما هو غير عام من الكلام .

« و ظلم الضعيف أفحش الظلم » كظلم النساء و الصبيان ، فإنّه أفحش من ظلم الرجال و الكبار .

قال الصادق عليه السّلام كما في ( الفقيه ) اتقوا اللّه في الضعيفين ، يعني بذلك اليتامى و النساء 1 .

« إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا » في ( شعراء القتيبي ) : أتى النابغة الجعدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنشده :

و لا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمى صفوه أن يكدرا

و لا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

فقال له النبيّ : لا يفضض اللّه فاك فغبر دهره لم ينقض له سن و كان معمّرا نادم المنذر و أدرك الأخطل 2 .

و في رجز لبيد على زياد العبسي لما طعن في بني جعفر الكلاب و هم بنو ابي لبيد عند النعمان بن المنذر « يا ربّ هيجا هي خير من دعه » .

و قال ابن أبي الحديد : قال عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجلهن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و في المثل « إنّ الحديد بالحديد يفلح » ، و قال زهير :

و من لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدّم و من لا يظلم الناس يظلم 3

و هو كما ترى ، فان المثل و البيتين في مقام و كلامه عليه السّلام في مقام .

-----------
( 1 ) من لا يحضره الفقيه 3 : 248 ح 1 .

-----------
( 2 ) الشعر و الشعراء : 177 ، دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 101 .

[ 409 ]

نعم نقله بيت المتنبّي :

و وضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضرّ كوضع السيف في موضع النّدى 1

مربوط .

« ربما كان الدواء داء و الداء دواء » في ( وزراء الجهشياري ) : كان للبرامكة عند الحسن بن عيسى ( كاتب عمرو بن مسعدة ) معروف ، فلما حملوا إلى الرقة استقبل الحسن و هو يسير يحيى ، فلما بصر به قال لا يراني اللّه أمنعه من نفسي في هذا الوقت شيئا كنت أبذله له قبل ذلك اليوم ، فنزل عن دابته مترجّلا له فصاح به إيّاك إيّاك ، فلم يلتفت إلى زجره ، فلما دنا قال له يحيى : إفهم عنّي أنّ هذا الأمر لو بقي فيمن كان قبلنا لم يصل الينا ، و لو بقي فينا لم يصل إلى من بعدنا ، و لا بدّ للأعمال من تصرف و للامور من تنقل ، قد كنّا قبل اليوم دواء فأصبحنا داء ، فلا تعد . قال : فكنت أراه بعد ذلك فلا أفعل ما أنكره .

و قالوا : الضبع إذا وقعت في الغنم عاثت و لم يكتف بما يكتفي به الذئب ،

فإذا اجتمع الذئب و الضبع في الغنم سلمت ، لأن كلّ واحد منهما يمنع صاحبه ،

و العرب تقول في دعائها : « اللّهم ضبعا و ذئبا » أي : إجمعهما في الغنم لتسلم .

و منه قول الشاعر :

تفرّقت غنمي يوما فقلت لها
يا ربّ سلّط عليها الذّئب و الضّبعا

و قالوا : خرج قوم إلى الصيد فطردوا ضبعا فتبعوها حتى ألجأوها إلى خباء اعرابي ، فاقتحمته فخرج إليهم فقالوا : صيدنا و طريدتنا . قال : كلاّ ، لا تصلون إليها ما ثبت قائم سيفي في يدي ، فرجعوا و تركوها ، فقام الاعرابي إلى لقحة له فحلبها و قرب إليها الحليب و قرّب إليها ماء ، فأقبلت مرة تلغ من هذا و مرّة تلغ من هذا حتى سمنت ، فبينما الاعرابي نائم إذ و ثبت عليه فبقرت بطنه

[ 410 ]

و شربت دمه و أكلت حشوته و خرجت ، فجاء ابن عم له فوجده على تلك الصورة فالتفت إلى موضع الضبع و كنيتها أم عامر فأخذ كنانة و اتبعها حتى أدركها فقتلها ، و قال :

و من يصنع المعروف مع غير أهله
يلاقي الذي لاقى مجير أمّ عامر

و منه المثل « كمجير أمّ عامر » 1 .

و في ( الطبري ) : جلس المنصور للمدنيّين مجلسا عامّا و كان وفد إليه منهم جمع فقال : لينتسب كلّ من دخل ، فقام شاب من ولد عمرو بن حزم فانتسب ثم قال : قال الأحوص فينا شعرا امنعنا أموالنا من أجله منذ ستين سنة . قال : أنشدنيه ، فأنشده :

لا تأوينّ لحزميّ رأيت به
فقرا و إن ألقي الحزميّ في النار

الناخسين بمروان بذي خشب
و الداخلين على عثمان في الدار

و كان الأحوص مدح الوليد بن عبد الملك في قصيدة أنشده ، فلما بلغ إلى هذا الموضع قال له الوليد : أذكرتني ذنب آل حزم ، فأمر باستصفاء أموالهم .

فقال له المنصور : أعد علي الشعر ، فأعاد ثلاثا فقال له المنصور : لا جرم أنّك تحتظي بهذا الشعر كما حرمت به ، ثم أمر أن يعطى عشرة آلاف درهم ، و ان يكتب إلى عمّاله أن ترد ضياع آل حزم عليهم و يعطوا غلاّتها في كلّ سنة من ضياع بني أميّة و تقسّم أموالهم بينهم على كتاب اللّه على التناسخ ، و من مات منهم و فّر على ورثته ، فانصرف الفتى بما لم ينصرف به أحد 2 .

« و ربّما نصح غير الناصح و غشّ المستنصح » أي : من تعده ناصحا لك ،

قال الشاعر :

-----------
( 1 ) مجمع الأمثال للميداني 2 : 144 ، الزمخشري 2 : 232 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 8 : 85 . دار سويدان بيروت .

[ 411 ]

ربّ مستنصح يغشّ و يردي
و ظنين بالغيب يلفى نصيحا

أيضا :

ألا ربّ من تغتشه لك ناصح
و مؤتمن بالغيب غير أمين

هذا ، و في ( الأغاني ) : إستودع رجل من عمّال ابن هبيرة رجلا ناسكا ثلاثين ألف درهم ، و استودع مثلها رجلا نبيذيا ، فأما الناسك فبنى بها داره و تزوّج النساء و أنفقها و جحدها ، و أما النبيذي فأدّى الأمانة ، فقال ابن بيض :

ألا لا يغرّنك ذو سجدة
يظلّ بها دائبا يخدع

كأنّ بجبهته جلبة
يسبّح طورا و يسترجع

و ما للتقى لزمة وجهه
و لكن ليغترّ مستودع

و لا تنفرنّ من أهل النبيذ
و إن قيل يشرب لا يقلع 1

و قال ابن أبي الحديد : كان المغيرة يبغض عليّا عليه السّلام و أشار عليه يوم بويع أن يقرّ معاوية على الشام ، فإذا خطب له في الشام و توطأت دعوته ، دعاه إليه كما كان عمر و عثمان يدعوانه إليهما و صرفه ، فلم يقبل ، و كان ذلك نصيحة من عدوّ كاشح 2 .

قلت : المغيرة كان منافقا داهية و لم يكن من مبغضيه المخصوصين كبني اميّة و جمع آخر ، و إنّما يصحّ أن يقال له كان مبغضا له عليه السّلام من حيث إنّ المنافق و المؤمن متباغضان بالطبع ، و إلا فالمغيرة اعتزل معاوية كما اعتزله عليه السّلام فلكونه داهية اعتزلهما حتى يرى أيّهما يظهر فيلحق به ، و بعد شهادته عليه السّلام و ظهور معاوية لحق به . و كيف يصحّ ما قال من كونه مبغضا و قد قال الطبري : إن المغيرة لمّا بلغه عن صعصعة أنّه يكثر ذكر عليّ و يعيب

-----------
( 1 ) الأغاني 16 : 207 دار احياء التراث العربي بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 102 .

[ 412 ]

عثمان دعاه و قال له : إيّاك أن يبلغني أنّك تعيب عثمان عند أحد من الناس ،

و إيّاك أن يبلغني عنك انّك تظهر شيئا من فضل عليّ علانية ، فإنّك لست بذاكر من فضل عليّ شيئا أجهله بل أنا أعلم بذلك ، و لكن هذا السلطان قد ظهر و قد أخذنا بإظهار عيبه للنّاس ، فنحن ندع كثيرا ممّا أمرنا به و نذكر الشي‏ء الذي لا نجد بدّا منه ، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقيّة 1 .

كما أن ما قاله من كون إشارة المغيرة عليه عليه السّلام نصيحة ليس كذلك ،

فلم يكن ذاك الرأي نصيحة دينية بل سياسة دنيوية يعتقدها المغيرة نصيحة لا هو عليه السّلام و قد صرّح بأنّه قال ذلك عن نصيحة عنده .

و قال ابن أبي الحديد أيضا : استشار الحسين عليه السّلام عبد اللّه بن الزبير و هما بمكة ، فليس بها من يبايعك ، و لكن دونك العراق ، فإنّهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحدا ، فخرج إلى العراق ، حتّى كان من أمره ما كان 2 .

قلت : ما قاله أيضا غير صحيح ، فلم يستشر الحسين عليه السّلام ابن الزبير و لا ظنّ انّه ناصحه و لا خرج إلى العراق بإشارته ، كيف و في ( الطبري ) : أتى ابن الزبير إلى الحسين عليه السّلام و قال له : ما تركنا هؤلاء القوم و كفّنا عنهم و نحن أبناء المهاجرين و ولاة هذا الأمر دونهم ، خبّرني ما تريد أن تصنع ؟ قال عليه السّلام لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة ، و لقد كتبت إلي شيعتي بها و أشراف أهلها و أستخير اللّه . فقال له ابن الزبير : أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها ،

ثم خشي أن يتهمه فقال : أما انّك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ما خولف عليك ، ثم قام فخرج فقال الحسين عليه السّلام : إنّ هذا الرجل ليس شي‏ء يؤتاه من

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 5 : 189 دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 102 .

[ 413 ]

الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق لأنّه علم أنّه ليس له من الأمر معي شي‏ء فودّ أنّي خرجت منها لتخلو له . . . 1 .

و بالجملة ليس واحد مما ذكر شاهدا لكلامه عليه السّلام من نصح غير الناصح أحيانا و غش المستنصح ، و من الشاهد للثاني ما في ( المروج ) و غيره : أنّ مروان الجعدي دعا اسماعيل بن عبد اللّه القشيري و قد كان مروان وافى على الهزيمة إلى حران فقال له : قد ترى ما جاء من الأمر و أنت الموثوق به و لا مخبأ بعد بؤس ، فما الرأي ؟ فقال اسماعيل : على ما أجمعت ؟ قال : على أن أرتحل بمواليّ و من تبعني من الناس حتى أقطع الدرب و أميل إلى مدينة من مدن الروم فأنزلها و أكاتب صاحبها و أستوثق منه ، فقد فعل ذلك جماعة من ملوك الأعاجم و ليس هذا عارا بالملوك فلا يزال يأتيني الخائف و الهارب و الطائع فيكثر من معي و لا أزال على ذلك حتى يكشف اللّه أمري و ينصرني على عدوّي . قال اسماعيل : فلما رأيت أن ما أجمع عليه هو الرأي و رأيت آثاره و نكاياته في قوم من قحطان قلت : أعيذك باللّه من هذا الرأي تحكم أهل الشرك في بناتك و حرمك و هم الروم و لا وفاء لهم و لا تدري ما تأتي به الأيام ، و ان حدث عليك حادث و أنت بأرض النصرانية ضاع من بعدك ، و لكن اقطع الفرات ثم استنفر الشام جندا فإنّك في كنف و عزّة ، و لك في كل جند صنايع يسيرون معك حتى تأتي مصر فإنّها أكثر أرض اللّه مالا و خيلا و رجالا ، ثم الشام أمامك و أفريقية خلفك ، فإن رأيت ما تحبّ انصرفت إلى الشام ، و إن كانت الاخرى مضيت إلى أفريقية . قال : صدقت . فقطع الفرات و واللّه ما قطعه من قيس إلاّ رجلان : أحدهما أخوه من الرضاعة ، و لم ينفع مروان تعصبه مع النزارية شيئا بل غدروا به و خذلوه ، فلما اجتاز ببلاد قنّسرين و الحاضر أوقعت تنوخ

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 5 : 383 دار سويدان بيروت .

[ 414 ]

القاطنة بقنّسرين بساقته و وثب به أهل حمص و سار إلى دمشق ، فوثب به الحرث بن عبد الرحمن الحرشي ، ثم أتى الأردن فوثب به هاشم العنسي و المذحجيون جميعا ، ثم مر بفلسطين فوثب به الحكيم بن روح بن زنباع لما رأوا من ادبار الأمر عنه ، و علم مروان ان اسماعيل قد غشه في الرأي و لم يمحضه النصيحة و أنّه فرّط في مشورته إيّاه إذ شاور رجلا من قحطان متعصّبا من قومه على أضدادهم من نزار ، و أن الرأي هو الذي همّ به من قطع الدرب و نزول بعض حصون الروم و مكاتبة ملكها 1 .

« و إيّاك و اتكّالك » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( و الاتكال ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 ، أي : الاعتماد .

« على المنى » أي : على التمنيات .

« فإنّها » أي : المني .

« بضائع » قال الجوهري : البضاعة طائفة من مالك تبعثها للتجارة 3 .

« النوكى » بالفتح أي : الحمقاء 4 ، و في ( المصرية ) ( الموتى ) و هو غلط .

في ( عيون ابن قتيبة ) : في كتاب للهند ، ان ناسكا كان له عسل و سمن في جرة ، ففكّر يوما فقال : أبيع الجرّة بعشرة دراهم و أشتري خمسة أعنز فأولدهن في كلّ سنة مرّتين و يبلغ النتاج في سنتين مئتين ، و أبتاع بكلّ أربع بقرة و أصيب بدرا فأزرع و ينمى المال في يدي فأتّخذ المساكن و العبيد و الإماء و الأهل و يولد لي ابن فأسمّيه كذا و آخذه بالأدب فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه و كانت في يده عصا فرفعها حاكيا للضرب فأصابت

-----------
( 1 ) مروج الذهب 3 : 249 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 97 .

-----------
( 3 ) الصحاح 3 : 1186 دار العلم للملايين بيروت .

-----------
( 4 ) الصحاح 4 : 1612 دار العلم للملايين بيروت .

[ 415 ]

ضربت بعصاي رأسه و كانت في يده عصا فرفعها حاكيا للضرب فأصابت الجرّة فانكسرت و انصبّ العسل و السمن على رأسه .

و فيه : قال الأصمعي : قال شيخ من بني القحيف تمنّيت دارا فمكثت أربعة أشهر مغتمّا للدرجة أين أضعها 1 .

و في ( بيان الجاحظ ) : مرض فتى فقال له عمّه : أيّ شي‏ء تشتهي ؟ قال :

رأس كبشين . قال : هذا لا يكون . قال : فرأس كبش . و من الشعر في ذلك :

إذا تمنّيت بتّ الليل مغتبطا
إنّ المنى رأس أموال المفاليس

أيضا :

أعلّل نفسي بما لا يكون
كما يفعل المائق الأحمق

هذا ، و قالوا : ان الوليد بن عبد الملك قال لبديح المغني : خذ بنا في التمنّي ،

فو اللّه لأغلبنّك . قال : و اللّه لا تغلبني أبدا . قال : بلى . فإنّي أتمنّى كفلين من العذاب و أن يلعنني اللّه لعنا كثيرا فخذ ضعفي ذلك . قال : غلبتني لعنك اللّه .

« و العقل حفظ التجارب » زاد في رواية ( التحف ) قبله « و تثبّط عن خير الدنيا و الآخرة ، ذكّ قلبك بالأدب كما تذكّى النار بالحطب ، و لا تكن كحاطب الليل ، و عثاء السيل ، و كفر النعمة لؤم ، و صحبة الجاهل شؤم » 2 .

عنه عليه السّلام : ما عبد اللّه بشي‏ء أفضل من العقل ، و ما تم عقل امرى‏ء حتى يكون فيه خصال شتى : الكفر و الشر منه مأمونان ، و الخير و الرشد منه مأمولان ، و فضل ماله مبذول ، و فضل قوله مكفوف ، و نصيبه من الدنيا القوت ،

لا يشبع من العلم دهره ، و الذل مع اللّه أحبّ إليه من العزّ مع غيره ، و التواضع أحبّ إليه من الشرف ، يستكثر قليل المعروف من غيره ، و يستقلّ كثير

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 373 و 374 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) تحف : 80 . طبعة مؤسسة النشر الإسلامي قم .

[ 416 ]

المعروف من نفسه ، و يرى الناس كلّهم خيرا منه ، و أنّه شرّهم في نفسه و هو تمام الأمر 1 .

و عن الصادق عليه السّلام : العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان . قيل :

فالذي كان في معاوية . قال : تلك النكراء ، تلك الشيطنة ، و هي شبيهة بالعقل ،

و ليست بالعقل 2 .

و عن بعضهم : العقل الإصابة بالظنون و معرفة ما لم يكن بما قد كان .

هذا ، و سئل شريك عن أبي حنيفة فقال : أعلم الناس بما لا يكون ، و أجهل الناس بما يكون .

« و خير ما جرّبت ما وعظك » هو نظير قوله عليه السّلام المذكور في القصار « لم يذهب من مالك ما وعظك » 3 و وجه قوله عليه السّلام أن التجربة مفيدة لحصول شي‏ء لك بفهمه ، فإذا كان فهم أمر من أمور الدنيا يكون حسنا ، و إذا كان فهم أمر من الآخرة و وعظ له كان أحسن .

و زادت رواية الكليني بعده : « و من الكرم لين الشيم » 4 .

« بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة » في ( الأغاني ) قال رجل كان يديم الأسفار : سافرت مرّة إلى الشام على طريق البر فجعلت أتمثل بقول القطامي :

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته
و قد يكون مع المستعجل الزلل

و معي أعرابي قد استأجرت منه مركبي ، فقال : ما زاد قائل هذا الشعر على أن يثبط الناس عن الحزم ، فهلاّ قال بعد بيته هذا :

-----------
( 1 ) الكافي 1 : 18 رواية 12 .

-----------
( 2 ) الكافي 1 : 11 3 .

-----------
( 3 ) نهج البلاغة 4 : 45 الحكمة 196 .

-----------
( 4 ) كشف المحجة : 167 .

[ 417 ]

و ربّما ضر بعض الناس بطؤهم
و كان خيرا لهم لو أنّهم عجلوا 1

هذا و قال ابن أبي الحديد هنا : حضر ابن زياد عند هانى‏ء عائدا ، و قد كمن له مسلم ، و أمره أن يقتله إذا جلس ، فلما جلس جعل مسلم يؤامر نفسه على الوثوب به فلم تطعه ، و جعل هانى‏ء يترنم « ما الانتظار بسلمى لا تحيّيها » و يكرر ذلك ، فأوجس عبيد اللّه خيفة و نهض ، و فات مسلما ما كان يؤمّله بإضاعة الفرصة 2 .

قلت : ان هانيا لم يأمر مسلما بقتل عبيد اللّه بل نهاه في عيادة عبيد اللّه له و في عيادته لشريك بن الاعور الذي كان نازلا على هاني ، و إنّما شريك أمره بقتله ، و هو الذي يترنم و أمره ، ففي ( الطبري ) عن أبي مخنف عن المعلّى بن كلب عن أبي الودّاك قال : مرض هاني قبل أن يدخل عين عبيد اللّه على مسلم ،

فجاء عبيد اللّه عائدا له فقال له عمارة بن عبيد السلولي : انما جماعتنا و كيدنا قتل هذا الطاغية فقد أمكنك اللّه منه فاقتله . قال هاني : ما أحب أن يقتل في داري ،

فخرج فما مكث إلاّ جمعة حتى مرض شريك بن الأعور و كان كريما على ابن زياد و على غيره من الامراء و كان شديد التشيّع فأرسل إليه عبيد اللّه إني رائح إليك العشيّة . فقال لمسلم : إنّ هذا الفاجر عائدي العشيّة ، فإذا جلس فأخرج إليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك و بينه ، فإذا برأت من وجعي هذا أيامي هذه سرت إلى البصرة و كفيتك أمرها ، فلمّا كان من العشيّ أقبل عبيد اللّه لعيادة شريك ، فقام مسلم ليدخل فقال له شريك : لا يفوتنّك إذا جلس . فقام هاني إليه فقال : إني لا أحبّ أن يقتل في داري كأنّه استقبح ذلك فجاء عبيد اللّه و جعل يسأله عن حاله ، فلمّا طال سؤاله و رأى أن مسلما لا

-----------
( 1 ) الأغاني 24 : 21 . دار احياء التراث العربي بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 102 103 بتصرف .

[ 418 ]

يخرج ، خشي أن يفوته فأخذ يقول : « ما تنظرون بسلمى أن تحيّوها » اسقونيها و إن كانت فيها نفسي . قال ذلك مرتين أو ثلاثا ، فقال عبيد اللّه : ما شأنه أ ترونه يهجر ؟ قال له هاني : نعم . . . 1 .

هذا ، و زاد في رواية الكليني بعده : « و من الحزم العزم ، و من سبب الحرمان التواني » 2 .

« ليس كلّ طالب يصيب » قال ابن أبي الحديد قال الشاعر :

ما كل وقت ينال المرء ما طلبا
و لا يسوغه المقدار ما وهبا

« و لا كلّ غائب يؤب » أي : يرجع ، قال ابن أبي الحديد : كقول عبيد :

و كلّ ذي غيبة يؤوب
و غائب الموت لا يؤوب 3

قلت : و قالوا في المثل « حتى يؤوب القارظان » و « يعود المثلم » 4 و المراد لا يؤوب فلان كما لا يؤوب القارظان و لا يرجع فلان كما لا يرجع المثلم ، أمّا القارظان فقالوا كانا رجلين من عنزة خرجا لطلب القرظ أي ورق السلم للدباغ فلم يرجعا ، قال أبو ذؤيب :

و حتى يؤوب القارظان كلاهما
و ينشر في القتلى كليب لوائل

و أمّا المثلم فكان من شرطة عبيد اللّه بن زياد ، فقتل بأمره خالد السدوسي من الخوارج و كان المثلّم مغرما باشتراء اللقاح فجاءه رجل من الخوارج و قال له : لك ما تحب فامض معي ، فذهب به إلى داره و أغلق عليه الباب و ثاروا به فقتلوه ، فقال أبو الأسود :

آليت لا أغدو إلى ربّ لقحة
اساومه حتى يعود المثلّم

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 5 : 363 دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) كشف المحجة : 167 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 103 .

-----------
( 4 ) مجمع الأمثال للميداني 1 : 211 ، أساس البلاغة للزمخشري 2 : 58 .

[ 419 ]

و في ( أمثال الكرماني ) : « لا أفعله حتى ترجع ضالّة غطفان » يعنون سنان بن أبي حارثة المرّي ، و كان قومه عنّفوه على الجود فقال : لا أراني يؤخذ على يدي ، فركب ناقته و رمى بها الفلاة فلم ير بعد .

ثم إنّ نفي أوب الكل لا يلزم نفي أوب البعض ، و عن الحلية في سفيان بن عيينة قال مسعر بن كدام : إنّ رجلا ركب البحر فانكسرت السفينة فوقع في جزيرة فمكث ثلاثة أيام لم ير أحدا و لم يأكل و لم يشرب ، فتمثل بقول القائل :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي
و صار القار كاللبن الحليب

فأجابه صوت :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب

فإذا سفينة قد أقبلت ، فلوّح إليها فأتوه فحملوه 1 .

« و من الفساد إضاعة الزّاد » أي : زاد الآخرة .

« و مفسدة المعاد » أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرّطت في جنب اللّه 2 .

هذا ، و ليس « مفسدة المعاد » في رواية الكليني و الحلبي 3 .

« و لكل أمر عاقبة » هكذا في ( النسخ ) 4 و الصواب : رواية الكليني ( و لكل امرى‏ء عاقبة ) .

« و سوف يأتيك ما قدر لك » قال ابن أبي الحديد هذا من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : و إن يقدّر لأحدكم رزق في قلّة جبل أو حضيض بقاع يأته 5 .

-----------
( 1 ) مجمع الأمثال للميداني 2 : 233 .

-----------
( 2 ) الزمر : 56 .

-----------
( 3 ) كشف المحجّة : 167 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 97 ، كشف المحجّة : 167 ، تحف العقول : 80 ، ط مؤسسة النشر الإسلامي قم .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 103 .

[ 420 ]

قلت : مورد كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الرزق المقدّر ، و مورد كلامه عليه السّلام كلّ أمر مقدّر لا خصوص الرزق كما قيل :

استقدر اللّه خيرا و ارضينّ به
فبينما العسر إذ دارت مياسير

« التاجر مخاطر » قال ابن أبي الحديد هذا الكلام ليس على ظاهره بل له باطن ، و هو أنّ من مزج الأعمال الصالحة بالأعمال السّيئة مثل قوله تعالى :

خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا 1 فإنّه مخاطر لأنّه لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة ، كما لا يأمن أن يكون بعض أعماله الصالحة يكفّر تلك السيئات ، و المراد أنّه لا يجوز للمكلّف أن يفعل إلاّ الطّاعة أو المباح 2 .

قلت : أين ربط ( التاجر مخاطر ) بآية خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا ،

و ما ذكره من بيان المراد من قبيل ما قيل بالفارسية

« لفظ ميگوئى و معنى
ز خدا ميطلبى »

مع أن قوله « كما لا يؤمن أن يكون بعض أعماله الصالحة يكفّر تلك السيئات » تعبير غلط ، فقولهم : « لا يؤمن » إنّما يقال في مقام الخوف ،

و احتمال تكفير السيئة بالعمل الصالح رجاء ، و إنّما الظاهر و المتبادر من قوله عليه السّلام « التاجر مخاطر » أن التاجر و إن يتّجر بقصد الربح إلاّ انّه لا يعلم هل يربح أم يخسر ، و كم تاجر خسر حتى هلك رأس ماله ، هذا هو المعنى المتبادر منه .

و يمكن أن يراد به المخاطرة من حيث الآخرة إذا لم يعرف مسائل المعاملة فتصدر منه معاملات غير مشروعة كالربا و غيره ، أو يحمله الحرص على الخيانة و الكذب و البخس ، ففي ( الكافي ) عن الأصبغ : سمعت أمير

-----------
( 1 ) التوبة : 102 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 103 104 .

[ 421 ]

المؤمنين عليه السّلام يقول على المنبر : يا معشر التّجّار الفقه ثم المتجر ، الفقه ثم المتجر ، الفقه ثم المتجر ، و اللّه للرّبا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا ، شوبوا أيمانكم بالصدق ، التاجر فاجر و الفاجر في النار إلاّ من أخذ الحق و أعطى الحق .

( و فيه ) : ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يأذن لحكيم بن حزام في تجارته حتى ضمن له إقالة النادم و إنظار المعسر و أخذ الحق وافيا و غير واف .

( و فيه ) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من باع و اشترى فليحفظ خمس خصال و إلاّ فلا يشترينّ و لا يبيعنّ : الربا ، و الحلف ، و كتمان العيب ، و المدح إذا باع ، و الذمّ إذا اشترى 1 .

« و ربّ يسير أنمى » أي : أكثر نموا .

« من كثير » يتفق ذلك في الزرع كثيرا و في كثير من الأشياء كالتجارة و في الأغنام و الاحشام و في النسل ، و في تفسير قوله تعالى : و أمّا الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا . فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما 2 أبدل اللّه والديه به بعد قتل الخضر له بنتا ولدت سبعين نبيا .

و قد يقع ذلك في الكلام ، ففي ( تاريخ بغداد ) رئي مروان بن أبي حفصة واقفا بباب الجسر كئيبا آسفا ينكت بسوطه في معرفة دابته فقيل له : ما الذي نراه بك ؟ قال أخبركم بالعجب ، فوصفت له ناقتي من خطامها إلى خفيها و وصفت الفيافي من اليمامة إلى بابه ، أرضا أرضا و رملة رملة حتى إذا

-----------
( 1 ) الكافي 5 : 150 151 1 و 2 و 4 . التهذيب 7 : 6 رواية 18 ، باب 22 ، من لا يحضره الفقيه 3 : 120 121 ،

الحكمة 11 .

-----------
( 2 ) الكهف : 80 81 .

[ 422 ]

أشفيت منه على غناء الدهر ، جاء ابن بيّاعة النخاخير يعني أبا العتاهية فضعضع بهما شعري و سوّاه في الجائزة بي . فقيل له : و ما البيتان ؟ قال :

إنّ المطايا تشتكيك لأنها
تطوي إليك سبا سبا و رمالا

فإذا رحلن بنا رحلن مخفّة
و إذا رجعن بنا رجعن ثقالا 1

و قال البحتري :

أصل النزر إلى النزر و قد
يبلغ الحبل إذا الحبل وصل

من لفا هذا إلى مخسوس ذا
و من الذود إلى الذود ابل

« و لا خير » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( لا خير ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 2 .

« في معين » من الاعانة .

« مهين » بالفتح من المهانة أي : الضعف و الذلة .

« و لا في صديق ظنين » أي : متهم ، قال عبد الرحمن بن حسان :

لا خير في الود ممّن لا تزال له
مستشعرا أبدا من خيفة وجلا

إذا تغيّب لم تبرح تسي‏ء به
ظنّا و تسأل عمّا قال أو فعلا

و قال المثقب العبدي :

فإمّا أن تكون أخي بصدق
فأعرف منك غثّي من سميني

و إلاّ فاجتنبني و اتّخذني
عدوّا أتّقيك و تتّقيني

و من شواهد عدم الخير في الصديق الظنين ما ذكره المسعودي في ( مروجه ) أنّه كان للقاهر في بعض الحصون بستان من ريحان و غرس من النارنج قد حمل إليه من البصرة و عمان و الهند قد اشتبكت أشجاره ، و لاحت

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 6 : 258 دار الكتاب العربي بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 104 .

[ 423 ]

ثماره كالنجوم من أحمر و أصفر ، و بين ذلك أنواع الغروس و الرياحين و الزهر ، و قد جعل مع ذلك في الصحن أنواع الأطيار من القماري و الدبابي و الشحاري و الببغا ممّا جلب إليه من الممالك و الأمصار و كان في غاية الحسن ، و كان القاهر كثير الشرب عليه و الجلوس في تلك المجالس ، فلمّا أفضت الخلافة إلى الراضي اشتدّ شغفه بذلك الموضع ، فكان يداوم الجلوس و الشرب فيه ، ثم إن الراضي رفق بالقاهر و أعلمه بما هو فيه من مطالبة الرجال بالأموال و لا شي‏ء قبله منها و سأله إن يسعفه بما عنده منها إذا كانت الدولة له و أن يتدبّر تدبيره و يرجع في كلّ الامور إلى قوله ، و حلف له بالايمان الوكيدة ألا يسعى في قتله و لا الإضرار به و لا بأحد من ولده ، فأنعم له القاهر بذلك و قال له : ليس لي مال إلاّ في بستان النارنج ، فصار به الراضي إلى البستان و سأله عن الموضع فقال له القاهر : قد حجب بصري فلست أعرف موضعه ،

و لكن مر بحفره فإنّك تظهر على الموضع و لا يخفى عليك مكان ذلك ، فحفر الراضي البستان و قلع تلك الأشجار و الغرس و الأزهار حتى لم يبق منه موضع إلاّ حفره و بولغ في حفره فلم يجد شيئا ، فقال له الراضي فما هاهنا شي‏ء ممّا ذكرت فما الذي حملك على ما صنعت ؟ فقال له القاهر : و هل عندي من المال شي‏ء ، إنّما كانت حسرتي جلوسك في هذا الموضع و تمتعك به و كانت لذتي من الدنيا فتأسفت على أن يمتع به بعدي غيري . فتأسّف الراضي على ما توجه عليه من الحيلة في أمر ذاك البستان و ندم على قبوله ، منه ، و أبعد القاهر فلم يكن يدنو منه خوفا على نفسه أن يتناول بعض أطرافه 1 .

« ساهل الدهر ما ذل لك قعوده » بالفتح البعير الذي يقتعده الراعي في كلّ حاجة ، قال الجوهري : و هو بالفارسية « رخت » و بتصغيره جاء المثل « اتخذوه

-----------
( 1 ) مروج الذهب 4 : 243 244 .

[ 424 ]

قعيد الحاجات » إذا امتهنوا الرجل في حوائجهم ، و جمعه « قعدات » قال الأخطل :

فبئس الظاعنون غداة شالت
على القعدات أشباه الزباب 1 .

قال ابن أبي الحديد : و مثل قوله عليه السّلام المثل « من ناطح الدهر أصبح أجم » ،

« و در مع الدهر كيفما دار » ، و قوله :

و من قامر الأيّام عن ثمراتها
فأحر به أن تنجلي و لها القمر 2

قلت : و هو كما ترى ، فإن كلامه عليه السّلام في مقام و ما نقله في مقام . نعم نقله بيتا آخر :

إذا الدهر أعطاك العنان فسر به
رويدا و لا تعنف فيصبح شامسا 3

له ربط .

« و لا تخاطر بشي‏ء رجاء أكثر منه » كمن يعطي ماله مضاربة لمن لا يعرفه فيمكن ألاّ يردّ عليه رأس ماله فضلا عن عدم حصول ربح له ، و كمن يبيع نسيئة بأكثر من ثمن المثل ممّن لا يثق به .

« و اياك أن تجمح » من جمح الفرس براكبه .

« بك مطية » أي : دابة .

« اللجاج » .

في الخبر : أنّ موسى عليه السّلام حين أراد أن يفارق الخضر قال له : أوصني ،

فكان ممّا أوصاه أن قال له : إيّاك و اللجاجة أو أن تمشي في غير حاجة 4 .

هذا ، و في ( العيون ) : قال معاوية في صفين لمّا قتل العباس بن ربيعة

-----------
( 1 ) الصحاح 2 : 525 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 106 .

-----------
( 3 ) النفس المصدر .

-----------
( 4 ) أخرجه الراوندي في قصص الانبياء : 157 ، بحار الأنوار 13 : 294 رواية 7 باب 10 .

[ 425 ]

الهاشمي عرّار بن أدهم و كان من فرسان الشام متى ينطف فحل بمثله أيطل دمه لا و اللّه إلاّ رجل يطلب بدمه ، فانتدب له رجلان من لخم فقال لهما :

أيّكما قتل العباس فله كذا ، فأتياه و دعواه إلى البراز فقال : إنّ لي سيّدا اريد أن اؤامره ، فأتى عليّا عليه السّلام فأخبره ، فقال : لودّ معاوية أنّه ما بقي من هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه إطفاء لنور اللّه ، و أخذ عليه السّلام سلاح العباس و وثب على فرس العباس و قتل اللخميّين . و نمي الخبر إلى معاوية فقال : قبّح اللّه اللّجاج ، إنّه لقعود ما ركبته قطّ إلاّ خذلت ، فقال له عمرو بن العاص : المخذول و اللّه اللّخميان لا أنت 1 .

« احمل نفسك من أخيك عند صرمه » أي : قطعه .

« على الصلة » عن ابن الأنباري :

و كم من قائل قد قال دعه
فلم يك وده لك بالسليم

فقلت إذا جزيت الغدر غدرا
فما فضل الكريم على اللئيم ؟

و أين الإلف يعطفني عليه
و أين رعاية الحق القديم ؟

و لآخر :

إذا ما صديقي رابني سوء فعله
و لم يك عمّا ساءني بمفيق

صبرت على أشياء منه تريبني
مخافة أن أبقى بغير صديق

« و عند صدوده » أي : إعراضه .

« على اللّطف » بالضم ، مصدر لطف بالفتح ، قال الفيروز آبادي : لطف كنصر لطفا : رفق و دنا ، فقول ابن أبي الحديد اللطف بفتح اللام و الطاء ، الاسم من ألطفه بكذا 2 في غير محله .

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 276 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 106 .

[ 426 ]

« و المقاربة » قال الشاعر :

نفسك لا تعطيك كلّ الرضا
فكيف ترجو ذاك من صاحب

أجلّ مصحوب حياة صفت
فهل خلت من هرم عائب

و قال النابغة :

و استبق ودّك للصديق و لا تكن
قتبا يعض بغارب ملحاحا

و لبعضهم :

إذا ما خليلي ساءني سوء فعله
و لم يك عما ساءني بمفيق

صبرت على ما كان من سوء فعله
مخافة أن ابقى بغير صديق

« و عند جموده على البذل و عند تباعده على الدنو و عند شدّته على اللين و عند جرمه على العذر » قال بعضهم :

إنّي إذا ما صاحبي تعدّى
في اللوم و العذل عليّ حدّا

لم أوله بالعذل عذلا قصدا
و لم ابقّ في احتمال جهدا

فإن أبي إلاّ التعدّي عمدا
أوسعته بالحلم منّي صدّا

حتى يرى وجه اختياري سدّا
و يرجع الذمّ إليّ حمدا

و قال ابن أبي الحديد قال الشاعر :

و إن الذي بيني و بين بني أبي
و بين بني امّي لمختلف جدا

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
و إن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

و ان زجروا طيرا بنحس تمرّ بي
زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا

و لا أحمل الحقد القديم عليهم
و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

أيضا :

إنّي و إن كان ابن عمّي كاشحا
لمقاذف من خلفه و ورائه

« حتى كأنّك له عبد و كأنّه ذو نعمة عليك » قال إبراهيم الصولي :

أميل مع الصديق على ابن عمي
و أقضي للصديق على الشقيق

[ 427 ]

و أفرق بين معروفي و منّي
و أجمع بين مالي و الحقوق

فإن ألفيتني حرّا مطاعا
فإنّك واجدي عبد الصديق

« و إيّاك أن تضع ذلك في غير موضعه ، أو أن تفعله بغير أهله » فإنّ بعض الناس كالضبع ، و مرت قصة من أجارها و أحسن إليها بعد نجاتها ممّن أراد صيدها ، و أشار إلى قصتها ابن عم مجيرها فقال :

و من يصنع المعروف مع غير أهله
يلاقي الذي لاقى مجير امّ عامر

أدام لها حين استجارت بقربه
قراها من البان اللقاح الغزائر

و اشبعها حتى إذا ما تملّأت
فرته بأنياب لها و أظافر

فقل لذوي المعروف هذا جزاء من
غدا يصنع المعروف مع غير شاكر

و في الخبر : أربعة تذهبن ضياعا : البذر في سبخة ، و السراج في القمر ،

و الأكل على الشبع ، و المعروف إلى من ليس بأهله .

و في الخبر آخر : أربعة تذهبن ضياعا : علم عند من لا استماع له ، و سرّ تودعه عند من لا حصانة له ، و مودّة تمنحها من لا وفاء له ، و معروف عند من لا يشكره 1 .

و أكثر الشعراء في ذلك ، قال بعضهم :

و لمّا رأيتك تنسى الذمام
و لا قدر عندك للمعدم

و تجفو الشريف إذا ما أخلّ 2
و تدني الدنيّ على الدرهم

وهبت إخاءك للأعميين
و للاثرمين و لم أظلم

و في ( اللسان ) الأعميان : السيل و النّار ، و الأثرمان الدهر و الموت 3 .

إذا كنت تأتي المرء تعرف حقه
و يجهل منك الحق فالترك أجمل

-----------
( 1 ) الخصال 263 264 الحكمة 142 و 144 .

-----------
( 2 ) أي : صار به خلة و حاجة .

-----------
( 3 ) لسان العرب 12 : 77 ، ط . دار صادر ، بيروت ، مادة : ( ثرم ) .

[ 428 ]

و في العيش منجاة و في الهجر راحة
و في الأرض عمّن لا يؤاتيك مرحل

أيضا :

لا نائل منك و لا موعد
و لا رسول فعليك السّلام

أيضا :

له حق و ليس عليه حق
و مهما قال فالحسن الجميل

و قد كان الرسول يرى حقوقا
عليه لغيره و هو الرسول

أيضا :

و دع العتاب إذا استربت بصاحب
ليست تنال مودة بخصام

أيضا :

إذا كان خراجا أخوك من الهوى
موجهة في كلّ أوب ركائبه

فخلّ له وجه الفراق و لا تكن
مطية رحّال بعيد مذاهبه

أخوك الذي إن تدعه لملمّة
يجبك و إن عاتبته لان جانبه

« لا تتّخذنّ عدوّ صديقك صديقا فتعادي صديقك » في الباب الأخير و قال عليه السّلام : أصدقاؤك ثلاثة ، و أعداؤك ثلاثة ، فأصدقاؤك صديقك ، و صديق صديقك ، و عدوّ عدوّك ، و أعداؤك عدوّك ، و عدوّ صديقك ، و صديق عدوّك 1 .

و قال ابن أبي الحديد أكثروا في المعنى :

إذا صافي صديقك من تعادي
فقد عاداك و انقطع الكلام 2

« و امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

( أم ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 3 .

-----------
( 1 ) نهج البلاغة 4 : 71 الحكمة 395 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 107 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 105 108 .

[ 429 ]

« قبيحة » و عن النبيّ عليه السّلام : أعن أخاك ظالما أو مظلوما ، فإن كان مظلوما فخذ له بحقّه و ان كان ظالما فخذ له من نفسه .

كان أبو مسلم استشار مالك بن الهيثم حين كتب إليه المنصور في القدوم عليه مريدا لقتله ، فأشار عليه مالك بعدم القدوم ، فلمّا قتل المنصور أبا مسلم أذكر مالكا ذلك فقال له مالك : إنّ أخاك إبراهيم الإمام حدّث عن أبيه قال :

لا يزال الرجل يزاد في رأيه إذا نصح لمن استشاره ، و إنّي لكم اليوم كذلك .

و في ( الطبري ) كتب زياد إلى معاوية : إني قد ضبطت لك العراق بشمالي و يميني فارغة فأشغلها بالحجاز إلى أن قال فخرجت طاعونة على أصبعه فأرسل إلى شريح و كان قاضيه فقال له : حدث بي ما ترى و قد أمرت بقطعها فأشر علي . فقال له : أخشى أن يكون الأجل قد دنا فتموت أجذم أو يكون في الأجل تأخير و قد قطعت يدك فتعيش أجذم و تعير ولدك ، فتركها . و خرج شريح فسألوه فأخبرهم بما أشار به فلاموه و قالوا له : هلاّ أشرت عليه بقطعها ، فقال : قال النبيّ « المستشار مؤتمن » 1 .

« و تجرّع الغيظ فإنّي لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ، و لا ألذّ مغبة » أي : عاقبة في ( العيون ) عن الرضا عليه السّلام : أوحى اللّه تعالى إلى نبي : إذا أصبحت فأوّل شي‏ء يستقبلك فكله ، و الثاني فاكتمه ، و الثالث فاقبله ، و الرابع فلا تؤيسه ، و الخامس فاهرب منه . فلمّا أصبح مضى فاستقبله جبل أسود عظيم فوقف و قال أمرني ربي أن آكل هذا و إنّه لا يأمرني إلاّ بما أطيق ، فمشى إليه ليأكله ، فكلّما دنا منه صغر حتى انتهى إليه فوجده لقمة فأكلها فوجدها أطيب شي‏ء أكله ، ثم مضى فوجد طستا من ذهب فقال أمرني ربي أن أكتم هذا ، فحفر له حفيرة و جعله فيها و ألقى عليه التراب ، ثم مضى فالتفت فإذا الطست قد ظهر فقال قد فعلت ما

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 5 : 289 دار سويدان بيروت .

[ 430 ]

أمرني ربي فمضى فإذا هو بطير و خلفه بازي فطاف الطير حوله فقال أمرني ربي أن أقبل هذا ، ففتح كمه فدخل الطير فيه ، فقال له البازي أخذت صيدي و أنا خلفه منذ أيام ، فقال أمرني ربي ألا أؤيس هذا ، فقطع من فخذه قطعة فألقاها إليه ، ثم مضى فإذا هو لحم ميتة منتن مدوّد فقال أمرني ربي أن أهرب من هذا فهرب منه و رجع ، و رأى في المنام كأنّه قيل له : إنّك قد فعلت ما امرت به فهل تدري ما ذاك ؟ قال : لا . قيل له : أما الجبل فهو الغضب ، إن العبد إذا غضب لم ير نفسه و جهل قدره من عظم الغضب ، فإذا عرف نفسه و عرف قدره و سكن غضبه كانت عاقبته كاللقمة الطيبة التي أكلها ، و أما الطست فهو العمل الصالح إذا كتمه العبد و أخفاه أبى اللّه إلاّ أن يظهره ليزينه به مع ما يدّخر له من ثواب الآخرة ، و أما الطير فهو الرجل الذي يأتيك بنصيحة فأقبله و اقبل نصيحته ،

و أمّا البازي فهو الرجل الذي يأتيك في حاجة فلا تؤيسه ، و أمّا اللحم المنتن فهو الغيبة فاهرب منها 1 .

و قال ابن أبي الحديد قال المبرّد في ( كامله ) : أوصى علي بن الحسين ابنه محمدا فقال : يا بني عليك بتجرّع الغيظ من الرجال ، فإنّ أباك لا يسرّه بنصيبه من تجرّع الغيظ من الرجال حمر النّعم ، و الحليم أعزّ ناصرا و أكثر عددا 2 .

« و لن لمن غالظك فانّه يوشك » أي : يكاد .

« أن يلين لك » قال العسكري في ( أمثاله ) : كان هذيل بن هبيرة أغار على بني ضبة فأقبل بما غنم فقال أصحابه : إقسم بيننا غنيمتنا . فقال : أخاف الطلب ،

فأبوا إلاّ القسم ، فقال : « إذا عزّ أخوك فهن » فصار مثلا ، و معناه إذا صعب أخوك

-----------
( 1 ) عيون أخبار الرضا 17 : 275 ح 12 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 108 .

[ 431 ]

فلن ، فإنّك إن صعبت أيضا كانت الفرقة .

و أخذ معاوية معنى المثل ، فقال : لو أن بيني و بين الناس شعرة ممدودة ما انقطعت ، لأنّي إذا مدّوا أرسلت و إذا أرسلوا مددت .

و قال زياد : إيّاكم و معاوية فإنّه إذا طار الناس وقع ، و إذا وقعوا طار 1 .

هذا ، و قال العسكري قال الزجاج : « هن » في المثل بالضم ، و هو خطأ إنّما هو بالكسر ، فإنّه بالضم من الهوان ، مع أنّه من الهون بمعنى الرفق و اللين ، قال تعالى يمشون على الأرض هونا 2 .

قلت : لم نقف على من قال هان يهين حتى يكون الأمر « هن » بالكسر ،

و كيف و هو أجوف واوي و لم يجى‏ء إلاّ على يفعل بالضم ، و انما الفعل مشترك و يفرق بين المعنيين بالمصدر ، قال الفيروز آبادي : هان هونا بالضم و هوانا و مهانة : ذل ، و هونا بالفتح سهل فهو هيّن .

هذا ، و في ( عيون ابن قتيبة ) في باب المشورة قال معاوية : لقد كنت ألقى الرجل من العرب أعلم أنّ في قلبه ضغنا عليّ فأستشيره فيثير إليّ منه بقدر ما يجده في نفسه ، فلا يزال يوسعني شتما و أوسعه حلما حتى يرجع صديقا أستعين به فيعينني و أستنجده فينجدني 3 .

قلت : نقله في باب المشورة غلط كنقله « فأستشيره » ، و انما هو « فأستثيره » بشهادة قوله « فيثير إليّ منه بقدر ما يجده في نفسه » و لا ربط للمشورة هنا و لا ربط للخبر بالمشورة .

« و خذ على عدوّك بالفضل فانّه أحلى الظفرين » قال تعالى ادفع بالّتي

-----------
( 1 ) جمهرة الأمثال 1 : 65 دار الجيل بيروت .

-----------
( 2 ) الفرقان : 63 .

-----------
( 3 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 : 85 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 432 ]

هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنّه وليّ حميم 1 .

و في ( مقاتل أبي الفرج ) : ان رجلا من آل عمر كان يشتم عليّا عليه السّلام إذا رأى موسى بن جعفر و يؤذيه إذا لقيه ، فقال له بعض مواليه : دعنا نقتله . فقال :

لا ، ثم مضى راكبا حتى قصده في مزرعة له فتوطّأها بحماره ، فصاح : لا تدس زرعنا فلم يصغ إليه و أقبل حتى نزل عنده و جعل يضاحكه و قال له : كم غرمت على زرعك هذا . قال : مائة دينار . قال : فكم ترجو أن تربح . قال : لا أدري . قال :

إنّما سألتك كم ترجو . قال : مائة اخرى . فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبها له ، فقام فقبّل رأسه . فلمّا دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه و جعل يقول :

« اللّه أعلم حيث يجعل رسالته » فوثب أصحابه عليه و قالوا : ما هذا فشاتمهم ،

فقال عليه السّلام لأصحابه : أيّما كان خيرا ما أردتم أو ما أردت 2 ؟

و قالوا : وقف رجل عليه مقطّعات على الأحنف يسبّه ، و كان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفه الأحنف ، فجعل لا يألو أن يسبّه سبا يغضب ، و الأحنف مطرق صامت ، فلمّا رآه لا يكلمه جعل الرجل يعض إبهاميه و يقول : يا سوأتاه و اللّه ما يمنعه من جوأبي إلاّ هواني عليه ، و قال الشاعر :

كم صديق بالعتب صار عدوّا
و عدوّ بالحلم صار صديقا

« و إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية ترجع إليها إن بدا له » هكذا في النسخ 3 و الظاهر كونه مصحف « لك » فإن القطيعة كانت أوّلا منه لا من أخيه .

« ذلك يوما ما » في ( عيون ابن قتيبة ) كان يقال : لا يكن حبك كلفا

-----------
( 1 ) فصلت : 34 .

-----------
( 2 ) مقاتل الطالبيين : 332 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 105 .

[ 433 ]

و لا بغضك تلفا .

و قال الحسن : أحبّوا هونا ، فإن أقواما أفرطوا في حب قوم فهلكوا 1 .

و في الكتاب ( 226 ) « أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، و أبغض بغيضك هونا ما ، عسى أن يكون حبيبك يوما ما » .

و قال ابن أبي الحديد و كان عليه السّلام يقول : « إذا هويت فلا تكن غاليا ، و إذا تركت فلا تكن قاليا » .

« و من ظن بك خيرا فصدّق ظنّه » في ( تاريخ بغداد ) : ولّى المنصور رجلا من بني العباس يقال له قثم ، فأتاه أعرابي فقال :

يا قثم الخير جزيت الجنّه
اكس بنيّاتي و أمّهنّه

اقسم باللّه لتفعلنّه

فقال قثم : و اللّه لا أفعل . فقال الأعرابي : لكن لو أقسمت على معن بن زائد لأبرّ قسمي ، فبلغت الكلمة معنا فبعث إليه ألف دينار 2 .

و قال الشاعر :

لا تجبهن بالردّ وجه مؤمّل
فبقاء عزّك أن ترى مأمولا

« و لا تضيعنّ حق أخيك اتّكالا على ما بينك و بينه ، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه » قال البحتري في عتاب بن بسطام :

و كما يسرّك لين مسّي راضيا
فكذاك فاخش خشونتي غضبانا

و مع كون جميل صاحب بثينة من العشّاق المعروفين و قال فيها :

خليليّ في ما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي

فقد دعا غليها لمّا رأى منها الأذى فقال :

-----------
( 1 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 3 : 13 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 13 : 238 دار الكتاب العربي بيروت .

[ 434 ]

رمى اللّه في عيني بثينة بالقذى
و في العرّ من أنيابها بالقوادح

في ( المعجم ) : قيل لإبراهيم بن العباس الصولي : إنّ فلانا يحب أن يكون لك وليّا . فقال : أحبّ أن يكون الناس جميعا إخواني ، و لكنّي لا آخذ منهم إلاّ من أطيق قضاء حقّه و إلاّ استحالوا أعداء ، و ما مثلهم إلاّ كمثل النار قليلها مقنع و كثيرها محرق 1 .

و في ( كامل المبرد ) : قال سعيد بن سلم الباهلي : عرض لي أعرابي فمدحني فبلغ فقال :

ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة
سعيد بن سلم ضوء كلّ بلاد

لنا سيّد أربى على كلّ سيد
جواد حثا في وجه كلّ جواد

فتأخرت عن برّه قليلا فهجاني فبلغ فقال :

لكلّ أخي مدح ثواب يعدّه
و ليس لمدح الباهلي ثواب

مدحت ابن سلم و المديح مهزّة
فكان كصفوان عليه تراب 2

و ممّا قيل في ذلك من الشعر :

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
على طرف الهجران إن كان يعقل

و يركب حدّ السيف من أن تضيمه
إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل

و قيل أيضا :

أحسن صحابتنا فإنّك مدرك
بعض اللّبانة باصطناع الصاحب

و إذا جفوت قطعت عنك لبانتي
و الدّرّ يقطعه جفاء الحالب

و قيل بالفارسية :

گرت روا است كه با دوست نگسلى پيوند
نگاهدار سر رشته تا نگهدارد

-----------
( 1 ) معجم الأدباء للحموي 1 : 188 دار الفكر .

-----------
( 2 ) الكامل 3 : 7 دار نهضة مصر القاهرة .

[ 435 ]

« و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك » فيتمنّون موتك و زوال نعمتك .

هذا ، و في ( الأغاني ) عن الحسين بن الضحّاك الشاعر : شربنا يوما مع الأمين في بستان ، فسقانا على الريق و جدّ بنا في الشرب و تحرّز من أن نذوق شيئا ، فاشتدّ الأمر عليّ و قمت لأبول فأعطيت خادما من الخدام ألف درهم على أن يجعل لي تحت شجرة أو مأت إليها رقاقة فيها لحم ، فأخذ الألف و فعل ذلك و وثب محمد فقال : من يكون منكم حماري ، فكل واحد منهم قال له أنا لأنّه كان يركب الواحد منّا عبثا ثم يصله ، ثم قال : يا حسين أنت أضلع القوم فركبني و جعل يطوف و أنا أعدل به من الشجرة و هو يمرّ بي إليها حتى صار تحتها .

فرأى الرقاقة فتطأطأ فأخذها فأكلها على ظهري و قال : هذه جعلت لبعضكم ، ثم رجع إلى مجلسه و ما وصلني بشي‏ء ، فقلت لأصحابي : أنا أشقى الناس ركب ظهري و ذهب ألف درهم مني و فاتني ما يمسك رمقي و لم يصلني كعادتي ، ما أنا إلاّ كما قال الشاعر :

و مطعم الصيد يوم الصيد مطعمه
أنّى توجّه و المحروم محروم 1

« و لا ترغبنّ في من زهد عنك » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( فيك ) كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية 2 .

في ( عيون ابن قتبة ) : قال ابن الزبير يوما : و اللّه لوددت أن لي بكلّ عشرة من أهل العراق رجلا من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم . فقال له أبو حاضر : مثلنا و مثلك كما قال الأعشى :

علقتها عرضا و علقت رجلا
غيري و علق اخرى غيرها الرجل

-----------
( 1 ) الأغاني 7 : 208 دار احياء التراث العربي .

-----------
( 2 ) متن شرح ابن أبي الحديد 16 : 105 .

[ 436 ]

أحبك أهل العراق و أحببت أهل الشام ، و أحب أهل الشام عبد الملك 1 .

و أكثر الشعراء في ذلك ، فقال أبو بكر الخوارزمي :

و لمّا أن غرست إليك ودي
فلم يثمر لديك زكيّ غرسي

أردت ملالة و أردت هجرا
فصنتك عنهما فهجرت نفسي

لأن الذنب ذنبي حين أهدي
إلى من يريد الانس انسي

و قال ابن أبي الحديد قال العباس بن الأحنف :

ما زلت أزهد في مودّة راغب
حتى ابتليت برغبة في زاهد

هذا هو الداء الّذي ضاقت به
حيل الطبيب و طال يأس العائد

و قيل :

و في الناس إن رثّت حبالك واصل
و في الأرض عن دار القلى متحوّل 2

« و لا يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

( و لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك ) كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية 3 .

« منك على صلته ، و لا يكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان » .

روى أبو الفرج في ( مقاتله ) و المفيد في ( إرشاده ) و الصدوق في ( عيونه ) : أنّ الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث و كان يقول بالإمامة فحسده يحيى البرمكي فقال يوما لبعض ثقاته أ تعرفون لي رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال فيعرفني ما أحتاج إليه ، فدلّ على عليّ بن إسماعيل بن جعفر ، فحمل إليه مالا و أنفذ إليه يرغبه في قصد الرشيد

-----------
( 1 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 3 : 17 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 110 111 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 105 .

[ 437 ]

و يعده بالإحسان إليه . فعمل على ذلك و أحس به عمّه موسى بن جعفر عليه السّلام فدعاه فقال له : يا بن أخي إلى أين ؟ قال : إلى بغداد . قال : و ما تصنع ؟ قال : عليّ دين و أنا مملق . فقال له : فأنا أقضي دينك و أفعل بك و أصنع فلم يلتفت إلى ذلك و عمل على الخروج ، فاستدعاه موسى عليه السّلام و قال له : أنت خارج ؟ قال : نعم ، لا بدّ لي من ذلك . فقال له : أنظر يا بن أخي و اتّق اللّه و لا تيتمنّ أولادي و أمر له بثلاثمائة دينار و أربعة آلاف درهم ، فلمّا قام من بين يديه قال موسى لمن حضره : و اللّه ليسعينّ في دمي و لييتمن أولادي . فقالوا : تعلم هذا من حاله و تعطيه و تصله ، فقال لهم : نعم حدّثني أبي عن آبائه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها اللّه ، و إنّي أردت أن أصله بعد قطعه لي حتى إذا قطعني قطعه اللّه ، فخرج علي بن إسماعيل حتى أتى يحيى فعرف منه خبر موسى بن جعفر عليه السّلام و رفعه إلى الرشيد فسأله عن عمّه فسعى به إليه و قال له : إن الأموال تحمل إليه من المشرق و المغرب . فأمر له الرشيد بمائتي ألف درهم يسبب له بها على بعض النواحي فاختار بعض كور المشرق ، و مضت رسله لقبض المال و أقام وصوله فدخل في بعض تلك الأيام إلى الخلاء فزحر زحرة خرجت منها حشوته كلّها و جهدوا في ردّها فلم يقدروا ، و جاءه المال و هو ينزع فقال : ما أصنع به و أنا في الموت 1 .

و روى الكليني و الكشي القصة ناسبا إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر 2 ، و الظاهر أصحية الأول لتضمّن السّير بقاء محمد بن إسماعيل إلى زمان المأمون .

هذا ، و زاد في رواية الرسائل « و لا على البخل أقوى منك على البذل ، و لا

-----------
( 1 ) مقاتل الطالبيين : 333 334 بتصرف ، و عيون الصدوق 1 : 57 الحكمة 1 ، و إرشاد المفيد : 299 .

-----------
( 2 ) الكشي : 263 ح 478 : الكافي 1 : 485 الحكمة 8 .

[ 438 ]

على التقصير أقوى منك على الفضل » 1 .

« و لا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك فإنّه يسعى في مضرّته و نفعك » فيوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم ، و ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر ممّا يأخذ الظالم من دنيا المظلوم .

« و ليس جزاء من سرّك أن تسوءه » فالعقل يحكم بأنّ جزاء من سرّك أن تسرّه هل جزاء الاحسان إلاّ الإحسان 2 و الكلام مستقل ، و توهم ابن أبي الحديد كونه تعليلا لسابقه .

« و اعلم يا بنيّ أنّ الرزق رزقان : رزق تطلبه و رزق يطلبك ، فإن لم تأته أتاك ) في ( شعراء ابن قتيبة ) : وفد عروة بن اذينة على هشام بن عبد الملك فقال له هشام أ لست القائل :

لقد علمت و ما الإسراف من خلقي
أنّ الذي هو حظّي سوف يأتيني

أسعى له فيعنّيني تطلّبه
و لو قعدت أتاني لا يعنّيني

قال : بلى . قال : فما أقدمك علينا . قال : سأنظر في ذلك ، و خرج و ارتحل من ساعته و بلغ هشاما فأتبعه بجائزة 3 .

و مرّت قصة الناشى‏ء الشاعر و أنّه مدح سيف الدولة فلم يعطه شيئا و رأى انّه يطعم كلابه لحوم السّخال فقال له : الكلب عندكم أحسن من الأديب ،

ثم ضلّ بغل موقر بالمال حمل إلى سيف الدولة فذهب ليلا على باب الناشى‏ء فأخذ ماله و أطلقه ثم دخل على سيف الدولة و أنشده :

و من ظن ان الرزق يأتي بحيلة
فقد كذبته نفسه و هو آثم

-----------
( 1 ) كشف المحجّة : 169 .

-----------
( 2 ) الرحمن : 60 .

-----------
( 3 ) الشعر و الشعراء : 384 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 439 ]

يفوت الغنى من لا ينام عن السرى
و آخر يأتي رزقه و هو نائم

ففطن سيف الدولة من شعره انّه وجد البغلة و أخذ المال .

و لبعضهم :

اتق اللّه لا الأعداء و اعلم يقينا
بأنّ الذي لم يقضه لن يصيبكا

و حظّك لا يعدوك ان كنت قاعدا
و لا أنت تعدو حين تعدو نصيبكا

« ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى » زاد في رواية الكليني « و اعلم يا بنيّ أنّ الدهر ذو صروف ، فلا تكن ممّن يشتدّ لائمته ، و يقلّ عند الناس عذره » 1 .

و نظير كلامه عليه السّلام ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : ما أقبح الفقر بعد الغنى ، و أقبح الخطيئة بعد المسكنة ، و أقبح من ذلك العابد للّه ثم يدع عبادته 2 . و من شواهد كلامه عليه السّلام قول بعضهم :

و ما الموت قبل الموت غير أنني
أرى ضرعا بالعسر يوما لدى اليسر

و مدح إبراهيم الصولي رجلا بضد ذلك فقال :

يعرف الأبعد ان أثرى و لا
يعرف الأدنى إذا ما افتقرا

و قال ابن أبي الحديد قال الشاعر :

خلقان لا أرضاهما لفتى
تيه الغنى و مذلّة الفقر

فإذا غنيت فلا تكن بطرا
و إذا افتقرت فته على الدّهر

و قال : كلامه عليه السّلام من قوله تعالى حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم بريح طيبة و فرحوا بها جاءتها ريح عاصف و جاءهم الموج من كلّ مكان و ظنّوا أنّهم احيط بهم دعوا اللّه مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلمّا نجّاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق 3 .

-----------
( 1 ) كشف المحجة : 169 .

-----------
( 2 ) الكافي 2 : 84 ح 6 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 115 ، و الآيتان من سورة يونس : 22 23 .

[ 440 ]

قلت : بل الآية في مقام ، و كلامه عليه السّلام في مقام ، فهل الخضوع للّه وقت الإحاطة بهم في البحر قبيح ؟ و إنّما يقبح الخضوع للناس وقت الحاجة ، و المراد من الآية نقض الناس عهودهم مع اللّه تعالى في الاضطرار بعد رفعه .

« ان لك من دنياك ما أصلحت به مثواك » أي : محل إقامتك ، و زاد في رواية التحف و الرسائل « فأنفق في حقّ ، و لا تكن خازنا لغيرك » 1 .

قال ابن أبي الحديد كلامه عليه السّلام مأخوذ من كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : « يا ابن آدم ليس لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأبقيت » .

و قال أبو العتاهية :

ليس للمتعب المكادح من دنياه
إلاّ الرّغيف و الطّمران 2

( و ان جزعت ) كذا في ( المصرية ) و الصواب : ( و ان كنت جازعا ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 3 « على ما تفلّت » أي : خرج بغتة .

« من يديك فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك » لكونه نظيره في عدم تقدير أحدهما له ، و هو أيضا نظير أن يخرج الإنسان في يقظته على فوت ما حصل بيده في النوم .

« استدل على ما لم يكن بما قد كان فان الامور أشباه » فتعرف ما لم يكن ممّا كان . قال ابن أبي الحديد يقال : إذا شئت أن تنظر إلى الدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك ، و قال المتنبي في سيف الدولة :

ذكيّ تظنّيه طليعة عينه
يرى قلبه في يومه ما يرى غدا 4

-----------
( 1 ) كشف المحجة : 169 ، و تحف العقول : 83 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 116 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 112 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 116 .

[ 441 ]

قلت : البيت غير مربوط بكلامه عليه السّلام ، فإنّه في الاعتبار للآتي بالماضي و البيت وصف الذكاء ، كقول الآخر :

الألمعيّ الّذي يظنّ بك الظّنّ
كأن قد رأى و قد سمعا

و كيف كان فزاد في رواية الرسائل : « و لا تكفر ذا نعمة ، فإن كفر النعمة من ألأم الكفر ، و اقبل العذر » 1 .

« و لا تكوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت في إيلامه فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( بالأدب ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 2 .

« و البهائم لا تتعظ إلاّ بالضرب » و زاد في رواية الكليني « اعرف الحق لمن عرفه لك رفيعا كان أو وضيعا » 3 ، قال بشار :

الحر يلحى و العصا للعبد
و ليس للملحف مثل الرد

و قال ابن أبي الحديد كان يقال : اللئيم كالعبد ، و العبد كالبهيمة عتبها ضربها ، و قال الشاعر :

العبد يقرع بالعصا
و الحرّ تكفيه الملامه 4

« اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر و حسن اليقين » و اصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الامور 5 ، قال الشاعر :

خفّض عليك من الهموم فإنّما
يحظى براحة دهره من خفّضا

أيضا :

-----------
( 1 ) كشف المحجة : 169 .

-----------
( 2 ) متن شرح ابن أبي الحديد 16 : 113 .

-----------
( 3 ) كشف المحجة : 169 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 117 .

-----------
( 5 ) لقمان : 17 .

[ 442 ]

إذا تضايق أمر فانتظر فرجا
فأضيق الأمر أدناه من الفرج

أيضا :

إنّ الامور إذا انسدّت مسالكها
فالصبر يفتح منها كلّ ما ارتتجا

لا تيأسنّ و إن طالت مطالبه
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
و مدمن القرع للأبواب أن يلجا

أيضا :

إنّي رأيت و للأيّام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر

و قلّ من جدّ في أمر يطالبه
و استصحب الصبر إلاّ فاز بالظّفر

أيضا :

فصبرا معين الملك إن عنّ حادث
فعاقبة الصبر الجميل جميل

و لا تيأسن من صنع ربّك إنّه
ضمين بأن اللّه سوف يديل

فإن اللّيالي إذ يزول نعيمها
تبشّر أنّ النائبات تزول

أ لم تر أن الشمس بعد كسوفها
لها منظر يغشي العيون صقيل

و ان الهلال النضو يغمر بعد ما
بدا و هو شخت الجانبين ضئيل

و لا تحسبنّ السيف يقصر كلّما
تعاوده بعد المضاء كلول

و لا تحسبنّ الدوح يقلع كلّما
يمرّ به نفح الصبا فيميل

فقد يعطف الدهر الأبيّ عنانه
فيشفى عليل أو يبلّ غليل

و يرتاش مقصوص الجناحين بعد ما
تساقط ريش و استطار نسيل

و يستأنف الغصن السليب نضارة
فيورق ما لم يعتوره ذبول

و للنجم من بعد الرجوع استقامة
و للحظّ من بعد الذهاب قفول

« من ترك القصد » أي : العدل ، قال الشاعر :

على حكم المأتيّ يوما إذا قضى
قضيته ألاّ يجور و يقصد

[ 443 ]

« جار » كان غريب بن عمليس مبذّرا ، و من أمثالهم « و من يطع عريبا يمس غريبا » ، « من يطع عكّبا يمس منكّبا » 1 ، « من يطع نمرة يفقد ثمرة » 2 .

و زاد في رواية ( الرسائل ) « و نعم حظ المرء القنوع ، و من شر ما صحب المرء الحسد ، و في القنوط التفريط ، و الشح يجلب الملامة » 3 .

« و الصاحب مناسب » أي : يجب أن يكون صاحبك مناسبك ، قال الشاعر :

نسيبك من ناسبت بالودّ قلبه
و جارك من صافيته لا المصاقب

و في ( عيون ابن قتيبة ) قال بختيوع للمأمون : لا تجالس الثقلاء فإنّا نجد في الطب مجالسة الثقيل حمّى الروح 4 .

و كتب رجل على خاتمه « أبرمت فقم » فكان إذا جلس إليه ثقيل ناوله إيّاه ،

و قال بعضهم :

إنّي اجالس معشرا
نوكى أخفّهم ثقيل

قوم إذا جالستهم
صدأت بقربهم العقول

لا يفهموني قولهم
و يدقّ عنهم ما أقول

فهم كثير بي و أعلم
أنّني بهم قليل

أيضا :

ألا إنّ خير الودود تطوعت
به النفس لا ودّ أتى و هو متعب

أيضا :

ذو الود منّي و ذو القربى بمنزلة
و إخوتي اسوة عندي و إخواني

عصابة جاورت آدابهم أدبي
فهم و ان فرقوا في الأرض جيراني

-----------
( 1 ) مجمع الأمثال للميداني 2 : 298 .

-----------
( 2 ) مجمع الأمثال للميداني 2 : 298 .

-----------
( 3 ) كشف المحجة : 169 .

-----------
( 4 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 : 427 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 444 ]

أرواحنا في مكان واحد و غدت
أبداننا بشآم أو خراسان

أيضا :

أبن لي فكن مثلي أو ابتغ صاحبا
كمثلك إنّي مبتغ صاحبا مثلي

عزيز اخائي لا ينال مودّتي
من القوم إلاّ مسلم كامل العقل

و ما يلبث الإخوان أن يتفرّقوا
إذا لم يؤلّف روح شكل إلى شكل

و كتب رجل إلى صديقه : إني صارفت منك جوهر نفسي ، فأنا غير محمود على الانقياد لك بغير زمام ، لأن النفس يتبع بعضها بعضا ، و قالوا :

« طير السماء على إلفه من الأرض يقع » و قيل :

و قائل كيف تهاجرتما
فقلت قولا فيه إنصاف

لم يك من شكلي فتاركته
و الناس أشكال و الآف

هذا ، و في ( تاريخ بغداد ) : إجتمع ثمامة بن أشرس و يحيى بن أكثم عند المأمون ، فقال ليحيى : العشق ما هو ؟ فقال : سوانح تسنح للعاشق يؤثرها و يهتم بها . فقال ثمامة : أنت بمسائل الفقه أبصر منك بهذا ، و نحن بهذا أحذق .

فقال له المأمون : فهات ما عندك . قال : إذا امتزجت جواهر النفس بوصل المشاكلة نتجت لمح نور ساطع يستضي‏ء به بواصر العقل و تهز لاشراقه طبائع الحياة ، و يتصوّر من ذلك اللمح نور خاص بالنفس متصل بجوهرها يسمّى « عشقا » فقال له المأمون : هذا و أبيك الجواب 1 .

( و فيه ) : إن الرشيد لمّا غضب على ثمامة دفعه إلى سلام الأبرش و أمره أن يضيق عليه و يدخله بيتا و يطين عليه و يترك فيه ثقبا ، ففعل دون ذلك و كان يدسّ إليه الطعام ، فجلس سلام عشية يقرأ في المصحف فقرأ ويل يومئذ

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 7 : 147 دار الكتاب العربي بيروت .

[ 445 ]

للمكذّبين 1 بالفتح ، فقال له ثمامة انما هو « للمكذّبين » و جعل يشرحه و يقول : المكذّبون هم الرسل و المكذّبون الكفار . فقال : قد قيل لي انّك زنديق و لم أقبل . ثم ضيّق عليه أشدّ الضيق ، ثم رضي الرشيد عنه و جالسه فقال لمن معه : أخبروني عن أسوأ الناس حالا ، فقال كلّ واحد شيئا ، فقال ثمامة : أسوأ الناس حالا عاقل يجري عليه حكم جاهل . فتبيّن الغضب في وجهه فقال ثمامة :

ما أحسب وقعت بحيث أردت . قال : فاشرح ، فحدّثه بحديث سلام ، فجعل يضحك حتى استلقى و قال : صدقت و اللّه لقد كنت أسوأ الناس حالا 2 .

« و الصديق من صدق غيبه » .

خير إخوانك المشارك في المر
و اين الشريك في المرّ أينا

الذي ان شهدت سرّك في القوم
و إن غبت كان اذنا و عينا

مثل تبر العقيان ان مسّه النا
رجلاه الجلاء فازداد زينا

في ( تاريخ بغداد ) قال الواقدي : أضقت مرة و أنا مع يحيى البرمكي و حضر عيد فجاءتني جارية فقالت لي : ليس عندنا شي‏ء ، فمضيت إلى صديق لي من التجّار فعرّفته حاجتي إلى القرض ، فأخرج إليّ كيسا مختوما فيه ألف و مائتا درهم ، فأخذته و انصرفت إلى منزلي ، فما استقررت فيه حتى جاءني صديق لي هاشميّ فشكا إليّ تأخّر غلّته و حاجته إلى القرض ، فدخلت إلى زوجتي فقالت : أيّ شي‏ء عزمت ؟ قلت : على أن اقاسمه الكيس . قالت : ما صنعت شيئا أتيت رجلا سوقة فأعطاك ألفا و مأتي درهم و جاءك رجل له من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رحم ماسة تعطيه نصف ما أعطاك السوقة أعطه الكيس كلّه ،

فأخرجت الكيس كله فدفعته إليه ، و مضى صديقي التاجر إلى الهاشمي و كان

-----------
( 1 ) الطور : 11 .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 7 : 148 دار الكتاب العربي بيروت .

[ 446 ]

له صديقا ، فسأله القرض فأخرج إليه الهاشمي الكيس ، فلمّا رأى خاتمه عرفه و انصرف اليّ فخبرني بالأمر و جاءني رسول يحيى يقول : إنّما تأخّر رسولي عنك لشغلي بحاجات الخليفة ، فركبت إليه فأخبرته بخبر الكيس فقال : يا غلام هات تلك الدنانير ، فجاءه بعشرة آلاف فقال : خذ ألفي دينار لك و ألفين لصديقك و ألفين للهاشمي و أربعة آلاف لزوجتك فإنّها أكرمكم 1 .

« و الهوى شريك العناء » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( العمى ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 ، بل و في رواية الكليني و زاد في روايته : « و من التوفيق الوقوف عند الحيرة ، و نعم طارد للهموم اليقين ، و عاقبة الكذب الندم ، و في الصدق السلامة » 3 .

و المراد أنّه كما أن ذا العمى لا يبصر ، كذلك ذو الهوى في شي‏ء . قال أبو العتاهية :

يا عتب ما أنا من صنيعك بي
أعمى و لكنّ الهوى أعماني

و قال ابن أبي الحديد هذا مثل قولهم : « حبّك الشي‏ء يعمي و يصمّ » ، و قال الشاعر :

و عين الرّضا عن كلّ عيب كليلة
كما أنّ عين السخط تبدي المساويا 4

« و ربّ قريب أبعد من بعيد ، و ربّ بعيد أقرب من قريب » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( رب بعيد أقرب من قريب و قريب أبعد من بعيد ) كما في ابن أبي

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 3 : 19 دار الكتاب العربي بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 113 .

-----------
( 3 ) كشف المحجة : 169 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 117 118 .

[ 447 ]

الحديد و ابن ميثم و الخطية 1 .

في ( تاريخ بغداد ) في محمد بن علي الأنباري أن عليا كان يقول :

« القريب من قرّبته المودة و إن بعد نسبه ، و البعيد من بعدّته العداوة و إن قرب نسبه » .

( و فيه ) في كلثوم بن عمرو العتابي كتب طوق بن مالك إلى كلثوم يستزيره و يدعوه إلى أن يصل القرابة بينه و بينه ، فردّ عليه كلثوم : إنّ قريبك من قرب إليك خيره ، و إنّ عمّك من عمّك نفعه ، و إن عشيرتك من أحسن عشرتك ، و إنّ أخصّ الناس إليك أجداهم بالمنفعة عليك ، و لذلك أقول :

و لقد بلوت الناس ثم سبرتهم
و خبرت ما فتلوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا
و إذا المودّة أكبر الأسباب 2

و قال أبو الأسود :

فلا تشعرنّ النفس يأسا فإنّما
يعيش بجدّ حازم و بليد

و لا تطمعن في مال جار لقربه
فكلّ قريب لا ينال بعيد

و في المعمّرين لأبي حاتم قال الأضبط بن قريع :

وصل وصال البعيد ما وصل الحب
ل و أقص القريب إن قطعه

و قال ابن أبي الحديد ما قاله عليه السّلام معنى مطروق ، قال الأحوص :

إنّي لأمنحك الصدود و إنّني
قسما إليك مع الصدود لأميل

و قال البحتريّ :

و نازحة و الدّار منها قريبة
و ما قرب ثاو في التراب مغيّب

و قال الشاعر :

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 113 ، 118 .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 12 : 488 دار الكتاب العربي بيروت .

[ 448 ]

لعمرك ما يضرّ البعد يوما
إذا دنت القلوب من القلوب 1

قلت : معنى ما نقل غير كلامه عليه السّلام ، و انما يصحّ جعله قريبا من كلامه .

« و الغريب من لم يكن له حبيب » و قالوا أيضا « الغريب من لم يكن له مال » و قيل بالفارسية :

منعم بكوه و دشت و بيابان غريب نيست
هر جا كه رفت خيمه زد و بارگاه كرد

« من تعدّى الحق ضاق مذهبه » فإنّ الحق كالجادة و متعدّيه كالمتعدّي من الجادة ، و في المثل « من سلك الجدد ، أمن العثار » 2 ، و قال تعالى و أنّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله 3 .

« و من اقتصر على قدره كان أبقى له » قال ابن أبي الحديد : هذا مثل قوله « رحم اللّه امرأ عرف قدره ، و لم يتعدّ طوره » و قال : « من جهل قدره قتل نفسه » 4 .

قلت : الظاهر أن معنى كلامه عليه السّلام : « من اقتصر على قدره كان أبقى له » أنّ من اقتصر على قدر ماله في إنفاقاته و وجوه مصارفه كان أبقى له من أن يتلف كلّ ماله ، فالاقتصار على قدره غير عرفان قدره و جهله كما فهم .

و في ( العيون ) دخل مالك بن دينار على رجل محبوس قد أخذ بمال عليه و قيّد ، فقال له : أما ترى ما نحن فيه من هذه القيود ، فرفع مالك رأسه فرأى سلة فقال : لمن هذه ؟ فقال : لي ، فأمر بها أن تنزل ، فانزلت و إذا دجاج و أخبصة ، فقال

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 118 .

-----------
( 2 ) مجمع الأمثال للميداني 2 : 306 ، الزمخشري 2 : 356 .

-----------
( 3 ) الانعام : 153 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 118 .

[ 449 ]

له : هذه وضعت القيود في رجلك 1 .

« و أوثق سبب أخذت به سبب » الأصل في معنى السبب الحبل و الوسيلة .

« بينك و بين اللّه » هكذا في ( المصرية ) و فيها سقط فزاد ابن أبي الحديد و الخطية « سبحانه » و لكن في نسخة ابن ميثم « تعالى » 2 . قال ابن أبي الحديد :

هو مأخوذ من قوله تعالى فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها 3 4 .

قلت : و كذا قوله تعالى : و من يعتصم باللّه فقد هدي إلى صراط مستقيم 5 .

و السبب بين الخلائق و الخالق كان أولا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتابه تعالى و بعده كتابه تعالى و عترة نبيّه ، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما في مسند أحمد بن حنبل إنّي تارك فيكم الخليفتين : كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء ، و عترتي أهل بيتي ،

و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض 6 .

و بمعنى آخر : الفصل عن غيره تعالى و الوصل به عزّ و جلّ ، ففي ( الكافي ) أوحى تعالى إلى داود : ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته ثم تكيده السماوات و الأرض و من فيهن إلاّ جعلت له المخرج من بينهن ، و ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من

-----------
( 1 ) عيون الاخبار 3 : 215 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 113 .

-----------
( 3 ) البقرة : 253 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 116 .

-----------
( 5 ) آل عمران : 101 .

-----------
( 6 ) حديث الثقلين أخرجه أحمد في مسنده 2 : ( 14 ، 17 ، 26 ، 59 ) عن طريق أبي و فيه ( 4 ح 366 ) عن زيد بن ارقم و فيه ( 5 181 189 ) عن زيد بن ثابت .

[ 450 ]

نيّته إلاّ قطعت أسباب السماوات من بين يديه و أسخت الأرض من تحته و لم ابال من أيّ واد هلك .

و في خبر آخر : و من اعتصم باللّه عصمه اللّه ، و من عصمه لم يبال لو سقطت السماء على الأرض ، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم بليّة كان في حرز اللّه تعالى بالتقوى من كلّ بلية ، أ ليس اللّه تعالى يقول : إنّ المتّقين في مقام أمين 1 .

و في آخر : عن الحسين بن علوان : كنّا في مجلس نطلب فيه العلم و قد نفدت نفقتي في بعض أسفاري ، فقال لي بعض أصحابنا : من تؤمّل بما قد نزل بك . فقلت : فلانا . فقال : إذن و اللّه لا يسعف حاجتك . قلت : و ما علمك ؟ قال : إنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام حدّثني أنّه قرأ في بعض الكتب أن اللّه تعالى يقول : و عزّتي و جلالي و مجدي و ارتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل آمل غيري باليأس ،

و لأكسونه ثوب المذلّة عند الناس ، و لأنحّينّه من قربي و لابعدنّه من وصلي ،

أ يؤمّل غيري في الشدائد و الشدائد بيدي ؟ و يرجو غيري و يقرع بالفكر باب غيري و بيدي مفاتيح الأبواب و هي مغلقة و بابي مفتوح لمن دعاني ؟ فمن ذا الذي أمّلني لنوائبه فقطعته دونها ؟ و من ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني ؟ جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي ، و ملأت سماواتي ممّن لا يملّ من تسبيحي و أمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني و بين عبادي فلم يثقوا بقولي ، أ لم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري الا من بعد اذني ؟ فما لي أراه لاهيا عنّي أعطيته بجودي ما لم يسألني ، ثم انتزعته منه فلم يسألني ردّه و سأل غيري ، أفتراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم اسأل فلا اجيب سائلي ؟ أ بخيل أنا فيبخّلني عبدي ؟ أو ليس

-----------
( 1 ) الدخان 51 ، الكافي 2 : 65 روايه 4 .

[ 451 ]

الكرم لي ؟ أ و ليس العفو و الرحمة بيدي ؟ أ و ليس أنا محل الآمال فمن يقطعها دوني ؟ أ فلم يخش المؤمّلون أن يؤمّلوا غيري ؟ فلو أن أهل سماواتي و أهل أرضي أمّلوا جميعا ثم أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة ، و كيف ينقص ملك أنا قيّمه ، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ، و يا بؤسا لمن عصاني و لم يراقبني 1 .

« و من لم يبالك فهو عدوك » قال أبو العيناء :

لعمرك ما حقّ امرى‏ء لا يعدّ لي
على نفسه حقّا عليّ بواجب

و ما أنا للنّائي عليّ بوده
بودّي و صافي خلّتي بمقارب

و لكنّه إن مال يوما بجانب
من الصدّ و الهجران ملت بجانبي

هذا ، و في ( الأغاني ) نهق حمار ذات يوم بقرب بشّار فخطر بباله بيت فقال :

ما قام أير حمار فامتلا شبعا
إلاّ تحرّك عرق في است تسنيم

و لم يرد تسنيما بالهجاء و لكنه لمّا بلغ إلى قوله « الا تحرك عرق » قال في است من ، و مر به تسنيم و كان صديقه فسلّم عليه فقال : في است تسنيم .

فقال : أيش ويحك ، فأنشده البيت . فقال له : عليك لعنة اللّه ، فما عندك فرق بين صديقك و عدوك ، أي شي‏ء حملك على هذا ؟ ألا قلت « في است حمار » الذي فضحك و أعياك و ليست قافيتك على الميم فأعذرك . قال : صدقت و اللّه في هذا كلّه و لكن ما زلت أقول « في است من في است من » و لا يخطر ببالي أحد حتى مررت و سلمت فرزقته . فقال له تسنيم : إذا كان هذا جواب التسليم عليك فلا سلّم اللّه عليك و لا عليّ حين سلمت عليك . و جعل بشّار

-----------
( 1 ) الكافي 2 : 62 66 ح 1 و 4 و 7 .

[ 452 ]

يضحك و يصفق بيديه و تسنيم يشتمه 1 .

« قد يكون اليأس ادراكا إذا كان الطمع هلاكا » قال امرؤ القيس :

و قد سافرت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب

و قال البحتري :

إذا بدا بخلاء الناس عارفة
يتبعها المن فالمرزوق من حرما

و قال آخر :

اللّيل داج و الكباش تنتطح
فمن نجا برأسه فقد ربح

« ليس كلّ عورة تظهر و لا كل فرصة تصاب » و لو كان كل عورة و العورة موضع خلل يتخوف منه تظهر لأمكن لكثير من الناس استيصال أعدائهم ،

و لو كان كلّ فرصة تصاب لأصلح الناس كثيرا من أمور دينهم و دنياهم .

« و ربما أخطأ البصير قصده ، و أصاب الأعمى رشده » و قالوا : لكلّ جواد كبوة ، و لكل صارم نبوة ، و لكل عالم هفوة . و قال محمد بن بشير :

تخطي النفوس مع العيان
و قد تصيب مع المظنّه

كم من مضيق في الفضا
ء و مخرج بين الأسنّه

و لأبي العتاهية :

و قد يهلك الانسان من باب أمنه
و ينجو باذن اللّه من حيث يحذر

و من أمثالهم : « رب رمية من غير رام » . قال الميداني : و أول من قاله الحكم ابن عبد يغوث المنقري و كان أرمى أهل زمانه و آلى يمينا ليدجن على الغبغب مهاة أي يقطع عرق ما تدلّى تحت حنك بقرة وحشية بالرمي فحمل قوسه و كنانته فلم يصنع يومه ذلك شيئا ، فرجع كئيبا و بات ليلته على ذلك ، ثم خرج إلى قومه فقال ، ما أنتم صانعون ، فإنّي قاتل نفسي أسفا إن لم

-----------
( 1 ) الأغاني 3 : 173 دار احياء التراث العربي .

[ 453 ]

أدجها اليوم . فقال له أخوه : دج مكانها عشرة من الإبل و لا تقتل نفسك . قال :

و اللاّت و العزى لا أظلم عاترة و أترك النافرة . فقال له ابنه : احملني معك أرفدك .

فقال له أبوه : و ما أحمل من رعش و هل ، جبان فشل . فضحك الغلام و قال : إن لم تر أوداجها يخالط أمشاجها فاجعلني وداجها . فانطلقا فإذا هما بمهاة فرماها الحكم فأخطأها ثم مرّت به اخرى فأخطأها ثم مرّت به اخرى فرماها فأخطأها ، فقال له ابنه : أعطني القوس ، فأعطاها فرماها و لم يخطئها فقال أبوه « ربّ رمية من غير رام » 1 يضرب لصدور الفعل من غير أهله .

« أخّر الشر فإنّك إذا شئت تعجلته » قريب من كلامه عليه السّلام قول هدبة العذري :

و لا أتمنى الشر و الشر تاركي
و لكن متى أحمل على الشر أركب

و يجب العمل بكلامه عليه السّلام في المتهم بالقتل و غيره فما لم يتبيّن جرمه لم تجز عقوبته ، فلعلّه كان بريئا فلا ترد العقوبة ، فإن تحقق جرمه عاقبه عقيبه .

« و قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل » في ( عيون ابن بابويه ) قال عمير بن يزيد : كنت عند الرضا عليه السّلام ، فذكر محمد بن جعفر بن محمد ، فقال : إنّي جعلت على نفسي ألاّ يظلّني و إيّاه سقف بيت أبدا . فقلت في نفسي : هذا يأمرنا بالبرّ و الصلة و يقول هذا لعمه . فنظر إليّ ، فقال : هذا من البرّ و الصلة ، إنّه متى يأتني و يدخل عليّ فيقول فيّ فيصدقه الناس ، و إذا لم يدخل عليّ و لم أدخل عليه لم يقبل قوله إذا قال 2 .

و في ( المروج ) قال المتوكل لأبي العيناء : بلغنا عنك بذاء . فقال : قد مدح

-----------
( 1 ) مجمع الأمثال للميداني 1 : 299 بتصرف .

-----------
( 2 ) عيون 2 : 204 ح 1 .

[ 454 ]

اللّه تعالى و ذم ، فقال تعالى نعم العبد إنّه أوّاب 1 و قال جل و علا همّاز مشّاء بنميم . عتلّ بعد ذلك زنيم 2 ، فان لم يكن البذاء بمنزلة العقرب يلدغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الذّمّيّ فلا ضير فيه . قال الشاعر :

إذا أنا بالمعروف لم أك صادقا
و لم أشتم النّكس اللّئيم المذمّما

ففيم عرفت الخير و الشرّ باسمه
و شقّ لي اللّه المسامع و الفما 3

و قال الآخر :

أبا حسن ما أقبح الجهل بالفتى
و للحلم أحيانا من الجهل أقبح

إذا كان حلم المرء عون عدوه
عليه فإن الجهل أعفى و أروح

« من أمن الزمان خانه » عن أكثم بن صيفي : الدهر لا يغترّ به ، و من مأمنه يؤتى الحذر .

« و من أعظمه أهانه » في الخبر : ما من أحد عظّم الدنيا فقرّت عيناه فيها ،

و لم يحقّرها إلاّ انتفع بها 4 .

« ليس كلّ من رمى أصاب » و قالوا : « ما كل رامي غرض يصيب » .

« إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان » و قالوا : « الناس على دين ملوكهم » و كان الناس في زمان الوليد بن عبد الملك حريصين على العمارات مثله ، و في زمان سليمان أخيه على أكل الطيبات مثله ، و في زمان يزيد أخيه على قضاء الوطر من الشهوات مثله ، و في زمان هشام أخيه على الشحّ و ترك الإطعام و سدّ باب المضيفات مثله .

و في ( العقد ) : اطلع مروان بن الحكم على ضيعته بالغوطة فأنكر منها

-----------
( 1 ) ص : 30 ، 44 .

-----------
( 2 ) القلم : 11 و 13 .

-----------
( 3 ) المروج 4 : 148 .

-----------
( 4 ) الكافي 2 : 317 رواية 9 .

[ 455 ]

شيئا فقال لوكيله : ويحك إنّي لأظنّك تخونني . قال : أ تظن ذلك و لا تستيقنه . قال و تفعل . قال : نعم و اللّه اني لأخونك و إنّك لتخون الخليفة و الخليفة ليخون اللّه فلعن اللّه شر الثلاثة .

و قالوا : صنفان إذا صلحا صلح الناس : الأمراء و الفقهاء ، و إذا فسدا فسد الناس .

و قال ابن أبي الحديد جمع أنو شروان عمّال السواد و بيده درّة يقلبها ،

فقال : أيّ شي‏ء أضرّ بارتفاع السواد و أدعى إلى محقه ؟ و أيّكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرة في فيه . فقال بعضهم انقطاع الشرب ، و قال بعضهم احتباس المطر ، و قال بعضهم استيلاء الجنوب و عدم الشمال . فقال لوزيره : قل أنت فإنّي أظن عقلك يعادل عقول الرعية كلّها أو يزيد عليها . فقال : تغيّر رأي السلطان في رعيته ، و إضمار الحيف لهم و الجور عليهم . فقال : للّه أبوك ، بهذا العقل أهّلك آبائي لمّا أهّلوك ، و جعل الدرّة في فيه 1 .

« سل عن الرفيق قبل الطريق » في ( الاستيعاب ) قال خفّاف : أتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقلت : أين تأمرني أن أنزل ، على قرشي أم أنصاري ، أم أسلم أم غفار ؟ فقال : يا خفاف ابتغ الرفيق قبل الطريق ، فإن عرض لك أمر نصرك ، و ان احتجت إليه رفدك 2 .

« و عن الجار قبل الدار » في ( تاريخ بغداد ) : كان لمحمد بن ميمون أبي حمزة السكري جار أراد أن يبيع داره ، فقيل له : بكم . قال : بألفين عن الدار ،

و ألفين جوار أبي حمزة . فبلغ ذلك أبا حمزة فوجّه إليه بأربعة آلاف فقال : خذ هذه و لا تبع دارك .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 121 .

-----------
( 2 ) الاستيعاب 1 : 437 .

[ 456 ]

( و فيه ) : كان إذا مرض الرجل من جيرانه تصدّق بمثل نفقة المريض لمّا صرف عنه من العلّة .

( و فيه ) : كان إذا مرض عنده من قد رحل إليه ينظر إلى ما يحتاج إليه من الكفاية فيأمر بالقيام به .

كان لرجل جار حسن فاحتاج إلى بيع داره فلمّا نقده المشتري الثمن قال له : هذا ثمن الدار فأين ثمن جاري ، فسمع ذلك جاره فبعث إليه بمال لئلا يبيع داره .

و يضربون المثل بجار أبي دؤاد ، يعنون كعب بن مامة ، قالوا كان كعب إذا جاوره رجل فمات و داه ، و إن هلك له بعير أو شاة أخلف عليه ، فجاوره أبو دؤاد فكان يفعل به ذلك فقال قيس بن زهير :

اطوّف ما اطوّف ثم آوي
إلى جار كجار أبي دؤاد

كما انّهم يضربون المثل بجار لا يحمى جاره بلحم ظبي ، قال الشاعر :

فجارك عند بيتك لحم ظبي
و جاري عند بيتي لا يرام

هذا ، و في ( الأذكياء ) في خبر قال رجل للنبي صلّى اللّه عليه و آله إنّ لي جارا يؤذيني فقال : إنطلق و أخرج متاعك إلى الطريق ، فانطلق فأخرج متاعه ، فاجتمع الناس عليه فقالوا : ما شأنك ؟ قال : لي جار يؤذيني فذكرت ذلك للنبي فقال لي : إنطلق و أخرج متاعك إلى الطريق ، فجعلوا يقولون « اللّهم العنه اللّهم أخزه » فبلغه فأتاه فقال : إرجع إلى منزلك فو اللّه لا نؤذيك 1 .

« إيّاك أن تذكر من الكلام ما كان مضحكا و ان حكيت ذلك عن غيرك » لأنّ ذلك يحطّ الرجل الجليل عن منزلته ، بل من كان له مضحكة تسقط هيبته .

و في ( تاريخ الجزري ) : كان للسلطان ملكشاه مسخرة يعرف

-----------
( 1 ) الأذكياء : 27 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 457 ]

ب : ( جعفرك ) يحاكي نظام الملك و يذكره في خلواته مع السلطان ، فبلغ ذلك جمال الملك بن نظام الملك و كان يتولى مدينة بلخ و أعمالها فسار من وقته يطوي المراحل إلى والده و السلطان و هما باصبهان ، فاستقبله أخواه فخر الملك و مؤيد الملك ، فأغلظ لهما القول في إغضائهما على ما بلغه عن « جعفرك » ، فلمّا وصل إلى حضرة السلطان رأى « جعفرك » يسارّه ، فانتهره و قال : مثلك يقف هذا الموقف و ينبسط بحضرة السلطان في هذا الجمع ، فلمّا خرج من عند السلطان أمر بالقبض على « جعفرك » و أمر بإخراج لسانه من قفاه و قطعه فمات ، ثم أمر السلطان سرّا بقتل جمال الملك لقتله مضحكته 1 .

( و فيه ) : قتل في سنة ( 556 ) سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملك شاه ، كان يجمع المساخر و لا يلتفت إلى الامراء ، فأهمل العسكر أمره و صاروا لا يحضرون بابه و كان قد رد جميع الامور إلى ( كرد بازو ) من مشائخ خدمهم فكان الامراء يشكون إليه و هو يسكّنهم ، فاتّفق أنّ السلطان شرب يوما بظاهر همدان في الكشك ، فحضر عنده ( كرد بازو ) و لامه ، فأمر من عنده من المساخرة فعبثوا بكرد بازو حتى أن بعضهم كشف له سوأته إلى أن قال فأحضر كرد بازو الامراء و كانوا كارهين لسليمان فاستحلفهم على طاعته فحلفوا له ، فأوّل ما عمل أن قتل المساخرة الذين لسليمان و قال له : إنّما أفعل ذلك لملكك ، ثم عمل دعوة عظيمة حضرها السلطان و الامراء ، فلمّا صار السلطان في داره قبض عليه ثم أرسل إليه من خنقه . . . 2 .

« و اياك و مشاورة النساء » ففي الخبر كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد الحرب دعا

-----------
( 1 ) الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري 10 : 123 124 ، سنة 475 .

-----------
( 2 ) الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري 11 266 ، سنة 556 .

[ 458 ]

نساءه فاستشارهن ثم خالفهن 1 .

و قالوا : لا تستشيروا معلّما و لا راعي غنم و لا كثير القعود مع النساء .

و قال ابن أبي الحديد قال الفضل بن الربيع يصف الأمين بالعجز أيام محاربته المأمون إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء ، يشاور النساء و يعتزم على الرؤيا 2 .

« فإنّ رأيهن إلى أفن » بفتحتين أي : الضعف .

« و عزمهن إلى وهن » قال كعب ابن زهير :

و ما تدوم على العهد الذي زعمت
كما تلوّن في أثوابها الغول

و لا تمسّك بالوعد الذي زعمت
إلاّ كما تمسك الماء الغرابيل

كانت مواعيد عرقوب لها مثلا
و ما مواعيدها إلاّ الأباطيل

و قال آكل المرار :

إنّ من غره النساء بشي‏ء
بعد هند لجاهل مغرور

حلوة العين و اللسان و مر
كلّ شي‏ء يجن منها الضمير

كلّ انثى و إن بدا لك منها
آية الحب حبها خيتعور

و قال طفيل الغنوي :

إنّ النساء متى ينهين عن خلق
فإنّه واجب لا بدّ مفعول

و قال نهشل بن حري :

و عهد الغانيات كعهد قين
ونت عنه الجعائل مستذاق

كبرق لاح يعجب من بعيد
و لا يغني الحرائم من لماق

و قال آخر :

-----------
( 1 ) الكافي 5 : 518 ح 11 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 123 .

[ 459 ]

فلا تحسبنّ هندا لها الغدر وحدها
سجية نفس كلّ غانية هند

و في ( الأغاني ) : بلغ ملك ضيزن الخزاعي صاحب الحضر و الحضر قصر بحيال تكريت بين دجلة و الفرات الشام و أغار فأصاب اختا لسابور ذي الأكتاف ، فجمع له سابور و سار إليه ، فأقام على الحضر أربع سنين لا يستغل منهم شيئا . ثم ان النضيرة بنت ضيزن و كانت من أجمل أهل دهرها حاضت فأخرجت إلى الربض و كذلك كانوا يفعلون بنسائهم إذا حضن و كان سابور من أجمل أهل زمانه ، فرآها و رأته و عشقها و عشقته فأرسلت إليه : ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به هذه المدينة و تقتل أبي ، قال : أحكمك و أرفعك على نسائي و أخصك بنفسي دونهن . قالت : عليك بحمامة مطوّقة ورقاء فاكتب في رجلها بحيض جارية بكر تكون زرقاء ثم ارسلها فانها تقع على حائط المدينة فتتداعى و كان ذلك طلسمها لا يهدمها إلاّ هو ففعل و تأهب لهم و قالت له : أنا أسقي الحرس الخمر فإذا صرعوا فاقتلهم و ادخل المدينة ، ففعل ، فتداعت المدينة و فتحها سابور عنوة ، فقتل الضيزن و أخرب المدينة و احتمل النضيرة بنت الضيزن فأعرس بها بعين التمر ، فلم تزل ليلتها تتضوّر من خشونة في فرشها و هي من حرير محشو بالقز ، فالتمس ما كان يؤذيها فإذا هي ورقة آس ملتصقة بعكنة من عكنتها قد أثرت فيها ، و كان ينظر إلى مخها من لين بشرتها ، فقال لها سابور : ويحك بأيّ شي‏ء كان أبوك يغذيك ؟ قالت : بالزبد و المخ و شهد الأبكار من النحل و صفوة الخمر . فقال :

و كيف آمنك و قد فعلت بأبيك الذي غذّاك بما تذكرين ما فعلت ؟ فأمر رجلا فركب فرسا جموحا و ضفر غدائرها بذنبه ثم استركضه فقطعها قطعا ، فذلك قول الشاعر :

أقفر الحضر من نضيرة فالمرباع
منها فجانب الثرثار

[ 460 ]

و قال عدي بن زيد في أبيها :

و أخو الحضر إذ بناه و إذ
دجلة تجبى إليه و الخابور

شاده مرمرا و جلّله كأسا
فللطير في ذراه و كور

لم يهبه ريب المنون فباد
الملك عنه فبابه مهجور 1

و في ( العقد ) : قال الهيثم بن عدي : غزا الحارث بن عمرو الغسّاني آكل المرار الكندي فلم يصبه في منزله فأخذ ما وجد له و استاق امرأته ، فلمّا أصابها أعجبت به فقالت له : انج فو اللّه لكأني أنظر إليه يتبعك فاغرا فاه كأنّه بعير آكل مرار ، فاتبعه حتى لحقه فقتله و أخذ امرأته فقال لها : هل أصابك ؟

قالت : نعم و اللّه ما اشتملت النساء على مثله قط ، فأمر بها فأوقفت بين فرسين ثم استحضرهما حتى تقطعت ثم قال :

كل انثى و ان بدا لك منها
آية الود حبها خيتعور 2

« و اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إيّاهن فإن شدّة الحجاب أبقى عليهن » و في رواية ( الرسائل ) « فإنّ شدّة الحجاب خير لك و لهن من الإرتياب » 3 . قيل لابنة الخس : لم زنيت و أنت سيدة نساء قومك ؟ قالت : لقرب الوساد و طول السواد .

و عن الصادق عليه السّلام : ما أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على النساء في بيعتهن ألاّ يختبين و لا يقعدن مع الرجال في الخلاء .

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام : انما هلك نساء بني إسرائيل من قبل القصص و نقش الخضاب 4 .

-----------
( 1 ) الأغاني 2 : 139 140 دار احياء التراث العربي بيروت .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 7 : 137 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) كشف المحجة : 171 .

-----------
( 4 ) الكافي 5 : 519 ح 1 و 6 .

[ 461 ]

و قال عليه السّلام : يا أهل العراق نبئت أنّ نساءكم يدافعن الرجال في الطريق ،

أما تستحون 1 .

و عن أبي جعفر عليه السّلام استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة و كانت النساء يتقنّعن خلف آذانهن فنظر إليها و هي مقبلة فلمّا جازت نظر إليها و دخل في زقاق فجعل ينظر خلفها و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه ، فلمّا مضت المرأة فإذا الدماء تسيل على صدره و ثوبه ،

فقال : و اللّه لآتينّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لاخبرنّه ، فأتاه فهبط جبرئيل بآية قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إنّ اللّه خبير بما يصنعون 2 3 .

« و ليس خروجهن بأشد من ادخالك من لا يوثق به عليهن » و في الخبر : إنّ أحسن شي‏ء للنساء أن لا يراهن الرجال و لا يرين الرجال 4 .

« و إن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل » عن بعضهم لئن يرى حرمتي ألف رجل على حال تكشّف منها و هي لا تراهم أحب إلي من أن ترى رجلا واحدا غير متكشّف .

هذا ، و في ( الأغاني ) : كان في جوار أبان اللاّحقي رجل من ثقيف يقال له محمد بن خالد تزوج بعمارة الثقفية و كانت موسرة و كان محمد عدوا لأبان ، فقال أبان يحذرها منه :

لمّا رأيت البز و الشاره
و الفرش قد ضاقت به الحاره

و اللوز و السكر يرمى به
من فوق ذي الدار و ذي الداره

-----------
( 1 ) الكافي 5 : 536 ح 6 .

-----------
( 2 ) النور : 30 .

-----------
( 3 ) الكافي 5 : 521 ح 5 .

-----------
( 4 ) مكارم الأخلاق : 233 .

[ 462 ]

و أحضروا اللاّهين لم يتركوا
طبلا و لا صاحب زمّاره

قلت لمّا ذا ؟ قيل اعجوبة
محمّد زوج عماره

لا عمّر اللّه بها بيته
و لا رأته مدركا ثاره

ما ذا رأت فيه و ما ذا رجت
و هي من النسوان مختاره

اسود كالسّفّود ينسى لدى
التنوّر بل محراك قيّاره

يجري على أولاده خمسة
أرغفة كالريش طيّاره

و أهله في الأرض من خوفه
إن أفرطوا في الأكل سيّاره

ويحك فرّي و اعصبي ذاك بي
فهذه اختك فرّاره

إذا غفا بالليل فاستيقظي
ثم اطفري إنّك طفّاره

فلمّا بلغت قصيدته عمارة هربت و خرم من جهتها مالا عظيما ، و قال أبان في فرارها :

فصعدت نائلة سلما
تخاف أن تصعده الفاره 1

« و لا تملك المرأة ما جاوز نفسها » في ( الأغاني ) : بلغ دريد بن الصمة أنّ امرأته سبّت أخاه فطلقها و قال :

معاذ اللّه أن يشتمن رهطي
و أن يملكن إبرامي و نقضي 2

« فإنّ المرأة ريحانة » و قد عبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنهن بالقوارير ، فقال لانجشه لمّا حدا بأزواجه في حجّة الوداع فأسرعت الإبل : « رفقا بالقوارير » 3 .

هذا ، و رأى رجل امرأة فأنشد :

إنّ النساء شياطين خلقن لنا
نعوذ باللّه من شرّ الشياطين

-----------
( 1 ) الأغاني 23 : 163 دار احياء التراث العربي .

-----------
( 2 ) الأغاني 10 : 11 دار احياء التراث العربي .

-----------
( 3 ) الكافي 4 : 29 قرّ و اسد 1 ح 121 .

[ 463 ]

فأنشدت المرأة :

إنّ النساء رياحين خلقن لكم
لا بدّ للناس من شمّ الرياحين

و في ( الأغاني ) عن علي بن يحيى قال الحسين بن الضحاك : أنشدت ابن مناذر قصيدتي التي أقول فيها

« لفقدك ريحانة العسكر »

و كانت أول ما قلته من الشعر ، فأخذ رداه و رمى به إلى السقف و تلقاه برجله و جعل يردد هذا البيت ، فقلنا له : أ تراه فعل ذلك استحسانا لمّا قلت ؟ إنّما فعله طنزا بك . فشتمه و شتمنا و كنّا بعد ذلك نسأله إعادة هذا البيت فيرمي بالحجارة ، و يجدّد شتم ابن مناذر بأقبح ما يقدر عليه 1 .

قلت : وجه عيب بيته أنّه لا مناسبة لإضافة الريحانة إلى العسكر .

« و ليست بقهرمانة » في النهاية : في الخبر « كتب إلى قهرمانه » هو كالخازن و الوكيل الحافظ لمّا تحت يده و القائم بامور الرجل بلغة الفرس 2 .

في تنبيه المسعودي : كانت في أيام المقتدر أمور لم يكن مثلها في الاسلام ، منها غلبة النساء على الملك و التدبير ، حتى أن جارية لامّه تعرف بثمل القهرمانة كانت تجلس للنظر في مظالم الخاصة و العامة ، و يحضرها الوزير و الكاتب و القضاة و أهل العلم 3 .

و في ( كامل الجزري ) في سنة ( 310 ) قبض المقتدر على ام موسى القهرمانة بسبب أنّها زوجت ابنة اختها من أحمد بن محمد بن إسحاق بن المتوكل ، و اكثرت من النثار و الدعوات و صرفت أموالا جليلة ، فسعت أعداؤها بها إلى المقتدر و قالوا له قد سعت في الخلافة لأحمد ، فقبض عليها و أخذ منها

-----------
( 1 ) الأغاني 7 : 214 دار احياء التراث العربي .

-----------
( 2 ) النهاية 4 : 129 قهرم .

-----------
( 3 ) التنبيه و الاشراف : 328 .

[ 464 ]

أموالا عظيمة و جواهر نفيسة 1 .

هذا ، و في ( عيون القتيبي ) قال خالد الحذّاء : خطبت امرأة من بني أسد فجئت لأنظر إليها و بيني و بينها رواق يشف ، فدعت بجفنة مملوة ثريدا مكلّلة باللحم فأتت على آخرها ، و اتيت بإناء مملوّ لبنا أو نبيذا فشربته حتى كفأته ، ثم قالت : يا جارية ارفعي السجف فإذا هي جالسة على جلد أسد و إذا شابة جميلة فقالت : يا عبد اللّه أنا أسدة من بني أسد على جلد أسد و هذا مطعمي و مشربي ،

فإن أحببت أن تتقدّم فافعل ، فقلت : أنظر . فخرجت و لم أعد 2 .

« و لا تعد » بضم الدّال ، أي : لا تتجاوز .

« بكرامتها نفسها ، و لا تطمعها في أن تشفع لغيرها » و « بغيرها » في ( المصرية ) غلط . في ( الطبري ) : قيل إن وفاة الهادي كانت من قبل جوار لامّه الخيزران كانت أمرتهن بقتله ، فذكروا أنّ الهادي نابذ امّه و نافرها لمّا صارت إليه الخلافة ، فصارت « خالصته » إليه يوما فقالت : إن امك تستكسيك فأمر لها بخزانة مملوة كسوة و وجد للخيزران في منزلها من قراقر الوشي ثمانية عشر ألف قرقر و كانت الخيزران في أوّل خلافة ابنها تقتات عليه في أموره و تسلك به مسلك أبيه من قبل في الاستبداد بالأمر و النهي ، فأرسل إليها ألاّ تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاءة التبذّل فإنّه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك ، و عليك بصلاتك و تسبيحك و تبتّلك و لك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك ، و كانت كثيرا ما تكلّمه في الحوائج فكان يجيبها إلى كلّ ما تسأله حتى مضت أربعة أشهر من خلافته و انثال الناس عليها و طمعوا فيها ، فكانت المواكب تغدو إلى بابها ، فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى إجابتها فيه سبيلا ،

-----------
( 1 ) الكامل في التاريخ 8 : 137 س 310 .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 4 : 9 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 465 ]

فاعتلّ بعلّة فقالت : لا بدّ من اجابتي . قال : لا أفعل . قالت : فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد اللّه بن مالك ، فغضب موسى و قال : ويل عليّ بن الفاعلة قد علمت أنّه صاحبها و اللّه لاقضيتها لك . قالت : إذن و اللّه لا أسألك حاجة أبدا . قال : إذن و اللّه لا ابالي . و حمي و غضب ، فقامت مغضبة فقال : مكانك حتّى تستوعبي كلامي ، و اللّه لئن بلغني أنّه وقف ببابك أحد من قوّادي أو أحد من خواصّي أو خدمي لأضربنّ عنقه و أقبضنّ ماله ، فمن شاء فليلزم ذلك ، ما هذه المواكب التي تغدو و تروح إلى بابك كلّ يوم ؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك ؟ إيّاك ثم إيّاك ما فتحت بابك لملّيّ و لا ذمّيّ . فانصرفت ما تعقل ما تطأ ، فلم تنطق عنده بحلوة و لا مرة بعدها .

و قال بعض الهاشميين : ان سبب موته أنّه لمّا جد في خلع هارون و البيعة لابنه جعفر خافت الخيزران على هارون منه ، فدست إليه من جواريها لمّا مرض من قتله بالغم و الجلوس على وجهه ، و وجهت إلى يحيى بن خالد أن الرجل قد توفي فاجدد في أمرك و لا تقصر 1 .

هذا ، و قد أخذ الحجّاج أكثر فقرات كلامه عليه السّلام في قصة له مع الوليد ففي ( المروج ) : وفد الحجّاج على الوليد فوجده في بعض نزهه فاستقبله ، فلمّا رآه ترجل له و جعل يمشي و عليه درع و كنانة و قوس عربية ، فقال له الوليد : إركب .

فقال : دعني استكثر من الجهاد ، فإنّ ابن الزبير و ابن الأشعث شغلاني عنك ،

فعزم عليه الوليد حتى ركب و دخل الوليد داره و تفضّل في غلاله ثم أذن للحجّاج فدخل عليه في حاله تلك و أطال الجلوس عنده ، فبينما هو يحادثه إذ جاءت جارية فسارّت الوليد و مضت ثم عادت فسارته ثم انصرفت ، فقال الوليد للحجّاج : أ تدري ما قالت هذه ؟ قال : لا . قال : بعثتها إليّ ابنة عمّي امّ البنين

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 8 : 205 دار سويدان بيروت .

[ 466 ]

بنت عبد العزيز تقول : ما مجالستك لهذا الأعرابي المتسلح و أنت في غلالة ،

فأرسلت إليها : إنّه الحجّاج ، فراعها ذلك و قالت : و اللّه ما أحب أن يخلو بك و قد قتل الخلق . فقال له الحجّاج : دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول فإنّما المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة ، و لا تطلعهن على سرّك و لا مكايدة عدوك ، و لا تطمعهن في غير أنفسهن و لا تشغلهن بأكثر من زينتهن ، و إيّاك و مشاورتهن في الأمور فإنّ رأيهن إلى أفن و عزمهن إلى وهن ، و اكفف عليهنّ من أبصارهن بحجبك و لا تملّك الواحدة منهن من الامور ما تجاوز نفسها ، و لا تطمعها في أن تشفع عندك لغيرها و لا تطل الجلوس معهن فان ذلك أوفر لعقلك و أبين لفضلك . ثم نهض فخرج و دخل الوليد على امّ البنين ، فقالت : احبّ أن تأمره غدا بالتسليم عليّ . فقال : أفعل . فلمّا غدا الحجّاج عليه قال له : سر إلى امّ البنين فسلّم عليها فقال : أعفني من ذلك . فقال : لا بدّ من ذلك ، فمضى إليها فحجبته طويلا ثم أذنت له فأقرّته قائما و لم تأذن له في الجلوس ، ثم قالت له : أيه يا حجّاج أنت الممتن بقتل ابن الزبير و ابن الاشعث ، أما و اللّه لو لا أن اللّه جعلك أهون خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة . و قالت له فيما قالت : لقد استعلى عليك ابن الأشعث حتى عجعجت و والى عليك الهرار حتى عويت ، فلو لا أن الخليفة نادى في أهل اليمن و أنت في أضيق من القرن فأظلّتك رماحهم و علاك كفاحهم لكنت مأسورا قد أخذ الذي فيه عيناك ، و على هذا فإن نساء الخليفة قد نفضن العطر عن غدائرهن و بعنه في أعطية أوليائه ، و أما ما أشرت على الخليفة من قطع لذاته و بلوغ أو طاره من نسائه ، فإن ينفرجن عن مثل الخليفة فغير مجيبك إلى ذلك ،

و ان ينفرجن عن مثل ما انفرجت به امّك البظراء عنك من قبح المنظر يا لكع ، فما أحقه أن يقتدي بقولك ، قاتل اللّه الذي يقول :

أسد عليّ و في الحروب نعامة
فتخاء تنفر من صفير الصافر

[ 467 ]

هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى
بل كان قلبك في جناحي طائر

ثم أمرت جارية لها فأخرجته ، فلمّا دخل على الوليد قال له : ما كنت فيه ؟

قال : و اللّه ما سكتت حتى كان بطن الأرض أحب إلي من ظهرها . قال : انها بنت عبد العزيز 1 .

هذا ، و لمّا تخاصم الفرزدق و امرأته إلى ابن الزبير إستشفع خبيب بن عبد اللّه إبن الزبير للفرزدق عند أبيه ، و استشفعت امرأة ابن الزبير لامرأة الفرزدق عنده ، فقضى ابن الزبير لامرأة الفرزدق ، فقال الفرزدق :

ليس الشفيع الذي يأتيك متّزرا
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

و قال آخر :

و نبئت ليلى أرسلت بشفاعة
إليّ فهلا نفس ليلى شفيعها ؟

« و إيّاك و التغاير في غير موضع غيرة فإنّ ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم و البريئة إلى الريب » في ( عيون ابن قتيبة ) قال الخريمي :

ما أحسن الغيرة في حينها
و أقبح الغيرة في غير حين

من لم يزل متّهما عرسه
مناصبا فيها لرجم الظنون

يوشك أن يغريها بالذي
يخاف أو ينصبها للعيون 2

هذا ، و نسب ( عيون ابن قتيبة ) كلامه عليه السّلام في هذه الوصية في النساء من أوله إلى هنا إلى ابن المقفع 3 ، و هل ذلك إلاّ جهل منه أو عناد ، فإنّ كون ذلك كلامه عليه السّلام ثبت بالأسانيد المستفيضة كما عرفت ، ثم كيف كون الأصل فيه ابن المقفع و قد عرفت أن الحجّاج استعمل أكثره في قصته مع الوليد .

« و اجعل لكلّ إنسان من خدمك عملا تأخذه به فإنّه أحرى ألاّ يتواكلوا في

-----------
( 1 ) مروج الذهب 3 : 158 160 .

-----------
( 2 ) عيون الاخبار 4 : 78 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) عيون الاخبار 4 : 78 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 468 ]

خدمتك » قال ابن أبي الحديد : قال ابرويز لولده شيرويه : انظر إلى كتّابك ، فمن كان منهم ذا ضياع قد أحسن عمارتها فولّه الخراج ، و من كان منهم ذا عبيد قد أحسن سياستهم و تثقيفهم فولّه الجند ، و من كان منهم ذا سراري و ضرائر قد أحسن القيام عليهنّ فولّه النفقات و القهرمة ، و هكذا فاصنع في خدم دارك ، و لا تجعل أمرك فوضى بين خدمك ، فيفسد عليك ملكك 1 .

« و أكرم عشيرتك فإنّهم جناحك الذي به تطير ، و أصلك الذي إليه تصير و يدك الّتي بها تصول » هكذا في ( المصرية و ابن أبي الحديد ) و لكن ليس في ( ابن ميثم ) و الخطية فقرة « و أصلك الذي إليه تصير » 2 .

و كيف كان فزاد في رواية الكليني و الحلبي بعدها « و بهم تصول و هم العدّة عند الشدة ، فأكرم كريمهم ، و عد سقيمهم ، و أشركهم في أمورهم ،

و تيسّر عند معسورهم » 3 .

قال ابن أبي الحديد روى أبو عبيدة أنّ الفرزدق كان لا ينشد بين يدي الخلفاء و الامراء إلاّ قاعدا ، فدخل على سليمان يوما فأنشده شعرا فخر فيه بآبائه و قال من جملته :

تاللّه ما حملت من ناقة رجلا
مثلي إذا الريح لفّتني على الكور

فقال سليمان : هذا المدح لي أو لك ؟ قال : لي و لك ، فغضب سليمان و قال :

قم فأتمم و لا تنشد بعده إلاّ قائما . فقال : لا و اللّه أو تسقط على الأرض أكثري شعرا 4 فقال سليمان : ويلي على الأحمق ابن الفاعلة ، لا يكنّي . و ارتفع صوته ،

فسمع الضوضاء بالباب فقال : ما هذا . قيل : بنو تميم على الباب يقولون :

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 128 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 122 .

-----------
( 3 ) كشف المحجة : 173 ، و تحف العقول : 88 . و لفظ الكشف : « بهم تصول و بهم تطول اللذة عند الشدة » .

-----------
( 4 ) يقصد به رأسه . أي : يقتله .

[ 469 ]

لا ينشد الفرزدق قائما و أيدينا في مقابض سيوفنا . قال : فلينشد قاعدا .

قال : و روى المرزباني قال : كان الوليد بن جابر بن ظالم الطائي ممّن وفد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأسلم ثم صحب عليا عليه السّلام و شهد معه صفّين و كان من رجاله المشهورين ، ثم وفد على معاوية في الاستقامة و كان معاوية لا ينسبه معرفة بعينه ، فدخل عليه في جملة الناس ، فلمّا انتهى إليه استنسبه فانتسب له فقال : أنت صاحب ليلة الهرير ؟ قال : نعم . قال : و اللّه ما تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة و قد علا صوتك أصوات الناس و أنت تقول :

شدوا فداء لكم أمي و أب
فإنّما الأمر غدا لمن غلب

هذا ابن عمّ المصطفى و المنتجب
تنميه للعلياء سادات العرب

ليس بموصوم إذا نصّ النّسب
أوّل من صلّى و صام و اقترب

قال : نعم أنا قائلها . قال : فلما ذا قلتها ؟ قال : لأنّا كنّا مع رجل لا يعلم خصلة توجب الخلافة و لا فضيلة تصير إلى التقدمة إلاّ و هي مجموعة له ، كان أوّل الناس سلما و أكثرهم علما و أرجحهم حلما ، فات الجياد فلا يشق غباره و يستولي على الأمد فلا يخاف عثاره ، و أوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره و سلك القصد فلا تدرس آثاره ، فلمّا ابتلانا اللّه تعالى بافتقاده ، و حوّل الأمر إلى من شاء من عباده ، دخلنا في جملة المسلمين فلم ننزع يدا عن طاعة ، و لم نصدع صفاة جماعة ، على أنّ لك منّا ما ظهر و قلوبنا بيد اللّه و هو أملك بها منك ،

فاقبل صفونا و أعرض عن كدرنا و لا تثركوا من الأحقاد فإنّ النار تقدح بالزناد . فقال له معاوية : و إنّك تهدّدني يا أخا طي بأوباش العراق أهل النفاق و معدن الشقاق فقال : يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق و حبسوك في المضيق ، و ذادوك عن سنن الطريق حتى لذت منهم بالمصاحف و دعوت إليها من صدق بها و كذبت ، و آمن بمنزلها و كفرت و عرف من تأويلها ما أنكرت .

[ 470 ]

فغضب معاوية و أدار طرفه في من حوله فإذا جلّهم من مضر و نفر قليل من اليمن فقال : أيّها الشقيّ الخائن إنّي لأخال أنّ هذا آخر كلام تفوه به ، و كان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ ، فعرف موقف الطائي و مراد معاوية فخافه عليهم فهجم عليه الدار و أقبل على اليمانية فقال : شاهت الوجوه ذلاّ و قلاّ ، كشم اللّه هذه الانوف كشما مرعبا ، ثم التفت إلى معاوية فقال : إنّي و اللّه يا معاوية ما أقول قولي هذا حبّا لأهل العراق و لا جنوحا إليهم و لكن الحفيظة تذهب الغضب ، و لقد رأيتك بالأمس خاطبت أخا ربيعة يعني صعصعة بن صوحان و هو أعظم جرما عندك من هذا و أذكى لقلبك و أصدع لصفاتك و أجد في عداوتك ثم أثبته و سرحته ، و أنت الآن مجمع على قتل هذا زعمت استصغارا لجماعتنا و إنّا لا نمرّ و لا نخلى ، و لعمري لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدك العاثر و ذكرك الداثر و حدك المفلول و عرشك المثلول ، فأربع على ظلعك و اطونا على بلالتنا ، ليسهل لك حزننا و يتطامن لك شاردنا ، فانّا لا نرأم بوقع الضيم و لا نتلمظ جرع الخسف ، و لا نغمز بغماز الفتن و لا نذر على الغضب . فقال معاوية : الغضب شيطان فأربع نفسك أيّها الانسان فإنّا لم نأت إلى صاحبك مكروها فدونكه فانّه لم يضق عنه حلمنا و يسع غيره . فأخذ عفير بيد الوليد إلى منزله و قال له : و اللّه لتؤوبن بأكثر ممّا آب به معديّ من معاوية و جمع من بدمشق من اليمانيّة و فرض على كلّ رجل دينارين في عطائه فبلغت أربعين ألفا فتعجّلها من بيت المال و دفعها إلى الوليد و ردّه إلى العراق 1 .

قلت : و في ( الطبري ) بعد ذكر أن زيادا بعث حجر بن عدي و الأرقم الكندي و شريك الحضرمي و صيفي ، و قبيصة العبسي و كريم الخثعمي ،

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 129 131 .

[ 471 ]

و عاصم البجلي و ورقاء البجلي ، و كدام العنزي و عبد الرحمن العنزي ، و محرز المنقري و ابن حوية السعدي ، و عتبة الأخنس و سعد بن نمران إلى معاوية ليقتلهم فقام يزيد ابن أسد البجلي إلى معاوية و قال له : هب لي ابني عمّي يعني عاصم البجلي و ورقاء البجلي و قد كان جرير بن عبد اللّه كتب فيهما أنّ امرأين من قومي من أهل الجماعة و الرأي الحسن سعى بهما ساع ظنين إلى زياد ، فبعث بهما في النفر الكوفيين الذين وجّه بهم زياد و هما ممّن لا يحدث حدثا في الإسلام و لا بغيا على الخليفة فلينفعهما ذلك ، فلمّا سأل لهما يزيد ،

ذكر معاوية كتاب جرير ، فقال : قد كتب إليّ فيهما ابن عمك جرير محسنا عليهما الثناء و هو أهل أن يصدق قوله و قد سألتني ابني عمك فهما لك و طلب وائل بن حجر في الأرقم فتركه له ، و طلب ابن الأعور السلمي في عتبة بن الأخنس فوهبه له ، و طلب حمزة بن مالك الهمداني في سعد بن نمران الهمداني فوهبه له ، و كلّمه حبيب ابن مسلمة في ابن حوية فخلّى سبيله .

إلى أن قال بعد ذكر قتل حجر و من أبى من أصحابه التبرّي منه عليه السّلام حتى قتلوا ستة : فقال عبد الرحمن العنزي و كريم الخثعمي : إبعثوا بنا إلى معاوية فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته ، فبعثوا بهما إليه فقال معاوية للخثعمي : ما تقول في علي ؟ قال : أقول فيه قولك تبرّأ من دين علي الذي كان يدين اللّه به ، فسكت معاوية و كره أن يجيبه ، فقال له شمر بن عبد اللّه : هب لي ابن عمي . قال : هو لك غير أنّي حابسه شهرا . ثم قال لعبد الرحمن العنزي : يا أخا ربيعة ما قولك في عليّ ؟ قال : دعني و لا تسألني فإنّه خير لك . قال : و اللّه لا أدعك حتى تخبرني عنه . قال : أشهد أنّه كان من الذاكرين اللّه كثيرا و من الآمرين بالحق و القائمين بالقسط و العافين عن الناس . قال : فما قولك في عثمان ؟ قال : هو أوّل من فتح باب الظلم و أرتج أبواب الحق . قال : قتلت نفسك .

[ 472 ]

قال : بل إيّاك قتلت و لا ربيعة بالوادي . قال : هذا حين كلّم شمر الخثعمي في كريم الخثعمي صاحبه فسلم و لم يكن له أحد من قومه يكلّم فيه ، فبعث به معاوية إلى زياد و كتب إليه : إنّ هذا العنزي شر من بعثت فعاقبه و اقتله شرّ قتلة ، فبعث به زياد إلى قس الناطف فدفن حيّا 1 .

« استودع اللّه دينك و دنياك » حتى يحفظهما لك .

« و أسأل اللّه خير القضاء لك في العاجلة و الآجلة » زاد في رواية الكليني و الحلبي « و استعن باللّه على امورك ، فإنّه أكفى معين » 2 .

« و السّلام » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) : 3 هذا و زاد ( الرسائل و التحف ) في مطاوي الفقرات فقرات اخرى لم نستقصها و إنّما نقلنا بعضها ، فمن أرادها فليراجعها .